الكتاب: فقه السنة المؤلف: سيد سابق (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1397 هـ - 1977 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فقه السنة سيد سابق الكتاب: فقه السنة المؤلف: سيد سابق (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، 1397 هـ - 1977 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) قرآن كريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الاولين والاخرين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين) . أما بعد: فهذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الاسلامي مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة، ومما أجمعت عليه الامة. وقد عرضت في يسر وسهولة، وبسط واستيعاب لكثير مما يحتاج إليه المسلم، مع تجنب ذكر الخلاف إلا إذا وجد ما يسوغ ذكره فنشير إليه. وهو بهذا يعطي صورة صحيحة للفقه الاسلامي الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، ويفتح للناس باب ألفهم عن الله ورسوله، ويجمعهم على الكتاب والسنة، ويقضي على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب، كما يقضي على الخرافة القائلة: بأن باب الاجتهاد قد سد. وهذه محاولات أردنا بها خدمة ديننا، ومنفعة إخواننا نسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. السيد السابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تمهيد رسالة الاسلام وعمومها و الغاية منها أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، والشريعة الجامعة التي تكفل للناس الحياة الكريمة المهذبة والتي تصل بهم إلى أعلى درجات الرقي والكمال. وفي مدى ثلاثة وعشرين عاما تقريبا، قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الله، تم له ما أراد من تبليغ الدين وجمع الناس عليه. عموم الرسالة : ولم تكن رسالة الاسلام رسالة موضعية محددة، يختص بها جيل من الناس دون جيل، أو قبيل دون قبيل، شأن الرسالات التي تقدمتها، بل كانت رسالة عامة للناس جميعا إلى أن يرث الارض ومن عليها، لا يختص بها مصر دون مصر، ولا عصر دون عصر. قال الله تعالى: (تبارك الله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1)) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) (2) وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السموات والارض، لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الامي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) (3) وفي الحديث الصحيح: (كان كل نبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود) .   (1) الاية 1 من سورة الفرقان. (2) الاية 28 من سورة سبأ. (3) الاية 158 من سورة الاعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ومما يؤكد عموم هذه الرسالة وشمولها ما يأتي: 1 - أنه ليس فيها ما يصعب على الناس اعتقاده، أو يشق عليهم العمل به قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (1) وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (2) وقال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (3) وفي البخاري من حديث أبي سعيد المقبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) . وفي مسلم مرفوعا: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة) . 2 - أن ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان، كالعقائد والعبادات، جاء مفصلا تفصيلا كاملا، وموضحا بالنصوص المحيطة به، فليس لاحد أن يزيد فيه أو ينقص منه، وما يختلف باختلاف الزمان والمكان، كالمصالح المدنية، والامور السياسية والحربية، جاء مجملا، ليتفق مع مصالح الناس في جميع العصور، ويهتدي به أولو الامر في إقامة الحق والعدل. 3 - أن كل ما فيها من تعاليم إنما يقصد به حفظ الدين، وحفظ النفس وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وبدهي أن هذا يناسب الفطر وبساير العقول، ويجاري التطور ويصلح لكل زمان ومكان. قال الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون. قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والاثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (4)) وقال جل شأنه: (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون، ويؤت ون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم   (1، 2) من سورة البقرة. (3) بعض من آية 78 من سورة الحج. (4) سورة الاعراف آية 32 - 33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم المفلحون) (1) . الغاية منها : والغاية التي ترمي إليها رسالة الاسلام، تزكية الانفس وتطهيرها عن طريق المعرفة بالله وعبادته، وتدعيم الروابط الانسانية وإقامتها على أساس الحب والرحمة والاخاء والمساواة والعدل، وبذلك يسعد الانسان في الدنيا والاخرة، قال الله سبحانه (هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (2) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (3)) . وفي الحديث: (أنا رحمة مهداة) . التشريع الاسلامي أو الفقه : والتشريع الاسلامي ناحية من النواحي الهامة التي انتظمتها رسالة الاسلام، والتي تمثل الناحية العملية من هذه الرسالة. ولم يكن التشريع الديني المحض - كأحكام العبادات - يصدر إلا عن وحي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، من كتاب أو سنة، أو بما يقره عليه من اجتهاد. وكانت مهمة الرسول لا تتجاوز دائرة التبليغ والتبيين (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) (4) .   (1) سورة الاعراف. بعض آية 156 وآية 157. (2) سورة الجمعة الاية 2. (3) سورة الانبياء الاية 107. (4) سورة النجم الايتان 3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أما التشريع الذي يتصل بالامور الدنيوية، ومن قضائية وسياسية وحربية، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فيها، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه، كما وقع في غزوة بدر وأحد، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه عما لم يعلموه، ويستفسرونه فيما خفي عليهم من معاني النصوص، ويعرضون عليه ما فهموه منها، فكان أحيانا يقرهم على فهمهم، وأحيانا يبين لهم موضع الخطأ فيما ذهبوا إليه. والقواعد العامة التي وضعها الاسلام، ليسير على ضوئها المسلمون هي: 1 - النهي عن البحث فيما لم يقع من الحوادث حتى يقع، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم عفا الله عنها، والله غفور حكيم) (1) وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن الاغلوطات، وهي المسائل التي لم تقع. 2 - تجنب كثرة السؤال وعضل المسائل، ففي الحديث: (إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وعنه أيضا: (أعظم الناس جرما، من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته) . 3 - البعد عن الاختلاف والتفرق في الدين، قال الله تعالى: (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) (2) وقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (3)) . وقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ذيحكم) (4) وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ (5)   (1) سورة المائدة آية: 101. (2) سورة المؤمنون آية: 52. (3) سورة آل عمران آية: 103. (4) سورة الانفال آية: 46. (5) سورة الانعام آية: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وقال تعالى: (وكانوا شيعا) (1) وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم) (2) . 4 - رد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة. عملا بقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول (3)) وقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) (4) وذلك لان الدين قد فصله الكتاب، كما قال الله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (5) وقال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (6) وبينته السنة العملية، قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (7)) . وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (8) وبذلك تم أمره، ووضحت معالمه، قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا) (9) . وما دامت المسائل الدينية قد بينت على هذا النحو، وما دام الاصل الذي يرجع إليه عند التحاكم معلوما، فلا معنى للاختلاف ولا مجال له، قال الله تعالى: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) (10) وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (11) على ضوء هذه القواعد، سار الصحابة ومن بعدهم من القرون المشهود لها بالخير، ولم يقع بينهم اختلاف، إلا في مسائل معدودة، كان مرجعه التفاوت في فهم النصوص وأن بعضهم كان يعلم منها ما يخفي على البعض الاخر.   (1) سورة الروم آية: 32. (2) سورة آل عمران آية 105. (3) سورة النساء آية: 59. (4) سورة الشورى آية: 100 (5) سورة النحل آية: 89. (6) سورة الانعام آية: 38. (7) سورة النحل آية: 44. (8) سورة النساء آية: 105. (9) سورة المائدة آية: 3. (10) سورة النساء آية: 105. (11) سورة النساء آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فلما جاء أئمة المذاهب الاربعة تبعوا سنن من قبلهم، إلا أن بعضهم كان أقرب إلى السنة، كالحجازيين الذين كثر فيهم حملة السنة ورواة الاثار، والبعض الاخر كان أقرب إلى الرأي كالعراقيين الذين قل فيهم حفظة الحديث) لتنائي ديارهم عن منزل الوحي. بذل هؤلاء الائمة أقصى ما في وسعهم في تعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به، وكانوا ينهون عن تقليدهم ويقولون: لا يجوز لاحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، صرحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح، لانهم لم يكونوا يقصدون أن يقلدوا كالمعصوم صلى الله عليه وسلم، بل كان كل قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله. إلا أن الناس بعدهم قد فترت هممهم، وضعفت عزائمهم وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه، ويعول عليه، ويتعصب له، ويبذل كل ما أوتي من قوة في نصرته، وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع، ولا يستجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الائمة حتى قال الكرخي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ. وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الامة الهداية بالكتابة والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه. وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية، ما قام به الحكام والاغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الاقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الارزاق التي رتبت لهم! سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلا: ما تقصير الشيخ تفي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الاربعة وأن من خرج عن ذلك لم ينله شئ من ذلك، وحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونسبت إليه البدعة فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك. وبالعكوف على التقليد، وفقد الهداية بالكتاب والسنة، والقول بانسداد باب الاجتهاد وقعت الامة في شر وبلاء ودخلت في جحر الضب الذي حذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان من آثار ذلك أن اختلف الامة شيعا وأحزابا، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي، فقال بعضهم: لا يصح، لانها تشك (1) في إيمانها، وقال آخرون، يصح قياسا على الذمية، كما كان من آثار ذلك انتشار البدع، واختفاء معالم السنن، وخمود الحركة العقلية، ووقف النشاط الفكري) ، وضياع الاستقلال العلمي، الامر الذي أدى إلى ضعف شخصية الامة، وأفقدها الحياة المنتجة، وقعد بها عن السير والنهوض، ووجد الدخلاء بذلك ثغرات ينفذون منها إلى صميم الاسلام. مرت السنون، وانقضت القرون، وفي كل حين يبعث الله لهذه الامة من يجدد لها دينها، ويوقظها من سباتها، ويوجهها الوجهة الصالحة، إلا أنها لا تكاد تستيقظ حتى تعود إلى ما كانت عليه، أو أشد مما كانت. وأخيرا انتهى الامر بالتشريع الاسلامي، الذي نظم الله به حياة الناس جميعا، وجعله سلاحا لمعاشهم ومعادهم، إلى دركة لم يسبق لها مثيل، ونزل إلى هوة سحيقة، وأصبح الاشتغال به مفسدة للعقل والقلب، ومضيعة للزمن، لا يفيد في دين الله، ولا ينظم من حياة الناس. وهذا مثال لما كتبه بعض الفقهاء المتأخرين: عرف ابن عرفة الاجارة فقال، بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينة ولا حيوان، لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها، بعضه يتبعض بتبعيضها. فاعترض عليه أحد تلاميذه، بأن كلمة بعض تنافي الاختصار، وأنه لا ضرورة لذكرها، فتوقف الشيخ يومين، ثم أجاب بما لا طائل تحته.   (1) لان الشافعية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقف التشريع عند هذا الحد ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون، ولا يعرفون غير الحواشي وما فيها من إيرادات واعتراضات وألغاز، وما كتب عليها من تقريرات، حتى وثبت أو رويا على الشرق تصفعه بيدها، وتركله رجلها. فكان أن تيقظ على هذه الضربات، وتلفت ذات اليمين وذات الشمال. إذا هو متخلف عن ركب الحياة الزاحف، وقاعد بينما القافلة تسير. وإذا هو مام عالم جديد، كله الحياة والقوة والانتاج، فراعه ما رأى، وبهره ما شاهد، فصاح الذين تنكروا لتاريخهم وعقوا آباءهم، ونسوا دينهم وتقاليدهم: أن ها هي ذي أوروبا يا معشر الشرقيين، فاسلكوا سبيلها، وقلدوها في خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها، وحلوها ومرها، ووقف الجامدون موقفا سلبيا، يكثرون من الحوقلة والترجيع، وانطووا على أنفسهم، ولزموا بيوتهم، فكان هذا برهانا آخر على أن شريعة الاسلام لدى المغرورين لا تجاري التطور، ولا تتمشى مع الزمن. ثم كانت النتيجة الحتمية، أن كان التشريع الاجنبي الدخيل هو الذي يهيمن على الحياة الشرقية، مع منافاته لدينها وعاداتها وتقاليدها وأن كانت الاوضاع الاوروبية هي التي تغزو البيوت والشوارع والمنتديات والمدارس والمعاهد، وأخذت موجتها تقوى وتتغلب على كل ناحية م ن النواحي حتى كاد الشرق ينسى دينه وتقاليده ويقطع الصلة بين حاضره وماضيه، إلا أن الارض لا تخلو من قائم لله بحجة، فهب دعاة الاصلاح يهيبون بهؤلاء المخدوعين بالغربيين، أن: خذدوا حذركم، وكفوا عن دعايتكم، فإن ما عليه الغربيون من فساد الاخلاق لابد وأن ينتهي بهم إلى العاقبة السوآى، وأنهم ما لم يصلحوا فطرهم بالايمان الصحيح ويعدلوا طباعهم بالمثل العليا من الاخلاق، فسوف تنقلب علومهم أداة تخريب وتدمير، وتتحول مدنيتهم إلى نار تلتهمهم وتقضي عليهم القضاء الاخير (ألم تر كيف فعل ربك بعاد؟ إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الاوتاد. الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد) (1) . ويصيحون بهؤلاء الجامدين دونكم لنبع الصافي،   (1) سورة الفجر من آية: 6 - 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 والهدى الكريم: لنبع الكتاب وهدى السنة، خذوا منهما دينكم وبشروا بهما غيركم، فعند ذلك تهتدي بكم هذه الدنيا الحائرة، وتسعد بكم هذه الانسانية المعذبة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا) (1) . وكان من فضل الله أن استجاب لهذه الدعوة رجال بررة، وتلقتها قلوب مخلصة، واعتنقها شباب وهبها أعز ما يملك من الاموال والانفس. فهل أذن الله لنوره أن يشرق على الارض من جديد؟ وهل أراد للانسان أن يحيا حياة طيبة، يسودها الايمان والحب والاحسان والعدل؟ هذا ما تشهد به الايات: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) (2) . (سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟) (3) .   (1) سورة الاحزاب آية: 21. (2) سورة الفتح آية: 28. (3) سورة فصلت آية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الطهارة المياه وأقسامها القسم الاول من المياه: الماء المطلق وحكمه أنه طهور: أي أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ويندرج تحته من الانواع ما يأتي: 1 - ماء المطر والثلج والبرد لقول الله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) (1) وقوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (2) ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة، فقلت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: (أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) رواه الجماعة إلا الترمذي. وهي اما حقيقية كالطهارة بالماء أو حكمية كالطهارة بالتراب في التيمم. 2 - ماء البحر، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطينا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور (3) ماؤه، الحل ميتته) رواه الخمسة.   (1) سورة الانفال آية: 11. (2) سورة الفرقان آية 48. (3) لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه (نعم) ليقرن الحكم بعلته، وهو الطهورية المتناهية في بابها، وزاده حكما لم يسأل عنه، وهو حل الميتة، إتماما للفائدة، وإفادة لحكم آخر غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة الى الحكم، وهذا من محاسن الفتوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح. 3 - ماء زمزم، لما روي من حديث علي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل (1) من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ) رواه أحمد. 4 - الماء المتغير بطول المكث، أو بسبب مقره، أو بمخالطة ما لا ينفك عنه غالبا، كالطحلب وورق الشجر، فإن اسم الماء المطلق يتناوله باتفاق العلماء. والاصل في هذا الباب أن كل ما يصدق عليه اسم الماء مطلقا عن التقييد يصح التطهر به، قال الله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (2) . القسم الثاني: الماء المستعمل وهو المنفصل من أعضاء المتوضئ والمغتسل، وحكمه أنه طهور كالماء المطلق، سواء بسواء، اعتبارا بالاصل، حيث كان طهورا، ولم يوجد دليل يخرجه عن طهوريته، والحديث لربيع بنت معوذ في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (ومسح رأسه بما بقي من وضوء في يديه) رواه أحمد وأبو داود، ولفظ أبي داود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان بيده) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال: (أين كنت يا أبا هريرة؟) فقال: كنت جنبا، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) رواه الجماعة: ووجه دلالة الحديث، أن المؤمن إذا كان لا ينجس، فلا وجه لجعل الماء فاقدا للطهورية بمجرد مماسته له، إذ غايته التقاء طاهر بطاهر وهو لا يؤثر. قال ابن المنذر: روي عن علي وابن عمر وأبي أمامة وعطاء والحسن ومكحول والنخعي: أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد بللا في لحيته: يكفيه.   (1) (السجل) الدلو المملوء. (2) سورة المائدة بعض الاية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مسحه بذلك، قال: وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا، وبه أقول: وهذا المذهب إحدى الروايات عن مالك والشافعي، ونسبه ابن حزم إلى سفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر. القسم الثالث: الماء الذي خالطه طاهر كالصابون والزعفران والدقيق وغيرها من الاشياء التي تنفك عنها غالبا. وحكمه أنه طهور مادام حافظا لاطلاقه، فإن خرج عن إطلاقه بحيث صار لا يتناوله اسم الماء المطلق كان طاهرا في نفسه، غير مطهر لغيره، فعن أم عطة قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته (زينب) فقال: (إغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر واجعلن في الاخيرة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغن آذناه، فأعطانا حقوه فقال: (أشعر نها إياه) تعني: إزاره، رواه الجماعة. والميت لا يغسل إلا بما يصح به التطهير للحي، وعند أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد: قصعة فيها أثر العجين، ففي الحديثين وجد الاختلاط، إلا أنه لم يبلغ بحيث يسلب عنه إطلاق اسم الماء عليه. القسم الرابع: الماء الذي لاقته النجاسة وله حالتان: (الاولى) أن تغير النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه وهو في هذه الحالة لا يجوز التطهر به إجماعا، نقل ذلك ابن المنذر وابن الملقن. (الثانية) أن يبقي الماء على إطلاقه، بأن لا يتغير أحد أوصافه الثلاثة. وحكمه أنه طاهر مطهر. قل أو كثر، دليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ذنوبا (1) من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الجماعة إلا مسلما وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ (2) فقال صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شئ) رواه أحمد والشافعي وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وقال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح وصححه يحيى بن معين وأبو محمد بن حزم. وإلى هذا ذهب ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري، وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي ومالك وغيرهم، وقال الغزالي: وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك. وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) رواه الخمسة، فهو مضطرب سندا، ومتنا. قال ابن عبد البر في التمهيد: ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين، مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الاثر. قال أبو داود وسمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؟ قال: أكثر ما يكون فيها الماء الى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة قال أبو داود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه. هل غير بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون، (ذرعته) ، قسته بالذراع. السؤر : السؤر هو: ما بقي في الاناء بعد الشرب وهو أنواع: (1) سؤر الادمي: وهو طاهر من المسلم والكافر والجنب والحائض. وأما قول الله تعالى: (إنما المشركون نجس) فالمراد به نجاستهم المعنوية، من جهة اعتقادهم الباطل، وعدم تحرزهم من الاقذار والنجاسات، لا أن أعيانهم وأبدانهم نجسة، وقد كانوا يخالطون المسلمين، وترد رسلهم ووفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم   (1) السجل أو الذنوب: وعاء به ماء. (2) (بئر بضاعة) بضم أوله: بئر المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ويدخلون مسجده، ولم يأمر بغسل شئ مما أصابته أبدانهم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع في) (1) رواه مسلم. (2) سؤر ما يؤكل لحمه: وهو طاهر، لان لعابه متولد من لحم طاهر فأخذ حكمه. قال أبو بكر بن المنذر: أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به. (3) سؤر البغل والحمار والسباع وجوارح الطير: وهو طاهر، لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال نعم. وبما أفضلت السباع كلها) أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي، وقال: له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له (2) فقال عمر رضي الله عنه: أولغت السباع عليك الليلة في متكلف!، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما قي شراب وطهور) رواه الدارقطني، وعن يحيى بن سعيد (أن عمر خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا) رواه مالك في الموطأ. (4) سؤر الهرة: وهو طاهر، لحديث كبشة بنت كعب، وكانت تحت أبي قتادة، أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له..فجاءت هرة تشرب منه فأصغى (3) لها الاناء حتى شربت منه، قالت كبشة: فرآني أنظر فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقالت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست   (1) المراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب من المكان الذي شربت منه. (2) (المقراة) : الحوض الذي يجتمع فيه الماء. (3) (أصغى) أي أمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) رواه الخمسة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه البخاري وغيره. (5) سؤر الكلب والخنزير: وهو نجس يجب اجتنابه. أما سؤر الكلب، فلما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) ولاحمد ومسلم (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، وأما سؤر الخنزير فلخبثه وقذارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 النجاسة : النجاسة هي القذارة التي يجب على المسلم أن ينتزه عنها ويغسل ما أصابه منها. قال الله تعالى: (وثيابك فطهر) وقال تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الايمان) . ولها مباحث نذكرها فيما يلي: أنواع النجاسات (1) (1) الميتة : وهي ما مات حتف أنفه: أي من غير تذكية (2) ، ويلحق بها ما قطع من الحي، لحديث أبي واقد الليثي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قط من البهيمة وهي حية فهو ميتة) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم. ويستثنى من ذلك: 1 - ميتة السمك والجراد، فإنها طاهرة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحل لنا ميتتان ودمان: أما الميتتان فالحوت (3) والجراد، وأما الدم ان فالكبد والطحال) رواه أحمد والشافعي وابن ماجه والبيهقي والدارقطني، والحديث ضعيف، لكن الامام أحمد صحح وقفه، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم، ومثل هذا له حكم الرفع، لان قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا. مثل قوله: أمرنا ونهينا، وقد تقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) .   (1) النجاسة اما أن تكون حسية مثل البول والدم، واما أن تكون حكمية كالجنابة. (2) أي من غير ذبح شرعي، ذكى الشاة: أي ذبحها. (3) (الحوت) السمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ب - ميتة ما لا دم له سائل كالنمل والنحل ونحوها، فإنها طاهرة إذا وقعت في شئ وماتت فيه لا تنجسه. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في طهارة ما ذكر إلا ما روي عن الشافعي والمشهور من مذهبه أنه نجس، ويعفى عنه إذا وقع في المائع ما لم يغيره. ح - عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلدها، وكل ما هو من جنس ذلك طاهر، لان الاصل في هذه كلها الطهارة، ولا دليل على النجاسة. قال الزهري: في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها، لا يرون به بأسا، رواه البخاري، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (وهلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: (إنما حرم أكلها) رواه الجماعة إلا أن ابن ماجه قال فيه: عن ميمونة، وليس في البخاري ولا النسائي ذكر الدباغ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الاية: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة (1)) إلى آخر الاية، وقال: إنما حرم ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والقد (2) والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال) ، رواه ابن المنذر وابن حاتم. وكذلك أنفحة الميتة ولبنها طاهر، لان الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس، وهو يعمل بالانفحة، مع أن ذبائحهم تعتبر كالميتة، وقد ثبت عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه سئل عن شئ من الجبن والسمن والفراء، فقال: الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه. ومن المعلوم أن السؤال كان عن جبن المجوس، حينما كان سلمان نائب عمر بن الخطاب على المدائن. 2 - الدم: سواء كان دما مسفوحا - أي مصبوبا - كالدم الذي يجري من المذبوح،   (1) سورة الانعام: 145. (2) (القد) بكسر القاف: إناء من جلد اهـ. قاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أم دم حيض، إلا أنه يعفى عن اليسير منه، فعن ابن جريج في قوله تعالى: (أو دما مسفوحا) قال: المسفوح الذي يهراق. ولا بأس بما كان في العروق منها، أخرجه ابن المنذر، وعن أبي مجلز في الدم، يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون في أعلى القدر؟ قال: لا بأس، إنما نهى عن الدم المسفوح، أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر، وقال الحسن: ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، ذكره البخاري، وقد صح أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يشعب دما (1) ، قاله الحافظ في الفتح: وكان أبو هريرة رضي الله عنه لا يرى بأسا بالقطرة والقطرتين في الصلاة. وأما دم البراغيث وما يتشرح من الدمامل فإنه يعفى عنه لهذه الاثار وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب؟ فقال: ليس بشئ، وإنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح. وقال ابن تيمية: ويجب غسل الثوب من المدة والقيح والصديد، قال: ولم يقم دليل على نجاسته، انتهى والاولى أن يتقيه الانسان بقدر الامكان. 3 - لحم الخنزير: قال الله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس (2)) : أي فإن ذلك كله خبيث تعافه الطباع السليمة، فالضمير راجع إلى الانواع الثلاثة، ويجوز الحرز بشعر الخنزير في أظهر قولي العلماء. 4، 5، 6 - قئ الادمي وبوله ورجيعه : ونجاسة هذه الاشياء متفق عليها، إلا أنه يعفى عن يسير القئ ويخفف في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام فيكتفى في تطهيره بالرش لحديث أم قيس رضي الله عنها (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، وأن ابنها ذاك بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله   (1) (ينعب) أي يجري. (2) (الرجس) النجس الاية بعض من آية 145 من سورة الانعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عليه وسلم بماء فنضحه (1) على ثوبه ولم يغسله غسلا) متفق عليه، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بول الغلام ينضح عليه، وبول الجارية يغسل) قال قتادة: وهذا ما لم يطعما فإن طعما غسل بولهما، ورواه أحمد - وهذا لفظه - وأصحاب السنن إلا النسائي. قال الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح، ثم أن النضح إنما يجزئ مادام الصبي يقتصر على الرضاع. أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف. ولعل سبب الرخصة في الاكتفاء بنضحه ولوع الناس بحمله المفضي إلى كثرة بوله عليهم، ومشقة غسل ثيابهم، فخفف فيه ذلك. 7 - الودي: وهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول وهو نجس من غير خلاف. قالت عائشة: وأما الودي فإنه يكون بعد البول فيغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ولا يغتسل، ورواه ابن المنذر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المني والودي والمذي، أما المني ففيه الغسل، وأما المذي والودي فيهما إسباغ الطهور) رواه الاثرم والبيهقي ولفظه: (وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك أو مذاكيرك وتوضأ وضوءك في الصلاة) . 8 - المذي: وهو ماء أبيض لزج يخرج عند التفكير في الجماع أو عند الملاعبة، وقد لا يشعر الانسان بخروجه، ويكون من الرجل والمرأة إلا أنه من المرأة أكثر، وهو نجس باتفاق العلماء، إلا أنه إذا أصاب البدن وجب غسله وإذا أصاب الثوب اكتفي فيه بالرش بالماء، لان هذه نجاسة يشق الاحتراز عنها، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام. وعن علي رضي الله عنه قال: (كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، لمكان ابنته فسأل، فقال: توضأ واغسل ذكرك) رواه البخاري وغيره، وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (كنت ألقى من المذي شدة   (1) والنضح: أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء، وتردده تقاطره، وهو المراد بالرش في الروايات الاخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وعناء، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما يجزيك من ذلك الوضوء فقلت يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال (يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك حيث أنه قد أصاب منه) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي الحديث محمد بن إسحاق، وهو ضعيف إذا عنعن، لكونه مدلسا، لكنه هنا صرح بالتحديث. ورواه الاثرم رضي الله عنه بلفظ: (كنت ألقى من المذي عناء فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك. فقال: يجزئك أن تأخذ حفنة من ماء فترش عليه. 9 - المني: ذهب بعض العلماء إلى القول بنجاسته والظاهر أنه طاهر، ولكن يستحب غسله إذا كان رطبا، وفركه إن كان يابسا. قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا) رواه الدارقطني وأبو عوانة والبزار وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة) رواه الدارقطني والبيهقي والطحاوي، والحديث قد اختلف في رفعه ووقفه. 10 - بول وروث ما لا يؤكل لحمه: وهما نجسان، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: (هذا رجس) رواه البخاري وابن ماجه وابن خزيمة، وزاد في رواية (إنها ركس (1) إنها روثة حمار) ويعفى عن اليسير منه، لمشقة الاحتراز عنه. قال الوليد بن مسلم: قلت للاوزاعي: فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل، والحمار   (1) (انها ركس) : الركس النجس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والفرس؟ فقال: قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد أو ثوب. وأما بول وروث ما يؤكل لحمه، فقد ذهب إلى القول بطهارته مالك وأحمد وجماعة من الشافعية. قال ابن تيمية: لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته، بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة. انتهى. قال أنس رضي الله عنه: (قدم أناس من عكل أو عريته (1) فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها) رواه أحمد والشيخان دل هذا الحديث على طهارة بول الابل. وغيرها من مأكول اللحم يقاس عليه. قال ابن المنذر: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الاقوام لم يصب، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل قال: وفي ترك أهل العلم بيع بعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الابل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير، دليل على طهارتها. وقال الشوكاني: الظاهر طهارة الابوال والازبال من كل حيوان يؤكل لحمه، تمسكا بالاصل، واستصحابا للبراءة الاصلية، والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الاصل والبراءة، فلا يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلا لذلك. 11 - الجلّالة: ورد النهي عن ركوب الجلالة وأكل لحمها وشرب لبنها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي وفي رواية: (منهي عن ركوب الجلالة) رواه أبو داود. وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الاهلية، وعن الجلالة: عن ركوبها وأكل لحومها، رواه أحمد والنسائي وأبو داود. والجلالة: هي التي تأكل العذرة، من الابل والبقر والغنم والدجاج والاوز وغيرها، حتى يتغير ريحها. فإن حبست بعيدة عن العذرة زمنا،   (1) (عكل وعرينة) بالتصغير: قبليتان. (اجتووا) : أصابهم الجوى، وهو مرض داء البطن إذا تطاول. (لقاح) : جمع لقحة، بكسر فسكون، هي الناقة: ذات اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 عفلت طاهرا فطاب لحمها وذهب اسم الجلالة عنها حلت، لان علة النهي والتغيير، وقد زالت. (12) الخمر : وهي نجسة عند جمهور العلماء، لقول الله تعالى (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس (1) من عمل الشيطان) وذهبت طائفة إلى القول بطهارتها، وحملوا الرجس في الاية على الرجس المعنوي، لان لفظ (رجس) خبر عن الحمر، وما عطف عليها، وهو لا يوصف بالنجاسة الحسية قطعا، قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) فالاوثان رجس معنوي، لا تنجس من مسها: ولتفسيره في الاية بأنه من عمل الشيطان، يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفي سبل السلام: (والحق أن الاصل في الاعيان الطهارة، وأن التحريم لا يلازم النجاسة، فإن الحشيشة محرمة وهي طاهرة، وأما النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نجس محرم ولا عكس، وذلك لان الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها، بخلاف الحكم بالتحريم، فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة وإجماعا) إذا عرفت هذا فتحريم الخمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسهما، بل لابد من دليل آخر عليه، وإلا بقيا على الاصول المتفق عليها من الطهارة، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه. (13) الكلب : وهو نجس ويجب غسل ما ولغ فيه سبع مرات، أولاهن بالتراب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (2)) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي: ولو ولغ في إناء فيه طعام جامد ألقي ما أصابه وما حوله، وانتفع بالباقي على طهارته السابقة. أما شعر الكلب فالاظهر أنه طاهر، ولم تثبت نجاسته.   (1) (الرجس) معناه: النجس. (2) معنى الغسل بالتراب، أن يخلط في الماء حتى يتكدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تطهير البدن والثوب الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة يجب غسلهما بالماء حتى تزول عنهما إن كانت مرئية كالدم، فإن بقي بعد الغسل أثر يشق زواله فهو معفو عنه، فإن لم تكن مرئية كالبول فإنه يكتفى بغسله ولو مرة واحدة، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به؟ فقال: (تحته) ثم تقرضه بالماء، ثم تنضحه (1) ثم تصلي فيه) متفق عليه، وإذا أصابت النجاسة ذيل ثوب المرأة تطهره الارض، لما روي، أن امرأة قالت لام سلمة رضي الله عنهما: (إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ فقالت لها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده) رواه أحمد وأبو داود. تطهير الأرض : تطهر الارض إذا أصابتها نجاسة بصب الماء عليها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الجماعة إلا مسلما. وتطهر أيضا بالجفاف هي وما يتصل بها اتصال قرار، كالشجر والبناء. قال أبو قلابة: جفاف الارض طهورها، وقالت عائشة رضي الله عنها: (زكاة الارض يبسها) رواه ابن أبي شيبة. هذا إذا كانت النجاسة مائعة، أما إذا كان لها جرم فلا تطهر إلا بزوال عينها أو بتحولها. تطهير السمن ونحوه : عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال: ألقوها، وما حولها فاطرحوه وكلوا سمنكم) رواه البخاري. قال الحافظ: نقل ابن عبد البر الاتفاق على أن   (1) (الحت والقرض) الدلك بأطراف الاصابع. النضح: الغسل بالماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه، إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه، وأما المائع فاختلفوا فيه فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله بملاقاته النجاسة، وخالف فريق منهم الزهري والاوزاعي. (1) تطهير جلد الميتة : يطهر جلد الميتة ظاهرا وباطنا بالدباغ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دبغ الاهاب فقد طهر) رواه الشيخان. تطهير المرآة ونحوها : تطهير المرآة والسكبن والسيف والظفر والعظم والزجاج والانية وكل صقيل لا مسام له بالمسح الذي يزول به أثر النجاسة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم، فكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك. تطهير النعل : يطهر النعل المتنجس والخف بالدلك بالارض إذا ذهب أثر النجاسة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وطئ أحدكم بنعله الاذى فإن التراب له طهور) رواه أبو داود. وفي رواية: (إذا وطئ الاذى بخفيه فطهورهما التراب) وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما، فإن رأى خبثا فليمسحه بالارض ثم ليصل فيهما) رواه أحمد وأبو داود، ولانه محل تتكرر ملاقاته للنجاسة غالبا، فأجزأ مسحه بالجامد كمحل الاستنجاء بل هو أولى، فإن محل الاستنجاء يلاقي النجاسة مرتين أو ثلاثا.   (1) مذهبهما أن حكم المائع مثل حكم الماء، في أنه لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة، فان لم يتغير فهو طاهر، وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود والبخاري، وهو الصحيح. (2) يرون المسح كافيا في طهارتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فوائد تكثر الحاجة إليها: 1 - حبل الغسيل ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس أو الريح، لا بأس بنشر الثوب الطاهر عليه بعد ذلك. 2 - لو سقط شئ على المرء لا يدري هل هو ماء أو بول لا يجب عليه أن يسأل، فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك. 3 - إذا أصاب الرجل أو الذيل بالليل شئ رطب. لا يعلم ما هو، لا يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو، لما روى: أن عمر رضي الله عنه مر يوما، فسقط عليه شئ من ميزاب، ومعه صاحب له فقال: يا صحب الميزاب ماؤك طاهرا أو نجس فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا، ومضى. 4 - لا يجب غسل ما أصابه طين الشوارع. قال كميل بن زياد: رأيت عليا رضي الله عنه يخوض طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه. 5 - إذا انصرف الرجل من صلاة رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة لم يكن عالما بها، أو كان يعلمها ولكنه نسيها أو لم ينسها ولكنه عجز عن إزالتها فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه، لقوله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) (1) . وهذا ما أفتى به كثير من الصحابة والتابعين. 6 - من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله، لانه لا سبيل إلى العلم بتيقن الطهارة إلا بغسله جميعه، فهو من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) . قضاء الحاجة : لقاضي الحاجة آداب تتلخص فيما يلي: 1 - أن لا يستصحب ما فيه اسم الله إلا إن خيف عليه الضياع أو كان   (1) سورة الاحزاب آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حرزا، لحديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء (1) وضعه، رواه الاربعة. قال الحافظ في الحديث إنه معلول، وقال أبو داود: إنه منكر، والجزء الاول من الحديث صحيح. 2 - البعد والاستار عن الناس لا سيما عند الغائط، لئلا يسمع له صوت أو تشم له رائحة، لحديث جابر رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز (2) حتى يغيب فلا يرى) رواه ابن ماجه، ولابي داود (كان إذا أرك البراز انطلق حتى لا يراه أحد) وله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد) . 3 - الجهر بالتسمية والاستعاذة عند الدخول في البنيان وعند تشمير الثياب في الفضاء. لحديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: (بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث (3) والخبائث) رواه الجماعة. 4 - أن يكف عن الكلام مطلقا، سواء كان ذكرا أو غيره، فلا يرد سلاما ولا يجيب مؤذنا إلا لما لا بد منه، كإرشاد أعمى يخشى عليه من التردي، فإن عطس أثناء ذلك حمد الله في نفسه ولا يحرك به لسانه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه) رواه الجماعة إلا البخاري، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط (4) كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحديث بظاهره يقيد حرمة الكلام، إلا أن الاجماع صرف النهي عن التحريم إلى الكراهة. 5 - أن يعظم القبلة فلا يستقبلها ولا يستدبرها، لحديث أبي هريرة   (1) (الخلاء) : المرحاض. (2) (البراز) : مكان قضاء الحاجة. (3) (الخبث) بضم الباء جمع خبيث، و (الخبائث) جمع خبيثة، والمراد ذكران الشياطين وإناثهم. (4) (يضربان الغائط) أي يمشيان إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) رواه أحمد ومسلم، وهذا النهي محمول على الكراهة، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوما بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) رواه الجماعة، أو يقال في الجمع بينهما: أن التحريم في الصحراء والاباحة في البنيان (1) فعن مروان الاصغر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها، فقلت: أبا عبد الرحمن ... أليس قد نهي عن ذلك؟ قال: بلى ... إنما نهي عن هذا في الفضاء. فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس) رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم، وإسناده حسن، كما في الفتح. 6 - أن يطلب مكانا لينا منخفضا ليحترز فيه من إصابة النجاسة، لحديث أبي موسى رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان دمث (2) إلى جنب حائط فبال. وقال: إذا بال أحدكم فليرتد (3) لبوله) رواه أحمد وأبو داود والحديث وإن كان فيه مجهول، إلا أن معناه صحيح. 7 - أن يتقي الجحر لئلا يكون فيه شئ يؤذيه من الهوام، لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر، قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: إنها مساكن الجن) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم والبيهقي، وصححه ابن خزيمة وابن السكن. 8 - أن يتجنب ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللاعنين (4) !) قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلتهم) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. 9 - أن لا يبول في مستحمه، ولا في الماء الراد أو الجاري، لحديث عبد   (1) وهذا الوجه أصح من سابقه. (2) (دمث) كسهل وزنا ومعنى. (3) (فليرتد) أي فليختر. (4) المراد (باللاعنين) : ما يجلب لعنة الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه) رواه الخمسة، لكن قوله (ثم يتوضأ فيه) لاحمد وأبي داود فقط، وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجارى) ، قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله ثقات فإن كان في المغتسل نحو بالوعة فلا يكره البول فيه. 10 - أن لا يبول قائما، لمنافاته الوقار ومحاسن العادات ولانه قد يتطاير عليه رشاشة، فإذا أمن من الرشاش جاز. قالت عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا جالسا) رواه الخمسة إلا أبا داود. قال الترمذي: (هو أحسن شئ في هذا الباب وأصح) انتهى، وكلام عائشة مبني على ما علمت، فلا ينافي ما روي عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم (1) فبال قائما فتنحيت فقال: (أدنه) فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه) رواه الجماعة، قال النووي: البول جالسا أحب إلي، وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 11 - أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة وجوبا بالحجر وما في معناه من كل جامد طاهر قالع للنجاسة ليس له حرمة أو يزيلها بالماء فقط، أو بهما معا، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب (2) بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة (3) من   (1) (السباطة) بالضم، (ملقى التراب والقامة) . (2) (الاستطابة) : الاستنجاء، وسمي استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهير موضعها من البدن. (3) (الاداوة) : إناء صغير كالابريق، (عنزة) : حربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ماء وعنزه فيستنجي بالماء) متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير (1) أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول (2) وأما الاخر فكان يمشي بالنميمة رواه الجماعة. وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) . 12 - أن لا يستنجي بيمينه تنزيها لها عن مباشرة الاقذار لحديث عبد الرحمن بن زيد قال: (قيل لسلمان: قد علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة (3) . فقال سلمان: أجل ... نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول، أو نستنجي باليمين (4) ، أو يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، وأن لا يستنجي برجيع (5) أو بعظم) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وعن فحصة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لاكله وشربه وثيابه وأخذه وعطائه، وشماله لما سوى ذلك) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي. 13 - أن يدلك يده بعد الاستنجاء بالارض، أو يغسلها بصابون ونحوه ليزول ما علق بها من الرائحة الكريهة، لحديث، أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة (6) فاستنجى ثم مسح يده على الارض) رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وابن ماجه. 14 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال: هذا أثر النضح، لحديث الحكم بن سفيان، أو سفيان بن الحكم رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ وينتضح) وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم نضح   (1) (وما يعذبان في كبير) : أي يكبر ويشق عليهما فعله لو أرادا أن يفعلاه. (2) (لا يستنزه) : أي لا يستبرئ ولا يتطهر ولا يستبعد منه. (3) (الخراءة) : العذرة. (4) هذا نهي تأديب وتنزيه. (5) (الرجيع) النجس. (6) (التور) إناء من نحاس، (والركوة) إناء من جلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فرجه) وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله. 15 - أن يقدم رجله اليسرى في الدخول، فإذا خرج فليقدم رجله اليمنى ثم ليقل: غفرانك. فعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك (1)) رواه الخمسة إلا النسائي. وحديث عائشة أصح ما ورد في هذا الباب كما قال أبو حاتم وروي من طرق ضعيفة انه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافاني) ، وقوله: (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه) . سنن الفطرة : قد اختار الله سننا للانبياء عليهم السلام، وأمرنا بالاقتداء بهم فيها، وجعلها من قبيل الشعائر التي يكثر وقوعها ليعرف بها أتباعهم، ويتميزوا بها عن غيرهم. وهذه الخصال تسمى سنن الفطرة وبيانها فيما يلي: 1 - الختان: وهو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، لئلا يجتمع فيها الوسخ، وليتمكن من الاستبراء من البول، ولئلا تنقص لذة الجماع، هذا بالنسبة إلى الرجل. وأما المرأة فيقطع الجزء الاعلى من الفرج بالنسبة لها (2) وهو سنة قديمة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم (3)) رواه البخاري، ومذهب الجمهور أنه واجب، ويرى الشافعية استحبابه يوم السابع. وقال الشوكاني: لم يرد تحديد وقت له ولا ما يفيد وجوبه. 2، 3 - الاستحداد (4) ، ونتف الابط، وهما سنتان يجزئ فيهما الحلق والقص والنتف والبؤرة.   (1) (غفرانك) : أي أسألك غفرانك. (2) أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح منها شئ. (3) (القدوم) آلة النجار، أو موضع بالشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 4، 5 - تقليم الاظافر وقص الشارب أو إحفاؤه ، وبكل منهما وردت روايات صحيحة، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين: وفسروا اللحى، وأحفوا الشوارب) رواه الشيخان، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (خمس من الفطرة: (الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الابط، وتقليم الاظافر) رواه الجماعة فلا يتعين منهما شئ وبأيهما تتحقق السنة، فإن المقصود أن لا يطول الشارب حتى يتعلق به الطعام والشراب ولا يجتمع فيه الاوساخ. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، ويستحب الاستحداد ونتف الابط وتقليم الاظافر وقص الشارب أو إحفاءه كل اسبوع استكمالا للنظافة واسترواحا للنفس، فإن بقاء بعض الشعور في الجسم يولد فيها ضيقا وكآبة، وقد رخص ترك هذه الاشياء إلى الاربعين، ولا عذر لتركه بعد ذلك، لحديث أنس رضي الله عنه قال: (وقت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب، وتقليم الاظافر، ونتف الابط، وحلق العانة، ألا يترك أكثر من أربعين ليلة) ، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. 6 - إعفاء اللحية وتركها حتى تكثر، بحيث تكون مظهرا من مظاهر الوقار، فلا تقصر تقصيرا يكون قريبا من الحلق ولا تترك حتى تفحش، بل يحسن التوسط فإنه في كل شئ حسن، ثم إنها من تمام الرجولة، وكمال الفحولة فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين: وفروا اللحى (1) ، وأحفوا الشوارب) ، متفق عليه، وزاد البخاري (وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) . 7 - إكرام الشعر إذا وفر وترك بأن يدهن ويسرح، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له شعر فليكرمه) رواه أبو داود، وعن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي   (1) حمل الفقهاء هذا الامر على الوجوب وقالوا بحرمة حلق اللحية بناء على هذا الامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس (1) واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل ثم رجع، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان) رواه مالك. وعن أبي قتادة رضي الله عنه (أنه كان له جمة ضخمة. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يحسن إليها، وأن يترجل كل يوم) . رواه النسائي، ورواه مالك في الموطأ بلفظ: (قلت: يا رسول الله إن لي جمة (2) أفأرجلها؟ قال (نعم ... وأكرمها) فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم (وأكرمها) . وحلق شعر الرأس مباح وكذا توفيره لمن يكرمه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احلقوا كله أو ذروا كله) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وأما حلق بعضه وترك بعضه فيكره تنزيها، لحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع، فقيل لنافع: ما القزع؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه) ، متفق عليه، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق. 8 - ترك الشيب وإبقاؤه سواء كان في اللحية أو في الرأس، والمرأة والرجل في ذلك سواء، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتف الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته) رواه مسلم. 9 - تغيير الشيب بالحناء والحمرة والصفرة ونحوها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) رواه الجماعة، ولحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء   (1) (ثائر الرأس) : أي شعث غير مدهون ولا مرجل. (2) (الجمة) الشعر إذا بلغ المنكبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والكتم (1)) رواه الخمسة. وقد ورد ما يفيد كراهة الخضاب، ويظهر أن هذا مما يختلف باختلاف السن والعرف والعادة. فقد روي عن بعض الصحابة أن ترك الخضاب أفضل، وروي عن بعضهم أن فعله أفضل، وكان بعضهم يخضب بالصفرة، وبعضهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران، وخضب جماعة منهم بالسواد. ذكر الحافظ في الفتح عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه حديدا، فلما نفض الوجه والاسنان تركناه. وأما حديث جابر رضي الله عنه قال: جئ بأبي قحافة (والد أبي بكر) يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكأن رأسه ثغامة (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشئ وجنبوه السواد) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، فإنه واقعة عين، ووقائع الاعيان لا عموم لها. ثم أنه لا يستحسن لرجل كأبي قحافة، وقد اشتعل رأسه شيبا، أن يصبغ بالسواد، فهذا مما لا يليق بمثله. 10 - التطيب بالمسك وغيره من الطيب الذي يسر النفس، ويشرح الصدر، وينبه الروح، ويبعث في البدن نشاطا وقوة، لحديث أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من الدنيا النساء الطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه أحمد والنسائي، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة) رواه مسلم والنسائي وأبو داود، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المسك: (هو أطيب الطيب) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، وعن نافع قال: كان ابن عمر يستجمر بالالوة (3) غير مطراة، وبكافور يطرحه مع الالوة ويقول: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم والنسائي.   (1) (الكتم) نبات يخرج الصبغة أسود مائل الى الحمرة. (2) (الثغامة) نبت يشبه بياضه بياض الشعر. (3) (الالوة) العمود الذي يتبخر به، (غير مطرأة) غير مخلوطة بغيرها من الطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الوضوء : الوضوء معروف من أنه: طهارة مائية تتعلق بالوجه واليدين والرأس والرجلين، ومباحثه ما يأتي: (1) دليل مشروعيته: ثبتت مشروعيته بأدلة ثلاثة: (الدليل الاول) الكتاب الكريم، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (1) . (الدليل الثاني) السنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي. (الدليل الثالث) الاجماع، انعقد إجماع المسلمين على مشروعية الوضوء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فصار معلوما من الدين بالضرورة. (2) فضله: ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة نكتفي بالاشارة إلى بعضها: (أ) عن عبد الله الصنابجي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال إذا توضأ العبد فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنشر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظافر يديه. فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظافر رجليه. ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة) رواه مالك والنسائي وابن ماجه والحاكم.   (1) سورة المائدة آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 (ب) وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الخصلة الصالحة تكون في الرجل يصلح الله بها عمله كله، وطهور الرجل لصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الاوسط. (ج) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط (1) فذلكم الرباط فذلكم الرباط) رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي. (د) وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون، وددت لو أنا قد رأينا إخواننا) قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال (أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: (أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم (2) ألا يعرف خيله؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم: ألا هلم، فيقال: (إنهم بدلوا بعدك) فأقول: سحقا سحقا) رواه مسلم. (3) فرائضه: للوضوء فرائض وأركان تتركب منها حقيقته، إذا تخلف فرض منها لا يتحقق ولا يعتد به شرعا، وإليك بيانها: (الفرض الاول) : النية، وحقيقتها الارادة المتوجهة نحو الفعل، ابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه، وهي عمل قلبي محض لا دخل للسان فيه،   (1) (الرباط) : المرابطة والجهاد في سبيل الله، أي إن المواظبة على الطهارة والعبادة تعدل الجهاد في سبيل الله. (2) (دهم بهم) : سود، (فرطهم على الحوض) : أتقدمهم عليه، (سحقا) : بعدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 والتلفظ بها غير مشروع، ودليل فرضيتها حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الاعمال بالنيات (1) وإنما لكل امرئ ما نوى ... ) الحديث رواه الجماعة. (الفرض الثاني) غسل الوجه مرة واحدة: أي إسالة الماء عليه، لان معنى الغسل الاسالة. وحد الوجه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا، ومن شحمة الاذن إلى شحمة الاذن عرضا. (الفرض الثالث) غسل اليدين إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل الذي بين العضد والساعد، ويدخل المرفقان فيما يجب غسله وهذا هو المضطرد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه ترك غسلهما: (الفرض الرابع) مسح الرأس، والمسح معناه الاصابة بالبلل، ولا يتحقق إلا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح فوضع اليد أو الاصبع على الرأس أو غيره لا يسمى مسحا، ثم إن ظاهر قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) لا يقتضي وجوب تعميم الرأس بالمسح، بل يفهم منه أن مسح بعض الرأس يكفي في الامتثال، والمحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاك طرق ثلاث: (ا) مسح جميع رأسه: ففي حديث عبد الله بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) رواه الجماعة. (ب) مسحه على العمامة وحدها: ففي حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه) ، رواه أحمد والبخاري وابن ماجه. وعن بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (امسحوا على الخفين والخمار (2)) رواه أحمد. وقال عمر رضي الله عنه: (من لم يطهره المسح على العمامة لا طهره الله) ،   (1) (إنما الاعمال بالنيات) : أي إنما صحتها بالنيات، فالعمل بدونها لا يعتد به شرعا. (2) (الخمار) الثوب الذي يوضع على الرأس كالعمامة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقد ورد في ذلك أحاديث رواها البخاري ومسلم وغيرهما من الائمة. كما ورد العمل به عن كثير من أهل العلم. (ج) مسحه على الناصية والعمامة، ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) رواه مسلم. هذا هو المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه الاقتصار على مسح بعض الرأس، وإن كان ظاهر الاية يقتضيه كما تقدم، ثم إنه لا يكفي مسح الشعر الخارج عن محاذاة الرأس كالضفيرة. (الفرض الخامس) : غسل الرجلين مع الكعبين، وهذا هو الثابت المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله. قال ابن عمر رضي الله عنهما: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا (1) العصر، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: (ويل للاعقاب (2) من النار) مرتين أو ثلاثا، متفق عليه، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل العقبين. وما تقدم من الفرائض هو المنصوص عليه في قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (3) . (الفرض السادس) : الترتيب، لان الله تعالى قد ذكر في الاية فرائض الوضوء مرتبة مع فصل الرجلين عن اليدين - وفريضة كل منهما الغسل - بالرأس الذي فريضته المسح، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة. وهي هنا الترتيب، والاية ما سبقت إلا لبيان الواجب، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ابدأوا بما بدأ الله به) ومضت السنة العملية على هذا الترتيب بين الاركان فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه   (1) (أرهقنا) أخرنا. (2) (العقب) العظم الناتئ عند مفصل الساق والقدم. (3) سورة المائدة آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 توضأ إلا مرتبا، والوضوء عبادة ومدار الامر في العبادات على الاتباع، فليس لاحد أن يخالف المأثور في كيفية وضوئه صلى الله عليه وسلم، خصوصا ما كان مضطردا منها. سنن الوضوء : أي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل من غير لزوم ولا إنكار على من تركها. وبيانها ما يأتي: (1) التسمية في أوله: ورد في التسمية للوضوء أحاديث ضعيفة لكن مجموعها يزيدها قوة تدل على أن لها أصلا، وهي بعد ذلك أمر حسن في نفسه، ومشروع في الجملة. (2) السواك: ويطلق على العود الذي يستاك به وعلى الاستياك نفسه، وهو دلك الاسنان بذلك العود أو نحوه من كل خشن تنظف به الاسنان، وخير ما يستاك به عود الاراك الذي يؤتي به من الحجاز، لان من خواصه أن يشد اللثة، ويحول دون مرض الاسنان، ويقوي على الهضم، ويدر البول، وإن كانت السنة تحصل بكل ما يزيل صفرة الاسنان وينظف الفم كالفرشة ونحوها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل وضوء،) رواه مالك والشافعي والبيهقي والحاكم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) رواه أحمد والنسائي والترمذي. وهو مستحب في جميع الاوقات ولكن في خمسة أوقات أشد استحبابا (1) عند الوضوء. (2) وعند الصلاة. (3) وعند قراءة القرآن (4) وعند الاستيقاظ من النوم (5) وعند تغير الفم. والصائم والمفطر في استعماله أول النهار وآخره سواء، لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي، يتسوك وهو صائم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وإذا استعمل السواك، فالسنة غسله بعد الاستعمال تنظيفا له، لحديث عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك، لاغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه) رواه أبو داود والبيهقي. ويسن لمن لا أسنان له أن يستاك بإصبعه، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: (نعم) قلت: كيف يصنع؟ قال: (يدخل إصبعه في فيه) رواه الطبراني. (3) غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء: لحديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا) (1) رواه أحمد والنسائي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده) رواه الجماعة. إلا أن البخاري لم يذكر العدد. (4) المضمضة ثلاثا: لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فمضمض (2)) رواه أبو داود والبيهقي. (5) الاستنشاق والاستنثار ثلاثا: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر) رواه الشيخان وأبو داود. والسنة أن يكون الاستنشاق باليمنى والاستنثار باليسرى، لحديث علي رضي الله عنه (أنه دعا بوضوء (3) فتمضمض واستنشق (4) ونثر بيده اليسرى، ففعل هذا ثلاثا، ثم قال: هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد والنسائي. وتتحقق المضمضة والاستنشاق إذا وصل الماء إلى الفم والانف بأي صفة، إلا أن الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل   (1) (فاستوكف) : أي غسل كفيه. (2) (المضمضة) : إدارة الماء وتحريكه في الفم. (3) الوضوء بفتح الواو: اسم الماء الذي يتوضأ به. (4) (الاستنشاق) : إدخال الماء في الانف و (الاستنثار) اخراجه منه بالنفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بينهما، فعن عبد الله بن زيد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا) وفي رواية (تمضمض واستنثر بثلاث غرفات) متفق عليه، ويسن المبالغة فيهما لغير الصائم، لحديث لقيط رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: (أسبغ الوضوء وخلل بين الاصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) رواه الخمسة، وصححه الترمذي. (6) تخليل اللحية: لحديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء، فأدخله تحت حنكه فخلل به، وقال: (هكذا أمرني ربي عزوجل) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم. (7) تخليل الاصابع: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصابع رجليه بخنصره) رواه الخمسة إلا أحمد. وقد ورد ما يفيد استحباب تحريك الخاتم ونحوه كالاساور، إلا أنه لم يصل إلى درجة الصحيح، لكن ينبغي العمل به لدخوله تحت عموم الامر بالاسباغ. (8) تثليث الغسل: وهو السنة التي جرى عليها العمل غالبا وما ورد مخالفا لها فهو لبيان الجواز. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا وقال: (هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. وعن عثمان رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا) رواه أحمد ومسلم والترمذي، وصح أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 توضأ مرة مرة ومرتين مرتين، أما مسح الرأس مرة واحدة فهو الاكثر رواية. (9) التيامن: (أي البدء بغسل اليمين قبل غسل اليسار من اليدين والرجلين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في تنعله (1) وترجله وطهوره، وفي شأنه كله) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا لبستم وإذا توضأتم فأبدءوا بأيمانكم (2) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. (10) الدلك: وهو إمرار اليد على العضو مع الماء أو بعده، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثلث مد فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه) رواه ابن خزيمة، وعنه رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول هكذا: يدلك، رواه أبو داود الطيالسي وأحمد وابن حبان وأبو يعلى. (11) الموالاة: (اي تتابع غسل الاعضاء بعضها إثر بعض) بألا يقطع المتوضئ وضوءه بعمل أجنبي، يعد في العرف انصرافا عنه وعلى هذا مضت السنة، وعليها عمل المسلمين سلفا وخلفا. (12) مسح الاذنين: والسنة مسح باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بالابهامين بماء الرأس لانهما منه. فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعه في صماخي أذنيه) رواه أبو داود والطحاوي، وعن ابن عامر رضي الله عنهما في وصفه   (1) (التنعل: ليس النعل. والترجل: تسريح الشعر. والطهور: يشمل الوضوء والغسل. (2) ايمانكم جمع يمين، والمراد اليد اليمنى أو الرجل اليمنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة) ، رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية (مسح رأسه وأذنيه وباطنهما بالمسبحتين) (1) وظاهرهما بإبهاميه. (13) إطالة الغرة والتحجيل: أما إطالة الغرة فبأن يغسل جزءا من مقدم الرأس، زائدا عن المفروض في غسل الوجه وأما اطالة التحجيل، فبأن يغسل ما فوق المرفقين والكعبين لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين (2) من آثار الوضوء) فقال أبو هريرة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. رواه أحمد والشيخان، وعن أبي زرعة (أن أبا هريرة رضي الله عنه دعا بوضوء فتوضأ وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين، فلما غسل رجليه جاوز الكعبين إلى الساقين، فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا مبلغ الحلية) رواه أحمد واللفظ له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (14) الاقتصاد في الماء وإن كان الاغتراف من البحر: لحديث أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع (3) إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد) ، متفق عليه، وعن عبيد الله بن أبي يزيد أن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنهما: (كم يكفيني من الوضوء؟ قال مد، قال كم يكفيني للغسل؟ قال صاع، فقال الرجل: لا يكفيني، فقال: لا أم لك قد كفى من هو خير منك: رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، وروي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ   (1) (بالمسبحتين) أي السبابتين. (2) أصل الغرة: بياض في جبهة الفرس و (التحجيل، بياض في رجله والمراد من كونهم يأتون غرا محجلين، أن النور يعلو وجوههم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة وهما من خصائص هذه الامة. (3) (الصاع) : أربعة أمداد و (المد) 128 درهما وأربعة أسباع الدرهم 404 سم 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟! فقال: وهل في الماء من سرف؟ قال: (نعم وإن كنت على نهر جار) رواه أحمد وابن ماجه وفي سنده ضعف، والاسراف يتحقق باستعمال الماء لغير فائدة شرعية، كأن يزيد في الغسل على الثلاث، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا، قال: (هذا الوضوء، من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة بأسانيد صحيحة، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في هذه الامة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. قال البخاري: كره أهل العلم في ماء الوضوء أن يتجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم. (15) الدعاء أثناء: لم يثبت من أدعية الوضوء شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير حديث أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فسمعته يقول يدعو: (اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي) فقلت: يا نبي الله سمعتك تدعو بكذا وكذا قال: (وهل تركن من شئ؟) رواه النسائي وابن السني بإسناد صحيح، لكن النسائي أدخله في (باب ما يقول بعد الفراغ من الوضوء) وابن السني ترجم له (باب ما يقول بين ظهراني وضوئه) ، قال النووي وكلاهما محتمل. (16) الدعاء بعده: لحديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة) رواه الطبراني في الاوسط، ورواته رواة الصحيح، واللفظ له ورواه النسائي وقال في آخره: (ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة) وصوب وقفه. وأما دعاء: (اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فهي في رواية الترمذي، وقد قال في الحديث وفي إسناده اضطراب، ولا يصح فيه شئ كبير. (17) صلاة ركعتين بعده: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الاسلام إني سمعت دف نعليك (1) بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي من اني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) . متفق عليه، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، وعن حمران مولى عثمان: أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء فأفرغ عى يمينه من إنائه فغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم غسل رجليه ثلاثا، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا) ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وما بقي من تعاهد موقي العينين وغضون الوجه، ومن تحريك الخاتم، ومن مسح العنق، لم نتعرض لذكره، لان الاحاديث فيها لم تبلغ درجة الصحيح، وإن كان يعمل بها تتميما للنظافة.   (1) (الدف) بالضم: صوت النعل حال المشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مكروهاته يكره للمتوضئ أن يترك سنة من السنن المتقدم ذكرها، حتى لا يحرم نوابها، لان فعل المكروه يوجب حرمان الثواب، وتتحقق الكراهية بترك السنة. نواقض الوضوء : للوضوء نواقض تبطلة وتخرجه عن إفادة المقصود منه، نذكرها فيما يلي: 1 - كل ما خرج من السبيلين: (القبل والدبر) . ويشمل ذلك ما يأتي: (1) البول (2) والغائط، لقول الله تعالى: ( ... أو جاء أحد منكم من الغائط..) وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط. (3) ريح الدبر: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) فقال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: (فساء أو ضراط) . متفق عليه، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه مسلم. وليس السمع أو وجدان الرائحة شرطا في ذلك، بل المراد حصول اليقين وبخروج شئ منه. (4، 5، 6) المني والمذي والودي، لقول رسول الله في المذي: (فيه الوضوء) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: (أما المني فهو الذي منه الغسل، وأما المذي والودي فقال: (أغسل ذكرك أو مذاكيرك، وتوضأ وضوءك للصلاة) ، رواه البيهقي في السنن. 2 - النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك مع عدم تمكن المقعدة من الارض، لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. فإذا كان النائم جالسا ممكنا مقعدته من الارض لا ينتقض وضوءه، وعلى هذا يحمل حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الاخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) . رواه الشافعي ومسلم وأبو داود والترمذي، ولفظ الترمذي من طريق شعبة: (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى لاسمع لاحدهم غطيطا، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون) قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس. 3 - زوال العقل، سواء كان الجنون أو بالاغماء أو بالكسر أو بالدواء. وسواء قل أو كثر، وسواء كانت المقعدة ممكنة من الارض أم لا، لان الذهول عند هذه الاسباب أبلغ من النوم، وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء. 4 - مس الفرج بدون حائل، لحديث يسرة بنت صفوان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) رواه الخمسة وصححه الترمذي وقال البخاري وهو أصح شئ في هذا الباب، ورواه أيضا مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال أبو داود: قلت لاحمد: حديث يسرة ليس بصحيح؟ فقال: بل هو صحيح، وفي رواية لاحمد والنسائي عن يسرة: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويتوضأ من مس الذكر) وهذا يشمل ذكر نفسه وذكر غيره، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفضى بيده إلى ذكر ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه هو وابن عبد البر، وقال ابن السكن: هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب، وفي لفظ الشافعي (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، ليس بينها وبينه شئ فليتوضأ) ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم: (أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) . رواه أحمد، قال ابن القيم: قال الحازمي: هذا إسناد صحيح. ويرى الاحناف أن مس الذكر لا ينقض الوضوء لحديث طلق: (أن رجلا سأل النبي عن رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يمس ذكره، هل عليه الوضوء؟ فقال: (لا، إنما هو بضعة منك) رواه الخمسة، وصححه ابن حبان، قال ابن المديني: هو أحسن من حديث يسرة. ما لا ينقض الوضوء : أحببنا أن نشير إلى ما ظن أنه ناقض للوضوء وليس بناقض، لعدم ورود دليل صحيح يمكن أن يعول عليه في ذلك، وبيانه فيما يلي: (1) لمس المرأة بدون حائل: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم وقال: (إن القبلة لا تنقض الوضوء ولا تفطر الصائم) أخرجه إسحاق ابن راهويه، وأخرجه أيضا البزار بسند جيد. قال عبد الحق: لا أعلم له علة توجب تركه. وعنها رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من الفراض فالتمسته، فوضعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: (اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه مسلم والترمذي وصححه، وعنها رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) ، رواه أحمد والاربعة، بسند رجاله ثقات، وعنها رضي الله عنها قالت: (كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي) وفي لفظ (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي) متفق عليه. (2) خروج الدم من غير المخرج المعتاد، سواء كان بجرح أو حجامة أو رعاف، وسواء كان قليلا أو كثيرا: قال الحسن رضي الله عنه: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم) (رواه البخاري، وقال: وعصر ابن عمر رضي الله عنهما بثرة وخرج منها الدم فلم يتوضأ. وبصق ابن أبي أوقى دما ومضى في صلاته، وصلى عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ابن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دما (1) . وقد أصيب عباد بن بشر بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته، رواه أبو داود وابن خزيمة والبخاري تعليقا. (3) القئ: سواء أكان ملء الفم أو دونه، ولم يرد في نقضه حديث يحتج به. (4) أكل لحم الابل: وهو رأي الخلفاء الاربعة وكثير من الصحابة والتابعين، إلا أنه صح الحديث بالامر بالوضوء منه. فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟..قال: (إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ) ، قال: أنتوضأ من لحوم الابل؟ قال: (نعم توضأ من لحوم الابل) ، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: (لا) رواه أحمد ومسلم، وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الابل؟ فقال: (توضئوا منها) وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: (لا تتوضئوا منها) وسئل عن الصلاة في مبارك الابل؟ فقال: (لا تصلوا فيها، فإنها من الشياطين) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: (صلوا فيها فإنها بركة) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان، وقال ابن خزيمة: لم أر خلافا بين علماء الحديث في أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل، لعدالة ناقليه، وقال النووي: هذا المذهب أقوى دليلا، وإن كان الجمهور على خلافه، إنتهى. (5) شك المتوضئ في الحدث: إذا شك المتطهر، هل أحدث أم لا؟ لا يضره الشك ولا ينتقض وضوءه سواء كان في الصلاة أو خارجها، حتى يتيقن أنه أحدث. فعن عباد بن تميم عن عمه   (1) (يثعب دما) : أي يجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رضي الله عنه قال: شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة؟ قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه الجماعة إلا الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في نفسه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وليس المراد خصوص سماع الصوت ووجدان الريح، بل العمدة اليقين بأنه خرج منه شئ، قال ابن المبارك: إذا شك في الحدث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقانا يقدر أن يحلف عليه، أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. (6) القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء، لعدم صحة ما ورد في ذلك. (7) تغسيل الميت لا يجب منه الوضوء لضعف دليل النقض. ما يجب له الوضوء : يجب الوضوء لأمور ثلاثة: (الأول) الصلاة مطلقا، فرضا أو نفلا، ولو صلاة جنازة لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم، وأرجلكم إلى الكعبين) : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (1)) رواه الجماعة إلا البخاري. (الثاني) الطواف بالبيت، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير) رواه الترمذي والدارقطني وصححه الحاكم، وابن السكن وابن خزيمة. (الثالث) مس المصحف، لما رواه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم   (1) (الغلول) : السرقة من الغنيمة قبل قسمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهله اليمن كتابا وكان فيه: (لا يمس القرآن إلا طاهر) . رواه النسائي والدارقطني والبيهقي والاثرم، قال ابن عبد البر في هذا الحديث: إنه أشبه بالتواتر، لتلقي الناس له بالقبول، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: (رجاله موثقون) فالحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف، إلا لمن كان طاهرا ولكن (الطاهر) لفظ مشترك، يطلق على الطاهر من الحدث الاكبر، والطاهر من الحدث الاصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولابد لحمله على معين من قرينة. فلا يكون الحديث نصا في منع المحدث حدثا أصغر من مس المصحف، وأما قول الله سبحانه: (لا يمسه إلا المطهرون) (1) فالظاهر رجوع الضمير إلى الكتاب المكنون، وهو وهو اللوح المحفوظ، لانه الاقرب، والمطهرون الملائكة، فهو كقوله تعالى: (في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة) (2) وذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله وداود وابن حزم وحماد بن أبي سليمان: إلى أنه يجوز للمحدث حدثا أصغر من المصحف وأما القراءة له بدون مس فهي جائزة اتفاقا. ما يستحب له : يستحب الوضوء ويندب في الاحوال الاتية: (1) عند ذكر الله عزوجل: لحديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه (أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ فرد عليه، وقال: (إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على الطهارة) ، قال قتادة (فكان الحسن من أجل هذا يكره أن يقرأ أو يذكر الله عز وجل حتى يطهر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه   (1) سورة الواقعة آية: 29. (2) سورة عبس آية 13 - 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل (1) فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على جدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وهذا على سبيل الافضلية والندب. وإلا فذكر الله عز وجل يجوز للمتطهر والمحدث والجنب والقائم والقاعد، والماشي والمضطجع بدون كراهة، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه الخمسة إلا النسائي، وذكره البخاري بغير إسناد، وعن علي كرم الله وجهه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجزه عن القرآن شئ ليس الجنابة) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن السكن. (2) عند النوم: لما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الايمن، ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به،) قال فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت: (اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت: ورسولت، قال: لا ... ونبيك الذي أرسلت) رواه أحمد والبخاري والترمذي، ويتأكد ذلك في حق الجنب، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال يا رسول الله أينام أحدنا جنبا؟ قال: (نعم إذا توضأ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة) رواه الجماعة. (3) يستحب الوضوء للجنب: إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يعاود الجماع، لحديث عائشة رضي   (1) بئر جمل: موضع يقرب من المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ) ، وعن عمار بن ياسر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام، أن يتوضأ وضوءه للصلاة) ، رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) رواه الجماعة إلا البخاري، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وزادوا (فإنه أنشط للعود) . (4) يندب قبل الغسل، سواء كان واجبا أو مستحبا: لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) ، الحديث رواه الجماعة. (5) يندب من أكل ما مسته النار: لحديث إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: مررت بأبي هريرة وهو يتوضأ فقال: أتدري مم أتوضأ؟ من أثوار أقط (1) أكلتها، لاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) ، رواه أحمد ومسلم والاربعة، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (توضئوا مما مست النار) ، رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. والامر بالوضوء محمول على الندب لحديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة فاكل منها فأكل منها فدعى إلى الصلاة فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ) متفق عليه، قال النووي: فيه جواز قطع اللحم بالسكين. (6) تجديد الوضوء لكل صلاة: لحديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر. يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله!   (1) (من أثوار أقط) : هي قطع من اللبن الجامد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فقال: (عمدا فعلته يا عمر) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وابن عمرو بن عامر الانصاري رضي الله عنه قال، كان أنس بن مالك يقول: (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث) ، رواه أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك) رواه أحمد بسند حسن، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات) . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. فوائد يحتاج المتوضئ إليها: 1 - الكلام المباح أثناء الوضوء مباح، ولم يرد في السنة ما يدل على منعه. 2 - الدعاء عند غسل الاعضاء باطل لا أصل له. والمطلوب الاقتصار على الأدعية التي تقدم ذكرها في سنن الوضوء. 3 - لو شك المتوضئ في عدد الغسل ات يبني على اليقين وهو الاقل. 4 - وجود الحائل مثل الشمع على أي عضو من أعضاء الوضوء يبطله، أما اللون وحده، كالخضاب بالحناء مثلا، فإنه لا يؤثر في صحة الوضوء، لانه لا يحول بين البشرة وبين وصول الماء إليها. 5 - المستحاضة، ومن به سلس بول أو انفلات ريح، أو غير ذلك من الاعذار يتوضئون لكل صلاة، إذا كان العذر يستغرق جميع الوقت، أو كان لا يمكن ضبطه، وتعتبر صلاتهم صحيحة مع قيام العذر. 6 - يجوز الاستعانة بالغير في الوضوء. 7 - يباح للمتوضئ أن ينشف أعضاءه بمنديل ونحوه صيفا وشتاء. المسح على الخفين : (1) دليل مشروعيته: ثبت المسح على الخفين بالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وسلم، قال النووي: أجمع من يعتد به في الاجماع على جواز المسح على الخفين - في السفر والحضر، سواء كان لحاجة أو غيرها - حتى للمرأة الملازمة والزمن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يعتد بخلافهم، وقال الحافظ بن حجر في الفتح: وقد صرح جمع من الحفاظ، بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة. انتهى، وأقوى الاحاديث حجة في المسح، ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن همام النخعي رضي الله عنه، قال: (بال جرير بن عبد الله ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا وقد بلت؟ قال: نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه) ، قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لان إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، أي أن جريرا أسلم في السنة العاشرة بعد نزول آية الوضوء التي تفيد وجوب غسل الرجلين، فيكون حديثه مبينا أي المراد بالاية إيجاب الغسل لغير صاحب الخف، وأم اصاحب الخف ففرضه المسح فتكون السنة مخصصة للاية. (2) مشروعية المسح على الجوربين: يجوز المسح على الجوربين، وقد روي ذلك عن كثير من الصحابة. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء ابن عازب وأنس بن مالك وأبو امامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث، وروي أيضا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، انتهى، وروي أيضا عن عمار وبلال بن عبد الله بن أبي أوفى وابن عمر، وفي تهذيب السنن لابن القيم عن ابن المندر: أن أحمد نص على جواز المسح على الجوربين، وهذا من إنصافه وعدله، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وصريح القياس، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر، يصح أن يحال الحكم عليه، والمسح عليهما قول أكثر أهل العلم، انتهى. وممن أجاز المسح عليهما سفيان الثوري وابن المبارك وعطاء والحسن وسعيد بن المسيب، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز المسح عليهما إذا كانا ثخينين لا يشفان عما تحتهما، وكان أبو حنيفة لا يجوز المسح على الجورب الثخين ثم رجع إلى الجواز قبل موته بثلاثة أيام أو بسبعة، ومسح على جوربيه الثخينين في مرضه وقال لعواده: فعلت ما كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أنهى عنه، وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين (1) رواه أحمد والطحاوي وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، (وضعفه أبو داود) . والمسح على الجوربين كان هو المقصود، وجاء المسح على النعلين تبعا. وكما يجوز المسح على الجوربين يجوز المسح على كل ما يستر الرجلين كاللفائف ونحوها، وهي ما يلف على الرجل من البرد أو خوف الحفاء أؤ لجراح بهما ونحو ذلك، قال ابن تيمية: والصواب أنه يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر: إما إصابة البرد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التاذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين، فعلى اللفائف بطريق الاولى، ومن ادعى في شئ من ذلك إجماعا فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، فضلا عن الاجماع، إلى أن قال: فمن تدبر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة منه في هذا الباب واسعة، وأن ذلك من محاسن الشريعة، ومن الحنيفية السمحة التي بعث بها، انتهى. وإذا كان بالخف أو الجورب خروق فلا بأس بالمسح عليه، مادام يلبس في العادة، قال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والانصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم. (3) شروط المسح على الخف وما في معناه: يشترط لجواز المسح أن يلبس الخف وما في معناه من كل ساتر على وضوء، لحديث المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فأفرغت عليه من الاداوة فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لانزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما) رواه   (1) (النعل) ما وقيت به القدم من الارض وهو يغاير الخف، ولقد كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيران يضع أحدهما بين ابهام رجله والتي تليها ويضع الاخر بين الوسطى والتي تليها ويجمع السيرين الى السير الذي على وجه قدمه وهو المعروف بالشراك، (والجورب) : لفافة الرجل وهو المسمى بالشراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أحمد والبخاري ومسلم. وروى الحميدي في مسنده عنه قال: قلنا يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: (نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان) وما اشترطه بعض الفقهاء من أن الخف لا بد أن يكون ساترا لمحل الفرض، وأن يثبت بنفسه من غير شد مع إمكان متابعة المشي فيه. قد بين شيخ الاسلام ابن تيمية ضعفه في الفتاوي. (4) محل المسح: المحل المشروع في المسح ظهر الخف، لحديث المغيرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وعن علي رضي الله عنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) رواه أبو داود والدارقطني، وإسناده حسن أو صحيح، والواجب في المسح ما يطلق عليه اسم المسح لغة، من غير تحديد، ولم يصح فيه شئ. (5) توقيت المسح: مدة المسح على الخفين للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، قال صفوان بن عسال رضي الله عنه: أمرنا (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما إلا من جنابة، رواه الشافعي وأحمد وابن خزيمة، والترمذي والنسائي وصححاه، وعن شريح بن هاني رضي الله عنه قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت: سل عليا، فإنه أعلم بهذا مني، كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة) ، رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال البيهقي: هو أصح ما روي في هذا الباب، والمختار أن ابتداء المدة من وقت المسح، وقيل من وقت الحدث بعد اللبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 (6) صفة المسح: والمتوضئ بعد أن يتم وضوءه ويلبس الخف أو الجورب يصح له المسح عليه كلما أراد الوضوء، بدلا من غسل رجليه، يرخص له في ذلك يوما وليلة، إذا كان مقيما، وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرا، إلا إذا أجنب فإنه يجب عليه نزعه، لحديث صفوان المتقدم. (7) ما يبطل المسح: يبطل المسح على الخفين: (1) انقضاء المدة. (2) الجنابة. (3) نزع الخف. فإذا انقضت المدة أو نزع الخف وكان متوضئا قبل غسله رجليه فقط. الغسل : الغسل معناه: تعميم البدن بالماء، وهو مشروع، لقول الله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) وقوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (1)) . وله مباحث تنحصر فيما يأتي: يجب الغسل لأمور خمسة : (الاول) خروج المني بشهوة في النوم أو اليقظة من ذكر أو أنثى وهو قول عامة الفقهاء. لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من   (1) سورة البقرة آية: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الماء (1) رواه مسلم، وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: (نعم، إذا رأت الماء) رواه الشيخان وغيرهما. وهنا صور كثيرا ما تقع، أحببنا أن ننبه عليها للحاجة إليها: أ - إذا خرج المني من غير شهوة، بل لمرض أو برد فلا يجب الغسل. ففي حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (فإذا فضخت الماء (2) فاغتسل) ، رواه أبو داود. قال مجاهد: بينا نحن أصحاب ابن عباس - حلق في المسجد: - (طاووس، وسعيد بن جبير، وعكرمة - وابن عباس قائم يصلي) إذا وقف علينا رجل فقال: هل من مفت؟ فقلنا: سل، فقال إني كلما بلت تبعه الماء الدافق؟ قلنا الذي يكون منه الولد؟ قال: نعم، قلنا: عليك الغسل، قال: فولى الرجل وهو يرجع، قال: وعجل ابن عباس في صلاته، ثم قال لعكرمة علي بالرجل، وأقبل علينا فقال: أرأيتم ما أفتيتم به هذا الرجل، عن كتاب الله؟ قلنا: لا. قال: فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: لا، قال: فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا لا، قال: فعمه؟ قلنا: عن رأينا، قال: فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) قال: وجاء الرجل فأقبل عليه ابن عباس فقال: أرأيت إذا كان ذلك منك، أتجد شهوة في قبلك؟ قال: لا، قال: فهل تجد خدرا في جسدك؟ قال: لا، قال إنما هذه إبردة، يجزيك منها الوضوء) . ب - إذا احتلم ولم يجد منيا فلا غسل عليه، قال ابن المنذر. أجمع على هذا كل من أحفط عنه من أهل العلم، وفي حديث أم سليم المتقدم فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: (نعم إذا رأت الماء) ما يدل على أنها إذا لم تره فلا غسل عليها، لكن إذا خرج بعد الاستيقاظ وجب عليها الغسل. ح - إذا انتبه من النوم فوجد بللا ولم يذكر احتلاما، فإن تيقن أنه مني فعليه الغسل، لان الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه، فإن شك ولم يعلم،   (1) الماء من الماء: أي الاغتسال من الانزال، فالماء الاول الماء المطهر، والثاني المني. (2) (الفضخ) خروج المني بشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 هل هو مني أو غيره؟ فعيله الغسل احتياطا. وقال مجادة وقتادة: لا غسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق، لان اليقين بقاء الطهارة، فلا يزول بالشك. د - أحس بانتقال المني عند الشهوة، فأمسك ذكره فلم يخرج فلا غسل عليه، لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على رؤية الماء. فلا يثبت الحكم بدونه، لكن إن مشى فخرج منه المني فعليه الغسل. هـ - رأى في ثوبه منيا، لا يعلم وقت حصوله، وكان قد صلى، يلزمه إعادة الصلاة من آخر نومة له، إلا أن يرى ما يدل على أنه قبلها، فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها. (الثاني) : إلتقاء الخنانين: أي تغييب الحشفة في الفرج وإن لم يحصل إنزال، لقول الله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) قال الشافعي: كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن فيه إنزال، قال: فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب عن فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل. قال: ولم يختلف أحد أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إنزال ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع (1) ثم جهدها فقد وجب الغسل. أنزل أم لم ينزل) رواه أحمد ومسلم، وعن سعيد ابن المسيب: أن أبا موسى الاشعري رضي الله عنه قال لعائشة: إني أريد أن أسألك عن شئ وأنا استحي منك، فقالت: سل ولا تستحي فإنما أنا أمك، فسألها عن الرجل يغشى ولا ينزل فقالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل) ، رواه أحمد ومالك بألفاظ مختلفة. ولا بد من الايلاج بالفعل، أما مجرد المس من غير إيلاج فلا غسل على واحد منهما إجماعا. (الثالث) : انقطاع الحيض والنفاس: لقول الله تعالى (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث   (1) (الشعب الأربع) : يداها ورجلاها، (والجهد) كناية عن معالجة الايلاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أمركم الله) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها (دعي الصلاة قدر الايام التي كنت تحيضين فيها، اغتسلي وصلي) متفق عليه، وهذا، وإن كان واردا في الحيض، إلا أن النفاس كالحيض بإجماع الصحابة، فإن ولدت ولم ير الدم فقيل عليها الغسل، وقيل لا غسل عليها، ولم يرد نص في ذلك. (الرابع) الموت: إذا مات المسلم وجب تغسيله إجماعا، على تفصيل يأتي في موضعه. (الخامس) : الكافر إذا أسلم: إذا أسلم الكافر يجب عليه الغسل، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت، وكان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة (1) وأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حسن إسلام أخيكم) رواه أحمد وأصله عند الشيخين. ما يحرم على الجنب : يحرم على الجنب ما يأتي: 1 - الصلاة. 2 - الطواف: وقد تقدمت أدلة ذلك في مبحث ما يجب له الوضوء. 3 - مس المصحف وحمله، وحرمتهما متفق عليها بين الائمة ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة، وجوز داود ابن حزم للجنب مس المصحف وحمله ولم يريا بهما بأسا، واستدلالا بما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى هرقل كتابا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم ... إلى أن قال   (1) (الحائط) : البستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) (1) ، قال ابن حزم: فهذا رسول الله بعث كتابا، وفيه هذه الاية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون هذا الكتاب، وأجاب الجمهور عن هذا بأن هذه رسالة ولا مانع من مس ما اشتملت عليه من آيات من القرآن كالرسائل وكتب التفسير والفقه وغيرها، فإن هذه لا تسمى مصحفا ولا تثبت لها حرمته. 4 - قراءة القرآن: يحرم على الجنب أن يقرأ شيئا من القرآن عند الجمهور. لحديث علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن القرآن شئ ليس الجنابة) رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وغيره. قال الحافظ في الفتح: وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن، يصلح للحجة، وعنه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال: (هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا. ولا آية) رواه أحمد وأبو يعلى وهذا لفظه، قال الهيتمي: رجاله موثقون، قال الشوكاني: فإن صح هذا صلح للاستدلال به على التحريم. أما الحديث الاول فليس فيه ما يدل على التحريم. لانه غايته أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة، فكيف يستدل به على التحريم؟.انتهى. وذهب البخاري والطبراني وداود وابن حزم إلى جواز القراءة للجنب. قال البخاري: قال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الحائض الاية، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. قال الحافظ تعليقا على هذا، لم يصح عند المصنف (يعني البخاري) شئ من الاحاديث الواردة في ذلك: أي في منع الجنب والحائض من القراءة، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل. 5 - المكث في المسجد: يحرم على الجنب أن يمكث في المسجد، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه   (1) سورة آل عمران آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال (وجهوا هذه البيوت عن المسجد) ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا، رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد (1) فنادى بأعلى صوته: (ان المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب) رواه ابن ماجه والطبراني. والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد والمكث فيه للحائض والجنب، لكن يرخص لهما في اجتيازه لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) (2) وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا) رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه. وعن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب، رواه ابن المنذر. وعن يزيد بن حبيب: أن رجالا من الانصار كانت أبوابهم إلى المسجد، فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء، ولا طريق إليه إلا من المسجد، فأنزل الله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل) رواه ابن جرير. قال الشوكاني عقب هذا: وهذا من الدلالة على المطلوب بمحل لا يبقى بعده ريب، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد) فقلت: إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) رواه الجماعة إلا البخاري، وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض) رواه أحمد والنسائي وله شواهد. الأغسال المستحبة : أي التي يمدح المكلف على فعلها ويثاب، وإذا تركها لا لوم عليه ولا عقاب، وهي ستة نذكرها فيما يلي:   (1) (الصرحة) بفتح وسكون: عرصة الدار والممتد من الارض. (2) سورة النساء آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 (1) غسل الجمعة : لما كان يوم الجمعة يوم اجتماع للعبادة والصلاة أمر الشارع بالغسل وأكده ليكون المسلمون في اجتماعهم على أحسن حال من النظافة والتطهير. فعن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأم يمس من الطيب ما يقدر عليه) رواه البخاري ومسلم. والمراد بالمحتلم البالغ، والمراد بالوجوب تأكيد استحبابه، بدليل ما رواه البخاري عن ابن عمر: (أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الاولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عثمان، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت، فقال: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل؟) . قال الشافعي: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل، دل ذلك على أنهما قد علما أن الامر بالغسل للاختيار. ويدل على استحباب الغسل أيضا، ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام) . قال القرطبي في تقرير الاستدلال بهذا الحديث عن الاستحباب: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضي للصحة، يدل على أن الوضوء كاف. وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل للجمعة، والقول بالاستحباب بناء على أن ترك الاغتسال لا يترتب عليه حصول ضرر، فإن ترتب على تركه أذى الناس بالعرق والرائحة الكريهة ونحو ذلك مما يسئ، كان الغسل واجبا وتركه محرما، وقد ذهب جماعة من العلماء، إلى القول بوجوب الغسل للجمعة وإن لم يحصل أذى بتركه، مستدلين بقول أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما. يغسل فيه رأسه وجسده) رواه البخاري ومسلم وحملوا الاحاديث الواردة في هذا الباب على ظاهرا وردوا ما عارضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ووقت الغسل يمتد من طلوع الفجر إلى صلاة الجمعة، وإن كان المستحب أن يتصل الغسل بالذهاب، وإذا أحدث بعد الغسل يكفيه الوضوء. قال الاثرم: سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث، هل يكفيه الوضوء؟ فقال نعم، ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى. انتهى، يشير أحمد إلى ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، وله صحبة: أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل ويخرج وقت الغسل بالفراغ من الصلاة فمن اغتسل بعد الصلاة لا يكون غسلا للجمعة، ولا يعتبر فاعله آتيا بما أمر به، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) رواه الجماعة، ولمسلم (إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل) وقد حكى ابن عبد البر الاجماع على ذلك. (2) غسل العيدين : استحب العلماء الغسل للعيدين، ولم يأت في ذلك حديث صحيح، قال في البدر المنير: أحاديث غسل العيدين ضعيفة، وفيها آثار عن الصحابة جيدة. (3) غسل من غسل ميت ا: يستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل عند كثير من أهل العلم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم. وقد طعن الائمة في هذا الحديث. قال علي بن المدايني وأحمد وابن المنذر والرافعي وغيرهم: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئا، لكن الحافظ ابن حجر قال في حديثنا هذا: قد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وهو - بكثرة طرقه - أقل أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض، وقال الذهبي: طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، والامر في الحديث محمول على الندب، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل. رواه الخطب بإسناد صحيح، ولما غسلت أسماء بنت عميش زوجها أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بكر الصديق رضي الله عنه حين توفي خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة، فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا، رواه مالك. (4) غسل الإحرام : يندب الغسل لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة عند الجمهور، لحديث زيد ابن ثابت (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرد لاهلاله واغتسل، رواه الدارقطني والبيهقي والترمذي وحسنه، وضعفه العقيلي. (5) غسل دخول مكة : يستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذى طوى حتى يصبح ثم يدخل مكة نهارا) ، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم، وقال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء، وليس في تركه عندهم فدية، وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء. (6) غسل الوقوف بعرفة : يندب الغسل لمن أراد الوقوف بعرفة الحج، لما رواه مالك بن نافع: (أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل لاحرامه قبل أن يحرم، ولدخول مكة، ولوقوفه عشية عرفة) . أركان الغسل لا تتم حقيقة الغسل المشروع إلا بأمرين: (1) النية: إذ هي المميزة للعبادة عن العادة، وليست النية إلا عملا قلبيا محضا. وأما ما درج عليه كثير من الناس واعتادوه من التلفظ بها فهو محدث غير مشروع، ينبغي هجره والاعراض عنه وقد تقدم الكلام على حقيقة النية في الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 (2) غسل جميع الأعضاء: لقول الله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) أي اغتسلوا، وقوله: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) : أي يغتسلن. والدليل على أن المراد بالتطهر الغسل، ما جاء صريحا في قول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) وحقيقة الاغتسال، غسل جميع الاعضاء. سننه : يسن للمغتسل مراعاة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في غسله فيبدأ (1) بغسل يديه ثلاثا (2) ثم يغسل فرجه (3) ثم يتوضأ وضوءا كاملا كالوضوء للصلاة، وله تأخير غسل رجليه إلى أن يتم غسله، إذا كان يغتسل في طست ونحوه (4) ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثا مع تخليل الشعر، ليصل الماء إلى أصوله (5) ثم يفيض الماء على سائر البدن بادئا بالشق الايمن ثم الايسر مع تعاهد الابطين وداخل الاذنين والسرة وأصابع الرجلين وذلك ما يمكن دلكه من البدن. وأصل ذلك كله ما جاء عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أنه قد استبرأ (1) حفن على رأسه ثلاث حثيات، ثم أفاض على سائر جسده) ، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لهما: (ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات) ، ولهما عنها أيضا قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب (2) فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الايمن ثم الايسر، ثم أخذ بكفيه فقلبهما على رأسه) وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالارض ثم مضمض   (1) (أنه قد استبرأ) : أي أوصل الماء إلى البشرة. (2) (الحلاب) : الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثا، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها (1) وجعل ينفض الماء بيده رواه الجماعة. غسل المرأة : غسل المرأة كغسل الرجل، إلا أن المرأة لا يجب عليها أن تنقض ضفيرتها، إن وصل الماء إلى أصل الشعر، لحديث أم سلمة رضي الله عنها، أن امرأة قالت يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للجنابة؟ قال: (إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء ثم تفضي على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت) رواه أحمد ومسلم والترمذي وقال: حسن صحيح، وعن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: (يا عجبا لابن عمر، يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤوسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) رواه أحمد ومسلم، ويستحب للمرأة إذا اغتسلت من حيض أو نفاس، أن تأخذ قطعة من قطن ونحوه، وتضيف إليها مسكا أو طيبا ثم تتبع بها أثر الدم، لتطيب المحل وتدفع عنه رائحة الدم الكريهة. فعن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض قال: (تأخذ إحداكم ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور (2) ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها) قالت أسماء: وكيف تطهر بها؟ قال: (سبحان الله! تطهري بها) فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك. تتبعي أثر الدم: وسألته عن غسل الجنابة فقال: (تأخذي ماءك   (1) لم يردها (بضم الياء وكسر الراء من الارادة، لا من الرد كما جاء في رواية البخاري) ثم أتيته بالمنديل فرده. (2) (تطهر فتحسن الطهور) أي تتوضأ فتحسن الوضوء. (شؤون رأسها) : أي أصول شعر الرأس. (فرصة ممسكة) .بكسر فسكون: أي قطعة قطن أو صوفة مطيبة بالمسك. (تخفي ذلك) : تسر به إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فتطهرين فتحسنين الطهور أو أبلغي الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء) فقالت عائشة: (نعم النساء نساء الانصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) رواه الجماعة إلا الترمذي. مسائل تتعلق بالغسل : 1 - يجزئ غسل واحد عن حيض وجنابة، أو عن جمعة وعيد، أو عن جنابة وجمعة، وإذا نوى الكل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى) . 2 - إذا اغتسل من الجنابة، ولم يكن قد توضأ يقوم الغسل عن الوضوء، قالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لرجل - قال له: إني أتوضأ بعد الغسل - فقال له: لقد تغمقت، وقال أبو بكر ابن العربي: لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وتقضي عليها، لان موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الاقل في نية الاكثر، وأجزأت نية الاكبر عنه. 3 - يجوز للجنب والحائض إزالة الشعر، وقص الظفر والخروج إلى السوق وغيره من غير كراهية. قال عطاء يحتجم الجنب، ويقلم أظافره، ويحلق رأسه، وإن لم يتوضأ رواه البخاري. 4 - لا بأس بدخول الحمام، إن سلم الداخل من النظر إلى العورات، وسلم من نظر الناس إلى عورته. قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله، وإلا فلا تدخل. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) . وذكر الله في الحمام لا حرج فيه، فإن ذكر الله في كل حال حسن، ما لم يرد ما يمنع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكر الله على كل أحيانه. 5 - لا بأس بتنشيف الاعضاء بمنديل ونحوه، في الغسل والوضوء، صيفا وشتاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 6 - يجوز للرجل أن يغتسل ببقية الماء الذي اغتسلت منه المرأة والعكس، كما يجوز لهما أن يغتسلا معا من إناء واحد. فعن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها، أو يغتسل، فقالت له يا رسول الله: إني كنت جنبا! فقال: (إن الماء لا يجنب) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح. وكانت عائشة تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فيبادرهما وتبادره، حتى يقول لها: دعي لي، وتقول له: دع لي (1) . 7 - لا يجوز الاغتسال عريانا بين الناس، لان كشف العورة محرم، فإن استتر بثوب ونحوه فلا بأس. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره فاطمة بثوب ويغتسل، أما لو اغتسل عريانا بعيدا عن أعين الناس فلا مانع منه، فقد اغتسل موسى عليه السلام عريانا، كما رواه البخاري فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه. فناداه ربه تبارك وتعالى: (يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك) رواه أحمد والبخاري والنسائي. التيمم : 1 - تعريفه: المعنى اللغوي للتيمم: القصد. والشرعي: القصد إلى الصعيد، لمسح الوجه واليدين، بنية استباحة الصلاة ونحوها. 2 - دليل مشروعيته: ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فلقول الله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) (2) .   (1) المراد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول لعائشة أبقي لي ماء وهي تقول كذلك. (2) سورة النساء آية 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأما السنة، فلحديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت الارض كلها لي ولامتي مسجدا وطهورا، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده طهوره) رواه أحمد. وأما الاجماع، فلان المسلمين أجمعوا على أن التيمم مشروع، بدلا من الوضوء والغسل في أحوال خاصة. 3 - اختصاص هذه الامة به: وهو من الخصائص التي خص الله بها هذه الامة. فعن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث في قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) . رواه الشيخان. 4 - سبب مشروعيته: روت عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم على فخذي قد نام، فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده خاصرتي فما يمنعني من التحرك إلا مكان النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله تعالى آية التيمم (فتيمموا) قال السيد بن حضير: ما هي أول (1) بركتكم يا آل أبي بكر!! فقالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته) . رواه الجماعة إلا الترمذي. 5 - الاسباب المبيحة له: يباح التيمم للمحدث حدثا أصغر أو أكبر، في الحضر والسفر، إذا وجد سبب من الاسباب الاتية: ا - إذا لم يجد الماء، أو وجد منه ما لا يكفيه للطهارة، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر،   (1) ما: بمعنى ليس - أي ليست هذه أول بركة لكم، فان بركاتكم كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فصلى بالناس، فإذا هو رجل معتزل فقال: (ما منعك أن تصلي؟) قال: أصابتني جنابة، ولا ماء. قال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) رواه الشيخان. وعن أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين) رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. لكن يجب عليه - قبل أن يتيمم - أن يطلب الماء من رجله، أو من رفقته، أو ما قرب منه عادة، فإذا تيقن عدمه، أو أنه بعيد عنه، لا يجب عليه الطلب. ب - إذا كان به جراحة أو مرض، وخاف من استعمال الماء زيادة المرض أو تأخر الشفاء، سواء عرف ذلك بالتجربة أو بإخبار الثقة من الاطباء، لحديث جابر رضي الله عليه قال، خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال (1) . إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده) رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني، وصححه ابن السكن. ج - إذا كان الماء شديد البرودة، وغلب على ظنه حصول ضرر بإستعماله بشرط أن يعجز عن تسخينه ولو بالاجر، أولا يتيسر له دخول الحمام، لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: احتملت في ليلة شديدة البرودة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟) . فقلت: ذكرت قول الله عزوجل: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) (2) فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله ولم يقل شيئا. رواه أحمد وأبو داود والحاكم والدارقطني وابن حبان، وعلقه البخاري. وفي هذا إقرار، والاقرار حجة لانه صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل.   (1) (العي) الجهل. (2) سورة النساء آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 د - إذا كان الماء قريبا منه، إلا أنه يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله أو فوت الرفقة، أو حال بينه وبين الماء عدو يخشى منه، سواء كان العدو آدميا أو غيره، أو كان مسجونا، أو عجز عن استخراجه، لفقد آلة الماء، كحبل ودلو، لان وجود الماء في هذه الاحوال كعدمه، وكذلك من خاف إن اغتسل أن يرمي بما هو برئ منه ويتضرر به، جاز التيمم (1) . - إذا احتاج إلى الماء حالا أو مآلا لشربه أو شرب غيره، ولو كان كلبا غير عقور، أو احتاج له لعجن أو طبخ وإزالة نجاسة غير معفو عنها، فإنه يتيمم ويحفظ ما معه من الماء. قال الامام أحمد رضي الله عنه: عدة من الصحابة تيمموا وحبسوا لماء لشفاههم. وعن علي رضي الله عنه أنه قال - في الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، ومعه قليل من الماء، يخاف أن يعطش -: يتيمم ولا يغتسل. رواه الدارقطني. قال ابن تيمية: ومن كان حاقنا عادما للماء، فالافضل أن يصلي بالتيمم غير حاقن من أن يحفظ وضوءه ويصلي حاقنا. و إذا كان قادرا على استعمال الماء، لكنه خشي خروج الوقت باستعماله في الوضوء أو الغسل، فأنه يتيمم ويصلي، ولا اعادة عليه. 6 - الصعيد الذي يتيمم به: يجوز التيمم بالتراب الطاهر وكل ما كان من جنس الارض، كالرمل والحجر والرجص. لقول الله تعالى: (فتيمموا صعيدا طيبا) وقد أجمع أهل اللغة، على أن الصعيد وجه الارض، ترابا كان أو غيره. 7 - كيفية التيمم: على المتيمم أن يقدم النية (2) . وتقدم الكلام عليها في الوضوء، ثم يسمي الله تعالى، ويضرب بيديه الصعيد الطاهر، ويمسح بهما وجهه ويديه إلى الرسغين. ولم يرد في ذلك أصح ولا أصرح من حديث عمار رضي الله عنه قال: اجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد (3) وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما كان يكفيك هكذا) وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الارض (وتنفخ فيهما) ثم مسح بهما   (1) كالصديق يبيت عند صديقه المتزوج فيصبح جنبا. هـ (2) وهي فرض في التيمم أيضا. (3) (تمعكت) تمرغت وزنا ومعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وجهه وكفيه) . رواه الشيخان. وفي لفظ آخر: (إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين) رواه الدارقطني. ففي هذا الحديث، الاكتفاء بضربة واحدة، والاقتصار في مسح اليدين على الكفين، وان من السنة لمن تيمم بالتراب، أن ينفض يديه وينفخهما منه، ولا يعفر به وجهه. 8 - ما يباح به التيمم: التيمم بدل من الوضوء والغسل عند عدم الماء فيباح به ما يباح بهما، من الصلاة ومس المصحف وغيرهما، ولا يشترط لصحته دخول الوقت، وللمتيمم أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل، فحكمه كحكم الوضوء، سواء بسواء، فعن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصعيد طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين. فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) رواه أحمد والترمذي وصححه. 9 - نواقضه: ينقض التيمم كل ما ينقض الوضوء، لانه بدل منه، كما ينقضه وجود الماء لمن فقده، أو القدرة على استعماله، لمن عجز عنه. لكن إذا صلى بالتيمم، ثم وجد الماء، أو قدر على استعماله بعد الفراغ من الصلاة، لا تجب عليه الاعادة، وإن كان الوقت باقيا، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجد الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الاخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا له ذلك، فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الاجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي. أما إذا وجد الماء وقدر على استعماله بعد الدخول في الصلاة، وقبل الفراغ منها، فإن وضوءه ينتقض، ويجب عليه التطهر بالماء، لحديث أبي ذر المتقدم. وإذا تيمم الجنب أو الحائض لسبب من الاسباب المبيحة للتيمم وصلى، لا تجب عليه إعادة الصلاة. ويجب عليه الغسل متى قدر على استعمال الماء، لحديث عمر رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 برجل معتزل لم يصل مع القوم، قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) قال: أصابتني جنابة ولم أجد ماء. قال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) ثم ذكر عمران: أنهم بعد أن وجدوا الماء أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصابته الجنابة إناء من ماء وقال: (إذهب فأفرغه عليك) ، رواه البخاري. المسح على الجبيرة ونحوها : مشروعية المسح على الجبيرة والعصابة: يشرع المسح على الجبيرة ونحوها مما يربط به العضو المريض. لاحاديث وردت في ذلك، وهي وإن كانت ضعيفة، إلا أن لها طرقا يشد بعضها بعضا. وتجعلها صالحة للاستدلال بها على المشروعية. من هذه الاحاديث حديث جابر: أن رجلا أصابه حجر، فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه، هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بذلك فقال: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتمم ويعصر أو يعصب على جرحه، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده) ، رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السكن. وصح عن ابن عمر، أنه مسح على العصابة. حكم المسح: حكم المسح على الجبيرة الوجوب، في الوضوء والغسل، بدلا من غسل العضو المريض أو مسحه. متى يجب المسح: من به جراحة أو كسر وأراد الوضوء أو الغسل، وجب عليه غسل أعضائه، ولو اقتضى ذلك تسخين الماء، فإن خاف الضرر من غسل العضو المريض، بأن ترتب على غسله حدوث مرض، أو زيادة ألم، أو تأخر شفاء، انتقل فرضه إلى مسح العضو المريض بالماء، فإن خاف الضرر من المسح وجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عليه أن يربط على جرح عصابة، أو يشد على كسره جبيرة، بحيث لا يتجاوز العضو المريض إلا لضرورة ربطها، ثم يمسح عليها مرة تعمها. والجبيرة أو العصابة لا يشترط تقدم الطهارة على شدها، ولا توقيت فيها بزمن، بل يمسح عليها دائما في الوضوء والغسل، ما دام العذر قائما. مبطلات المسح: يبطل المسح على الجبيرة، بنزعها من مكانها أو سقوطها عن موضعها عن برء أو براءة موضعها، وإن لم تسقط. صلاة فاقد الطهورين من عدم الماء والصعيد بكل حال يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه. لما رواه مسلم عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير. جزاك الله خيرا، فو الله ما نزل بك أمر قط، إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين منه بركة، فهؤلاء الصحابة صلوا حين عدموا ما جعل لهم طهورا، وشكوا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره عليهم، ولم يأمرهم بالاعادة: قال النووي: وهو أقوى الاقوال دليلا. الحيض : (1) تعريفه: أصل الحيض في اللغة: السيلان، والمراد به هنا: الدم الخارج من قبل المرأة حال صحتها، من غير سبب ولادة ولا افتضاض. (2) وقته: وقته يرى كثير من العلماء أن وقته لا يبدأ قبل بلوغ الانثى تسع سنين (1) فإذا رأت الدم قبل بلوغها هذا السن لا يكون دم حيض، بل دم علة   (1) تسع سنين: أي قمرية، وتقدر السنة القمرية بنحو من: 354 يوما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وفساد، وقد يمتد إلى آخر العمر، ولم يأت دليل على أن له غاية ينتهي إليها، فمتى رأت العجوز المسنة الدم، فهو حيض. (3) لونه: يشترط في دم الحيض أن يكون على لون من ألوان الدم الاتية: 1 - السواد، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان دم الحيضة أسود يعرف (1) فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الاخر فتوضي وصلي فإنما هو عرق) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني. وقال: رواته كلهم ثقات ورواه الحاكم وقال: على شرط مسلم. ب - الحمرة: لانها أصل لون الدم. ح - الصفرة: وهي ماء تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار. د - الكدرة: وهي التوسط بين لون البياض والسواد كالماء الوسخ، لحديث علقمة بن أبي علقمة عن أمه مرجانة مولاة عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة (2) فيها الكرسف فيه الصفرة، فتقول. لا تعجلن حتى ترين القصة (3) البيضاء) رواه مالك ومحمد بن الحسن وعلقه البخاري. وإنما تكون الصفرة والكدرة حيضا في أيام الحيض، وفي غيرها لا تعتبر حيضا، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا) رواه أبو داود والبخاري ولم يذكر بعد الطهر.   (1) (يعرف) بضم الاول وفتح الراء: أي تعرفه النساء، أو بكسر الراء: أي له عرف ورائحة. (2) (بالدرجة) بكسر أوله وفتح الراء والجيم جمع درج بضم فسكون وعاء تضع المرأة فيه طيبها ومتاعها، أو بالضم ثم السكون تأنيث درج وهو ما تدخله المرأة من قطن وغيره، لتعرف هل بقي من أثر الحيض شئ أم لا. والكرسف، القطن. (3) (القصة) القطنة: أي حتى تخرج القطنة بيضاء نقية لا يخالطها صفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 (4) مدته (1) : لا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره. ولم يأت في تقدير مدته ما تقوم به الحجة. ثم إن كانت لها عادة متقررة تعمل عليها، لحديث أم سلمة رضي الله عنها: أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال: (لتنظر قدر الليالي والايام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر، فتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر (2) ثم تصلي) رواه الخمسة إلا الترمذي، وإن لم تكن لها عادة متقررة ترجع إلى القرائن المستفادة من الدم لحديث فاطمة بنت أبي حبيش المتقدم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف) فدل الحديث على أن دم الحيض متميز عن غيره، معروف لدى النساء. 5 - مدة الطهر بين الحيضتين: اتفق العلماء على أنه لا حد لاكثر الطهر المتخلل بين الحيضتين. واختلفوا في أقله، فقدره بعضهم بخمسة عشر يوما، وذهب فريق منهم إلى أنه ثلاثة عشر. والحق أنه لم يأت في تقدير أقله دليل ينهض للاحتجاج به. النفاس : (1) تعريفه: هو الدم الخارج من قبل المرأة بسبب الولادة وإن كان المولود سقطا. (2) مدته: لا حد لاقل النفاس، فيتحقق بلحظة فإذا ولدت وانقطع دمها عقب الولادة، أو ولدت بلا دم وانقضى نفاسها، لزمها ما يلزم الطاهرات من الصلاة والصوم وغيرهما، وأما أكثره فأربعون يوما. لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله   (1) اختلف العلماء في المدة فقال بعضهم لا حد لاقله وقال آخرون: أقل مدته يوم وليلة، وقال غيرهم ثلاثة أيام، وأما أكثره فقيل عشرة أيام، وقيل خمسة عشر يوما. (2) (ولستثفر) : أي تشد خرقة على فرجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عليه وسلم أربعين يوما) . رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي - بعد هذا الحديث -: قد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي، فإن رأت الدم بعد الاربعين، فإن أكثر أهل العلم قالوا: لا تدع الصلاة بعد الاربعين. ما يحرم على الحائض والنفساء : تشترك الحائض والنفساء مع الجنب في جميع ما تقدم مما يحرم على الجنب، وفي أن كل واحد من هؤلاء الثلاث يقال له محدث حدثا أكبر ويحرم على الحائض والنفساء - زيادة على ما تقدم - أمور: (1) الصوم: فلا يحل للحائض والنفساء أن تصوم، فإن صامت لا ينعقد صيامها، ووقع باطلا، ويجب عليها قضاء ما فاتها من أيام الحيض والنفاس في شهر رمضان، بخلاف ما فاتها من الصلاة، فإنه لا يجب عليها قضاؤه دفعا للمشقة، فإن الصلاة يكثر تكرارها، بخلاف الصوم، لحديث أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء تصدقن فإني أيتكن أكثر أهل النار) فقلن: ولم يا رسول الله؟ قال: (تكترن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن!) قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال (فذلك من نقضان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟) قلن: بلى. قال. (فذلك نقصان دينها) رواه البخاري ومسلم. وعن معاذة قالت: (سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. رواه الجماعة. (2) الوطء: وهو حرام بإجماع المسلمين، بنص الكتاب والسنة، فلا يحل وطء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الحائض والنفساء حتى تطهر، لحديث أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها. ولقد سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شئ إلا النكاح) ، وفي لفظ (إلا الجماع) رواه الجماعة إلا البخاري،، قال النووي: ولو اعتقد مسلم حل جماع الحائض في فرجها صار كافرا مرتدا، ولو فعله غير معتقد حله ناسيا أو جاهلا الحرمة أو وجود الحيض، فلا إثم عليه ولا كفارة، وإن فعله عامدا عالما بالحيض والتحريم مختارا فقد ارتكب معصية كبيرة، يجب عليه التوبة منها. وفي وجوب الكفارة قولان: أصحهما أنه لا كفارة عليه، ثم قال: النوع الثاني أن يباشرها فيما فوق السرة وتحت الركبة وهذا حلال بالاجماع، والنوع الثالث أن يباشرها فيما بين السرة والركبة، غير القبل والدبر. وأكثر العلماء على حرمته. ثم اختار النووي الحل مع الكراهة، لانه أقوى من حيث الدليل، انتهى ملخصا. والدليل الذي أشار إليه، ما روي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا. رواه أبو داود. قال الحافظ: إسناده قوي. وعن مسروق بن الاجدع، قال: سألت عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: (كل شئ إلا الفرج) رواه البخاري في تاريخه. الاستحاضة : (1) تعريفها هي استمرار نزول الدم وجريانه في غير أوانه.   (1) سورة البقرة آية: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 (2) أحوال المستحاضة: المستحاضة لها ثلاث حالات: ا - أن تكون مدة الحيض معروفة لها قبل الاستحاضة، وفي هذه الحالة تعتبر هذه المدة المعروفة هي مدة الحيض، والباقي استحاضة، لحديث أم سلمة: أنها استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال: (لتنظر قدر الليالي والايام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشعر، فتدع الصلاة، ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي) رواه مالك والشافعي والخمسة إلا الترمذي قال النووي: وإسناده على شرطهما. قال الخطابي: هذا حكم المرأة يكون لها من الشهر أيام معلومة تحيضها في أيام الصحة قبل حدوث العلة ثم تستحاض فتهريق الدم، ويستمر بها السيلان أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة من الشهر قدر الايام التي كانت تحيض، قبل أن يصيبها ما أصابها، فإذا استوفت عدد تلك الايام، اغتسلت مرة واحدة، وحكمها حكم الطواهر. ب - أن يستمر بها الدم ولم يكن لها أيام معروفة، إما لانها حسبت عادتها، أو بلغت مستحاضة، ولا تستطيع تمييز دم الحيض. وفي هذه الحالة يكون حيضها ستة أيام أو سبعة، على غالب عادة النساء، لحديث حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بن جحش، قالت فقلت: يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، وقد منعتني الصلاة والصيام؟ فقال: (أنعت لك الكرسف (1) فإنه يذهب الدم) قالت: هو أكثر من ذلك، قال (فتلجمي) قالت: إنما أثج ثجا فقال: (سآمرك بآمرين) أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الاخر، فان قويت عليها فأنت أعلم، فقال لها: (إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام إلى سبعة في علم الله ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد   (1) (أنعت لك الكرسف) : أصف لك القطن. (شدي خرقة مكان الدم على هيئة اللجام، (والثج) : شدة السيلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 طهرت واستنقيت، فصلي أربعا وعشرين ليلة، أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، فتغسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء وتجمعين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين، فكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك ... ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهذا أحب الامرين إلي) رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. قال: وسألت عنه البخاري فقال: حديث حسن. وقال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح. قال الخطابي - تعليقا على هذا الحديث -: إنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها أيام، ولا هي مميزة لدمها، وقد استمر بها الدم حتى غلبها، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والامر الغالب من أحوال النساء كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عادتهن. ويدل على هذا قوله: (كما تحيض النساء ويطهرن بميقات حيضهن وطهرهن) قال: وهذا أصل في قياس أمر النساء بعضهن على بعض، في باب الحيض والحمل والبلوغ، وما أشبه هذا من أمورهن. ح - أن لا تكون لها عادة، ولكنها تستطيع تمييز دم الحيض عن غيره وفي هذه الحالة تعمل بالتمييز، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الاخر فتوضئي وصلى فإنما هو عرق) وقد تقدم. (3) أحكامها: للمستحاضة أحكام نلخصها فيما يأتي: ا - أنه لا يجب عليها الغسل لشئ من الصلاة ولا في وقت من الاوقات إلا مرة واحدة، حينما ينقطع حيضها. وبهذا قال الجمهور من السلف والخلف. ب - أنه يجب عليها الوضوء لكل صلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 - في رواية البخاري -: (ثم توضئي لكل صلاة) . وعند مالك يستحب لها الوضوء لكل صلاة، ولا يجب إلا بحدث آخر. ح - أن تغسل فرجها قبل الوضوء وتحشوه بخرقة أو قطنة دفعا للنجاسة، وتقليلا لها، فإذا لم يندفع الدم بذلك شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت واستثفرت، ولا يجب هذا، وإنما هو الاولى. د - ألا تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة عند الجمهور إذ طهارتها ضرورية، فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة. هـ - أنه يجوز لزوجها أن يطأها في حال جريان الدم، عند جماهير العلماء لانه لم يرد دليل بتحريم جماعها. قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت الصلاة، أعظم رواه البخاري ليعني إذا جاز لها أن تصلي ودمها جار، وهي أعظم ما يشترط لها الطهارة، جاز جماعها. وعن عكرمة بنت حمنة، أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها. رواه أبو داود والبيهقي، وقال النووي: إسناده حسن. و أن لها حكم الطاهرات: تصلي وتصوم وتعتكف وتقرأ القرآن وتمس المصحف وتحمله وتفعل كل العبادات. وهذا مجمع عليه (1) .   (1) دم الحيض دم فساد، أما دم الاستحاضة فهو دم طبيعي، لذا منعت من العبادات في الاول دون الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الصلاة : الصلاة عبادة تتضمن أقوالا وأفعالا مخصوصة، مفتتحة بتكبير الله تعالى، مختتمة بالتسليم. منزلتها في الاسلام : وللصلاة في الاسلام منزلة لا تعدلها منزلة أية عبادة أخرى، فهي عماد الدين الذي لا يقوم إلا به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأس الامر الاسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ، وهي أول ما أوجبه الله تعالى من العبادات، تولى إيجابها بمخاطبة رسوله ليلة المعراج من غير واسطة. قال أنس: (فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودي يا محمد: إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمس خمسين) . رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وهي أول ما يحاسب عليه العبد. نقل عبد الله بن قرط قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة) فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله) رواه الطبراني. وهي آخر وصية وصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عند مفارقة الدنيا، جعل يقول - وهو يلفظ أنفساه الاخيرة -: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم) وهي آخر ما يفقد من الدين، فإن ضاعت ضاع الدين كله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس قبالتي تليها. فأولهن نقضا الحكم. وآخرهن الصلاة) رواه ابن حبان من حديث أبي أمامة. والمتتبع لايات القرآن الكريم يرى أن الله سبحانه يذكر الصلاة ويقرنها بالذكر تارة: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) (1) . (قد أفلح   (1) سورة العنكبوت آية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 من تزكى وذكر اسم ربه فصلى (1) (وأقم الصلاة لذكري (2)) وتارة يقرنها بالزكاة: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (3)) ومرة بالصبر (واستعينوا بالصبر والصلاة (4) ، وطورا بالنسك (فصل لربك والنحر (5) (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (6) . وأحيانا يفتتح بها أعمال البر ويختتمها بها، كما في سورة، سأل (المعارج) وفي أول سورة المؤمنين: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون) إلى قوله: (والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (7)) . وقد بلغ من عناية الاسلام بالصلاة، أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والامن والخوف، فقال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) (8) وقال مبينا كيفيتها في السفر والحرب والامن: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقتصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا. وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم، وخذوا حذركم، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا، فإذا قضيتم   (1) سورة الاعلى آية 14 و 15. (2) سورة طه آية 14. (3) سورة البقرة آية: 110. (4) سورة البقرة آية: 45. (5) سورة الكوثر آية: 2. (6) سورة الانعام آية: 162، 163 (7) سورة المؤمنون: 1، 2، 9، 10، 11. (8) سورة البقرة آية 238، 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (1) . وقد شدد النكير على من يفرط فيها، وهدد الذين يضيعونها. فقال جل شأنه: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا (2) وقال: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون) (3) . ولان الصلاة من الامور الكبرى التي تحتاج إلى هداية خاصة، سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يجعله هو وذريته مقيما لها فقال: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء) (4) . حكم ترك الصلاة : ترك الصلاة جحودا بها وإنكارا لها كفر وخروج عن ملة الاسلام، بإجماع المسلمين. أما من تركها مع إيمانه بها واعتقاده فرضيتها، ولكن تركها تكاسلا أو تشاغلا عنها، بما لا يعد في الشرع عذرا فقد صرحت الاحاديث بكفره ووجوب قتله. أما الاحاديث المصرحة بكفره فهي: 1 - عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) . رواه أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجه. 2 - وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . رواه أحمد وأصحاب السنن. 3 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر الصلاة يوما فقال: (من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم   (1) سورة النساء: 102، 103. (2) سورة مريم آية: 59. (3) سورة الماعون آية: 404، 405. (4) إبراهيم آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد والطبراني وابن حبان، وإسناده جيد. وكون تارك المحافظة على الصلاة مع أئمة الكفر في الاخرة يقتضي كفره. قال ابن القيم: تارك المحافظة على الصلاة، إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته. فمن شعله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. 4 - وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الاعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي والحاكم على شرط الشيخين. 5 - قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: (صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن تارك الصلاة كافر) كان رأي أهل العلم، من لدن محمد صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. 6 - وقال ابن حزم: وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة (أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد) ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفا. ذكره المنذري في الترغيب والترهيب. ثم قال: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة، متعمدا تركها، حتى يخرج جميع وقتها، منهم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء رضي الله عنهم. ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتيبة وأبو أيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم رحمهم الله تعالى. أما الاحاديث المصرحة بوجوب قتله فهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 1 - عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرى الاسلام وقواعد الدين ثلاثة. عليهن أسس الاسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم. شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان) رواه أبو يعلى بإسناد حسن. وفي رواية أخرى: (من ترك منهن واحدة بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل) (1) . وقد حل دمه وماله) . 2 - وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله عز وجل) . رواه البخاري ومسلم. 3 - وعن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع) قالوا يا رسول الله: ألا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلوا) رواه مسلم. جعل المانع من مقاتلة أمراء الجور الصلاة. 4 - وعن أبي سعيد قال: بعث علي - وهو على اليمن - إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة، فقال رجل يا رسول الله: اتق الله. فقال: (ويلك!! أو لست أحق أهل الارض أن يتقي الله!) ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال لا: (لعله أن يكون يصلي) فقال خالد: وكم من رجل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) مختصر من حديث للبخاري ومسلم. وفي هذا الحديث أيضا، جعل الصلاة هي المانعة من القتل، ومفهوم هذا، أن عدم الصلاة يوجب القتل. رأي بعض العلماء الاحاديث المتقدمة ظاهرها يقتضي كفر تارك الصلاة وإباحة دمه، ولكن كثيرا من علماء السلف والخلف، منهم أبو حنيفة، مالك، والشافعي، على   (1) لا يقبل منه صرف ولا عدل: لا يقبل منه فرض ولا نقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب، فإن لم يتب قتل حد أعند مالك والشافعي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي، وحملوا أحاديث التكفير على الجاحد أو المستحل للترك، وعارضوها ببعض النصوص العامة كقول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . (1) وكحديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة. فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا) وعنه، عند البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله، خالصا من قلبه) . مناظرة في تارك الصلاة : ذكر السبكي في طبقات الشافعية أن الشافعي وأحمد رضي الله عنهما تناظرا في تارك الصلاة. قال الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال: نعم. قال: إذا كان كافرا فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الشافعي: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه. قال: يسلم بأن يصلي. قال: صلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم له بالاسلام بها. فسكت الامام أحمد، رحمهما الله تعالى. تحقيق الشوكاني: قال الشوكاني: والحق أنه كافر يقتل. أما كفره، فلان الاحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الاطلاق، ولا يلزمنا شئ من المعارضات التي أوردها المعارضون، لانا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل   (1) سورة النساء آية: 116 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها. على من تجب؟ تجب الصلاة على المسلم العاقل البالغ، لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث (1) : عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم (2) ، وعن المجنون حتى يعقل) رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، وحسنه الترمذي. صلاة الصبي : والصبي وإن كانت الصلاة غير واجبة عليه، إلا أنه ينبغي لوليه أن يأمره بها، إذا بلغ سبع سنين، ويضربه على تركها، إذا بلغ عشرا، ليتمرن عليها ويعتادها بعد البلوغ. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. عدد الفرائض : الفرائض التي فرضها الله تعالى في اليوم والليلة خمس: فعن ابن محيريز، أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي، سمع رجلا بالشام يدعى أبا محمد، يقول: الوتر واحد قال: فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته، فقال عبادة: كذب أو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال فيه: (ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئا   (1) (رفع القلم) كناية عن عدم التكليف. (2) يحتلم. يبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 استخفافا بحقهن) . وعن طلحة بن عبيد الله أن اعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الشعر فقال: (يا رسول الله أخبرني ما فرض الله علي من الصلوات؟ فقال: (الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا) فقال: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام؟. فقال: (شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا) . فقال: أخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الاسلام كلها. فقال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق) . رواه البخاري ومسلم. مواقيت الصلاة : للصلاة أوقات محدودة لا بد أن تؤدى فيها، لقول الله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (1) أي فرضا مؤكدا ثابتا ثبوت الكتاب. وقد أشار القرآن إلى هذه الاوقات فقال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار (2) وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين (3)) . وفي سورة الاسراء: (أقم الصلاة لدلوك الشمس (4) إلى غسق الليل، وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (5)) . وفي سورة طه: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (6))   (1) (موقوتا) أي منجما في أوقات محدودة، سورة النساء: 103. (2) قال الحسن: (صلاة طرفي النهار) : الفجر والعصر و (زلف الليل) قال: هما زلفتان، صلاة المغرب وصلاة العشاء. (3) سورة هود آية: 114. (4) (دلوك الشمس) زوالها، اي أقمها لاول وقتها هذا، وفيه صلاة الظهر، منتهيا إلى غسق الليل، وهو ابتداء ظلمته، ويدخل فيه صلاة العصر والعشاءين. (وقرآن الفجر) : أي وأقم قرآن الفجر: أي صلاة الفجر، (مشهودا) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. (5) الاسراء آية: 18. (6) سورة طه آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يعني بالتسبيح قبل طلوع الشمس: صلاة الصبح، وبالتسبيح قبل غروبها: صلاة العصر، لما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ هذه الاية) . هذا هو ما أشار إليه القرآن من الاوقات: وأما السنة فقد حددتها وبينت معالمها فيما يلي: 1 - عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، وقت العشاء إلى نصف الليل الاوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر وما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان) ، رواه مسلم. 2 - وعن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له: (قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غ اب الشفق، ثم جاءه الفجر حين برق الفجر، أو قال: (سطع الفجر) ثم جاءه من الغد للظهر فقال: قم فصله، فصلى الظهر حين صار ظل كل شئ مثله، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثليه، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: (ثلث الليل) فصلى العشاء. ثم جاءه حين أسفر جدا فقال: قم فصله، فصلى الفجر، ثم قال: (ما بين هذين الوقتين وقت) رواه أحمد والنسائي والترمذي. وقال البخاري: هو أصح شئ في المواقيت، يعني إمامة جبريل.   (1) (وجبت الشمس) غربت وسقطت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقت الظهر تبين من الحديثين المتقدمين، أن وقت الظهر يبتدئ من زوال الشمس عن وسط السماء، ويمتد إلى أن يصير ظل كل شئ مثله سوى فئ الزوال، إلا أنه يستحب تأخير صلاة الظهر عن أول الوقت عند شدة الحر، حتى لا يذهب الخشوع، والتعجيل في غير ذلك. دليل هذا : 1 - ما رواه أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة) رواه البخاري. 2 - وعن أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر فقال: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد، مرتين أو ثلاثا، حتى رأينا في التلول (1) ثم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) ، رواه البخاري ومسلم. غاية الابراد قال الحافظ في الفتح: واختلف العلماء في غاية الابراد. فقيل حتى يصير الظل ذراعا بعد ظل الزوال. وقيل: ربع قامة، وقيل: ثلثها. وقيل: نصفها، وقيل غير ذلك. والجاري على القواعد، أنه يختلف باختلاف الاحوال ولكن بشرط أن لا يمتد إلى آخر الوقت. وقت صلاة العصر وقت صلاة العصر يدخل بصيرورة ظل الشئ مثله بعده فئ الزوال، ويمتد إلى غروب الشمس. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) . رواه الجماعة، ورواه البيهقي بلفظ: (من صلى من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ثم صلى ما تبقى بعد غروب الشمس لم يفته العصر) .   (1) (الفئ) : الظل الذي بعد الزوال. (التلول) جمع تل: ما اجتمع على الارض من تراب أو نحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وقت الاختيار ووقت الكراهة وينتهي وقت الفضيلة والاختيار باصفرار الشمس، وعلى هذا يحمل حديث جابر وحديث عبد الله بن عمر والمتقدمين. وأما تأخير الصلاة إلى ما بعد الاصفرار فهو وإن كان جائزا إلا أنه مكروه إذا كان لغير عذر. فعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا. لا يذكر الله إلا قليلا) رواه الجماعة، إلا البخاري، وابن ماجه. قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا للعصر خمسة أوقات: (1) وقت فضيلة. (2) واختيار. (3) وجواز بلا كراهة. (4) وجواز مع كراهة. (5) ووقت عذر، فأما وقت الفضيلة فأول وقتها. ووقت الاختيار، يمتد إلى أن يصير ظل الشئ مثليه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب، ووقت العذر، وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين العصر والظهر، لسفر أو مطر، ويكون العصر في هذه الاوقات الخمسة أداء، فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء. تأكيد تعجيلها في يوم الغيم: عن بريدة الاسلمي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فقال: (بكروا بالصلاة في اليوم الغيم، فإن من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله) رواه أحمد وابن ماجه. قال ابن القيم: الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدا، فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين، في يوم معين، فهذا يحبط عمل اليوم) . صلاة العصر هي صلاة الوسطى قال الله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) . وقد جاءت الاحاديث الصحيحة مصرحة بأن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 1 - فعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الاحزاب: (ملا الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) رواه البخاري ومسلم. ولمسلم وأحمد وأبي داود: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر) . 2 - وعن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس واصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملا الله أجوافهم وقبورهم نارا) ، (أو حشا أجوافهم وقبورهم نارا) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وقت صلاة المغرب يدخل وقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس وتوارت بالحجاب، ويمتد إلى مغيب الشفق الاحمر، لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق) رواه مسلم. وروي أيضا عن أبي موسى: أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة، فذكر الحديث، وفيه فأمره فأقام المغرب حين وجبت الشمس، فلما كان اليوم الثاني. قال: ثم أخر حتى كان عند سقوط الشفق (1) ثم قال: الوقت ما بين هذين. قال النووي في شرح مسلم: (وذهبت المحققون من أصحابنا إلى رجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك، ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت) . وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجوز غيره. وأما ما تقدم في حديث إمامة جبريل: أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد حين غربت الشمس، فهو يدل على استحباب التعجيل بصلاة المغرب، وقد جاءت الاحاديث مصرحة بذلك.   (1) الشفق كما في القاموس: هو الحمرة في الافق من الغروب إلى العشاء أو إلى قريبها، أو إلى قريب العتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 1 - فعن السائب بن يزيد أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجوم) رواه أحمد والطبراني. 2 - وفي المسند ان ابن أبي أيوب الانصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا المغرب لفطر الصائم وبادروا طلوع النجوم) . 3 - وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج: (كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وانه ليبصر مواقع نبله) . 4 - وفيه عن سلمة بن الاكوع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب..وقت العشاء يدخل وقت صلاة العشاء بمغيب الشفق الاحمر، ويمتد إلى نصف الليل. فعن عائشة قالت: (كانوا يصلون العتمة (1) فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الاول) رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهن أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه) ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وعن أبي سعيد قال: انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل قال: فجاء فصلى بنا ثم قال: (خذوا مقاعدكم فإن الناس قد أخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة، لاخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وإسناده صحيح. هذا وقت الاختيار. وأما وقت الجواز والاضطرار فهو ممتد إلى الفجر، لحديث أبي قتادة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الاخرى) رواه مسلم. والحديث المتقدم في المواقيت يدل على أن وقت كل صلاة ممتد إلى دخول وقت   (1) (العتمة) : العشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الصلاة الاخرى، إلا صلاة الفجر فإنها لا تمتد إلى الظهر، فإن العلماء أجمعوا أن وقتها ينتهي بطلوع الشمس. استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها : والافضل تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقتها المختار، وهو نصف الليل، لحديث عائشة قالت: أعتم (1) النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، حتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) رواه مسلم والنسائي. وقد تقدم حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وهما في معنى حديث عائشة، وكلها تدل على استحباب التأخير وأفضليته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المواظبة عليه لما فيه من المشقة على المصلين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظ أحوال المؤتمين، فأحيانا يعجل وأحيانا يؤخر. فعن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة (2) ، والعصر، والشمس نقية، والمغرب، إذا وجبت الشمس، والعشاء، أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطأوا أخر، والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس (3)) ، رواه البخاري ومسلم.   (1) (أعتم) : أي أخر صلاة العشاء. (عامة الليل) أي كثير منه، وليس المراد أكثره بدليل قوله: إنه لوقتها. قال النووي: ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول إلى ما بعد نصف الليل، لانه لم يقل أحد من العلماء إن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل. (2) (الهاجرة) شدة الحر نصف النهار عقب الزوال. (3) (الغلس) ظلمة آخر الليل. النوم قبلها والحديث بعدها يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، لحديث أبي برزة الاسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها. ورواه الجماعة. وعن ابن مسعود قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم السمر بعد العشاء، ورواه ابن ماجه قال: جدب: يعني زجرنا ونهانا عنه. وعلة كراهة النوم قبلها والحديث بعدها: أن النوم قد يفوت على النائم الصلاة في الوقت المستحب أو صلاة الجماعة، كما أن السمر بعدها يؤدي إلى السهر المضيع لكثير من الفوائد، فإن أراد النوم وكان معه من يوقظه أو أو تحدث بخير فلا كراهة حينئذ. فعن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في أمر من أمور المسلمين، وأنا معه) رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعن ابن عباس قال: (رقدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، لانظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد) .رواه مسلم. وقت صلاة الصبح يبتدئ الصبح من طلوع الفجر الصادق ويستمر إلى طلوع الشمس، كما تقدم في الحديث. استحباب المبادرة لها يستحب المبادرة بصلاة الصبح بأن تصلي في أول وقتها، لحديث أبي مسعود الانصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد أن يسفر. رواه أبو داود والبيهقي، وسنده صحيح. وعن عائشة قالت: (كن نساء مؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن (1) ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس) . رواه الجماعة. وأما حديث رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لاجوركم) ، وفي رواية: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للاجر) . رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان، فإنه أريد به الاسفار   (1) (متلفعات بمروطهن) : ملتحفات بأكسيتهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بالخروج منها، لا الدخول فيها: أي أطيلوا القراءة فيها، حتى تخرجوا منها مسفرين، كما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقرأ فيها الستين آية إلى المائة آية، أو أريد به تحقق طلوع الفجر، فلا يصلي مع غلبة الظن. ادراك ركعة من الوقت من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت فقد أدرك الصلاة، لحديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .رواه الجماعة. وهذا يشمل جميع الصلوات، وللبخاري: (إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته) والمراد بالسجدة الركعة، وظاهر الاحاديث أن من أدرك الركعة من صلاة الفجر أو العصر لا تكره الصلاة في حقه عند طلوع الشمس وعند غروبها وإن كانا وقتي كراهة، وأن الصلاة تقع أداء بإدراك ركعة كاملة، وإن كان لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت. النوم عن الصلاة أو نسيانها : من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها، لحديث أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: (إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها) ، رواه النسائي والترمذي وصححه. وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) ، رواه البخاري ومسلم. وعن عمران بن الحصين قال: سربنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس. فجعل الرجل منا يقوم دهشا إلى طهوره، قال: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكتوا، ثم ارتحلنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ ثم أمر بلال فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر. ثم أقام فصلينا فقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ فقال: (أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم) . رواه أحمد وغيره. الأوقات المنهي عن الصلاة فيها : ورد النهي عن صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعند طلوعها حتى ترتفع قدر رمح، وعند استوائها حتى تميل إلى الغروب، وبعد صلاة العصر حتى تغرب، فعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس) . رواه البخاري ومسلم. وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا نبي الله أخبرني عن الصلاة؟ قال: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة (1) حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم اقصر عن الصلاة فإن (2) حينئذ تسجر جهنم (3) فإذا أقبل الفي فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار) ، رواه أحمد ومسلم. وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا (4) : حين تطلع الشمس بازغة (5)   (1) (أقصر) : كف. (تطلع بين قرني شيطان) قال النووي: يدني رأسه إلى الشمس في هذه الاوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة وحينئذ يكون له ولشيعته تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين صلاتهم فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها كما كرهت في الاماكن التي مأوى الشياطين. (مشهودة محضورة) . تشهدها الملائكة ويحضرونها. (يستقل الظل بالرمح) : المراد به أن يكون الظل في جانب الرمح فلا يبقى على الارض منه شئ وهذا يكون حين الاستواء. (2) (فإن) ، وفي رواية فانه. (3) (تسجر جهنم) : أي يوقد عليها. (4) النهي عن الدفن في هذه الاوقات معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الاوقات، فأما إذا وقع الدفن بلا تعمد في هذه الاوقات فلا يكره. (5) (بازغة) : ظاهرة. (تضيف) تميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف للغروب حتى تغرب. رواه الجماعة إلا البخاري. رأي الفقهاء في الصلاة بعد الصبح والعصر: يرى جمهور العلماء جواز قضاء الفوائت بعد صلاة الصبح والعصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها) ، رواه البخاري ومسلم. وأما صلاة النافلة فقد كرهها من الصحابة: علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وابن عمر وكان عمر يضرب على الركعتين بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير، كما كان خالد ابن الوليد يفعل ذلك. وكرهها من التابعين الحسن، وسعيد ابن المسيب، ومن أئمة المذاهب أبو حنيفة، ومالك. وذهب الشافعي إلى جواز صلاة ما له سبب (1) كتحية المسجد، وسنة الوضوء في هذين الوقتين، استدلالا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد صلاة العصر، والحنابلة ذهبوا إلى حرمة التطوع ولو له سبب في هذين الوقتين، إلا ركعتي الطواف، لحديث جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء، من ليل أو نهار) . رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة والترمذي. رأيهم في الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها: يرى الحنفية عدم صحة الصلاة مطلقا في هذه الاوقات، سواء كانت الصلاة مفروضة أو واجبة أو نافلة، قضاء أو أداء، واستثنوا عصر اليوم وصلاة الجنازة (إن حضرت في أي وقت من هذه الاوقات، فإنها تصلى فيها بلا كراهة) وكذا سجدة التلاوة، إذا تليت آياتها في هذه الاوقات، واستثنى أبو يوسف التطوع يوم الجمعة وقت الاستواء. ويرى الشافعية كراهة النفل الذي لا سبب له في هذه الاوقات. أما الفرض مطلق، والنفل الذي له سبب، والنقل وقت   (1) هذا أقرب المذاهب إلى الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الاستواء يوم الجمعة، والنفل في الحرم المكي، فهذا كله مباح لا كراهة فيه. والمالكية يرون في وقت الطلوع والغروب حرمة النوافل، ولو لها سبب، والمنذورة وسجدة التلاوة، وصلاة الجنازة، إلا إذا خيف عليها التغير فتجوز، وأباحوا الفرائض العينية، أداء وقضاء في هذين الوقتين، كما أباحوا الصلاة مطلقا، فرضا أو نفلا وقت الاستواء. قال الباجي في شرح الموطأ: وفي المبسوط عن ابن وهب: سئل مالك عن الصلاة نصف النهار فقال: أدركت الناس وهم يصلون يوم الجمعة نصف النهار، وقد جاء في بعض الاحاديث نهي عن ذلك، فأنا لا أنهى عنه للذي أدركت الناس عليه، ولا أحبه للنهي عنه. وأما الحنابلة فقد ذهبوا إلى عدم انعقاد النفل مطلقا في هذه الاوقات الثلاثة سواء كان له سبب أو لا، وسواء كان بمكة أو غيرها، وسواء كان يوم جمعة أو غيره، إلا تحية المسجد يوم الجمعة، فإنهم جوزوا فعلها بدون كراهة وقت الاستواء وأثناء الخطبة، وتحرم عندهم صلاة الجنازة في هذه الاوقات، إلا إن خيف عليها التغير فتجوز بلا كراهة. وأباحوا قضاء الفوائت، والصلاة المنذورة، وركعتي الطواف ولو نفلا في هذه الاوقات الثلاثة (1) . التطوع بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح: عن يسار مولى ابن عمر قال: رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد ما طلع الفجر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الساعة فقال: (ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين) . رواه أحمد وأبو داود. والحديث وإن كان ضعيفا، إلا أن له طرقا يقوي بعضها بعضا، فتنهض للاحتجاج بها على كراهة التطوع بعد طلوع الفجر بأكثر من ركعتي الفجر. أفاده الشوكاني، وذهب الحسن والشافعي وابن حزم إلى جواز التنفل مطلقا بلا كراهة، وقصر مالك الجواز لمن فاتته صلاة الليل لعذر، وذكر أنه بلغه: أن عبد الله بن عباس والقاسم بن محمد وعبد الله بن عامر بن ربيعة أوتروا بعد الفجر، وأن عبد الله بن مسعود قال: ما أبالي لو أقيمت صلاة الصبح وأنا أوتر. وعن يحيى بن سعيد أنه قال: كان عبادة بن الصامت يؤم   (1) ذكرنا آراء الائمة هنا لقوة دليل كل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قوما فخرج يوما إلى الصبح، فأقام المؤذن صلاة الصبح، فأسكته عبادة حتى أوتر، ثم صلى بهم الصبح. عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس رقد ثم استيقظ ثم قال لخادمه: انظر ما صنع الناس، وهو يومئذ قد ذهب بصره، فذهب الخادم ثم رجع فقال: قد انصرف الناس من الصبح. فقام ابن عباس فأوتر ثم صلى الصبح. التطوع أثناء الإقامة : إذا أقيمت الصلاة كره الاشتغال بالتطوع. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) ، وفي رواية: (إلا التي أقيمت) . رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. وعن عبد الله بن سرجس قال: دخل رجل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة (1) ، فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا فلان بأي الصلاتين اعتددت، بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا) ؟ رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وفي إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم، مع عدم أمره بإعادة ما صلي، دليل على صحة الصلاة وإن كانت مكروهة، وعن ابن عباس قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الاقامة، فجذبني نبي الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (أتصلي الصبح أربعا؟) . رواه البيهقي والطبراني وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى والحاكم، وقال: إنه على شرط الشيخين. وعن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يؤذن، فغمز منكبه وقال: (ألا كان هذا قبل هذا) . رواه الطبراني. قال العراقي: إسناده جيد.   (1) (في صلاة الغداة) : أي الصبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الاذان : (1) الاذان: هو الاعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ مخصوصة. ويحصل به الدعاء إلى الجماعة وإظهار شعائر الاسلام، وهو واجب أو مندوب. قال القرطبي وغيره: الاذان - على قلة ألفاظه - مشتمل على مسائل العقيدة، لانه بدأ بالاكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لانها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الاشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدا.. (2) فضله: ورد في فضل الاذان والمؤذنين أحاديث كثيرة نذكر بعضها فيما يلي: 1 - عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في الاذان والصف الاول (1) ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا) رواه البخاري وغيره. 2 - وعن معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة) ، رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. 3 - وعن البراء بن عازب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه   (1) أي لو يعلم ما في الاذان والصف الاول من الفضيلة وعظيم المثوبة لحكموا القرعة بينهم، لكثرة الراغبين فيها (والتهجير) التكبير الى صلاة الظهر. (والعتمة) صلاة العشاء. (وحبوا) من حبا الصبي: إذا مشى على أربع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه) . قال المنذري: رواه أحمد والنسائي بإسناد حسن جيد. 4 - وعن أبي الدرداء قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة لا يؤذنون، ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان) رواه أحمد. 5 - وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الامام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الائمة واغفر للمؤذنين) . 6 - وعن عقبة بن عامر قال، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يعجب ربك عز وجل من راعي غنم في شظية (1) بجبل يؤذن الصلاة ويصلي، فيقول الله عزوجل: انظروا لعبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني! قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. (3) سبب مشروعيته: شرع الاذان في السنة الاولى من الهجرة. وكان سبب مشروعيته لما بينته الاحاديث الاتية: 1 - عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: كان المسلمون يجتمعون فيتحينون الصلاة (2) وليس وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال قم فنادي بالصلاة) رواه أحمد والبخاري. 2 - وعن عبد الله بن عبد ربه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب به الناس في الجمع للصلاة، وفي رواية، وهو كاره لموافقته للنصارى، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده. فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: ماذا تصنع به؟ قال: فقلت: ندعو به إلى الصلاة   (الشظية) : القطعة تنقطع من الجبل ولا تنفصل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: تقول: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) ثم استأخر غير بعيد ثم قال: (تقول إذا أقيمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) . فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت. فقال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى (1) صوتا منك) قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال: فسمع بذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول. والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أرى. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم (فلله الحمد) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة والترمذي وقال: حسن صحيح. فيؤخذ منه استحباب كون المؤذن رفيع صوت وحسنه. وعن أبي محذورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الاذان، ولو ابن خزيمة. (4) كيفيته: ورد الاذان بكيفيات ثلاث نذكرها فيما يلي: أولا: تربيع التكبير الاول وتثنية باقي الاذان بلا ترجيع ما عدا كلمة التوحيد، فيكون عدد كلماته خمس عشرة كلمة. لحديث عبد الله بن زيد المتقدم. ثانيا: تربيع التكبير، وترجيع كل من الشهادتين، بمعنى أن يقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، يخفض بها صوته، ثم يعيدها مع الصوت. فعن أبي محذورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الاذان تسع عشرة كلمة. رواه الخمسة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.   (1) (أندى صوتا منك) أي أرفع أو أحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ثالثا: تثنية التكبير مع ترجيع الشهادتين فيكون عدد كلماته سبع عشرة كلمة، لما رواه مسلم عن أبي محذورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الاذان: (الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) . (5) التثويب: ويشرع للمؤذن التثويب، وهو أن يقول في أذان الصبح - بعد الحيعلتين -: (الصلاة خير من النوم) قال أبو محذورة: يا رسول الله: علمني سنة الاذان؟ فعلمه وقال (فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) رواه أحمد وأبو داود. ولا يشرع لغير الصبح. (6) كيفية الاقامة: ورد للاقامة كيفيات ثلاث. وهي: أولا: تربيع التكبير الاول مع تثنية جميع كلماتها، ما عدا الكلمة الاخيرة لحديث أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الاقامة سبع عشرة كلمة: الله أكبر أربعا، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.) رواه الخمسة وصححه الترمذي. ثانيا: تثنية التكبير الاول والاخير وقد قامت الصلاة، وإفراد سائر كلماتها فيكون عددها إحدى عشرة كلمة. وفي حديث عبد الله زيد المتقدم: ثم تقول إذا أقمت: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ثالثا: هذه الكيفية كسابقتها ما عدا (كلمة قد قامت الصلاة) فيها لا تثنى، بل تقال مرة واحدة، فيكون عددها عشر كلمات وبهذه الكيفية أخذ مالك لانها عمل أهل المدينة، إلا أن ابن القيم قال: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراد كلمة قد قامت الصلاة البتة، وقال ابن عبد البر: هي مثناه على كل حال. (7) الذكر عند الاذان: يستحب لمن يسمع المؤذن أن يلتزم الذكر الاتي: 1 - يقول مثل ما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين، فإنه يقول عقب كل كلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول الموذن) رواه الجماعة. وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر) ، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال: أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، من قبله، دخل الجنة) رواه مسلم وأبو داود. قال النووي: قال أصحابنا: وإنما استحب للمتابع أن يقول مثل المؤذن في غير الحيعلتين فيدل على رضاه به وموافقته على ذلك أما الحيعلة فدعاء إلى الصلاة، وهذا لا يليق بغير المؤذن، فاستحب للمتابع ذكر آخر، فكان لا حول ولا قو إلا بالله، لانه تفويض محض إلى الله تعالى. وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الاشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله، كنز من كنوز الجنة.) قال أصحابنا: ويستحب متابعته لكل سامع، من طاهر ومحدث، وجنب وحائض، وكبير وصغير، لانه ذكر، وكل هؤلاء من أهل الذكر. ويستثنى من هذا المصلي، ومن هو على الخلاء، والجماع، فإذا فرغ من الخلاء تابعه فإذا سمعه وهو في قراءة أو ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أو درس أو نحو ذلك، قطعه وتابع المؤذن ثم عاد إلى ما كان عليه إن شاء، وإن كان في صلاة فرض أو نفل، قال الشافعي والاصحاب: لا يتابعه، فإذا فرغ منها قاله، وفي المغني: دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره، ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس، نص عليه أحمد. 2 - أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الاذان بإحدى الصيغ الواردة، ثم يسأل الله له الوسيلة، لما رواه عبد الله بن عمرو: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي) رواه مسلم. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري. (8) الدعاء بعد الاذان: الوقت بين الاذان والاقامة، وقت يرجى قبول الدعاء فيه فيستحب الاكثار فيه من الدعاء. فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرد الدعاء بين الاذان والاقامة) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وزاد (قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟ قال: (سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والاخرة) ، وعن عبد الله بن عمرو: أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه) رواه أحمد وأبو داود. وعن سهل بن سعد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثنتان لا تردان - أو قال ما تردان - الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلحم بعضهم بعضا) رواه أبو داود بإسناد صحيح. وعن أم سلمة قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أذان المغرب: (اللهم إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك فاغفر لي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 (9) الذكر عند الاقامة: يستحب لمن يسمع الاقامة أن يقول مثل ما يقول المقيم. إلا عند قوله: قد قامت الصلاة، فإنه يستحب أن يقول: أقامها الله وأدامها، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن بلالا أخذ في الاقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقامها الله وأدامها) إلا الحيعلتين، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. (10) ما ينبغي أن يكون عليه المؤذن: يستحب للمؤذن أن يتصف بالصفات الاتية: 1 - أن يبتغي بأذانه وجه الله فلا يأخذ عليه أجرا. فعن عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله: اجعلني إمام قومي (1) قال (أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم (2) واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، لكن لفظه: إن آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أن اتخذ مؤذنا لا يتخذ على أذانه أجرا) قال الترمذي عقب روايته له - حديث حسن، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، كرهوا أن يأخذ على الاذان أجرا، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه. 2 - أن يكون طاهرا من الحدث الاصغر والاكبر، لحديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إنه لم يمنعني أن أرد عليه (3) إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة) ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة. فإن أذن على غير طهر جاز مع الكراهة، عند الشافعية، ومذهب أحمد والحنفية وغيرهم عدم الكراهة. 3 - أن يكون قائما مستقبل القبلة. قال ابن المنذر: الاجماع على أن القيام في الاذان من السنة، لانه أبلغ في الاسماع، وأن من السنة أن يستقبل القبلة بالاذان. وذلك أن مؤذني رسول   (1) فيه جواز سؤال الامامة في الخبر. (2) (واقتد بأضعفهم) : أي اجعل صلاتك بهم خفيفة كصلاة أضعفهم. (3) (أن أرد عليه) : أي أرد عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة، فإن أخل باستقبال القبلة كره له ذلك وصح. 4 - أن يلتفت برأسه وعنقه وصدره يمينا، عند قوله: حي على الصلاة، حي الصلاة، ويسارا عند قوله: حي على الفلاح، حي على الفلاح. قال النووي في هذه الكيفية: هي أصح الكيفيات. قال أبو جحيفة: وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يمينا وشمالا، حي على الصلاة، حي على الفلاح. رواه أحمد والشيخان. أما استدارة المؤذن فقد قال البيهقي: إنها لم ترد من طرق صحيحة، وفي المغني عن أحمد: لا يدور إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين. 5 - أن يدخل أصبعيه في أذنيه، قال بلال: فجعلت أصبعي في أذني فأذنت. رواه أبو داود وابن حبان، وقال الترمذي: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن اصبعيه في أذنيه في الاذان. 6 - أن يرفع صوته بالنداء، وإن كان منفردا في صحراء. فعن عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة. قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه. 7 - أن يترسل في الاذان: أي يتمهل ويفصل بين كل كلمتين بسكتة، ويحذر الاقامة: أي يسرع فيها. وقد روي ما يدل على استحباب ذلك من عدة طرق. 8 - أن لا يتكلم أثناء الاقامة: أما الكلام أثناء الاذان فقد كرهه طائفة من أهل العلم، ورخص فيه الحسن وعطاء وقتادة. وقال أبو داود: قلت لاحمد: الرجل يتكلم في أذانه؟ فقال: نعم. فقيل: يتكلم في الاقامة؟ قال: لا. وذلك لانه يستحب فيها الاسراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 (11) الاذان في أول الوقت وقبله: الاذان يكون في أول الوقت، من غير تقديم عليه ولا تأخير عنه، إلا أذان الفجر فإنه يشرع تقديمه على أول الوقت. إذ أمكن التمييز بين الاذان الاول والثاني، حتى لا يقع الاشتباه. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) (1) متفق عليه. والحكمة في جواز تقديم أذان الفجر على الوقت ما بينه الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن، أو قال: ينادي، ليرجع قائمكم وينبه نائمكم) ولم يكن بلال يؤذن بغير ألفاظ الاذان. وروى الطحاوي والنسائي: أنه لم يكن بين أذانه وأذان ابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل هذا. كما يجوز أذان الصبي المميز. (12) الفصل بين الاذان والاقامة: يطلب الفصل بين الاذان والاقامة بوقت يسع التأهب للصلاة وحضورها لان الاذان إنما شرع لهذا. وإلا ضاعت الفائدة منه. والاحاديث الواردة في هذا المعنى كلها ضعيفة. وقد ترجم البخاري: باب (كم بين الاذان والاقامة، ولكن لم يثبت التقدير. قال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن ثم يمهل فلا يقيم، حتى إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج، أقام الصلاة حين يراه. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. (13) من اذن فهو يقيم: يجوز أن يقيم المؤذن وغيره باتفاق العلماء، ولكن الاولى أن يتولى المؤذن الاقامة. قال الشافعي: وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الاقامة. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، أن من أذن فهو يقيم.   (1) (ابن أم مكتوم) كان أعمى، ويؤخذ منه جواز أذانه إذا استطاع معرفة الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 (14) متى يقام إلى الصلاة: قال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة حدا محدودا، إني أرى ذلك على طافة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف. وروى ابن المنذر عن أنس، أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. (15) الخروج من المسجد بعد الاذان: ورد النهي عن ترك إجابة المؤذن، وعن الخروج من المسجد بعد الاذان إلا بعذر، أو مع العزم على الرجوع، فعن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي) رواه أحمد وإسناده صحيح. وعن أبي الشعثاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رجل من المسجد بعدما أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم وأصحاب السنن، وعن معاذ الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق، من سمع منادي الله ينادي يدعو إلى الفلاح ولا يجيبه) رواه أحمد والطبراني. قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له) . وقال بعض أهل هذا على التغليظ والتشديد ولا رخصة لاحد في ترك الجماعة إلا من عذر. (16) الاذان والاقامة للفائتة: من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يشرع له أن يؤذن لها ويقيم حينما يريد صلاتها، ففي رواية أبي داود في القصة التي نام فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، أنه أمر بلالا فأذن وأقام وصلى، فإن تعددت الفوائت استحب له أن يؤذن (1) ويقيم للاولى ويقيم لكل صلاة إقامة، قال الاثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يقضي صلاة: كيف يصنع في الاذان؟ فذكر حديث هشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه: أن المشركين شغلوا النبي عن أربع صلوات   (1) (أن يؤذن) أي أذانا لا يشوش على الناس ولا يلبس عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله. قال: فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى الظهر، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء. (17) أذان النساء واقامتهن: قال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس على النساء أذان ولا إقامة. رواه البيهقي بسند صحيح وإلى هذا ذهب أنس، والحسن، وابن سيرين، والنخعي والثوري، ومالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي وإسحاق: إن أذن وأقمن فلا بأس. وروي عن أحمد: إن فعلن فلا بأس، وإن لم يفعلن فجائز. وعن عائشة: (أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء، وتقف وسطهن) رواه البيهقي. (18) دخول المسجد بعد الصلاة فيه: قال صاحب المغني: ومن دخل مسجدا قد صلي فيه، فإن شاء أذن وأقام، نص عليه أحمد لما روى الاثرم وسعيد بن منصور عن أنس: أنه دخل مسجدا قد صلوا فيه فأمر رجلا فأذن بهم وأقام. فصلى بهم في جماعة. وإن شاء صلى من غير أذان ولا إقامة، فإن عروة قال: إذا انتهيت إلى مسجد قد صلى فيه ناس أذنوا وأقاموا، فإن أذانهم وإقامهتم تجزئ عمن جاء بعدهم، وهذا قول الحسن والشعبي والنخعي، إلا أن الحسن قال: كان أحب إليهم أن يقيم، وإذا أذن فالمستحب أن يخفي ذلك ولا يجهر به، لئلا يغر الناس بالاذان في غير محله. (19) الفصل بين الاقامة والصلاة: يجوز الفصل بين الاقامة والصلاة بالكلام غيره. ولا تعاد الاقامة وإن طال الفصل. فعن أنس بن مالك قال: أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم. رواه البخاري. وتذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما أنه جنب بعد إقامة الصلاة، فرجع إلى بيته فاغتسل ثم عاد وصلى بأصحابه بدون إقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 (20) أذان غير المؤذن الراتب: لا يجوز أن يؤذن غير المؤذن الراتب إلا بإذنه، أو أن يتخلف فيؤذن غيره مخافة فوات وقت التأذين. (21) ما أضيف إلى الاذان وليس منه: الاذان عبادة، ومدار الامر في العبادات على الاتباع. فلا يجوز لنا أن نزيد شيئا في ديننا أو ننقص منه. وفي الحديث الصحيح: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) : أي باطل. ونحن نشير هنا إلى أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير، حتى خيل للبعض أنها من الدين، وهي ليست منه في شئ، من ذلك: 1 - قول المؤذن حين الاذان أو الاقامة: أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله. رأى الحافظ ابن حجر أنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة، ويجوز أن يزاد في غيرها. 2 - قال الشيخ اسماعيل العجلوني في كشف الخفاء مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلهما عند سماع قول المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله، مع قوله: أشهد أن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. رواه الديلمي عن أبي بكر، أنه لما سمع قول المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله، قاله وقبل باطن أنملتي السبابتين ومسح عينيه فقال صلى الله عليه وسلم: من فعل فعل خليلي فقد حلت له شفاعتي. قال في المقاصد: لا يصح وكذا لا يصح ما رواه أبو العباس بن أبي بكز الرداد اليماني المتصوف في كتابه (موجبات الرحمة وعزائم المغفرة) بسند فيه مجاهيل مع انقطاعه، عن الخضر عليه السلام أنه قال: من قال حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، مرحبا بحبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقبل إبهاميه ويجعلهما على عينيه لم يعم، ولم يرمد أبدا، ونقل غير ذلك. ثم قال: ولم يصح في المرفوع من كل ذلك. 3 - التغني في الاذان واللحن فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مكروه، فإن أدى إلى تغيير معنى أو إبهام محذور فهو محرم. وعن يحيى البكاء: قال رأيت ابن عمر يقول لرجل إني لابغضك في الله، ثم قال لاصحابه: إنه يتغنى في أذانه، ويأخذ عليه أجرا. 4 - التسبيح قبل الفجر: قال في الاقناع وشرحه، من كتب الحنابلة: وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن، فليس بمسنون، وما من أحد من العلماء قال إنه يستحب، بل هو من جملة البدع المكروهة لانه لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أصحابه. وليس له أصل فيما كان على عهدهم يرد إليه، فليس لاحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه، ولا يعلق استحقاق الرزق به لانه إعانة على بدعة ولا يلزم فعله، ولو شرطه الواقف لمخالفته السنة. وفي كتاب تلبيس إبليس لعبد الرحمن بن الجوزي: وقد رأيت من يقوم بليل كثير (1) على المنارة فيعظ ويذكر ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع، فيمنع الناس من نومهم ويخلط على المتهجدين قراءتهم، وكل ذلك من المنكرات، وقال الحافظ في الفتح: ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ليس من الاذان لا لغة ولا شرعا. 15 - الجهر بالصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الاذن غير مشروع، بل هو محدث مكروه، قال ابن حجر في الفتاوى الكبرى: قد استفتى مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد الاذن على الكيفية التي يفعلها المؤذنون، فأفتوا بأن الاصل سنة، والكيفية بدعة، وسئل الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الاذان؟ فأجاب: (أما الاذان فقد جاء في (الخانية) أنه ليس لغير المكتوبات، وأنه خمس عشرة كلمة وآخره عندنا، لا إله إلا الله، وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة، ابتدعت للتلحين لا لشئ آخر ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين، ولا عبرة بقول من قال: إن شيئا من ذلك بدعة حسنة، لان كل بدعة في   (1) بليل كثير: أي بجزء كبير من الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 العبادات على هذا النحو فهي سيئة، ومن ادعى أن ذلك ليس فيه تلحين فهو كاذب. شروط الصلاة : (1) الشروط التي تتقدم الصلاة ويجب على المصلي أن يأتي بها بحيث لو ترك شيئا منها تكون صلاته باطلة هي: (1) العلم بدخول الوقت، ويكفي غلبة الظن، فمن تيقن أو غلب على ظنه دخول الوقت أبيحت له الصلاة، سواء كان ذلك باختيار الثقة، أو أذان المؤذن المؤتمن، أو الاجتهاد الشخصي أو أي سبب من الاسباب التي يحصل بها العلم. (2) الطهارة من الحدث الاصغر والاكبر لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا) ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول) (2) رواه الجماعة إلا البخاري. (3) طهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلى فيه من النجاسة الحسية، متى قدر على ذلك، فإن عجز عن إزالتها صلى معها، ولا إعادة عليه. أما طهارة البدن فلحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني وحسنه. وعن علي رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته، فسأل فقال: (توضأ واغسل ذكرك) رواه البخاري وغيره. وروى أيضا عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة:   (1) الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كالوضوء للصلاة، فإنه يلزم من عدمه عدم الصلاة ولا يلزم من وجوده وجودها ولا عدمها. (2) (الغلول) : السرقة من الغنيمة قبل قسمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 (اغسلي الدم عنك وصلي) . وأما طهارة الثوب، فلقوله تعالى: (وثيابك فطهر (1)) وعن جابر بن سمرة قال: سمعت رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قال: (نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله) رواه أحمد وابن ماجه بسند رجاله ثقات، وعن معاوية قال: (قلت لام حبيبة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم إذا لم يكن فيه أذى) رواه أحمد وأصحاب السنن، إلا الترمذي. وعن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: (لم خلعتم) ؟ قالوا رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالارض ثم ليصل فيهما) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان وابن خزيمة وصححه. وفي الحديث دليل على أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة غير عالم بها أو ناسيا لها، ثم علم بها أثناء الصلاة، فإنه يجب عليه إزالتها ثم يستمر في صلاته ويبني على ما صلى، ولا إعادة عليه. وأما طهارة المكان الذي يصلي فيه فلحديث أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به. فقال صلى الله عليه وسلم: (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا (1) من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الجماعة إلا مسلما. قال الشوكاني - بعد أن ناقض أدلة القائلين باشتراط طهارة الثوب - إذا تقرر ما سقناه لك من الادلة، وما فيها، فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب. فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب، وإما أن صلاته باطلة - كما هو شأن فقدان شرط الصحة - فلا. وفي الروضة الندية: وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة: البدن، والثوب، والمكان للصلاة، وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة، وذهب آخرون إلى أنه سنة. والحق الوجوب، فمن صلى ملابسا لنجاسة عامدا فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة.   (1) سورة المدثر آية: 4. (2) السجل: هو الدلو إذا كان فيه ماء. والذنوب: الدلو العظيمة الممتلئة ماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 (4) سترة العورة: لقول الله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) (1) والمراد بالزينة ما يستر العورة، والمسجد: الصلاة، أي استروا عورتكم عند كل صلاة. وعن سلمة بن الاكوع رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله. أفأصلي في القميص؟ قال: (نعم زرره ولو بشوكة) رواه البخاري في تاريخ وغيره. حد العورة من الرجل: العورة التي يجب على الرجل سترها عند الصلاة، القبل والدبر، أما ما عداهما من الفخذ والسرة والركبة فقد اختلفت فيها الانظار تبعا لتعارض الاثار فمن قائل بأنها ليست عورة ومن ذاهب إلى أنها عورة. حجة من يرى أنها ليست عورة: استدل القائلون بأن السرة والفخذ والركبة ليست بعورة بهذه الاحاديث: 1 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا كاشفا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو على حاله ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه. فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما. وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك؟ فقال: (يا عائشة ألا أستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه) رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. 2 - وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوخ خيبر حسر الازار عن فخذه، حتى إني لانظر إلى بياض فخذه) رواه أحمد والبخاري. قال ابن حزم: فصح أن الفخذ ليست عورة، ولو كانت عورة لما كشفها الله عز وجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المطهر المعصوم من الناس، في حال النبوة والرسالة ولا أراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى قد عصمه من كشف العورة، في حال الصبا وقبل النبوة، ففي الصحيحين عن جابر، أن   (1) سورة الاعراف آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة؟ قال فحله وجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك اليوم عريانا. 3 - وعن مسلم عن أبي العالية البراء قال: إن عبد الله ابن الصامت ضرب فخذي وقال: إني سألت أبا ذر فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال: إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فضرب فخذي كما ضربت فخذك وقال: (صل الصلاة لوقتها) إلى آخر الحديث. قال ابن حزم: فلو كانت الفخذ عورة لما مسها رسول الله، من أبي ذر أصلا بيده المقدسة؟ ولو كانت الفخذ عورة عند أبي ذر، لما ضرب عليها بيده، وكذلك عبد الله بن الصامت وأبو العالية. وما يستحل لمسلم أن يضرب بيده على قبل إنسان، على الثياب ولا على حلقة دبر إنسان على الثياب، ولا على بدن امرأة أجنبية على الثياب، البتة. 4 - ثم ذكر ابن حزم بإسناده إلى حبير بن الحويرث، أنه نظر إلى فخذ أبي بكر وقد انكشفت، وأن أنس بن مالك أتى قس بن شماس، وقد حسر عن فخذيه. حجة من يرى أنها عورة: واستدل القائلون بأنها عورة بهذين الحديثين: 1 - عن محمد بن جحش قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر، وفخذاه مكشوفتان فقال (يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة) رواه أحمد والحاكم والبخاري في تاريخه، وعلقه في صحيحه. 2 - وعن جرهد قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي فقال: (غط فخذيك فإن الفخذ عورة) رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن: وذكره البخاري في صحيحه معلقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 هذا هو ما استدل به كل من الفريقين، وللناظر في هذا أن يختار أي الرأيين، وإن كان الاحوط في الدين أن يستر المصلي ما بين سرته وركبته ما أمكن ذلك. قال البخاري: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط: أي حديث أنس المتقدم أصح إسنادا. حد العورة من المرأة: بدن المرأة كله عورة يجب عليها ستره، ما عدا الوجه والكفين قال الله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) ، أي ولا يظهرن مواضع الزينة، إلا الوجه والكفين، كما جاء ذلك صحيحا عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة حائض (1) إلا بخمار) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن خزيمة والحاكم وقال الترمذي: حديث حسن. وعن أم سلمة: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع (2) وخمار بغير إزار؟ قال: (إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها) رواه أبو داود وصحح الائمة وقفه (3) . وعن عائشة أنها سئلت. (في كم تصلي المرأة من الثياب، فقالت للسائل: سل علي بن أبي طالب ثم ارجع إلي فأخبرني، فأتى عليا فسأله فقال: في الخمار والدرع السابغ. فرجع إلى عائشة فأخبرها فقالت: صدق) . ما يجب من الثياب وما يستحب منها: الواجب من الثياب ما يستر العورة، وإن كان الساتر ضيقا يحدد العورة، فإن كان خفيفا يبين لون الجلد من ورائه فيعلم بياضه أو حمرته لم تجز الصلاة فيه، ويجوز الصلاة في الثوب الواحد، كما تقدم في حديث سلمة بن الاكوع، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ثوب واحد فقال: (أو لكلكم ثوبان؟) رواه مسلم ومالك وغيرهما.   (1) (الحائض) : أي البالغة، والخمار غطاء الرأس. (2) الدرع القميص. (3) صحح الائمة وقفه لانه ليس من كلام أم سلمة ومثل هذا له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ويستحب أن يصلي في ثوبين أو أكثر، وأن يتجمل ويتزين ما أمكن ذلك. فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم (1) فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له، فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود) رواه الطبراني والبيهقي. وروى عبد الرازق: (أن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود اختلفا فقال أبي: الصلاة في الثوب الواحد غير مكروهة وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك وفي الثياب قلة. فقام عمر على المنبر فقال: القول ما قال أبي ولم يأل (2) ابن مسعود، إذا وسع الله فأوسعوا: جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص. في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تبان وقباء، في تبان وقميص قال وأحسبه قال: في تبان ورداء، وهو في البخاري بدون ذكر السبب. وعن بريدة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في لحاف (3) واحد لا يتوشح به، ونهى أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء. رواه أبو داود والبيهقي. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، وهو يقول: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) . كشف الرأس في الصلاة: روى ابن عساكر عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترة بين يديه. وعند الحنفية أنه لا بأس بصلاة الرجل حاسر الرأس، واستحبوا ذلك إذا كان للخشوع. ولم يرد دليل بأفضلية تغطية الرأس في الصلاة. (5) استقبال القبلة: اتفق العلماء على أنه يجب على المصلي أن يستقبل المسجد الحرام عند الصلاة. لقول الله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد   (1) (إذا صلى أحدكم) أي أراد أن يصلي. (2) (يأل) : أي يقصر. (والقباء) : القفطان. (والتبان) سراويل من جلد ليس له رجلان، وهو لبس المصارعين. (3) (في لحاف) أي في ثوب يلتحف به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (1) وعن البراء قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم صرفنا نحو الكعبة) رواه مسلم. حكم المشاهد للكعبة، وغير المشاهد لها: المشاهد للكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، والذي لا يستطيع مشاهدتها يجب عليه أن يستقبل جهتها، لان هذا هو المقدور عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح، وقرأه البخاري، هذا بالنسبة لاهل المدينة، ومن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق. وأما أهل مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب، وأما اليمن فالمشرق يكون عن يمين المصلي والمغرب عن يساره، والهند يكون المشرق خلف المصلي والمغرب أمامه. وهكذا. بم تعرف القبلة؟ كل بلد له أدلة تختص به يعرف بها القبلة. ومن ذلك المحاريب التي نصبها المسلمون في المساجد، وكذلك بيت الابرة (البوصلة) . حكم من خفيت عليه: من خفيت عليه أدلة القبلة، لغيم أو ظلمة مثلا وجب عليه أن يسأل من يدله عليها، فإن لم يجد من يسأله اجتهد وصلى إلى الجهة التي إليها اجتهاده، وصلاته صحيحة ولا اعادة عليه، حتى ولو تبين له خطؤة بعد الفراغ من الصلاة، فإن تبين له الخطأ أثناء الصلاة استدار إلى القبلة ولا يقطع صلاته. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الله قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، متفق عليه. ثم إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة لزمه إعادة الاجتهاد إذا أراد   (1) سورة البقرة آية 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 صلاة أخرى، فإن تغير اجتهاده عمل بالثاني، ولا يعيد ما صلاة بالاول. متى يسقط الاستقبال: استقبال القبلة فريضة، لا يسقط إلا في الاحوال الاتية: (1) صلاة النفل للراكب: يجوز للراكب أن يتنفل على راحلته، يومي بالركوع والسجود، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وقبلته حيث اتجهت دابته. فعن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به. رواه البخاري ومسلم، وزاد البخاري: يومئ، والترمذي: ولم يكن يصنعه في المكتوبة (1) . وعند أحمد ومسلم والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به، وفيه نزلت: (فأينما تولوا فثم وجه الله) . وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يصلون في رحالهم ودوابهم حيثما توجهت، وقال ابن حزم: وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين، عموما في الحضر والسفر. (2) صلاة المكره والمريض والخائف: الخائف والمكره والمريض يجوز لهم الصلاة لغير القبلة إذا عجزوا عن استقبالها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) . وفي قول الله تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) قال ابن عمر رضي الله عنهما: مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، رواه البخاري. كيفية الصلاة : جاء الاحاديث عن سول الله صلى الله عليه وسلم مبينة كيفية الصلاة وصفتها. ونحن نكتفي هنا بإيراد حديثين: الاول من فعله صلى الله عليه وسلم، والثاني من قوله:   (1) (المكتوبة) : الفريضة. والايماء الاشارة بالرأس إلى السجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 1 - عن عبد الله بن غنم: أن أبا مالك الاشعري جمع قومه فقال: يا معشر الاشعريين اجتمعوا واجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي لنا بالمدينة فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، فتوضأ وأراهم كيف يتوضأ. فأحصى الوضوء إلى (1) أماكنه حتى أفاء الفئ وانكسر الظل قام فأذن. فصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم. وصف النساء خلف الولدان، ثم أقام الصلاة، فتقدم فرفع يديه فكبر، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة يسرها. ثم كبر فركع فقال: سبحان الله وبحمده ثلاث مرات، ثم قال: سمع الله لمن حمده واستوى قائما، ثم كبر وخر ساجدا، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائما. فكان تكبيرة في أول ركعة ست تكبيرات. وكبر حين قام إلى الركعة الثانية. فلما قضى صلاته، أقبل إلى قومه بوجهه فقال: احفظوا تكبيري وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يصلي لنا كذا الساعة من النهار، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته أقبل إلى الناس بوجهه فقال (يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن الله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الانبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله، فجاء رجل من الاعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله. ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الانبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله؟ انعتهم لنا (2) فسر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال الاعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهم ناس من أفياء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورا، وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح الاسناد. 2 - عن أبي هريرة قال: دخل رجل المسجد فصلى، ثم جاء إلى النبي   (1) (فأحصى الوضوء إلى أماكنه) : أي غسل جميع الاعضاء. (2) (انعتهم لنا) : أي صفهم لنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 صلى الله عليه وسلم يسلم. فرد عليه السلام وقال: (إرجع فصل فإنك لم تصل) فرجع، ففعل ذلك ثلاث مرات. قال فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، قال: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) رواه أحمد والبخاري ومسلم. وهذا الحديث يسمى (حديث المسئ في صلاته) . هذا جملة ما ورد في صفة الصلاة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله، ونحن نفعل ذلك مع التمييز بين الفرائض والسنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فرائض الصلاة : للصلاة فرائض وأركان تتركب منها حقيقتها، حتى إذا تخلف فرض منها لا تتحقق ولا يعتد بها شرعا. وهذا بيانها: (1) النية (1) : لقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (2) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله (3) . ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (4) رواه البخاري. وقد تقدمت حقيقتها في الوضوء. التلفظ بها: قال ابن القيم في كتابه (إعانة اللهفان) : (النية هي القصد والعزم على الشئ، ومحلها القلب لا تعلق بها باللسان أصلا، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة في النية لفظ بحال، وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة، قد جعلها الشيطان معتركا لاهل الوسواس (5) يحبسهم عندها ويعذبهم فيها، ويوقعهم في طلب تصحيحها. فترى أحدهم يكررها، ويجهد نفسه في التفظ، وليست من الصلاة في شئ.) (2) تكبيرة الاحرام: لحديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) رواه الشافعي وأحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: هذا أصح شئ في هذا الباب وأحسن، وصححه الحاكم وابن السكن، ولما ثبت من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، كما ورد   (1) ويرى البعض أنها شرط ولا ركن. (2) سورة البينة آية: 5. (3) فهجرته إلى الله ورسوله: أي هجرته رايحة. (4) فهجرته إلى ما هاجر إليه: أي هجرته خسيسة حقيرة. (5) (الوسواس) : الوسوسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 في الحديثين المتقدمين. ويتعين لفظ (الله أكبر) لحديث أبي حميد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه ثم قال: (الله أكبر) ، رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. ومثله ما أخرجه البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: (الله أكبر) . وفي حديث (المسئ في صلاته) عند الطبراني ثم يقول (الله أكبر) . (3) القيام في الفرض: وهو واجب بالكتاب والسنة والاجماع لمن قدر عليه قال الله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين) (1) . وعن عمر بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعل جنب) رواه البخاري. وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء، كما اتفقوا على استحباب تفريق القدمين أثناءه. والمراد بالقيام القيام للصلاة. القيام في النفل: أما النفل، فإنه يجوز أن يصلي من قعود مع القدرة على القيام، إلا أن ثواب القائم أتم من ثواب القاعد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة) رواه البخاري ومسلم. العجز عن القيام في الفرض: ومن عجز عن القيام في الفرض صل على حسب قدرته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وله أج ره كاملا غير منقوص. فعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم) رواه البخاري.   (1) (قانتين) : أي خاشعين منذلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (4) قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الفروض والنفل: قد صحت الاحاديث في افتراض قراءة الفاتحة في كل ركعة، وما دامت الاحاديث في ذلك صحيحة صريحة فلا مجال للخلاف ولا موضع له ونحن نذكرها فيما يلي: 1 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، رواه الجماعة. 2 - وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن - وفي رواية: بفاتحة الكتاب - فهي خداج (1) هي خداج غير تمام) رواه أحمد والشيخان. 3 - وعنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح، ورواه ابن حبان وأبو حاتم. 4 - وعند الدارقطني بإسناد صحيح (لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . 5 - وعن أبي سعيد (أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر) رواه أبو داود، قال الحافظ وابن سيد الناس: إسناده صحيح. 6 - وفي بعض طريق حديث المسئ في صلاته: (ثم اقرأ بأم القرآن) إلى أن قال له: (ثم افعل ذلك في كل ركعة) . 7 - ثم الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الفرض والنفل، ولم يثبت عنه خلاف ذلك، ومدار الامر في العبادة على الاتباع. فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. البسملة: اتفق العلماء على أن البسملة بعض آية في سورة النمل، واختلفوا في البسملة الواقعة في أول السور إلى ثلاثة مذاهب مشهورة.   (1) (خداج) : قال الخطابي: هي خداج: ناقصة نقص بطلان وفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الاول: أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وعلى هذا فقراءتها واجبة في الفاتحة وحكمها حكم الفاتحة في السر والجهر، وأقوى دليل لهذا المذهب حديث نعيم المجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن) الحديث وفي آخره قال: والذي نفسي بيده أني لاشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان. قال الحافظ في الفتح: وهو أصح حديث ورد في الجهر بالبسملة. الثاني: أنها آية مستقلة أنزلت للتيمن والفصل بين السور، وأن قراءتها في الفاتحة جائزة بل مستحبة، ولا يسن الجهر بها. لحديث أنس قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان، وكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) رواه النسائي وابن حبان والطحاوي بإسناد على شرط الصحيحين. الثالث: أنها ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها، وأن قراءتها مكروهة سرا وجهرا في الفرض دون النافلة، وهذا المذهب ليس بالقوي. وقد جمع ابن القيم بين المذهب الاول والثاني فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر (ببسم الله الرحمن الرحيم) تارة، ويخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا، حضرا وسفرا، ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الاعصار الفاضلة. من لم يحسن فرض القراءة.: قال الخطابي: الاصل أن الصلاة لا تجزئ، إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ومعقول أن قراءة فاتحة الكتاب على من أحسنها دون من لا يحسنها، فإذا كان المصلي لا يحسنها ويحسن غيرها من القرآن، كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات، لان أولى الذكر بعد الفاتحة ما كان مثلها من القرآن، وإن كان ليس في وسعه أن يتعلم شيئا من القرآن، لعجز في طبعه أو سوء في حفظه، أو عجمة في لسانه. أو عاهة تعرض له، كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم، من التسبيح والتحميد والتهليل. وقد روي عنه صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وسلم. أنه قال: (أفضل الذكر بعد كلام الله، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) انتهى. ويؤيد ما ذكره الخطابي من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلا الصلاة فقال: (إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمده وكبره وهلله ثم اركع) . رواه أبو داود والترمذي وحسنه. والنسائي والبيهقي. (5) الركوع: وهو مجمع على فرضيته، لقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (1) ... ) . بم يتحقق: يتحقق الركوع بمجرد الانحناء، بحيث تصل اليدان إلى الركبتين، ولا بد من الطمأنينة فيه، لما تقدم في حديث المسئ في صلاته (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) وعن أبي قتادة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته. فقالوا: يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) أو قال: (لا يقيم صلبه في الركوع والسجود) رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح الاسناد. وعن أبي مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود) رواه الخمسة وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والبيهقي، وقال: إسناده صحيح. وقال الترمذي: حسن صحيح. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه (2) في الركوع والسجود. وعن حذيفة: أنه رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود فقال له: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة (3) التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري.   (1) سورة الحج آية 77. (2) الصلب: الظهر. والمراد أن يستوي قائما. (3) (الفطرة) : الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (6) الرفع من الركوع والاعتدال قائما مع الطمأنينة: لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذا رفع رأسه استوى قائما حتى يعود كل فقار (1) إلى مكانه) . رواه البخاري ومسلم. وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثم ارفع حتى تعتدل قائما) متفق عليه. وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده) رواه أحمد، قال المنذري: إسناده جيد. (7) السجود: وقد تقدم ما يدل على وجوبه من الكتاب وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله للمسئ في صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا) . فالسجدة الاولى والرفع منها. ثم السجدة الثانية مع الطمأنينة في ذلك كله فرض في كل ركعة من ركعات الفرض والنفل. حد الطمأنينة: الطمأنينة المكث زمنا ما بعد استقرار الاعضاء، قدر أدناها العلماء بمقدار تسبيحة. أعضاء السجود: أعضاء السجود: الوجه، والكفان، والركبتان، والقدمان. فعن العباس ابن عبد المطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب (2) : وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه) رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن عباس قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرا ولا ثوبا: الجبهة، واليدين والركبتين   (1) (الفقار) . جمع فقارة، وهي عظام الظهر. (2) (سبعة آراب) أي أعضاء، جمع إرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والرجلين. وفي لفظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) متفق عليه. وفي رواية: (أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر (1) ولا الثياب، الجبهة، والانف، واليدين، والركبتين، والقدمين) رواه مسلم والنسائي. وعن أبي حميد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الارض، رواه أبو داود والترمذي وصححه، وقال: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن يسجد الرجل على جبهته وأنفه. فإن سجد على جبهته دون أنفه، فقال قوم من أهل العلم: يجزئه، وقال غيرهم: لا يجزئه حتى يسجد على الجبهة والانف. (8) القعود الاخير وقراءة التشهد فيه: الثابت المعروف من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقعد القعود الاخير يقرأ فيه التشهد، وأنه قال للمسئ في صلاته: (فإذا رفعت رأسك من آخر سجدة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك) . قال ابن قدامة: وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله) ، وهذا يدل على أنه فرض بعد أن لم يكن مفروضا. أصح ما ورد في التشهد: أصح ما ورد في التشهد تشهد ابن مسعود، قال: (كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن إذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والارض. أو بين السماء والارض. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن   (1) (الكفت والكف) . الضم، والمراد أن لا يجمع ثيابه ولا شعره ولا يضمهما في حال الصلاة عند السجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 محمدا عبده ورسوله، ثم ليختر أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به) رواه الجماعة. قال مسلم: أجمع الناس على تشهد ابن مسعود، لان أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا، وغيره قد اختلف أصحابه. وقال الترمذي والخطابي وابن عبد البر وابن المنذر: تشهد ابن مسعود أصح حديث في التشهد، ويلي تشهد ابن مسعود في الصحة تشهد ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن، وكان يقول (التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) رواه الشافعي ومسلم وأبو داود والنسائي. قال الشافعي: ورويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان هذا أحب إلي، لانه أكملها. قال الحافظ: سئل الشافعي عن اختياره وتشهد ابن عباس فقال: لما رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا، وكان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره أخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. وهناك تشهد آخر اختاره مالك، ورواه في الموطأ عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول: قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات والصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال النووي: (هذه الاحاديث في التشهد كلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود ثم ابن عباس. قال الشافعي: وبأيها تشهد أجزأه، وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها. (9) السلام: ثبتت فرضية السلام من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله. فعن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) . رواه أحمد والشافعي وأبو داود وابن ماجه والترمذي. وقال: هذا أصح شئ في الباب وأحسن. وعن عامر بن سعد عن أبيه قال: (كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 يساره حتى يرى بياض خده) - ورواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وعن وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) . وعن شماله: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. رواه أبو داود بإسناد صحيح. وجوب التسليمة الواحدة واستحباب التسليمة الثانية: يرى جمهور العلماء أن التسليمة الاولى هي الفرض، وأن الثانية مستحبة. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمه واحدة جائزة. وقال ابن قدامة في المغني: (وليس نص أحمد بصريح في وجوب التسليمتين، إنما قال: (التسليمتين أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يذهب إليه في المشروعية لا الايجاب، كما ذهب إلى ذلك غيره، وقد دل عليه قوله في رواية: وأحب إلي التسليمتان، ولان عائشة وسلمة بن الاكوع وسهل بن سعد قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة، وكان المهاجرون يسلمون تسليمة واحدة) وفيما ذكرناه جمع بين الاخبار وأقوال الصحابة في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين، والواجب واحدة، وقد دل على صحة هذا الاجماع الذي ذكره ابن المنذر، فلا معدل عنه. وقال النووي: مذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أن يسن تسليمتان. وقال مالك وطائفة: إنما يسن تسليمة واحدة، تعلقوا بأحاديث ضعيفة لا تقاوم هذه الاحاديث الصحيحة، ولو ثبت شئ منها حمل على أنه فعل ذلك لبيان جواز الاقتصار على تسليمة واحدة. وأجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن سلم واحدة استحب له أن يسلمها تلقاء وجهه، وإن سلم تسليمتين جعل الاولى عن يمينه والثانية عن يساره. ويلتفت في كل تسليمة، حتى يرى من عن جانبه خده. هذا هو الصحيح إلى أن قال: (ولو سلم التسليمتين عن يمينه أو عن يساره أو تلقاء وجهه، أو الاولى عن يساره والثانية عن يمينه، صحت صلاته، وحصلت تسليمتان، ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 سنن الصلاة : للصلاة سنن، يستحب للمصلي أن يحافظ عليها لينال ثوابها. نذكرها فيما يلي: (1) رفع اليدين: يستحب أن يرفع يديه في أربع حالات: الاولى، عند تكبيرة الاحرام. قال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم في أنه صلى الله عليه وسلم، كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة. وقال الحافظ ابن حجر: إنه روى رفع اليدين في أول الصلاة خمسون صحابيا، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة. وروى البيهقي عن الحاكم قال: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الاربعة، ثم العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أصحابه، مع تفرقهم في البلاد التاسعة، غير هذه السنة. قال البيهقي: هو كما قال أستاذنا أبو عبد الله. صفة الرفع: ورد في صفة رفع اليدين روايات متعددة. والمختار الذي عليه الجماهير، أنه يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذكيه، وراحتاه منكبيه. قال النووي: وبهذا جمع الشافعي بين روايات الاحاديث فاستحسن الناس ذلك منه. ويستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع. فعن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا. رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وقت الرفع: ينبغي أن يكون رفع اليدين مقارنا لتكبيرة الاحرام أو متقدما عليها. فعن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري والنسائي وأبو داود. وعنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين يكبر حتى يكونا حذو منكبيه أو قريبا من ذلك. الحديث رواه أحمد وغيره. وأما تقدم رفع اليدين على كبيرة الاحرام فقد جاء عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر، رواه البخاري ومسلم. وقد جاء في حديث مالك بن الحويرث بلفظ: (كبر ثم رفع يديه) رواه مسلم. وهذا يقيه تقدم التكبيرة على رفع اليدين، ولكن الحافظ قال: لم أر من قال بتقديم التكبيرة على الرفع. الثانية والثالثة: ويستحب رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. وقد روى اثنان وعشرون صحابيا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو (1) منكبيه ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. رواه البخاري ومسلم والبيهقي. وللبخاري: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. ولمسلم: ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود، وله أيضا: ولاى رفعهما بين السجدتين: وزاد البيهقي: فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى. قال ابن المدايني: هذا الحديث عندي حجة على الخلق. كل من سمعه فعليه أن يعمل به، لانه ليس في إسناده شئ، وقد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا مفردا، وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، يعني الرفع في الثلاثة المواطن، ولم يستثن الحسن أحدا. وأما ما ذهب إليه الحنفية، من أن الرفع لا يشرع إلا عند تكبيرة الاحرام استدلالا بحديث ابن مسعود أنه قال: لاصلين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة، فهو مذهب غير قوي، لان هذا قد طعن فيه كثير من أئمة الحديث. قال ابن حبان هذا أحسن.   (1) حذو منكبيه أي مساوية لمنكبيه تماما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 خبر. روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شئ يعول عليه، لان له عللا تبطله، وعلى فرض التسليم بصحته، كما صرح بذلك الترمذي، فلا يعارض الاحاديث الصحيحة التي بلغت حد الشهرة. وجوز صاحب التنقيح أن يكون ابن مسعود نسي الرفع كما نسي غيره. قال الزيلعي في نصب الراية - نقلا عن صاحب التنقيح -: ليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب: فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهما المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه، كالتطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الامام، ونسي ما لا يختلف العلماء فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الارض في السجود، ونسي كيف يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم (وما خلق الذكر والانثى) وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة، كيف لا يجوز أن ينسى مثله في رفع اليدين؟ الرابعة عند القيام إلى الركعة الثالثة: فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري وأبو داود والنسائي. وعن علي في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا قام من السجدتين رفع يديه حذو منكبيه وكبر. رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححه: والمراد بالسجدتين الركعتان. مساواة المرأة بالرجل في هذه السنة: قال الشوكاني: واعلم أن هذه السنة يشترك فيها الرجال والنساء، ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها، وكذا لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في مقدار الرفع. (2) وضع اليمين على الشمال: يندب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. وقد ورد في ذلك عشرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 حديثا، عن ثمانية عشر صحابيا وتابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن سهل ابن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حازم: لا أعلم أنه ينمى (1) ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري وأحمد ومالك في الموطأ. قال الحافظ: وهذا حكمه الرفع، لانه محمول على أن الامر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معشر الانبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) . وعن جابر قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وهو يصلي، وقد وضع يده اليسرى على اليمنى فانتزعها، ووضع اليمنى على اليسرى) رواه أحمد وغيره، قاله النووي: إسناده صحيح. وقال ابن عبد البر: لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وذكره مالك في الموطأ وقال: لم يزل مالك يقبض حتى لقي الله عزوجل. موضع وضع اليدين: قال الكمال بن الهمام. ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون الوضع تحت الصدر، وفي كونه تحت السرة، والمعهود عند الحنفية هو كونه تحت السرة وعند الشافعية تحت الصدر. وعن أحمد قولان كالمذهبين، والتحقيق المساواة بينهما. وقال الترمذي: أن أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واقع عندهم. انتهى. ولكن قد جاءت روايات تفيد أنه صلى الله عليه وسلم، كان يضع يديه على صدره، فعن هلب الطائي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع اليمنى على اليسرى على صدره فوق المفصل، رواه أحمد، وحسنه الترمذي. وعن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره) رواه ابن خزيمة وصححه ورواه أبو داود والنسائي بلفظ: ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه   (1) (ينمي) : يرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 اليسرى والرسغ (1) والساعد. أي أنه وضع يده اليمنى على ظهر اليسرى ورصغها وساعدها. (3) التوجه أو دعاء الاستفتاح: يندب للمصلي أن يأتي بأي دعاء من الادعية التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم ويستفتح بها الصلاة، بعد تكبيرة الاحرام وقبل القراءة. ونحن نذكر بعضها فيما يلي: 1 - عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة (2) قبل القراءة فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد.) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن. إلا الترمذي. 2 - وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لاحسن الاخلاق، لا يهدي لاحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك (3) ، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.) رواه أحمد ومسلم   (1) (الرسغ) : المفصل بين الساعد والكف. (2) وقتا قصيرا. (3) (لبيك) : هو من ألب بالمكان إذا أقام به، أي أجبك إجابة بعد إجابة، قال النووي قال العلماء: ومعناه أنا مقيم على طاعتك اقامة بعد إقامة (سعديك) قال الازهري وغيره: معناه مساعدة لامرك بعد مساعدة، ومتابعة لدينك بعد متابعة، (الشر ليس اليك) : أي لا يتقرب به اليك أو لا يضاف اليك تأدبا، أو لا يصعد إليك، أو أنه ليس شرا بالنسبة إليك فانما خلقته لحكمة بالغة، وانما هو شر بالنسبة للمخلوقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والترمذي وأبو داود وغيرهم. 3 - وعن عمر: أنه كان يقول بعد تكبيرة الاحرام: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك (1) ، ولا إله غيرك) رواه مسلم بسند منقطع. والدارقطني موصولا وموقوفا على عمر. قال ابن القيم: صح عن عمر أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويجهر به ويعلمه الناس، وهو بهذا الوجه في حكم المرفوع، ولذا قال الامام أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي كان حسنا. 4 - وعن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأي شئ كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك، كان إذا قام كبر عشرا (2) وحمد الله عشرا، وسبح الله عشرا، وهلل عشرا، واستغفر عشرا وقال: (اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. 5 - وعن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة، بأي شئ كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك: إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 6 - وعن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع: الله أكبر كبيرا، ثلاث مرات، والحمد لله كثيرا، ثلاث مرات، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ثلاث مرات. اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه) قلت: يا رسول الله   (1) ومعنى (تعالى جدك) علا جلالك وعظمتك. (2) كان إذا قام كبر عشرا: أي بعد تكبيرة الاحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ما همزه ونفثه ونفخه؟ قال: أما همزة فالموتة (1) التي تأخذ بني آدم، أما نفخه: الكثير، ونفثه: الشعر) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان مختصرا. 7 - وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: (اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد أنت مالك السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق ومحمد حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك. وفي أبي داود عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في التهجد يقوله بعدما يقول الله أكبر. 8 - الاستعاذة: يندب للمصلي بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة، أن يأتي بالاستعاذة، لقول الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (2) . وفي حديث نافع بن جبير المتقدم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) إلخ. وقال ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) . (4) الاسرار بها: ويسن الاتيان بها سرا. قال في المغني: ويسر الاستعاذة ولا يجهر بها، لا أعلم فيه خلافا. انتهى: لكن الشافعي يرى التخيير بين الجهر بها والاسرار في الصلاة الجهرية، وروي عن أبي هريرة الجهر بها عن طريق ضعيف.   (1) (المؤتة) : الصراع. (2) أي إذا أردت القراءة فاستعذ: كقول الله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 مشروعيتها في الركعة الاولى دون سائر الركعات: ولا تشرع الاستعاذة إلا في الركعة الاولى. فعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض في الركعة الثانية، افتتح القراءة ب الحمد لله رب العالمين، ولم يسكت. رواه مسلم. قال ابن القيم: اختلف الفقهاء، هل هذا موضع استعاذة أو لا؟ بعد اتفاقهم على أنه ليش موضع استفتاح، وفي ذلك قولان، هما رواية عن أحمد، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة، فيكفي فيها استعاذة واحدة، أو قراءة كل ركعة مستقلة برأسها؟ ولا نزاع بينهما في أن الاستفتاح لمجموع الصلاة. والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر للحديث الصحيح، وذكر حديث أبي هريرة ثم قال: وإنما يكفي استفتاح واحد، لانه لم يتخلل القراءتين سكوت بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله، أو تسبيح أو تهليل، أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك. وقال الشوكاني: الاحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الاولى فقط. (5) التأمين: يسن لكل مصل، إماما أو مأموما أو منفردا، أن يقول آمين، بعد قراءة الفاتحة، يجهر بها في الصلاة الجهرية، ويسر بها في السرية. فعن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ (ولا الضالين) فقال آمين، وقال الناس: آمين. ثم يقول أبو هريرة بعد السلام: والذي نفسي بيده إني لاشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره البخاري تعليقا (1) ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن السراج. وفي البخاري قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آمين. وقال عطاء، آمين دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراء حتى إن للمسجد للجة (2) وقال نافع. كان ابن عمر لا يدعه ويحضهم، وسمعت منه في ذلك خبرا. وعن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه   (1) أي من غير ذكر السند. (2) (لجة) : أي صوت مرتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وسلم إذا تلا: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الاول، رواه أبو داود وابن ماجه وقال: حتى يسمعها أهل الصف الاول فيرتج بها المسجد. ورواه أيضا الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي وقال حسن صحيح. والدارقطني وقال: إسناده حسن. وعن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: آمين، يمد بها صوته. رواه أحمد وأبو داود، ولفظه، رفع بها صوته. وحسنه الترمذي وقال: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها. وقال الحافظ: سند هذا الحديث صحيح. وقال عطاء: أدركت مائتين من الصحابة في هذا المسجد، إذا قال الامام: ولا الضالين، سمعت لهم رجة آمين. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حسدتكم اليهود على شئ، ما حسدتكم على السلام والتأمين خلف الامام.) رواه أحمد وابن ماجه. استحباب موافقة الامام فيه: ويستحب للمأموم أن يوافق الامام، فلا يسبقه في التأمين ولا يتأخر عنه فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الامام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري. وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الامام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا آمين (1) فإن الملائكة يقولون: آمين وإن الامام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الامام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الجماعة. وبيان هذا في الحديث الاخر (أن الامام يقول آمين) إلى آخر الحديث.   (1) قال الخطابي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الامام ولا الضالين) فقولوا (آمين) : أي مع الامام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معا. وأما قوله: (إذا أمن أمنوا) فانه لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، وإنما هو كقول القائل: إذا رحل الامير فارحلوا: يعني إذا أخذ الامير في الرحيل فتهيأوا للارتحال، لتكون رحلتكم مع رحلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 معنى آمين: ولفط (آمين) يقصر ألفه ويمد مع تخفيف الميم، وليس من الفاتحة، وإنما دعاه معناه: اللهم استجب. (6) القراءة بعد الفاتحة: يسن للمصلي أن يقرا سورة أو شيئا من القرآن بعد قراءة الفاتحة في ركعتي الصبح والجمعة، والاوليين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وجميع ركعات النفل. فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر، في الاوليين، بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الاخريين، بأم الكتاب، ويسمعنا الاية أحيانا، ويطول في الركعة الاولى ما لا يطول في الثانية. وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وزاد: قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الاولى. وقال جابر بن سمرة: شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر فعزله، واستعمل عليهم عمارا فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحق إن هؤلاء يزعمون أنك تصلي، قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها (1) : أصلي صلاة العشاء فأركد في الاوليين (2) وأخف في الاخريين قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحق، فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة، يكنى أبا سعدة فقال: أما إذا ناشدتنا الله، فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لادعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان بعد يقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فإنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق   (1) (ما أخرم عنها) : أي أنقص. (2) (فأركد في الاوليين) أي أطول فيهما القراءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 يغمزهن. رواه البخاري وقال أبو هريرة: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفي عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير، رواه البخاري. كيفية القراءة بعد الفاتحة: والقراءة بعد الفاتحة تجوز على أي نحو من الانحاء. قال الحسين: (غزونا خراسان ومعنا ثلثمائة من الصحابة فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ الايات من السورة ثم يركع) . وعن ابن عباس: أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة. رواه الدارقطني بإسناد قوي. وقال البخاري: (باب الجمع بين السورتين في الركعة والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة) . ويذكر عن عبد الله بن السائب: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون) في الصبح حتى إذا ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع. وقرأ عمر في الركعة الاولى بمائة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني. وقرأ الاحنف بالكهف في الاولى، وفي الثانية بيونس أو يوسف، وذكر: أنه صلى مع عمر الصبح بهما، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الانفال وفي الثانية بسورة من المفصل. وقال قتادة فيمن قرأ سورة واحدة في ركعتين، أو يردد سورة في ركعتين -: كل كتاب الله. وقال عبد الله بن ثابت عن أنس: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء. وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به، افتتح ب (قل هو الله أحد) حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة. فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها. إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم. وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره. فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، أخبروه الخبر فقال: (يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها. فقال: (حبك إياها أدخلك الجنة) . وعن رجل من جهينة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: (إذا زلزلت الارض) في الركعتين كلتيهما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا؟ رواه أبو داود، وليس في إسناده مطعن. هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة بعد الفاتحة : نذكر هنا ما لخصه ابن القيم من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة (1) قال: فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها وكان يطيلها تارة، ويخففها لعارض من سفر أو غيره، ويتوسط فيها غالبا. قراءة الفجر: وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية. وصلاها بسورة (ق) ، وصلاها ب (الروم) وصلاها ب (إذا الشمس كورت) وصلاها ب (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما، وصلاها بالمعوذتين وكان في السفر، وصلاها فافتتح بسورة (المؤمنون) حتى بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الاولى فأخذته سعلة فركع، وكان يصليها يوم الجمعة ب (ألم تنزيل (السجدة) وسورة (هل أتى على الانسان) كاملتين، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه. وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضلت بسجدة، فجهل عظيم، ولهذا كره بعض الائمة قراءة سورة (السجدة) لاجل هذا الظن. وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين، لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم ودخول الجنة والنار، وغير ذلك، مما كان ويكون في يوم الجمعة. فكان يقرأ في فجرها، ما كان ويكون في ذلك اليوم، تذكيرا للامة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام، كالاعياد والجمعة، بسورة (ق) و (اقتربت) و (يسبح) (2) و (الغاشية) . القراءة في الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا، حتى قال أبو سعيد: كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الاولى، مما يطيلها، رواه مسلم،   (1) العناوين ليست لابن القيم. (2) (يسبح) أي سورة الاعلى المبدوءة: (سبح اسم ربك الاعلى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وكان يقرأ فيها تارة بقدر (الم تنزيل) وتارة (سبح اسم ربك الاعلى) (والليل إذا يغشى) وتارة ب (والسماء ذات البروح) ، (والسماء والطارق) . القراءة في العصر: وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت. وبقدرها إذا قصرت. القراءة في المغرب: وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل اليوم، فإنه صلاها مرة ب (الاعراف) في الركعتين ومرة ب (الطور) ومرة ب (المرسلات) قال أبو عمر ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب ب (المص) (الاعراف) وأنه قرأ فيها ب (الصافات) وأنه قرأ فيها ب (حم) الدخان، وأنه قرأ فيها ب (سبح اسم ربك الاعلى) وأنه قرأ فيها ب (والتين والزيتون) ، وأنه قرأ فيها بالمعوذتين وأنه قرأ فيها ب (المرسلات) ، وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل. وقال: وهي كلها آثار صحاح مشهورة، انتهى كلام ابن عبد البر. وأما المداومة فيها على قصار المفصل دائما، فهو فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال مالك تقرا في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين؟ قال قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: الاعراف. وهذا حديث صحيح، رواه أهل السنن. وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة (الأعراف) فرقها في الركعتين. فالمحافظة فيها على الاية والسورة من قصار المفصل خلاف السنة، وهو فعل مروان بن الحكم. القراءة في العشاء: وأما العشاء الاخرة: فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم ب (والتين والزيتون) ووقت لمعاذ فيها ب (والشمس وضحاها) (وسبح اسم ربك الاعلى) (والليل إذا يغشى) ونحوها. وأنكر عليه قراءته فيها (البقرة) بعد ما صلى معه، ثم ذهب إلى بني عمرو ابن عوف فأعادها لهم بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقرأ (البقرة) ولهذا قال له: (أفان أنت يا معاذ؟) فتعلق النقادون بهذه الكلمة، ولميلتفتوا إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها. القراءة في الجمعة: وأما الجمعة فكان يقرا فيها بسورة (الجمعة) و (المنافقين) أو (الغاشية) كاملتين وسورة (سبح) و (الغاشية) . وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من (يأيها الذين آمنوا) إلى آخرها، فلم يفعله قط. وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه. القراءة في العيدين: وأما القراءة في الاعياد فتارة يقرأ سورة (ق) و (اقتربت) كاملتين وتارة سورة (سبح) و (الغاشية) وهذا هو الهدي الذي استمر عليه إن أن لقي الله عزوجل، لم ينسخه شئ، ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده. فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر سورة (البقرة) حتى سلم منها قريبا من طلوع الشمس فقالوا: يا خليفة رسول الله، كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها ب (يوسف) و (النحل) و (هود) وبني إسرائيل، ونحوها من السور. ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخا لم يخف على خلفائه الراشدين ويطلع عليه النقادون. وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر (ق والقرآن المجيد) وكانت صلاته بعد تخفيفا فالمراد بقوله بعد: أي بعد الفجر، أي أنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها وصلاته بعدها تخفيفا. ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ (والمرسلات عرفا) فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة، إنها لاخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ بها في المغرب، فهذا في آخر الامر إلى أن قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم، يقرأ بها في المغرب، فهذا في آخر الامر إلى أن قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أيكم أم بالناس فليخفف) وقول أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام) فالتخفيف أمر نسي، يرجع إلى ما فعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة. فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به، فأنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها. وهديه الذي واظب عليه، هو الحاكم على كل ما تنازع عليه المتنازعون. ويدل ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا ب (الصافات) ، فالقراءة ب (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به. قراءة سورة بعينها: وكان صلى الله عليه وسلم لا يعين سورة في الصلاة بعينها، لا يقرأ إلا بها، إلا في الجمعة والعيدين، وأما في سائر الصلوات فقد ذكر أبو داود، في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة. وكان من هديه قراءة السور الكاملة، وربما قرأها في الركعتين وربما في أول السورة. وأما قراءة أواخر السور وأوساطها فلم يحفظ عنه. وأما قراءة السورتين في الركعة فكان يفعله في النافلة، وأما في الفرض فلم يحفظ عنه، وأما حديث ابن مسعود: إني لاعرف النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن السورتين في الركعة. (الرحمن) (والنجم) في ركعة. (واقتربت) و (الحاقة) في ركعة، و (والطور) (والذاريات) في ركعة، (إذا وقعت) و (نون) في ركعة. الحديث. فهذا حكاية فعل لم يعين محله. هل كان في الفرض أو في النفل؟ وهو محتمل. وأما قراءة سورة واحدة في ركعتين معا فقلما كان يفعله. وقد ذكر أبو داود عن رجل من جهينة: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما قال: فلا أدري. أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا. إطالة الركعة الاولى في الصبح: وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الاولى على الثانية من صلاة الصبح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ومن كل صلاة وربما كان يطيلها حتى لا يسمع وقع قدم، وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات. وهذا، لان قرآن الفجر مشهود، يشهده الله تعالى وملائكته. وقيل: يشهده ملائكة الليل والنهار. والقولان مبنيان على أن النزول الالهي، هل يدوم إلى انقضاء صلاة الصبح أو إلى طلوع الفجر؟ وقد ورد فيه هذا وهذا. وأيضا، فإنها لما نقص عدد ركعاتها جعل تطويلها عوضا عما نقصته من العدد، وأيضا فإنها تكون عقيب النوم والناس مستريحون، وأيضا فإنهم لم يأخذوا بعد في استقبال المعاش وأسباب الدنيا، وأيضا فإنها تكون في وقت تواطأ السمع واللسان والقلب، لفراغه وعدم تمكنه من الاشتغال فيه. فيفهم القرآن ويتدبره، وأيضا فإنها أساس العمل وأوله، فأعطيت فضلا من الاهتمام بها وتطويلها، وهذه أسرار إنما يعرفها من له التفات إلى أسرار الشريعة ومقاصدها وحكمها. صفة قراءته صلى الله عليه وسلم: وكانت قراءته مدا، يقف عند كل آية، ويمد بها صوته. انتهى كلام ابن القيم. ما يستحب أثناء القراءة : يسن أثناء القراءة، تحسين الصوت وتزيينه: ففي الحديث. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زينوا أصواتكم بالقرآن) وقال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال: (إن أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه وحسبتموه يخشى الله) وقال: (وما أذن الله شئ (1) ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) . قال النووي: يسن لكل من قرأ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ به من النار، أو من العذاب، أو من الشر، أو من المكروه، أو يقول: اللهم إني أسألك العافية، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله سبحانه وتعالى نزه الله فقال: (سبحانه   (1) ما أذن الله (أذن) : استمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وتعالى، أو تبارك الله رب العالمين؟ أو جلت عظمة ربنا، أو نحو ذلك. وروينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فاتتح (البقرة) فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح (آل عمران) فقرأها ثم افتتح (النساء فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، رواه مسلم. قال أصحابنا: يستحب هذا، والتسبيح السؤال والاستعاذة للقارئ في الصلاة وغيرها، وللامام والمأموم والمنفرد، لانه دعاء، فاستووا فيه، كالتأمين، ويستحب لكل من قرأ (أليس الله بأحكم الحاكمين) أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال: بلى أشهد، وإذا قرأ (فبأي حديث بعده يؤمنون) قال آمنت بالله. وإذا قال (سبح اسم ربك الاعلى) قال: سبحان ربي الاعلى. ويقول هذا في الصلاة وغيرها. مواضع الجهر والاسرار بالقراءة : والسنة أن يجهر المصلي في ركعتي الصبح والجمعة، والاوليين من المغرب والعشاء، والعيدين والكسوف والاستسقاء، ويسر في الظهر والعصر، وثالثة المغرب والاخريين من العشاء. وأما بقية النوافل، فالنهارية لا جهر فيها، والليلية يخير فيها بين الجهر والاسرار. والافضل التوسط. مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بأبي بكر وهو يصلي، يخفض صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته، فلما اجتمعا عنده قال: (يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك؟) فقال: يا رسول الله قد أسمعت من ناجيت، وقال لعمر: (مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك) فقال: يا رسول الله، أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا) وقال لعمر: (اخفض من صوتك شيئا) رواه أحمد وأبو داود. وإن نسي فأسر في موضع الجهر، أو جهر في موضع الاسرار فلاشئ عليه، وإن تذكر أثناء قراءته بنى عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 القراءة خلف الإمام : الاصل أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة سورة الفاتحة، في كل ركعة من ركعات الفرض والنفل كما تقدم في فرائض الصلاة إلا أن المأموم تسقط عنه القراءة ويجب عليه الاستماع والانصات في الصلاة الجهرية، لقول الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كبر الامام فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا) صححه مسلم وعلى هذا يحمل حديث (من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة) : أي إن قراءة الامام له قراءة في الصلاة الجهرية، وأما الصلاة السرية فالقراءة فيها على المأموم وكذا تجب عليه القراءة في الصلاة الجهرية، إذا كان بحيث لا يتمكن من الاستماع للامام. قال أبو بكر بن العربي: والذي نرجحه وجوب القراءة في الاسرار. لعموم الاخبار (1) ، أما الجهر فلا سبيل إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه: أحدها: أنه عمل أهل المدينة، الثاني أنه حكم القرآن قال الله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وقد عضدته السنة بحديثين. أحدهما حديث عمران بن حصين (قد (2) علمت أن بعضكم خالجنيها (3)) . الثاني: قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا) . الثالث: الترجيح، إن القراءة مع الامام لا سبيل إليها، فمتى يقرأ؟ فإن قيل يقرأ في سكتة الامام قلنا. السكوت لا يلزم الامام، فكيف يركب فرض على ما ليس بفرض؟ لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع الجهر، وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر، وهذا نظام القرآن والحديث وحفظ العبادة. ومراعاة السنة، وعمل بالترجيح انتهى. وهذا اختيار الزهري وابن المبارك، وقول لمالك وأحمد وإسحاق، ونصره ورجحه ابن تيمية.   (1) أدلة وجوب القراءة التي تقدم الكلام عليها في فرائض الصلاة. (2) قال له النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمع رجلا يقرأ خلفه (سبح اسم ربك الاعلى) . (3) (خالجنيها) نازعنيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 (7) تكبيرات الانتقال: يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود، إلا في الرفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، فعن ابن مسعود قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود. رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. ثم قال والعمل عليه عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وعليه عامة الفقهاء والعلماء، انتهى، فعن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم. ثم يكبر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، قبل أن يسجد، ثم يقول: الله أكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين، ثم يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، قال أبو هريرة: كانت هذه صلاته حتى فارق الدنيا. رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. وعن عكرمة قال قلت لابن عباس: صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، يكبر إذا سجد، وإذا رفع رأسه. فقال ابن عباس: تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري. ويستحب أن يكون ابتداء التكبير حين يشرع في الانتقال. (8) هيئات الركوع: الواجب في الركوع مجرد الانحناء، بحيث تصل اليدان إلى الركبتين، ولكن السنة فيه تسوية الرأس بالعجز، والاعتماد باليدين على الركبتين مع مجافاتهما على الجنبين، وتفريج الاصابع على الركبة والساق، وبسط الظهر. فعن عقبة بن عامر (إنه ركع فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن أبي حميد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع اعتدل، ولم يصوب رأسه ولم يقنعه (1) ،   (1) (يصوب) يميل به إلى أسفل. (يقنعه) : يرفعه إلى أعلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، رواه النسائي. وعند مسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه. ولكن بين ذلك. وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع، لو وضع قدح من ماء على ظهره لم يهرق (1) . رواه أحمد وأبو داود في مراسيله وعن مصعب بن سعد قال: صليت إلى جانب أبي، فطبقت بين كفي ثم وضعتهما بين فخذي. فنهاني عن ذلك وقال: كنا نفعل هذا، فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب. رواه الجماعة. (9) الذكر فيه: يستحب الذكر في الركوع بلفظ (سبحان ربي العظيم) . فعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم (اجعلوها في ركوعكم) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد جيد. وعن حذيفة قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) رواه مسلم وأصحاب السنن. وأما لفظ (سبحان ربي العظيم وبحمده) فقد جاء من عدة طرق كلها ضعيفة. قال الشوكاني: ولكن هذه الطرق تتعاضد، ويصح أن يقتصر المصلي على التسبيح، أو يضيف إليه أحد الاذكار الاتية: 1 - عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وأنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم. 2 - عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس (2) رب الملائكة والروح) . 3 - وعن عوف بن مالك الاشجعي قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام فقرأ سورة (البقرة) إلى أن قال فكان يقول في ركوعه:   (1) (يهرق) : يصب منه شئ، لاستواء ظهره. (2) (سبوح قدوس) الفصيح منها، ضم الاول، وهما خبر لمبتدأ محذوف أنت؟ تقدير معناهما أنت منزه ومطهر عن كل ما لا يليق بجلالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وسبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. (10) أذكار الرفع من الركوع والاعتدال: يستحب للمصلي - إماما أو مأموما أو منفردا - أن يقول عند الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده، فإذا استوى قائما فليقل: ربنا ولك الحمد، أو: اللهم ربنا ولك الحمد، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، رواه أحمد والشيخان. وفي البخاري من حديث أنس: وإذا قال: سمع الله لمن حمده. فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. يرى بعض العلماء أن المأموم لا يقول (سمع الله لمن حمده) بل إذا سمعها من الامام يقول: اللهم ربنا ولك الحمد. لهذا الحديث. ولحديث أبي هريرة عند أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ولكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يقتضي أن يجمع كل مصل بين التسبيح والتحميد، وإن كان مأموما ويجاب عما استدل به القائلون (بأن المأموم لا يجمع بينهما) بل يأتي بالتحميد فقط، بما ذكره النووي قال: قال أصحابنا، فمعناه قولوا: (ربنا لك الحمد) مع ما قد علمتموه من قول سمع الله لمن حمده، وإنما خص هذا بالذكر، لانهم كانوا يسمعون جهر النبي صلى الله عليه وسلم (سمع الله لمن حمده) فإن السنة فيه الجهر ولا يسمعون قوله: ربنا لك الحمد، لانه يأتي به سرا. وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا، وكانوا يوافقون في (سمع الله لمن حمده) فلم   (1) (يتأول القرآن) : أي يعمل بقبول الله تعالى (فسبح بحمد ربك واستغفره) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يحتج إلى الامر به، ولا يعرفون (ربنا لك الحمد) فأمروا به. هذا أقل ما يقتصر عليه في التحميد حين الاعتدال ويستحب الزيادة على ذلك بما جاء في الاحاديث الاتية: 1 - عن رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة وقال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: (ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه) فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المتكلم آنفا) ؟ قال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت بضعة (1) وثلاثين ملكا يبتدرونها، أيهم يكتبها أولا) رواه أحمد والبخاري ومالك وأبو داود. 2 - وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع من الركعة قال: (سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد ملء (2) السموات والارض وما بينهما، وملء ما شئت من شئ بعد) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. 3 - وعن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وفي لفظ: يدعو، إذا رفع رأسه من الركوع: (اللهم لك الحمد ملء السماء وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد: اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب ونقني منها كما ينقى الثوب الابيض من الوسخ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. ومعنى الدعاء: طلب الطهارة الكاملة. 4 - وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: (سمع الله لمن حمده) قال: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الارض وملء ما شئت من شئ بعد أهل الثناء والمجد (3) أحق ما قال   (1) (البضع) من الثلاثة إلى العشرة. (2) (ملء) بفتح الهمزة، هذا هو المشهور أي لو جسم الحمد لملا السموات والارض وما بينهما لعظمه. (3) (أهل الثناء والمجد) أهل منصوب على النداء أو الاختصاص) أي يا أهل الثناء! أو مدح أهل الثناء. (الجد) بفتح الجيم على المشهور! الحظ والعظمة. والغني: أي لا ينفعه ذلك، وإنما ينفعه العمل الصالح! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 العبد، وكلنا لك عبد: لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) رواه مسلم وأحمد وأبو داود. 5 - وصح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول بعد (سمع الله لمن حمده) (لربى الحمد، لربي الحمد) حتى يكون اعتداله قدر ركوعه. (11) كيفية الهوي إلى السجود والرفع منه: ذهب الجمهور إلى استحباب وضع الركبتين قبل اليدين، حكاه ابن المنذر عن عمر النخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي قال: وبه أقول، انتهى. وحكاه أبو الطيب عن عامة الفقهاء. وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ثم يديه بعدهما ثم جبهته وأنفه هذا هو الصحيح الذي رواه شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك، انتهى. وذهب مالك والاوزاعي وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وهو رواية عن أحمد. قال الاوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. وقال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث. وأما كيفية الرفع من السجود حين القيام إلى الركعة الثانية، فهو على الخلاف أيضا، فالمستحب عند الجمهور أن يرفع يديه ثم ركبتيه، وعند غيرهم يبدأ برفع ركبتيه قبل يديه. (12) هيئة السجود: يستحب للساجد أن يراعي في سجوده ما يأتي: 1 - تمكين أنفه وجبهته ويديه على الارض، مع مجافاتهما عن جنبيه، فعن وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه. رواه أبو داود. وعن أبي حميد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الارض، ونحى يديه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 جنبيه، ووضع كفيهحذو منكبيه، رواه ابن خزيمة والترمذي وقال: حسن صحيح. 2 - وضع الكفين حذو الاذنين أو حذو المنكبين، وقد ورد هذا وذاك، وجمع بعض العلماء بين الروايتين، بأن يجعل طرفي الابهامين حذو الاذنين، وراحتيه حذو منكبيه. 3 - أن يبسط أصابعه مضمومة، فعند الحاكم وابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه. وإذا سجد ضم أصابعه. 4 - أن يستقبل بأطراف أصابعه القبلة فعند البخاري من حديث أبي حميد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع يديه غير مفترشهما ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. (13) مقدار السجود وأذكاره: يستحب أن يقول الساجد حين سجوده: (سبحان ربي الاعلى) . فعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت (سبح اسم ربك الاعلى) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم، وسنده جيد. وعن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الاعلى) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن صحيح. وينبغي أن لا ينقص التسبيح في الركوع والسجود عن ثلاث تسبيحات. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود عن ثلاث تسبيحات، انتهى. وأما أدنى ما يجزئ فالجمهور على أن أقل ما يجزئ في الركوع والسجود قدر تسبيحة واحدة. وقد تقدم أن الطمأنينة هي الفرض وهي مقدرة بمقدار تسبيحة. وأما كمال التسبيح فقدره بعض العلماء بعشر تسبيحات لحديث سعيد بن جبير عن أنس قال: (ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الغلام، يعني عمر بن عبد العزيز فحزرنا في الركوع عشر تسبيحات (1)   (1) (حزرنا) : أي قدرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وفي السجود عشر تسبيحات) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد. قال الشوكاني: قيل: فيه حجة لمن قال: إن كمال التسبيح عشر تسبيحات. والاصح أن المفرد يزيد في التسبيح ما أراد وكلما زاد كان أولى. والاحاديث الصحيحة في تطويله صلى الله عليه وسلم ناطقة بهذا. وكذا الامام إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل. انتهى. وقال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام أن يخفف، لامره صلى الله عليه وسلم، وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري ما يحدث لهم من حادث، وشغل عارض وحاجة وحدث وغير ذلك. وقال ابن المبارك: استحب للامام أن يسبح خمس تسبيحات، لكي يدرك من خلفه ثلاث تسبيحات. والمستحب ألا يقتصر المصلي على التسبيح، بل يزيد عليه ما شاء من الدعاء. ففي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون أحدكم من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء) ، وقال: (ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن (1) أن يستجاب لكم) رواه أحمد ومسلم. وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك نذكرها فيما يلي: 1 - عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه فصوره فأحسن صوره، فشق سمعه وبصره: فتبارك الله أحسن الخالقين) رواه أحمد ومسلم. 2 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما يصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التهجد قال: ثم خرج إلى الصلاة فصلى وجعل يقول في صلاته أو في سجوده: (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعلني نورا، قال شعبة: أو قال: (اجعل لي نورا) رواه مسلم وأحمد وغيرهما، وقال النووي: قال العلماء:   (1) (قمن) بفتح أوله وثانية أو كسر ثانيه: أي حقيق وجدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سأل النور في جميع أعضائه وجهاته، والمراد بيان الحق والهداية إليه. فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه، وتصرفاته وتقلباته وحالته وجملته، في جهاته الست. حتى لا يزيغ شئ منها عنه. 3 - وعن عائشة: أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: (رب أعط نفسي تقواها، وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) رواه أحمد. 4 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله (1) وأوله وآخره، وعلانيته وسره) رواه مسلم وأبو داود والحاكم. 5 - وعن عائشة قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلمسته في المسجد، فإذا هو ساجد وقدماه منصوبتان، وهو يقول: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه مسلم وأصحاب السنن. 6 - وعنها أنها فقدته صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظنت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسسته فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت) فقالت: (بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن وإنك لفي شأن آخر) رواه أحمد ومسلم والنسائي. 7 - وكان صلى الله عليه وسلم يقول وهو ساجد: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت) . (14) صفة الجلوس بين السجدتين: السنة في الجلوس بين السجدتين، أن يجلس مفترشا. وهو أن يثني رجله   (1) دقه وجله: (دقه) بكسر أوله: صغيره. (جله) : بضم أوله أو بكسره: أي كبيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 اليسرى فيبسطها ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، جاعلا أطراف أصابعها إلى القبلة. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى. رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر: من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى، رواه النسائي. وقال نافع: كان ابن عمر إذا صلى استقبل القبلة بكل شئ حتى بنعليه، رواه الاثرم. وفي حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ثنى رجله اليسرى وقعد علهيا، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم موضعه، ثم هوى ساجدا. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وقد ورد أيضا استحباب الافعاء، وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه. قال أبو عبيدة: هذا قول أهل الحديث. فعن أبي الزبير أنه سمع طاووسا يقول: قلنا لابن عباس في الاقعاء على القدمين. فقال: هي السنة، قال: فقلنا: إنا لنراه جفاء بالرجل. فقال: هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الاولى يقعد على أطراف أصابعه، ويقول: إنه من السنة. وعن طاووس قال: رأيت العبادلة يعني عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير يقعون رواهما البيهقي: قال الحافظ: صحيحة الاسناد وأما الاقعاء - بمعنى وضع الاليتين على الارض ونصب الفخذين - فهذا مكروه، باتفاق العلماء. فعن أبي هريرة قال: (نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كاقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب) ، رواه أحمد والبيهقي والطبراني وأبو يعلى. وسنده حسن، ويستحب للجالس بين السجدتين أن يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى، بحيث تكون الاصابع مبسوطة موجهة جهة القبلة، مفرجة قليلا، منتهية إلى الركبتين. الدعاء بين السجدتين: يستحب الدعاء في السجدتين بأحد الدعاءين الاتيين ويكرر إذا شاء. روى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 النسائي وابن ماجه عن حذيفة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: (رب اغفر لي) وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين (اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني (1) . (15) جلسة الاستراحة: هي جلسة خفيفة يجلسها المصلي بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الاولى، قبل النهوض إلى الركعة الثانية، وبعد الفراغ من السجدة الثانية، من الركعة الثالثة، قبل النهوض إلى الركعة الرابعة. وقد اختلف العلماء في ذلك حكمها، تبعا لاختلاف الاحاديث. ونحن نورد ما لخصه ابن القيم في ذلك قال: واختلف الفقهاء فيها، هل هي من سنن الصلاة، فيستحب لكل أحد أن يفعلها، أو ليست من السنن، وإنما يفعلها من احتاج إليها؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد رحمه الله قال الخلال: (رجع أحمد إلى حديث مالك ابن الحويرث في جلسة الاستراحة وقال: أخبرني يوسف بن موسى: أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال: على صدور القدمين، على حديث رفاعة. وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه، وقد روى عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم، لم يذكر هذه الجلسة وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث. ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائما، لذكرها كل واصف لصلاته صلى الله عليه وسلم، ومجرد فعله دائما، لذكرها كل واصف لصلاته صلى الله عليه وسلم، ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة، إلا إذا علم أنه فعلها سنة فيقتدى به فيها وأما إذا قدر أنه فعلها للحاجة: لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة. (16) صفة الجلوس للتشهد: ينبغي في الجلوس للتشهد مراعاة السنن الاتية: (أ) : أن يضع يدبه على الصفة المبينة في الاحاديث الاتية: 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان   (1) رواه الترمذي، وفيه: (واجبرني) بدل وعافني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين (1) وأشار بأصبعه السبابة. وفي رواية: وقبض أصابعه كلها. وأشار بالتي تلي الابهام. رواه مسلم. 2 - وعن وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفه اليسى على فخذه، وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الايمن على فخذه الايمن، ثم قبض بين أصابعه فحلق حلقة. وفي رواية: حلق بالوسطى والابهام وأشار بالسبابة، ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها، رواه أحمد، قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بالتحريك الاشارة بها. لا تكرير تحريكها، ليكون موافقا لرواية ابن الزبير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها. رواه أبو داود بإسناد صحيح. ذكره النووي. 3 - وعن الزبير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، ولم يجاوز بصره إشارته) رواه أحمد ومسلم والنسائي. ففي هذا الحديث الاكتفاء بوضع اليمنى على الفخذ بدون قبض. والاشارة بسبابة اليد اليمنى، وفيه: أنه من السنة أن لا يجاوز بصر المصلي إشارته. فهذه كيفيات ثلاث صحيحة، والعمل بأي كيفية جائز. (ب) : أن يشير بسبابته اليمنى مع انحنائها قليلا حتى يسلم. فعن نمير الخزاعي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد في الصلاة قد وضع ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، رافعا إصبعه السبابة، وقد حناها شيئا وهو يدعو. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة بإسناد جيد: وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يدعو بأصبعين فقال: (أحد يا سعد) (2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم. وقد سئل ابن عباس عن الرجل يدعو يشير بإصبعه؟ فقال: هو الاخلاص. وقال أنس بن مالك: ذلك التضرع، وقال مجاهد: مقمعة للشيطان. ورأى الشافعية أن يشير بالاصبع مرة واحدة عند قوله (إلا الله) من   (1) (عقد ثلاثا وخمسين) : أي قبض أصابعه، وجعل الابهام على الفصل الاوسط من تحت السبابة. (2) (أحد) : أشر باصبع واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الشهادة، وعند الحنفية يرفع سبابته عند النفي (1) . ويضعها عند الاثبات، وعند المالكية، يحركها يمينا وشمالا إلى أن يفرغ من الصلاة، ومذهب الحنابلة يشير بإصبعه كلما ذكر اسم الجلالة، إشارة إلى التوحيد، لا يحركها. (ح) : أن يفترش في التشهد الاول (2) ويتورك في التشهد الاخير. ففي حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس في الركعتين (3) جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الاخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الاخرى وقعد على مقعدته) رواه البخاري. (والتورك) أن ينصب رجله اليمنى مواجها أصبعه الى القبلة، ويثني رجله اليسرى تحتها ويجلس بمقعدته على الارض. (3) (فإذا جلس في الركعتين) : أي للتشهد الاول. (17) التشهد الاول: يرى جمهور العلماء، أن التشهد الاول سنة، لحديث عبد الله ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس، قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه، فكان ما نسي من الجلوس، رواه الجماعة. وفي سبل السلام الحديث دليل على أن ترك التشهد الاول سهوا يجبره سجود السهو. وقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) يدل على وجوب التشهد الاول، وجبرانه عند تركه، دل على أنه وإن كان واجبا فإنه يجبره سجود السهو، والاستدلال على عدم وجوبه بذلك لا يتم حتى يقوم الدليل على أن كل واجب لا يجزئ عنه سجود السهو إن ترك سهوا. وقال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب، إنه لو نسي تكبيرة الاحرام لم تجبر، فكذلك التشهد، ولانه ذكر لا يجهر فيه بحال فلم يجب، كدعاء الاستفتاح، واحتج غيره بتقريره صلى الله عليه وسلم الناس على متابعته، بعد أن علم أنهم تعمدوا تركه، وفيه نظر. وممن قال بوجوبه، الليث بن سعد، وإسحاق وأحمد في المشهور، وهو قول الشافعي،   (1) يرفع سبابته عند النفي: عند قوله لا، (ويضعها عند الاثبات) أي عند قوله (إلا الله) من الشهادة. (2) تقدم بيان معناه في صفة الجلوس بين السجدتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وفي رواية عند الحنفية. واحتج الطبراني لوجوبه، بأن الصلاة فرضت أولا ركعتين، وكان التشهد فيها واجبا، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الوجوب. استحباب التخفيف فيه: ويستحب الخفيف فيه. فعن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين الاوليين كأنه على الرضف (1) رواه أحمد وأصحاب السنن: وقال الترمذي: حسن إلا أن عبيدة (2) لم يسمع من أبيه. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن لا يطيل الرجل في القعود في الركعتين، لا يزيد على التشهد شيئا. وقال ابن القيم: لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وعلى آله في التشهد الاول، ولا كان يستعيذ فيه من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة المحيا وفتنة الممات وفتنة المسيح الدجال، ومن استحب ذلك فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات، قد صح تبيين موضعها وتقييدها بالتشهد الاخير. جمع رضفة: وهي الحجارة المحماة، وهو كناية عن تخفيف الجلوس. (18) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: يستحب للمصلي أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الاخير، بإحدي الصيغ التالية: 1 - عن أبي مسعود البدري قال: (قال بشير بن سعد: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فسكت ثم قال: (قولوا: اللهم صل على محمد (3) وعلى آل محمد (4) كما صليت على آل إبراهيم. وبارك   (1) (الرضف) . (2) عبيدة بن عبد الله بن مسعود الذي روى الحديث عن أبيه ابن مسعود. (3) (اللهم) : أي يا الله. (صلاة الله على نبيه) ثناؤه عليه وإظهار فضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه. (4) (آله) قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني المطلب. وقيل هم ذريته وأزواجه، وقيل هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل: هم المتقون من أمته، قال: ابن القيم: الاول هو الصحيح، ويليه القول الثاني وضعف الثالث والرابع، وقال النووي: أظهرها، وهو اختيار الازهري وغيره من المحققين أنهم جميع الامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد (1) مجيد، والسلام كما علمتم) رواه مسلم وأحمد. 2 - وعن كعب بن عجزة قال: قلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: (فقولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد: اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) رواه الجماعة. وإنما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مندوبة وليست بواجبة، لما رواه الترمذي وصححه، وأحمد وأبو داود عن فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (وعجل هذا) ، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء الله) قال صاحب المنتقى: وفيه حجة لمن لا يرى الصلاة عليه فرضا، حيث لم يأمر تاركها بالاعادة ويعضده قوله في خبر ابن مسعود بعد ذكر التشهد: (ثم يتخير من المسألة ما شاء) وقال الشوكاني: لم يثبت عندي ما يدل للقائلين بالوجوب. (19) الدعاء بعد التشهد الاخير وقبل السلام: يستحب الدعاء بعد التشهد وقبل السلام بما شاء من خيري الدنيا والاخرة. فعن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم، علمهم التشهد ثم قال في آخره: (ثم لتختر من المسألة ما تشاء) رواه مسلم. والدعاء مستحب مطلقا، سواء كان مأثورا أو غير مأثور إلا أن الدعاء بالمأثور أفضل. ونحن نورد بعض ما ورد في ذلك. 1 - عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الاخير فليتعوذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن   (1) (الحميد) هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودا، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه. (والمجيد) من كمل في العظمة والجلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 شر فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم. 2 - وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم (1) متفق عليه. 3 - وعن علي رضي الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، يكون آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر: لا إله إلا أنت) رواه مسلم. 4 - وعن عبد الله بن عمرو: (أن أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه. 5 - وعن حنظلة بن علي: أن محجن بن الادرع حدثه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته (2) وهو يتشهد ويقول: اللهم إني أسألك يا الله الواحد الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد غفر) ثلاثا. رواه أحمد وأبو داود. 6 - وعن شداد بن أوس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: اللهم إني أسألك الثبات في الامر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما. ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم) رواه النسائي.   (1) المأثم: الاثم، والمغرم: الدين. (2) (قد قضى صلاته) : قارب أن ينتهي منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 7 - وعن أبي مجلز قال: صلى بنا عمار بن ياسر رضي الله عنهما صلاة فأوجز فيها، فأنكروا ذلك فقال: (ألم أتم الركوع والسجود؟ ... قالوا: بلى. قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان رسول اله صلى الله عليه وسلم يدعو به: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغني، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، ومن فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الايمان، واجعلنا هداة مهديين) رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد. 8 - وعن أبي صالح عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: (كيف تقول في الصلاة؟) قال: أتشهد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة (1) معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن) . رواه أحمد وأبو داود. 9 - وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول هذا الدعاء: اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها وقابليها وأتمها علينا) رواه أحمد وأبو داود. 10 - وعن أنس قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل قائم يصلي، فلما ركع وتشهد قال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والارض يا ذا الجلال والاكرام يا حي يا قيوم إني أسألك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: (أتدرون بم دعا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (والذي نفس محمد بيده لقد دعا   (1) الدندنة: الكلام غير المفهوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الله باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى) . رواه النسائي. 11 - عن عمير بن سعد قال: كان ابن مسعود يعلمنا التشهد في الصلاة ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد فليقل اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار. قال: لم يدع نبي ولا صالح بشئ إلا دخل في هذا الدعاء. رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. (20) الاذكار والادعية بعد السلام: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أذكار وأدعية بعد السلام، يسن للمصلي أن يأتي بها، ونحن نذكرها فيما يلي: 1 - عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثا وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام، رواه الجماعة إلا البخاري. وزاد مسلم: قال الوليد: فقلت للاوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. 2 - وعن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يوما ثم قال: (يا معاذ إني لاحبك) فقال له معاذ: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا أحبك) قال: (أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال صحيح على شرط الشيخين. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أحمد بسند جيد.   (1) (اللهم أنت السلام ومنك السلام) السلام الاول اسم من أسماء الله تعالى. ولا ثاني بمعنى السلامة. (تباركت) كثر خيرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 3 - وعن عبد الله بن الزبير قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم في دبر الصلاة يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، أهل النعمة والفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. 4 - وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) رواه أحمد والبخاري ومسلم. 5 - وعن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة. ولفظ أحمد وأبي داود بالمعوذات (1) رواه أحمد والبخاري ومسلم. 6 - وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) رواه النسائي والطبراني. وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله (2) إلى الصلاة الاخرى) . رواه الطبراني بإسناد حسن. 7 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين تلك تسع وتسعون. ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زيد البحر (3)) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. 8 - وعن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) (قل هو الله أحد) من المعوذات. (2) (ذمة الله) : حفظه. (3) (الزبد) : الرغوة فوق الماء، والمراد بالخطايا: الصغائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاثا وثلاثين تسبيحة، وثلاثا وثلاثين تحميد وأربعا وثلاثين تكبيرة) رواه مسلم. 9 - وعن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الثور (1) بالدرجات العلا والنعيم المقيم قال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (تسبحون الله وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة) فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع اخواننا أهل الاموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت، إنما قال لك تسبح ثلاثا وثلاثين، وتحمد ثلاثا وثلاثين، وتكبر أربعا وثلاثين. فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك، فأخذ بيدي فقال: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، (وسبحان الله، والحمد لله، حتى يبلغ من جميعهن ثلاثا وثلاثين) متفق عليه. 10 - وصح أيضا، أن يسبح خمسا وعشرين ويحمد مثلها ويكبر مثلها، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير مثلها. 11 - عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خصلتان من حافظ عليهما أدخلتاه الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، قالوا: وما هما يا رسول الله؟ قال: (أن تحمد الله، وتكبره وتسبحه في دبر كل صلاة مكتوبة عشرا عشرا وإذا أتيت إلى مضجعك، تسبح الله وتكبره وتحمده مائة. فتلك خمسون ومائتان باللسان، وألفان (2) وخمسمائة   (1) الدثور: المال الكثير. (2) لان الحسنة بعشرة أمثالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 في الميزان. فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة قالوا: كيف من يعمل بها قليل؟ قال: يجئ أحدكم الشيطان في صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا فلا يقولها، ويأتيه عند منامه فينومه فلا يقولها) قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن بيده (1) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. 12 - وعن علي - وقد جاء هو وفاطمة - رضي الله عنهما يطلبان خادما يخفف عنهما بعض العمل، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، ثم قال لهما: (ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى. فقال: (كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثين وثلاثين: وأحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبر أربعا وثلاثين) وقال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 13 - وعن عبد الرحمن بن غنم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير. عشر مرات كتب له بكل واحدة عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت حرزا من كل مكروه، وحرزا من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب يدركه (2) إلا الشرك فكان من أفضل الناس عملا إلا رجلا يفضله. يقول أفضل مما قال) رواه أحمد وروى الترمذي نحوه بدون ذكر (بيده الخير) . 14 - وعن مسلم بن الحارث عن أبيه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صليت الصبح فقل قبل أن تكلم أحدا من الناس: اللهم أجرني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك كتب الله عز وجل لك جورا من النار، وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحدا من الناس: اللهم إني أسألك الجنة: اللهم أجرني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من ليلتك   (1) (يعقدهن بيده) : أي يعدهن. (2) (يدركه) : أي يهلكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كتب الله عز وجل لك جوارا من النار) ، رواه أحمد وأبو داود. 15 - وروى أبو حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند انصرافه من صلاته: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح دنياي التي جعلت فيها معاشي: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك. وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد، منك الجد) . 16 - وروى البخاري والترمذي: أن سعد بن أبي وقاص كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة. ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد الى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر) . 17 - وروى أبو داود والحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: (اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري. اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت) . 18 - وروى الامام أحمد وأبو داود والنسائي، بسند فيه داوند الطفاوي، وهو ضعيف، عن زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر صلاته: (اللهم ربنا ورب كل شئ أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن محمدا عبدك رسولك: اللهم ربنا ورب كل شئ، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة: اللهم ربنا ورب كل شئ، اجعلني مخلصا لك وأهلي (1) في كل ساعة من الدنيا والاخرة، يا ذا الجلال والاكرام، اسمع واستجب، الله الاكبر الاكبر، نور السموات والارض، الله الاكبر الاكبر، حسبي الله ونعم الوكيل. الله الاكبر الاكبر) . 19 - وروى أحمد وابن شيبة وابن ماجه، بسند فيه مجهول، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: (اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وعملا متقبلا) .   (1) (وأهلي) : أي وأهلي مخلصين لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 التطوع : (1) مشروعيته: شرع التطوع ليكون جبرا لما عسى أن يكون قد وقع في الفرائض من نقص، ولما في الصلاة من فضيلة ليست لسائر العبادات. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا لملائكته، وهو أعلم أنظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: أنظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الاعمال على ذلك) رواه أبو داود. وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أذن الله لعبد في شئ أفضل من ركعتين يصليهما، وإن البر ليذر (1) فوق رأس العبد مادام في صلاته) الحديث رواه أحمد والترمذي وصححه السيوطي. وقال مالك في الموطأ، بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وروى مسلم عن ربيعة ابن مالك الاسلمي قال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سل) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: (أو غير ذلك؟) قلت: هو ذاك قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) . (2) استحباب صلاته في البيت: 1 - روى أحمد ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله عز وجل جاعل في بيته من صلاته خيرا. 2 - وعند أحمد عن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة   صلاة غير واجبة، والمراد بها السنة أو النفل. (1) أي ينثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الرجل في بيته تطوعا نور، فمن شاء نور بيته) . 3 - وعن عبد الرحمن بن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوا قبورا (1)) رواه أحمد وأبو داود. 4 - روى أبو داود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة) . وفي هذه الاحاديث دليل على استحباب صلاة التطوع في البيت، وأن صلاته فيه أفضل من صلاته في المسجد. قال النووي: إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد عن الرياء وأصون من محبطات الاعمال، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان. (3) أفضلية طول القيام على كثرة السجود في التطوع: روى الجماعة إلا أبا داود عن المغيرة بن شعبة أنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم ويصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فقال له؟ فيقول: (أفلا أكون عبدا شكورا) . وروى أبو داود عن عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الاعمال أفضل؟ قال: (طول القيام) قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقل) قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (من هجر ما حرم الله عليه) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من جاهد المشركين بماله ونفسه) قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: (من أهريق دمه وعقر جواده) . (4) جواز صلاة التطوع من جلوس: يصح التطوع من قعود مع القدرة على القيام كما يصح أداء بعضه من قعود وبعضه من قيام، لو كان ذلك في ركعة واحدة فبعضها يؤدى من قيام وبعضها من قعود سواء تقديم القيام أو تأخر كل ذلك جائز من غير كراهة   (1) لانه ليس في القبور صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ويجلس كيف شاء والافضل التربع. فقد روى مسلم عن علقمة قال قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين وهو جالس؟ قال كان يقرأ فيهما فإذا أراد أن يركع قام فركع. وروى أحمد وأصحاب السنن عنهما قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شئ من صلاة الليل جالسا قط حتى دخل في السن (1) فكان يجلس فيها فيقرأ حتى إذا بقي أربعون أو ثلاثون آية قام فقرأها ثم سجد. (5) أقسام التطوع: ينقسم التطوع إلى تطوع مطلق، وإلى تطوع مقيد. والتطوع المطلق يقتصر فيه على نية الصلاة. قال النووي: فإذا شرع في تطوع ولم ينو عددا فله أن يسلم من ركعة وله أن يزيد فيجعلها ركعتين أو ثلاثا أو مائة أو ألفا أو غير ذلك. ولو صلى عددا لا يعلمه ثم سلم صح بلا خلاف، اتفق عليه أصحابنا ونص عليه الشافعي في الاملاء. وروى البيهقي بإسناده أن أبا ذر رضي الله عنه صلى عددا كثيرا فلما سلم قال له الاحنف بن قيس رحمه الله: هل تدري انصرفت على شفع أم على وتر؟ قال: إن لا أكن أدري فإن الله يدري، إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول ثم بكى. ثم قال: إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة) رواه الدارمي في مسنده بسند صحيح إلا رجلا اختلفوا في عدالته. والتطوع المقيد ينقسم إلى ما شرع تبعا للفرائض ويسمي السنن الراتبة، ويشمل سنة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإلى غيره، وهاك بيان كل: سنة الفجر (1) فضلها: وردت عدة أحاديث في فضل المحافظة على سنة الفجر نذكرها فيما يلي:   (1) أي كبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 1 - عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الركعتين قبل صلاة الفجر، قال: (هما أحب إلي من الدنيا جميعا) رواه أحمد ومسلم والترمذي. 2 - وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والطحاوي. ومعنى الحديث لا تتركوا ركعتي الفجر مهما اشتد العذر حتى ولو كان مطاردة العدو. 3 - وعن عائشة قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ من النوافل أشد معاهدة (1) من الركعتين قبل الصبح) . رواه الشيخان وأحمد وأبو داود. 4 - وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي. 5 - ولاحمد ومسلم عنها، قالت: ما رأيته إلى شئ من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. (2) تخفيفها: المعروف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخفف القراءة في ركعتي الفجر. 1 - فعن حفصة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر قبل الصبح في بيتي يخففهما جدا. قال نافع: وكان عبد الله (يعني ابن عمر) يخففهما كذلك. رواه أحمد والشيخان. 2 - وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين قبل الغداة فيخففهما حتى إني لاشك أقرأ فيهما بفاتحة الكتاب أم لا؟ رواه أحمد وغيره. 3 - وعنها قالت: كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين   (1) معاهدة: مواظبة. (2) (ولتستشفر) : أي تشد خرقة على فرجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قبل صلاة الفجر قدر ما يقرأ فاتحة الكتاب: رواه أحمد والنسائي والبيهقي ومالك والطحاوي. (3) ما يقرأ فيها: يستحب القراءة في ركعتي الفجر بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد عنه فيها ما يأتي: 1 - عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وكان يسر بها. رواه أحمد والطحاوي. وكان يقرأهما بعد الفاتحة، لانه لا صلاة بدونها كما تقدم. 2 - وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (نعم السورتان هما) وكان يقرأ بهما في الركعتين قبل الفجر (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) . رواه أحمد وابن ماجه. 3 - وعن جابر أن رجلا قام فركع ركعتي الفجر فقرأ في الاولى: (قل يا أيها الكافرون) حتى انقضت السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عبد عرف ربه) وقرأ في الاخرة: (هذا عبد آمن بربه) قال طلحة: فأنا أحب أن أقرأ بهاتين السورتين في هاتين الركعتين، رواه ابن حبان والطحاوي. 4 - وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيركعتي الفجر (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) والتي في آل عمران (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) رواه مسلم. أي أنه كان يقرأ في الركعة الاولى بعد الفاتحة هذه الاية: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) وفي الركعة الثانية (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) . 5 - وعنه في رواية أبي داود أنه كان يقرأ في الركعة الاولى (قولوا آمنا بالله) وفي الثانية (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله، آمنا بالله، وأشهد بأنا مسلمون) . 6 - ويجوز الاقتصار على الفاتحة وحدها، لما تقدم عن عائشة أن قيامه كان قدر ما يقرأ فاتحة الكتاب. (4) الدعاء بعد الفراغ منها: قال النووي في الاذكار: روينا في كتاب ابن السني عن أبي المليح واسمه عامر بن أسامة عن أبيه أنه صلى ركعتي الفجر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى قريبا منه ركعتين خفيفتين ثم سمعه يقول وهو جالس: (اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار) ثلاث مرات وروينا فيه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله تعالى ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر) . (5) الاضطجاع بعدها: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع على شقه الايمن. رواه الجماعة. ورووا أيضا عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت نائمة اضطجع وإن كنت مستيقظة حدثني. وقد اختلف في حكمه اختلافا كثيرا، والذي يظهر أنه مستحب في حق من صلى السنة في بيته دون من صلاها في المسجد. قال الحافظ: في الفتح: وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد. وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى وسئل عنه الامام أحمد فقال: ما أفعله، وإن فعله رجل فحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 (6) قضاؤها: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلها) رواه البيهقي، قال النووي: وإسناده جيد. وعن قيس بن عمر أنه خرج إلى الصبح فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح، ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام حين فرغ من الصبح فركع ركعتي الفجر فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه الصلاة؟) فأخبره، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان وأصحاب السنن إلا النسائي. قال العراقي: إسناده حسن. وروى أحمد والشيخان عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسير له فناموا عن صلاة الفجر فاستيقظوا بحر الشمس فارتفعوا قليلا حتى استقلت الشمس (1) ثم أمر مؤذنا فأذن. فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام ثم صلى الفجر. وظاهر الاحاديث أنها تقضى قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها، سواء كان فواتها لعذر أو لغير عذر وسواء فاتت وحدها أو مع الصبح. سنة الظهر: ورد في سنة الظهر أنها أربع ركعات أو ست أو ثمان، وإليك بيانها مفصلا: ما ورد في أنها أربع ركعات: 1 - عن ابن عمر قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح. رواه البخاري. 2 - وعن المغيرة بن سليمان قال: سمعت ابن عمر يقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدع ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الصبح. رواه أحمد بسند جيد.   (1) أي تحولوا حتى ارتفعت الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ما ورد في أنها ست: 1 - عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان يصلي قبل الظهر أربعا واثنتين بعدها. رواه أحمد ومسلم وغيرهما. 2 - وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، ورواه مسلم مختصرا. ما ورد في أنها ثمان ركعات: 1 - عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى أربعا قبل الظهر وأربعا بعدها حرم الله لحمه على النار، رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي. 2 - عن أبي أيوب الانصاري: (أنه كان يصلي أربع ركعات قبل الظهر، فقيل له: إنك تديم هذه الصلاة فقال: إني رأيت رسول الله يفعله، فسألته فقال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحببت أن يرفع لي فيها عمل صالح) رواه أحمد وسنده جيد. فضل الاربع قبل الظهر: 1 - عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الفجر على كل حال. رواه أحمد والبخاري. وروى عنها أنه كان يصلي قبل الظهر أربعا يطيل فيهن القيام ويحسن فيهن الركوع والسجود. ولا تعارض بين ما في حديث ابن عمر من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبين باقي الاحاديث الاخرى من أنه كان يصلي أربعا. قال الحافظ في الفتح: والاولى أن يحمل على حالين فكان تارة يصلي اثنتين وتارة يصلي أربعا. وقيل: هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته يصلي أربعا، ويحتمل أنه كان يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ما في بيته واطلعت عائشة على الامرين. ويقوي الاول ما رواه أحمد وأبو داود في حديث عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج، قال أبو جعفر الطبري: الاربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها. وإذا صلى أربعا قبلها أو بعدها الافضل أن يسلم بعد كل ركعتين، ويجوز أن يصليها متصلة بتسليم واحد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) رواه أبو داود بسند صحيح. قضاء سنتي الظهر: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها. رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وروى ابن ماجه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الاربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر (1) . هذا في قضاء الراتية القبلية أما قضاء الراتبة البعدية فقد جاء فيه ما رواه أحمد عن أم سلمة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، وقد أتي بمال، فقعد يقسمه حتى أتاه المؤذن بالعصر، فصلى العصر ثم انصرف إلي، وكان يومي، فركع ركعتين خفيفتين، فقلنا: ما هاتان الركعتان يا رسول الله، أمرت بهما؟ قال: (لا..ولكنهما ركعتان كنت أركعهما بعد الظهر فشغلني قسم هذا المال حتى جاء المؤذن بالعصر فكرهت أن أدعهما (2)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود بلفظ آخر. سنة المغرب: يسن بعد صلاة المغرب صلاة ركعتين لما تقدم عن ابن عمر أنهما من الصلاة التي لم يكن يدعها النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) السنن القبلية يمتد وقتها إلى آخر وقت الفريضة. (2) في بعض الروايات فقلت: يا رسول الله أتمضيهما إذا فاتا؟ قال: (لا) قال البيهقي: هي رواية ضعيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ما يستحب فيها: يستحب في سنة المغرب أن يقرأ فيها بعد الفاتحة ب (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) . فعن ابن مسعود أنه قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر ب (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه. وكذا يستحب أن تؤدى في البيت. فعن محمود بن لبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الاشهل فصلى بهم المغرب، فلما سلم قال (اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليهما في بيته. سنة العشاء: تقدم من الاحاديث ما يدل على سنية الركعتين بعد العشاء. السنن غير المؤكدة ما تقدم من السنن والرواتب يتأكد أداؤه وبقيت سنن أخرى راتبة يندب الاتيان بها من غير تأكيد، نذكرها فيما يلي: (1) ركعتان أو أربع قبل العصر: وقد ورد فيها عدة أحاديث متكلم فيها ولكن لكثرة طرقها يؤيد بعضها بعضا، فمنها حديث ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، وكذا صححه ابن خزيمة. ومنها حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعا يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه. وأما الاقتصار على ركعتين فقط فدليله عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 (2) ركعتان قبل المغرب: روى البخاري عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب) ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة. وفي رواية لابن حبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين. وفي مسلم عن ابن عباس قال: كنا نصلي ركعتين قبل غروب الشمس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا. قال الحافظ في الفتح: ومجموع الادلة يرشد إلى استحباب تخفيفها كما في ركعتي الفجر. (3) ركعتان قبل العشاء: لما رواه الجماعة من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة) ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) . ولابن حبان من حديث ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) . استحباب الفصل بين الفريضة والنافلة بمقدار ختم الصلاة: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فقام رجل يصلي فرآه عمر فقال له اجلس فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحسن ابن الخطاب) رواه أحمد بسند صحيح. الوتر: (1) فضله وحكمه: الوتر سنة مؤكدة حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب فيه. فعن علي رضي الله عنه أنه قال: إن الوتر ليس بحتم (1) كصلاتكم المكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر، ثم قال: (يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر (2) يحب الوتر) قال نافع: وكان ابن عمر لا يصنع شيئا إلا وترا.   (1) حتم: أي لازم. (2) أي أنه تعالى واحد يحب صلاة الوتر ويثيب عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي ورواه الحاكم أيضا وصححه. وما ذهب إليه أبو حنيفة من وجوب الوتر فمذهب ضعيف. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أبا حنيفة في هذا. وعند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه أن المخدجي (رجل من بني كنانة) أخبره رجل من الانصار يكنى أبا محمد أن الوتر واجب، فراح المخدجي إلى عبادة بن الصامت فذكر له أن أبا محمد يقول: الوتر واجب. فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد (1) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (خمس صلوات كتبهن الله تبارك وتعالى على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله تبارك وتعالى عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وعند البخاري ومسلم من حديث طلحة بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) فقال الاعرابي: هل علي غيرها؟ قال: (لا. إلا أن تطوع) . (2) وقته: أجمع العلماء على أن وقت الوتر لا يدخل إلا بعد صلاة العشاء وأنه يمتد إلى الفجر. فعن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه أن عمرو بن العاص خطب الناس يوم جمعة فقال: إن أبا بصرة حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر) قال أبو تميم: فأخذ بيدي أبو ذر فسار في المسجد إلى أبي بصرة رضي الله عنه فقال: أنت سمعت رسول الله يقول ما قال عمرو؟ قال أبو بصرة: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن أبي مسعود الانصاري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر أول الليل وأوسطه وآخره. رواه أحمد بسند صحيح. وعن عبد الله بن أبي قيس قال سألت عائشة رضي الله عنها عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ربما أوتر أول الليل وربما أوتر من آخره، قلت: كيف كانت قراءته، أكان يسر   (1) كذب أبو محمد: أي أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، وربما أسر وربما جهر، وربما اغتسل فنام وربما توضأ فنام (تعني في الجنابة) رواه أبو داود. ورواه أيضا أحمد ومسلم والترمذي. (3) استحباب تعجيله لمن ظن أنه لا يستيقظ آخر الليل، وتأخيره لمن ظن أنه يستيقظ آخره: يستحب تعجيل الصلاة الوتر أول الليل لمن خشي أن لا يستيقظ آخره، كما يستحب تأخيره إلى آخر الليل لمن ظن أنه يستيقظ آخره. فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ظن منكم أن لا يستيقظ آخره (أي الليل) فليوتر أوله ومن ظن منكم أنه يستيقظ آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل محضورة (1) وهي أفضل) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي بكر: (متى توتر؟) . قال: أول الليل بعد العتمة (2) قال: (فأنت يا عمر) قال: آخر الليل. قال (أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالثقة (3) وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة) (4) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وانتهى الامر برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنه كان يوتر وقت السحر لانه الافضل كما تقدم. قالت عائشة رضي الله عنها: من كل الليل قد أوتر النبي صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر. رواه الجماعة. ومع هذا فقد وصى بعض أصحابه بألا ينام إلا على وتر أخذا بالحيطة والحزم. وكان سعد بن أبي وقاص يصلي العشاء الاخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يوتر بواحدة ولا يزيد عليها. فقيل له: أتوتر بواحدة لا تزيد عليها يا أبا اسحق؟ قال: نعم..إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذي لا ينام حتى يوتر حازم) رواه أحمد ورجاله ثقات.   (1) أي تحضرها الملائكة. (2) أي العشاء. (3) أي الحزم والحيطة. (4) أي العزيمة على القيام آخر الليل. (4) عدد ركعات الوتر: قال الترمذي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الوتر بثلاث عشرة ركعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وتسع، وسبع، وخمس، وثلاث، وواحدة. قال إسحق بن إبراهيم: معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة ركعة أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، يعني من جملتها الوتر فنسبت صلاة الليل إلى الوتر. ويجوز أداء الوتر ركعتين (1) ، ثم صلاة ركعة بتشهد وسلام، كما يجوز صلاة الكل بتشهدين وسلام، فيصل الركعات بعضها ببعض من غير أن يتشهد إلا في الركعة التي هي قبل الاخيرة فيتشهد فيها ثم يقوم إلى الركعة الاخيرة فيصليها ويتشهد فيها ويسلم، ويجوز أداء الكل بتشهد واحد وسلام في الركعة الاخيرة، كل ذلك جائز وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن القيم: وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة، وسبع متصلة. كحديث أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بسلام ولا بكلام. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند جيد، وكقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرهن. متفق عليه، وكحديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ثم يقعد ويتشهد ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الاول. وفي لفظ عنها: فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة. وفي لفظ: صلى سبع ركعات لا قعد إلا في آخرهن. أخرجه الجماعة، وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها سوى قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهو حديث صحيح، لكن الذي قاله هو الذي أوتر بالسبع والخمس، وسننه كلها حتى يصدق بعضها بعضا. فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل عن صلاة الليل بأنها مثنى مثنى ولم يسأله عن الوتر. وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها، وللخمس والسبع والتسع المتصلة كالمغرب اسم للثلاثة المتصلة، فإن   (1) أي يسلم على رأس كل ركعتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالاحدى عشرة كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها. كما قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة توتر له ما قد صلى) فاتق فعله صلى الله عليه وسلم وقوله وصدق بعضه بعضا. (5) القراءة في الوتر: يجوز القراءة في الوتر بعد الفاتحة بأي شئ من القرآن، قال علي: ليس من القرآن شئ مهجور فأوتر بما شئت. ولكن المستحب إذا أوتر بثلاث أن يقرأ في الاولى بعد الفاتحة (سبح اسم ربك الاعلى) وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة (قل هو الله أحد، والمعوذتين) . لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الاولى ب (سبح اسم ربك الاعلى) وفي الثانية ب (قل يا أيها الكافرون) وفي الثالثة ب (قل هو الله أحد، المعوذتين) . (6) القنوت في الوتر: يشرع القنوت في الوتر في جميع السنة، لما رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لاى ذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، وصلى الله على النبي محمد) . قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شئ أحسن من هذا. وقال النووي: إسناده صحيح، وتوقف ابن حزم في صحته، فقال هذا الحديث وإن لم يكن مما يحتج به فإنا لم نجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره والضعيف من الحديث أحب إلينا من الرأي، قال ابن حنبل وهذا مذهب ابن مسعود، وأبي موسى، وابن عباس، والبراء، وأنس، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وابن المبارك، والحنفية، ورواية عن أحمد. قال النووي: وهذا الوجه قوي في الدليل. وذهب الشافعي وغيره إلى أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الاخير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 رمضان، لما رواه أبو داود أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب وكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت إلا في النصف الباقي من رمضان. وروى محمد بن نصر أنه سأل سعيد بن جبير عن بدء القنوت في الوتر فقال: بعض عمر بن الخطاب جيشا فتورطوا متورطا خاف عليهم، فلما كان النصف الاخر من رمضان قنت يدعو لهم. (7) محل القنوت: يجوز القنوت قبل الركوع بعد الفراغ من القراءة، ويجوز كذلك بعد الرفع من الركوع، فعن حميد قال: سألت أنسا عن القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ فقال كنا نفعل قبل وبعد. رواه ابن ماجه ومحمد بن نصر. قال الحافظ في الفتح: إسناده قوي. وإذا قنت قبل الركوع كبر رافعا يديه بعد الفراغ من القراءة وكبر كذلك بعد الفراغ من القنوت، روي ذلك عن بعض الصحابة. وبعض العلماء استحب رفع يديه عند القنوت وبعضهم لم يستحب ذلك. وأما مسح الوجه بهما فقد قال البيهقي: الاولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة. (8) الدعاء بعده: يستحب أن يقول المصلي بعد السلام من الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاث مراتى رفع صوته بالثالثة ثم يقول: رب الملائكة والروح، لما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي بن كعب قال: كانر سول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ب (سبح اسم ربك الاعلى) و (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) . فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، يمد بها صوته في الثالثة ويرفع. وهذا لفظ النسائي. زاد الدارقطني، ويقول: رب الملائكة والروح، ثم يدعو بما رواه أحمد وأصحاب السنن عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره. (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 (9) لا وتران في ليلة: من صلى الوتر ثم بدا له أن يصلي جاز ولا يعيد الوتر. لما رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وتران في ليلة) . وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، رواه مسلم. وعن أم سلمة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يركع ركعتين بعد الوتر وهو جالس، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. (10) قضاؤه: ذهب جمهور العلماء إلى مشروعية قضاء الوتر لما رواه البيهقي والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر) . وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره) قال العراقي إسناده صحيح. وعند أحمد والطبراني بسند حسن: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصبح فيوتر. واختلفوا في الوقت الذي يقضى فيه، فعند الحنفية يقضى في غير أوقات النهي، وعند الشافعية يقضى في أي وقت من الليل أو من النهار، وعند مالك وأحمد يقضى بعد الفجر ما لم تصل الصبح. القنوت في الصلوات الخمس يشرع القنوت جهرا في الصلوات الخمس عند النوازل، فعن ابن عباس قال: قنت الرسول صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا. في الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الاخيرة: يدعو عليهم، على حي من بني سليم وعل رعل وذكوان وعصية (1) ويؤمن من خلفه. رواه أبو داود وأحمد، وزاد: أرسل إليهم يدعوهم إلى الاسلام فقتلوهم. قال عكرمة: كان هذا مفتاح القنوت: وعن أبي هريرة   (1) رعل وذكوان وعصية: قبائل من بني سليم زعموا أنهم أسلموا فطلبوا من الرسول أن يمدهم من يفقههم فأمدهم بسبعين فقتلوهم، فكان ذلك سبب القنوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لاحد قنت بعد الركوع. فربما قال، إذا قال سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك (1) على مضر واجعلها عليهم سنين كسني (2) يوسف) قال يجهر بذلك ويقولها في بعض صلاته، وفي صلاة الفجر (اللهم ألعن فلانا وفلانا) حيين من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى: (ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) رواه أحمد والبخاري. القنوت في صلاة الصبح: القنوت في صلاة الصبح غير مشروع إلا في النوازل ففيها يقنت فيه وفي سائر الصلوات كما تقدم. روى أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه. عن أبي مالك الاشجعي قال: كان أبي قد صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وأبي بكر وعمر وعثمان. فقلت أكانوا يقنتون؟ قال: لا: أي بني محدث. وروى ابن حبان والخطيب وابن خزيمة وصححه، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الصبح إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم (3) . وروى الزبير والخلفاء الثلاثة أنهم كانوا لا يقنتون في صلاة الفجر. وهو مذهب الحنفية والحنابلة وابن المبارك والثوري وإسحاق. ومذهب الشافعية أن القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع من الركعة الثانية سنة، لما رواه الجماعة إلا الترمذي عن ابن سيرين أن أنس بن مالك سئل: هل قنت النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ فقال: نعم. فقيل له: قبل الركوع أو بعده؟ قال: بعد الركوع. ولما رواه أحمد والبزار والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه عنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.   (1) الوطأة: الضغطة والاخذة الشديدة. (2) هي السنن المذكورة في القرآن. (3) هذا لفظ ابن حبان، ولفظ غيره بدون ذكر (في صلاة الصبح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وفي هذا الاستدلال نظر، لان القنوت المسؤول عنه هو قنوت النوازل كما جاء ذلك صريحا في رواية البخاري ومسلم. وأما الحديث الثاني ففي سنده أبو جعفر الرازي وهو ليس بالقوي، وحديثه هذا لا ينهض للاحتجاج به، إذ لا يعقل أن يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفجر طول حياته ثم يتركه الخلفاء من بعده، بل إن أنسا نفسه لم يكن يقنت في الصبح كما ثبت ذلك عنه، ولو سلم صحة الحديث فيحمل القنوت المذكور فيه على أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بعد الركوع للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، فإن هذا معنى من معاني القنوت وهو هنا أنسب. ومهما يكن من شئ فإن هذا من الاختلاف المباح الذي يستوي فيه الفعل والترك وإن خير الهدي محمد صلى الله عليه وسلم. قيام الليل : (1) فضله: 1 - أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) . وهذا الامر وإن كان خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عامة المسلمين يدخلون فيه بحكم أنهم مطالبون بالاقتاء به صلى الله عليه وسلم. 2 - بين أن المحافظين على قيامه هم المحسنون المستحقون لخيره ورحمته فقال: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالاسحار هم يستغفرون) . 3 - ومدحهم وأثنى عليهم ونظمهم في جملة عباده الابرار فقال: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) . 4 - وشهد لهم بالايمان بآياته فقال: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا   (1) يهجعون: أي ينامون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) . 5 - ونفى التسوية بينهم وبين غيرهم ممن لم يتصف بوصفهم فقال: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب) . هذا بعض ما جاء في كتاب الله، أما ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهاك بعضه: 1 - قال عبد الله بن سلام: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأملت وجهه واستبنته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: (أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الارحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) رواه الحاكم وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 2 - وقال سلمان الفارسي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكن إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الاثم، ومطردة للداء عن الجسد) . 3 - وقال سهل بن سعد: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس) . 4 - وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل. فإما أن يقتل وإما أن ينصره الله عز وجل ويكفيه فيقول: انظروا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه. والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم من الليل فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد. والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء) . (2) آدابه: يسن لمن أراد قيام الليل ما يأتي: 1 - أن ينوي عند نومه قيام الليل. فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه) رواه النسائي وابن ماجه بسند صحيح. 2 - أن يمسح النوم عن وجهه عند الاستيقاظ ويتسوك وينظر في السماء ثم يدعو بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (لا إله إلا أنت سبحانك، أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، ثم يقرأ الايات العشر من أواخر سورة آل عمران: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولى الالباب) إلى آخر السورة ثم يقول: (اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السموات والارض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، ما أسررت وما أعلنت، أنت الله لا إله إلا أنت) . 3 - أن يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ثم يصلي بعدهما ما شاء، فعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين) رواهما مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 4 - أن يوقظ أهله. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرء قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) . وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كتب في الذاكرين والذاكرات) رواهما أبو داود وغيره بإسناد صحيح. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: (سبحان الله، ماذا أنزل الليلة من الفتنة، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) رواه البخاري. عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة، فقال: (ألا تصليان؟) قال فقالت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله. فإن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: (وكان الانسان أكثر شئ جدلا) متفق عليه. 5 - أن يترك الصلاة ويرقد إذا غلبه النعاس حتى يذهب عنه النوم، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع) رواه مسلم. وقال أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين فقال: (ما هذا؟) قالوا: لزينب تصلي، إذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليرقد) متفق عليه. 6 - أن لا يشق على نفسه بل يقوم من الليل بقدر ما تتسع له طاقته، ويواظب عليه ولا يتركه إلا لضرورة. فعن عائشة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا من الاعمال ما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا) (1) رواه البخاري ومسلم. ورويا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: (أدومه وإن قل) . وروى مسلم عنها قالت: كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة. وكان إذا عمل عملا أثبته. وعن عبد الله بن عمر   (1) معنى الحديث: أن الله لا يقطع الثواب حتى تقطعوا العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه. ورويا عن ابن مسعود قال: (ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام حتى أصبح قال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) أو قال (في أذنه) ورويا عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابيه: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا. (3) وقته: صلاة الليل تجوز في أول الليل ووسطه وآخره ما دامت الصلاة بعد صلاة العشاء. قال أنس رضي الله عنه في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنا نشاء أن نراه من الليل مصليا إلا رأيناه، وما كنا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه، وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا. رواه أحمد والبخاري والنسائي. قال الحافظ: لم يكن لتهجده صلى الله عليه وسلم وقت معين بل بحسب ما يتيسر له القيام. (4) أفضل أوقاتها: الافضل تأخيرها إلى الثلث الاخير: 1 - فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فعطيه، من يستغفرني فأغفر له) رواه الجماعة. 2 - وعن عمرو بن عبسة قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل الاخير فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أيضا النسائي وابن خزيمة. 3 - وقال أبو مسلم لابي ذر: أي قيام الليل أفضل؟ قال سألت رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: (جوف الليل الغابر (1) وقليل فاعله) رواه أحمد بإسناد جيد. 4 - وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما) رواه الجماعة إلا الترمذي. (5) عدد ركعاته: ليس لصلاة الليل عدد مخصوص ولا حد معين، فهي تتحقق ولو بركعة الوتر بعد صلاة العشاء. 1 - فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي من الليل ما قل أو كثر ونجعل آخر ذلك وترا. رواه الطبراني والبزار. 2 - وروى عن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي تعدل بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام تعدل بمائة ألف صلاة. والصلاة بأرض الرباط (2) تعدل بألفي ألف صلاة، وأكثر من ذلك كله الركعتان يصليهما العبد في جوف الليل) رواه أبو الشيخ وابن حبان في كتابه (الثواب) وسكت عليه المنذري في (الترغيب والترهيب) . 3 - وعن إياس بن معاوية المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا بد من صلاة بليل ولو حلب (3) شاة، وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل) رواه الطبراني ورواته ثقات إلا محمد بن إسحق. 4 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نصفه، ثلثه، ربعه،   (1) الغابر: الباقي أو نصف الليل. (2) المكان الذي ينتظر فيه المجاهدون. (3) أي قدر الوقت الذي تحلب الشاة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فواق (1) حلب ناقة، فواق حلب شاة) . 5 - وروى عنه أيضا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل ورغب فيها حتى قال: (عليكم بصلاة الليل ولو ركعة) رواه الطبراني في الكبير والاوسط. والافضل المواظبة على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهو مخير بين أن يصليها وبين أن يقطعها. قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: (يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) رواه البخاري ومسلم. ورويا أيضا عن القاسم بن محمد قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة. (6) قضاء قيام الليل: روى مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة. وروى الجماعة إلا البخاري عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل) . قيام رمضان (1) مشروعية قيام رمضان: قيام رمضان أو صلاة التراويح (2) سنة الرجل والنساء (3) تؤدى بعد   (1) قال المنذري: الفواق هنا: قدر ما بين رفع يديك عن الضرع وقت الحلب وضمهما. (2) جمع ترويحة، تطلق في الاصل على الاستراحة كل أربع ركعات ثم أطلقت على كل أربع ركعات. (3) عن عرفجة قال: كان علي يأمر بقيام رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما، فكنت أنا إمام النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 صلاة العشاء، وقبل الوتر ركعتين ركعتين، ويجوز أن تؤدى بعده ولكنه خلاف الافضل، ويستمر وقتها إلى آخر الليل. روى الجماعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة، فيقول: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا (1) غفر له ما تقدم من ذنبه) ورووا إلا الترمذي عن عائشة قالت: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فصلى بصلاته ناس كثير ثم صلى من القابلة فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: (قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم) وذلك في رمضان. (2) عدد ركعاته: روى الجماعة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة. وروى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثماني ركعات والوتر، ثم انتظروه في القابلة فلم يخرج إليهم. وروى أبو يعلى والطبراني بسند حسن عنه قال: جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان مني الليلة شئ، يعني في رمضان، قال: (وما ذاك يا أبي؟) قال: نسوة في داري قلن: إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك؟ فصليت بهن ثماني ركعات وأوترت، فكانت سنة الرضا ولم يقل شيئا. هـ ذا هو المسنون الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه شئ غير ذلك، وصح أن الناس كانوا يصلون على عهد عمر وعثمان وعلي عشرين ركعة، وهو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة وداود، قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، وقال: هكذا أدركت الناس بمكة يصلون عشرين ركعة (2) قال الزرقاني: وذكر ابن حبان أن التراويح كانت أولا إحدى عشرة ركعة، وكانوا يطيلون القراءة فثقل عليهم فخففوا القراءة وزادوا في عدد الركعات فكانوا يصلون عشرين ركعة غير الشفع والوتر بقراءة متوسطة، ثم خففوا القراءة وجعلوا الركعات ستا وثلاثين غير الشفع والوتر، ومضى الامر على ذلك.   (1) إيمانا: تصديقا. واحتسابا: يريد به وجه الله. (2) وذهب مالك الى أن عددها ست وثلاثون ركعة غير الوتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ويرى بعض العلماء أن المسنون إحدى عشرة ركعة بالوتر والباقي مستحب. قال الكمال ابن الهمام: الدليل يقتضي أن تكون السنة من العشرين ما فعله صلى الله عليه وسلم ثم تركه خشية أن يكتب علينا، والباقي مستحب. وقد ثبت أن ذلك كان إحدى عشرة ركعة بالوتر كما في الصحيحين، فإذن يكون المسنون على أصول مشايخنا ثمانية منها والمستحب اثنى عشرة. (3) الجماعة فيه: قيام رمضان يجوز أن يصلى في جماعة كما يجوز أن يصلى على انفراد، ولكن صلاته جماعة في المسجد أفضل عند الجمهور. وقد تقدم ما يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين جماعة ولم يداوم على الخروج خشية أن يفرض عليهم ثم كان أن جمعهم عمر على إمام. قال عبد الرحمن ابن عبد القاري: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل (1) ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه في ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعمت البدعة هذه (2) والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل (3) . وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري وابن خزيمة والبيهقي وغيرهم. (4) القراءة فيه: ليس في القراءة في قيام رمضان شئ مسنون، وورد عن السلف أنهم كانوا يقومون المائتين ويعتمدون على العصي من طوم القيام، ولا ينصرفون إلا قبيل بزوغ الفجر فيستعجلون الخدم بالطعام مخافة أن يطلع عليهم. وكانوا يقومون بسورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قرئ بها في اثنتي عشرة ركعة عد ذلك تخفيفا.   (1) أمثل: أي أفضل. (2) أي: جمعهم على إمام واحد. (3) أي: أن صلاتها آخر الليل أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قال ابن قدامة: قال أحمد: (يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخفف على الناس ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار (1)) وقال القاضي: لا يستحب النقصان من ختمة في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه، والتقدير بحال الناس أولى، فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل كان أفضل، كما قال أبو ذر: (قمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، يعني السحور. وكان القارئ يقرأ بالمائتين) . صلاة الضحى : (1) فضلها: ورد في فضل صلاة الضحى أحاديث كثيرة، نذكر منها ما يلي: 1 - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامي (2) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحمية صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من (3) ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. 2 - ولاحمد وأبي داود عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في الانسان ستون وثلاثمائة مفصل عليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) قالوا فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: (النخامة في المسجد يدفنها أو الشئ ينحيه عن الطريق، فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنه) . قال الشوكاني: (والحديثان يدلان على عظم فضل الضحى وكبر موقعها وتأكد مشروعيتها وأن ركعتيها تجزيان عن ثلثمائة وستين صدقة، وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة. ويدلان أيضا على مشروعية الاستكثار من التسبيح والتحميد والتهليل، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودفن   (1) كليالي الصيف. (2) عظام البدن ومفاصله. (3) يجزي - بفتح أوله - بمعنى يكفي، أو بضمنه ويكون من الاجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 النخامة، وتنحية ما يؤذي المار عن الطريق وسائر أنواع الطاعات لنسقط بذلك ما على الانسان من الصدقات اللازمة في كل يوم) . 3 - وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عزوجل: ابن آدم لا تعجزن عن أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) رواه الحاكم والطبراني ورجاله ثقات. رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن نعيم الغطفاني بسند جيد. ولفظ الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى: (إن الله تعالى قال: (ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره) . 4 - عن عبد الله بن عمرو قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية (1) فغنموا وأسرعوا الرجعة، فتحدث الناس بقرب مغزاهم (2) وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك (3) رجعة؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) رواه أحمد والطبراني. وروى أبو يعلى نحوه. 5 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: (بصيام ثلاثة أيام في كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) . رواه البخاري ومسلم. 6 - وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال: (إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين (4) ففعل، وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته ألا يلبسهم شيعا فأبى علي) رواه أحمد والنسائي والحاكم وابن خزيمة وصححاه.   (1) فرقة من الجيش. (2) انتهاء الغزو بسرعة. (3) قرب. (4) ألا يبتلي أمتي بالسنين: أي بالقحط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 (2) حكمها: صلاة الضحى عبادة مستحبة فمن شاء ثوابها فليؤدها وإلا فلا تثريب عليه في تركها، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها) رواه الترمذي وحسنه. (3) وقتها: يبتدى أوقتها بارتفاع الشمس قدر رمح وينتهي حين الزوال ولكن المستحب أن تؤخر إلى أن ترتفع الشمس ويشتد الحر. فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء (1) وهم يصلون الضحى فقال: (صلاة الاوابين (2) إذا رمضت الفصال (3) من الضحى) . رواه أحمد ومسلم والترمذي. (4) عدد ركعاتها: أقل ركعاتها اثنتان كما تقدم في حديث أبي ذر وأكثر ما ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات، وأكثر ما ثبت من قوله اثنتا عشرة ركعة. وقد ذهب قوم - منهم أبو جعفر الطبري وبه جزم المليمي والروياني من الشافعية - إلى أنه لاحد لاكثرها. قال العراقي في شرح الترمذي: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين أنه حصرها في اثنتي عشرة ركعة. وكذا قال السيوطي. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه سئل: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلونها؟ فقال: نعم..كان منهم من يصلي ركعتين، ومنهم من يصلي أربعا، ومنهم من يمد إلى نصف النهار. وعن إبراهيم النخعي أن رجلا سأل الاسود بن يزيد: كم أصلي الضحى؟ قال: كما شئت. وعن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سبحة الضحى ثماني ركعات   (1) قباء: مكان بينه وبين المدينة نحو من ميلين. (2) الاوابين: الراجعين إلى الله. (3) رمضت: احترقت. والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة: أي إذا وجدت الفصال حر الشمس، ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 يسلم من كل ركعتين. رواه أبو داود بإسناد صحيح. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. صلاة الاستخارة : يسن لمن أراد أمرا من الامور المباحة (1) والتبس عليه وجه الخير فيه أن يصلي ركعتين من غير الفريضة ولو كانتا من السنن الراتبة أو تحية المسجد في أي وقت من الليل أو النهار يقرأ فيهما بما شاء بعد الفاتحة، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بالدعاء الذي رواه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور كلها (2) كما يعلمنا السورة من القرآن بقول: (إذا هم أحدكم بالامر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: (اللهم أستخيرك (3) بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر (4) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله (5) فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به) قال: ويسمي حاجته: أي يسمي حاجته عند قوله: (اللهم إن كان هذا الامر) . ولم يصح في القراءة فيها شئ مخصوص، كما لم يصح شئ في استحباب تكرارها. قال النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا   (1) الواجب والمندوب مطلوب الفعل، والمحرم والمكروه مطلوب الترك، ولهذا لا تجرى الاستخارة إلا في أمر مباح. (2) قال الشوكاني: هذا دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه مما قرب أمر يستخف بأمره فيكون في الاقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله) . (3) أستخيرك: أي أطلب منك الخيرة أو الخير. (4) يسمي حاجته هنا. (5) يجمع بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ينبغي أن يعتمد على انشراح كان فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبري من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه. صلاة التسبيح : عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ابن عبد المطلب: (يا عباس يا عماه، ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك (1) ، ألا أفعل بك عشر خصال (2) ، إذا أنت فعلت ذلك غفر الله ذنبك أوله وآخره، وقديمه وحديثه، وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته. عشر خصال: أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة (3) ، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة فقل وأنت قائم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمس عشرة، ثم تركع فتقول وأنت راكع عشرا (4) ثم ترفع رأسك من الركوع. فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقول وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا (5) . فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات. وإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة) . رواه أبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والطبراني. قال الحافظ: وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وعن جامعة من الصحابة. وأمثلها حديث عكرمة هذا، وقد صححه جماعة: منهم الحافظ أبو بكر الاجري، وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري، وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي رحمهم الله. وقال ابن المبارك: صلاة التسبيح مرغب فيها، يستحب أن يعتادها في كل حين ولا يتغافل عنها.   (1) أي أخصك. (2) أي أعلمك ما يكفر عشر أنواع من ذنوبك. (3) أي سورة دون تقييد. (4) أي بعد ذكر الركوع، وكذا في كل الحالات يأتي المصلى بالذكر بعد الاتيان بذكر كل ركن. (5) أي في جلسة الاستراحة قبل القيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 صلاة الحاجة : روى أحمد بسند صحيح عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجلا أو مؤخرا) . صلاة التوبة : عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي (1) ثم يستغفر الله إلا غفر له. ثم قرأ هذه الاية: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ... ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) (2) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والترمذي وقال: حديث حسن. وروى الطبراني في الكبير بسند حسن عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا مكتوبة أو غير مكتوبة يحسن فيهن الركوع والسجود ثم استغفر الله غفر له) . صلاة الكسوف : (3) اتفق العلماء على أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة في حق الرجال والنساء، وأن الافضل أن تصلى في جماعة وإن كانت الجماعة ليست شرطا فيها، وينادى لها: (الصلاة جامعة) والجمهور من العلماء على أنها ركعتان، في كل ركعة ركوعان، فعن عائشة قالت: خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ قراءد طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من القراءة   (1) أي ركعتين: لرواية ابن حبان والبيهقي وابن خزيمة. (2) سورة آل عمران: الاية 135، 136. (3) أي: كسوف الشمس والقمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الاولى، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الاولى، ثم كبر فركع ركوعا هو أدنى من الركوع الاول ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. ثم سجد، ثم فعل في الركعة الاخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات (1) وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب (2) الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم. ورويا أيضا عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الاول، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا، وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الاول. ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الاول، ثم ركع ركوعا طويلا، وهو دون الركوع الاول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله) . قال ابن عبد البر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب. وقال ابن القيم: السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صلاة الكسوف تكرار الركوع في كل ركعة، لحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الاشعري. كلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم تكرار الركوع في الركعة الواحدة، والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا وأجل وأخص برسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين لم يذكروه. وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة، لحديث النعمان بن بشير قال: صلى   (1) الركعة الاولى المقصود بها الركوع. (2) استدل الشافعي بهذا على أن الخطبة من شروط الصلاة. وقال أبو حنيفة ومالك: لا خطبة في صلاة الكسوف، وإنما خطب الرسول ليرد على من زعم أن الشمس كسفت بسبب موت إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكسوف نحو صلاتكم، يركع ويسجد ركعتين ركعتين ويسأل الله، حتى تجلت الشمس. وفي حديث قبصة الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة) رواه أحمد والنسائي. وقراءة الفاتحة واجبة في الركعتين كلتيهما ويتخير المصلي بعدها ما شاء من القرآن. ويجوز الجهر بالقراءة والاسرار بها، إلا أن البخاري قال: إن الجهر أصح. ووقتها من حين الكسوف إلى التجلي. وصلاة خسوف القمر مثل صلاة كسوف الشمس. قال الحسن البصري: خسف القمر، وابن عباس أمير على البصرة، فخرج فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين (1) ثم ركب وقال: إنما صليت كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. رواه الشافعي في المسند. ويستحب التكبير (والدعاء والتصدق والاستغفار) لما رواه البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا) . ورويا عن أبي موسى قال: خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى وقال: (إذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره) . صلاة الاستسقاء : الاستسقاء: طلب سقي الماء، ومعناه هنا طلبه من الله تعالى عند حصول الجدب وانقطاع المطر على وجه من الاوجه الاتية: 1 - أن يصلي الامام بالمأمومين (2) ركعتين في أي وقت غير وقت الكراهة: يجهر في الاولى بالفاتحة و (سبح اسم ربك الاعلى) . والثانية بالغاشية بعد الفاتحة، ثم خطبة بعد الصلاة أو قبلها. فإذا انتهى من الخطبة حول المصلون جميعا أرديتهم بأن يجعلوا ما على أيمانهم على شمائلهم ويجعلوا على ما شمائلهم على أيمانهم ويستقبلوا القبلة، ويدعوا الله عز وجل رافعي أيديهم مبالغين في   (1) ركعتين: أي ركوعين. (2) من غير أذان ولا إقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ذلك، فعن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعا، متبدلا متخشعا، مترسلا (1) متضرعا فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه) رواه الخمسة وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان. وعن عائشة قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط (2) المطر فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب (3) الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم) ثم قال: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد: اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغا إلى حين) ثم رفع يديه فلم يزل (يدعو) حتى رؤي بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله تعالى سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى فلم يأت مسجده حتى سألت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن (4) ضحك حتى بدت نواجذه فقال: (أشهد أن الله على كل شئ قدير وأني عبد الله ورسوله) رواه الحاكم وصححه وأبو داود وقال: هذا حديث غريب وإسناده جيد. وعن عباد بن تميم عن عمر عبد الله بن زيد المازني: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما، الحديث أخرجه الجماعة. وقال أبو هريرة: (خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم يوما يستسقي وصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه فجعل الايمن على الايسر والايسر على الايمن) رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي. 2 - أن يدعو الامام في خطبة الجمعة ويؤمن المصلون على دعائه لما رواه البخاري ومسلم عن شريك عن أنس أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال: يا رسول الله هلكت   (1) متبدلا: لابسا ثياب العمل. مترسلا: متأليا. (2) قحوط المطر: أي احتباسا. (3) حاجب الشمس أي ضوءها. (4) الكن: البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الاموال، وانقطعت السبل (1) فادع إلينا يغيثنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة (2) . وما بيننا وبين سلع (3) من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس (4) ، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتا (5) ثم دخل رجل (6) من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الاكام (7) والظراب (8) ، وبطون الاودية ومنابت الشجر) فأقلعت (9) ، وخرجنا نمشي في الشمس. 3 - أن يدعو دعاء مجردا في غير يوم الجمعة وبدون صلاة في المسجد أو خارجه، لما رواه ابن ماجه وأبو عوانة أن ابن عباس قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم لا يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل (10) فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فحمد الله. ثم قال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا (11) مريئا مريعا طبقا غدقا عاجلا غير رائث) ثم نزل فما يأتيه أحد من وجه من الوجوه إلا قالوا قد أحيينا) رواه ابن ماجه وأبو عوانة ورجاله ثقات، وسكت عليه الحافظ في التلخيص. وعن شرحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرة: يا كعب، حدثنا عن   (1) أي لا يجدون ما يحملونه إلى السوق. (2) السحاب المتفرق. (3) سلع: جبل. (4) أي في استدارتها. (5) أسبوعا. (6) السائل الذي طلب الدعاء أو لا، دخل بعد أسبوع يطلب من الرسول أن يدعو الله أن يمسك المطر لكثرته. (7) الاكام: جمع أكمة، وهي ما ارتفع من الارض. (8) الظراب: الروابي. (9) أقلعت: أمسكت عن المطر. (10) لا يجد الراعي زادا بسبب الجدب. ولا يحرك الفحل ذنبه هزالا. (11) غيثا مغيثا: مطرا منقذا. مريئا: محمود العاقبة. مريعا: مخصبا. طبقا: مطرا عاما. غدقا: كثيرا. رائث: مبطئ. أحيينا: أمطرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 رسول الله قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وجاءه رجل فقال: استسق الله لمضر - فقال: (إنك لجرئ..المضر؟) قال يا رسول الله استنصرت الله عز وجل فنصرك، ودعوت الله عز وجل فأجابك. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يقول: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا، مريعا مريئا، طبقا غدقا، عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار،) فأجيبوا فما لبثوا أن أتوه فشكوا إليه كثرة المطر فقالوا: قد تهدمت البيوت، فرفع يديه وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا) فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا. رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وابن شيبة والحاكم. وقال: حديث حسن صحيح إسناده على شرط الشيخين. وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح (1) السماء الذي يستنزل مدارا) . (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) الاية. رواه سعيد في سننه وعبد الرزاق والبيهقي وابن أبي شيبة. وهذه بعض الادعية الواردة. 1 - قال الشافعي: وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استسقى قال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا غدقا مجللا عاما، طبقا سحا، ائما، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين: اللهم إن بالعباد والبلاد، والبهائم، والخلق من اللاواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع. وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنبت لنا من بركات الارض: اللهم ارفع عنا الجهد، والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك: اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا) قال الشافعي: وأحب أن يدعو الامام بهذا. 2 - وعن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء (اللهم   (1) مجاديح السماء: أنواؤها. والمراد بالانواء: النجوم التي يحصل عندها المطر عادة، فشبه الاستغفار بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 جللنا (1) سحابا كثيفا، قصيفا دلوقا، ضحوكا تمطرنا منه رذاذا، قطقطا، سجلا، يا ذا الجلال والاكرام) رواه أبو عوانة في صحيحه. 3 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: (اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، واحي بلدك الميت) رواه أبو داود. (2) فيه ويستحب عند الدعاء في الاستسقاء رفع ظهور الاكف. فعند مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه الى السماء (2) . ويستحب عند رؤية المطر أن يقول: اللهم صيبا نافعا (3) . ويكشف بعض بدنه ليصيبه، ويقول إذا زادت المياه وخيف من كثرة المطر اللهم سقيا رحمة، ولا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق. اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا) فكل ذلك صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. سجود التلاوة : من قرأ آية سجدة أو سمعها يستحب له أن يكبر ويسجد سجدة ثم يكبر للرفع من السجود، وهذا يسمى سجود التلاوة ولا تشهد فيه، ولا تسليم. فعن نافع عن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. وقال أبو داود: قال عبد الرزاق: وكان الثوري يعجبه هذا الحديث وقال أبو داود: يعجبه لانه كبر. وقال عبد الله ابن مسعود: إذا قرأت سجدة فكبر واسجد، وإذا رفعت رأسك فكبر. (1) فضله: عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن   (1) جللنا: عمنا: كثيفا: متراكما. قصيفا: قويا. دلوقا: مندفعا. ضحوكا: ذا برق. رذاذا: مطر خفيفا. قطقطا: أقل من الرذاذ. (2) فيه دليل على أنه إذا أريد بالدعاء رفع البلاء فإنه يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء: وإذا دعا بسؤال شئ وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء. (3) صيبا: مطرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أمر (1) بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. (2) حكمه: ذهب جمهور العلماء إلى أن سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع لما رواه البخاري عن عمر أنه قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وفي لفظ إن الله لم يفرض علينا السجود الا أن نشاء. وروى الجماعة إلا ابن ماجه عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (والنجم) فلم يسجدها فيها. رواه الدارقطني وقال: فلم يسجد منا أحد. ورجح الحافظ في الفتح أن الترك كان لبيان الجواز، وبه جزم الشافعي. ويؤيده ما رواه البزار والدارقطني عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سورة (النجم) وسجدنا معه. قال الحافظ في الفتح: ورجاله ثقات. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (والنجم) فسجد فيها وسجد من كان معه، غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، رواه البخاري ومسلم. (3) مواضع السجود: مواضع السجود في القرآن خمسة عشر موضعا. فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمسة عشر سجدة في القرآن، منهما ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والدارقطني وحسنه المنذري والنووي، وهي: 1 - إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون. (206 - الاعراف)   (1) الويل: الهلاك، يقصد نفسه: أي يا حزن الشيطان ويا هلاكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 2 - (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال) . (15 - الرعد. 3 - (ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) (49 - النحل) 4 - (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا (107 - الاسراء) 5 - إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) (58 - مريم) 6 - (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء) . (18 - الحج) 7 - (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) (77 - الحج) 8 - (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا، وزادهم نفورا) . (60 - الفرقان) 9 - (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) . (25 - النمل) 10 - (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا به خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (15 - السجدة) 11 - (وظن داود أنما فتناه، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) (1) (24 - ص)   (1) عن أبي سعيد قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر (س) فلما بلغ السجدة نزل وسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن (تهيأ) الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود) فنزل وسجد وسجدوا. رواه أبو داود. رجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 12 - ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) . (37 - فصلت) 13 - (فاسجدوا لله واعبدوا) (62 - النجم) 14 - (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) (21 - الانشقاق) 15 - (واسجد واقترب) (19 - العلق) . (4) ما يشترط له: اشترط جمهور الفقهاء لسجود التلاوة ما اشترطوه للصلاة، من طهارة واستقبال قبلة وستر عورة. قال الشوكاني: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم من حضر تلاوته ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، وأيضا قد كان يسجد معه المشركون، وهم أنجاس لا يصح وضوءهم. وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء، وكذلك روى عنه ابن أبي شيبة، وأما ما رواه البيهقي عنه بإسناد - قال في الفتح: إنه صحيح - أنه قال: (لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر) فيجمع بينهما بما قاله الحافظ من حمله على الطهارة الكبرى. أو على حالة الاختيار، والاول على الصرورة، وهكذا ليس في الاحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان، وأما ستر العورة والاستقبال مع الامكان فقيل: إنه معتبر اتفاقا. قال في الفتح: لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي. أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح. وأخرج أيضا على أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي ويومئ إيماء. ومن الموافقين لابن عمر من أهل البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 (5) الدعاء فيه: من سجد سجود التلاوة دعا ما شاء، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن (1) الخالقين) رواه الخمسة إلا ابن ماجه. ورواه الحاكم وصححه الترمذي وابن السكن، وقال في آخره (ثلاثا) على أنه ينبغي أن يقول في سجوده: سبحان ربي الاعلى، إذا سجد سجود التلاوة في الصلاة. (6) السجود في الصلاة: يجوز للامام والمنفرد (2) أن يقرأ آية السجدة في الصلاة الجهرية والسرية ويسجد متى قرأها. روى البخاري ومسلم عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة صلاة العتمة أو قال صلاة العشاء فقرأ: (إذا السماء انشقت) فسجد فيها فقلت يا أبا هريرة ما هذه السجدة؟ فقال سجدت فيها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجدها حتى ألقاه. وروى الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الاولى من صلاة الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ (الم تنزيل) السجدة. قال النووي: لا يكره قراءة السجدة عندنا للامام كما لا يكره للمنفرد، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، ويسجد متى قرأها. وقال مالك: يكره مطلقا. وقال أبو حنيفة: يكره في السرية دون الجهرية. قال صاحب البحر: وعلى مذهبنا يستحب تأخير السجود حتى يسلم لئلا يهوش على المأمومين. (7) تداخل السجدات: تتداخل السجدات ويسجد سجدة واحدة إذا قرأ القارئ آية السجدة   (1) هذه الزيادة من رواية الحاكم. (2) وعلى المؤتم أن يتابع إمامه في السجود إذا سجد وإن لم يسمع إمامه يقرأ آية السجدة فإذا قرأها الامام ولم يسجد لا يسجد المؤتم، بل عليه متابعة إمامه، وكذا لو قرأها المؤتم أو سمعها من قارئ ليس معه في الصلاة فإنه لا يسجد في الصلاة، بل يسجد بعد الفراغ منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وكررها أو سمعها أكثر من مرة في المسجد الواحد بشرط أن يؤخر السجود عن التلاوة الاخيرة، فإن سجد عقب التلاوة الاولى فقيل: تكفيه (1) وقيل: يسجد مرة أخرى لتجدد السبب (2) . (8) قضاؤه: يرى الجمهور أنه يستحب السجود عقب قراءة آية السجدة أو سماعها. فإن أخر السجود لم يسقط ما لم يطل الفصل. فإن طال فإنه يفوت ولا يقضى. سجدة الشكر : ذهب جمهور العلماء إلى استحباب سجدة الشكر لمن تجددت له نعمة تسره أو صرفت عنه نقمة. فعن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا شكرا لله تعالى، رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. وروى البيهقي بإسناد على شرط البخاري أن عليا رضي الله عنه لما كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام همذان خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال: (السلام على همذان، السلام على همذان) . وعن عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فاتبعته حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود حتى خفت أن يكون الله قد توفاه، فجئت أنظر فرفع رأسه فقال: (ما لك يا عبد الرحمن؟) فذكرت ذلك له فقال: (إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك؟ إن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله عز وجل شكرا) . رواه أحمد، ورواه أيضا الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولا أعلم في سجدة الشكر أصح من هذا، وروى البخاري أن كعب ابن مالك سجد لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه. وذكر أحمد أن عليا سجد حين وجد ذا الثدية (3) في قتلى الخوارج. وذكر سعيد بن منصور أن أبا بكر سجد حين جاءه قتل مسيلمة. وسجود الشكر يفتقر إلى سجود الصلاة، وقيل لا يشترط له ذلك لانه   (1) هذا مذهب الحنفية. (2) عند أحمد ومالك والشافعي. (3) رجل من الخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ليس بصلاة. قال في فتح العلام: وهو الاقرب. وقال الشوكاني: وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء وطهارة الثياب والمكان لسجود الشكر. وإلى ذلك ذهب الامام يحيى وأبو طالب وليس فيه ما يدل على التكبير في سجود الشكر. وفي البحر أنه يكبر. قال الامام يحيى: ولا يسجد للشكر في الصلاة قولا واحدا إذ ليس من توابعها. سجود السهو : ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهو في الصلاة، وصح عنه أنه قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) . وقد شرع لامته في ذلك أحكاما نلخصها فيما يلي: (1) كيفيته: سجود السهو سجدتان يسجدهما المصلي قبل التسليم أو بعده، وقد صح الكل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدركم صلى، ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم) . وفي الصحيحين في قصة ذي اليدين أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد ما سلم. والافضل متابعة الوارد في ذلك فيسجد قبل التسليم فيما جاء فيه السجود قبله، ويسجد بعد التسليم فيما ورد فيه السجود بعده، ويخير فيما عدا ذلك. قال الشوكاني: وأحسن ما يقال في هذا المقام أنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين) . (2) الاحوال التي يشرع فيها: يشرع سجود السهو في الاحوال الاتية: 1 - إذا سلم قبل إتمام الصلاة لحديث ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي (1) فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان (2) من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: (لم أنس ولم تقصر) فقال: (أكما يقول ذو اليدين؟) فقالوا: نعم..فقدم فصلى ما ترك (3) ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه) الحديث رواه البخاري ومسلم. وعن عطاء أن ابن الزبير صلى المغرب فسلم في ركعتين فنهض ليستلم الحجر فسبح القوم فقال ما شأنكم؟. قال فصلى ما بقي وسجد سجدتين. قال: فذكر ذلك لابن عباس فقال ما أماط (4) عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبزار والطبراني. 2 - عند الزيادة على الصلاة، لما رواه الجماعة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا فقيل له. أزيد في الصلاة؟ فقال: (وما ذلك؟) فقالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. وفي هذا الحديث دليل على صحة صلاة من زاد ركعة وهو ساه - ولم يجلس في الرابعة.   (1) الظهر أو العصر. (2) جمع سريع، وهم أول الناس خروجا. (3) في هذا دليل على جواز البناء على الصلاة التي خرج منها المصلي قبل تمامها ناسيا من غير فرق بين من سلم من ركعتين أو أكثر أو أقل. (4) أي ما أبعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 3 - عند نسيان التشهد الاول أو نسيان سنة من سنن الصلاة، لما رواه الجماعة عن ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم (1) . وفي الحديث أن من سها عن القعود الاول وتذكر قبل أن يستتم قائما عاد إليه، فإن أتم قيامه لا يعود. ويؤيد ذلك ما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس، وإن استتم قائما فلا يجلس وسجد سجدتي السهو) . 4 - السجود عند الشك في الصلاة، فعن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاة يشك في النقصان فليصل حتى يشك في الزيادة) وعن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لاربع كانتا ترغيما للشيطان) رواه أحمد ومسلم. وفي هذين الحديثين دليل لما ذهب إليه الجمهور من أنه إذا شك المصلي في عدد الركعات بنى على الاقل المتيقن له ثم يسجد للسهو. صلاة الجماعة : صلاة الجماعة سنة مؤكدة (2) ورد في فضلها أحاديث كثيرة نذكر بعضها فيما يلي:   (1) في الحديث: أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الامام، وعند الحنفية والشافعية: أن المؤتم يسجد لسهو الامام ولا يسجد لسهو نفسه. (2) هذا في الفرض، وأما الجماعة في النفل فهي مباحة سواء قل الجمع أم كثر. فقد ثبت أن النبي صلى ركعتين تطوعا وصلى معه أنس عن يمينه كما صلت أم سليم وأم حرام خلفه، وتكرر هذا ووقع أكثر من مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه. 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت لها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم صل عليه اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) متفق عليه وهذا لفظ البخاري. 3 - وعنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال له: (هل تسمع النداء في الصلاة؟) قال: نعم. قال: (فأجب) رواه مسلم. 4 - وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالفه إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم) متفق عليه. 5 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) . رواه مسلم. وفي رواية له قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى: الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 6 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية رواه أبو داود بإسناد حسن. (1) حضور النساء الجماعة في المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن: يجوز للنساء الخروج إلى المساجد وشهود الجماعة بشرط أن يتجنبن ما يثير الشهوة ويدعو إلى الفتنة من الزينة والطيب، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن) . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله (1) مساجد الله، وليخرجن تفلات (2)) رواهما أحمد وأبو داود. وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الاخرة.) رواه مسلم وأبو داود والنسائي بإسناد حسن. والافضل لهن الصلاة في بيوتهن، لما رواه أحمد والطبراني عن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. فقال صلى الله عليه وسلم: (قد علمت، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة.) (2) استحباب الصلاة في المسجد الأبعد والكثير الجمع: يستحب الصلاة في المسجد الابعد الذي يجتمع فيه العدد الكثير، لما رواه مسلم عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى) . ولما رواه عن جابر قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا   (1) إماء الله: جمع أمة. (2) تفلات: أي غير متطيبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قرب المسجد) ؟! قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك. فقال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) . ولما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة المتقدم. وعن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده (1) . وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم. (3) استحباب السعي الى المسجد بالسكينة: يندب المشي إلى المسجد مع السكينة والوقار. ويكره الاسراع والسعي، لان الانسان في حكم المصلي من حين خروجه إلى الصلاة، فعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال (ما شأنكم) ؟ قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال: (فلا تفعلوا..إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) (2) رواه الشيخان. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا سمعتم الاقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (3)) رواه الجماعة إلا الترمذي. (4) استحباب تخفيف الامام: يندب للامام أن يخفف الصلاة بالمأمومين، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء) رواه الجماعة. ورووا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لادخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد   (1) أزكى من صلاته وحده: أي أكثر أجرا وأبلغ في تطهير المصلي من ذنوبه. (2) السكينة والوقار بمعنى واحد. وفرق بينهما النووي: فقال إن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة بغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. (3) يؤخذ منه أن ما أدركه المؤتم مع الامام يعتبر أول صلاته فيبني عليه في الاقوال والافعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أمه من بكائه) . وروى الشيخان عنه قال ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر بن عبد البر، التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال (1) وأما الحذف والنقصان فلا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن نقر الغراب. ورأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه فقال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) وقال: (لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده) ثم قال: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكن من أم قوما على ما شرطنا من الاتمام. فقد روى عمر أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عباده. يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه. (5) إطالة الامام الركعة الاولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الجماعة: يشرع للامام أن يطول الركعة الاولى انتظارا للداخل ليدرك فضيلة الجماعة كما يستحب له انتظار من أحس به داخلا وهو راكع، أو أثناء القعود الاخير. ففي حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطول في الاولى. قال فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الاولى. وعن أبي سعيد قال: لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الاولى مما يطولها. رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي. (6) وجوب متابعة الامام وحرمة مسابقته: تجب متابعة الامام وتحرم مسابقته (2) : لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الامام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون) رواه الشيخان. وفي رواية أحمد وأبي داود (إنما الامام ليؤتم به:   (1) أقل الكمال: ثلاث تسبيحات. (2) اتفق العلماء على أن السبق في تكبيرة الاحرام أو السلام يبطل الصلاة. واختلفوا في السبق في غيرهما فعند أحمد يبطلها. قال: ليس لمن يسبق الامام صلاة. أما المساواة فمكروهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الامام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار) رواه الجماعة، وعن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف) (1) رواه أحمد ومسلم. وعن البراء ابن عازب قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته على الارض. رواه الجماعة. (7) انعقاد الجماعة بواحد مع الامام: تنعقد الجماعة بواحد مع الامام ولو كان أحدهما صبيا أو امرأة. وقد جاء عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فقمت أصلي معه، فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه (2) رواه الجماعة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل فأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات) رواه أبو داود. وعن أبي سعيد أن رجلا دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على ذا فيصلي معه؟) فقام رجل من القوم فصلى معه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وروى ابن أبي شيبة: أن أبا بكر الصديق هو الذي يصلي معه وقد استدل   (1) ولا بالانصراف: أي الانصراف من السلام. (2) في الحديث دليل على جواز الائتمام بمن لم ينو الامامة وانتقاله إماما بعد دخوله منفردا لا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة. وفي البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام ناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلي فيه. قال: وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال آخرون من أه ل العلم يصلون فرادى وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي (1) . (8) جواز انتقال الامام مأموما: يجوز للامام أن ينتقل مأموما إذا استخلف فحضر الامام الراتب، لحديث الشيخين عن سهل بن سعد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟ قال: نعم. قال فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله: أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال: (يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟) فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شئ في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء (2)) .   (1) وأما تعدد الجماعة في وقت واحد ومكان واحد فإنه من المجمع على حرمته لمنافاته لغرض الشارع من مشروعية الجماعة ولوقوعه على خلاف المشروع. (2) في الحديث دليل على أن المشي من صف إلى صف يليه لا يبطل الصلاة. وأن حمد الله تعالى لامر يحدث والتنبيه بالتسبيح جائزان، وأن الاستخلاف في الصلاة لعذر جائز من طريق الاولى لان قصاراه وقوعها بإمامين، وفيه جواز كون المرء في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما، وجواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء. وجواز الالتفات للحاجة، وجواز مخاطبة المصلي بالاشارة، وجواز الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وجواز إمامة المفضول الفاضل، وجواز العمل القليل في الصلاة ... أفاده الشوكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 (9) إدراك الامام: من أدرك الامام كبر تكبيرة الاحرام (1) قائما ودخل معه على الحالة التي هو عليها (2) ، ولا يعتمد بركعة حتى يدرك ركوعها سواء أدرك الركوع بتمامه مع الامام أو انحنى فوصلت يداه إلى ركبتيه قبل رفع الامام، فعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا (3) ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال صحيح. والمسبوق يصنع مثل ما يصنع الامام فيقعد معه العقود الاخير، ويدعو ولا يقوم حتى يسلم، ويكبر إذا قام لاتمام ما عليه.. (10) أعذار التخلف عن الجماعة: يرخص التخلف عن الجماعة عند حدوث حالة من الحالات الاتية: 1 و 2 - البرد أو المطر، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر المنادي فينادي بالصلاة. ينادي: (صلوا في رحالكم، في الليلة الباردة المطيرة في السفر) رواه الشيخان. وعن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال (ليصل من شاء منكم في رحله) (4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، وعن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل: صلوا في بيوتكم قال: فكأن الناس استنكروا ذلك. فقال: أتعجبون من ذا؟ فقد فعل ذا من هو خير مني: النبي صلى الله عليه وسلم. إن الجماعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض. رواه الشيخان، ولمسلم: أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير.   (1) وأما تكبيرة الانتقال فإن أتى بها فحسن وإلا كفته تكبيرة الاحرام. (2) وتحقق له فضيلة الجماعة وتوابها بإدراك تكبيرة الاحرام قبل سلام الامام. (3) ولا تعدوها شيئا: أي أن من أدرك الامام ساجدا وافقه في السجود ولا يعد ذلك ركعة، ومن أدرك الركعة: أي الركوع مع الامام، فقد أدرك الصلاة: أي الركعة وحسبت له. (4) في رحله: أي في منزله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ومثل البرد الحر الشديد والظلمة والخوف من ظالم. قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك، مباح. 3 - حضور الطعام، لحديث ابن عمر قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة) رواه البخاري. 4 - مدافعة الاخبثين. فعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الاخبثين) (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. 5 - وعن أبي الدرداء قال: (من فقه الرجل إقباله على حاجته، حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ) . رواه البخاري. (11) الأحق بالإمامة: الاحق بالامامة الأقرأ لكتاب الله، فإن استووا في القراءة فالاعلم بالسنة، فإن استووا، فالاقدم هجرة، فإن استووا، فالاقدم هجرة، فإن استووا، فالاكبر سنا. 1 - فعن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالامامة اقرؤهم) رواه أحمد ومسلم والنسائي. والمراد بالأقرأ الاكثر حفظا لحديث عمرو بن سلمة، وفيه: (ليؤمكم أكثركم قرآنا) . 2 - وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم، بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته (2) إلا بإذنه) . وفي لفظ: (لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا   (1) وهو يدافع الاخبثين: أي البول والغائط. (2) التكرمة: ما يفرش لصاحب المنزل ويبسط له خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سلطانه) رواه أحمد ومسلم، ورواه سعيد بن منصور، لكن قال فيه: (لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه، ومعنى هذا أن السلطان وصاحب البيت والمجلس وإمام المجلس أحق بالامامة من غيره، ما لم يأذن واحد منهم. فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الاخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) رواه أبو داود. (12) من تصح إمامتهم: تصح إمامة الصبي المميز، والاعمى، والقائم بالقاعد، والقاعد بالقائم، والمفترض بالمتنفل، والمتنفل بالمفترض والمتوضئ بالمتيمم، والمتيمم بالمتوضئ والمسافر بالمقيم، والمقيم بالمسافر، والمفضول بالفاضل فقد صلى عمرو بن سلمة بقومه وله من العمر ست أو سبع سنين، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم، وهو أعمى، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أب ي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا، وصلى في بيته جالسا وهو مريض وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: (إنما جعل الامام ليؤتم به: فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا وراءه) (1) وكان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الاخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة، فكانت صلاته له تطوعا ولهم فريضة العشاء. وعن محجن بن الادرع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فحضرت الصلاة، فصلى ولم أصل فقال لي: (ألا صليت) ؟ قلت يا رسول الله إني قد صليت في الرحل ثم أتيتك. قال: (إذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة) . ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) وصلى عمرو بن العاص إماما وهو متيمم وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس بمكة زمن الفتح ركعتين ركعتين   (1) مذهب إسحاق والاوزاعي وابن المنذر والظاهرية أنه لا يجوز اقتداء القادر على القيام بالجالس لعذر، بل عليه أن يجلس تبعا له، لهذا الحديث. وقيل إنه منسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 إلا المغرب وكان يقول: (يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر. ) وإذا صلى المسافر خلف المقيم أتى الصلاة أربعا ولو أدرك معه أقل من ركعة، فعن ابن عباس أنه سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. وفي لفظ أنه قال له موسى بن سلمة: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا صلينا ركعتين؟. فقال تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد. (13) من لا تصح إمامتهم: لا تصح إمامة معذور (1) لصحيح ولا لمعذور مبتلى بغير عذره (2) عند جمهور العلماء. وقالت المالكية تصح إمامته للصحيح مع الكراهة. (14) إستحباب إمامة المرأة للنساء: فقد كانت عائشة رضي الله عنها تؤم النساء وتقف معهن في الصف، وكانت أم سلمة تفعله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورقة مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها في الفرائض. (15) إمامة الرجل النساء فقط: روى أبو يعلى والطبراني في الاوسط بسند حسن أبي بن كعب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملا. قال: (ما هو) قال: نسوة معي في الدار قلن إنك تقرأ ولا نقرأ فصل بنا، فصليت ثمانيا والوتر. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرأينا سكوته رضا. (16) كراهة إمامة الفاسق والمبتدع: روى البخاري ان ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج. وروى مسلم أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد، وصلى ابن مسعود خلف الوليد ابن عقبة بن أبي معيط - وقد كان يشرب الخمر، وصلى بهم يوما الصبح أربعا   (1) كمن به انطلاق البطن أو سلس البول أو انفلات الريح. (2) كاقتداء من به سلس بمن به انفلات ريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وجلده عثمان بن عفان على ذلك - وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن عبيد، وكان متهما بالالحاد وداعيا إلى الضلال، والاصل الذي ذهب إليه العلماء أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره، ولكنهم مع ذلك كرهوا الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، لما رواه أبو داود وابن حبان وسكت عنه أبو داود والمنذري عن السائب بن خلاد أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يصلي لكم) (1) فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم، فمنعوه وأخبروه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك للنبي فقال: (نعم، إنك آذيت الله ورسوله) . (17) جواز مفارقة الإمام لعذر: يجوز لمن دخل الصلاة مع الامام أن يخرج منها بنية المفارقة ويتمها وحده ذا أطال الامام الصلاة. ويلحق بهذه الصورة حدوث مرض أو خوف ضياع مال أو تلفه أو فوات رفقة أو حصول غلبة نوم، ونحو ذلك. لما رواه الجماعة عن جابر قال: كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم، فأخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء فصلى معه ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلى وحده فقيل له. نافقت يا فلان، قال: ما نافقت، ولكن لاتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: (أفتان أنت يا معاذ، أفتان أنت يا معاذ، اقرأ سورة كذا وكذا) . (18) ما جاء في إعادة الصلاة مع الجماعة: عن يزيد الاسود قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى فجاء رجلان حتى وقفا على رواحلهما، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجئ بهما تريد فرائصهما (2) فقال لهما: (ما منعكما أن تصليا مع الناس ... ألستما مسلمين؟) قالا: بلى يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا. فقال لهما: (إذا صليتما في حالكما ثم أتيتما الامام فصليا معه فإنها لكما نافلة) .   (1) لا يصلي لكم: نفي بمعنى النهى. (2) أي يضطرب اللحم الذي بين الجنب والكتف من الخوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 رواه أحمد وأبو داود. ورواه النسائي والترمذي بلفظ: (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة) قال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن السكن. ففي هذا الحديث دليل على مشروعية إعادة الصلاة بنية التطوع لمن صلى الفرض في جماعة أو منفردا إذا أدرك جماعة أخرى في المسجد: وقد روى أن حذيفة أعاد الظهر والعصر والمغرب، وقد كان صلاهما في جماعة، كما روي عن أنس أنه صلى مع أبي موسى الصبح في المربد (1) ثم انتهيا إلى المسجد الجامع فأقيمت الصلاة فصليا مع المغيرة بن شعبة. وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) فقد قال ابن عبد البر: اتفق أحمد وإسحاق أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ فيعيدها على الفرض أيضا. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة اقتداء بالنبي في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في اليوم مرتين لان الاولى فريضة والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذ. (19) استحباب انحراف الامام عن يمينه أو شماله بعد السلام ثم انتقاله من مصلاه (2) : لحديث قبيضة بن وهب عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنا فينصرف على جانبيه جميعا، على يمينه وعلى شماله. رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن. وعليه العمل عند أهل العلم أنه ينصرف على أي جانبيه شاء. وقد صح الامران عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد الا مقدار ما يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام) . رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه. وعند أحمد والبخاري عن أم سلمة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث   (1) المربد: موضع تجفيف الحبوب والتمر (الجرن) (2) وبعد المغرب والصبح لا ينتقل حتى يقول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير) عشرا، لان الفضيلة المترتبة على الفعل مقيدة بقولها قبل أن يثني رجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 في مكانه يسيرا قبل أن يقوم. قالت: فنرى - والله أعلم - أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. (20) علو الامام أو المأموم: يكره أن يقف الامام أعلى من المأموم، فعن أبي مسعود الانصاري قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الامام فوق شئ والناس خلفه) يعني أسفل منه، رواه الدارقطني وسكت عنه الحافظ في التلخيص. وعن همام ابن الحارث أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان (1) فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه (2) فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، فذكرت حين جذبتني. رواه أبو داود والشافعي والبيهقي وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان. فإن كان للامام غرض من ارتفاعه على المأموم فإنه لا كراهة حينئذ، فعن سهل بن سعد الساعدي قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر أول يوم وضع فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقهري (3) وسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل عن الناس فقال: (أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتتعلموا صلاتي) رواه أحمد والبخاري ومسلم. وأما ارتفاع المأموم على الامام فجائز، لما رواه سعيد بن منصور والشافعي والبيهقي وذكره البخاري تعليقا عن أبي هريرة أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الامام. وعن أنس أنه كان يجمع في دار أبي نافع عن يمين المسجد في غرفة قدر قامة منها لها باب مشرف على مسجد بالبصرة فكان أنس يجمع فيها ويأتم بالامام، وسكت عليه الصحابة. رواه سعيد بن منصور في سننه. قال الشوكاني: وأما ارتفاع المؤتم فإن كان مفرطا بحيث يكون فوق ثلاثمائة ذراع على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الامام فهو ممنوع بالاجماع من غير فرق بين المسجد وغيره، وإن كان دون ذلك المقدار فالاصل الجواز حتى يقوم   (1) المدائن: مدينة كانت بالعراق، دكان. مكان مرتفع. (2) جبذه: أخذه بشدة. (3) القهقرى: المشي إلى الخلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 دليل على المنع، ويعضد هذا الاصل فعل أبي هريرة المذكور ولم ينكر عليه. (21) اقتداء المأموم بالامام مع الحائل بينهما: يجوز اقتداء المأموم بالامام وبينهما حائل إذا علم انتقالاته برؤية أو سماع (1) . قال البخاري، قال الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر. وقال أبو مجلز: يأتم بالامام وان كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبيرة الاحرام. انتهى. وقد تقدم حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون به من وراء الحجرة يصلون بصلاته. (22) حكم الائتمام بمن ترك فرضا: تصح إمامة من أخل بترك شرط أو ركن إذا أتم المأموم وكان غير عالم بما تركه الامام، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون بكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وان أخطأوا فلكم وعليهم) رواه أحمد والبخاري. وعن سهل قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الامام ضامن فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء فعليه) يعني ولا عليهم، رواه ابن ماجه. وصح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب، ولم يعلم، فأعاد ولم يعيدوا. (23) الاستخلاف: إذا عرض للامام وهو في الصلاة عذر كأن ذكر أنه محدث، أو سبقه الحدث فله أن يستخلف غيره ليكمل الصلاة بالمأمومين. فعن عمرو بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر - غداة أصيب - إلا عبد الله بن عباس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه وتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة. رواه البخاري. وعن أبي رزين قال: صلى علي ذات يوم فرعف فأخذ بيد رجل فقدمه ثم انصرف، رواه سعيد بن منصور. وقال أحمد: ان استخلف الامام فقد استخلف عمر وعلي، وإن صلوا وحدانا فقد طعن معاوية وصلى الناس وحدانا من حيث طعن، وأتموا صلاتهم.   (1) أفتى العلماء بعدم الصحة خلف الراديو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 (24) من أم قوما يكرهونه: جاءت الاحاديث تحظر أن يؤم رجل جماعة وهم له كارهون، والعبرة بالكراهة الكراهة الدينية التي لها سبب شرعي، فعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط. وأخوان متصارمان) رواه ابن ماجه، قال العراقي: إسناده حسن. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا (1) ورجل اعتبد محرره (2)) رواه أبو داود وابن ماجه. قال الترمذي: وقد كره قوم أن يؤم الرجل قوما وهم له كارهون، فإذا كان الامام غير ظالم فإنما الاثم على من كرهه. موقف الإمام والمأموم: (1) استحباب وقوف الواحد عن يمين الامام والاثنين فصاعدا خلفه: لحديث جابر، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فجئت فقمت على يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه، رواه مسلم وأبو داود. وإذا حضرت المرأة الجماعة وقفت وحدها خلف الرجال ولا تصف معهم فإن خالفت صحت صلاتها عند الجمهور. قال أنس: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمي أم سليم خلفنا، وفي لفظ: فصففت أنا واليتيم خلفه، والعجوز من ورائنا. رواه البخاري ومسلم. (2) استحباب وقوف الامام مقابلا لوسط الصف وقرب أولي الاحلام والنهي منه: لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وسطوا الامام   (1) الدبار: أن يأتيها بعد أن تفونه. (2) اتخذ عبده المعتق عبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وسدوا الخلل (1) رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني (2) منكم أولوا الاحلام والنهي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإياكم وهيشات الاسواق (3)) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يليه المهاجرون والانصار ليأخذوا عنه. رواه أحمد وأبو داود. والحكمة في تقديم هؤلاء ليأخذوا عن الامام ويقوموا بتنبيهه إذا أخطأ ويستخلف منهم إذا احتاج إلى استخلاف. (3) موقف الصبيان والنساء من الرجال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل الرجال قدام الغلمان، والغلمان خلفهم، والنساء خلف الغلمان (4)) رواه أحمد وأبو داود. وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) . وإنما كان خير صفوف النساء آخرها لما في ذلك من البعد عن مخالطة الرجال بخلاف الوقوف في الصف الاول فإنه مظنة المخالطة لهم. (4) صلاة المفرد خلف الصف: من كبر للصلاة خلف الصف ثم دخله وأدرك فيه الركوع مع الامام صحت صلاته، فعن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زادك الله حرصا ولا تعدد) (5) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي. وأما من صلى منفردا عن الصف فإن الجمهور يري صحة صلاته   (1) الخلل: مابين الاثنين من الاتباع. (2) ليليني: أي ليقرب مني. والنهي جمع نهية وهي العقل. والاحلام والنهي بمعنى واحد. (3) هيشات الاسواق: اختلاط الاصوات كما يقع في الاسواق. (4) وإذا كان صبي واحد دخل مع الرجال في الصف. (5) قيل لا تعد في تأخير المجئ إلى الصلاة، وقيل لا تعد إلى دخولك في الصف وأنت راكع، وقيل لا تعد إلى الاتيان إلى الصلاة مسرعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مع الكراهة. وقال أحمد وإسحاق وأحمد وابن أبي ليلى ووكيع والحسن بن صالح والنخعي وابن المنذر: من صلى ركعة كاملة خلف الصف بطلت صلاته. فعن وابصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. رواه الخمسة إلا النسائي. ولفظ أحمد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صلى خلف الصف وحده؟ فقال (يعيد الصلاة) وحسن هذا الحديث الترمذي، وإسناد أحمد جيد. وعن علي بن شيبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له: (استقبل صلاتك فلا صلاة لمفرد خلف الصف) . رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي، قال أحمد: حديث حسن، وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون. وتمسك الجمهور بحديث أبي بكرة قالوا لانه أتى ببعض الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاعادة فيحمل الامر بالاعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على ما هو الاولى. قال الكمان بن الهمام: وحمل أئمتنا حديث وابصة على الندب وحديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا حديث أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الاعادة لعدم أمره بها. ومن حضر ولم يجد سعة في الصف ولا فرجة فقيل: يقف منفردا ويكره له جذب أحد، وقيل يجذب واحدا من الصف عالما بالحكم بعد أن يكبر تكبيرة الاحرام. ويستحب للمجذوب موافقته. (5) تسوية الصفوف وسد الفرج: يستحب للامام أن يأمر بتسوية الصفوف وسد الخلل قبل الدخول في الصلاة. فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: (تراصوا واعتدلوا) رواه البخاري ومسلم. ورويا عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) . وعن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح (1) حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره (2) فقال: (لستون   (1) الغرض من ذلك المبالغة في تسوية الصفوف. (2) منتبذ: بارز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) (1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، وروى أحمد والطبراني بسند لا بأس به عن أبي أمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم (2) لينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف) (3) وروى أبو داود والنسائي والبيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر) وروى البزار بسند حسن عن ابن عمر قال: (ما من خطوة أعظم أجرا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها وروى النسائي والحاكم وابن خزيمة عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله) وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تصفون كما تصفت الملائكة عند ربها؟) فقلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يتمون الصف الاول ويتراصون في الصف) . (6) الترغيب في الصف الاول وميامن الصفوف: تقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليهما لاستهموا) الحديث. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرا عن الصف الاول فقال لهم: (تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عزوجل) رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه، وروى أبو داود وابن ماجه عن عائشة قالت، قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون على ميامن الصفوف) وعند أحمد والطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الاول) قالوا: يا رسول الله وعلى   (1) والمراد من مخالفة الوجوه: حصول العداوة والتنافر والبغضاء. (2) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين محاذيا وموازيا لمنكب الاخر. (3) الحذف: أولاد الضأن الصغار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الثاني؟ قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الاول) قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال (وعلى الثاني) . (7) التبليغ خلف الامام: يستحب التبليغ خلف الامام عند الحاجة إليه بأن لم يبلغ صوت الامام المأمومين: أما إذا بلغ صوت الامام الجماعة فهو حينئذ بدعة مكروهة باتفاق الائمة. المساجد : 1 - مما اختص الله به هذه الامة أن جعل لها الارض طهورا ومسجدا فأيما رجل من المسلمين أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته. قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الارض أولا؟ قال: (المسجد الحرام) . قلت: ثم أي؟ قال: (ثم المسجد الاقصى) قلت: كم بينهما؟ قال: (أربعون سنة) ثم قال: (أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد) وفي رواية: (فكلها مسجد) رواه الجماعة. (2) فضل بنائها: 1 - عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة) متفق عليه. 2 - وروى أحمد وابن حبان والبزار بسند صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها (1) بنى الله له بيتا في الجنة) . (3) الدعاء عند التوجه إليها: يسن الدعاء حين التوجه إلى المسجد بما يأتي: 1 - قالت أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من   (1) المفحص: الموضع الذي تبيض فيه القطاة. والقطاة: طائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 بيته قال: (بسم الله (1) توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي) . رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي. 2 - وروى أصحاب السنن الثلاثة وحسنه الترمذي عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له: حسبك!..هديت، وكفيت، ووفيت، تنحى عنه الشيطان) . 3 - روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وخلفي نورا وفي عصبي نورا، وفي لحمي نورا، وفي دمي نورا، وفي شعري نورا، وفي بشري نورا) . وفي رواية لمسلم: (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، وفي بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا: اللهم أعطني نورا) . 4 - وروى أحمد وابن خزيمة وابن ماجه حسنه الحافظ عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا (2) ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته) . (4) الدعاء عند دخولها وعند الخروج منها: يسن لمن أراد دخول المسجد أن يدخل برجله اليمنى ويقول: أعوذ بالله   (1) يصح الدعاء بهذا سواء كان خارجا إلى المسجد أو إلى غير المسجد. (2) الاشر والبطر: جحود النعم وعدم شكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. بسم الله: اللهم صل على محمد: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا أراد الخروج خرج برجله اليسرى ويقول: بسم الله: اللهم صل على محمد: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم. (5) فضل السعي إليها والجلوس فيها: 1 - روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له الجنة نزلا كلما غدا وراح) (1) . 2 - وروى أحمد وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والترمذي وحسنه والحاكم وصححه، عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان) قال الله عزوجل: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر) . 3 - وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والاخرى ترفع درجته) . 4 - وروى الطبراني والبزار بسند صحيح عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسجد بيت كل تقي وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله: إلى الجنة) . 5 - وتقدم حديث: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات) . (6) تحية المسجد: روى الجماعة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين من قبل أن يجلس) .   (1) من غدا إلى المسجد وراح: أي ذهب ورجع: والنزل: ما يعد للضيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 (7) أفضلها: 1 - روى البيهقي (1) عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي ألف صلاة، وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة) . 2 - وروى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) . 3 - وروى الجماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى) . (8) زخرفة المساجد: 1 - روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) . ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد (2) ثم لا يعمرونها إلا قليلا) . 2 - وروى أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أمرت بتشييد المساجد (3)) زاد أبو داود: قال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. 3 - وروى ابن خزيمة وصححه: أن عمر أمر ببناء المساجد فقال: أكن الناس من المطر (4) ، وإياك أن تحمر أو تصرف فتفتن الناس (5) . رواه البخاري معلقا. (9) تنظيفها وتطييبها: 1 - روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند جيد   (1) حسنه السيوطي. (2) يتباهون: يتفاخرون. (3) ما أمرت بتشييد المساجد: أي برفع بنائها زيادة على الحاجة. (4) أكن الناس من المطر: أي استرهم. (5) فتفتن الناس: أي تلهيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأمر بها أن تنظف وتطيب. ولفظ أبي داود: (كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها، وكان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر) . 2 - وعن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل إلى المسجد) رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة. (10) صيانتها: المساجد بيوت العبادة فيجب صيانتها من الاقذار والروائح الكريهة. فعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن) . وعند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تنخم أحدكم فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) وروى هو والبخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبزقن أمامه فإنه يناجيه الله تبارك وتعالى مادام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها) وفي الحديث المتفق على صحته عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل الثوم والبصل والكراث (1) فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) . وخطب عمر يوم الجمعة فقال: إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين (البصل والثوم) لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلها فليمتهما طبخا. رواه أحمد ومسلم والنسائي. (11) كراهة نشد الضالة (2) والبيع والشراء والشعر: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع   (1) أكل هذه الاشياء مباح إلا أنه يتحتم على من أكلها البعد عن المسجد ومجتمعات الناس حتى تذهب رائحتها. ويلحق بها الروائح الكريهة كالدخان والتجشؤ والبخر. (2) نشد الضالة: طلب الشئ الضائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي وحسنه، وعن عبد الله بن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الاشعار وأن تنشد فيه الضالة، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) رواه لا خمسة وصححه الترمذي. والشعر المنهي عنه ما اشتمل على هجو مسلم أو مح ظالم أو فحش ونحو ذلك. أما ما كان حكمة أو مدحا للاسلام أو حثا على بر فإنه لا بأس به، فعن أبي هريرة أن عمر مر بحسان ينشد في المسجد فلحظ إليه (1) فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله (2) أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أجب عني، اللهم أيده بروح القدس (3) ؟ قال نعم) متفق عليه. (12) السؤال فيها: قال شيخ الاسلام ابن تيمية: أصل السؤال محرم في المسجد وغيره إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدا كتخطية الرقاب ولم يكذب فيما يرويه ولم يجهر جهرا يضر الناس كأن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به، جاز. (13) رفع الصوت فيها: يحرم رفع الصوت على وجه يشوش على المصلين ولو بقراءة القرآن. ويستثنى من ذلك درس العلم. فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: (إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر بم يناجيه؟ ولا يجهر بعضكم على بعض القرآن) رواه أحمد بسند صحيح، وروى عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: (ألا أن   (1) فلحظ إليه: أي نظر إليه شزرا. (2) أنشدك بالله: أي أسألك بالله. (3) روح القدس: جبريل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كلكم مناج ربه فلا يوذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة) ، رواه أبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. (14) الكلام في المسجد: قال النووي: يجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات وإن حصل فيه ضحك ونحوه ما دام مباحا: لحديث جابر ابن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام. قال: وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. أخرجه مسلم. (15) إباحة الاكل والشرب والنوم فيها: فعن ابن عمر قال: كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ننام في المسجد نقيل فيه (1) ونحن شباب. وقال النووي: ثبت أن أصحاب الصفة والعرنبين وعليا وصفوان بن أمية وجماعات من الصحابة كانوا ينامون في المسجد. وأن ثمامة كان يبيت فيه قبل إسلامه. كل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي في الام: وإذا بات المشرك في المسجد فكذا المسلم. وقال في المختصر: ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام. وقال عبد الله بن الحارث: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الخبز واللحم، رواه ابن ماجه بسند حسن. (16) تشبيك الاصابع: يكره تشبيك الاصابع عند الخروج إلى الصلاة وفي المسجد عند انتظارها ولا يكره فيما عدا ذلك ولو كان في المسجد. فعن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وعن أبي سعيد الخدري قال: دخلت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه   (1) نقيل فيه: أي ننام وقت القيلولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وسلم إذا رجل جالس وسط المسجد محتبيا مشبكا أصابعه بعضها على بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن لاشارته. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما كان في المسجد حتى يخرج منه) رواه أحمد. (17) الصلاة بين السواري: يجوز للامام والمنفرد الصلاة بين السواري، لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين) . وكان سعيد بن جبر وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الاساطين. وأما المؤتمون فتكره صلاتهم بينها عند السعة بسبب قطع الصفوف ولا تكره عند الضيق. فعن أنس قال: كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها. رواه الحاكم وصححه، وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا. رواه ابن ماجه وفي إسناده رجل مجهول. وروى سعيد بن منصور في سننه النهي عن ذلك من ابن مسعود وابن عباس وحذيفة. قال ابن سيد الناس: ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة. المواضع المنهى عن الصلاة فيها : ورد النهي عن الصلاة في المواضع الاتية: (1) الصلاة في المقبرة (1) : فعند الشيخين وأحمد والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . وعند أحمد ومسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) . وعندهما أيضا عن جندب بن عبد الله   (1) النهي عن اتخاذ القبر مسجدا من أجل الخوف من المبالغة في تعظيم الميت والافتتان به فهو من غاب سد الذريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: (إن من اكن قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) . وعن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت له ما رأته فيها من الصور، فقال صلى الله عليه وسلم (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) رواه البخاري ومسلم والنسائي. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) . وحمل كثير من العلماء النهي على الكراهة سواء كانت المقبرة أمام المصلي أم خلفه. وعند الظاهرية النهي محمول على التحريم، وأن الصلاة في المقبرة باطلة (1) . وعند الحنابلة كذلك إذا كانت تحتوي على ثلاثة قبور فأكثر، أما ما فيها قبر أو قبران فالصلاة فيها صحيحة مع الكراهة إذا استقبل القبر وإلا فلا كراهة. وقد صلى أبو موسى الاشعري وعمر بن عبد العزيز في الكنيسة. ولم ير الشعبي وعطاء وابن سيرين بالصلاة فيها بأسا. قال البخاري: كان ابن عباس يصلي في بيعة إلا بيعة فيها تماثيل. وقد كتب إلى عمر من نجران أنهم لم يجدوا مكانا أنظف ولا أجود من بيعة، فكتب: (انضحوها بماء وسدر وصلوا فيها) وعند الحنفية والشافعية القول بكراهة الصلاة فيهما مطلقا. (3) الصلاة في المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق وأعطان الابل والحمام وفوق ظهر بيت الله: فعن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: (في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الابل وفوق ظهر بيت الله) . رواه   (1) هذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه بحال، فالاحاديث صحيحة وصريحة في تحريم الصلاة عند القبر سواء أكان قبرا واحدا أم أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ابن ماجه وعبد بن حميد والترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي. وعلة النهي في المجزرة والمزبلة كونهما محلا للنجاسة فتحرم الصلاة فيهما من غير حائل ومع الحائل تكره عند جمهور العلماء، وتحرم عند أحمد وأهل الظاهر. وعلة النهي عن الصلاة في مبارك الابل كونها خلقت من الجن، وقيل غير ذلك. وحكم الصلاة في مبارك الابل كالحكم في سابقه، وعلة النهي عن الصلاة في قارعة الطريق ما يقع فيه عادة من مرور الناس وكثرة اللغط الشاغل للقلب والمؤدي إلى ذهاب الخشوع. وأما في ظهر الكعبة فلان المصلي في هذه الحالة يكون مصليا على البيت لا إليه، وهو خلاف الامر، ولذلك يرى الكثير عدم صحة الصلاة فوق الكعبة، خلافا للحنفية القائلين بالجواز مع الكراهة لما فيه من ترك التعظيم. وأما الكراهة في الحمام فقيل لانه محل للنجاسة والقول بالكراهة قول الجمهور إذا انتفت النجاسة. وقال أحمد والظاهرية وأبو ثور: لا تصح الصلاة فيه. الصلاة في الكعبة الصلاة في الكعبة صحيحة لا فرق بين الفرض والنفل. فعن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى رسول الله؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين. واه أحمد والشيخان. السترة أمام المصلي : (1) حكمها: يستحب للمصلي أن يجعل بين يديه سترة تمنع المرور أمامه وتكف بصره عما وراءها، لديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها) رواه أبو داود وابن ماجه. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك في السفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ثم اتخذها الامراء. رواه البخاري ومسلم وأبو داود ويرى الحنفية والمالكية أن اتخاذ السترة إنما يستحب للمصلي عند خوف مرور أحد بين يديه فإذا أمن مرور أحد بين يديه فلا يستحب، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء وليس بين يديه شئ. رواه أحمد وأبو داود ورواه البيهقي وقال: وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس. (2) بم تتحقق: وهي تتحقق بكل شئ ينصبه المصلي تلقاء وجهه ولو كان نهاية فرشه. فعن صبرة بن معبد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم) رواه أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. وعن أبي هريرة قال، قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وصححه، كما صححه أحمد وابن المديني، وقال البيهقي لا بأس بهذا الحديث في هذا الحكم إن شاء الله، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى الاسطوانة التي في مسجده وأنه صلى إلى شجرة وأنه صلى إلى السرير وعليه عائشة مضطجعة (1) وأنه صلى إلى راحلته كما صلى إلى آخرة الرحل، وعن طلحة قال: كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مؤخرة الرحل (2) تكون بين يدي أحدكم ثم لا يضره ما مر عليه) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. (3) سترة الامام سترة للمأموم: وتعتبر سترة الامام سترة لمن خلفه، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر (3)   (1) يؤخذ منه جواز الصلاة الى النائم وقد جاء نهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، ولم يصح. (2) مؤخرة بضم أوله وكسر الخاء وفتحها: الخشبة التي في آخر الرحل. (3) الثنية: الطريق المرتفع. وأذاخر: موضع قرب مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فحضرت الصلاة فصلى إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة (1) تمر بين يديه فما زال يدارئها (2) حتى لصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه. رواه أحمد وأبو داود، وعن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام (3) والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصف فأرسلت الاتان ترتع (4) ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد. رواه الجماعة. ففي هذه الاحاديث ما يدل على جواز المرور بين يدي المأموم وأن السترة إنما تشرع بالنسبة للامام والمنفرد. (4) استحباب القرب منها: قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وفي الحديث المتقدم: (وليدن منها) . وعن بلال أنه صلى الله عليه وسلم صلى وبينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع. رواه أحمد والنسائي. ومعناه للبخاري. وعن سهل بن سعد قال: كان بين مصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ممر الشاة. رواه البخاري ومسلم. (5) تحريم المرور بين يدي المصلي وسترته: الاحاديث تدل على حرمة المرور بين يدي المصلي وسترته وأن ذلك يعتبر من الكبائر، فعن بسر بن سعيد قال: إن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه (5)) رواه الجماعة. وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المار   (1) البهمة: ولد الضأن. (2) يدارئها: يدافعها. (3) ناهزت الاحتلام: أي قاربت البلوغ. (4) الرتع: الرعي. (5) قال أبو النصر عن بسر: لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة. وفي الفتح: وظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، ويؤيده قصة أبي سعيد الاتية. ومعنى الحديث أن المار لو علم مقدار الاثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الاثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بين يدي المصلي ماذا عليه كان لان يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه) رواه البزار بسند صحيح. قال ابن القيم: قال ابن حبان وغيره: التحريم المذكور في الحديث إنما هو إذا صلى الرجل إلى سترة فأما إذا لم يصل إلى سترة فلا يحرم المرور بين يديه. واحتج أبو حاتم (1) على ذلك بما رواه في صحيحه عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من طوافه أتى حاشية المطاف فصلى ركعتين وليس بينه وبين الطوافين أحد. قال أبو حاتم: في هذا الخبر دليل على إباحة مرور المرء بين يدي المصلي إذا صلى إلى غير سترة، وفيه دليل واضح على أن التغليظ الذي روي في المار بين يدي المصلي إنما أريد بذلك إذا كان المصلي يصلي إلى سترة دون الذي يصلي إلى غير سترة يستتر بها. قال أبو حاتم: ذكر البيان بأن هذه الصلاة لم تكن بين الطوافين وبين النبي صلى الله عليه وسلم سترة. ثم ساق من حديث المطلب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حذو الركن الاسود والرجال والنساء يمرون بين يديه ما بينهم وبينه سترة. وفي الروضة لو صلى إلى غير سترة أو كانت وتباعد منها، فالاصح أنه ليس له الدافع لتقصيرة ولا يحرم المرور حينئذ بين يديه ولكن الاولى تركه. (6) مشروعية دفع المار بين يدي المصلي: إذا اتخذ المصلي سترة يشرع له أن يدفع المار بين يديه إنسانا كان أو حيوانا أما إذا كان المرور خارج السترة فلا يشرع الدفع ولا يضره المرور. فعن حميد بن هلال قال: بينا أنا وصاحب لي نتذاكر حديثا إذ قال أبو صالح السمان: أنا أحدثك ما سمعت عن أبي سعيد ورأيت منه قال: بينما أنا مع أبي سعيد الخدري نصلي يوم الجمعة إلى شئ يستره من الناس إذ دخل شاب من بني أبي معيط أراد أن يجتاز بين يديه فدفعه في نحره فنظر فلم يجد مساغا (2) إلا بين يدي أبي سعيد فعاد ليجتاز فدفعه في نحره أشد من الدفعة الاولى فمثل قائما ونال من أبي سعيد (3) ثم تزاحم الناس فدخل على مروان فشكا إليه ما لقي، ودخل أبو سعيد (3) ثم تزاحم الناس فدخل على مروان فشكا إليه ما لقي، ودخل أبو سعيد على مروان فقال: مالك ولابن أخيك جاء يشكوك؟ فقال   (1) أبو حاتم: هو ابن حبان. (2) فلم يجد مساغا: أي ممرا. (3) أي أصاب من عرضه بالشتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أبو سعيد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) رواه البخاري ومسلم. (7) لا يقطع الصلاة شئ: ذهب علي وعثمان وابن المسيب والشعبي ومالك والشافعي وسفيان الثوري والاحناف إلى أن الصلاة لا يقطعها شئ، لحديث أبي داود عن أبي الوداك قال: مر شاب من قريش بين يدي أبي سعيد وهو يصلي فدفعه ثم عاد فدفعه ثم عاد فدفعه، ثلاث مرات. فلما انصرف قال: إن الصلاة لا يقطعها شئ، ولكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا ما استطعتم فإنه شيطان) . ( ما يباح في الصلاة ) : يباح في الصلاة ما يأتي: 1 - البكاء والتأوه والانين سواء أكان ذلك من خشية الله أم كان لغير ذلك كالتأوه من المصائب والاوجاع ما دام عن غلبة بحيث لا يمكن دفعه: لقول الله تعالى: (إذا نتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) . والاية تشمل المصلي وغيره. وعن عبد الله بن الشخير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وقال علي: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الاسود، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. رواه ابن حبان. وعن عائشة رضي الله عنها في حديث مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق لا يملك دمعه وإنه إذا قرأ القرآن بكى: قالت: وما قلت ذلك إلا كراهية أن   (1) أي أن صدره صلى الله عليه وسلم يغلي من البكاء من خشية الله فيسمع له صوت كصوت القدر حين يغلي فيه الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يتأثم الناس بأبي بكر (1) أن يكون أول من قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن صواحب يوسف) (2) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والترمذي وصححه. وفي تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على صلاة أبي بكر بالناس مع أنه أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دليل على الجواز. وصلى عمر صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله تعالى (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) فسمع نشيجه (3) رواه البخاري وسعيد بن منصور وابن المنذر. وفي رفع عمر صوته بالبكاء رد على القائلين بأن البكاء في الصلاة مبطل لها إن ظهر منه حرفان سواء أكان من خشية الله أم لا. وقولهم إن البكاء إن ظهر منه حرفان يكون كلاما غير مسلم فالبكاء شئ والكلام شئ آخر. (2) الالتفات عند الحاجة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي يلتفت يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره. رواه أحمد. وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب. قال أبو داود: وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس. وعن أنس بن سيرين قال: رأيت أنس بن مالك يستشرف لشئ (4) وهو في الصلاة، ينظر إليه. رواه أحمد. فإن كان الالتفات لغير حاجة كره تنزيها، لمنافاته الخشوع والاقبال على الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفت في الصلاة فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) (5) رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود. وعن أبي الدرداء   (1) أن يتشاءم الناس به ويتجنبونه كما يتجنبون الاثم. (2) أي أن عائشة مثل صاحبة يوسف في كونها أظهرت خلاف ما في الباطن فكما أن صاحبة يوسف دعت النسوة وأظهرت أنها تريد إكرامهن بالضيافة مع أن قصدها الحقيقي هو أن ينظرن إلى جمال يوسف فيعذرنها في محبته فكذلك عائشة فإنها أظهرت أن صرف الامامة عن أبيها أنه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه مع أن مرادها الحقيقي ألا يتشاءم الناس به. (3) النشيج: رفع الصوت بالبكاء. (4) يستشرف لشئ: أي يرفع بصره إليه. (5) الاختلاس: أخذ الشئ بسرعة، أي إن الشيطان يأخذ من الصلاة بسبب الالتفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 رضي الله عنه مرفوعا: (يا أيها الناس إياكم والالتفات فإنه لا صلاة للملتفت، فإن غلبتم في التطوع فلا تغلبن في الفرائض) رواه أحمد. وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفريضة) رواه الترمذي وصححه. وفي حديث الحارث الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فيه: (..وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت) رواه أحمد والنسائي. وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه) رواه أحمد وأبو داود وقال: صحيح الاسناد. هذا كله في الالتفات بالوجه أما الالتفات بجميع البدن والتحول به عن القبلة فهو مبطل للصلاة اتفاقا، للاخلال بواجب الاستقبال. (3) قتل الحية والعقرب والزنابير ونحو ذلك من كل ما يضر وإن أدى قتلها إلى عمل كثير: فعن أبي هريرة أن النبي صلى لاله عليه وسلم قال: (اقتلوا الاسودين (1) في الصلاة: الحية والعقرب) رواه أحمد وأصحاب السنن. الحديث حسن صحيح. (4) المشي اليسير لحاجة: فعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت والباب عليه مغلق فجئت فاستفتحت فمشى ففتح لي ثم رجع الى مصلاه. ووصفت أن الباب في القبلة. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه. ومعنى أن الباب في القبلة، أي جهتها. فهو لم يتحول عن القبلة حينما تقدم لفتح الباب وحينما رجع إلى مكانه. ويؤيد هذا ما جاء عنها أنه كان صلى الله عليه   (1) اقتلوا الاسودين: يطلق على الحية والعقرب لفظ الاسودين تغليبا، ولا يسمى بالاسود في الاصل إلا الحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وسلم يصلي فإذا استفتح إنسان الباب فتح الباب ما كان في القبلة أو عن يمينه أو عن يساره ولا يستدبر القبلة. رواه الدارقطني. وعن الازرق بن قيس قال: كان أبو برزة الاسلمي بالاهواز (1) على حرف نهر وقد جعل اللجام في يده وجعل يصلي، فجعلت الدابة تنكص (2) وجعل يتأخر معها. فقال رجل من الخوارج: اللهم اخز هذا الشيخ كيف يصلي؟ قال: فلما صلى قال: قد سمعت مقالكم. غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستا أو سبعا أو ثمانيا فشهدت أمره وتيسيره فكان رجوعي مع دابتي أهون علي من تركها فتنزع إلى مألفها (3) فيشق علي. وصلى أبو برزة العصر ركعتين (4) . رواه أحمد والبخاري والبيهقي. وأما المشي الكثير فقد قال الحافظ في الفتح: أجمع الفقهاء على أن المشي الكثير في الصلاة المفروضة يبطلها، فيحمل حديث أبي برزة على القليل. حمل الصبي وتعلقه بالمصلي: فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وأمامة بنت زينب (5) ابنة النبي صلى الله عليه وسلم على رقبته فإذا ركع وضعها وإذا قام من سجوده أخذها فأعادها على رقبته فقال عامر ولم أسأله: أي صلاة هي؟ قال ابن جريج: وحدثت عن زيد بن أبي عتاب عن عمرو بن سليم: أنها صلاة الصبح. قال أبو عبد الرحمن (6) جوده (أي جود ابن جريج إسناد الحديث الذي فيه أنها صلاة الصبح) رواه أحمد والنسائي وغيرهما. قال الفاكهاني: وكأن السر في حمله صلى الله عليه وسلم أمامة في الصلاة دفعا لما كانت العرب تالفه من كراهة البنات بالفعل قد يكون أقوى من القول. وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاة العشي (الظهر أو العصر) وهو حامل (حسن أو حسين) فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، قال:   (1) الاهواز: بلدة بالعراق. (2) تنكص: أي ترجع. (3) فتنزع: أي تعود إلى المكان الذي ألفته. (4) لسفره. (5) هي ابنة أبي العاص بن الربيع. (6) هو عبد الله بن الامام أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت في سجودي. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟ قال: (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) رواه أحمد والنسائي والحاكم. قال النووي: هذا يدل لمذهب الشافعي رحمه الله تعالى ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض وصلاة النفل، ويجوز ذلك للامام والمأموم. وحمله أصحاب مالك رضي الله عنه على النافلة ومنعوا جواز ذلك في الفريضة. وهذا التأويل فاسد لان قوله يؤم الناس صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة، وقد سبق أن ذلك كان في فريضة الصبح. قال: وادعى بعض المالكية أنه منسوخ وبعضهم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم أنه كان لضرورة. وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع، لان الادمي طاهر وما في جوفه معفو عنه لكونه في معدته، وثياب الاطفال تحمل على الطهارة ودلائل الشرع متظاهرة على هذا. والافعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بيانا للجواز وتنبيها به على هذه القواعد التي ذكرتها. وهذا يرد ما ادعاه الامام أبو سليمان الخطابي أن هذا الفعل يشبه أن يكون كان بغير تعمد فحملها في الصلاة لكونها كانت تتعلق به صلى الله عليه وسلم فلم يرفعها فإذا قام بقيت معه. قال: (ولا يتوهم أنه حملها مرة أخرى عمدا لانه عمل كثير ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله فكيف لا يشغله هذا؟) هذا كلام الخطابي رحمه الله تعالى، وهو باطل ودعوى مجردة. ومما يردها قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها. وقوله: فإذا رفع من السجود أعادها، وقوله في رواية غير مسلم: خرج علينا حاملا أمامة فصلى فذكر الحديث. وأما قضية الخميصة فلانها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب وإن شغله فيترتب عليه فوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فأصل ذلك الشغل لهذه الفوائد، بخلاف الخميصة فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين، والله أعلم. (6) إلقاء السلام على المصلي ومخاطبته وأنه يجوز له أن يرد بالاشارة على من سلم عليه أو خاطبه: فعن جابر بن عبد الله قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال بيده هكذا، ثم كلمته فقال بيده هكذا (أشار بها) وأنا أسمعه يقرأ ويومئ برأسه. فلما فرغ قال: (ما فعلت في الذي أرسلتك فإنه لم يمنعني من أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي؟) رواه أحمد ومسلم. وعن عبد الله بن عمر عن صهيب أنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فرد علي إشارة، وقال: لا أعلمه إلا قال إشارة بإصبعه: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده. رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في الصلاة. رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وهو صحيح الاسناد. ويستوي في ذلك الاشارة بالاصبع أو باليد جميعها أو بالايماء بالرأس فكل ذلك وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (7) التسبيح والتصفيق: يجوز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا عرض أمر من الامور، كتنبيه الامام إذا أخطأ وكالاذن للداخل أو الارشاد للاعمى أو نحو ذلك. فعن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نابه شئ في صلاته فليقل: سبحان الله، إنما التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال) رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 (8) الفتح على الامام: إذا نسي الامام آية يفتح عليه المؤتم فيذكره تلك الاية، سواء كان قرأ القدر الواجب أم لا. فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فالتبس عليه فلما فرغ قال لابي: (أشهدت معنا؟) قال: نعم. قال: (فما منعك أن تفتح علي؟) رواه أبو داود وغيره ورجاله ثقات. (9) حمد الله عند العطاس أو عند حدوث نعمة (1) : فعن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المتكلم في الصلاة؟) فلم يتكلم أحد، ثم قال الثانية فلم يتكلم أحد، ثم قال الثالثة فقال رفاعة: أنا يا رسول الله، فقال: (والذي نفس محمد بيده لقد ابتدرها بضع وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها) رواه النسائي والترمذي ورواه البخاري بلفظ آخر. (10) السجود على ثياب المصلي أو عمامته لعذر: فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الارض وبردها. رواه أحمد بسند صحيح. فإن كان لغير عذر كره. (11) تلخيص بقية الاعمال المباحة في الصلاة: لخص ابن القيم بعض الاعمال المباحة التي كان يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقال: وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجلها وإذا قام بسطتها، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته فأخذه فخنقه حتى   (1) أما كظم التثاؤب فإنه مستحب، ففي البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع ولا يقل (ها) فإن ذلك من الشيطان، يضحك منه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 سأل لعابه على يده، وكان يصلي على المنبر (1) ويركع عليه فإذا جاءت السجدة نزل القهقرى فسجد على الارض ثم صعد عليه، وكان يصلي إلى جدار فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال يدارئها (2) حتى لصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه، وكان يصلي فجاءته جاريتان من بني عبد المطلب قد اقتتلنا فأخذهما بيده فنزع إحداهما من الاخرى وهو في الصلاة. ولفظ أحمد فيه: فأخذتا بركبتي صلى الله عليه وسلم فنزع بينهما أو فرق بينهما ولم ينصرف، وكان يصلي فمر بين يديه غلام فقال بيده وهكذا (3) فرجع، ومرت بين يديه جارية فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسلو الله صلى الله عليه وسلم قال: (هن أغلب) ذكره الامام أحمد وهو في السنن. وكان ينفخ في صلاته وأما حديث (النفخ في الصلاة كلام) فلا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما رواه سعيد في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله - إن صح - وكان يبكي في صلاته، وكان يتنحنح في صلاته. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها، فإذا أتيته استأذنت فإن وجدته يصلي تنحنح فدخلت وإن وجدته فارغا أذن لي. ذكره النسائي وأحمد، ولفظ أحمد: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل من الليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي تنحنح. رواه أحمد وعمل به فكان يتنحنح في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة، وكان يصلي حافيا تارة ومنتعلا أخرى. كذا قال عبد الله بن عمر، وأمر بالصلاة بالنعل مخالفة لليهود، وكان يصلي في الثوب الواحد وفي الثوبين تارة، وهو أكثر. (12) القراءة من المصحف: فإن ذكوان مولى عائشة كان يؤمها في رمضان من المصحف، رواه مالك. وهذا مذهب الشافعية. قال النووي: ولو قلب أوراقه أحيانا في صلاته لم   (1) كان لمنبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات، وكان يفعل ذلك ليراه المصلون خلفه فيتعلمون الصلاة منه. (2) يدارئها: أي يدافعها. (3) فقال بيده هكذا: أي أشار بها ليرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 تبطل، ولو نظر في مكتوب غير القرآن وردد ما فيه في نفسه لم تبطل صلاته وإن طال، لكن يكره. نص عليه الشافعي في الاملاء. (13) شغل القلب بغير أعمال الصلاة: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الاذان، فإذا قضى الاذان أقبل، فإذا ثوب بها (1) أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظن الرجل لا يدري كم صلى، فإن لم يدر أحدكم ثلاثا صلى أم أربعا فليسجد سجدتين وهو جالس) رواه البخاري ومسلم وقال البخاري: قال عمر: إني لاجهز جيشي وأنا في الصلاة. ومع أن الصلاة في هذه الحالة صحيحة مجزئة (2) فإنه ينبغي للمصلي أن يقبل بقلبه على ربه ويصرف عنه الشواغل بالتفكير في معنى الايات والتفهم لحكمة كل عمل من أعمال الصلاة فإنه لا يكتب للمرء من صلاته إلا ما عقل منها. فعند أبي داود والنسائي وابن حبان عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) وروى البزار عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عزوجل: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي (3) ولم يستطل بها على خلقي (4) ، ولم يبت مصرا على معصيتي (5) وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والارملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي (6) ، واستحفظه ملائكتي، أجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلما، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة) . وروى أبو داود عن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه) . وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص قال، قلت: يا رسول الله إن الشيطان   (1) فإذا ثوب بها: أي أقيمت. (2) ولا ثواب إلا بقدر الخشوع. (3) خفض جناحه لجلالي. (4) لم يترفع عليهم. (5) لم يقض ليلة مصرا على المعصية. (6) أكلؤه بعزتي: أي أرعاه وأحفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا) قال: ففعلت فأذهبه الله عني. وروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عزوجل: (قسمت الصلاة (1) بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل) فإذا قال (الحمد لله رب العالمين) قال الله عزوجل: حمدني عبدي، وإذا قال (الرحمن الرحيم) قال عزوجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال (مالك يوم الدين) قال مجدني عبدي وفوض إلي عبدي، وإذ قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) . مكروهات الصلاة : يكره للمصلي أن يترك سنة من سنن الصلاة المتقدم ذكرها، ويكره له أيضا ما يأتي: (1) العبث بثوبه أو ببدنه إلا إذا دعت إليه الحاجة فإنه حينئذ لا يكره: فعن معيقب قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة فقال: (لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لابد فاعلا فواحدة: تسوية الحصى) رواه الجماعة. وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى) أخرجه أحمد وأصحاب السنن. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلام له يقال له يسار، وكان قد نفخ في الصلاة: (ترب وجهك لله) رواه أحمد بإسناد جيد. (2) التخصر في الصلاة: فعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة. رواه أبو داود وقال: يعني يضع يده على خاصرته.   (1) قسمت الصلاة: أي الفاتحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (3) رفع البصر إلى السماء: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أون لتخطفن أبصارهم) رواه أحمد ومسلم والنسائي. (4) النظر إلى ما يلهي: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حميصة لها أعلام (1) فقال: (شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم (2) واتوني بأنبجانيته) (3) رواه البخاري ومسلم. وروى البخاري عن أنس قال: كان قرام لعائشة (4) سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) . وفي هذا الحديث دليل على أن استثبات الخط المكتوب في الصلاة لا يفسدها. (5) تغميض العينين: كرهه البعض وجوزه البعض بلا كراهة، والحديث المروي في الكراهة لم يصح. قال ابن القيم: والصواب أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه فهناك لا يكره التغميض قطعا والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة. (6) الاشارة باليدين عند السلام: فعن جابر بن سمرة قال: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال هؤلاء يسلمون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس (5) إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يقول: السلام عليكم السلام عليكم) رواه النسائي وغيره وهذا لفظه.   (1) الحميصة: هي كساء من خز أو صوف معلم. (2) أبو جهم: هو عامر بن حذيفة. (3) الانبجانية: كساء غليظ له وبر ولا علم له. وأبو جهم كان قد أهدى النبي صلى الله عليه وسلم الحميصة وطلب أنبحانيته بدلها جبرا لخاطره. (4) كان قرام لعائشة: أي ستر رقيق. (5) الشمس: جمع شموس، النفور من الدواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (7) تغطية الفم والسدل: فعن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه) . رواه الخمسة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. قال الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الارض، وقال الكمال بن الهمام: ويصدق أيضا على لبس القباء من غير إدخال اليدين في كمه. (8) الصلاة بحضرة الطعام: فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء) (1) رواه أحمد ومسلم. وعن نافع أن ابن عمر كان يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه يسمع قراءة الامام. رواه البخاري. قال الخطابي: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالطعام لتأخذ النفس حاجتها منه فيدخل المصلي في صلاته وهو ساكن الجأش لا تنازعه نفسه شهوة الطعام فيعجله ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها. (9) الصلاة مع مدافعة الاخبثين ونحوهما مما يشغل القلب: لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لا تحل لاحد أن يفعلهن: لا يؤم رجل قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم (2) ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل فقد دخل (3) ولا يصلي وهو حاقن (4) حتى يتخفف) . وعند أحمد ومسلم وأبي داود عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصلي أحد بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الاخبثان) .   (1) قال الجمهور: يندب تقديم تناول الطعام على الصلاة إن كان الوقت متسعا وإلا لزم تقديم الصلاة. وقال ابن حزم وبعض الشافعية: يطلب تقديم الطعام وإن ضاق الوقت. (2) هذا في الدعاء الذي يجهر فيه الامام ويشارك فيه المؤتمون، بخلاف دعاء السر الذي يخص به الامام نفسه فإنه لا يكره. (3) فقد دخل، أي حكمه حكم الداخل بلا إذن. (4) وهو حاقن: أي حابس للبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 (10) الصلاة عند مغالبة النوم: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه) رواه الجماعة. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه (1) فلم يدر ما يقول فليضطجع) رواه أحمد ومسلم. (11) التزام مكان خاص من المسجد للصلاة فيه غير الامام: فعن عبد الرحمن بن شبل قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل الماكن في المسجد كما يوطن البعير) (2) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه. مبطلات الصلاة : تبطل الصلاة ويفوت المقصود منها بفعل من الافعال الاتية: (1 و 2) الاكل والشرب عمدا: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أكل أو شرب في صلاة القرض عامدا (3) أن عليه الاعادة، وكذا في صلاة التطوع عند الجمهور لان ما أبطل الفرض يبطل التطوع (4) . (3) الكلام عمدا في غير مصلحة الصلاة: فعن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت   (1) فاستعجم القرآن على لسانه: أي اشتد عليه النطق لغلبة النوم. (2) يجعل له مكانا خاصا كالبعير لا يبرك إلا في مكان خاص اعتاده. (3) قالت الشافعية والحنابلة: لا تبطل الصلاة بالاكل أو الشرب ناسيا أو جاهلا، وكذا لو كان بين الاسنان دون الحمصة فابتلعه. (4) عن طاووس وإسحاق أنه لا بأس بالشرب لانه عمل يسير. وعن سعيد بن جبير وابن الزبير أنهما شربا في التطوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ونهينا عن الكلام، رواه الجماعة. وعن ابن مسعود قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: (إن في الصلاة لشغلا) (1) رواه البخاري ومسلم. فإن تكلم جاهلا بالحكم أو ناسيا فالصلاة صحيحة، فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت (2) . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه. فو الله ما كهرني (3) ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. فهذا معاوية بن الحكم قد تكلم جاهلا بالحكم فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم باعادة الصلاة. وأما عدم البطلان بكلام الناس فلحديث أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر فسلم فقال له ذو اليدين (4) : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تقصر ولم أنس) فقال: بل قد نسيت يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق ما يقول ذو اليدين؟) قالوا: نعم. فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين. رواه البخاري ومسلم. وجوز المالكية الكلام لاصلاح الصلاة بشرط ألا يكثر عرفا وألا يفهم المقصود بالتسبيح. وقال الاوزاعي: من تكلم في صلاته عامدا بشئ يريد به إصلاح الصلاة لم تبطل صلاته. وقال في رجل صلى العصر فجهر بالقرآن   (1) إن في الصلاة لشغلا: مانعا من الكلام. (2) لكني سكت: أي أرادوا أن أسكت فأردت أن أكلمهم لكني سكت. (3) فوالله ما كهرني: أي ما انتهرني أو عبس في وجهي. (4) ذو اليدين: صحابي سمي بذلك لطول كان في يديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فقال رجل من ورائه: إنها العصر، لم تبطل صلاته. (4) العمل الكثير عمدا: وقد اختلف العلماء في ضابط القلة والكثرة، فقيل: الكثير هو ما يكون بحيث لو رآه إنسان من بعد تيقن أنه ليس في الصلاة، وما عدا ذلك فهو قليل. وقيل: هو ما يخيل للناظر أن فاعله ليس في الصلاة. وقال النووي: إن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إن كان كثيرا أبطلها بلا خلاف وإن كان قليلا لم يبطلها بلا خلاف، هذا هو الضابط. ثم اختلفوا في ضبط القليل والكثير على أربعة أوجه ثم اختار الوجه الرابع فقال: (وهو الصحيح المشهور) وبه قطع المصنف والجمهور أن الرجوع فيه إلى العادة، فلا يضر ما يعده الناس قليلا كالاشارة برد السلام، وخلع النعل، ورفع العمامة، ووضعها ولبس ثوب خفيف ونزعه، وحمل صغير ووضعه، ودفع مار ودلك البصاق في ثوبه وأشباه خذا (1) . وأما ما عده الناس كثيرا كخطوات كثيرة متوالية وفعلات متتابعة فتبطل الصلاة. قال: ثم اتفق الاصحاب على أن الكثير إنما يبطل إذا تولى فإن تفرق بأن خطا خطوة، ثم سكت زمنا، ثم خطا أخرى، أو خطوتين، ثم خطوتين بينهما زمن إذا قلنا لا يضر الخطوتان وتكرر ذلك مرات كثيرة حتى بلغ مائة خطوة فأكثر، لم يضر بلا خلاف. قال: فأما الحركات الخفيفة كتحريك الاصابع في سبحة أو حكة أو حل أو عقد فالصحيح المشهور أن الصلاة لا تبطل به وإن كثرت متوالية، لكن يكره. وقد نص الشافعي رحمه الله: أن لو كان يعد الايات بيده عقدا لم تبطل صلاته، لكن الاولى تركه. (5) ترك ركن أو شرط عمدا وبدون عذر: لما رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للاعرابي الذي لم يحسن صلاته: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، وقد تقدم. قال ابن رشد: اتفقوا على أن من صلى بغير طهارة أنه يجب عليه الاعادة،   (1) وقد سبق في مباحث الصلاة ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته أو أمر به كقتل الاسودين ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عمدا كان ذلك أو نسايانا. وكذلك من صلى لغير القبلة عمدا كان ذلك أو نسيانا. وبالجملة فكل من أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وجبت عليه الاعادة (1) . ويرى الحنفية والحنابلة أنه يباح له قطع الصلاة لو خاف ضياع مال له ولو كان قليلا أو لغيره أو خافت أو تألم ولدها من البكاء أو فار القدر أو هربت دابته ونحو ذلك. (6) التبسم والضحك في الصلاة: نقل ابن المنذر الاجماع على بطلان الصلاة بالضحك. قال النووي: وهو محمول على من بان منه حرفان. وقال أكثر العلماء: لا بأس بالتبسم، وإن غلبه الضحك ولم يقو على دفعه فلا تبطل الصلاة به إن كان يسيرا، وتبطل به إن كان كثيرا، وضابط القلة والكثرة والعرف. قضاء الصلاة اتفق العلماء على أن قضاء الصلاة واجب على الناسي والنائم لما تقدم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسى أحد صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها) . والمغمى عليه لا قضاء عليه إلا إذا أفاق في وقت يدرك فيه الطهارة والدخول في الصلاة. فقد روى عبد الرزاق عن نافع: أن ابن عمر اشتكى مرة غلب فيها على عقله حتى ترك الصلاة ثم أفاق فلم يصل ما ترك من الصلاة. وعن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه إذا أغمي على المريض ثم عقل لم يعد الصلاة. قال معمر: سألت الزهري عن المغمى عليه فقال: لا يقضي. وعن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين أنهما قالا في المغمى عليه: لا يعيد الصلاة التي أفاق عندها. وأما التارك للصلاة عمدا فمذهب الجمهور أنه يأثم وان القضاء عليه واجب. وقال ابن تيمية: تارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع وقد وفي ابن حزم هذه المسألة حقها من البحث فأوردنا ما ذكره فيها ملخصا، قال وأما من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها هذا لا يقدر على قضائها أبدا،   (1) فائدة: يحرم على المصلي أن يفعل ما يفسد صلاته بدون عذر، فإن وجد سبب كإغاثة ملهوف أو انقاذ غريق ونحو ذلك فإنه يجب عليه أن يخرج من الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوع ليثقل ميزاته يوم القيامة وليتب وليستغفر الله عزوجل. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يقضيها بعد خروج الوقت حتى إن مالكا وأبا حنيفة قالا من تعمد ترك صلاة أو صلوات فإنه يصليها قبل التي حضر وقتها إن كانت التي تعمد تركها خمس صلوات فأقل سواء خرج وقت الحاضرة أو لم يخرج فإن كانت أكثر من خمس صلوات بدأ بالحاضرة، برهان صحة قولنا (1) قول الله تعالى: (فويل للمصلمين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وقوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) . فلو كان العامد لترك الصلاة مدركا لها بعد خروج وقتها لما كان له الويل ولا لقي الغي كما لا ويل ولا غي لمن أخرها إلى آخر وقتها الذي يكون مدركا لها. وأيضا فإن الله تعالى جعل لكل صلاة فرض وقتا محدود الطرفين يدخل في حين محدود ويبطل ي وقت محدود فلا فرق بين من صلاها قبل وقتها وبين من صلاها بعد وقتها لان كليهما صلى في غير الوقت. وليس هذا قياسا لاحدهما على الاخر بل هما سواء في تعدي حدود الله تعالى، وقد قال الله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وأيضا فإن القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز لغير الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فنسأل من أوجب على العامد قضاء ما تعمد تركه من الصلاة أخبرنا عن هذه الصلاة التي تأمره بفعلها أهي التي أمره الله بها أم هي غيرها؟ فإن قالوا: هي هي قلنا لهم: فالعامد لتركها ليس عاصيا: لانه قد فعل ما أمره الله تعالى ولا إثم على قولكم ولا ملامة على من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها وهذا لا يقوله مسلم) . وإن قالوا: ليست هي التي أمر الله تعالى بها قلنا: صدقتم وفي هذا كفاية إذ أقروا بأنهم أمروه بما يأمره به الله تعالى. ثم نسألهم عمن تعمد ترك الصلاة بعد الوقت أطاعة هي أم معصية؟ فإن قالوا طاعة خالفوا إجماع أهل الاسلام كلهم المتيقن وخالفوا القرآن والسنن الثابتة، وإن قالوا هي معصية صدقوا ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة. وأيضا فإن الله تعالى قد حدد أوقات الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل لكل وقت   (1) أي ابن حزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 صلاة منها أو لا ليس ما قبله وقتا لتأديتها وآخرا ليس ما بعده وقتا لتأديتها، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من الامة فلو جاز أداؤها بعد الوقت لما كان لتحديده عليه السلام آخر وقتها معنى، ولكان لغوا من الكلام وحاشا لله من هذا. وأيضا فان كل عمل علق بوقت محدود فإنه لا يصح في غير وقته ولو صح في غير ذلك الوقت لما كان ذلك الوقت وقتا له وهذا بين وبالله التوفيق. ثم قال بعد كلام طويل: ولو كان القضاء واجبا على العامد لترك الصلاة حتى يخرج وقتها، لما أغفل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك ولا نسياه ولا تعمدا إعناتنا بترك بيانه: (وما كان ربك نسيا) وكل شريعة لم يأت بها القرآن ولا السنة فهي باطلة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) فصح أن ما فات فلا سبيل إلى ادراكه ولو أدرك أو أمكن أن يدرك لما فات كما لا تفوت المنسية أبدا، وهذا لا إشكال فيه، والامة أيضا كلها مجمعة على القول والحكم بأن الصلاة قد فاتت إذا خرج وقتها فصح فوتها بإجماع متيقن ولو أمكن قضاؤها وتأديتها لكان القول بأنها فاتت كذبا وباطلا فثبت يقينا أنه لا يمكن القضاء فيها أبدا، وممن قال بقولنا في هذا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر وبديل العقيلي ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. قال: وما جعل الله تعالى عذرا لمن خوطب بالصلاة في تأخيرها عن وقتها بوجه من الوجوه ولا في حالة المطاعنة والقتال والخوف وشدة المرض والسفر، وقال الله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فتلقم طائفة منكم معك) الاية. وقال تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) . ولم يفسح الله في تأخيرها عن وقتها للمريض المدنف بل أمر إن عجز عن الصلاة قائما أنه يصلي قاعدا فان عجز عن القعود فعلى جنب وبالتيمم إن عجز عن الماء وبغير تيمم إن عجز عن التراب. فمن أين أجاز من أجاز تعمد تركها حتى يخرج وقتها ثم أمره أن يصليها بعد الوقت وأخبره بأنها تجزئه كذلك من غير قرآن ولا سنة لا صحيحة ولا سقيمة ولا قول لصاحب ولا قياس. ثم قال: وأما قولنا أن يتوب من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها ويستغفر الله ويكثر من التطوع فلقول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا) ولقوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) وقال الله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وقال تعالى: (ونضع الموازين القسط كيوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) وأجمعت الامة وبه وردت النصوص كلها على أن للتطوع جزءا من الخير الله أعلم بقدرة للفريضة أيضا جزء من الخير الله أعلم بقدره. فلا بد ضرورة من أن يجتمع من جزء التطوع إذا كثر ما يوازي جزء الفريضة ويزيد عليه وقد أخبر الله تعالى أنه لا يضيع عمل عامل وأن الحسنات يذهبن السيئات. صلاة المريض : من حصل له عذر من مرض ونحوه لا يستطيع معه القيام في الفرض يجوز أن يصلي قاعدا، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه يومئ بالركوع والسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه. لقول الله عزوجل: (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) . وعن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: (صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك) رواه الجماعة إلا مسلما، وزاد النسائي، فإن لم تستطع فمستلقيا (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وعن جابر قال: عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضا فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: (صل على الارض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه. والمعتبر في عدم الاستطاعة هو المشقة أو خوف زيادة المرض أو بطئه أو خوف دوران الرأس. وصفة الجلوس الذي هو بدل القيام أن يجلس متربعا. فعن عائشة قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. رواه النسائي وصححه الحاكم. ويجوز أن يجلس كجلوس التشهد. وأما صفة صلاة من عجز عن القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 والقعود فقيل يصلي على جنبه، فإن لم يستطع صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على قدر طاقته، واختار هذا ابن المنذر. ورد في ذلك حديث ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ برأسه وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة) رواه الدارقطني. وقال قوم يصلي كيفما تيسر له. وظاهر الاحاديث أنه إذا تعذر الايماء من المستلقي لم يجب عليه شئ بعد ذلك. صلاة الخوف : اتفق العلماء على مشروعية صلاة الخوف (1) لقول الله تعالى: (وإذ كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم (2) فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) قال الامام أحمد: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز. وقال ابن القيم: أصولها ست صفات وأبلغها بعضهم أكثر. وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها فصارت سبعة عشر. لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من اختلاف الرواة. قال الحافظ: وهذا هو المعتمد. وإليك بيانها: 1 - أن يكون العدو في غير جهة القبلة فيصلي الامام في الثنائية بطائفة ركعة ثم ينتظر حتى يتموا لانفسهم ركعة ويذهبوا فيقوموا وجاه العدو ثم   (1) سواء كان الخوف من عدو أو حراق أو نحوهما، وسواء كانت في الحضر أو السفر. (2) الجمهور على أن حمل السلاح أثناء الصلاة مستحب، وقال بعضهم بالوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 تأتي الطائفة الاخرى فيصلون معه الركعة الثانية ثم ينتظر حتى يتموا لانفسهم ركعة ويسلم بهم. فعن صالح بن نحوات عن سهل بن أبي خيثمة أن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثبت قائما فأتموا لانفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الاخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا فأتموا لانفسهم ثم سلم بهم. رواه جماعة إلا ابن ماجه. 2 - أن يكون العدو في غير جهة القبلة فيصلي الامام بطائفة (1) من الجيش ركعة والطائفة الاخرى تجاه العدو ثم تنصرف الطائفة التي صلت معه الركعة وتقوم تجاه العدو وتأتي الطائفة الاخرى فتصلي معه ركعة ثم تقضي كل طائفة لنفسها ركعة، فعن ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الاخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. رواه أحمد والشيخان. والظاهر أن الطائفة الثانية تتم بعد سلام الامام من غير أن تقطع صلاتها بالحراسة فتكون ركعتاها متصلتين وأن الاولى لا تصلي الركعة الثانية إلا بعد أن تنصرف الطائفة الثانية من صلاتها إلى مواجهة العدو، فعن ابن مسعود قال: ثم سلم وقام هؤلاء (2) فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلموا. 3 - أن يصلي الامام بكل طائفة ركعتين فتكون الركعتان الاوليان له فرضا والركعتان الاخريان له نفلا. واقتداء المفترض بالمتنفل جائز، فعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم. رواه الشافعي والنسائي. وفي رواية لاحمد وأبي داود والنسائي قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الاخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين   (1) قال في الفتح: والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف جاز لاحدهم أن يصلي بواحد ويحرس بواحد ثم يصلي الاخر وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة. (2) الطائفة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ثم سلم فصار للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان ركعتان. وفي رواية أحمد والشيخين عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين فكان النبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان. 4 - أن يكون العدو في جهة القبلة فيصلي الامام بالطائفتين جميعا مع اشتراكهم في الحراسة ومتابعتهم له في جميع أركان الصلاة إلى السجود فنسجد معه طائفة وتنتظر الاخرى حتى تفرغ الطائفة الاولى ثم تسجد، وإذا فرغوا من الركعة الولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة وتأخرت المتقدمة. فعن جبار قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصفنا صفين خلفه، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف الاخر في نحر (1) العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي كان مؤخرا في الركعة الاولى وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه والبيهقي. 5 - أن تدخل الطائفتان مع الامام في الصلاة جميعا، ثم تقوم إحدى الطائفتين بإزاء العدو وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة ثم يذهبون فيقومون في وجاه العدو، ثم تأتي الطائفة الاخرى فتصلي لنفسها ركعة والامام قائم ثم يصلي بهم الركعة الثانية، ثم تأتي الطائفة القائمة في وجاه العدو فيصلون لانفسهم ركعة والامام والطائفة الثانية قاعدون ثم يسلم الامام ويسلمون جميعا. فعن أبي هريرة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف عام غزوة نجد   (1) تواجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعا - الذين معه والذين مقابل العدو - ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والاخرون قيام مقابل العدو ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعا، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعتان) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي. 6 - أن تقتصر كل طائفة على ركعة مع الامام فيكون للامام ركعتان ولكل طائفة ركعة: فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد فصف الناس خلفه صفين صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى الذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء دور أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة. رواه النسائي وابن حبان وصححه. وعنه قال: (فرض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن ثعلبة بن زهدم قال: (كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا) . رواه أبو داود والنسائي. صلاة المغرب لا يدخلها قصر ولم يقع في شئ من الاحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض لكيفية صلاة المغرب. ولهذا اختلف العلماء: فعند الحنفية والمالكية يصلي الامام بالطائفة الاولى ركعتين ويصلي بالطائفة الثانية ركعة: وأجاز الشافعي وأحمد أن يصلي بالطائفة الاولى ركعة وبالثانية ركعتين لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه فعل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الصلاة أثناء اشتداد الخوف: إذا اشتد الخوف والتحمت الصفوف، صلى كل واحد حسب استطاعته راجلا أو راكبا مستقبلا القبلة أو غير مستقبلها يومئ بالركوع والسجود كيفما أمكن، ويجعل السجود أخفض من الركوع ويسقط عنه من الاركان ما عجز عنه. قال ابن عمر: وصف النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وقال: (فإن كان خوف أشد من ذلك فرجالا وركبانا) وهو في البخاري بلفظ: (فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها) وفي رواية لمسلم أن ابن عمر قال: فإن كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء. صلاة الطالب والمطلوب : من كان طالبا للعدو وخاف أن يفوته صلى بالايماء ولو ماشيا إلى غير القبلة، والمطلوب مثل الطالب في ذلك ويلحق بهما كل من منعه عدو عن الركوع والسجود أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من عدو أو لص أو حيوان مفترس فإنه يصلي بالايماء إلى أي جهة توجه إليها. قال العراقي: ويجوز ذلك في كل هرب مباح من سيل أو حريق إذا لم يجد معدلا عنه، وكذا المدين المعسر إذا كان عاجزا عن بينة الاعسار ولو ظفر به المستحق لحبسه ولم يصدقه، وكذا إذا كان عليه قصاص يرجو العفو عنه إذا سكن الغضب بتغيبه. وعن عبد الله ابن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرفات فقال: (اذهب فاقتله) قال: فرأيته وقد حضرت صلاة العصر فقلت: إني لاخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك. فقال: إني لقي ذلك. فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. رواه أحمد وأبو داود. وحسن الحافظ إسناده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 صلاة السفر : قصر الصلاة الرباعية: قال الله تعالى: (وإذا ضربتم (1) في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) . والتقييد بالخوف غير معمول به. فعن يعلى بن أمية قال: (قلت لعمر بن الخطاب أرأيت (2) إقصار الناس الصلاة وإنما قال عزوجل: (إن خفتم أن يقتنكم الذين كفروا) فقد ذهب ذلك اليوم؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) . رواه الجماعة. وأخرج ابن جرير عن أبي منيب الجرشي أنه قيل لابن عمر قول الله تعالى (وإذا ضربتم في الارض) الاية لا فنحن آمنون لا نخاف فتقصر الصلاة؟ فقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . وعن عائشة قالت: قد فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا في المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى الصلاة الاولى (أي التي فرضت بمكة) . رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وابن خزيمة ورجاله ثقات. قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الصلاة الرباعية ولم يختلف في ذلك أحد من الائمة وإن كانوا قد اختلفوا في حكم القصر فقال بوجوده عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر وهو مذهب الحنفية (3) . وقالت المالكية القصر   (1) الضرب في الارض: عبارة عن السفر فيها والبروز عن محل الاقامة. والجناح: الاثم. وقصر الصلاة: ترك شئ منها. (2) أي أخبرني عن سبب القصر وقد زال الخوف الذي هو سببه كما هو صريح الاية. (3) يرى الحنفية أن من صلى الفرض الرباعي أربعا فإن قعد في الثانية بعد التشهد صحت صلاته مع الكراهة لتأخير السلام وما زاد على الركعتين، نفل، وإن لم يقعد في الركعة الثانية لا يصح فرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 سنة مؤكدة آكد من الجماعة فإذا لم يجد المسافر مسافرا يقتدي به صلى مفردا على القصر ويكره اقتداؤه بالمقيم. وعند الحنابلة أن القصر جائز وهو أفضل من الاتمام، وكذا عند الشافعية إن بلغ مسافة القصر. (2) مسافة القصر: المتبادر من الاية أن أي سفر في اللغة طال أم قصر تقصر من أجله الصلاة وتجمع ويباح فيه الفطر، ولم يرد من السنة ما يقيد هذا الاطلاق. وقد نقل ابن المنذر وغيره في هذه المسألة أكثر من عشرين قولا ونحن نذكر هنا أصح ما ورد في ذلك: روى أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن يحيى بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ يصلي ركعتين. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو أصح حديث ورد في بيان ذلك وأصرحه. والتردد بين الاميال والفراسخ يدفعه ما ذكره أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. رواه سعيد بن منصور وذكره الحافظ في التلخيص وأقره بسكوته عنه. ومن المعروف أن الفرسخ ثلاثة أميال فيكون حديث أبي سعيد رافعا للشك الواقع في حديث أنس ومبينا أن أقل مسافة قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة كانت ثلاثة أميال والفرسخ 5541 مترا والميل 1748 مترا. وأقل ما ورد في مسافة القصر ميل واحد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر. وبه أخذ ابن حزم، وقال محتجا على ترك القصر فيما دون الميل: بأنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء لقضاء الحاجة ولم يقصر. وأما ما ذهب إليه الفقهاء من اشتراط السفر الطويل وأقله مرحلتان عند البعض وثلاث مراحل عند البعض الاخر فقد كفانا مئونة الرد عليهم الامام أبو القاسم الخرقي قال في المغني: قال المصنف: ولا أرى لما صار إليه الائمة حجة. لان أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف. وقد روي عن ابن عمر وابن عباس خلاف ما احتج به أصحابنا، ثم لو لم يوجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله. وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين أحدهما أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي رويناها ولظاهر القرآن لان ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الارض لقوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الاية متناولا كل ضرب في الارض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (يمسح المسافر ثلاثة أيام) جاء لبيان مدة المسح فلا يحتج به ههنا، وعلى أنه يمكن قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سفرا فقال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) . والثاني أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه. ويستوي في ذلك السفر في الطائرة أو القاطرة كما يستوي سفر الطاعة وغيره. ومن كان عمله يقتضي السفر دائما مثل الملاح والمكاري فإنه يرخص له القصر والفطر لانه مسافر حقيقة. (3) الموضع الذي يقصر منه: ذهب جمهور العلماء إلى أن قصر الصلاة يشرع بمفارقة الحضر والخروج من البلد وأن ذلك شرط ولا يتم حتى يدخل أو بيوتها، قال ابن المنذر: ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة. وقال أنس: صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين. رواه الجماعة. ويرى بعض السلف أن من نوى السفر يقصر ولو في بيته. (4) متى يتم المسافر: المسافر يقصر الصلاة ما دام مسافرا فإن أقام لحاجة ينتظر قضاءها قصر الصلاة كذلك لانه يعتبر مسافرا وإن أقام سنين، فإن نوى الاقامة مدة معينة فالذي اختاره ابن القيم أن الاقامة لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قصرت ما لم يستوطن المكان الذي أقام فيه. وللعلماء في ذلك آراء كثيرة، لخصها ابن القيم وانتصر لرأيه فقال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للامة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفق إقامته هذه المدة) . وهذه الاقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أم قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الاقامة بذلك الموضع، وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا) . وظاهر كلام أحمد ان ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح فإنه قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثماني عشرة يوما من الفتح لانه أراد حنينا ولم يكن ثم أجمع المقام) وهذه إقامته التي رواها ابن عباس. وقال غيره بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر ابن عبد الله: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة) . رواه الامام أحمد في مسنده ز وقال المسور بن مخرمة: (أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها) . وقال نافع: (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول) . وقال حفص بن عبيد الله: (أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر) . وقال أنس: أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة) . وقال الحسن: (أقمت مع عبد الرحمن ابن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع) . وقال إبراهيم: (كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وسجستان السنتين) . فهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ترى وهو الصواب. وأما مذهب الناس فقال الامام أحمد: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر. وحمل هذه الاثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يجمعوا (1) الاقامة ألبتة بل كانوا يقولون اليوم نخرج غدا نخرج. وفي هذا نظر لا يخفى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهي ما هي، وأقام فيها يؤسس قواعد   (1) يعزموا: يقصدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الاسلام ويهدم قواعد الشرك ويمهد أمر ما حولها من العرب، ومعلوم قطعا أن هذا يحتاج إقامة أيام ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين، وكذلك إقامته بتبوك فإنه أقام ينتظر العدو، ومن المعلوم قطعا أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل تحتاج إلى أيام وهو يعلم أنهم لا يوافقون في أربعة أيام، وكذلك إقامة عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج. ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام بحيث تفتح الطريق، وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر، وإقامة الصحابة برام هرمز سبعة أشهر يقصرون. ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد لا ينقضي في أربعة أيام. وقد قال أصحاب أحمد: إنه لو أقام لجهاد عدو، أو حبس سلطان، أو مرض قصر، سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة. وهذا هو الصواب، لكن شرطوا فيه شرطا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر وهي ما دون الاربعة الايام. فقال من أين لكم هذا الشرط والنبي صلى الله عليه وسلم لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصر الصلاة بمكة وبتبوك لم يقل لهم شيئا ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته فلم يقل لهم حرفا واحدا لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، وبيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتداء الصحابة به بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئا من ذلك. وقال مالك والشافعي: إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى دونها قصر. وهو مذهب الليث بن سعد. وروى عن ثلاثة من الصحابة عمر وابنه وابن عباس. وقال سعيد بن المسيب: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وعنه كقول أبي حنيفة رحمه الله. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن أقام عشرا أتم وهو رواية عن ابن عباس. وقال الحسن: يقصر ما لم يقصر مصرا. وقالت عائشة: يقصر ما لم يضع الزاد والمزاد. والائمة الاربعة رضوان الله عليهم متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول اليوم أخرج فإنه يقصر أبدا إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عشر يوما ولا يقصر بعدها. وقد قال ابن المنذر في إشرافه: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون. (5) صلاة التطوع في السفر: ذهب الجمهور من العلماء إلى عدم كراهة النفل لمن يقصر الصلاة في السفر لا فرق بين السنن الراتبة وغيرها. فعند البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيت أم هانئ يوم فتح مكة وصلى ثماني ركعات. وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه. وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها إلا من جوف الليل، ورأى قوما يسبحون (1) بعد الصلاة فقال: لو كنت مسبحا لاتممت صلاتي، يا ابن أخي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين، وذكر عمر وعثمان وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) رواه البخاري. وجمع ابن قدامة بين ما ذكره الحسن وبين ما ذكره ابن عمر بأن حديث الحسن يدل على أنه لا بأس بفعلها وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها. (6) السفر يوم الجمعة: لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم تحضر الصلاة. فقد سمع عمر رجلا يقول: لولا أن اليوم يوم جمعة لخرجت. فقال عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن السفر. وسافر أبو عبيدة يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة، وأراد الزهري السفر ضحوة يوم الجمعة فقيل له في ذلك فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سافر يوم الجمعة. الجمع بين الصلاتين : يجوز للمصلي أن يجمع بين الظهر والعصر تقديما وتأخيرا (2) وبين المغرب   (1) يسبحون: أي يصلون. (2) جمع التقديم: أداء الصلاتين في وقت الاول منهما، وجمع التأخير أداؤهما في وقت الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 والعشاء كذلك (1) إذا وجدت حالة من الحالات الاتية: (1) الجمع بعرفة والمزدلفة: اتفق العلماء على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في وقت العشاء بمزدلفة سنة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) الجمع في السفر: الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم لا فرق بين كونه نازلا أو سائرا. فعن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك، إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل العشاء ثم نزل فجمع بينهما. رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن. وعن كريب عن ابن عباس أنه قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر؟ قلنا: بلى. قال: كان إذا زاغت له الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما. رواه أحمد والشافعي في مسنده بنحوه، وقال فيه: إذا سار قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر. رواه البيهقي بإسناد جيد وقال: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الامور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين. وروى مالك في الموطأ عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة تبوك يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب   (1) لا خلاف بين العلماء في أنه لا جمع إلا بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 والعشاء جميعا، قال الشافعي: قوله (ثم دخل ثم خرج لا يكون إلا وهو نازل) . وقال ابن قدامة في المغني بعد ذكر هذا الحديث: قال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت الاسناد. وقال أهل السير إن غزوة تبوك كانت في سنة تسع. وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جد به السير، لانه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جمعا ثم ينصرف إلى خبائه. وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه قال: فكان يصلي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا. والاخذ بهذا الحديث متعين لثبوته وكونه صريحا في الحكم ولا معارض له، ولان الجمع رخصة من رخص السفر فلم يختص بحالة السير، كالقصر والمسح، ولكن الافضل التأخير. انتهى. ولا تشترط النية في الجمع والقصر، قال ابن تيمية: وهو قول الجمهور من العلماء، وقال: والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعا وقصرا لم يكن يأمر أحدا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا لاجمع وهذا جمع تقديم وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر. وأما الموالاة بين الصلاتين فقد قال: والصحيح أنه لا يشترط بحال، لا في وقت الاولى ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولان مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وقال الشافعي: لو صلى المغرب في بيته بنية الجمع ثم أتى المسجد فصلى العشاء جاز. وروي مثل ذلك عن أحمد. (3) الجمع في المطر: روى الاثرم في سننه عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء. وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة. وخلاصة المذاهب في ذلك أن الشافعية تجوز للمقيم الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم فقط بشرط وجود المطر عند الاحرام بالاولى والفراغ منها وافتتاح الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وعند مالك أنه يجوز جمع التقديم في المسجد بين المغرب والعشاء لمطر واقع أو متوقع، وللطين مع الظلمة إذا كان الطين كثيرا يمنع أواسط الناس من لبس النعل، وكره الجمع بين الظهر والعصر للمطر. وعند الحنابلة يجوز الجمع بين المغرب والعشاء فقط تقديما وتأخيرا بسبب الثلج والجليد والوحل والبرد الشديد والمطر الذي يبل الثياب، وهذه الرخصة تختص بمن يصلي جماعة بمسجد يقصد من بعيد يتأذى بالمطر في طريقه فأما من هو بالمسجد أو يصلي في بيته جماعة أو يمشي إلى المسجد مستترا بشئ أو كان المسجد في باب داره فإنه لا يجوز له الجمع. (4) الجمع بسبب المرض أو العذر: ذهب الامام أحمد والقاضي حسين والخطابي والمتولي من الشافعية إلى جواز الجمع تقديما وتأخيرا بعذر المرض لان المشقة فيه أشد من المطر. قال النووي: وهو قوي في الدليل. وفي المغني: والمرض المبيح للجمع هو ما يلحقه به بتأدية كل صلاة في وقتها مشقة وضعف. وتوسع الحنابلة فأجازوا الجمع تقديما وتأخيرا لاصحاب الاعذار وللخائف. فأجازوه للمرضع التي يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، وللمستحاضة ولمن به سلس بول، وللعاجز عن الطهارة ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه قال ابن تيمية: وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد فإنه جوز الجمع إذا كان شغل كما روى النسائي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: يجوز الجمع أيضا للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله. (5) الجمع للحاجة: قال النووي في شرح مسلم: ذهب جماعة من الائمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن يتخذه عادة. وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره. اه وحديث ابن عباس الذي يشير إليه ما رواه مسلم عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. وروى البخاري ومسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا (1) وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وعند مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة قال: فجاءه رجل من بني تيم لم يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شئ، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. فائدة: قال في المغني: وإذا أتم الصلاتين في وقت الاولى ثم زال العذر بعد فراغه منهما قبل دخول وقت الثانية أجزأته ولم تلزمه الثانية في وقتها، لان الصلاة وقعت صحيحة مجزئة عما في ذمته وبرئت ذمته منها فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك، ولانه أدى فرضه حال العذر فلم يبطل بزواله بعد ذلك، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة. الصلاة في السفينة والقاطرة والطائرة : تصح الصلاة في السفينة والقاطرة والطائرة بدون كراهية حسبما تيسر للمصلي. فعن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في السفينة؟ قال: (صل فيها قائما إلا أن تخاف الغرق) رواه الدارقطني والحاكم على شرط الشيخين، وعن عبد الله بن أبي عتبة قال: صحبت جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة في سفينة فصلوا قياما في جماعة، أمهم بعضهم وهم يقدرون على الجد (2) ، رواه سعيد بن منصور.   (1) أي سبعا جمعا، وثمانيا جمعا كما في رواية البخاري. (2) الجد: الشاطئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أدعية السفر : يستحب للمسافر أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي. ثم يتخير من الادعية المأثورة ما يشاء، وهاك بعضها: 1 - عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا رضي الله عنه أتى بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله: فلما استوى عليها قال: الحمد لله (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (1) وإنا إلى ربنا لمنقلبون) ثم حمد الله ثلاثا وكبر ثلاثا. ثم قال سبحانك لا إله إلا أنت، قد ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: (يعجب الرب من عبده إذا قال رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. 2 - وعن الازدي: أن ابن عمر علمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى: اللهم هون علينا سفرنا هذا واطولنا بعده: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الاهل: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر (2) وكآبة المنقلب (3) ، وسوء المنظر في الاهل والمال (4) وإذا   (1) وما كنا له مقرنين: أي مطيقين قهرة. (2) وعثاء السفر: مشقته. (3) وكآبة المنقلب: العودة. أي الحزن عند الرجوع. (4) مرضهم مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 رجع قالهن وزاد فيهن: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) أخرجه أحمد ومسلم. 3 - وعن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الاهل: اللهم إني أعوذ بك من الضبنة (1) في السفر والكآبة في المنقلب: اللهم اطو لنا الارض، وهون علينا السفر) وإذا أراد الرجوع قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) وإذا دخل على أهله قال: (توبا توبا (2) لربنا أوبا لا يغادر علينا حوبا) رواه أحمد والطبراني والبزار بسند رجاله رجال الصحيح. 4 - وعن عبد الله بن سرجس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر قال: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب. والحور بعد الكور (3) ، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في المال والاهل) وإذا رجع قال مثله إلا أنه يقول: (وسوء المنظر في الاهل والمال) فيبدأ بالاهل رواه أحمد ومسلم. 5 - وعن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: (يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود (4) ، وحية وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن شر والد وما ولد) رواه أحمد وأبو داود. 6 - وعن خولة بنت حكيم السليمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه الجماعة إلا البخاري وأبو داود. 7 - وعن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق   (1) الضبنة: الرفاق الذين لا كفاية لهم. أي أعوذ بك من سبهم في السفر. (2) توبا مصدر تاب. وأوبا مصدر آب، وهما بمعنى رجع. والحوب: الذنب. (3) والحور بعد الكور: أي أعوذ بك من الفساد بعد الصلاح. (4) الاسود: العظيم من الحيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الارضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها) رواه النسائي وابن حبان والحاكم وصححاه. 8 - وعن ابن عمر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأى قرية يريد أن يدخلها قال: (اللهم بارك لنا فيها (ثلاث مرات) : اللهم ارزقنا جناها، وحببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا) رواه الطبراني في الاوسط بسند جيد. 9 - وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: (اللهم إني أسألك من خير هذه وخير ما جمعت فيها، اللهم ارزقنا جناها (1) وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا) رواه ابن السني. 10 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وأسحر يقول: (سمع سامع (2) بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار) (3) رواه مسلم. الجمعة : (1) فضل يوم الجمعة: ورد أن يوم الجمعة خير أيام الاسبوع: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها. ولا تقوم الساعة   (1) اللهم ارزقنا جناها: أي ما يجتنى منها من ثمار. (2) سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه عليان: أي شهد شاهد بحمدنا لله وحمدنا لنعمته ولحسن فضله علينا. والبلاء: الفضل والنعمة. (3) هذا دعاء لله أن يكون صاحبا لنا عاصما لنا من النار وأسبابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 إلا في يوم الجمعة) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وعن أبي لبانة البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الايام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى، وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الاضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله عز وجل فيه آدم عليه السلام، وأهبط الله تعالى فيه آدم إلى الارض، وفيه توفى الله تعالى آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئا إلا آتاه الله تعالى إياه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض، ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا هن يشفقن من يوم الجمعة) . رواه أحمد وابن ماجه، قال العراقي إسناده حسن. (2) الدعاء فيه: ينبغي الاجتهاد في الدعاء عند آخر ساعة من يوم الجمعة. فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: إنا لنجد في كتاب الله تعالى في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا قضى له حاجته. قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أو بعض ساعة) . فقلت: صدقت، أو بعض ساعة. قلت أي ساعة هي؟ قال: (آخر ساعة من ساعات النهار) قلت: إنها ليست ساعة صلاة قال: (بلى: إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة) رواه ابن ماجه. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل فيها خبرا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر) رواه أحمد. قال العراقي: صحيح. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئا إلا آتاه إياه: والتمسوها آخر ساعة بعد العصر) رواه النسائي وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم، وحسن الحافظ إسناده في الفتح. وعن أبي سلمة ابن عبد الرحمن رضي الله عنه: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. رواه سعيد في سننه وصححه الحافظ في الفتح. وقال أحمد بن حنبل: أكثر الاحاديث في الساعة التي يرجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 العصر ويرجى بعد زوال الشمس. وأما حديث مسلم وأبي داود عن أبي موسى رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ساعة الجمعة: (هي ما بين أن يجلس الامام) يعني على المنبر (إلى أن تقضي الصلاة) فقد أعل بالاضطراب والانقطاع. (3) استحباب كثرة الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة ويومها: فعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي) قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ (1) فقال: (إن الله عز وجل حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء) رواه الخمسة إلا الترمذي. قال ابن القيم: يستحب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلته لقوله. (أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة) ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الانام ويوم الجمعة سيد الايام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والاخرة فإنها نالته على يده فجمع الله لامته بين خيري الدنيا والاخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة. فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة. وهو عيد لهم في الدنيا، ويوم يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده فمن شكره وحمده، وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن يكثروا من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته. (4) استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلته: فعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه النسائي والبيهقي   (1) وقد أرمت: أي بليت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والحاكم. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين) رواه ابن مردويه بسند لا بأس به. كراهة رفع الصوت بها في المساجد: أصدر الشيخ محمد عبده فتوى جاء فيها: وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة جاء في عبارة الاشباه عند تعداد المكروهات ما نصه: ويكره إفراده بالصوم (1) وإفراد ليلته بالقيام، وقراءة الكهف فيه خصوصا وهي لا تقرأ إلا بالتلحين، وأهل المسجد يلغون ويتحدثون ولا ينصتون، ثم إن القارئ كثيرا ما يشوش على المصلين فقراءتها على هذا الوجه محظورة. (5) الغسل والتجمل والسواك والتطيب للمجتمعات ولا سيما الجمعة: يستحب لكل من أراد حضور صلاة الجمعة (2) أو مجمع من مجامع الناس سواء كان رجلا أو امرأة، أو كان كبيرا أو صغيرا، مقيما أو مسافرا، أن يكون على أحسن حال من النظافة والزينة: فيغتسل ويلبس أحسن الثياب ويتطيب بالطيب ويتنظف بالسواك وقد جاء في ذلك: 1 - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه) رواه أحمد والشيخان. 2 - وعن ابن سلام رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة: (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) (3) رواه أبو داود وابن ماجه. 3 - وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه   (1) ويكره إفراده بالصوم: يعني يوم الجمعة. (2) أما من لم يرد الحضور فلا يسن الغسل بالنسبة له، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء) قال النووي رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد صحيح. (3) المهنة: الخدمة، روى البيهقي عن جابر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم برد يلبسه في العيدين والجمعة. وفي الحديث استحباب تخصيص يوم الجمعة بملبوس غير ملبوس سائر الايام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن (1) من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للامام إذا تكلم إلا غفر له من الجمعة إلى الجمعة الاخرى) رواه أحمد والبخاري. وكان أبو هريرة يقول: (وثلاثة أيام زيادة، إن الله جعل الحسنة بعشرة أمثالها) . وغفران الذنوب خاص بالصغار. لما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة (ما لم يغش الكبائر) . 4 - وعند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة) . 5 - وعند الطبراني في الاوسط والكبير بسند رجاله ثقات عن ابي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: (يا معشر المسلمين هذا يوم جعله الله لكم عيدا فاغتسلوا وعليكم بالسواك) . (6) التبكير إلى الجمعة: يندب التبكير إلى صلاة الجمعة لغير الامام. قال علقمة: خرجت مع عبد الله ابن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة من الله ببعيد، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر ترواحهم إلى الجمعات الاول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد) رواه ابن ماجه والمنذري. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة (2) ثم راح فكأنما قرب بدنة (3) ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن (4) ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجه، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الامام حضرت الملائكة يستعمون الذكر) رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أن هذه الساعات هي ساعات   (1) يزيل شعث الرأس ويتزين. (2) غسل الجنابة: أي كغسل الجنابة. (3) ناقة. (4) فكأنما قرب كبشا أقرن: أي له قرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 النهار فندبوا إلى الرواح من أول النهار (1) وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده، وقال قوم هي أجزاء ساعة قبل الزوال. وقال ابن رشد: وهو الاظهر لوجوب السعي بعد الزوال. (7) تخطي الرقاب: حكى الترمذي عن أهل العلم أنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة وشددوا في ذلك، فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت وآنيت) (2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وغيره. ويستثنى من ذلك الامام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة بشرط أن يتجنب أذى الناس. فعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: (ذكرت شيئا من تبر (3) كان عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) رواه البخاري والنسائي. (8) مشروعية التنفل قبلها: يسن التنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الامام فيكف عنه بعد خروجه إلا تحية المسجد فإنها تصلى أثناء الخطبة مع تخفيفها إلا إذا دخل في أواخر الخطبة بحيث ضاق عنها الوقت فإنها لا تصلى. 1 - فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. رواه أبو داود.   (1) فندبوا إلى الرواح من أول النهار: أي من طلوع: أي من طلوع الفجر. (2) وآنيت: أي أبطأت وتأخرت. (3) التبر: الذهب الذي لم يضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له. ثم أنصت حتى يفرغ الامام من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الاخرى وفضل ثلاثة أيام) رواه مسلم. 3 - وعن جابر رضي الله عنه قال: دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: (صليت؟) قال لا قال: (فصل ركعتين) رواه الجماعة. وفي رواية (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وفي رواية: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الامام فليصل ركعتين) متفق عليه. (9) تحول من غلبه النعاس عن مكانه: يندب لمن بالمسجد أن يتحول عن مكانه إلى مكان آخر إذا غلبه النعاس: لان الحركة قد تذهب بالنعاس وتكون باعثا على اليقظة، ويستوى في ذلك يوم الجمعة وغيره. فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وجوب صلاة الجمعة : أجمع العلماء على أن صلاة الجمعة فرض عين، وأنها ركعتان لقول لله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله (1) وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) . 1 - ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن الاخرون (2) السابقون يوم القيامة، بيد (3) أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي   (1) فاسعوا إلى ذكر الله: امضوا. وذروا: اتركوا. (2) نحن الاخرون: أي زمنا: السابقون: أي الذين يقضى لهم يوم القيامة قبل الخلائق. (3) بيد أنهم أوتوا الكتاب: أي التوراة والانجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فرض عليهم (1) فاختلفوا فيه فهدانا الله. فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد) (2) . 2 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه أحمد ومسلم. 3 - وعن أبي هريرة وابن عمر أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات (3) أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس. 4 - وعن أبي الجعد الضمري، وله صحبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاثا جمع تهاونا طبع الله على قلبه) رواه الخمسة ولاحمد وابن ماجه من حديث جابر نحوه، وصححه ابن السكن. من تجب عليه ومن لا تجب عليه : تجب صلاة الجمعة على المسلم الحر العاقل البالغ المقيم القادر على السعي إليها الخالي من الاعذار المبيحة للتخلف عنها وأما من لا تجب عليهم فهم: 1 و 2 - المرأة والصبي، وهذا متفق عليه. 3 - المريض الذي يشق عليه الذهاب الى الجمعة أو يخاف زيادة المرض أو بطأه وتأخيره. ويلحق به من يقوم بتمريضه إذا كان لا يمكن الاستغناء عنه، فعن طارق بن شهاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة   (1) الذي فرض عليهم: أي فرض عليهم تعظيمه. (2) اليهود غدا والنصارى بعد غد: أي أن اليهود يعظمون غدا يوم السبت، والنصارى بعد غد يعني يعظمون يوم الاحد. (3) ودعهم: أي تركهم. يختم على قلوبهم: أي يطبع على قلوبهم ويحول بينهم وبين الهدى والخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أو صبي أو مريض) قال النووي: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. وقال الحافظ: صححه غير واحد. 4 - المسافر وإذا كان نازلا وقت إقامتها فإن أكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه: لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة فصلى الظهر والعصر جمع تقديم ولم يصل جمعته، وكذلك فعل الخلفاء وغيرهم. 5، 6 - المدين المعسر الذي يخاف الحبس، والمختفي من الحاكم الظالم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر) قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: (خوف أو مرض) رواه أبو داود بإسناد صحيح. 7 - كل معذور مرخص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك. فعن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة. قل صلوا في بيوتكم، فكأن الناس استنكروا فقال: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحض (1) . وعن أبي مليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم جمعة وأصابهم مطر لم تبتل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم. رواه أبو داود وابن ماجه. وكل هؤلاء لا جمعة عليهم وإنما يجب عليهم أن يصلوا الظهر، ومن صلى منهم الجمعة صحت منه وسقطت عنه فريضة الظهر (2) وكانت النساء تحضر المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصلى معه الجمعة. وقتها: ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين إلى أن وقت الجمعة هو وقت الظهر. لما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والبيهقي عن أنس رضي الله عنه   (1) إن الجمعة عزمة: أي فريضة. والدحض: الزلق. (2) لا تجوز اتفاقا لان الجمعة بدل الظهر فهي تقوم مقامه والله لم يفرض علينا ست صلوات، ومن أجاز الظهر بعد الجمعة فإنه ليس له مستند من عقل أو نقل لا عن كتاب ولا عن سنة ولا عن أحد من الائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا مالت الشمس. وعند أحمد ومسلم أن سلمة بن الاكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفئ (1) . وقال البخاري: وقت الجمعة إذا زالت الشمس. وكذلك يروى عن عمر وعن علي والنعمان بن بشير وعمر بن حريث رضي الله عنهم. وقال الشافعي صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان والائمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال. وذهبت الحنابلة وإسحاق إلى أن وقت الجمعة من أول وقت صلاة العيد إلى آخر وقت الظهر، مستدلين بما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس. وفي هذا تصريح بأنهم صلوها قبل زوال الشمس. واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن سيدان السلمي رضي الله عنه قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زوال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره، رواه الدارقطني والامام أحمد في رواية ابنه عبد الله واحتج به، وقال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال فلم ينكر عليهم. فكان الاجماع. وأجاب الجمهور عن حديث جابر بأنه محمول على المبالغة في تعجيل الصلاة بعد الزوال من غير إبراد، أي انتظار لسكون شدة الحر، وأن الصلاة وإراحة الجمال كانتا تقعان عقب الزوال. كما أجابوا عن أثر عبد الله بن سيدان بأنه ضعيف، قال الحافظ ابن حجر: تابعي كبير غير معروف العدالة. وقال ابن عدي: يشبه المجهول. وقال البخاري: لا يتابع على حديثه وقد عارضه ما هو أقوى منه. فروى ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس، وإسناده قوي. لا خلاف بين العلماء في أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة،   (1) الفئ: الظل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 لحديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) . واختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر مذهبا ذكرها الحافظ في الفتح. والرأي الراجح أنها تصح باثنين فأكثر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاثنان فما فوقهما جماعة) ، قال الشوكاني: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالاجماع، والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث، وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شئ من الاحاديث تعيين عدد مخصوص. اه وممن ذهب إلى هذا الطبري وداود والنخعي وابن حزم. مكان الجمعة: الجمعة يصح أداؤها في المصر والقرية والمسجد وأبنية البلد والفضاء التابع لها، كما يصح أداؤها في أكثر من موضع. فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل البحرين: (أن جمعوا حيثما كنتم) . رواه ابن أبي شيبة، وقال أحمد: إسناده جيد. وهذا يشمل المدن والقرى. وقال ابن عباس: (إن أول جمعة جمعت في الاسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة لجمعة جمعت ب (جوائى) : قرية من قرى البحرين) . رواه البخاري وأبو داود. وعن الليث بن سعد أن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما وفيها رجال من الصحابة. وعن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعتب عليهم. رواه عبد الرزاق بسند صحيح. مناقشة الشروط التي اشترطها الفقهاء تقدم الكلام على أن شروط وجوب الجمعة: الذكورة والحرية والصحة والاقامة وعدم العذر الموجب للتخلف عنها، كما تقدم أن الجماعة شرط لصحتها. هـ ذا هو القدر الذي جاءت به السنة والذي كلفنا الله به. وأما ما وراء ذلك من الشروط التي اشترطها بعض الفقهاء فليس له أصل يرجع إليه ولا مستند يعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 عليه. ونكتفي هنا بنقل ما قاله الروضة الندية قال: (هي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونه لم يأت ما يدل على أنها تخالفها. وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل من أنه يشترط في وجوبها الامام الاعظم والمصر الجامع والعدد المخصوص، فإن هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط. ولولا حديث طارق بن شهاب المقيد للوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة ومن عدم إقامتها في زمنه صلى الله عليه وسلم في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات. وأما ما يروى (من أربعة إلى الولاة) فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله) وإنما هو من كلام الحسن البصري. ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة - التي افترضها الله عليهم في الاسبوع وجعلها شعارا من شعائر الاسلام، وهي صلاة الجمعة - من الاقوال الساقطة والمذاهب الزائفة والاجتهادات الداحضة (1) قضى من ذلك العجب فقائل يقول الخطبة كركعتين وإن من فاتته لم تصح جمعته وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها عضد بعض: أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته، ولا بلغه غير هذا الحديث من الادلة. وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الامام، وقائل يقول بأربعة، وقائل يقول بسبعة، وقائل يقول بتسعة، وقائل يقول باثني عشر، وقائل يقول بعشرين، وقائل يقول بثلاثين، وقائل يقول لا تنعقد إلا بأربعين، وقائل يقول بخمسين، وقائل يقول لا تنعقد إلا بسبعين وقائل يقول فيما بين ذلك، وقائل يقول بجمع كثير من غير تقييد وقائل يقول إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع. وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من الالاف. وآخر قال أن يكون فيه جامع وحمام، وآخر قال أن يكون فيه كذا وكذا وآخر قال إنها لا تجب إلا مع الامام الاعظم فإن لم يوجد   (1) الداحضة: الباطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه لم تجب الجمعة ولم تشرع، ونحو هذه الاقوال التي ليس عليها أثارة من علم ولا يوجد في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الامور المذكورة شروطا لصحة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها. فيا لله للعجب مما فعل الرأي بأهله، وما يخرج من رؤوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم وما يخبرونه في أسمارهم من القصص والاحاديث الملفقة وهي عن الشريعة المطهرة بمعزل، يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الانصاف وكل من ثبت قدمه ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال، ومن جاء بالغلط فغلطه رد عليه مردود في وجهه. والحكم بين العباد هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) . فهذه الايات ونحوها تدل أبلغ دلالة وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف هو حكم الله ورسوله. وحكم الله هو كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله تعالى هو سنته ليس غير ذلك، ولم يجعل الله تعالى لاحد من العباد وإن بلغ في العلم أعلى مبلغ وجمع منه ما لا يجمع غيره أن يقول في هذه الشريعة بشئ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة. والمجتهد، وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل، فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. وإني، كما علم الله، لا أزال أكثر التعجب من وقوع مثل هذا للمصنفين وتصديره في كتب الهداية وأمر العوام والمقصرين باعتقاده والعمل به وهو على شفا جرف هار، ولم يختص بمذهب من المذاهب ولا بقطر من الاقطار ولا بعصر من العصور: بل تبع فيه الاخر الاول كأنه أخذه من أم الكتاب وهو حديث خرافة. وقد كثرت التعيينات في هذه العبادة كما سبقت الاشارة إليها بلا برهان ولا قرآن ولا شرع ولا عقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خطبة الجمعة : حكمها: ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب خطبة الجمعة واستدلوا على الوجوب بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالاحاديث الصحيحة ثبوتا مستمرا أنه كان يخطب في كل جمعة، واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهذا أمر بالعي إلى الذكر فيكون واجبا لانه لا يجب السعي لغير الواجب وفسروا الذكر بالخطبة لاشتمالها عليه. وناقش الشوكاني هذه الادلة فأجاب عن الدليل الاول بأن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب، وعن الدليل الثاني بأنه ليس فيه إلا الامر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليها والخطبة ليست بصلاة، وعن الثالث بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو الصلاة، غاية الامر أنه متردد بينها وبين الخطبة وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة، والنزاع في وجوب الخطبة فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب ثم قال: فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني (1) من أن الخطبة مندوبة فقط. استحباب تسليم الامام إذا رقي المنبر والتأذين إذا جلس عليه واستقبال المأمومين له: فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. رواه ابن ماجه وفي إسناده ابن لهيعة وهو للاثرم في سننه عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وفي مراسيل عطاء وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس، ثم قال: (السلام عليكم) . قال الشعبي: كان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك. وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الامام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد. رواه   (1) وكذا عبد الملك بن حبيب وابن الماجشون من المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 البخاري والنسائي وأبو داود. وفي رواية لهم: فلما كانت خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالاذان الثالث وأذن به على الزوراء فثبت الامر على ذلك. ولاحمد والنسائي: كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ويقيم إذا نزل. وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم، رواه بان ماجه. والحديث وإن كان فيه مقال إلا أن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يستحبون استقبال الامام إذا خطب. استحباب اشتمال الخطبة على حمد الله تعالى والثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والموعظة والقراءة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم (1)) رواه أبو داود وأحمد بمعناه. وفي رواية (الخطبة التي ليس فيها شهادة (2) كاليد الجذماء) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال (تشهد) بدل (شهادة) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال: (الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا بين يدي الساعة. من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا) . عن ابن شهاب رضي الله عنه أنه سئل عن تشهد النبي صلى الل عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال: ومن يعصهما فقد غوى. رواهما أبو داود. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب دائما ويجلس بين الخطبتين. ويقرأ آيات ويذكر الناس. رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وعنه أيضا رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيل الموعظة   (1) الجذام: الداء المعروف، شبه الكلام الذي لا يبتدأ فيه بحمد الله تعالى بإنسان مجذوم تنفيرا عنه وارشادا إلى استفتاح الكلام بالحمد. (2) ليس فيها شهادة: أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات. رواه أبو داود. وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما قالت: ما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود، وعن يعلى بن أمية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: (ونادوا يا مالك) متفق عليه. وعن ابن ماجه عن أبي أن الرسول قرأ يوم الجمعة (تبارك) وهو قائم يذكر بأيام الله. وفي الروضة الندية: ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لاجله شرعت. وأما اشتراط الحمد لله أو الصلاة على رسوله أو قراءة شئ من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاق مثل ذلك في خطبته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم، ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وقد كان عرف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاما ويقول مقالا شرع بالثناء على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وما أحسن هذا وأولاه، ولكن ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعد، ولو قال: إن من قام في محفل من المحافل خطيبا ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد والصلاة لما كان هذا مقبولا، بل كان طبع سليم يمجه ويرده. إذا تقرر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث فإذا فعله الخطيب فقد فعل الامر المشروع إلا أنه إذا قدم الثناء على الله وعلى رسوله أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتم وأحسن) . مشروعية القيام للخطبتين والجلوس بينهما جلسة خفيفة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم كما يفعلون اليوم. رواه الجماعة. وعن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال انه يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وروى ابن   (1) المراد بها الصلوات الخمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أبي شيبة عن طاوس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من جلس على المنبر معاوية. وروى أيضا عن الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه ولحمه. وبعض الائمة أخذ وجوب القيام أثناء الخطبة ووجوب الجلوس بين الخطبتين استنادا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولكن الفعل بمجرده لا يفيد الوجوب. استحباب رفع الصوت بالخطبة وتقصيرها والاهتمام بها: فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقه (1) فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) (2) رواه أحمد ومسلم. (وإنما كان قصر الخطبة وطول الصلاة دليلا على فقه الرجل لان الفقيه يعرف جوامع الكلم فيكتفي بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى) وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة. رواه النسائي بإسناد صحيح. وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم (4) رواه مسلم وابن ماجه. قال النووي: يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير، ولا تكون ألفاظا مبتذلة ملفقة فإنها لا تقع في النفوس موقعا كاملا، ولا تكون وحشية لانه لا يحصل مقصودها، بل يختار ألفاظا جزلة مفهمة. وقال ابن القيم: (وكذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير الاصول   (1) المئنة: العلامة والمظنة. (2) الأمر بإطالة الصلاة بالنسبة للخطبة لا التطويل الذي يشق على المصلين. (3) القصد: التوسط والاعتدال. (4) صبحكم ومساكم: أي أتاكم العدو وقت الصباح أو وقت المساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار وما أعد الله لاوليائه وأهل طاعته وما أعد لاعدائه وأهل معصيته فيملا القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا ومعرفة بالله وأيامه، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أمورا مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيمانا بالله ولا توحيدا له ولا معرفة خاصة ولا تذكيرا بأيامه ولا بعثا للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا وأي توحيد وعلم نافع يحصل به؟! ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الايمان الكلية والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه والامر بذكره، وشكره الذي يحببهم إليه فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه فينصرف السامعون قد أحبوه وأحبهم. ثم طال العهد وخفي نور النبوة وصارت الشرائع والاوامر رسوما تقوم من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها وزينوها بما، زينوها به فجعلوا الرسوم والاوضاع سننا لا ينبغي الاخلال بها وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الاخلال بها فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع، فنقص، بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها. قطع الإمام الخطبة للأمر يحدث : وعن أبي بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال (صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) رواه الخمسة. وعن أبي رفاعة العدوي رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله: رجل غريب يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي من خشب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قوائمه حديد فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله تعالى، ثم أتى الخطبة فأتم آخرها) . رواه مسلم والنسائي. قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يقطع خطبته للحاجة تعرض والسؤال لاحد من أصحابه فيجيبه، وربما نزل للحاجة ثم يعود فيتمها كما نزل لاخذ الحسن والحسين، وأخذهما ثم رقي بهما المنبر فأتم خطبته، وكان يدعو الرجل في خطبته تعال اجلس يا فلان، صل يا فلان، وكان يامرهم بمقتضى الحال في خطبته. حرمة الكلام أثناء الخطبة : ذهب الجمهور إلى وجوب الانصات وحرمة الكلام أثناء الخطبة ولو كان أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر سواء كان يسمع الخطبة أم لا، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له أنصت لا جمعة له (1) : رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار والطبراني. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده لا بأس به. وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحضر لجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل الله دعا إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة الت تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله عز وجل يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والامام يخطب أنصت فقد لغوت) (2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وعن أبي الدرداء قال: جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أبي بن كعب فقلت له: يا أبي متى أنزلت هذه الاية؟ فأبى أن يكلمني، ثم سألته فأبى أن يكلمني، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي أبي:   (1) لا جمعة له: أي كاملة للاجماع على إسقاط فرض الوقت وأن جمعته تعتبر ظهرا. (2) فقد لغوت: اللغو: السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 مالك بن جمعتك إلا ما لغوت. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جئته فأخبرته فقال: (صدق أبي، إذا سمعت إمامك يتكلم فانصت حتى يفرغ) رواه أحمد والطبراني. وروي عن الشافعي وأحمد انهما فرقا بين من يمكنه السماع ومن لا يمكنه فاعتبرا تحريم الكلام في الاول دون الثاني وإن كان الانصات مستحبا. وحكى الترمذي عن أحمد وإسحق الترخيص في رد السلام وتشميت العاطس والامام يخطب. وقال الشافعي: لو عطس رجل يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لان التشميت سنة، ولو سلم رجل على رجل كرهت ذلك ورأيت أن يرد عليه، لان السلام سنة ورده فرض..أما الكلام في غير وقت الخطبة فإنه جائز. فعن ثعلبة بن أبي مالك قال: كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. رواه الشافعي في مسنده. وروى أحمد بإسناد صحيح أن عثمان ابن عفان كان وهو على المنبر والمؤذن يقيم يستخبر الناس عن أخبارهم وأسعارهم. ادراك ركعة من الجمعة أو دونها: يرى أكثر أهل العلم أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الامام فهو مدرك لها وعليه أن يضيف إليها أخرى، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته) . رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني. قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح لكن قوى أبو حاتم إرساله. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها) رواه الجماعة. وأما من أدرك أقل من ركعة فإنه لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا (1) في قول أكثر العلماء. قال ابن مسعود: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا. رواه الطبراني بسند حسن. وقال ابن عمر: إذا أدركت من الجمعة ركعة فأضف إليها أخرى، وإن أدركتهم جلوسا فصل أربعا. رواه البيهقي.   (1) ينوي الجمعة ويتمها ظهرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وهذا مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: من أدرك التشهد مع الامام فقد أدرك الجمعة فيصلي ركعتين بعد سلام الامام وتمت جمعته. الصلاة في الزحام: روى أحمد والبيهقي عن سيار قال: سمعت عمر وهو يخطب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هذا المسجد ونحن معه، المهاجرون والانصار، فإذا اشتد الزحام فليسجد الرجل منكم على ظهر أخيه. ورأى قوما يصلون في الطريق فقال: صلوا في المسجد. التطوع قبل الجمعة وبعدها: يسن صلاة أربع ركعات أو صلاة ركعتين بعد صلاة الجمعة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا) رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته. رواه الجماعة. قال ابن القيم: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل منزله فصلى ركعتين وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعا. قال شيخنا ابن تيمية: إن صلى في المسجد صلى أربعا وإن صلى في بيته صلى ركعتين. قلت: وعلى هذا تدل الاحاديث. وقد ذكر أبو داود عن ابن عمر أنه إذا صلى في المسجد صلى أربعا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) . انتهى. وإذا صلى أربع ركعات قبل يصليها موصولة وقيل يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين، والافضل صلاتها بالبيت. وإن صلاها بالمسجد تحول عن مكانه الذي صلى فيه الفرض. أما صلاة السنة قبل الجمعة فقد قال شيخ الاسلام ابن تيمية: (أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الاذان شيئا ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المنبر، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس فما كان يمكن أن يصلي بعد الاذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم، ولا نقل عنه أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله صلاة مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله: (من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له) وهذا هو المأثور عن الصحابة..كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر. فمنهم من يصلي عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة ومنهم من يصلي ثمان ركعات ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا كان جماهير الائمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد لان ذلك إنما يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله، وهو لم يسن في ذلك شيئا، لا بقوله ولا فعله. اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد سقطت الجمعة عمن صلى العيد، فعن زيد بن أرقم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم رخص في الجمعة فقال: (من شاء أن يصلي فليصل) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة والحاكم. وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون) رواه أبو داود. ويستحب للامام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنا مجمعون) . وتجب صلاة الظهر على من تخلف عن الجمعة لحضوره العيد عند الحنابلة. والظاهر عدم الوجوب، لما رواه أبو داود عن ابن الزبير أنه قال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليهما حتى صلى العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 صلاة العيدين : شرعت صلاة العيدين في السنة الاولى من الهجرة، وهي سنة مؤكدة واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليها وأمر الرجال والنساء أن يخرجوا لها. ولها أبحاث نوجزها فيما يلي: (1) استحباب الغسل والتطيب، ولبس أجمل الثياب: فعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس برد حبرة (1) في كل عيد. رواه الشافعي والبغوي. وعن الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأثمن ما نجد. الحديث رواه الحاكم وفيه إسحاق ابن برزخ، ضعفه الازدي ووثقه ابن حبان. وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يلبس لهما أجمل ثيابه وكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة. (2) الاكل قبل الخروج في الفطر دون الاضحى: يسن أكل تمرات وترا قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر وتأخير ذلك في عيد الاضحى حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته إن كان له أضحية. قال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا (2) رواه أحمد والبخاري. وعن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الاضحى حتى يرجع. رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وزاد: فيأكل من أضحيته. وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب: أن الناس كانوا يؤمرون بالاكل قبل الغدو يوم الفطر. وقال ابن قدامة: لا نعلم في استحباب تعجيل الاكل يوم الفطر اختلافا.   (1) برد حبرة: نوع من برود اليمن. (2) ويأكلهن وترا: أي ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 (3) الخروج إلى المصلى: صلاة العيد يجوز أن تؤدى في المسجد، ولكن أداءها في المصلى خارج البلد أفضل (1) ما لم يكن هناك عذر كمطر ونحوه لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى (2) ولم يصل العيد بمسجده إلا مرة لعذر المطر. فعن أبي هريرة أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم، وفي إسناده مجهول. قال الحافظ في التلخيص: إسناده ضعيف. وقال الذهبي: هذا حديث منكر. (4) خروج النساء والصبيان: يشرع خروج الصبيان والنساء في العيدين للمصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض، لحديث أم عطية قالت: أمرنا أن نخرج العواتق (3) والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزل الحيض المصلى. متفق عليه. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج نساءه وبناته في العيدين. رواه ابن ماجه والبيهقي. وعن ابن عباس قال: خرجت مع النبي (4) صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى ثم خطب ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة. رواه البخاري. (5) مخالفة الطريق: ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق والرجوع في طريق آخر سواء كان إماما أو مأموما، فعن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق. رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي خرج فيه. رواه أحمد ومسلم والترمذي.   (1) خارج البلد أفضل ما عدا مكة فإن صلاة العيد في المسجد الحرام أفضل. (2) المصلى: موضع بباب المدينة الشرقي. (3) العواتق: البنات الابكار. (4) خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم: وكان يومئذ صغيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ويجوز الرجوع في الطريق الذي ذهب فيه، فعند أبي داود والحاكم والبخاري في التاريخ عن بكر بن مبشر. قال: كنت أغدو مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم الفطر ويوم الاضحى فنسلك بطن بطحان (1) حتى نأتي المصلى فنصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع من بطن بطحان إلى بيوتنا. قال ابن السكن: إسناده صالح. (6) وقت صلاة العيد: وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس قدر ثلاثة أمتار إلى الزوال، لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء من حديث جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الفطر والشمس على قيد رمحين (2) والاضحى على قيد رمح. قال الشوكاني، في هذا الحديث: إنه أحسن ما ورد من الابحاث في تعيين وقت صلاة العيدين. وفي الحديث استحباب تعجيل صلاة عيد الاضحى وتأخير صلاة الفطر. قال ابن قدامة: ويسن تقديم الاضحى ليتسع وقت الضحية وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر، ولا أعلم فيه خلافا. (7) الاذان والاقامة للعيدين: قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة. والسنة أن لا يفعل شئ من ذلك. انتهى. وعن ابن عباس وجابر قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الاضحى. متفق عليه. ولمسلم عن عطاء قال: أخبرني جابر أن لا أذان الصلاة يوم الفطر حين يخرج الامام ولا بعدما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شئ، لا نداء يومئذ ولا إقامة. وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة. رواه البزار.   (1) بطحان: واد بالمدينة. (2) قيد رمحين: أي قدر رمحين. والرمح يقدر بثلاثة أمتار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 (8) التكبير في صلاة العيدين: صلاة العيد ركعتان يسن فيهما أن يكبر المصلي قبل القراءة في الركعة الاولى سبع تكبيرات بعد تكبيرة الاحرام، وفي الثانية خمس تكبيرات غير تكبيرة القيام، مع رفت اليدين مع كل تكبيرة (1) . فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الاولى وخمسا في الاخرة. ولم يصل قبلها ولا بعدها. رواه أحمد وابن ماجه. وقال أحمد: وأنا أذهب إلى هذا. وفي رواية أبي داود والدارقطني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الاولى وخمس في الاخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما) . وهذا القول هو أرجح الاقوال وإليه ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والائمة. قال ابن عبد البر: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق حسان أنه كبر في العيدين سبعا في الاولى وخمسا في الثانية من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني. ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أول ما عمل به (2)) انتهى. وقد كان صلى الله عليه وسلم يسكت بين كل تكبيرتين سكنة يسيرة ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات، ولكن روى الطبراني والبيهقي بسند قوي عن ابن مسعود من قوله وفعله أنه كان يحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم (3) . وروي كذلك عن حذيفة وأبي موسى. والتكبير سنة لا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا. وقال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافا، ورجح الشوكاني أنه إذا تركه سهوا لا يسجد للسهو.   (1) رفع اليدين مع كل تكبيرة: روى ذلك عن عمر وابنه عبد الله. (2) وعند الحنفية يكبر في الاولى ثلاثا بعد تكبيرة الاحرام قبل القراءة وفي الثانية ثلاثا بعد القراءة. (3) استحب أحمد والشافعي الفصل بين كل تكبيرتين بذكر الله مثل أن يقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال أبو حنيفة ومالك يكبر متواليا من غير فصل بين التكبير بذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 (9) الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها: لم يثبت أن لصلاة العيد سنة قبلها ولا بعدها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه يصلوم إذا انتهوا إلى المصلي شيئا قبل الصلاة ولا بعدها. قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. رواه الجماعة. وعن ابن عمر أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وذكر البخاري عن ابن عباس أنه كره الصلاة قبل العيد. أما مطلق النفل فقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح إنه لمى ثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة في جميع الايام. (10) من تصح منهم صلاة العيد: تصح صلاة العيد من الرجال والنساء مسافرين كانوا أو مقيمين جماعة أو منفردين، في البيت أو في المسجد أو في المصلى. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة صلى ركعتين، قال البخاري: (باب) إذا فاته العيد يصلي ركعتين وكذلك النساء ومن في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (هذا عيدنا أهل الاسلام) . وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم. وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كام يصنع الامام. وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين. (11) خطبة العيد: الخطبة بعد صلاة العيد سنة والاستماع إليها كذلك. فعن أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والاضحى إلى المصلى. (1) وأول شئ يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثا (2) أن يأمر بشئ أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك   (1) المصلى: موضع بينه وبين المسجد ألف ذراع. (2) أن يقطع بعثا: أي يخرج طائفة من الجيش إلى جهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة. فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد! ... قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. متفق عليه. وعن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليهذب) رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه. وكل ما ورد في أن للعيد خطبتين يفصل بينهما الامام بجلوس فهو ضعيف. قال النووي: لم يثبت في تكرير الخطبة شئ. ويستحب افتتاح الخطبة بحمد الله تعالى، ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا. قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعيد، مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يكبر بين أضعاف الخطبة ويكثر التكبير في خطبة العيدين. وهذا لا يدل على أنه يفتتحها به. وقد اختلف الناس في افتتاح خطبة العيدين والاستسقاء فقيل: يفتتحان بالتكبير، وقيل تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل يفتتحان بالحمد. قال شيخ الاسلام تقي الدين: هو الصواب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم) (1) وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، وأما قول كثير من الفقهاء: أنه يفتتح خطب الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير فليس معهم فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، والسنة تقضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله. (12) قضاء صلاة العيد: قال أبو عمير بن أنس: حدثني عمومتي من الانصار من أصحاب رسول   (1) فهو أجذم: أي ناقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أغمي علينا هلال شوال وأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالامس فأمرهم رسول الله أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح. وفي هذا الحديث حجة للقائلين بأن الجماعة إذا فاتتها صلاة العيد بسبب عذر من الاعذار أنها تخرج من الغد فتصلي العيد. (13) اللعب واللهو والغناء والاكل في الاعياد: اللعب المباح، واللهو البرئ، والغناء الحسن، ذلك من شعائر الدين التي شرعها الله في يوم العيد، رياضة للبدن وترويحا عن النفس، قال أنس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما قال: (قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما يوم الفطر والاضحى) رواه النسائي وابن حبان بسند صحيح. وقالت عائشة: إن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي منكبيه فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت رواه أحمد والشيخان. ورووا أيضا عنها قالت: دخل علينا أبو بكر في يوم عيد وعندنا جاريتان تذكران يوم بعاث (1) يوما قتل فيه صناديد الاوس والخزرج، فقال أبو بكر: عباد الله أمزمور الشيطان (قالها ثلاثا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وإن اليوم عيدنا) : ولفظ البخاري قالت عائشة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم! فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعهما) فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق (2) والحراب فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال: (تشتهين تنظرين؟) فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده   (1) بعاث: اسم حصن للاوس ويوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للاوس على الخزرج. (2) الدرق: التروس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وهو يقول: (دونكم يا بني أرفدة) (1) حتى إذا ملك قال (حسبك؟) قلت: نعم. قال: (فاذهبي) قال الحافظ في الفتح وروى ابن السراج من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: (لتعلم يهود المدينة أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة) . وعند أحمد ومسلم عن نبيشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله عزوجل) . (14) فضل العمل الصالح في أيام العشر من ذي الحجة: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل من هذه الايام) (يعني أيام العشر) : قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشئ من ذلك) رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وعند أحمد والطبراني عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الايام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) وقال ابن عباس في قوله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) هي أيام العشر. وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. رواه البخاري. وكان سعيد ابن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه. وقال الاوزاعي: بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله يصام نهارها ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بشهادة. قال الاوزاعي: حدثني بهذا الحديث رجل من بني مخزوم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر.) رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي.   (1) أرفده: لقب الحبشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 (15) استحباب التهنئة بالعيد: عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: (تقبل منا ومنك) . قال الحافظ إسناده حسن. (16) التكبير في أيام العيدين: التكبير في أيام العيدين سنة. ففي عيد الفطر قال الله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وفي عيد الاضحى قال: (واذكروا الله في أيام معدودات) (1) . وقال: (كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم) ، وجمهور العلماء على أن التكبير في عيد الفطر من وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة. وقد روي في ذلك أحاديث ضعيفة وإن كانت الرواية صحت بذلك عن ابن عمر وغيره من الصحابة. قال الحاكم: هذه سنة تداولها أهل الحديث. وبه قال مالك وأحمد وإسحق وأبو ثور. وقال قوم التكبير من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدوا إلى المصلى وحتى يخرج الامام. ووقته في عيد الاضحى من صحيح يوم عرفة إلى عصر أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. قال الحافظ في الفتح: ولم يثبت في شئ من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود إنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام منى. أخرجه ابن المنذر وغيره. وبهذا أخذ الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد وهو مذهب عمر وابن عباس. والتكبير في أيام التشريق لا يختص استحبابه بوقت دون وقت، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الايام. قال البخاري: وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل السوق حتى يرتج منى تكبيرا. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الايام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الايام جميعا، وكانت ميمونة تكبر يوم   (1) قال ابن عباس: هي أيام التشريق، رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 النحر، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد، قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الاثار على وجود التكبير في تلك الايام عقب الصلوات وغير ذلك من الاحوال وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع، فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل ومنهم من خصه بالرجال دون النساء وبالجماعة دون المنفرد وبالمؤداة دون المقتضية وبالمقيم دون المسافر وبساكن المدن دون القرية: وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع والاثار التي ذكرها تساعده. وأما صيغة التكبير فالامر فيها واسع. وأصح ما ورد فيها ما رواه عبد الرزاق عن سلمان بسند صحيح قال: كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كيرا. وجاء عن عمر وابن مسعود: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الزكاة (1) تعريفها: الزكاة اسم لما يخرجه الانسان من حق الله تعالى إلى الفقراء. وسميت زكاة لما يكون فيها من رجاء البركة، وتزكية النفس وتنميتها بالخيرات. فإنها مأخوذة من الزكاة، وهو النماء والطهارة والبركة. قال الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (1) . وهي أحد أركان الاسلام الخمسة، وقرنت بالصلاة في اثنتين وثمانين آية. وقد فرضها الله تعالى بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمته. 1 - روى الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن (2) قال: (إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم (3) أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . 2 - وروى الطبراني في الاوسط والصغير، عن علي كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا   (1) سورة التوبة. (2) أي واليا وقاضيا سنة عشر من الهجرة. (3) (كرائم) نفائس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 إلا بما يصنع أغنياؤهم (1) ، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا، ويعذبهم عذابا أليما) قال الطبراني: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد. قال الحافظ: وثابت: ثقة صدوق. روى عنه البخاري وغيره، وبقية رواته لا بأس بهم. وكانت فريضة الزكاة بمكة في أول الاسلام مطلقة، لم يحدد فيها المال الذي تجب فيه، ولا مقدار ما ينفق منه، وإنما ترك ذلك لشعور المسلمين وكرمهم. وفي السنة الثانية من الهجرة - على المشهور - فرض مقدارها من كل نوع من أنواع المال، وبينت بيانا مفصلا. 1 - قال الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) . أي خذ - أيها الرسول - من أموال المؤمنين صدقة معينة كالزكاة المفروضة، أو غير معينة، وهي التطوع (تطهرهم وتزكيهم بها) أي تطهرهم بها من دنس البخل والطمع، والدناءة والقسوة على الفقراء والبائسين، وما يتصل بذلك من الرذائل، وتزكي أنفسهم بها. أي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية، حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والاخروية. 2 - وقال الله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالاسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) . جعل الله أخص صفات الابرار الاحسان، وأن مظهر إحسانهم يتجلى في القيام من الليل، والاستغفار في السحر تعبدا لله وتقربا إليه. كما يتجلى في إعطاء الفقير حقه، رحمة وحنوا عليه. 3 - وقال الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض   (1) أي إن الجهد والمشقة من الجوع والعري لا يصيب الفقراء إلا ببخل الاغنياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله) . أي إن الجماعة التي يباركها الله ويشملها برحمته، هي الجماعة التي تؤمن بالله، ويتولى بعضها بعضا بالنصر والحب، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتصل ما بينها وبين الله بالصلاة، وتقوي صلاتها ببعضها، بإيتاء الزكاة. 4 - وقال الله تعالى: (الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) . جعل الله إيتاء الزكاة غاية من غايات التمكين في الارض. 1 - وروى الترمذي عن أبي كبشة الانماري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة، إلا فتح الله عليه باب فقر) . 2 - وروى أحمد والترمذي، وصححه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها لاحدكم كما يربي أحدكم مهرة أو فلوه، أو فصيله (1) حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد) . قال وكيع: وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) . (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) . 3 - وروى أحمد - بسند صحيح - عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل ومال وحاضرة (2) . فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل) .   (1) (المهر والفلو والفصيل) : ولد الفرس. (2) الجماعة تنزل عنده للضيافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 4 - وروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم في الاسلام كمن لا سهم له، وأسهم الاسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبدا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوما إلا جعله الله معهم. والرابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثم لا يستر الله عبدا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة) . 5 - وروى الطبراني في الاوسط، عن جابر رضي الله عنه قال، قال رجل يا رسول الله: أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدى زكاة ماله ذهب عنه شره) . 6 - وروى البخاري، ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. (3) الترهيب من منعها: 1 - قال الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) . 2 - وقال: (لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون (1) ما بخلوا به يوم القيامة) . 1 - وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب كنز (2) لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله،   (1) يجعل ما بخلوا به من مال طوقا من نار في أعناقهم. (2) (الكنز) مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد، وأما ما أخرجت زكاته فليس بكنز مهما كثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح (1) لها بقاع قرقر (2) كأوفر (3) ما كانت، تسنن (4) عليه، كلما مضى (5) عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها (6) ، وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء (7) ولا جلحاء (8) ، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار.) قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال: (الخيل في نواصيها) ، أو قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا، ولو رعاها في مرج (9) فما أكلت من شئ إلا كتب الله له بها أجرا، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر، حتى ذكر الاجر في أبوالها وأرواثها ولو استنت شرفا (10) أو شرفين كتب له بكل خطوة يخطوها أجر. وأما التي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرما وتجملا، لا ينسى حتى ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأما التي هي عليه وزر، فالذي يتخذها أشرا (11) وبطرا (12) وبذخا (13) ، ورياء الناس فذلك الذي عليه الوزر) قالوا: فالخمر يا رسول الله؟ قال: (ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الاية الجامعة (14) الفاذة (15) : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) .)   (1) (بطح) أي بسط ومد. (2) (القرقر) المستوي الواسع من الارض. (3) كأوفر الخ) أي كأعظم ما كانت. (4) (تستن) أي تجري. (5) (مضى) أي مر. (6) الظلف للغنم كالحافر للفرس. (7) (عقصاء) أي ملتوية القرنين. (8) (جلحاء) أي التي لا قرن لها. (9) (المرج) أي المرعى. (10) (الشرف) أي العالي من الارض. (11) (الاشر) أي البطر. (12) (البطر) شدة المرح. (13) (وبذخا) أي تكبرا. (14) (الجامعة) أي المتناولة لكل خير وبر. (15) (الفاذة) أي القليلة النظير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 2 - وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له (1) يوم القيامة شجاعا أقرع (2) له زبيبتان (3) يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك) . ثم تلا هذه الاية: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الاية.) 3 - وروى ابن ماجه، والبزار، والبيهقي - واللفظ له - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين خصال خمس - إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن -: لم تظهر الفاحشة (4) في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الاوجاع (5) التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين (6) وشدة المؤنة وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر (7) من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل بأسهم (8) بينهم) . 4 - وروى الشيخان عن الاحنف بن قيس قال: (جلست إلى ملا من قريش فجاء رجل (9) خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف (10) يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض (11) كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدية فيتزلزل) . ثم ولى فجلس إلى سارية. وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو - فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت.   (1) (مثل) صور. (2) (الشجاع) الذكر من الحيات و (الاقرع) الذي ذهب شعره من كثرة السم. (3) (زبيبتان) أي نكتتان سوداوان فوق عينه. (4) (الفاحشة) أي الزنا. (5) (الاوجاع) أي الامراض. (6) (السنين) أي الفقر. (7) (القطر) أي المطر. (8) (بأسهم) أي حربهم. (9) هو أبو ذر رضي الله عنه. (10) (الرضف) أي الحجارة المحماة. (11) (نغض) أي أعلى الكتف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي، قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم: أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له، قلت: نعم: قال: ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عزوجل. (4) حكم مانعها: الزكاة من الفرائض التي أجمعت عليها الامة واشتهرت شهرة جعلتها من ضروريات الدين، بحيث لو أنكر وجوبها أحد خرج عن الاسلام، وقتل كفرا، إلا إذا كان حديث عهد بالاسلام، فإنه يعذر لجهله بأحكامه. أما من امتنع عن أدائها - مع اعتقاده وجوبها - فإنه يأثم بامتناعه دون أن يخرجه ذلك عن الاسلام، وعلى الحاكم أن يأخذها منه قهرا ويعزره، ولا يأخذ من ماله أزيد منها، إلا عند أحمد والشافعي في القديم، فإنه يأخذها منه، ونصف ماله، عقوبة له (1) لما رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا (2) فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة (3) من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لال محمد منها شئ) . وسئل أحمد عن إسناده فقال: صالح الاسناد. وقال الحاكم في بهز: حديثه صحيح (4) . ولو امتنع قوم عن أدائها - مع اعتقادهم وجوبها، وكانت لهم قوة ومنعة فإنهم يقاتلون عليها حتى يعطوها. لما رواه البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس   (1) ويلحق به من أخفى ماله ومنع الزكاة ثم انكشف أمره للحاكم. (2) (مؤتجرا) أي طالبا الاجر. (3) (عزمة) أي حقا من الحقوق الواجبة. (4) روى البيهقي أن الشافعي قال: هذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت قلنا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله) . ولما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس (1) ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى؟ فقال: والهل لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا (2) كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. ولفظ مسلم، وأبي داود، والترمذي: لو منعوني عقالا (3) بدل (عناقا) . (5) على من تجب؟: تجب الزكاة على المسلم الحر المالك للنصاب، من أي نوع من أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة. ويشترط في النصاب: 1 - أن يكون فاضلا عن الحاجات الضرورية التي لا غنى للمرء عنها، كالمطعم، والملبس، والمسكن، والمركب، وآلات الحرفة. 2 - وأن يحول عليه الحول الهجري، ويعتبر ابتداؤه من يوم ملك النصاب، ولابد من كماله في الحول كله. فلو نقص أثناء الحول ثم كمل اعتبر ابتداء الحول من يوم كماله.   (1) المراد بهم بنو يربوع وكانوا جمعوا الزكاة وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم. فهؤلاء هم الذين عرض الخلاف في أمرهم ووقعت الشبهة لعمر في شأنهم مما اقتضى مناظرته لابي بكر واحتجاجه على قتالهم بالحديث. وكان قتاله لهم في أول خلافته سنة إحدى عشرة من الهجرة. (2) (عناقا) أي أنثى المعز التي لم تبلغ سنة. (3) التحقيق أنه الحبل الذي يعقل به العبير، وأن الكلام وارد على وجه المبالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قال النووي: مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، والجمهور: أنه يشترط في المال الذي يجب الزكاة في عينه - ويعتبر فيه الحول، كالذهب، والفضة والماشية - وجود النصاب في جميع الحول، فإن نقص النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول. فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب. وقال أبو حنيفة: المعتبر وجود النصاب في أول الحول وآخره، ولا يضر نقصه بينهما، حتى لو كان معه مائتا درهم، فتلفت كلها في أثناء الحول إلا درهما، أو أربعون شاة، فتلفت في أثناء الحول إلا شاة، ثم ملك في آخر الحول تمام المائتين وتمام الاربعين، وجبت الزكاة الجميع (1) . وهذا الشرط لا يتناول زكاة الزروع والثمار فإنها تجب يوم الحصاد قال الله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده (2)) . وقال العبدري: أموال الزكاة ضربان، أحدهما ما هو نماء في نفسه، كالحبوب، والثمار، فهذا تجب الزكاة فيه، لوجوده. والثاني ما يرصد للنماء كالدراهم، والدنانير، وعروض التجارة، والماشية، فهذا يعتبر فيه الحول، فلا زكاة في نصابه حتى يحول عليه الحول، وبه قال الفقهاء كافة، انتهى، من المجموع للنووي. (6) الزكاة في مال الصبي والمجنون: يجب على ولي الصبي والمجنون أن يؤدي الزكاة عنهما من مالهما، إذا بلغ نصابا. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة (3)) وإسناده ضعيف، قال الحافظ: وله شاهد مرسل عند الشافعي. وأكده الشافعي بعموم الاحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقا. وكانت عائشة رضي الله عنها تخرج زكاة أيتام كانوا في حجرها.   (1) لو باع النصاب في أثناء الحول أو أبدله بغير جنسه انقطع حول الزكاة واستأنف حولا آخر. (2) سورة الانعام. (3) أي الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قال الترمذي: اختلف أهل العلم في هذا: فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة، منهم عمر، وعلي، وعائشة، وابن عمر، وبه يقول مالك، والشافعي وأحمد، وإسحق. وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وبه يقول سفيان وابن المبارك. (7) المالك المدين: من كان في يده مال تجب الزكاة فيه - وهو مدين أخرج منه ما يفي بدينه وزكى الباقي، إن بلغ نصابا، وإن لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه، لانه في هذه الحالة فقير والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صدقة إلا عن ظهر غني) رواه أحمد. وذكره البخاري معلقا. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) . ويستوي في ذلك الدين الذي عليه لله، أو للعباد، ففي الحديث: (فدين الله أحق بالقضاء) وسيأتي. (8) من مات وعليه الزكاة: من مات وعليه الزكاة، فإنها تجب في ماله (1) وتقدم على الغرماء (2) والوصية والورثة، لقول الله تعالى في المواريث: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) والزكاة دين قائم لله تعالى. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال (لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟!) قال: نعم. قال: (فدين الله أحق أن يقضى) . رواه الشيخان. (9) شرط النية في أداء الزكاة: الزكاة عبادة، فيشترط لصحتها النية، وذلك أن يقصد المزكي عند أدائها   (1) هذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. (2) (الغرماء) أي الدائنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وجه الله، ويطلب بها ثوابه ويجزم بقلبه أنها الزكاة المفروضة عليه. قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) . وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) . واشترط مالك والشافعي: النية عند الاداء. وعند أبي حنيفة: أن النية تجب عند الاداء أو عند عزل الواجب. وجوز أحمد تقديمها على الاداء زمنا يسيرا. (10) أداؤها وقت الوجوب: يجب إخراج الزكاة فورا عند وجوبها، ويحرم تأخير أدائها عن وقت الوجوب، إلا إذا لم يتمكن من أدائها فيجوز له التأخير حتى يتمكن. لما رواه أحمد والبخاري عن عقبة بن الحارث قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فلما سلم، قام سريعا فدخل على بعض نسائه. ثم خرج، ورأى ما في وجوه القوم من تعاجبهم لسرعته، قال: (ذكرت وأنا في الصلاة تبرأ (1) عندنا، فكرهت أن يمسى أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته) (2) . وروى الشافعي، والبخاري في التاريخ عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته) . رواه الحميدي وزاد، قال: (يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها، فيهلك الحرام الحلال) . (11) التعجيل بأدائها: يجوز تعجيل الزكاة وأداؤها قبل الحول ولو لعامين. فعن الزهري: أنه كان لا يرى بأسا أن يعجل زكاته قبل الحول. وسئل الحسن عن رجل أخرج ثلاث سنين، يجزيه؟ قال: يجزيه.   (1) التبر: قال الجوهري: لا يقال إلا للذهب وقد قاله بعضهم في الفضة. (2) قال ابن بطال: فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به فإن الافات تعرض والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 قال الشوكاني: وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وبه قال الهادي، والقاسم، قال المؤيد بالله: وهو أفضل. وقال مالك، وربيعة، وسفيان الثوري، وداود، وأبو عبيد بن الحارث، ومن أهل البيت، الناصر: إنه لا يجزئ حتى يحول الحول. واستدلوا بالاحاديث التي فيها تعلق الوجوب بالحول وقد تقدمت، وتسليم ذلك لا يضر من قال بصحة التعجيل لان الوجوب متعلق بالحول فلا نزاع، وإنما النزاع في الاجزاء قبله. انتهى. قال ابن رشد: وسبب الخلاف، هل هي عبادة أو حق واجب للمساكين؟ فمن قال: إنها عبادة، وشبهها بالصلاة، لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة، أجاز إخراجها قبل الاجل على جهة التطوع. وقد احتج الشافعي لرأيه بحديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه ومسلم استسلف صدقة العباس قبل محلها، انتهى. (12) الدعاء للمزكي: يستحب الدعاء للمزكي عند أخذ الزكاة منه. لقول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل (1) عليهم إن صلاتك سكن لهم) . وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بصدقة قال: (اللهم صل عليهم) . وأن أبي أتاه بصدقة فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) . رواه أحمد وغيره. وروى النسائي عن وائل بن حجر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة -: (اللهم بارك فيه وفي إبله) . قال الشافعي: السنة للامام - إذا أخذ الصدقة - أن يدعو للمتصدق، ويقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت.   (1) (وصل عليهم) أي أدع لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الاموال التي تجب فيها الزكاة أوجب الاسلام الزكاة في الذهب، والفضة، والزروع، والثمار وعروض التجارة. والسوائم، والمعدن، والركاز. زكاة النقدين : الذهب، والفضة وجوبها: جاء في زكاة الذهب والفضة، قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) . والزكاة واجبة فيهما، سواء أكانا نقودا، أم سبائك، أم تبرأ، متى بلغ مقدار المملوك من كل منهما نصابا، وحال عليه الحول، وكان فارغا عن الدين، والحاجات الاصلية. نصاب الذهب ومقدار الواجب: لا شئ في الذهب حتى يبلغ عشرين دينارا، فإذا بلغ عشرين دينارا، وحال عليها الحول، ففيها ربع العشر، أو نصف دينار، وما زاد على العشرين دينارا يؤخذ ربع عشره كذلك، فعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس عليك شئ - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار. فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. ) رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي، وصححه البخاري، وحسنه الحافظ. وعن زريق مولى بني فزارة: أن عمر بن عبد العزز كتب إليه - حين استخلف -: خذ ممن مر بك من تجار المسلمين - فيما يديرون من أموالهم - من كل أربعين دينارا: دينارا، فما نقص فبحساب ما نقص حتى يبلغ عشرين، فإن نقصت ثلث دينار فدعها، لا تأخذ منها شيئا، واكتب لهم براءة بما تأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 منهم، إلى مثلها من الحول، رواه ابن أبي شيبة. قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. والعشرون دينارا تساوي 28 درهما وزنا بالدرهم المصري. نصاب الفضة ومقدار الواجب: وأما الفضة، فلا شئ فيها حتى تبلغ مائتي درهم، فإذا بلغت مائتي درهم ففيها ربع العشر، وما زاد فبحسابه، قل أم كثر، فإنه لا عفو في زكاة النقد بعد بلوغ النصاب. فعن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة (الفضة) من كل أربعين درهما: درهم، وليس في تسعين ومائة شئ، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم.) رواه أصحاب السنن. قال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: صحيح. قال: والعمل عند أهل العلم، ليس فيما دون خمسة أوراق صدقة، والاوقية أربعون درهما، وخمس أوراق مائتا درهم. والمائتا درهم 9 / 27 7 ريالا و 5 / 555 قرشا مصريا. ضم النقدين : من ملك من الذهب أقل من نصاب، ومن الفضة كذلك لا يضم أحدهما إلى الاخر، ليكمل منهما نصابا، لانهما جنسان: لا يضم أحدهما إلى الثاني، كالحال في البقر والغنم، فلو كان في يده 199 درهما وتسعة عشر دينارا، لا زكاة عليه. زكاة الدين: للدين حالتان: 1 - الدين إما أن يكون على معترف به، باذل له، وللعلماء في ذلك عدة آراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 (الرأي الاول) أن على صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى، وهذا مذهب علي، والثوري، وأبي ثور، والاحناف والحنابلة. (الرأي الثاني) أنه يلزمه إخراج الزكاة في الحال، وإن لم يقبضه، لانه قادر على أخذه والتصرف فيه، فلزمه إخراج زكاته كالوديعة، وهذا مذهب عثمان، وابن عمر، وجابر، وطاووس، والنخعي، والحسن، والزهري، وقتادة، والشافعي. (الرأي الثالث) أنه لا زكاة فيه، لانه غير نام فلم تجب زكاته، كعروض القنية، وهذا مذهب عكرمة، ويروى عن عائشة، وابن عمر. (الرأي الرابع) أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة. وهذا مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح. 2 - وإما أن يكون الدين على معسر، أو جاحد، أو مماطل به. فإن كان كذلك، فقيل: إنه لا تجب فيه الزكاة وهذا قول قتادة، وإسحاق وأبي ثور، والحنفية، لانه غير مقدور على الانتقاع به. وقيل: يزكيه إذا قبضه لما مضى. وهو قول الثوري وأبي عبيد، لانه مملوك يجوز التصرف فيه، فوجبت زكاته لما مضى كالدين على الملئ، وروي عن الشافعي الرأيان. وعن عمر بن عبد العزيز، والحسن، والليث، والاوزاعي، ومالك: يزكيه إذا قبضه، لعام واحد. زكاة أوراق البنكنوت والسندات: أوراق البنكنوت والسندات: هي وثائق بديون مضمونة تجب فيها الزكاة، إذا بلغت أول النصاب 27 ريالا مصريا لانه يمكن دفع قيمتها فضة فورا. زكاة الحلى : اتفق العلماء على أنه لا زكاة في الماس، والدر، والياقوت، واللؤلؤ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 والمرجان، والزبرجد، ونحو ذلك من الاحجار الكريمة إلا إذا اتخذت للتجارة ففيها زكاة. واختلفوا في حلي المرأة، من الذهب والفضة. فذهب إلى وجوب الزكاة فيه، أبو حنيفة، وابن حزم، إذا بلغ نصابا، استدلالا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأتان في أيديهما أساور من ذهب: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحبان أن يسوركما (1) الله يوم القيامة أساور من نار؟) قالتا: لا، قال: (فأديا حق (2) هذا الذي في أيديكما) . وعن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: (أتعطيان زكاته؟) قالت: فقلنا: لا. قال: (أما تخافان أن يسور كما الله أسورة من نار؟ أديا زكاته) قال الهيثمي رواه أحمد وإسناده حسن. وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات (3) من ورق (4) ، فقال لي: ما (هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله؟ فقال: (اتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: (هو حسبك من النار) (5) رواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي وذهب الائمة الثلاثة إلى أنه لا زكاة في حلى المرأة، بالغا ما بلغ. فقد روى البيهقي أن جابر بن عبد الله سئل عن الحلي: أفيه زكاة؟ قال جابر: لا. فقيل: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: أكثر. وروى البيهقي: أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحلي بناتها بالذهب، ولا تزكيه، نحوا من خمسين ألفا. وفي الموطأ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة كانت تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة،   (1) (أن يسوركما) أي أن يلبسكما. (2) (حق هذا) أي زكاته. (3) (فتخات) أي خواتم. (4) (ورق) أي فضة. (5) يعني لو لم تعذب في النار إلا من أجل عدم زكاته لكفاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وفيه أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. قال الخطابي: الظاهر من الكتاب (1) يشهد لقول من أوجبها، والاثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب الى النظر، ومعه طرف من الاثر. والاحتياط أداؤها. هـ ذا الخلاف بالنسبة للحلي المباح، فإذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه - كما إذا اتخذت حلية الرجل، كحلية السيف - فهو محرم، وعليها الزكاة، وكذا الحكم في اتخاذ أواني الذهب والفضة. زكاة صدقة المرأة: ذهب أبو حنيفة إلى أن صداق المرأة لا زكاة فيه، إلا إذا قبضته، لانه بدل عما ليس بمال، فلا تجب فيه الزكاة قبل القبض، كدين الكتابة. ويشترط بعد قبضه أن يبلغ نصابا، ويحول عليه الحول، إلا إذا كان عنها نصاب آخر سوى المهر، فإنها إذا قبضت من الصداق شيئا ضمته إلى النصاب، وزكته بحوله. وذهب الشافعي إلى أن المرأة يلزمها زكاة الصداق، إذا حال عليه الحول، ويلزمها الاخراج عن جميعه آخر الحول، وإن كان قبل الدخول ولا يؤثر كونه معرضا للسقوط بالفسخ، بردة أو غيرها، أو نصفه بالطلاق. وعند الحنابلة: أن الصداق في الذمة دين للمرأة، حكمه حكم الديون عندهم، فإن كان على ملئ (2) به فالزكاة واجبة فيه، إذا قبضته أدت لما مضى، وإن كان على معسر أو جاحد، فاختيار الخرقي وجوب الزكاة فيه. ولا فرق بين ما قبل الدخول أو بعده. فإن سقط نصفه بطلاق المرأة قبل الدخول، وأخذت النصف، فعليها زكاة ما قبضته، دون ما لم تقبضه. وكذلك لو سقط كل الصداق قبل قبضه، لانفساخ النكاح بأمر من جهتها، فليس عليها زكاته.   (1) يشير إلى عموم قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) الاية. (2) (ملئ) أي غني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 زكاة أجرة الدور المؤجرة: ذهب أبو حنيفة ومالك، إلى أن المؤجر لا يستحق الاجرة بالعقد، وإنما يستحقها بانقضاء مدة الاجارة. وبناء على هذا، فمن أجر دارا لا تجب عليه زكاة أجرتها حتى يقبضها، ويحول عليها الحول، وتبلغ نصابا. وذهبت الحنابلة إلى أن المؤجر يملك الاجرة من حين العقد، وبناء عليه، فإن من أجر داره تجب الزكاة في أجرتها إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول، فإن المؤجر يملك التصرف في الاجرة بأنواع التصرفات، وكون الاجارة عرضة للفسخ لا يمنع وجوب الزكاة، كالصداق قبل الدخول، ثم إن كان قد قبض الاجرة أخرج الزكاة منها، وإن كانت دينا فهي كالدين، معجلا كان أو مؤجلا (1) . وفي المجموع للنووي: وأما إذا أجر داره أو غيرها بأجرة حالة، وقبضها، فيجب عليه زكاتها بلا خلاف. زكاة التجارة : حكمها: ذهب جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى وجوب الزكاة في عروض (2) التجارة. لما رواه أبو داود البيهقي عن سمرة بن جندب قال: أما بعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع. وروى الدارقطني والبيهقي عن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في الابل صدقتها، وفي الغنم صدقتها وفي البقر صدقتها، وفي البز (3) صدقته) وروى الشافعي، وأحمد وأبو عبيد، والدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق   (1) أي أنه يؤدي زكاتها حين يقبضها لما مضى من حين العقد إن اكن مضى عليها حول أو أكثر. (2) (العروض) جمع عرض: وهو غير الاثمان من المال. (3) (البز) متاع البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: كنت أبيع الادم والجعاب (1) فمر بي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أد صدقه مالك، فقلت يا أمير المؤمنين، إنما هو الادم. قال: قومه، ثم أخرج صدقته. قال في المغني وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر، فيكون إجماعا. وقالت الظاهرية: لا زكاة في مال التجارة. قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس. واختلافهم في تصحيح حديث سمرة، وحديث أبي ذر. أما القياس الذي اعتمده الجمهور، فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الاجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق - أعني الحرث، والماشية، والذهب، والفضة. وفي المنار: جمهور علماء الملة يقولون بوجوب زكاة عروض التجارة، وليس فيها نص قطعي من الكتاب أو السنة وإنما ورد فيها روايات، يقوي بعضها بعضا، مع الاعتبار المستند إلى النصوص، وهو أن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها إلا في كون النصاب يتقلب ويتردد بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض، فلو لم تجب الزكاة في التجارة لامكن لجميع الاغنياء، أو أكثرهم أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا أن لا يحول على نصاب من النقدين أبدا، وبذلك تبطل الزكاة فيهما عندهم. ورأس الاعتبار في المسألة: أن الله تعالى فرض في أموال الاغنياء صدقة لمواساة الفقراء ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة، وأن الفائدة في ذلك للاغنياء، تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتزكيتها بفضائل الرحمة بالفقراء وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والامة في إقامة المصالح العامة، والفائدة للفقراء وغيرهم، إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، في تضخم الاموال، وحصرها في أناس معدودين، وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفئ (كي لا يكون دولة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الاغنياء منكم) فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها، التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الامة في أيديهم؟ متى تصير العروض للتجارة؟: قال صاحب المغني (1) : (ولا يصير العرض للتجارة، إلا بشرطين: الاول: أن يملكهب فعله كالبيع، والنكاح، والخلع، وقبول الهبة، والوصية، والغنيمة، واكتساب المباحات، لان ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه، لا يثبت بمجرد النية، كالصوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أم بغير عوض، لانه ملكه بفعله، فأشبه الموروث. والثاني: أن ينوي عند تملكه، أنه للتجارة، فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة، وإن نواه بعد ذلك. وإن ملكه بإرث، وقصد أنه للتجارة، لم يصر للتجارة، لان الاصل القنية، والتجارة عارض، فلا يصير إليها بمجرد النية، كما لو نوى الحاضر السفر، لم يثبت له حكم السفر بدون الفعل، وإن اشترى عرضا للتجارة فنوى به الاقتناء صار للقنية، وسقطت الزكاة منه. كيفية تزكية مال التجارة: من ملك من عروض التجارة قدر نصاب، وحال عليه الحول قومه آخر الحول، وأخرج زكاته، وهو ربع عشر قيمته. وهكذا يفعل التاجر في تجارته كل حول، ولا ينعقد الحول حتى يكون القدر الذي يملكه نصابا (2) ، فلو ملك عرضا، قيمته دون النصاب، فمضى جزء من الحول، وهو كذلك، ثم زادت قيمة النماء به، أو تغيرت الاسعار، فبلغ نصابا، أو باعه بنصاب، أو ملك في أثناء الحول عرضا آخر، أو أثمانا، تم بها النصاب، ابتدأ الحول من حينئذ ولا يحتسب بما مضى.   (1) وما في المهذب لا يخرج عن معناه. (2) يرى الامام مالك أن الحول ينعقد على ما دون النصاب، فإذا بلغ في آخره نصابا زكاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وهذا قول الثوري والاحناف، والشافعي، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر. ثم إذا نقص النصاب أثناء الحول، وكمل في طرفيه، لا ينقطع الحول عند أبي حنيفة، لانه يحتاج إلى أن تعرف قيمته في كل وقت، ليعلم أن قيمته فيه تبلغ نصابا، وذلك يشق. وعند الحنابلة: أنه إذا نقص أثناء الحول، ثم زاد حتى بلغا نصابا، استأنف الحول عليه، لكونه انقطع بنقصه في أثنائه. زكاة الزروع والثمار وجوبها: أوجب الله تعالى زكاة الزروع والثمار فقال: (يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض) والزكاة تسمى نفقة، قال تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أمثر وءاتوا حقه يوم حصاده) . قال ابن عباس: حقه، الزكاة المفروضة. وقال: العشر، ونصف العشر. الاصناف التي كانت تؤخذ منها الزكاة على عهد الرسول: وقد كانت الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. فعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الاربعة: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 رواه الدارقطني، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وقال: رواته ثقات وهو متصل. قال ابن المنذر وابن عبد البر: وأجمع العلماء: على أن الصدقة واجبة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. وجاء في رواية ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة. وفي إسناد هذه الرواية، محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك..الاصناف التي لم تكن تؤخذ منها: ولم تكن تؤخذ الزكاة من الخضروات، ولا من غيرها من الفواكه إلا العنب والرطب. فعن عطاء بن السائب: ان عبد الله بن المغيرة أراد أن يأخذ صدقة من أرض موسى بن طلحة من الخضروات فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (ليس في ذلك صدقة) . رواه الدارقطني، والحاكم، والاثرم في سننه. وهو مرسل قوي. وقال موسى بن طلحة: جاء الاثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أشياء: الشعير، والحنطة، والسلت (1) والزبيب، والتمر، وما سوى ذلك مما أخرجت الارض فلا عشر فيه. وقال: إن معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة. قال البيهقي: هذه الاحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضا، ومعها من أقوال الصحابة عمر وعلي وعائشة. وروى الاثرم: أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك (2) والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافا؟ فكتب إليه: إنه ليس عليها عشر، هي من العضاه. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل (3) العلم: أنه ليس في الخضروات صدقة. وقال القرطبي: إن الزكاة تتعلق بالمقتات، دون الخضروات وقد   (1) (السلت) نوع من الشعير. (2) (الفرسك) الخوخ. (3) يقصد: أكثرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 كان بالطائف الرمان والفرسك والاترج فما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منها زكاة، ولا أحد من خلفائه. قال ابن القيم: ولم يكن من هديه أخذ الزكاة من الخيل والرقيق، ولا البغال، ولا الحمير، ولا الخضروات، ولا الاباطخ والمقاتي، والفواكه التي لا تكال ولا تدخر إلا العنب والرطب فإنه يأخذ الزكاة منه جملة، ولم يفرق بين ما يبس وما لم ييبس. رأي الفقهاء: لم يختلف أحد من العلماء في وجوب الزكاة في الزروع والثمار، وإنما اختلفوا في الاصناف التي تجب فيها، إلى عدة آراء نجملها فيما يلي: 1 - رأي الحسن البصري والشعبي أنه لا زكاة إلا في المنصوص عليه، وهو الحنطة، والشعير والذرة، والتمر، والزبيب. لان ما عداه لا نص فيه، واعتبر الشوكاني هذا، المذهب الحق. 2 - رأي أبي حنيفة: أن الزكاة واجبة في كل ما انبته الارض، لا فرق بين الخضروات وغيرها، واشترط أن يقصد بزراعته استغلال الارض ونماؤها عادة، واستثنى الحطب، والقصب الفارسي (1) والحشيش، والشجر الذي لا ثمر له. واستدل لذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم. (فيما سقت السماء العشر) وهذا عام يتناول جميع أفراده، ولانه يقصد بزراعته نماء الارض فأشبه الحب. 3 - رأي أبي يوسف ومحمد: أن الزكاة واجبة في الخارج من الارض، بشرط أن يبقى سنة بلا علاج كثير، سواء أكان مكيلا كالحبوب، أو موزونا كالقطن والسكر. فإن كان لا يبقى سنة، كالقثاء والخيار، والبطيخ، والشمام ونحوها من الخضروات والفواكه، فلا زكاة فيه.   (1) (القصب الفارسي) هو البوص في اللغة العامية المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 4 - مذهب مالك: أنه يشترط فيما يخرج من الارض أن يكون مما يبقي وييبس ويستنيته بنو آدم، سواء أكان مقاتا كالقمح والشعير، أو غير مقتات، كالقرطم والسمسم، ولا زكاة عنده في الخضروات والفواكه، كالتين، والرمان والتفاح. 5 - وذهب الشافعي: إلى وجوب الزكاة فيما تخرجه الارض. بشرط أن يكون مما يقتات ويدخر، ويستنبته الادميون، كالقمح والشعير. قال النووي: مذهبنا: أنه زكاة في غير النخل والعنب من الاشجار. ولا في شئ من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر، ولا زكاة في الخضروات. وذهب أحمد: إلى وجوب الزكاة في كل ما أخرجه الله من الارض، من الحبوب، والثمار، مما ييبس، ويبقى، ويكال ويستنبته الادميون في أراضيهم (1) سواء أكان قوتا: كالحنطة، أو من القطنيات (2) ، أو من الاباريز، كالكسبرة: والكراويا، أو من البذور: كبذر الكتان، والقثاء، والخيار، أو حب البقول: كالقرطم والسمسم. وتجب عنده أيضا، فيما جمع هذه الاوصاف من الثمار اليابسة كالتمر، والزبيب، والمشمش، والتين واللوز والبندق والفستق. ولا زكاة عنده في سائر الفواكه كالخوخ، والكمثرى والتفاح، والمشمش والتين، اللذين لا يجففان ولا في الخضروات كالقثاء، والخيار، والبطيخ، والباذنجان واللفت والجزر. زكاة الزيتون: قال النووي: وأما الزيتون، فالصحيح عندنا أنه لا زكاة فيه: وبه قال الحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو عبيد. وقال الزهري والاوزاعي، والليث، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة   (1) وإن اشترى زرعا بعد بدو صلاحه أو ثمرة بدا صلاحها أو ملكها بجهة من جهات الملك لم تجب فيها الزكاة. (2) (القطنيات) هي الحبوب سوى البر والشعير سميت بذلك لانها تقطن في البيوت أي تخزن وهي كالعدس، والحمص، والبسلة، والجلبان، والترمس واللوبيا، والفول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وأبو ثور: فيه الزكاة. قال الزهري، والليث، والاوزاعي: يخرص فتؤخذ زكاته زيتا. وقال مالك: لا يخرص، بل يؤخذ العشر بعد عصره وبلوغه خمسة أوسق. انتهى. سبب الخلاف ومنشؤه: قال ابن رشد: وسبب الخلاف: أما بين من قصر الزكاة على الاصناف المجمع عليها، وبين من عداها إلى المدخر المقتات، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الاصناف الاربعة، هل هو لعينها، أو لعلة فيها، وهي الاقتيات؟ فمن قال: لعينها، قصر الوجوب عليها. ومن قال: لعلة الاقتيات، عدى الوجوب لجميع المقتات. وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات، وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الارض - إلا ما وقع عليه الاجماع من الحشيش، والحطب، والقصب - معارضة القياس لعموم اللفظ: أما اللفظ الذي يقتضي العموم، فهو قوله عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) و (ما) بمعنى الذي، و (الذي) من الفاظ العموم. وقوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) الاية إلى قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) . وأما القياس فهو أن الزكاة إنما المقصود بن سد الحلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت. فمن خصص العموم بهذا القياس، أسقط الزكاة مما عدا المقتات. ومن غلب العموم، أوجبها فيما عدا ذلك، إلا ما أخرجه الاجماع. والذين اتفقوا على المقتات، اختلفوا في اشياء، من قبل اختلافهم فيها، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة، وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس؟ مثل اختلاف مالك، والشافعي، في الزيتون، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه ومنع الشافعي ذلك في قوله الاخير بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وسبب اختلافهم، هل هو قوت، أو ليس بقوت. نصاب زكاة الزروع والثمار: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الزكاة لا تجب في شئ من الزروع والثمار، حتى تبلغ خمسة أوسق بعد تصفيتها من التبن والقشر، فإن لم تصف، بأن تركت في قشرها (1) فيشترط أن تبلغ عشرة أوسق. 1 - فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) . رواه أحمد، والبيهقي بسند جيد. 2 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة) . والوسق، ستون صاعا بالاجماع، وقد جاء ذلك في حديث أبي سعيد، وهو حديث منقطع. وذهب أبو حنيفة ومجاهد إلى وجوب الزكاة في القليل والكثير، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) ، ولانه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب. قال ابن القيم - مناقشا هذا الرأى - وقد وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق، بالمتشابه من قوله: (فيما سقت السماء العشر وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر) . قالوا وهذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص وإذا تعارضا قدم الاحوط، وهو الوجوب. فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالاخر، وإلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض في هذا، وفي هذا، ولا تعارض بينهما - بحمد الله تعالى - بوجه من الوجوه فإن قوله (فيما سقت السماء العشر) إنما أريد به التمييز، بين ما يجب فيه العشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين، مفرقا بينهما في مقدار الواجب. وأما   (1) كالارز إذا ترك في قشره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الاخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما أول عليه ألبتة، إلى المجمل المتشابه، الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوصين؟ اه وقال ابن قدامة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه: هذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به كما خصصنا قوله: (في كل سائمة من الابل الزكاة) بقوله: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) وقوله: (في الرقة ربع العشر) بقوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ولانه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الاموال الزكوية. وانما لم يعتبر الحول، لانه يكمل نماؤه باستحصاده، لا ببقائه. واعتبر الحول في غيره، لانه مظنة لكمال النماء في سائر الاموال. والنصاب اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه. يحققه: أن الصدقة إنما تجب على الاغنياء ولا يحصل الغني بدون النصاب، كسائر الاموال الزكوية. هذا، والصاع قدح وثلث. فيكون النصاب خمسين كيلة فإن كان الخارج لا يكال، فقد قال ابن قدامة: (ونصاب الزعفران والقطن، وما ألحق بهما من الموزونات، ألف وستمائة رطل بالعراقي، فيقوم وزنه مقامه. (1) قال أبو يوسف: إن كان الخارج مما لا يكال، لا تجب فيه الزكاة إلا إن بلغ قيمة نصاب من أدنى ما يكال. فلا تجب الزكاة في القطن إلا إذا بلغت قيمته خمسة أوسق، من أقل ما يكال، كالشعير ونحوه. لانه لا يمكن اعتباره بنفسه، فاعتبر بغيره، كالعروض يقوم بأدنى النصابين من الاثمان.   (1) الخمسة الاوسق تساوي ألفا وستمائة رطل عراقي والرطل العراقي 130 درهما تقريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقال محمد: يلزم أن يبلغ خمسة أمثال من أعلى ما يقدر به نوعه، ففي القطن لا تجب فيه الزكاة إن بلغ خمسة قناطير، لان التقدير بالوسق فيما يوسق كان باعتبار أنه أعلى ما يقدر به نوعه. مقدار الواجب: يختلف القدر الذي يجب إخراجه، باختلاف السقي: فما سقي بدون استعمال آلة - بأن سقي بالراحة - ففيه عشر الخارج، فإن سقي بآلة أو بماء مشترى، ففيه نصف العشر. 1 - فعن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والبعل (1) ، والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) رواه البيهقي، والحاكم، وصححه. 2 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون، أو كان عشريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) رواه البخاري، وغيره. فإن كان يسقى تارة بآلة، وتارة بدونها، فإن كان ذلك على جهة الاستواء ففيه ثلاثة أرباع العشر. قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافا، وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الاقل تابعا للاكثر، عند أبي حنيفة، وأحمد، والثوري، وأحمد قولي الشافعي. وتكاليف الزرع من خصاد وحمل ودياسة، وتصفية، وحفظ، وغير ذلك من خالص مال المالك، ولا يحسب منها شئ من مال الزكاة. ومذهب ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنه يحسب ما اقترضه من أجل زرعه وثمره. عن جابر بن زيد: عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما - في الرجل   (1) البعل والعثري: الذي يشرب بعرقه دون سقي، والنضح: السقي من ماء بئر أو نهر بساقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 يستقرض فينفق على ثمرته وعلى أهله - قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه ويزكي ما بقي. قال (1) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقضي ما أنفق على الثمرة، ثم يزكي ما بقي (2) رواه يحيى بن آدم في الخراج. وذكر ابن حزم عن عطاء: أنه يسقي مما أصاب النفقة فإن بقي مقدار ما فيه الزكاة زكي، وإلا فلا. الزكاة في الارض الخراجية: تنقسم الارض إلى: 1 - عشرية (3) وهي الارض التي أسلم أهلها عليها طوعا، أو فتحت عنوة وقسمت بين الفاتحين، أو التي أحياها المسلمون. 2 - وخراجية، وهي الارض التي فتحت عنوة، وتركت في أيدي أهلها، نظير خراج معلوم. والزكاة كما تجب في أرض العشر، تجب كذلك في أرض الخراج، إذا أسلم أهلها، أو اشتراها المسلم، فيجتمع فيها العشر والخراج، ولا يمنع أحدهما وجوب الاخر. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر العلماء. وممن قال به، عمر بن عبد العزيز، وربيعة، والزهري، ويحيى الانصاري ومالك، والاوزاعي، والثوري، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، والليث، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة، والمعقول - أي القياس -. أما الكتاب فقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض) فأوجب الانفاق من الارض   (1) قوله: (قال الخ) أي قال جابر. (2) اتفق ابن عباس وابن عمر على قضاء ما أنفق على الثمرة وزكاة الباقي واختلفا في قضاء ما ما أنفق على أهله. (3) (عشرية) أي التي تجب فيها زكاة العشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مطلقا، سواء كانت الارض خراجيه، أو عشرية. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء العشر) وهو عام يتناول العشرية والخراجية. وأما المعقول، فلان الزاكة والخراج حقان بسببين مختلفين لمستحقين فلم يمنع أحدهما الاخر، كما لو قتل المحرم صيدا مملوكا. ولان العشر وجب بالنص، فلا يمنعه الخراج الواجب بالاجتهاد. وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لا عشر في أرض الخراجية، وإنما الواجب فيها الخراج فقط كما كانت، وإن من شروط وجوب العشر أن لا تكون الارض خراجية. أدلة أبي حنيفة ومناقشتها: استدل الامام أبو حنيفة لمذهبه: 1 - بما رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم) . وهذا الحديث مجمع على ضعفه، انفرد به يحيى بن عنبسة، عن أبي حنيفة، عن حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي في معرفة السنن والاثار: (هذا المذكور إنما يرويه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم من قوله، فرواه يحيى هكذا مرفوعا. ويحيى بن عنبسة مكشوف الامر في الضعف لروايته عن الثقات، الموضوعات. قاله أبو أحمد ابن عدي الحافظ فيما أخبرنا به أبو سعيد الماليني عنه) . وضعفه كذلك الكمال بن الهمام من أئمة الحنفية (1) . 2 - وربما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، قالها   (1) رجح الكمال مذهب الجمهور، وناقش مذهبه بما لا يخرج عن مضمون هذا النقاش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ثلاثا، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه) (1) . وليس في هذا الحديث دلالة على عدم أخذ الزكاة من الارض الخراجية، فقد أوله العلماء على معنى أنهم سيسلمون، وتسقط الجزية عنهم. أو أنه إشارة إلى الفتن التي تقع آخر الزمان، المؤدية إلى منع الحقوق الواجبة عليهم، من زكاة، وجزية، وغيرهما. قال النووي - عقب التأويلين -: لو كان معنى الحديث ما زعموه، للزم أن لا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة، وهذا لا يقول به أحد. 3 - وروى: (أن دهقان بهر الملك، لما أسلم، قال عمر بن الخطاب: سلموا إليه الارض، وخذوا منه الخراج. وهذا صريح في الامر بأخذ الخراج، دون الامر بأخذ العشر) . وهذه القصة يقصد بها أن الخراج لا يسقي بإسلامه، ولا يلزم من ذلك سقوط العشر، وإنما ذكر الخراج، لانه ربما يتوهم سقوطه بالاسلام كالجزية، وأما العشر، فمعلوم أنه واجب على الحر المسلم فلم يحتج إلى ذكره. كما أنه لم يذكر أخذ زكاة الماشية منه. وكذك زكاة النقدين، وغيرها، أؤ لان الدهقان لم يكن له ما يجب فيه العشر. 4 - (وأن عمل الولاة والائمة على عدم الجمع بين العشر والخراج) . وهذا ممنوع بما نقله ابن المنذر من أن عمر بن عبد العزيز جمع بينهما. 5 - (وأن الخراج يباين العشر: فإن الخراج وجب عقوبة بينما العشر وجب عبادة، ولا يمكن اجتماعهما في شخص واحد فيجبا عليه معا. وهذا صحيح في حالة الابتداء، ممنوع في حالة البقاء وليس كل صور الخراج أساسها العنوة والقهر، بل يكون في بعض صورة مع عدم العنوة، كما في الارض القريبة من أرض الخراج، أو التي أحياها وسقاها بماء الانهار الصغار. 6 - (أن سبب كل من الخراج والعشر واحد، وهو الارض النامية،   (1) وجه الدلالة في الحديث: أنه إخبار عما يكون من منع الحقوق الواجبة وبين هذه الحقوق، وأنها عبارة عن الخراج، فلو كان العشر واجبا لذكره معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 حقيقة، أو حكما، بدليل أنها لو كانت سبخة لا منفعة لها، لا يجب فيها خراج ولا عشر، وإذا كان السبب واحدا، فلا يجتمعان معا في أرض واحدة، لان السبب الواحد لا يتعلق به حقان من نوع واحد، كما إذا ملك نصابا من السائمة للتجارة سنة، فإنه لا يلزمه زكاتان) . والجواب: أن الامر ليس كذلك، فإن سبب العشر الزرع الخارج من الارض، والخراج يجب على الارض، سواء زرعها أم أهملها. وعلى تسليم وحدة السببية، فلا مانع من تعلق الوظيفتين بالسبب الواحد، الذي هو الارض. كما قال الكمال ابن الهمام..يرى جمهور العلماء أن من استأجر أرضا فزرعها فالزكاة عليه، دون مالك الارض. وقال أبو حنيفة: الزكاة على صاحب الارض. قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم، هل العشر حق الارض أو حق الزرع؟ فلما كان عندهم أنه حق لاحد الامرين، اختلفوا في أيهما أولى أن ينسب إلى موضع الانفاق. وهو كون الزرع والارض لمالك واحد. فذهب الجمهور: إلى أنه ما تجب فيه الزكاة، وهو الحب. وذهب أبو حنيفة: إلى أنه ما هو أصل الوجوب، وهو الارض. ورجح ابن قدامة رأي الجمهور فقال: (إنه واجب في الزرع، فكان على مالكه، كزكاة القيمة، فيما إذا أعده للتجارة، وكعشر زرعه في ملكه، ولا يصح قولهم: إنه من مؤنة الارض لانه لو كان من مؤنتها، لوجب فيها، وإن لم تزرع، كالخراج، ولوجب على الذمي، كالخراج، ولتقدر بقدر الارض لا بقدر الزرع، ولوجب صرفه إلى مصارف الفئ، دون مصرف الزكاة. تقدير النصاب في النخيل والاعناب بالخرص (1) دون الكيل: إذا أزهى النخيل والاعناب، وبدا صلاحها، اعتبر تقدير النصاب فيها   (1) (الخرص) الحزر والتخمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بالخرص دون الكيل، وذلك بأن يحصي الخارص الامين العارف، ما على النخيل، والاعناب، من العنب والرطب، ثم يقدره تمرا وزبيبا، ليعرف مقدار الزكاة فيه، فإذا جفت الثمار أخذ الزكاة التي سبق تقديرها منها. فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى، إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرصوا، وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، فقال لها: أحصي ما يخرج منها) رواه البخاري. هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه من بعده وإليه ذهب أكثر أهل العلم (1) . وخالف في ذلك الاحناف: لان الخرص ظن وتخمين، لا يلزم به حكم. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى، فإن الخرص ليس من الظن في شئ، بل هو اجتهاد في معرفة قدر الثمر، كالاجتهاد في تقويم المتلفات. وسبب الخرص، أن العادة جرت بأكل الثمار رطبا، فكان من الضروري إحصاء الزكاة قبل أن تؤكل وتصرم (2) ومن أجل أن يتصرف أربابها بما شاءوا، ويضمنوا قدر الزكاة. وعلى الخارص، أن يترك في الخرص الثلث، أو الربع، توسعة على أرباب الاموال، لانهم يحتاجون إلى الاكل منه، هم وأضيافهم وجيرانهم. وتنتاب الثمرة النوائب من أكل الطير والمارة وما تسقطه الريح، فلو أحصي الزكاة من الثمر كله، دون استثناء الثلث، أو الربع، لاضر بهم. فعن سهل بن أبي حثمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (3)) رواه أحمد، وأصحاب السنن، إلا ابن ماجه. ورواه الحاكم، وابن حبان وصححاه. قال الترمذي: والعمل على حديث سهل، عند أكثر أهل العلم.   (1) يرى مالك أنه واجب. وعند الشافعي وأحمد: سنة. (2) (تصرم) تقطع. (3) يتبع ذلك كثرة الاكلة وقلتهم فالثلث إذا كثروا، والربع إذا قلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وعن بشير بن يسار قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا حثمة الانصاري على خرص أموال المسلمين، فقال: إذا وجدت القوم في نخلهم قد خرفوا (1) فدع لهم ما يأكلون، لا تخرصه عليهم. وعن مكحول قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: (خففوا على الناس، فإن في المال العرية والواطئة والاكلة) رواه أبو عبيد. وقال: الواطئة (السابلة) سموا بذلك، لوطئهم بلاد الثمار مجتازين. والاكلة: أرباب الثمار، وأهلوهم، ومن لصق بهم. الاكل من الزرع: يجوز لصاحب الزرع أن يأكل من زرعه، ولا يحسب عليه ما أكل منه قبل الحصاد، لان العادة جارية به، وما يؤكل شئ يسير. وهو يشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم فإذا حصد الزرع، وصفى الحب، أخرج زكاة الموجود. سئل أحمد عما يأكل أرباب الزروع من الفريك؟ قال: لا بأس أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه. وكذلك قال الشافعي، والليث، وابن حزم (2) . ضم الزروع والثمار: اتفق العلماء على أنه يضم أنواع الثمر بعضه إلى بعض، وإن اختلف في الجودة، والرداءة واللون، وكذا يضم أنواع الزبيب بعضها إلى بعض وأنواع الحنطة، بعضها إلى بعض، وكذا أنواع سائر الحبوب (3) . واتفقوا أيضا على أن عروض التجارة تضم إلى الاثمان وتضم الاثمان إليها، إلا أن الشافعي لا يضمها إلا إلى جنس ما اشتريت به، لان نصابها معتبر به. واتفقوا على أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر، في تكميل النصاب، في غير الحبوب والثمار.   (1) (خرفوا) اي أقاموا في نخلهم وقت الخريف. (2) قال مالك وأبو حنيفة: يحسب على الرجل ما أكل من زرعه قبل الحصاد من النصاب. (3) إن ضم الجيد إلى الردئ أخذت الزكاة بحسب قدر كل واحد منهما، فإن كان الثمر أصنافا أخذ من وسطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فالماشية لا يضم جنس منها إلى جنس آخر. فلا يضم الابل إلى البقر في تكميل النصاب، والثمار لا يضم جنس إلى غيره، فلا يضم التمر إلى الزبيب. واختلفوا في ضم الحبوب المختلفة، بعضها إلى بعض. وأولى الاراء وأحقها: أنه لا يضم شئ منها في حساب النصاب، ويعتبر النصاب في كل جنس منها قائما بنفسه، لانها أجناس مختلفة، وأصناف كثيرة، بحسب أسمائها فلا يضم الشعير إلى الحنطة، ولا هي إليه، ولا التمر إلى الزبيب، ولا هو إليه، ولا المحص إلى العدس. وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد، وإليه ذكب كثير من علماء السلف. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا تضم الابل إلى البقر، ولا إلى الغنم، ولا البقر إلى الغنم، ولا التمر إلى الزبيب، فكذا لا ضم في غيرها، وليس للقائلين بضم الاجناس دليل صحيح صريح فيما قالوه. متى تجب الزكاة في الزروع والثمار: تجب الزكاة في الزروع إذا اشتد الحب وصار فريكا، وتجب في الثمار إذا بدا صلاحها، ويعرف ذلك باحمرار البلح، وجريان الحلاوة في العنب (1) . ولا تخرج الزكاة إلا بعد تصفية الحب وجفاف الثمر. وإذا باع الزارع زرعه بعد اشتداد الحب، وبدو صلاح الثمر فزكاة زرعه وثمره عليه، دون المشتري، لان سبب الوجوب العقد، وهو في ملكه. إخراج الطيب في الزكاة: أمر الله سبحانه المزكي بإخراج الطيب من ماله، ونهاه عن التصدق بالردئ، فقال: (يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا (2) الخبيث (3) منه تنفقون ولستم   (1) هذا مذهب الجمهور، وعند أبي حنيفة ينعقد سبب الوجوب بخروج الزروع وظهور الثمر. (2) (تيمموا) أي تقصدوا. (3) (الخبيث) أي الردئ غير الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه (1) واعملوا أن الله غني حميد) . روى أبو داود والنسائي، وغيرهما، عن سهل بن حنيف، عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر: الجعرور (2) ، ولون الحبيق (3) . وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم فيخرجونها في الصدقة. فنهوا عن ذلك، ونزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) . وعن البراء قال: في قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) نزلت فينا معشر الانصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو، والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة (4) ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع، أتى القنو فضربه بعصاه فسقط البسر والتمر، فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص، والحشف والقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل الله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) . قال: لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. قال الشوكاني: فيه دليل على أنه لا يجوز للمالك أن يخرج الردئ عن الجيد الذي وجبت فيه الزكاة، نصا في التمر، وقياسا في سائر الاجناس التي تجب فيها الزكاة وكذلك لا يجوز للمصدق أن يأخذ ذلك. ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا زكاة في العسل. قال البخاري: ليس في زكاة العسل شئ يصح. (5)   (1) (تغمضوا) أي تتغاضوا في أخذه. (2 و 3) (الجعرور والحبيق) نوعان رديئان من التمر. (4) (أهل الصفة) أي فقراء المهاجرين. (5) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقال الشافعي: واختياري ألا يؤخذ منه، لان السنن والاثار ثابتة فيما يؤخذ منه، وليست ثابتة فيه، فكان عفوا. وقال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور. وذهب الحنفية، وأحمد: إلى أن في العسل زكاة، لانه وإن لم يصح في إيجابه حديث، إلا أنه جاء فيه آثار يقوي بعضها بعضا، ولانه يتولد من نور الشجر، والزهر، ويكال ويدخر، فوجبت فيه الزكاة، كالحب والتمر، ولان الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار. واشترط أبو حنيفة في إيجاب الزكاة في العسل، أن يكون في أرض عشرية ولم يشترط نصابا له، فيؤخذ العشر من قليله وكثيره. وعكس الامام أحمد، فاشترط أن يبلغ نصابا، وهو عشرة أفراق، والفرق ستة عشر رطلا عراقيا (1) . وسوى بين وجوده في الارض الخراجية، أو العشرية. وقال أبو يوسف: نصابه عشرة أرطال. وقال محمد: بل هو خمسة أفراق. والفرق، ستة وثلاثون رطلا. وهذا ظاهر كلام أحمد. زكاة الحيوان : جاءت الاحاديث الصحيحة، مصرحة بإيجاب الزكاة في الابل، والبقر، والغنم، وأجمعت الامة على العمل. ويشترط لايجاب الزكاة فيها: (1) أن تبلغ نصابا (2) وأن يحول عليها الحول (3) وأن تكون سائمة، أي راعية من الكلا المباح أكثر العام (2) . والجمهور على اعتبار هذا الشرط، ولم يخالف فيه غير مالك، والليث فإنهما أوجبا الزكاة في المواشي مطلقا: سواء أكانت سائمة، أو معلوفة،   (1) الرطل العراقي 130 درهما. (2) هذا رأيي أبي حنيفة وأحمد. وعند الشافعي: إن علفت قدرا تعيش بدونه وجبت فيها الزكاة وإلا فلا، وهي تصبر على العلف يومين لا أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 عاملة (1) أو غير عاملة. لكن الاحاديث جاءت مصرحة بالتقييد بالسائمة، وهو يفيد بمفهومه: أن المعلوفة لا زكاة فيها، لانه لا بد للكلام عن فائدة، صونا له عن اللغو. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بقول مالك، والليث، من فقهاء الامصار. زكاة الابل : لا شئ في الابل حتى تبلغ خمسا، فإذا بلغت خمسا، سائمة، وحال عليها الحول، ففيها شاة (2) . فإذا بلغت عشرا، ففيها شاتان، وهكذا كلما زادت خمسا زادت شاة. فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها بنت مخاض (وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية) أو ابن لبون (3) (وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة) . فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون. وفي ست وأربعين حقه (وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة) . وفي إحدى وستين جذعة (وهي التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة) وفي ست وسبعين بنتا لبون. وفي إحدى وتسعين حقتان، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت، ففي كل أربعين، ابنة لبون. وفي كل خمسين حقة. فإذا تباين أسنان الابل في فرائض الصدقات، فمن بلغت عنده صدقة الجذعة - وليست عنده جذعة، وعنده حقة - فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة الحقة - وليست عنده إلا جذعة - فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين.   (1) (عاملة) أي معدة للحمل وغيره. (2) (شاة) أي جذع من الضأن، وهو ما أتى عليه أكثر السنة. أو ثني من المعز، وهو ما له سنة. (3) لا يؤخذ الذكور في الزكاة إذا كان في النصاب إناث غير ابن اللبون عند عدم وجود بنت المخاض، فإذا كانت الابل كلها ذكور جاز أخذ الذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ومن بلغت عنده صدقة الحقة - وليست عنده. وعنده ابنة لبون - فنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له، أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون - وليست عنده الاحقة - فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون - وليست عنده ابنة لبون، وعنده ابنة مخاض - فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين، إن استيسرتا له أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض - وليس عنده إلا ابن لبون ذكر - فإنه يقبل منه، وليس معه شئ. ومن لم تكن معه إلا أربع من الابل، فليس فيها شئ، إلا أن يشاء ربها (1) . هذه فريضة صدقة الابل، التي عمل بها الصديق رضي الله عنه، بمحضر من الصحابة، ولم يخالفه أحد. فعن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة، ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي فأخرجها أبو بكر رضي الله عنه فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر رضي الله عنه من بعده فعمل بها، قال: فلقد هلك عمر يوم هلك، وإن ذلك لمقرون بوصيته. زكاة البقر (2) : وأما البقر فلا شئ فيها، حتى تبلغ ثلاثين سائمة، فإذا بلغت ثلاثين سائمة، وحال عليها الحول ففيها تبيع، أو تبيعة (وهو ما له سنة) ولا شئ فيها غير ذلك حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة (3) (وهي ما لها سنتان) ولا شئ فيها حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت ستين، ففيها تبيعان. وقال غيرهم: يلزم في الاربعين مسنة أنثى، فقط إلا إذا كانت كلها ذكورا فإنه يجوز الاخراج منها اتفاقا.   (1) قال الشوكاني: ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثا، لانها تختلف باختلاف الازمنة والامكنة. (2) يشمل الجاموس. (3) مذهب الاحناف أنه يجوز إخراج المسنة والمسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفي السبعين مسنة، وتبيع، وفي الثمانين، مسنتان، وفي التسعين، ثلاثة أتباع. وفي المائة، مسنة، وتبيعان، وفي العشرة والمائة، مسنتان، وتبيع. وفي العشرين والمائة، ثلاث مسنات، أو أربعة أتباع وهكذا ما زاد ففي كل ثلاثين، تبيع، وفي كل أربعين مسنة. زكاة الغنم (1) : لا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين سائمة وحال عليها الحول، ففيها شاة، إلى مائة وعشرين، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا بلغت مائتين وواحدة، ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة، ففي كل مائة شاة. ويؤخذ الجذع من الضأن، والثني من المعز. هذا ويجوز إخراج الذكور في الزكاة اتفاقا، إذا كان نصاب الغنم كله ذكورا. فإن كان إناثا، أو ذكورا وإناثا، جاز إخراج الذكور عند الاحناف وتعينت الانثى عند غيرهم. حكم الأوقاص : الاوقاص: جمع وقص، وهي ما بين الفريضتين، وهو باتفاق العلماء عفو لا زكاة فيه. فقد ثبت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة الابل: (فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستا وثلاثين، إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى) . وفي صدقة البقر يقول: (فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل تابع، جذع أو جذعة، حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين، ففيها بقرة مسنة) . وفي صدقة الغنم يقول: (وفي سائمة الغنم، إذا كانت أربعين، ففيها شاة، إلى عشرين ومائة) .   (1) يشمل الضأن والمعز، وهما جنس واحد، يضم أحدهما إلى الاخر بالاجماع، كما قال ابن المنذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فما بين الخمس والعشرين، وبين الست والثلاثين من الابل وقص، لا شئ فيها. وما بين الثلاثين، وبين الاربعين من البقر وقص كذلك. وهكذا في الغنم. ما لا يؤخذ في الزكاة : يجب مراعاة حق أرباب الاموال عند أخذ الزكاة من أموالهم، فلا يؤخذ من كرائمها وخيارها، إلا إذا سمحت أنفسهم بذلك. كما يجب مراعاة حق الفقير. فلا يجوز أخذ الحيوان المعيب، عيبا يعتبر نقصا عند ذي الخبرة بالحيوان، إلا إذا كانت كلها معيبة وإنما تخرج الزكاة من وسط المال. 1 - ففي كتاب أبي بكر: (ولا تؤخذ في الصدقة هرمة (1) ، ولا ذات عوار (2) ، ولا تيس) . وعن سفيان بن عبد الله الثقفي: (أن عمر رضي الله عنه نهى المصدق أن يأخذ الاكولة (3) ، والربى (4) ، والماخض (5) وفحل الغنم (6)) . 3 - عن عبد الله بن معاوية الغاضري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الايمان: من عبد الله وحده، وأن لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله، طيبة بها نفسه. رافدة عليه (7) كل عام، ولا يعطى الهرمة، ولا الدرنة (8) ولا المريضة، ولا الشرط (9) ولا اللئيمة (10) ، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره) رواه أبو داود، والطبراني، بسند جيد.   (1) (هرمة) أي التي سقطت أسنانها. (2) (ذات عوار) أي العوراء. (3) (الاكولة) أي العاقر من الشاة. (4) (الربى) أي الشاة تربى في البيت للبنها. (5) (الماخض) أي التي حان ولادها. (6) فحل الغنم) أي التيس المعد للنزو. (7) من الرفد، وهو الاعانة، أي معينة له على أداء الزكاة. (8) (الدرنة) أي الجرباء. (9) (الشرط) أي صغار المال وشراره. (10) (اللئيمة) أي البخيلة باللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 زكاة غير الأنعام : لا زكاة في شئ من الحيوانات غير الانعام. فلا زكاة في الخيل والبغال والحمير، إلا إذا كانت للتجارة. فعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق، ولا صدقة فيهما) رواه أحمد وأبو داود بسند جيد. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الحمر، فيها زكاة؟ فقال: (ما جاء فيها شئ إلا هذه الاية الفذة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)) رواه أحمد. وقد تقدم جميعه. وعن حارثة بن مضرب: أنه حج مع عمر فأتاه أشراف الشام، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا أصبنا رقيقا، ودواب، فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها، وتكون لنا زكاة، فقال: هذا شئ لم يفعله اللذان قبلي (1) ولكن انتظروا حتى أسأل المسلمين. أورده الهيثمي، وقال: رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجاله ثقات. وروى الزهري عن سلمان بن يسار: أن أهل الشام قالوا لابي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: (خذ من خيلنا ورقيقنا صدقه، فأبى، ثم كتب إلى عمر فأبى، فكلموه أيضا، فكتب إلى عمر. فكتب إليه عمر: (إن أحبوا فخذها منهم، وارددها عليهم (2) وارزق رقيقهم) رواه مالك والبيهقي. زكاة الفصلان والعجول والحملان (3) : من ملك نصابا من الابل، أو البقر، أو الغنم، فنتجت في أثناء الحول، وجبت زكاة الجميع، عند تمام حول الكبار وأخرج عن الاصل وعن النتاج، زكاة المال الواحد، في قول أكثر أهل العلم.   (1) يقصد النبي عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر رضي الله عنه. (2) أي على الفقراء منهم. (3) جمع فصيل وعجل وجمل: وهي الصغار التي لم يتم لها سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 لما رواه مالك، والشافعي، عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن عمر بن الخطاب قال: تعد عليهم السخلة (1) يحملها الراعي، ولا تأخذها، ولا تأخذ الاكولة، ولا الربى، ولا الماخض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء (2) المال وخياره. ويرى أبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور: أنه لا يحسب النتاج ولا يعتد به، إلا أن تكون الكبار نصابا. وقال أبو حنيفة أيضا: تضم الصغار إلى النصاب، سواء كانت متولدة منه، أم اشتراها، وتزكى بحوله. واشترط الشافعي: أن تكون متولدة من نصاب، في ملكه قبل الحول. أما من ملك نصابا من الصغار، فلا زكاة عليه، عند أبي حنيفة، ومحمد، وداود، والشعبي، ورواية عن أحمد. لما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، عن سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: (إن في عهدي أن لا تأخذ من راضع لبن) الحديث وفي إسناده هلال بن حباب، وقد وثقه غير واحد، وتكلم فيه بعضهم. وعند مالك، ورواية عند أحمد: تجب الزكاة في الصغار كالكبار، لانها تعد مع غيرها، فتعد منفردة. وعند الشافعي وأبي يوسف: يجب في الصغار واحدة صغيرة منها. ما جاء في الجمع والتفريق : 1 - عن سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (إنا لا نأخذ من راضع لبن، ولا نفرق بين مجتمع، ولا نجمع بين متفرق. وأتاه رجل بناقة كوماء (3) فأبى أن يأخذها) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.   (1) (السخلة) اسم يقع على الذكر والانثى، من أولاد الغنم، ساعة ما تضعه الشاة، ضأنا كانت، أو معزا. (2) (غذاء) جمع غذي كفي. وهي الدخان. (3) (ناقة كوماء) أي عظيمة السنام. وأبي أن يأخذها، لانها من خيار الماشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 2 - وحدث أنس (أن أبا بكر كتب إليه: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين) وفيه: (ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية) (1) رواه البخاري. قال مالك في الموطأ: معنى هذا أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة، وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحد (2) أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها، حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة (3) . وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة، وللساعي من جهة، فأمر كل منهما أن لا يحدث شيئا، من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة، فيجمع، أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة، فيجمع أو يفرق لتكثر (4) فمعنى قوله: خشية الصدقة، أي خشية أن تكثر، أو تقل، فلما كان محتملا للامرين، لم يكن الحمل على أحدهما أولى من الاخر، فحمل عليهما معا. وعند الاحناف: أن هذا نهي للسعاة أن يفرقوا ملك الرجل الواحد، تفريقا يوجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجل له عشرون ومائة شاة، فتقسم عليه إلى أربعين، ثلاث مرات، لتجب فيها ثلاث شياه، أو يجمعوا ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر، حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة. مثل أن يكون لواحد مائة شاة وشاة، ولاخر مثلها، فيجمعها الساعي ليأخذ ثلاث شياه، بعد أن كان الواجب شاتين.   (1) قال الخطابي: معناه، أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا، لكل واحد منهما عشرون، قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ المصدق من أحدهما فيرجع المأخوذ من ماله على شريكه بقيمة نصف شاة. (2) مثال الجمع بين المفترق. (3) تمثيل للتفريق بين المجتمع (4) كأن يكون لكل واحد من الخليطين أربعون شاة، فيفرق الساعي بينهما، ليأخذ منهما شاتين، بعد أن كان عليهما شاة واحدة، أو يكون لشخص عشرون شاة، ولاخر مثلها، فيجمع بينهما، ليأخذ شاة، بعد أن كان لا يجب على واحد منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هل للخلطة تأثير؟: ذهب الاحناف: إلى أنه لا تأثير للخلطة، سواء كانت خلطة شيوع (1) أو خلطة جوار (2) فلا تجب الزكاة في مال مشترك إلا إذا كان نصيب كل واحد يبلغ نصابا على انفراد. فإن الاصل الثابت المجمع عليه، أن الزكاة لا تعتبر إلا بملك الشخص الواحد. وقالت المالكية: خلطاء الماشية كمالك واحد في الزكاة ولا أثر للخلطة، إلا إذا كان كل من الخليطين يملك نصابا، بشرط اتحاد الراعي، والفحل، والمراح - المبيت - ونية الخلطة، وأن يكون مال كل واحد متمايزا عن الاخر، وإلا كانا شريكين، وأن يكون كل منهما أهلا للزكاة. ولا تؤثر الخلطة إلا في المواشي. وما يؤخذ من المال يوزع على الشركاء بنسبة ما لكل، ولو كان لاحد الشركاء مال غير مخلوط اعتبر كله مخلوطا. وعند الشافعية: أن كل واحدة من الخلطتين تؤثر في الزكاة، ويصير مال الشخصين، أو الاشخاص كمال واحد. ثم قد يكون أثرها في وجوب الزكاة، وقد يكون في تكثيرها، وقد يكون في تقليلها. مثال أثرها في الايجاب: رجلان لكل واحد عشرون شاة، يجب بالخلطة شاة، ولو انفردا لم يجب شئ. ومثال التكثير: خلط مائة شاة وشاة بمثلها، يجب على كل واحد شاة ونصف، ولو انفردا، وجب على كل واحد شاة فقط. ومثل التقليل، ثلاثة، لكل واحد أربعون شاة خلطوها. يجب عليهم جميعا شاة، أي أنه يجب ثلث شاة على الواحد، ولو انفرد لزمه شاة كاملة. واشترطوا لذلك: 1 - أن يكون الشركاء من أهل الزكاة. 2 - وأن يكون المال المختلط نصابا.   (1) هي ما كان المال مشتركا ومشاعا بين الشركاء. (2) هي ما كانت ماشية كل من الخلطاء متميزة، ولكنها متجاورة مختلطة في المراح والمسرح الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 3 - وأن يمضي عليه حول كامل. 4 - وأن لا يتميز واحد من المال عن الاخر في المراح (1) والمسرح (2) والمشرب والراعي والمحلب (3) . 5 - وأن يتحد الفحل إذا كانت الماشية من نوع واحد. وبمثل ما قالت الشافعية، ذهب أحمد، إلا أنه قصر تأثير الخلطة على المواشي، دون غيرها، من الاموال. زكاة الركاز والمعدن معنى الركاز: الركاز مشتق من ركز يركز: إذا خفي، ومنه قول الله تعالى: (أو تسمع لهم ركزا) أي صوتا خفيا. والمراد به هنا: ما كان من دفن الجاهلية (4) . قال مالك: الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون: ان الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل، ولا مؤونة. فأما ما طلب بمال، وتكلف فيه كبير عمل، فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز. وقال أبو حنيفة: هو اسم لما ركزه الخالق، أو المخلوق. معنى المعدن وشرط زكاته عند الفقهاء: والمعدن: مشتق من عدن في المكان، يعدن عدونا، إذا أقام به إقامة، ومنه قوله تعالى (جنات عدن) لانها دار إقامة وخلود.   (1) (المراح) أي مأواها ليلا. (2) (المسرح) أي المرتع الذي ترعى فيه. (3) (المحلب) أي الموضع الذي تحلب فيه. (4) (دفن) أي المدفون من كنوز الجاهلية، ويعرف ذلك بكتابة أسمائهم، ونقش صورهم ونحو ذلك، فإن كان عليه علامة الاسلام فهو لقطة، وليس بكنز وكذلك إذا لم يعرف، هل هو من دفن الجاهلية أو الاسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وقد اختلف العلماء في المعدن الذي يتعلق به وجوب الزكاة. فذهب أحمد: إلى أنه كل ما خرج من الارض مما يخلق فيها من غيرها، مما له قيمة، مثل الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والياقوت، والزبرجد، والزمرد، والفيروزج، والبلور، والعقيق، والكحل والزرنيخ، والقار (1) والنفط (2) والكبريت، والزاج، ونحو ذلك. واشترط فيه، أن يبلغ الخارج نصابا بنفسه، أو بقيمته. وذهب أبو حنيفة: إلى أن الوجوب يتعلق بكل ما ينطبع ويذوب بالنار، كالذهب، والفضة، والحديد والنحاس. أما المائع، كالقار، أو الجامد الذي لا يذوب بالنار، كالياقوت، فإن الوجوب لا يتعلق به، ولم يشترط فيه نصابا، فأوجب الخمس، في قليله، وكثيره. وقصر مالك، والشافعي، الوجوب على ما استخرج من الذهب والفضة، واشترطا - مثل أحمد - أن يبلغ الذهب عشرين مثقالا، والفضة مائتي درهم، واتفقوا على أنه لا يعتبر له الحول، وتجب زكاته حين وجوده، مثل الزرع. ويجب فيه ربع العشر عند الثلاثة. ومصرفه مصرف الزكاة عندهم. وعند أبي حنيفة مصرفه مصرف الفئ. مشروعية الزكاة فيهما: الاصل في وجوب الزكاة في الركاز، والمعدن: ما رواه الجماعة عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جرحها جبار (3) والبئر جبار (4) ، والمعدن جبار. وفي الركاز الخمس) . قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خائف هذا الحديث، إلا الحسن، فإنه فرق بين ما وجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال: فيما يوجد في أرض الحرب الخمس، وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة.   (1) (القار) أي الزفت. (2) (النفط) أي البترول. (3) أي إذا انفلتت بهيمة فأتلفت شيئا فهو جبار: أي هدر. (4) (والبئر جبار) : معناه إذا حفر إنسان بئرا فتردى فيه آخر، فهو هدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقال ابن القيم: وفي قوله: (المعدن جبار) قولان: (أحدهما) أنه إذا استأجر من يحفر له معدنا، فسقط عليه، فقتله، فهو جبار. ويؤيد هذا القول اقترانه بقوله: البئر جبار، والعجماء جبار. (والثاني) أنه لا زكاة فيه. ويؤيد هذا القول، اقترانه بقوله: (وفي الزكاة الخمس) ففرق بين المعدن، والركاز، فأوجب الخمس في الركاز، لانه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة ولا تعب، وأسقطها عن المعدن، لانه يحتاج إلى كلفة، وتعب، في استخراجه. صفة الركاز الذي يتعلق به وجوب الزكاة: الركاز الذي يجب فيه الخمس، هو كل ما كان مالا، كالذهب والفضة، والحديد، والرصاص، والصفر، والانية، وما أشبه ذلك. وهو مذهب الاحناف، والحنابلة، وإسحق، وابن المنذر، ورواية عن مالك، وأحد قولي الشافعي. وله قول آخر: أن الخمس لا يجب إلا في الاثمان: الذهب والفضة. مكانه: لا يخلو موضعه من الاقسام الاتية: 1 - أن يجده في موات، أو في أرض لا يعلم لها مالك، ولو على وجهها، أو في طريق غير مسلوك، أو قرية خراب، ففيه الخمس بلا خلاف، والاربعة الاخماس له. لما رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: (ما كان في طريق مأتي (1) : أو قرية عامرة، فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فلك (2) ، وما لم يكن في طريق مأتي، ولا قرية عامرة: ففيه وفي الركاز الخمس) .   (1) (مأتي) : أي مسلوك. (2) أي إن لم يعرف صاحبها، فهي لمن وجدها إن كان فقيرا، وإلا تصدق بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 2 - أن يجده في ملكه المنتقل إليه، فهو له، لان الركاز مودع في الارض، فلا يملك مملكها وإنما يملك بالظهور عليه فينزل منزلة المباحات، من الحشيش، والحطب، والصيد الذي يجده في أرض غيره، فيكون أحق به إلا إذا ادعى المالك الذي انتقل الملك عنه: أنه له، فالقول قوله: لان يده كانت عليه، لكونها على محله. وإن لم يدعه فهو لواجده، وهذا رأي أبي يوسف والاصح عند الحنابلة. وقال الشافعي: هو للمالك قبله، إن اعترف به وإلا فهو لمن قبله كذلك، إلى أول مالك. وإن انتقلت الدار بالميراث حكم أنه ميراث، فإن اتفقت الورثة على أنه لم يكن لمورثهم، فهو لاول مالك. فإن لم يعرف أول مالك، فهو كالمال الضائع الذي لا يعرف له مالك. وقال أبو حنيفة ومحمد: هو لاول مالك للارض، أو لورثته، إن عرف، وإلا وضع في بيت المال. 3 - أن يجده في ملك مسلم، أو ذمي، فهو لصاحب الملك عند أبي حنيفة ومحمد، ورواية عن أحمد. ونقل عن أحمد أنه لواجده، وهو قول الحسن بن صالح وأبي ثور واستحسنه أبو يوسف، لما تقدم من أن الركاز لا يملك بملك الارض، إلا إن ادعاه المالك، فالقول قوله، لان يده عليه تبعا للملك، وإن لم يدعه فهو لواجده. وقال الشافعي: هو للمالك ان اعترف به وإلا فهو لاول مالك. الواجب في الركاز: تقدم أن الركاز هو ما كان من دفن الجاهلية، وأن الواجب فيه الخمس، وأما الاربعة الاخماس الباقية، فهي لاقدم مالك للارض إن عرف، وإن كان ميتا فلورثته، إن عرفوا، وإلا وضع في بيت المال. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ومحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقال أحمد وأبو يوسف: هو لمن وجده، هذا ما لم يدعه مالك الارض. فإن ادعى أنه ملكه، فالقول قوله اتفاقا. ويجب الخمس في قليله وكثيره، من غير اعتبار نصاب فيه. عند أبي حنيفة، وأحمد، وأصح الروايتين عن مالك، وعند الشافعي في الجديد: يعتبر النصاب فيه. وأما الحول، فإنه لا يشترط بلا خلاف. على من يجب الخمس: جمهور العلماء: على أن الخمس واجب على من وجده، من مسلم، وذمي، وكبير، وصغير، وعاقل، ومجنون، إلا أن ولي الصغير والمجنون هو الذي يتولى الاخراج عنهما. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الذمي في الركاز يجده: الخمس، قاله مالك، وأهل المدينة، والثوري، والاوزاعي وأهل العراق، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وقال الشافعي: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة لانه زكاة. مصرف الخمس: مصرف الخمس - عند الشافعي - مصرف الزكاة. لما رواه أحمد، والبيهقي عن بشر الخثعمي، عن رجل من قومه قال: سقطت علي جرة من دير قديمبالكوفة، عند جباية بشر، فيها أربعة آلاف درهم، فذهبت بها إلى علي رضي الله عنه، فقال: اقسمها خمسة أخماس، فقسمتها، فأخذ علي منها خمسا، وأعطاني أربعة أخماس، فلما أدبرت دعاني فقال: في جيرانك فقراء ومساكين؟ قلت: نعم، قال: فخذها، فاقسمها بينهم. ويرى أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، أن مصرفه مصرف الفئ، لما رواه الشعبي: (أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة، خارجا من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأخذ منها الخمس، مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها، وجعل عمر رضي الله عنه يقسم المائتين، بين من حضره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 من المسلمين، إلى أن أفضل منها فضلة، فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك) . وفي المغني: ولو كانت زكاة لخص بها، أهلها، ولم يرده على واجده، ولانه يجب على الذمي، والزكاة لا تجب عليه. زكاة الخارج من البحر الجمهور: على أن هـ لا تجب الزكاة في كل ما يخرج من البحر، من لؤلؤ، ومرجان، وزبرجد، وعنبر، وسمك، وغيره إلا في إحدى الروايتين عن أحمد: إذا بلغ ما يخرج من ذلك نصابا، ففيه الزكاة. ووافقه أبو يوسف، في اللؤلؤ، والعنبر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في العنبر زكاة، وإنما هو شئ دسره (1) البحر. وقال جابر: ليس في العنبر زكاة، إنما هو غنيمة لمن أخذه. المال المستفاد : من استفاد مالا، مما يعتبر فيه الحول - ولا مال له سواه - وبلغ نصابا، أو كان له مال من جنسه ولا يبلغ نصابا، فبلغ بالمستفاد نصابا، انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ. فإذا تم حول وجبت الزكاة فيه. وإن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام. 1 - أن يكون المال المستفاد من نمائه، كربح التجارة، ونتاج الحيوان، وهذا يتبع الاصل في حوله، وزكاته. فمن كان عنده من عروض التجارة، أو الحيوان، ما يبلغ نصابا، فربحت العروض، وتوالد الحيوان أثناء الحول، وجب إخراج الزكاة عن الجميع: الاصل، والمستفاد. وهذا لا خلاف فيه.   (1) (دسره) أي قذفه البحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 2 - أن يكون المستفاد من جنس النصاب، ولم يكن متفرعا عنه أو متولدا منه - بأن استفاده بشراء أو هبة أو ميراث - فقال أبو حنيفة يضم المستفاد إلى النصاب، ويكون تابعا له في الحول، والزكاة، وتزكى الفائدة مع الاصل. وقال الشافعي وأحمد: يتبع المستفاد الاصل في النصاب، ويستقبل به حول جديد، سواء كان الاصل نقدا، أم حيوانا. مثل أن يكون عنده مائتا درهم، ثم استفاد في أثناء الحول أخرى فإنه يزكي كلا منهما، عند تمام حوله. ورأي مالك مثل رأي أبي حنيفة، في الحيوان، ومثل رأي الشافعي وأحمد في النقدين. 3 - أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده. فهذا لا يضم إلى ما عنده في حول، ولا نصاب، بل إن كان نصابا استقل به حولا، وزكاه آخر الحول، وإلا فلا شئ فيه، وهذا قول جمهور العلماء. وجوب الزكاة في الذمة لا في عين المال مذهب الاحناف، ومالك، ورواية عن الشافعي وأحمد: أن الزكاة واجبة في عين المال. والقول الثاني للشافعي، وأحمد: أنها واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال. وفائدة الخلاف تظهر، فيمن ملك مائتي درهم مثلا، ومضى عليها حولان دون أن تزكى. فمن قال: إن الزكاة واجبة في العين، قال: إنها تزكى لعام واحد فقط، لانها بعد العام الاول، تكون قد نقصت عن النصاب قدر الواجب فيها، وهو خمسة دراهم. ومن قال: إنها واجبة في الذمة، قال إنها تزكى زكاتين، لكل حول زكاة، لان الزكاة وجبت في الذمة، فلم تؤثر في نقص النصاب. ورجح ابن حزم وجوبها في الذمة، فقال: لا خلاف بين أحد من الامة - من زمننا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أن من وجبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 عليه زكاة بر، أو شعير، أو تمر، أو ذهب، أو إبل، أو بقر، أو غنم، فأعطى زكاته الواجبة عليه، من غير ذلك الزرع، ومن غير ذلك التمر، ومن غير ذلك الذهب، ومن غير تلك الفضة، ومن غير تلك الابل، ومن غير تلك البقر، ومن غير تلك الغنم، فإنه لا يمنع ذلك، ولا يكره ذلك له، بل سواء أعطى من تلك العين، أو مما عنده من غيرها، أو مما يشترى، أو مما يوهب، أو مما يستقرض. فصح يقينا: أن الزكاة في الذمة، لا في العين، إذ لو كانت في العين، لم يحل له ألبتة، أن يعطي من غيرها، ولوجب منعه من ذلك كما يمنع من له شريك في شئ من كل ذلك أن يعطي شريكه، من غير العين، التي هم فيها شركاء، إلا بتراضيهما، وعلى حكم البيع. وأيضا فلو كانت الزكاة في عين المال، لكانت لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما. وذلك إما أن تكون الزكاة في كل جزء من أجزاء ذلك المال، أو تكون في شئ منه بغير عينه. فلو كانت في كل جزء منه لحرم عليه أن يبيع منه رأسا، أو حبة فما فوقها، لان أهل الصدقات في ذلك الجزء شركاء ولحرم عليه أن يأكل منها شيئا لما ذكرناه، وهذا باطل بلا خلاف، وللزمه أيضا أن لا يخرج الشاة إلا بقيمة مصححة مما بقي، كما يفعل في الشركات ولا بد. وإن كانت الزكاة في شئ منه بغير عينه فهذا باطل. وكان يلزم أيضا مثل ذلك، سواء سواء. لانه كان لا يدري، لعله يبيع أو يأكل الذي هو حق أهل الصدقة؟ فصح ما قلنا يقينا. هلاك المال بعد وجوب الزكاة وقبل الأداء : إذا استقر وجوب الزكاة في المال، بأن حال عليه الحول، أو حان حصاده، وتلف المال قبل أداء زكاته، أو تلف بعضه، فالزكاة كلها واجبة في ذمة صاحب المال سواء كان التلف بتفريط منه، أو بغير تفريط. وهذا معنى، على أن الزكاة واجبة في الذمة، وهو رأي ابن حزم، ومشهور مذهب أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ويرى أبو حنيفة: أنه إذا تلف المال كله، بدون تعد من صاحبه، سقطت الزكاة، وإن هلك بعضه، سقطت حصيته، بناء على تعلق الزكاة بعين المال، أما إذا هلك بسبب تعد منه، فإن الزكاة لا تسقط. وقال الشافعي والحسن بن صالح، وإسحق، وأبو ثور، وابن المنذر: إن تلف النصاب قبل التمكن من الاداء سقطت الزكاة، وإن تلف بعده لم تسقط. ورجح ابن قدامة هذا الرأي فقال: والصحيح - إن شاء الله - أن الزكاة تسقط بتلف المال، إذا لم يفرط في الاداء، لانها تجب على سبيل المواساة، فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال، وفقر من تجب عليه ومعنى التفريط، أن يتمكن من إخراجها فلا يخرجها، وإن لم يتمكن من إخراجها، فليس بمفرط، سواء كان ذلك لعدم المستحق، أو لبعد المال عنه، أو لكون الفرض لا يوجد في المال، ويحتاج إلى شرائه فلم يجد ما يشتريه أو كان في طلب الشراء، أو نحو ذلك. وإن قلنا بوجوبها بعد تلف المال فأمكن المالك أداؤها أداها، وإلا أنظر بها إلى ميسرته، وتمكنه من أدائها، من غير مضرة عليه، لانه لزم إنظاره بدين الادمي، فبالزكاة التي هي حق الله تعالى، أولى. ضياع الزكاة بعد عزلها لو عزل الزكاة ليدفعها إلى مستحقيها، فضاعت كلها، أو بعضها، فعليه إعادتها، لانها في ذمته حتى يوصلها إلى من أمره الله بإيصالها إليه. قال ابن حزم: وروينا من طريق ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، وجرير، والمعتمر بن سليمان التيمي، وزيد بن الحباب، وعبد الوهاب بن عطاء. قال حفص: عن هشام بن حسان، عن الحسن البصري. وقال جرير: عن المغيرة عن أصحابه. وقال المعتمر: عن معمر عن حماد، وقال زيد: عن شعبة عن الحكم. وقال عبد الوهاب: عن ابن أبي عروبة، عن حماد عن إبراهيم النخعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ثم اتفقوا كلهم فيمن أخرج زكاة ماله، فضاعت: أنها لا تجزئ عنه. وعليه إخراجها ثانية. قال: وروينا عن عطاء: أنها تجزئ عنه. تأخير الزكاة لا يسقطها : من مضى عليه سنون، ولم يرد ما عليه من زكاة، لزمه إخراج الزكاة عن جميعها، سواء علم وجوب الزكاة، أم لم يعلم، وسواء كان في دار الاسلام أو في دار الحرب (1) . وقال ابن المنذر: لو غلب أهل البغي على بلد، ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعواما، ثم ظفر بهم الامام، أخذ منهم زكاة الماضي، في قول مالك، والشافعي، وأبي ثور. دفع القيمة بدل العين : لا يجوز دفع القيمة بدل العين المنصوص عليها في الزكوات إلا عند عدمها، وعدم الجنس. وذلك لان الزكاة عبادة، ولا يصح أداء العبادة إلا على الجهة المأمور بها شرعا، وليشارك الفقراء الاغنياء في أعيان الاموال. وفي حديث معاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فقال: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الابل، والبقرة من البقر ". رواه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، والحاكم. وفيه انقطاع، فإن عطاء لم يسمع معاذا. قال الشوكاني: (الحق أن الزكاة واجبة من العين، لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر) . وجوز أبو حنيفة إخراج القيمة، سواء قدر على العين أم لم يقدر، فإن الزكاة حق الفقير، ولا فرق بين القيمة والعين عنده. وقد روى البخاري - معلقا بصيغة الجزم - ان معاذا قال لاهل اليمن: ايتوني بعرض ثياب.   (1) هذا مذهب الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 خميص (1) . أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم. وخير لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. الزكاة في المال المشترك إذا كان المال مشتركا بين شريكين، أو أكثر، لا تجب الزكاة على واحد منهم، حتى يكون لكل واحد منهم نصاب كامل، في قول أكثر أهل العلم. هذا في غير الخلطة في الحيوان التي تقدم الكلام عليها والخلاف فيها. الفرار من الزكاة ذهب مالك، وأحمد، والاوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد إلى أن من ملك نصابا، من أي نوع من أنواع المالك، فباعه قبل الحول، أو وهبه، أو أتلف جزءا منه، بقصد الفرار من الزكاة لم تسقط الزكاة عنه، وتؤخذ منه في آخر الحول إذا كان تصرفه هذا، عند أقرب الوجوب، ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة، لان ذلك ليس بمظنة للفرار. وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة، لانه نقص قبل تمام الحول، ويكون مسيئا وعاصيا لله، بهروبه منها. استدل الاولون بقول الله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (2) ولا يستثنون (3) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم) (4) فعاقبهم الله بذلك، لفرارهم من الصدقة. ولانه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط، كما لو طلق امرأته، في مرض موته. ولانه لما قصد قصدا فاسدا، اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض مقصوده، كمن قتل مورثه، لاستعجال ميراثه، عاقبه الشارع بالحرمان.   (1) " الخميص " الثوب من الخز له علمان. (2) (ليصرمنها) يقطعون ثمارها وقت الصباح. (3) يقولون: إن شاء الله. (4) (الصريم) الليل المظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 مصارف الزكاة : مصارف الزكاة ثمانية أصناف، حصرها الله في قوله: " إنما الصدقات للفقراء (1) والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ". وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال: " إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء. فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك " رواه أبو داود. وفيه عبد الرحمن الافريقي متكلم فيه. وهذا هو بيان الاصناف الثمانية المذكورة في الاية: (1 و 2) - الفقراء والمساكين: وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم، ويقابلهم الاغنياء المكفيون ما يحتاجون إليه. وتقدم أن القدر الذي يصير به الانسان غنيا، هو قدر النصاب الزائد عن الحاجة الاصلية، له ولاولاده، من أكل وشرب، وملبس، ومسكن، ودابة، وآلة حرفة، ونحو ذلك، مما لا غنى عنه. فكل من عدم هذا القدر، فهو فقير، يستحق الزكاة. ففي حديث معاذ: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) . فالذي تؤخذ منه، هو الغني المالك للنصاب. والذي ترد إليه هو المقابل له وهو الفقير الذي لا يملك القدر الذي يملكه الغني.   (1) اللام للملك، أو الاستحقاق، أو بتقدير مفروضة، كمنا يدل عليه آخر الاية وهو " فريضة من الله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وليس هناك فرق بين الفقراء، وبين والمساكين، من حيث الحاجة والفاقة ومن حيث استحقاقهم الزكاة، والجمع بين الفقراء والمساكين في الاية، مع العطف المقتضي للتغاير، لا يناقض ما قلناه، فإن المساكين - وهم قسم من الفقراء - لهم وصف خاص بهم، وهذا كاف في المغايرة. فقد جاء في الحديث، ما يدل على أن المساكين هم الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، ولا يتفطن لهم الناس فذكرتهم الاية، لانه ربما لا يفطن إليهم، لتجملهم. فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم: " لا يسألون الناس إلحافا " وفي لفظ: " ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له، فيصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ". رواه البخاري، ومسلم. مقدار ما يعطى الفقير من الزكاة: من مقاصد الزكاة كفاية الفقير وسد حاجته، فيعطى من الصدقة، القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغني، ومن الحاجة إلى الكفاية، على الدوام، وذلك يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص. قال عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا. يعني في الصدقة. وقال القاضي عبد الوهاب: لم يحد مالك لذلك حدا، فإنه قال: يعطي من له المسكن، والخادم، والدابة الذي لا غنى له عنه. وقد جاء في الحديث ما يدل على أن المسألة تحل للفقير حتى يأخذ ما يقوم بعيشه، ويستغني به مدى الحياة. فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة (1) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: " أقم حتى تأتينا الصدقة، فتأمر لك بها "، ثم قال: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة   (1) " حمالة " أي دينا لاصلاح ذات البين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فحلت له المسألة حتى يصيبها تم يمسك، ورجل أصابته جائحة (1) اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش " أو قال: سدادا (2) من عيش، ورجل أصابته فاقة (3) حتى قول ثلاثة من ذوي الحجا (4) من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش " أو قال سدادا من عيش، " فما سواهن من المسألة - يا قبيصة - فسحت، يأكلها صاحبها سحتا (5) ". رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. هل يعطى القوي المكتسب من الزكاة ؟ القوي المكتسب لا يعطى من الزكاة مثل الغني. 1 - فعن عبيد الله بن عدي الخيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين (6) فقال: " إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب (7) ". رواه أبو داود، والنسائي. قال الخطابي: هذا الحديث أصل، في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم. وفيه دليل على: أنه لم يعتبر في أمر الزكاة ظاهر القوة والجلد، دون أن يضم إليه الكسب، فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه، ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة، بدلالة الحديث. 2 - وعن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي (8) ". رواه أبو داود والترمذي، وصححه.   (1) " الجائحه " أي ما أتلف المال كالحريق. (2) " سدادا " أي ما تقوم به حاجته ويستغنى به، وهو بمعنى السداد. (3) فاقة " أي الفقر والحاجة. (4) " الحجا " أي العقل. (5) " السحت " أي الحرام. (6) " جلدين " أي قويين. (7) أي يكتسب قدر كفايته، قاله الشوكاني. (8) المرة: شدة أسر الخلق، وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب. " وسوي ": سليم الاعضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وهذا مذهب الشافعي، وإسحق، وأبي عبيد، وأحمد. وقال الاحناف: يجوز للقوي أن يأخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي (1) درهم فصاعدا. قال النووي: سئل الغزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن، هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء؟ قال: نعم. وهذا صحيح جار على أن المعتبر حرفة تليق به. المالك الذي لا يجد ما يفي بكفايته : ومن ملك نصابا، من أي نوع من أنواع المال - وهو لا يقوم بكفايته، لكثرة عياله، أو لغلاء السعر - فهو غني، من حيث إنه يملك نصابا، فتجب الزكاة في ماله، وفقير من حيث إن ما يملكه لا يقوم بكفايته فيعطى من الزكاة كالفقير. قال النووي: ومن كان له عقار، ينقص دخله عن كفايته، فهو فقير، يعطي من الزكاة تمام كفايته، ولا يكلف بيعه. وفي المغني قال الميمون: ذاكرت أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - فقلت: قد يكون للرجل الابل والغنم، تجب فيها الزكاة وهو فقير، وتكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه، فيعطى الصدقة؟ قال: نعم، وذلك، لانه لا يملك ما يغنيه، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الاخذ من الزكاة، كما لو كان ما يملك، لا تجب فيه الزكاة. (3) العاملون على الزكاة: وهم الذين يوليهم الامام أو نائبه، العمل على جمعها، من الاغنياء، وهم الجباة، ويدخل فيهم الحفطة لها، والرعاة للانعام منها، والكتبة لديوانها. ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: بنو عبد المطلب.   (1) أي أقصاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فعن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: أنه، والفضل بن العباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم تكلم أحدنا، فقال: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس، فقال: " إن الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لال محمد، إنما هي أوساخ الناس " رواه أحمد، ومسلم. وفي لفظ: " لا تحل لمحمد، ولا لال محمد ". ويجوز أن يكونوا من الاغنياء. فعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين، تصدق عليه منها فأهدى منها لغني " رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأن أخذهم من الزكاة، إنما هو أجر نظير أعمالهم. فعن عبد الله بن السعدي: أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الشام، فقال: ألم أخبر أنك تعمل على عمل من أعمال المسلمين فتعطى عليه عمالة (1) فلا تقبلها؟ قال: أجل، إن لي أفراسا واعبدا، وأنا بخير، وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر: إني أردت الذي أردت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني المال فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، وإنه أعطاني مرز مالا، فقلت له: أعطه من هو أحوج إليه مني، فقال: " ما آتاك الله عز وجل من هذا المال، من غير مسألة، ولا إشراف فخذه فتموله أو تصدق به، ومالا، فلا تتبعه نفسك " رواه البخاري والنسائي. وينبغي أن تكون الاجرة بقدر الكفاية. فعن المستورد بن شداد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال " رواه أحمد، وأبو داود، وسنده صالح. قال الخطابي: هذا يتأول على وجهين:   (1) رزق العامل على عمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أحدهما: أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن، من عمالته، التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشئ سواها. والوجه الثاني: أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن، ولا خادم استؤجر له من يخدمه، فيكفيه مهنة مثله، ويكترى (1) له مسكن يسكنه، مدة مقامه في عمله. (4) والمؤلفة قلوبهم: (2) وهم الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم وجمعها على الاسلام أو تثبيتها عليه، لضعف إسلامهم، أو كف شرهم عن المسلمين، أو جلب نفعهم في الدفاع عنهم. وقد قسمهم الفقهاء إلى مسلمين وكفار. اما المسلمون فهم اربعة: 1 - قوم من سادات المسلمين وزعمائهم، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نطرائهم، كما أعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، مع حسن إسلامهما، لمكانتهما في قومهما. 2 - زعماء ضعفاء الايمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم يرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم، ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن. وهم بعض الطلقاء من أهل مكة، الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الايمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك، وحسن إسلامه. 3 - قوم من المسلمين في الثغور، وحدود بلاد الاعداء يعطون، لما يرجى من دفاعهم، عما وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو. قال صاحب المنار: وأقول: إن هذا العمل هو المرابطة وهؤلاء الفقهاء يدخلونها في سهم سبيل الله، كالغزو المقصود منها: وأولى منهم بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم.   (1) " يكترى " أي يستأجر. (2) هذا الكلام منقول من تفسير المنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما، للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لاجل تنصيره، وإخراجه من حظيرة الاسلام، ومنهم من يؤلفونه لاجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الاسلامية، والوحدة الاسلامية، أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟ 4 - قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجبابة الزكاة، وأخذها ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم - إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، أرجح المصلحتين. وأما الكفار فهم قسمان: 1 - من يرجى إيمانه بتأليفه، مثل صفوان بن أمية، الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الامان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره ويختار لنفسه، وكان غائبا، فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل إسلامه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إبلا كثيرة محملة، كانت في واد فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر. وقال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لابغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لاحب الناس إلي. 2 - من يخشى شره، فيرجى بإعطائه كف شره. قال ابن عباس: إن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم، مدحوا الاسلام، وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم، ذموا، وعابوا. وكان من هؤلاء أبو سفيان بن حرب، والاقرع بن حابس، وعيينة ابن حصن، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء، مائة من الابل. وذهبت الاحناف: إلى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بإعزاز الله لدينه، فقد جاء عيينة بن حصن، والاقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وطلبوا من أبي بكر نصبهم، فكتب لهم به، وجاءوا إلى عمر، وأعطوه الخط، فأبى ومزقه، وقال: هذا شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيكموه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 تأليفا لكم على الاسلام، والان قد أعز الله الاسلام، وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الاسلام، وإلا فبيننا وبينكم السيف (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فرجعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: الخليفة أنت أم عمر؟ بذلت لنا الخط فمزقه عمر، فقال: هو إن شاء. قالوا: إن أبا بكر وافق عمر، ولم ينكر أحد من الصحابة كما أنه لم ينقل عن عثمان وعلي أنهما أعطيا أحدا من هذا الصنف. ويجاب عن هذا: بأن هذا اجتهاد من عمر، وأنه رأى أنه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء، بعد أن ثبت الاسلام في أقوامهم، وأنه لا ضرر يخشى من ارتدادهم عن الاسلام. وكون عثمان وعلي لم يعطيا أحدا من هذا الصنف، لا يدل على ما ذهبوا إليه، من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لعدم وجود الحاجة إلى أحد من الكفار، وهذا لا ينافي ثبوته، لمن احتاج إليه من الائمة، على أن العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسنة فهما المرجع الذي لا يجوز العدول عنه بحال. وقد روى أحمد، ومسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا على الاسلام إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير، بين جبلين، من شاء الصدقة، فرجع إلى قومه فقال، يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. قال الشوكاني: وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجباني، والبلخي، وابن مبشر (1) . وقال الشافعي: لا تتألف كافرا، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف. وقال أبو حنيفة وأصحابه: قد سقط بانتشار الاسلام وغلبته، واستدلوا على ذلك، بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان، وعيينة، والاقرع، وعباس ابن مرداس. والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه. فإذا كان في زمن الامام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته إلا بالقسر (2) والغلب   (1) وكذا مالك، وأحمد، ورواية عن الشافعي. (2) القهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الاسلام تأثير، لانه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة. وفي المنار: " وهذا هو الحق في جملته، وإنما يجئ الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق، ومقدار الذي يعطى من الصدقات، ومن الغنائم إن وجدت، وغيرها من أموال المصالح. والواجب فيه الاخذ برأي أهل الشورى، كما كان يفعل الخلفاء في الامور الاجتهادية، وفي اشتراط العجز عن إدخال الامام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر، فإن هذا لا يطرد، بل الاصل فيه ترجيح أخف الضررين. وخير المصلحتين ". (5) وفي الرقاب: ويشمل المكاتبين، والارقاء فيعان المكاتبون بمال الصدقة لفك رقابهم من الرق، ويشترى به العبيد، ويعتقون. فعن البراء قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال، دلني على عمل يقربني من الجنة، ويبعدني من النار، فقال: " أعتق النسمة وفك الرقبة " فقال: يا رسول الله، أو ليسا واحدا؟ قال: " لا، عتق الرقبة، أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها " رواه أحمد، والدارقطني ورجاله ثقات. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح والمتعفف (1) " رواه وأحمد، وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح. قال الشوكاني: " قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: " وفي الرقاب " فروي عن علي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، والعترة، والحنفية، والشافعية، وأكثر أهل العلم: أن المراد به المكاتبون، من الزكاة على الكتابة. وروي عن ابن عباس، والحسن البصري، ومالك، وأحمد بن حنبل،   (1) الذي يريد العفاف بالزواج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وأبي ثور، وأبي عبيد - وإليه مال البخاري، وابن المنذر -: أن المراد بذلك أنها تشترى رقاب لتعتق. واحتجوا بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين، لانه غارم، وبأن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعناة المكاتب، لانه قد يعان ولا يعتق، لان المكاتب عبد، ما بقي عليه درهم، ولان الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة. وقال الزهري: إنه يجمع بين الامرين، وإليه أشار المصنف (1) وهو الظاهر، لان الاية تحتمل الامرين. وحديث البراء المذكور، فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق، وإعانة المكاتبين على مال الكتاب، من الاعمال المقربة إلى الجنة والمبعدة من النار. (6) والغارمون: وهم الذين تحملوا الديون، وتعذر عليهم أداؤها، وهم أقسام: فمنهم من تحمل حمالة، أو ضمن دينا فلزمه، فأجحف بماله أو استدان لحاجته إلى الاستدانة، أو في معصية تاب منها، فهؤلاء جميعا يأخذون من الصدقة ما بقي بديونهم. 1 - روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل المسألة إلا لثلاث، لذي فقر مدقع (2) أو لذى غرم (3) مفظع (4) ، أو لذي دم موجع (5) " 2 - وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أصيب   (1) مؤلف كتاب منتفى الاخبار. (2) " مدقع " أي شديد، أي ملصق صاحبه بالدقعاء، وهي الارض التي لا نبات فيها. (3) " غرم " أي ما يلزم أداؤه تكلفا، لا في مقابلة عوض. (4) " مفظع " أي شديد: شنيع، مجاوز للحد. (5) هو الذي يتحمل دية عن قريبه، أو صديقه القاتل، يدفعها إلى أولياء المقتول، وإن لم يدفعها قتل قريبه، أو صديقه القاتل، الذي يتوجع لقتله وإراقة دمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها (1) ، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: " تصدقوا عليه "، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه. " خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (2) " 3 - وتقدم حديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: " أقم حتى تأتينا الصدقة فتأمر لك بها " الحديث. قال العلماء: والحمالة، ما يتحمله الانسان، ويلتزمه في ذمته بالاستدانة، ليدفعه في إصلاح ذات البين، وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة، اقتضت غرامة في دية، أو غيرها: قام أحدهما فتبرع بالتزام ذلك والقيام به، حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك أن هذا من مكارم الاخلاق. وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته، وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل في ذلك لم يعد نقصا في قدره، بل فخرا. ولا يشترط في أخذ الزكاة فيها، أن يكون عاجزا عن الوفاء بها، بل له الاخذ، وإن كان في ماله الوفاء. (7) وفي سبيل الله: سبيل الله، الطريق الموصل إلى مرضاته من العلم، والعمل. وجمهور العلماء، على أن المراد به هنا الغزو، وأن سهم (سبيل الله) يعطى للمتطوعين من الغزاة، الذين ليس لهم مرتب من الدولة. فهؤلاء لهم سهم من الزكاة، يعطونه، سواء كانوا من الاغنياء أم الفقراء. وقد تقدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة. الغازي في سبيل الله..الخ ".   (1) أي من أجل ثمار اشتراها. (2) أي ليس لكم الان إلا الموجود وليس لكم حبسه ما دام معسرا فليس فيه إبطال حق الغرماء فيما بقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 والحج ليس من سبيل الله التي تصرف فيها الزكاة، لانه مفروض على المستطيع، دون غيره. وفي تفسير المنار: " يجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج، وتوفير الماء، والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. " وفيه: " وفي سبيل الله " وهو يشتمل سائر المصالح الشرعية العامة، التي هي ملاك أمر الدين، والدولة: وأولها، وأولاها بالتقديم، الاستعداد للحرب، بشراء السلاح، وأغذية الجند، وأدوات النقل، وتجهيز الغزاة. ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال، إن كان مما يبقى، كالسلاح، والخيل، وغير ذلك، لانه لا يملكه دائما، بصفة الغزو التي قامت به، بل يستعمله في سبيل الله، ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله، بخلاف الفقير، والعامل عليها، والغارم والمؤلف، وابن السبيل، فإنهم لا يردون ما أخذوا، بعد فقد الصفة التي أخذوا بها. ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية، وكذا الخيرية العامة، وإشراع الطرق، وتعبيدها، ومد الخطوط الحديدية العسكرية، لا التجارية، ومنها بناء البوارج المدرعة، والمناطيد، والطيارات الحربية، والحصون، والخنادق. ومن أهم ما ينفق في سبيل الله، في زماننا هذا، إعداد الدعاة إلى السلام، وإرسالهم إلى بلاد الكفار، من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي، كما يفعله الكفار في نشر دينهم. ويدخل فيه النفقة على المدارس، للعلوم الشرعية، وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة. وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس، ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة، التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطى عالم غني لاجل علمه، وإن كان يفيد الناس به. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (8) وابن السبيل: اتفق العلماء على أن المسافر المنقطع عن بلده يعطى من الصدقة، ما يستعين به على تحقيق مقصده، إذا لم يتيسر له شئ من ماله، نظرا لفقره العارض. واشترطوا أن يكون سفره في طاعة، أو في غير معصية. واختلفوا في السفر المباح. والمختار عند الشافعية: أنه يأخذ من الصدقة، حتى لو كان السفر للتفرج، والتنزه..وابن السبيل عند الشافعية قسمان: (1) من ينشئ سفرا من بلد مقيم به، ولو كان وطنه. (2) غريب مسافر، يجتاز بالبلد. وكلاهما له الحق في الاخذ من الزكاة، ولو وجد من يقرضه كفايته، وله ببلده، ما يقتضي به دينه. وعند مالك، وأحمد: ابن السبيل المستحق للزكاة، يختص بالمجتاز دون المنشئ ولا يعطى من الزكاة من إذا وجد مقرضا يقرضه وكان له من المال ببلده، ما يفي بقرضه. فإن لم يجد مقرضا، أو لم يكن له مال يقضى منه قرضه، أعطي من الزكاة. توزيع الزكاة على المستحقين، كلهم، أو بعضهم: الاصناف الثمانية، المستحقون للزكاة، المذكورون في الاية هم: الفقراء والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والارقاء، والغارمون وأبناء السبيل، والمجاهدون. وقد اختلف الفقهاء في توزيع الصدقة عليهم: فقال الشافعي واصحابه: إن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله، سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الاصناف السبعة الباقين، إن وجدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز ترك صنف منهم، مع وجوده، فإن تركه ضمن نصيبه. وقال إبراهيم النخعي: إن كان المال كثيرا، يحتمل الاجزاء قسمه على الاصناف. وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد. وقال أحمد بن حنبل: تفريقها أولى، ويجزئه أن يضعه في صنف واحد. وقال مالك: يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الاولى فالاولى، من أهل الخلة (1) والفاعة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام، أكثر قدمهم، وإن رآهم في أبناء السبيل في عام آخر، حولها إليهم. وقالت الاحناف. وسفيان الثوري: هو مخير يضعها في أي الاصناف شاء. وهذا مروي عن حذيفة، وابن عباس، وقول الحسن البصري، وعطاء ابن أبي رباح. وقال أبو حنيفة: وله صرفها إلى شخص واحد، من أحد الاصناف. سبب اختلافهم ومنشؤه: قال ابن رشد: " وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإن اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم، والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة، إذ كان المقصود بها سد الخلة، فكان تعديدهم في الاية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس - أعني أهل الصدقات - لا تشريكهم في الصدقة. فالاول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من جهة المعنى. " ومن الحجة للشافعي، ما رواه أبو داود عن الصدائي: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يرض أن يحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك ".   (1) " الخلة " بفتح الخاء: الحاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ترجيح رأي الجمهور على رأي الشافعي: قال في الروضة الندية: " وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد، فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام. والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى جعل الصدقة مختصة بالاصناف الثمانية، غير سائغة لغيرهم. واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم. بل المعنى أن جنس الصدقات، لجنس هذه الاصناف. فمن وجب عليه شئ من جنس الصدقة، ووضعه في جنس الاصناف، فقد فعل ما أمره الله به، وسقط عنه ما أوجبه الله عليه، ولو قيل: إنه يجب على المالك - إذا حصل له شئ تجب فيه الزكاة - تقسيطه على جميع الاصناف الثمانية، على فرض وجودهم جميعا، لكان ذلك - مع ما فيه من الحرج والمشقة - مخالفا لما فعله المسلمون، سلفهم، وخلفهم. وقد يكون الحاصل شيئا حقيرا، لو قسط على جميع الاصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له ولو كان نوعا واحدا، فضلا عن أن يكون عددا. إذا تقرر لك هذا، لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه، صلى الله عليه وسلم من الدفع إلى سلمة بن صخر (1) من الصدقات للاستدلال بها. ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة على جميع الاصناف. وكذلك لا يصلح للاحتجاج حديث أمره صلى عليه وسلم لمعاذ: أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويردها في فقرائهم، لان تلك أيضا صدقة جماعة من المسلمين وقد صرفت في جنس الاصناف. وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي. وذكر الحديث المتقدم، ثم قال: لان في إسناده عبد الرحمن بن زياد الافريقي، وقد تكلم فيه غير واحد، وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج، فالمراد بتجزئة مصارفها، كما هو ظاهر الاية التي قصدها صلى الله عليه وسلم: ولو كان   (1) كان عليه كفارة لم يجدها. فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذها من صاحب صدقة بني زريق ويؤدي كفارته منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 المراد تجزئة الصدقة نفسها، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له، لما جاز صرف نصيب ما هو مغدوم من الاصناف إلى غيره، وهو خلاف الاجماع من المسلمين. وأيضا لو سلم ذلك، لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الامام، لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات، وإعطاء بعضهم بعضا آخر. نعم إذا جمع الامام جميع صدقات أهل قطر من الاقطار، وحضر عنده جميع الاصناف الثمانية، كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطي بعض الاصناف أكثر من البعض الاخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الاسلام وأهله. مثلا إذا جمعت لديه الصدقات، وحضر الجهاد، وحقت المدافعة عن حوزة الاسلام من الكفار، أو البغاة، فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين (1) " من يحرم عليهم الصدقة ذكرنا فيما سبق مصارف الزكاة، وأصناف المستحقين، وبي أن نذكر أصنافا لا تحل لهم الزكاة، ولا يستحقونها وهم: 1 - الكفرة والملاحدة، وهذا مما اتفقت عليه كلمة الفقهاء. ففي الحديث " تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم ". والمقصود بهم أغنياء المسلمين وفقراؤهم دون غيرهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الاموال شيئا. ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم كما تقدم بيانه.   (1) هذا هو أرجح الاراء وأحقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ويجوز أن يعطوا (1) من صدقة التطوع، ففي القرآن: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ". وفي الحديث: " صلي أمك " وكانت مشركة. 2 - بنو هاشم: والمراد بهم آل علي وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث. قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لا تنبغي لال محمد، إنما هي أوساخ الناس " رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كخ كخ، لطرحها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة " متفق عليه. واختلف العلماء في بني المطلب، فذهب الشافعي: إلى أنه ليس لهم الاخذ من الزكاة، مثل بني هاشم. لما رواه الشافعي، وأحمد، والبخاري، عن جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر، وضع النبي صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل، وبني عبد شمس، فأتيت أنا، وعثمان ابن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم، لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وقرابتنا واحدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا وبني المطب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شئ واحد، وشبك بين أصابعه. قال ابن حزم: فصح أنه لا يجوز أن يفرق بين حكمهم، في شئ أصلا، لانهم شئ واحد بنص كلامه، عليه الصلاة والسلام، فصح أنهم آل محمد، وإذ هم آل محمد، فالصدقة عليهم حرام.   (1) أن يعطوا " الخ " أي يجوز إعطاء صدقة التطوع للذميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وعن أبي حنيفة، أن لبني المطلب أن يأخذوا من الزكاة، والرأيان روايتان عن أحمد. وكما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على بني هاشم، حرمها كذلك على مواليهم (1) . فعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال: أصحبني كيما تصيب منها، قال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسأله، وانطلق فسأله فقال: " إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح. واختلف العلماء في صدقة التطوع، هل تحل لهم أم تحرم عليهم؟. قال الشوكاني: ملخصا الاقوال في ذلك - واعلم أن ظاهر قوله: " لا تحل لنا الصدقة " عدم حل صدقة الفرض والتطوع، وقد نقل جماعة، منهم الخطابي، الاجماع على تحريمهما عليه، صلى الله عليه وسلم. وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا. وكذا في رواية عن أحمد. وقال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة. وأما آل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال أكثر الحنفية وهو الصحيح عن الشافعية، والحنابلة، وكثير من الزيدية - إنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لان المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس، وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع. وقال في البحر: إنه خصص صدقة التطوع القيلس على الهبة، والهدية والوقف. وقال أبو يوسف، وأبو العباس، إنها تحرم عليهم كصدقة الفرض، لان الدليل لم يفصل (2) .   (1) " مواليهم " أي الارقاء الذين أعتقوهم. (2) هذا هو الراجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 (3 و 4) الاباء والابناء: اتفق الفقهاء: على أنه لا يجوز إعطاء الزكاة إلى الاباء والاجداد، والامهات، والجدات، والابناء، وأبناء الابناء، والبنات وأبنائهن، لانه يجب على المزكي أن ينفق على آبائه وإن علوا، وأبنائه، وإن نزلوا، وإن كانوا فقراء، فهم أغنياء بغناه، فإذا دفع الزكاة إليهم فقد جلب لنفسه نفعا، بمنع وجوب النفقة عليه. واستثنى مالك الجد، والجدة، وبني البنين، فأجاز دفعها إليهم لسقوط نفقتهم (1) . هذا في حالة ما إذا كانوا فقراء، فإن كانوا أغنياء، وغزوا متطوعين في سبيل الله، فله أن يعطيهم من سهم سبيل الله، كما له أن يعطيهم من سهم الغارمين، لانه لا يجب عليه أداء ديونهم، ويعطيهم كذلك من سهم العاملين، إذا كانوا بهذه الصفة. (5) الزوجة: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة. وسبب ذلك، أن نفقتها واجبة عليه، تستغنى بها عن أخذ الزكاة، مثل الوالدين، إلا إذا كانت مدينة فتعطى من سهم الغارمين، لتؤدي دينها. (6) صرف الزكاة في وجوه القرب: لا يجوز صرف الزكاة إلى القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى، غير ما ذكره في آية: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " فلا تدفع لبناء المساجد والقناطر، وإصلاح الطرقات، والتوسعة على الاضياف، وتكفين الموتى وأشباه ذلك. قال أبو داود: سمعت أحمد - وسئل - يكفن الموتى من الزكاة؟   (1) يرى ابن تيمية أنه يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين، إذا كان لا يستطيع أن ينفق عليهم وكانوا هم في حاجة إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قال: لا، ولا يقضى من الزكاة دين الميت (1) وقال: يقضى من الزكاة دين الحى، ولا يقضى منها دين الميت. لان الميت لا يكون غارما. قيل: فانما يعطى أهله. قال: إن كانت على أهله فنعم. من الذي يقوم بتوزيع الزكاة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث نوابه، ليجمعوا الصدقات، ويوزعها على المستحقين، وكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك. لا فرق بين الاموال الظاهرة والباطنة (2) فلما جاء عثمان، سار على النهج زمنا، إلا أنه لما رأى كثرة الاموال الباطنة، ووجد أن في تتبعها حرجا على الامة وفي تفتيشها ضررا بأربابها، فوض أداء زكاتها إلى أصحاب الاموال. وقد اتفق الفقهاء على أن الملاك هم الذين يتولون تفريق الزكاة بأنفسهم، إذا كانت الزكاة زكاة الاموال الباطنة. لقول السائب بن يزيد: سمعت عثمان بن عفان يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا شهر زكاتكم، فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه، حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة. رواه البيهقي بإسناد صحيح. وقال النووي: ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين. وإذا كان للملاك أن يفرقوا زكاة أموالهم الباطنة فهل هذا هو الافضل؟ أم الافضل أن يؤدوها للامام ليقوم بتوزيعها؟. المختار عند الشافعية: أن الدفع إلى الامام، إذا كان عادلا أفضل. وعند الحنابلة: الافضل أن يوزعها بنفسه، فإن أعطاها للسلطان فجائز   (1) لان الغارم هو الميت، ولا يمكن الدفع إليه وإن دفعها للغريم صار الدفع إلى الغريم، لا إلى الغارم. (2) الاموال الظاهرة هي الزروع والثمار والمواشي والمعادن، والباطنة، هي عروض التجارة والذهب والفضة والركاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أما إذا كانت الاموال ظاهرة، فإمام المسلمين ونوابه هم الذين لهم ولاية الطلب، والاخذ، عند مالك، والاحناف. ورأي الشافعية والحنابلة في الاموال الظاهرة كرأيهم في الاموال الباطنة. براءة رب المال بالدفع إلى الامام مع العدل والجور: إذا كان للمسلمين إمام يدين بالاسلام دفع الزكاة إليه عادلا كان أم جائرا، وتبرأ ذمة رب المال بالدفع إليه. إلا انه إذا كان لا يضع الزكاة موضعها، فالافضل له أن يفرقها بنفسه على متسحقيها إلا إذا طلبها الامام أو عامله عليها (1) . 1 - فعن أنس قال: أتى رجل من بني تميم، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي يا رسول الله، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها ".رواه أحمد. 2 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون بعدي أثرة (2) ، وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا، قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". رواه البخاري، ومسلم. 3 - وعن وائل بن حجر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله - فقال: أرأيت ان كان علينا أمراء يمنعوننا حقهم؟ فقال: " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم " رواه مسلم. قال الشوكاني: والاحاديث المذكورة في الباب، استدل بها الجمهور على جواز دفع الزكاة إلى سلاطين الجور، وإجزائها. هذا بالنسبة لامام المسلمين في دار الاسلام. وأما إعطاء الزكاة للحكومات المعاصرة : فقال الشيخ رشيد رضا:   (1) هذا، ولا يشترط أن يقول المعطي للزكاة - سواء أكان الامام أم رب المال - أن يقول للفقير: إنها زكاة، بل يكفي مجرد الاعطاء. (2) " الاثرة " استئثار الاناسن بالشئ دون إخوانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 " ولكن أكثر المسلمين لم يبق لهم في هذا العصر حكومات إسلامية، تقيم الاسلام بالدعوة إليه، والدفاع عنه والجهاد الذي يوجبه وجوبا عينيا، أو كفائيا، وتقيم حدوده، وتأخذ الصدقات المفروضة، كما فرضها الله، وتضعها في مصارفها التي حددها - بل سقط اكثرهم تحت سلطة دول الافرنج، وبعضهم تحت سلطة حكومات مرتدة عنه، أو ملحدة فيه. ولبعض الخاضعين لدون الافرنج رؤساء من المسلمين الجغرافيين، اتخذهم الافرنج آلات لاخضاع الشعوب لهم، باسم الاسلام حتى فيما يهدمون به الاسلام، ويتصرفون بنفوذهم وأموالهم الخاصة بهم، فيما له صفة دينية، من صدقات الزكاة، والاوقاف وغيرهما. فأمثال هذه الحكومات، لا يجوز دفع شئ من الزكاة لها، مهما يكن لقب رئيسها، ودينه الرسمي. وأما بقايا الحكومات الاسلامية، التي يدين أئمتها ورؤساؤها بالاسلام، ولا سلطان عليهم للاجانب في بيت مال المسلمين، فهي التي يجب أداء الزكاة الظاهرة لائمتها. وكذا الباطنة، كالنقدين إذا طلبوها، وإن كانوا جائرين في بعض أحكامهم، كما قال الفقهاء ". انتهى. استحباب اعطاء الصدقة للصالحين الزكاة تعطى للمسلم، إذا كان من أهل السهام، وذوي الاستحقاق، سواء أكان صالحا أم فاسقا (1) إلا إذا علم أنه سيستعين بها على ارتكاب ما حرم الله، فإنه يمنع منها، سدا للذريعة، فإذا لم يعلم عنه شئ، أو علم أنه سينتفع بها، فإنه يعطى منها. وينبغي أن يخص المزكي بزكاته أهل الصلاح والعلم، وأرباب المروءات، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل المؤمن، ومثل الايمان، كمثل الفرس في آخيته (2) يجول، ثم يرجع إلى   (1) الفاسق: هو المرتكب للكبيرة، أو المصر على الصغيرة. (2) " الاخية " عروة أو عود يغرز في الحائط لربط الدواب، يعني العبد يبعد يترك أعمال الايمان ثم يعود إلى الايمان الثابت نادما على تركه متداركا ما فاته، كالفرس يبعد عن آخيته ثم يعود إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 آخيته. وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الايمان. فأطعموا اطعامكم الاتقياء، وأولوا معروفكم المؤمنين " رواه أحمد، بسند جيد، وحسنه السيوطي. وقال ابن تيمية: فمن لا يصلي من أهل الحاجات، لا يعطى شيئا حتى يتوب، ويلتزم أداء الصلاة. وهذا حق، فإن ترك الصلاة إثم كبير، لا يصح أن يعان مقترفه، حتى يحدث لله توبة. ويلحق بتارك الصلاة، العابثون، والمستهترون الذين لا يتورعون عن منكر، ولا ينتهون عن غي، والذين فسدت ضمائر هم، وانطمست فطرهم، وتعطلت حاسة الخير فيهم. فهؤلاء لا يعطون من الزكاة إلا إذا كان العطاء يوجههم الوجهة الصالحة ويعينهم على صلاح أنفسهم، بإيقاظ باعث الخير، واستثارة عاطفة التدين. نهي المزكي أن يشتري صدقته نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المزكي ان يشتري زكاته حتى لا يرجع فيما تركه لله عزوجل، كما نهى المهاجرين عن العودة إلى مكة، بعد أن فارقوها مهاجرين. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أن عمر رضى الله عنه حمل (1) على فرس في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه (2) ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك " رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي. قال النووي: هذا نهي تنزيه، لا تحريك فيكره لمن تصدق بشئ أو أحوجه في زكاته، أو فكفارة نذر، ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه. أو يهبه، أو يتملكه باختياره، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه.   (1) أي حمل عليه رجلا في سبيل الله. ومعناه أن عمر أعطاه الفرس وملكه إياه، ولذلك صح له بيعه. (2) يبتاعه: أي يشتريه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقال ابن بطال: كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر هذا. وقال ابن المنذر: رخص في شراء الصدقة الحسن، وعكرمة وربيعة، والاوزاعي. ورجع هذا الرأي ابن حزم، واستدل بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغني ". استحباب اعطاء الزكاة للزوج والاقارب إذا كان للزوجة مال، تجب فيه الزكاة، فلها أن تعطي لزوجها المستحق من زكاتها، إذا كان من أهل الاستحقاق، لانه لا يجب عليه الانفاق عليه. وثوابها في إعطائه أفضل من ثوابها إذا أعطت الاجنبي. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن زينب امرأة ابن مسعود قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلى، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده، أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم " صدق ابن مسعود، زوجك، وولدك أحق من تصدقت به عليهم " رواه البخاري. وهذا مذهب الشافعي، وابن المنذر، وأبي يوسف، ومحمد، وأهل الظاهر، ورواية عن أحمد. وذهب أبو حنيفة، وغيره: إلى أنه لا يجوز لها أن تدفع له من زكاتها، وقالوا: إن حديث زينب ورد في صدقة التطوع، لا الفرض. وقال مالك إن كان يستعين بما يأخذه منها على نفقتها فلا يجوز. وإن كان يصرفه في غير نفقتها جاز. وأما سائر الاقارب كالاخوة، والاخوات، والاعمام والاخوال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والعمات. والخالات، فإنه يجوز دفع الزكاة إليهم، إذا كانوا مستحقين، في قول أكثر أهل العلم. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " الصدقة على المسكين صدقة (1) ، وعلى ذي القرابة اثنتان: صلة، وصدقة (2) " رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه. اعطاء طلبة العلم من الزكاة دون العباد قال النووي: ولو قدر على كسب يليق بحاله، إلا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية، بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل، حلت له الزكاة، لان تحصيل العلم فرض كفاية. وأما من لا يتأتى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة إذا قدر على الكسب، وإن كان مقيما بالمدرسة هذا الذى ذكرناه هو الصحيح المشهور. قال: " وأما من أقبل على نوافل العبادات - والكسب يمنعه منها، أو من استغراق الوقت بها - فلا تحل له الزكاة بالاتفاق، لان مصلحة عبادته قاصرة عليه، بخلاف المشتغل بالعلم ". اسقاط الدين عن الزكاة قال النووي في المجموع: " لو كان على رجل معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته وقال له: جعلته عن زكاتي فوجهان: أصحهما، لا يجزئه، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، لان الزكاة في ذمته، فلا يبرأ إلا بإقباضها. والثاني: يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري. وعطاء، لانه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه. كما لو كانت له دراهم وديعة، ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها، أم لا.   (1) أي فيها أجر الصدقة. (2) أي فيها أجران، أجر صلة الرحم، وأجر الصدقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أما إذا دفع الزكاة، بشرط أن يردها إليه عن دينه فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق. ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق، ولو نويا ذلك، ولم يشترطاه، جاز بالاتفاق، وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين، برئ. نقل الزكاة أجمع الفقهاء على جواز نقل الزكاة إلى من يستحقها، من بلد إلى أخرى إذا استغنى أهل بلد المزكي عنها. أما إذا لم يستغن قوم المزكي عنها، فقد جاءت الاحاديث مصرحة بأن زكاة كل بلد تصرف في فقراء أهله، ولا تنقل إلى بلد آخر، لان المقصود من الزكاة، إغناء الفقراء من كل بلد، فإذا أبيح نقلها من بلد - مع وجود فقراء بها - أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين. ففي حديث معاذ المتقدم " أخبرهم ": أن عليهم صدقد تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ". وعن أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا، فكنت غلامايتيما، فأعطاني قلوصا. رواه الترمذي وحسنه. وعن عمران بن حصين: أنه أستعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعناه حيث كنا نضعه. رواه أبو داود، وابن ماجه. وعن طاوس قال: كان في كتاب معاذ: من خرج من مخلاف إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته. رواه الاثرم في سننه. وقد استدل الفقهاء بهذه الاحاديث: على أنه يشرع صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله، واختلفوا في نقلها من بلدة إلى بلدة أخرى، بعد إجماعهم على أنه يجوز نقلها إلى إلى من يستحقها إذا استغنى أهل بلده عنها، كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فقال الاحناف: يكره نقلها، إلا أن ينقلها إلى قرابة محتاجين لما في ذلك من صلة الرحم، أو جماعة هم أمس حاجة من أهل بلده، أو كان نقلها أصلح للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الاسلام، أو إلى طالب علم، أو كانت الزكاة معجلة قبل تمام الحول، فإنه في هذه الصور جميعها، لا يكره النقل. وقالت الشافعية: لا يجوز نقل الزكاة، ويجب صرفها في بلد المال، إلا إذا فقد من يستحق الزكاة، في الموضع الذي وجبت فيه. فعن عمرو بن شعيب: أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند - إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فترد على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت اليك بشئ وأنا أجد أحدا يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه، فقال معاذ: ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا. رواه أبو عبيد. وقال مالك: لا يجوز نقل الزكاة، إلا أن يقع بأهل بلد حاجة، فينقلها الامام إليهم، على سبيل النظر والاجتهاد. وقالت الحنابلة: لا يجوز نقل الصدقة من بلدها إلى مسافة القصر. ويجب صرفها في موضع الوجوب أو قربه، إلى ما دون مسافة القصر. قال أبوداود: سمعت أحمد، سئل عن الزكاة يبعث بها من بلد إلى بلد؟ قال: لا. قيل: وإن كان قرابته بها؟ قال: لا. فإن استغنى عنها فقراء أهل بلدها جاز نقلها، واستدلوا بحديث أبي عبيد المتقدم. قال ابن قدامة: فإن خالف ونقلها أجزأته، في قول أكثر أهل العلم. فإن كان الرجل في بلد، وماله في بلد آخر، فالمعتبر ببلد المال، لانه سبب الوجوب ويمتد إليه نظر المستحقين. فإن كان بعضه حيث هو، وبعضه في بلاد أخرى، أدى زكاة كل مال، حيث هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 هذا في زكاة المال، أما زكاة الفطر، فإنها تفرق في البلد الذي وجبت عليه فيه، سواء كان ماله فيه، أم لم يكن لان الزكاة تتعلق بعينه - وهو سبب الوجوب - لا المال. الخطا في مصرف الزكاة: تقدم الكلام على من تحل لهم الصدقة، ومن تحرم عليهم. ثم إنه لو أخطأ المزكي، وأعطى من تحرم عليه، وترك من تحل له دون علمه، ثم تبين له خطؤه، فهل يجزئه ذلك، وتسقط عنه الزكاة، أم أن الزكاة لا تزال دينا في ذمته، حتى يضعها موضعها؟ اختلفت أنظار الفقهاء في هذه المسألة: فقال أبو حنيفة، ومحمد، والحسن، وأبو عبيدة: يجزئه ما دفعه ولا يطالب بدفع زكاة أخرى. فعن معن بن يزيد قال: كان أبي أخرج دنانير، يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت. فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن ". رواه أحمد، والبخاري. والحديث، وإن كان فيه احتمال كون الصدقة نفلا، إلا أن لفظ: " ما " في قوله: " لك ما نويت " يفيد العموم. ولهم أيضا في الاحتجاج حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: " قال رجل (1) : لاتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق (2) فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق فقال: اللهم لك الحمد (3) لا تصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لاتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على غني فقال. اللهم لك الحمد على زانية، وعلى سارق، وعلى   (1) من بني إسرائيل. (2) وهو لا يعلم. (3) حمد الله على تلك الحال، لانه لا يحمد على مكروه سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 غني، فأتي (1) فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته. وأما الزانية، فلعلها أن تستعف به عن زناها. وأما الغني، فلعله أن يعتبر، فينفق مما آتاه الله عز وجل ". رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله الصدقة: " إن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك " وأعطى الرجلين الجلدين، وقال: " إن شئتما أعطيتكما منها، ولاحظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب ". قال في المغني، ولو اعتبر حقيقة الغني، لما اكتفى بقولهم. وذهب مالك، والشافعي، وأبو يوسف، والثوري، وابن المنذر: إلى أنه لا يجزئه دفع الزكاة، إلى من لا يستحقها، إذا تبين له خطؤه وأن عليه أن يدفعها مرة أخرى إلى أهلها، لانه دفع الواجب إلى من لا يستحقه فلم يخرج من عهدته، كديون الآدميين. ومذهب أحمد: إذا أعطى الزكاة من يظنه فقيرا، فبان غنيا، ففيه روايتان: رواية بالاجزاء، ورواية بعدمه. فأما إن بان الآخذ عبدا، أو كافرا، أو هاشميا، أو ذا قرابة للمعطي، ممن لا يجوز الدفع إليه لم يجزئه الدفع إليه، رواية واحدة، لانه يتعذر معرفة الفقير من الغني دون غيره " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ". اظهار الصدقة يجوز للمتصدق أن يظهر صدقته، سواء أكانت الصدقة صدقة فرض، أم نافلة، دون أن يرائي بصدقته، وإخفاؤها أفضل. قال الله تعالى: " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ". وعند أحمد، والشيخين، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله وم لاظل إلا ظله: الامام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله عزوجل، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها،   (1) " فأتى " أي رأى في منامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. ورجل دعته امرأة ذات منصب، وجمال، إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله عزوجل. زكاة الفطر : أي الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان. وهي واجبة على كل فرد من المسلمين، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد، والحر، والذكر، والانثى، والصغير، والكبير من المسلمين. حكمتها: شرعت زكاة الفطر في شعبان، من السنة الثانية من الهجرة لتكون طهرة للصائم، مما عسى أن يكون وقع فيه، من اللغو، والرفث، ولتكون عونا للفقراء، والمعوزين. روى أبو داود، وابن ماجه، والدارقطني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة (1) للصائم، من اللغو (2) والرفث (3) وطعمة (4) للمساكين، من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات ". على من تجب؟ تجب على الحر المسلم، المالك لمقدار صاع، يزيد عن قوته وقوت عياله، يوما (5) وليلة.   (1) " طهرة " تطهيرا. (2) " اللغو " هوما لا فائدة فيه من القول أو الفعل. (3) " الرفث " فاحش الكلام. (4) " طعمة " طعام. (5) هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، قال الشوكاني: وهذا هو الحق. وعند الاحناف لابد من ملك النصاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وتجب عليه، عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته، كزوجته، وأبنائه، وخدمه الذين يتولى أمورهم، ويقوم بالانفاق عليهم. قدرها: الواجب في صدقة الفطر صاع (1) من القمح، أو الشعير، التمر، أو الزبيب، أو الاقط (2) ، أو الارز، أو الذرة أو نحو ذلك مما يعتبر قوتا. وجوز أبو حنيفة إخراج القيمة. وقال: إذا أخرج المزكي من القمح، فإنه يجزئ نصف صاع. قال أبو سعيد الخدري: " كنا، إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نخرج زكاة الفطر عن كل صغير، وكبير، حر، ومملوك، صاعا من من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا، أو معتمرا، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما كلم به الناس، أن قال: إني أرى أن مدين (3) من سمراء (4) الشام، تعدل صاعا من تمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فأما أنا، فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت " رواه الجماعة. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون من كل شئ صاعا، وهو قول الشافعي، وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: من كل شئ صاع إلا البر فإنه يجزئ نصف صاع وهو قول سفيان، وابن المبارك، وأهل الكوفة. متى تجب؟ اتفق الفقهاء على أنها تجب في آخر رمضان، واختلفوا في تحديد الوقت، الذي تجب فيه.   (1) الصاع أربعة أمداد. والمد حفنة بكفي الرجل المعتدل الكفين ويساوي قدحا وثلث قدح أو قدحين. (2) " الاقط " لبن مجفف لم تنزع زبدته. (3) المدان: نصف صاع. (4) " سمراء " أي قمح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فقال الثوري، وأحمد، وإسحاق، والشافعي في الجديد، وإحدى الروايتين عن مالك: إن وقت وجوبها، غروب الشمس، ليلة الفطر، لانه وقت الفطر من رمضان. وقال أبو حنيفة، والليث، والشافعي، في القديم، والرواية الثانية عن مالك: إن وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد. وفائدة هذا الاختلاف، في المولود يولد قبل الفجر، من يوم العيد، وبعد مغيب الشمس، هل تجب عليه أم لا تجب؟ فعلى القول الاول لا تجب، لانه ولد بعد وقت الوجوب، وعلى الثاني: تجب، لانه ولد قبل وقت الوجوب. تعجيلها عن وقت الوجوب: جمهور الفقهاء على أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر قبل العيد بيوم، أو بيومين. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر، أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. قال نافع: وكان ابن عمر يؤديها، قبل ذلك، باليوم، أو اليومين. واختلفوا فيما زاد على ذلك. فعند أبي حنيفة: يجوز تقديمها على شهر رمضان. وقال الشافعي: يجوز التقديم من أول الشهر. وقال مالك ومشهور مذهب أحمد: يجوز تقديمها يوما أو يومين. واتفقت الائمة على أن زكاة الفطر لا تسقط بالتأخير بعد الوجوب، بل تصير دينا في ذمة من لزمته، حتى تؤدى، ولو في آخر العمر. واتفقوا: على أنه لا يجوز نأخيرها عن يوم العيد (1) إلا ما نقل عن ابن سيرين، والنخعي، أنهما قالا: يجوز تأخيرها عن يوم العيد،   (1) وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق، لانها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها. وقد تقدم في الحديث: " من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات (1) " مصرفها: مصرف الزكاة، أي أنها توزع على الاصناف الثمانية المذكورة في آية: " إنما الصدقات للفقراء ". والفقراء هم أولى الاصناف بها، لما تقدم في الحديث: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم، من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. ولما رواه البيهقي، والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: " أغنوهم في هذا اليوم " وفي رواية للبيهقي: " أغنوهم عن طواف هذا اليوم ". وتقدم الكلام على المكان الذي تؤدى فيه، عند الكلام على نقل الزكاة. إعطاؤها للذمي: أجاز الزهري، وأبو حنيفة، ومحمد، وابن شبرمة، إعطاء الذمي من زكاة الفطر لقول الله تعال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) . هل في المال حق سوى الزكاة؟ ينظر الاسلام إلى المال نظرة واقعية، فهو في نظرة عصب الحياة، وقوام نظام الافراد والجماعات. قال الله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما)   (1) أي التي يتصدق بها في سائر الاوقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وهذا يقتضي أن يوزع توزيعا يكفل لكل فرد كفايته من الغذاء، والكساء، والمسكن، وسائر الحاجات الاصلية، التي لاغنى عنها، حتى لا يبقى فرد مضيع، لاقوام له. وأمثل وسيلة، وأفضلها لتوزيع المال، وللحصول على الكفاية، وسيلة الزكاة، فهي في الوقت الذي لا يضيق بها الغني، ترفع مستوى الفقير إلى حد الكفاية، وتجنبه شظف العيش، وألم الحرمان. والزكاة ليست منة يهبها الغني للفقير، وإنما هي حق استودعه الله يد الغني، ليؤديه لاهله، وليوزعه على مستحقيه ومن ثم تتقرر هذه الحقيقة الكبرى وهي: أن المال ليس وقفا على الاغنياء دون غيرهم، وإنما المال للجميع: أي للاغنياء، والفقراء، على السواء يوضح هذا قول الله تعالى - في حكمه تقسيم الفئ (كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم) أي هذا التقسيم، لئلا يكون المال متداولابين الاغنياء، بل يجب توزيعه على الاغنياء والفقراء. والزكاة، هي الحق الواجب في المال، متى قامت بحاجة الفقراء وسدت خلة المعوزين، وكفت البائسين، وأطعمتهم من جوع وأمنتهم من خوف. فإذا لم تكف الزكاة، ولم تف بحاجة المحتاجين، وجب في المال حق آخر سوى الزكاة وهذا الحق لا يتقيد ولا يتحدد إلا بالكفاية، فيؤخذ من مال الاغنياء القدر الذي يقوم بكفاية الفقراء. قال القرطبي: قوله تعالى: " وآتى المال على حبه " استدل به من قال: إن في المال حقا، سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والاول أصح. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في المال حقا سوى الزكاة " تم تلا هذه الآية " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " إلى آخرها. وأخرجه ابن ماجه، في سننه، والترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة، ميمون الاعور، يضعف. وروى بيان، وإسماعيل بن سالم هذا الحديث، عن الشعبي من قوله، وهو أصح. قلت: والحديث، وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في هذه الآية نفسها، من قوله تعالى: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) مع الصلاة، وذلك دليل. على أن المراد بقوله: (وآتى المال على حبه) ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارا، والله أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة، بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء اسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجمال أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، وبالله التوفيق. وفي تفسير المنار، في قوله تعالى: " وآتى المال على حبه " قال: أي وأعطى المال لاجل حبه تعالى، أو على حبه إياه أي المال. قال الاستاذ الامام (1) : " وهذا الايتاء، غير إيتاء الزكاة الآتي، وهو ركن من أركان البر، وواجب كالزكاة وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل، في غير وقت أداء الزكاة، بأن يرى الواجد مضطرا، بعد أداء الزكاة، أو قبل تمام الحول. وهو لا يشترط فيه نصاب معين، بل هو على حسب الاستطاعة. فإذا كان لا يملك إلا رغيفا، ورأى مضطرا إليه، في حال استغنائه عنه، بأن لم يكن محتاجا إليه لنفسه، أو لمن تجب عليه نفقته، وجب عليه بذله. وليس المضطر وحده، هو الذي له الحق في ذلك، بل أمر الله تعالى المؤمن أن يعطي من غير الزكاة " ذوي القربى " وهم أحق الناس بالبر، والصلة، فإن الانسان إذا احتاج - وفي أقاربه غني - فإن نفسه تتوجه إليه بعاطفة الرحم. ومن المغروز في الفطرة أن الانسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم،   (1) الشيخ محمد عبده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أشد مما يألم لفاقة غيرهم، فإنه يهون بهوانهم، ويعتز بعزتهم، فمن قطع الرحم ورضي بأن ينعم وذو وقرباه بائسون، فهو برئ من الفطرة والدين، وبعيد من الخير والبر، ومن كان أقرب رحما، كان حقه آكد، وصلته أفضل. " واليتامى " فإنه لموت كافلهم تتعلق كفايتهم بأهل الوجد واليسار من المسلمين، كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم، فيكونوا مصابا على أنفسهم وعلى الناس. " والمساكين " فإنهم لما قعد بهم العجز عن كسب ما يكفيهم، وسكنت نفوسهم للرضا بالقليل عن مد كف الذليل وجبت مساعدتهم، ومواساتهم على المستطيع. " وابن السبيل " المنقطع في السفر، لا يتصل بأهل ولا قرابة كأن السبيل أبوه، وأمه، ورحمه، وأهله. وهذا التعبير بمكان من اللطف، لا يرتقي إليه سواه. وفي الامر بمواساته، وإعانته في سفره، ترغيب من الشرع في السياحة، والضرب في الارض. " والسائلين " الذين تدفعهم الحاجة العارضة، إلى تكفف الناس. وأخرهم لانهم يسألون، فيعطيهم هذا، وهذا. وقد يسأل الانسان لمواساة غيره - والسؤل محرم شرعا، إلا لضرورة، يجب على السائل أن لا يتعداها. " وفي الرقاب " أي في تحريرها، وعتقها، وهو يشمل ابتياع الارقاء، وعتقهم وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (1) ومساعدة الاسرى على الافتداء. وفي جعل هذا النوع من البذل، حقا واجبا في أموال المسلمين، دليل على رغبة الشريعة في فك الرقاب، واعتبارها أن الانسان خلق ليكون حرا، إلا في أحوال عارضة، تقضي المصلحة العامة فيها، أن يكون الاسير رقيقا، وأخر هذا عن كل ما سبقه، لان الحاجة في تلك الاصناف، قد تكون لحفظ الحياة، وحاجة الرقيق الى الحرية حاجة إلى الكمال. ومشروعية البذل لهذه الاصناف، من غير مال الزكاة، لا تتقيد بزمن.   (1) " بحومهم " أي الاقساط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ولا بامتلاك نصاب محدود، ولايكون المبذول مقدارا معينا بالنسبة الى ما يملك، ككونه عشرا، أو ربع عشر، أو عشر العشر مثلا، وإنما هو أمر مطلق بالاحسان موكول إلى أريحية المعطي وحالة المعطى. ووقاية الانسان المحترم من الهلاك، والتلف، واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك، فلا تقدير له. وقد أغفل الناس أكثر هذه الحقوق العامة، التي حث عليها الكتاب العزيز لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة فلا يكادون يبذلون شيئا لهؤلاء المحتاجين إلا القليل النادر لبعض السائلين، وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقا، لانهم اتخذوا السؤال حرفة، وأكثرهم واجدون. انتهى. وقال ابن حزم: وفرض على الاغنياء من أهل كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف، والشمس، وعيون المارة. برهان ذلك: قول الله تعالى: " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل " وقال تعالى: " وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب (1) ، والصاحب بالجنب (2) ، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم ". فأوجب تعالى حق المسكين، وابن السبيل، وما ملكت اليمين من حق ذي القربى، وافترض الاحسان إلى الابوين، وذي القربى والمساكين، والجار وما ملكت اليمين، والاحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك. وقال تعالى: (ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) . فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - من طرق كثيرة، في غاية الصحة أنه قال: " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ".   (1) " الجار الجنب " أي الجار البعيد. (2) " الصاحب بالجنب " أي الزوجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ومن كان على فضلة (1) ورأى المسلم أخاه جائعا عريان ضائعا فلم يغثه. فما رحمه بلاشك. وعن عثمان النهدي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حدثه: " أن أصحاب الصفة، كانوا ناسا فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس ". وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ". ومن تركه يجوع، ويعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلمه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من زاد له. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لاحق لاحد منا في فضل ". وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم يخبر بذلك أبو سعيد الخدري رضي رضي الله عنه، وبكل ما في هذا الخبر نقول: ومن طريق أبي موسى الاشعري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني (2) ". والنصوص من القرآن، والاحاديث الصحاح في هذا كثيرة جدا. وقال عمر رضي الله عنه: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاخذت فضول أموال الاغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين " وهذا إسناد في غاية الصحة، والجلالة. وقال علي رضي الله عنه: " إن الله تعالى فرض على الاغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا، أو عروا، وجهدوا فبمنع الاغيناء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم   (1) " فضلة " أي زيادة عن الحاجة. (2) " العاني " أي الاسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 يوم القيامة، ويعذبهم عليه (1) ". وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: " في مالك حق سوى الزكاة ". وعن عائشة أم المؤمنين، والحسن بن علي، وابن عمر رضي الله عنهم، أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: " إن كنت تسأل في دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك ". وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة. فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء. فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم منهم. وصح عن الشعبي، ومجاهد، وطاوس، وغيرهم، كلهم يقول: في المال حق، سوى الزكاة. ثم قال: ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميتة، أو لحم خنزير وهو يجد طعاما، فيه فضل عن صاحبه لمسلم، أو لذمي، لانه يجب فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع. فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة، ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل على ذلك، فإن قتل، فعلى قاتله القود (2) ، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله، لانه منع حقا، وهو من الطائفة الباغية، قال تعالى: " فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ". ومانع الحق باغ على أخيه، الذي له الحق. وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مانع الزكاة. وبالله تعالى التوفيق. انتهى وإنما سردنا هذه النصوص، وأكثرنا القول في هذه المسألة لنبين مدى ما في الاسلام من رحمة، وحنان، وأنه سبق المذاهب الحديثة سبقا بعيدا، وأنها في جانبه كالشمعة المضطربة أمام الضوء الباهر، والشمس الهادية.   (1) تقدم الحديث في أول الكتاب مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (2) " فعلى قاتله القود " أي يقتل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 صدقة التطوع : دعا الاسلام إلى البذل، وحض عليه في أسلوب يستهوي الافئدة، ويبعث في النفس الاريحية، ويثير فيها معاني الخير والبر، والاحسان. 1 - قال الله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) . 2 - وقال: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) . 3 - وقال (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) . 1 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء " رواه الترمذي، وحسنه. 2 - وروى كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء (1) ويذهب الله بها الكبر والفخر ". 3 - وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الاخر: الله أعط ممسكا تلفا " رواه مسلم. 4 - وقال صلى الله عليه وسلم " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة حفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الاخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الاخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف " رواه الطبراني في الاوسط، وسكت عليه المنذري. أنواع الصدقات: وليست الصدقة قاصرة على نوع معين من أعمال البر بل القاعدة العامة،   (1) " ميتة السوء " أي سوء العاقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 أن كل معروف صدقة. وإليك بعض ما جاء في ذلك: 1 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على كل مسلم صدقة " فقالوا: يا نبي الله فمن لم يجد؟ قال: " يعمل بيده فينفع نفسه، ويتصدق ". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: " يعين ذا الحاجة الملهوف (1) ". قالوا: فإن لم جيد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها (2) له صدقة " رواه البخاري، وغيره. 2 - وقال صلى الله عليه وسلم: " كل نفس كتب عليها الصدقة كل يوم طلعت فيه الشمس، فمن ذلك أن يعدل (3) بين الاثنين صدقة، وأن يعين الرجل على دابته فيحمله عليها صدقة، ويرفع متاعه عليها صدقة، ويميط الذى عن الطريق صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشي إلى الصلاة صدقة " رواه أحمد وغيره. 3 - وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال (4) ، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : " على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه ". قلت: يا رسول الله من أين أتصدق، وليس لنا أموال؟ قال: " لان من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوك عن طريق الناس، والعظم، والحجر، وتهدي الاعمى وتسمع الاصم والبكم، حتى يفقه، المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة، منك على نفسك، ولك في جماع زوجتك أجر " الحديث، رواه أحمد واللفظ له، ومعناه أيضا في مسلم. وعند مسلم قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ".   (1) " الملهوف " أي المستغيث سواء أكان مظلوما أم عاجزا. (2) أي إن هذه الخصلة. (3) " يعدل " أي يصلح بين متخاصمين بالعدل. (4) ما بين القوسين ليس في مسند الامام أحمد وإنما آثرنا إثباته هنا لان ما بعده إلى قوله " على نفسه " في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 4 - وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس من نفس ابن آدم عليها صدقة. في كل يوم طلعت فيه الشمس ". قيل: يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها كل يوم؟ فقال: " إن أبواب الخير لكثيرة. التسبيح والتحميد، والتكبير، والتهليل، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الاذى عن الطريق، وتسمع الاصم، وتهدي الاعمى، وتدل المستدل على حاجاته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف. فهذا كله صدقة منك على نفسك " رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي مختصرا وزاد في رواية: " وتبسمك في وجه أخيك صدقة وإماطتك الحجر، والشوكة والعظم عن طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة صدقة ". 5 - وقال: " من استطاع منكم أن يتقي النار فليتصدق ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة " رواه أحمد، ومسلم. 6 - وقال: " إن الله عزوجل، يقول يوم القيامة: يا ابن آدم: مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت، أن عبدى فلانا مرض فلم تعده؟ أما لوعدته لوجدتني عنده. يا ابن آدم: استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وانت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي." رواه مسلم. 7 - وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له صدقة " رواه البخاري. 8 - وقال عليه الصلاة والسلام: " كل معروف صدقة، ومن المعروف   (1) " شق تمرة " أي نصف تمرة، وهذا يفيد أنه لا ينبغي أن يستقل الانسان الصدقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أن تلقى أخاك بوجه طلق، وان تفرغ من دلوك في إنائه " رواه أحمد والترمذي وصححه. أولى الناس بالصدقة : أولى الناس بالصدقة أولاد المتصدق وأهله وأقاربه. ولا يجوز التصدق على أجنبي وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته ونفقة عياله. 1 - فعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان احدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، وإن كان فضل فعلى عياله، وإن كان فضل فعلى ذوي قرابته، أو قال: ذوي رحمه، وان كان فضل فهاهنا وهاهنا " رواه أحمد ومسلم. 2 - وقال صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا ": قال رجل: عندي دينار. قال " تصدق به على نفسك ". قال: عندي دينار آخر. قال: تصدق به على زوجتك ". قال: عندي دينار آخر. قال: " تصدق به على ولدك ". قال: عندي دينار آخر. قال: " تصدق به على خادمتك ". قال: عندي دينار آخر. قال: " أنت به أبصر ". رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وصححه. 3 - وقال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ". رواه مسلم وابو داود. 4 - وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح. " رواه الطبراني، والحاكم وصححه. إبطال الصدقة: لقول الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. " قال أبو ذر رضى الله عنه:   (1) " الكاشح " أي الذي يضمر العداوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: " المسبل (1) والمنان (2) ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ". التصدق بالحرام : لا يقبل الله الصدقة، إذا كانت من حرام. 1 - قال رسول الله صلى عليه وسلم: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال عز وجل، (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له " رواه مسلم. 2 - وقال صلى الله عليه وسلم: " من تصدق بعدل (3) تمرة، من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " رواه البخاري. صدقة المرأة من مال زوجها: يجوز للمرأة تتصدق من بيت زوجها، إذا علمت رصاه، ويحرم عليها إذا لم تعلم. فعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها - غير مفسدة - كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا. " رواه البخاري.   (1) " المسبل " أي الذي يجر ثوبه خيلاء. (2) المن ذكر الصدقة والتحدث بها، أو استخدام المتصدق عليه، أو التكبر عليه لاجل إعطائه. والاذى إظهار الصدقة، قصد إيلام المتصدق عليه، أو توبيخه. (3) " العدل " بكسر العين، معناه في اللغة: المثل. والمراد به هنا ما يساوي قيمة تمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول - في خطبة عام حجة الوداع - " لا تنفق المرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها " قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: " ذلك أفضل أموالنا " رواه الترمذي، وحسنه. ويستثنى من ذلك النزر اليسير، الذي جرى به العرف فإنه يجوز لها أن تتصدق به، دون أن تستأذنه. فعن أسماء بنت أبي بكر أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن الزبير رجل شديد، ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته، بغير إذنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارضخي (1) ولا توعي (2) فيوعي الله عليك ". رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. جواز التصدق بكل المال : يجوز للقوي المكتسب أن يتصدق بجميع ماله (3) . قال عمر: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن (4) سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أبقيت لاهلك؟ " فقلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أبقيت لاهلك؟ " فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شئ أبدا " رواه أبو داود، والترمذي، وصححه. وقد اشترط العلماء لجواز التصدق بجميع المال أن يكون المتصدق قويا مكتسبا صابرا غير مدين، ليس عنده من يجب الانفاق عليه، فإذا لم تتوفر هذه الشروط، فإنه حينئذ يكره. فعن جابر رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه.   (1) " ارضخي " أي أعطي القليل، الذي جرت به العادة. (2) " لاتوعي " أي لا تدخري المال في الوعاء فيمنعه الله عنك. (3) قال أبو جعفر الطبري: ومع جوازه فالمستحب ان لا يفعل وأن يقتصر على الثلث. (4) " إن " حرف نفي: أي ما سبقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وسلم. إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال يا رسول الله: أصبت هذه من معدن فخذها، فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل ركنه الايمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الايسر (1) فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه (2) بها، فلو أصابته لاوجعته، أو عقرته (3) الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى " رواه أبو داود، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وفيه محمد بن إسحق. جواز الصدقة على الذمي والحربي : تجوز الصدقة على الذمي والحربي ويثاب المسلم على ذلك، وقد أثنى الله على قوم فقال: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) والاسير حربي. وقال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) . وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: " نعم، صلي أمك ". الصدقة على الحيوان : 1 - روى البخاري ومسلم: أن رسول الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر، فملا خفه   (1) " ركنه " أي جانبه. (2) " فحذفه " أي رماه بها. (3) " عقرته " أي جرحته. (4) " يتكفف " أي يمد كفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ماء. ثم أمسكه بفيه حتى رقي (1) فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. " قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: " في كل كبد رطبة أجر ". 2 - ورويا: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني اسرائيل فنزعت موقها (2) ، فاستقت له به، فسقته فغفر لها به ". الصدقة الجارية : روى أحمد ومسلم أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: " إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". شكر المعروف : 1 - روى أبو داود والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه، ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ". 2 - وروى أحمد عن الاشعث بن قيس - بسند رواته ثقات -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ". 3 - وروى الترمذي - وحسنه - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صنع معه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ".   (1) " رقي " أي صعد. (2) " الموق " أي الخف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الصيام الصيام، يطلق على الامساك. قال الله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوما) أي إمساكا عن الكلام. والمقصود به هنا، الامساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع النية فضله: 1 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عزوجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي (1) ، وأنا أجزي به (2) ، والصيام جنة (3) ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث (4) ، ولا يصخب (5) ، ولا يجهل (6) ، فإن شاتمه أحد، أو قاتله، فليقل: إني صائم، مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف (7) فم الصائم، أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ". رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. 2 - ورواية البخاري، وأبى داود: " الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله، أو شاتمه فليقل، إني صائم، مرتين، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشرة أمثالها ".   (1) إضافته إلى الله إضافة تشريف. (2) هذا الحديث بعضه قدسي وبعضه نبوي. فالنبوي من قوله: والصيام جنة إلى آخر الحديث. (3) " جنة " أي مانع من المعاصي. (4) " الرفث " أي الفحش في القول. (5) " لا يصخب " أي لا يصيح. (6) " لا يجهل " أي لا يسفه. (7) " الخلوف " تغير رائحة الفم بسبب الصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 3 - وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي (1) رب منعته الطعام والشهوات، بالنهار، فشفعني به، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان (2) " رواه أحمد بسند صحيح. 4 - وعن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة، قال: " عليك بالصوم فإنه لا عدل له " (3) ثم أتيته الثانية، فقال: " عليك بالصيام ". رواه أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححة. 5 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصوم عبد يوما في سبيل الله الا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه، سبعين خريفا " رواه الجماعة، إلا أبا داود. 6 - وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن للجنة بابا، يقال له: الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب ". رواه البخاري ومسلم. أقسامه: الصيام قسمان: فرض، وتطوع. والفرض ينقسم ثلاثة أقسام: 1 - صوم رمضان. 2 - صوم الكفارات. 3 - صوم النذر. والكلام هنا ينحصر في صوم رمضان، وفي صوم التطوع. أما بقية الاقسام، فتأتي في مواضعها. صوم رمضان حكمه: صوم رمضان، واجب بالكتاب، والسنة والاجماع.   (1) " أي " حرف نداء بمعنى " يا " أي: يا رب. (2) أي تقبل شفاعتهما. (3) " لا عدل له " أي لا مثل له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فأما الكتاب: فقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب (1) عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وقال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد (2) منكم الشهر فليصمه) . وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: " بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان وحج البيت ". وفي حديث طلحة بن عبيد الله، " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عما فرض الله علي من الصيام؟ قال: " شهر رمضان ". قال: هل علي غيره؟ قال: " لا. إلا أن تطوع ". وأجمعت الامة: على وجوب صيام رمضان. وأنه أحد أركان الاسلام، التي علمت من الدين بالضرورة، وأن منكره كافر مرتد عن الاسلام. وكانت فرضيته يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شعبان، من السنة الثانية من الهجرة. فضل شهر رمضان، وفضل العمل فيه : 1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حضر رمضان " قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " رواه أحمد، والنسائي، والبيهقي. 2 - وعن عرفجة قال: كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدث عن رمضان قال: فدخل علينا رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة هابه، فسكت، قال: فحدث عن رمضان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في رمضان، " تغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين، قال: وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، ويا   (1) " كتب " أي فرض. (2) شهد: حضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان. " رواه أحمد، والنسائي وسنده جيد. 3 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر ". رواه مسلم. 4 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله " رواه أحمد، والبيهقي، بسند جيد. 5 - وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا (1) غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أحمد، وأصحاب السنن. الترهيب من الفطر في رمضان : 1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عرى الاسلام، وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الاسلام، من ترك واحدة منهن، فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان " رواه أبو يعلى، والديلمي، وصححه الذهبي. 2 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أفطر يوما من رمضان، في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله، وإن صامه " رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال البخاري: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: " من أفطر يوما من رمضان، من غير عذر، ولا مرض، لا يقضه صوم الدهر، وإن صامه ". وبه قال ابن مسعود. قال الذهبي: وعند المؤمنين مقرر: أن من ترك صوم رمضان بلا مرض، أنه شر من الزاني، ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة، والانحلال.   (1) " احتسابا " أي طالبا وجه الله وثوابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 بم يثبت الشهر : يثبت شهر رمضان برؤية الهلال، ولو من واحد عدل أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما. 1 - فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود، والحاكم، وابن حبان، وصححاه. 2 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته (1) وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما. " رواه البخاري ومسلم..قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: تقبل شهادة رجل واحد، في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي، وأحمد. وقال النووي: وهو الاصح. وأما هلال شوال، فيثبت بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماو لا تقبل فيه شهادة العدل الواحد، عند عامة الفقهاء. واشترطوا أن يشهد على رؤيته، اثنان ذوا عدل، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين هلال شوال، وهلال رمضان، وقال: يقبل فيهما شهادة الواحد العدل. قال ابن رشد: " ومذهب أبي بكر بن المنذر، هو مذهب أبي ثور، وأحسبه مذهب أهل الظاهر. وقد احتج أبو بكربن المنذر، بانعقاد الاجماع على وجوب الفطر، والامساك عن الاكل، بقول واحد، فوجب أن يكون الامر كذلك، في دخول الشهر وخروجه، إذ كلاهما علامة، تفصل زمان الفطر من زمان الصوم ". وقال الشوكاني: وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الافطار من الادلة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه قياسا على الاكتفاء به في الصوم.   (1) المراد بالرؤية: الرؤية الليلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وأيضا، التعبد بقبول خبر الواحد، يدل على قبوله في كل موضع، إلا ما ورد الدليل بتخصيصه، بعدم التعبد فيه بخبر الواحد، كالشهادة على الاموال ونحوها، فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور. اختلاف المطالع : ذهب الجمهور: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع. فمتى رأى الهلال أهل بلد، وجب الصوم على جميع البلاد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته ". وهو خطاب عام لجميع الامة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعا. وذهب عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم، وإسحاق، والصحيح عند الاحناف، والمختار عند الشافعية: أنه يعتبر لاهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم. لما رواه كريب قال: قدمت الشام، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة. ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس - ثم ذكر الهلال - فقال: متى رأيتهم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا ... هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد، ومسلم والترمذي. وقال الترمذي: حسن، صحيح، غريب، والعمل على هذا الحديث، عند أهل العلم، أن لكل بلد رؤيتهم. وفي فتح العلام شرح بلوغ المرام: الاقرب لزوم أهل بلد الرؤية، وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها (1) .   (1) هذا هو المشاهد، ويتفق مع الواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 من رأى الهلال وحده : اتفقت أئمة الفقه على أن من أبصر هلال الصوم وحده أن يصوم. وخالف عطاء فقال: لا يصوم إلا برؤية غيره معه. واختلفوا في رؤيته هلال شوال، والحق أنه يفطر كما قال الشافعي، وأبو ثور. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوجب الصوم والفطر للرؤية، والرؤية حاصلة له يقينا، وهذا أمر مداره الحس، فلا يحتاج إلى مشاركة. أركان الصوم : للصيام ركنان تتركب منهما حقيقته: 1 - الامساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. لقول الله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) . والمراد بالخيط الابيض، والخيط الاسود بياض النهار وسواد الليل. لما رواه البخاري ومسلم: أن عدي بن حاتم قال: لما نزلت (حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود) عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: " إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار ". 2 - النية: لقول الله تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". ولابد أن تكون قبل الفجر، من كل ليلة من ليالي شهر رمضان. لحديث حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يجمع (1)   (1) " يجمع " من الاجماع، وهو إحكام النية والعزيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الصيام قبل الفجر، فلاصيام له. " رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. وتصح في أي جزء من أجزاء الليل، ولا يشترط التلفظ بها فإنها عمل قلبي، لادخل للسان فيه، فإن حقيقتها القصد إلى الفعل امتثالالامر الله تعالى، وطلبا لوجهه الكريم. فمن تسحر بالليل، قاصدا الصيام، تقربا إلى الله بهذا الامساك، فهو ناو. ومن عزم على الكف عن المفطرات، أثناء النهار، مخلصا لله، فهو ناو كذلك وإن لم يتسحر. وقال كثير من الفقهاء: إن نية صيام التطوع تجزئ من النهار، إن لم يكن قد طعم. قالت عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: " هل عندكم شئ؟ قلنا: لا. قال: " فإني صائم ". رواه مسلم، وأبو داود. واشترط الاحناف أن تقع النية قبل الزوال وهذا هو المشهور من قولي الشافعي. وظاهر قولي ابن مسعود، وأحمد: أنها تجزئ قبل الزوال، وبعده، على السواء. على من يجب: أجمع العلماء: على أنه يجب الصيام على المسلم العاقل البالغ، الصحيح المقيم، ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض، والنفاس. فلا صيام على كافر، ولا مجنون، ولاصبي ولا مريض، ولا مسافر، ولا حائض، ولانفساء، ولاشيخ كبير، ولا حامل، ولا مرضع. وبعض هؤلاء لا صيام عليهم مطلقا، كالكافر، والمجنون، وبعضهم يطلب من وليه أن يأمره بالصيام، وبعضهم يجب عليه الفطر والقضاء، وبعضهم يرخص لهم في الفطر وتجب عليه الفدية، وهذا بيان كل على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 صيام الكافر، والمجنون: الصيام عبادة إسلامية، فلاتجب على غير المسلمين، والجنون غير مكلف لانه مسلوب العقل الذي هو مناط التكاليف، وفي حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. صيام الصبي : والصبي - وإن كان الصيام غير واجب عليه - إلا أنه ينبغي لولي أمره أن يأمره به، ليعتاده من الصغر، مادام مستطيعا له، وقادرا عليه. فعن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم - صبيحة عاشوراء - إلى قرى الانصار: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه، فكنا نصومه بعد ذلك، ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن (1) فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناه إياه، حتى يكون عند الافطار رواه البخاري، ومسلم. من يرخص لهم في الفطر، وتجب عليهم الفدية: يرخص الفطر للشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى برؤه، وأصحاب الاعمال الشاقة، الذين لا يجدون متسعا من الرزق، غير ما يزاولونه من أعمال. هؤلاء جميعا يرخص لهم في الفطر، إذا كان الصيام يجهدهم، ويشف عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة. وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا، وقدر ذلك بنحو صاع (2) أو نصف صاع، أو مد، على خلاف في ذلك، ولم يأت من السنة ما يدل على التقدير.   (1) العهن: الصوف. (2) " الصاع " قدح وثلث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قال ابن عباس: رخص للشيخ الكبير أن يفطر: ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه. رواه الدارقطني والحاكم وصححاه. وروى البخاري عن عطاء: أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " قال ابن عباس ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يتسطيعان أن يصوما، فيطعمان (1) مكان كل يوم مسكينا. والمريض الذي لا يرجى برؤه، ويجهده الصوم، مثل الشيخ الكبير، ولافرق. وكذلك العمال الذين يضطلعون بمشاق الاعمال. قال الشيخ محمد عبده: فالمراد بمن " يطيقونه " في الآية، الشيوخ الضعفاء والزمني (2) ونحوهم كالفعلة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالاشغال الشاقة كاستخراج الفحم الحجري من مناجمه. ومنهم المجرمون الذين يحكم عليهم بالاشغال الشاقة المؤبدة إذا شق الصيام عليهم، بالفعل، وكانوا يملكون الفدية. والحبلى، والمرضع - إذا خافتا على أنفسهما، أو أولادهما (3) أفطرتا - وعليهما الفدية، ولاقضاء عليهما، عند ابن عمر، وابن عباس. روى أبو داود عن عكرمة، أن ابن عباس قال، في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه) ، كانت رخصة للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى، والمرضع - إذا خافتا (يعني على أولادهما) - أفطرتا، وأطعمتا. رواه البزار، وزاد في آخره: وكان ابن عباس يقول لام ولد له حبلى: أنت بمنزلة الذي لا يطيقه، فعليك الفداء، ولاقضاء عليك. وصحح الدارقطني إسناده. وعن نافع أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها فقال: تفطر، وتطعم مكان كل يوم مسكينا مدا (4) من حنطة. رواه مالك، والبيهقي.   (1) مذهب مالك وابن حزم أنه لاقضاء ولا فدية. (2) المرضى مرضا مزمنا لايبرأ. (3) معرفة ذلك بالتجربة أو بإخبار الطبيب الثقة أو بغلبة الظن. (4) " المد " ربع قدح من قمح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وفي الحديث: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم ". وعند الاحناف وأبي عبيد وأبي ثور: أنهما يقضيان فقط، ولا إطعام عليهما. وعند أحمد، والشافعي: أنهما - إن خافتا على الولد فقط وأفطرتا - فعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما فقط، أو على أنفسهما وعلى ولدهما، فعليهما القضاء، لا غير. من يرخص لهم في الفطر، ويجب عليهم القضاء : يباح الفطر للمريض الذي يرجى برؤه، والمسافر، ويجب عليهما القضاء. قال الله تعالى: (ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) . وروى أحمد، وأبو داود، والبيهقي، بسند صحيح، من حديث معاذ، قال: " إن الله تعالى فرض على النبي صلى الله عليه وسلم الصيام، فأنزل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) إلى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فكان من شاء صام. ومن شاء أطعم مسكينا. فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله تعالى أنزل الآية الاخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) إلى قوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فأثبت صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الاطعام للكبير الذي لايستطيع الصيام ". والمرض المبيح للفطر، هو المرض الشديد الذي يزيد بالصوم، أو يخشى تأخر برئه (1) . قال في المغني: " وحكى عن بعض السلف: أنه أباح الفطر بكل مرض، حتى من وجع الاصبع والضرس، لعموم الآية فيه، ولان المسافر يباح له الفطر، وإن لم يحتج إليه، فكذلك المريض " وهذا مذهب البخاري، وعطاء، وأهل الظاهر.   (1) يعرف ذلك، إما بالتجربة أو بإخبار الطبيب الثقة أو بغلبة الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والصحيح الذي يخاف المرض بالصيام، يفطر، مثل المريض وكذلك من غلبه الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، لزمه الفطر وإن كان صحيحا مقيما وعليه القضاء. قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) . وقال تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) . وإذا صام المريض، وتحمل المشقة، صح صومه، إلا أنه يكره له ذلك لاعراضه عن الرخصة التي يحبها الله، وقد يلحقه بذلك ضرر. وقد كان بعض الصحابة يصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يفطر، متابعين في ذلك فتوى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال حمزة الاسلمي: يا رسول الله، أجد مني قوة على الصوم في السفر، فهل علي جناح؟ فقال: هي " رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها، فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة - ونحن صيام - قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم " فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: " إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم " فأفطروا، فكانت عزمة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في السفر " رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر (1) ولا المفطر على الصائم ثم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر، فإن ذلك حسن. رواه أحمد ومسلم. وقد اختلف الفقهاء في أيهما أفضل؟. فرأى أبو حنيفة، والشافعي، ومالك: أن الصيام أفضل، لمن قوي   (1) " فلا يجد الصائم على المفطر " أي لا يعيب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 عليه، والفطر أفضل لمن لا يقوى على الصيام. وقال أحمد: الفطر أفضل. وقال عمر بن عبد العزيز: أفضلهما أيسرهما، فمن يسهل عليه حينئذ، ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقه أفضل. وحقق الشوكاني، فرأى أن من كان يشق عليه الصوم، ويضره، وكذلك من كان معرضا عن قبول الرخصة، فالفطر أفضل وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء - إذا صام في السفر - فالفطر في حقه أفضل. وما كان من الصيام خاليا عن هذه الامور، فهو أفضل من الافطار. وإذا نوى المسافر الصيام بالليل، وشرع فيه، جاز له الفطر أثناء النهار. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم (1) ، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه: أن ناسا صاموا، فقال: " أولئك العصاة " (2) رواه مسلم والنسائي، والترمذي وصححه. وإذا ما نوى الصوم - وهو مقيم - ثم سافر في أثناء النهار فقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز الفطر له، وأجازه أحمد وإسحاق. لما رواه الترمذي - وحسنه - عن محمد بن كعب قال: أتيت في رمضان أنس بن مالك، وهو يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل فقلت له: سنة؟ فقال: سنة، ثم ركب (3) . وعن عبيد بن جبير قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط (4) في رمضان، فدفع، ثم قرب غداءه ثم قال: اقترب، فقلت   (1) " الغميم " اسم واد أمام عسفان. (2) لانه عزم عليهم، فأبوا، وخالفوا الرخصة. (3) في سنده عبيد بن جعفر وهو ضعيف. (4) " الفسطاط ": مصر القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ألست بين البيوت فقال أبو بصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ؟. رواه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات. قال الشوكاني: والحديثان يدلان على أن للمسافر أن يفطر قبل خروجه، من الموضع الذي أراد السفر منه. وقال: قال ابن العربي: وأما حديث أنس، فصحيح، يقتضي جواز الفطر، مع أهبة السفر. وقال: وهذا هو الحق. والسفر المبيح للفطر، هو السفر الذي تقصر الصلاة بسببه، ومدة الاقامة التي يجوز للمسافر أن يفطر فيها، هي المدة التي يجوز له أن يقصر الصلاة فيها. وتقدم جميع ذلك في مبحث قصر الصلاة ومذاهب العلماء وتحقيق ابن القيم. وقد روى أحمد، وأبو داود، والبيهقي، والطحاوي. عن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة خرج من قرية، من دمشق مرة، إلى قدر عقبة (2) من الفسطاط، في رمضان، ثم إنه أفطر، وأفطر معه ناس. وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته، قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك. من يجب عليه الفطر والقضاء معا: وجميع رواة الحديث ثقات، إلا منصور الكلبي، وقد وثقه العجلي. اتفق الفقهاء على أنه يجب الفطر على الحائض، النفساء ويحرم عليهما الصيام، وإذا صاتا لا يصح صومهما، ويقع باطلا، وعليهما قضاء ما فاتهما. روى البخاري، ومسلم، عن عائشة، قالت: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة.   (1) استفهام إنكاري. (2) أي أن المسافة التي قطعها من القرية التي خرج منها تعدل المسافة التي بين مصر القديمة وميت عقبة المجاورة لا مبالغة، وقدرت هذه المسافة بفرسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الأيام المنهي عن صيامها : جاءت الاحاديث مصرحة بالنهي عن صيام أيام نبينها فيما يلي: (1) النهي عن صيام يومي العيدين: أجمع العلماء على تحريم صوم يومي العيدين، سواء أكان الصوم فرضا، أم تطوعا. لقول عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين. أما يوم الفطر، ففطركم من صومكم (1) ، وأما يوم الاضحى، فكلوا من نسككم (2) ". رواه أحمد، والاربعة. (2) النهي عن صوم أيام التشريق: لا يجوز صيام الايام الثلاثة، التي تلي عيد النحر. لما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذاقة يطوف في منى: " أن لا تصوموا هذه الايام، فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل. رواه أحمد بإسناد جيد. وروى الطبراني في الاوسط، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل صائحا يصيح: أن لا تصوموا هذه الايام فإنها أيام أكل، وشرب، وبعال (3) " وأجاز أصحاب الشافعي، صيام أيام التشريق، فيما له سبب، من نذر، أو كفارة، أو قضاء. أم امالا سبب له، فلا يجوز فيها بلا خلاف. وجعلوا هذا نظير الصلاة التي لها سبب في الاوقات المنهي فيها عن الصلاة. (3) النهي عن صوم يوم الجمعة منفردا: يوم الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، ولذلك نهى الشارع عن صيامه. وذهب الجمهور: إلى أن النهي للكراهة (4) لا للتحريم إلا إذا صام يوما   (1) أي الفطر من صيام رمضان. (2) " النسك " الاضاحي. (3) " بعال " أي جماع الرجل زوجته. (4) وعن أبي حنيفة ومالك: لا يكره، والادلة المذكورة عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 قبله، أو يوما بعده، أو وافق عادة له، أو كان يوم عرفة، أو عاشوراء. فإنه حينئذ لا يكره صيامه. فعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية بنت الحارث وهي صائمة، في يوم جمعة فقال لها: " أصمت أمس "؟ فقالت: لا، قال: " أتريدين أن تصومي غدا "؟ قالت: لا. قال: " فأفطري إذن " رواه أحمد، والنسائي، بسند جيد. وعن عامر الاشعري قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن يوم الجمعة عيدكم فلا تصوموه. إلا أن تصوموا قبله أو بعده " رواه البزار بسند حسن. وقال علي رضي الله عنه: من كان منكم متطوعا، فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام، وشراب وذكر رواه ابن أبي شيبة بسند حسن. وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاتصوموا يوم الجمعة، إلا وقبله يوم، أو بعده يوم ". وفي لفظ لمسلم: " ولاتخصوا ليلة الجمعة، بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة، بصيام من بين الايام، إلا أن يكون في صوم، يصومه أحدكم ". (4) النهي عن إفراد يوم السبت بصيام: عن بسر السلمي، عن أخته الصماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم (1) وإن لم يجد أحدكم إلا لحا (2) عنب، أو عود شجرة فليمضغه ". رواه أحمد، وأصحاب السنن، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم وحسنه الترمذي، وقال: ومعنى الكراهة في هذا، أن يختص الرجل يوم السبت بصيام، لان اليهود يعظمون يوم السبت.   (1) ويشتمل القضاء والنذور والنفل، إذا وافق عادته، أو كان يوم عرفة، ونحو ذلك ... (2) " لحاء " أي قشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقالت أم سلمة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت، ويوم الاحد، أكثر مما يصوم من الايام، ويقول: إنهما عيد المشركين، فأنا أحب ان أخالفهم ". رواه أحمد والبيهقي، والحاكم وابن خزيمة، وصححاه. ومذهب الاحناف، والشافعية والحنابلة، كراهة الصوم يوم السبت، منفردا، لهذه الادلة. وخالف في ذلك مالك، فجوز صيامه منفردا، بلا كراهة، والحديث حجة عليه. (5) النهي عن صوم يوم الشك: قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم، صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه. ورأى أكثر هم إن صامه وكان من شهر رمضان، أن يقضي يوما مكانه (1) فإن صامه لموافقته عادة له جاز له الصيام حينئذ بدون كراهة. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقدموا (2) صوم رمضان، بيوم، ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك اليوم " رواه الجماعة. وقال الترمذي: حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل، بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. وإن كان رجل يصوم صوما، فوافق صيامه ذلك، فلا بأس به عندهم.   (1) وعند الحنفية: إن ظهر أنه من رمضان وصامه أجزأه عنه. (2) " تقدموا " أي تتقدموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 (6) النهي عن صوم الدهر: يحرم صيام السنة كلها، بما فيها الايام التي نهى الشارع عن صيامها. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاصام، من صام الابد " رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. فأن أفطر يومي العيد، وأيام التشريق، وصام بقية الايام انتفت الكراهة، إذا كان ممن يقوى على صيامها. قال الترمذي: وقدكره قوم من أهل العلم صيام الدهر. إذا لم يفطر يوم الفطر، ويوم الاضحى، وأيام التشريق. فمن أفطر في هذه الايام، فقد خرج من حد الكراهة، ولايكون قد صام الدهر كله. هكذا روي عن مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة الاسلمي على سرد الصيام، وقال له: " صم إن شئت وأفطر إن شئت ". وقد تقدم. والافضل أن يصوم يوما، ويفطر يوما، فإن ذلك أحب الصيام إلى الله، وسيأتي. (7) النهي عن صيام المرأة، وزوجها حاضر، إلا بإذنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصوم، وزوجها حاضر حتى تستأذنه. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصم المرأة يوما واحدا، وزوجها شاهد إلا بإذنه، إلا رمضان " رواه أحمد، والبخاري ومسلم. وقد حمل العلماء هذا النهي على التحريم، وأجازوا للزوج أن يفسد صيام زوجته لو صامت، دون أن يأذن لها، لافتياتها (1) على حقه، وهذا في غير رمضان كما جاء في الحديث، فإنه لا يحتاج إلى إذن من الزوج:   (1) " لافتياتها " أي لتعديها على حقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وكذلك لها أن تصوم من غير إذنه، إذا كان غائبا، فإذا قدم، له أن يفسد صيامها. وجعلوا مرض الزوج، وعجزه من مباشرتها، مثل غيبته عنها في جواز صومها، دون أن تستأذنه. النهي عن وصال الصوم (1) : 1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والوصال " - قالها ثلاث مرات - قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: " إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أبيت يطعمني (2) ربي ويسقيني، فاكلفوا من الاعمال ما تطيقون " رواه البخاري ومسلم. وقد حمل الفقهاء النهي على الكراهة. وجوز أحمد، وإسحق وابن المنذر، الوصال إلى السحر، ما لم تكن مثقة على الصائم. لما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل حتى السحر ". صيام التطوع : رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام هذه الايام الاتية: صيام ستة أيام من شوال: روى الجماعة - إلا البخاري والنسائي - عن أبي أيوب الانصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر (3) ".   (1) وصل الصوم متابعة بعضه بعضا دون فطر أو سحور. (2) " يطعمني الخ " أي يجعل الله له قوة الطاعم والشارب. (3) هذا لمن صام رمضان كل سنة، قال العلماء: الحسنة بعشر أمثالها ورمضان بعشرة شهور. والايام الستة بشهرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وعند أحمد: أنها تؤدى متتابعة وغير متتابعه، ولا فضل لاحدهما على الاخر. وعند الحنفية، والشافعية، الافضل صومها متتابعة، عقب العيد. صوم عشر ذي الحجة وتأكيد يوم عرفة لغير الحاج: 1 - عن أبي قتادة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة، يكفر سنتين، ماضية، ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ". رواه الجماعة إلا البخاري، والترمذي. 2 - عن حفصة قال: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء والعشر (1) ، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة. رواه أحمد، والنسائي. 3 - عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا - أهل الاسلام - وهي أيام أكل وشرب ". رواه الخمسة، إلا ابن ماجه. وصححه الترمذي. 4 - عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات. رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي، قد استحب أهل العلم، صيام يوم عرفة إلا بعرفة. 5 - عن أم الفضل: أنهم شكوا في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بلبن، فشرب، وهو يخطب الناس بعرفة. متفق عليه. صيام محرم، وتأكيد صوم عاشوراء ويوما قبلها، ويوما بعدها: 1 - عن أبي هريرة قال، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: " الصلاة في جوف الليل ". قيل: ثم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: " شهر الله (2) الذي تدعونه المحرم " رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود.   (1) أي من ذي الحجة. (2) الاضافة للتشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 2 - عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام، ومن شاء فليفطر " متفق عليه. 3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش، في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه. فلما فرض رمضان قال: " من شاء صامه ومن شاء تركه ". متفق عليه. 4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء. فقال: " ما هذا؟ " قالوا: يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني السرائيل من عدوهم، فصامه موسى فقال صلى الله عليه وسلم: " أنا أحق بموسى منكم " فصامه، وأمر بصيامه. متفق عليه. 5 - عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء، تعظمه اليهود، وتتخذه عيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوموه أنتم " متفق عليه. 6 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى..فقال: " إذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع "، قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم، وأبو داود. وفي لفظ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن بقيت إلى قابل لاصومن التاسع ": يعني مع يوم عاشوراء. رواه أحمد ومسلم. وقد ذكر العلماء: أن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: المرتبة الاولى: صوم ثلاثة أيام: التاسع، والعاشر، والحادي عشر. المرتبة الثانية: صوم التاسع، والعاشر. المرتبة الثالثة: صوم العاشر وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 التوسعة يوم عاشوراء: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وسع على نفسه، وأهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته ". رواه البيهقي في الشعب، وابن عبد البر. وللحديث طرق أخرى، كلها ضعيفة. ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض، ازدادت قوة: كما قال السخاوي. صيام أكثر شعبان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان. قالت عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط، إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان. رواه البخاري، ومسلم. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: " ذلك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الاعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ". رواه أبو داود، والنسائي وصححه ابن خزيمة. وتخصيص صوم يوم النصف منه ظنا أن له فضيلة على غيره، مما لم يأت به دليل صحيح. صوم الأشهر الحرم: الاشهر الحرم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ويستحب الاكثار من الصيام فيها. فعن رجل من باهلة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا الرجل الذي جئتك عام الاول، فقال: " فما غيرك، وقد كنت حسن الهيئة؟ " قال: ما أكلت طعاما إلا بليل منذ فارقتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم عذبت نفسك؟ " ثم قال: " صم شهر الصبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ويوما من كل شهر ". قال: زدني، فإن بي قوة. قال: " صم يومين ". قال: زدني. قال: صم من الحرم واترك. صم من الحرم واترك. صم من الحرم واترك " وقال بأصابعه الثلاثة، فضمها، ثم أرسلها (1) . رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه والبيهقي، بسند جيد. وصيام رجب، ليس له فضل زائد على غيره من الشهور، إلا أنه من الاشهر الحرم. ولم يرد في السنة الصحيحة: أن للصيام فيه فضيلة بخصوصه، وأن ما جاء في ذلك مما لا ينتهض للاحتجاج به. قال ابن حجر: لم يرد في فضله، ولا في صيامه، ولا في صيام شئ منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة منه، حديث صحيح يصلح للحجة. صوم يومي الاثنين والخميس: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين، والخميس، فقيل له (2) فقال: " إن الاعمال تعرض كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم، أو لكل مؤمن، إلا المتهاجرين، فيقول: أخرهما " رواه أحمد، بسند صحيح. وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه " أي نزل الوحي علي فيه. صيام ثلاثة أيام، من كل شهر: قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام، البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وقال: هي " كصوم الدهر " رواه النسائي، وصححه ابن حبان. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم من الشهر، السبت   (1) " أرسلها " أي أشار إليه بصيام ثلاثة أيام وفط ثلاثة أخرى. (2) " فقيل له " " أي سئل عن الباعث على صوم يومي الخميس، والاثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 والاحد، والاثنين، ومن الشهر الاخر، الثلاثاء، والاربعاء، والخميس، وأنه كان يصوم من غرة كل هلال، ثلاثة أيام، وأنه كان يصوم الخميس، من أول الشهر، والاثنين الذي يليه، والاثنين الذي يليه. صيام يوم وفطر يوم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أخبرت أنك تقوم الليل وتصوم النهار " قال: قلت: يا رسول الله نعم، قال: " فصم، وافطر، وصل، ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك (1) عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام. " قال: فشددت فشدد علي. قال: فقلت، يا رسول الله إني أجده قوة. قال: " فصم من كل جمعة ثلاثة أيام. " قال فشددت فشدد علي. قال فقلت: يا رسول الله إني أجد قوة. قال: " صم صوم نبي الله داود، ولا تزد عليه ". قلت: يا رسول الله وما كان صيام داود عليه الصلاة والسلام؟ قال: كان يصوم يوما، ويفطر يوما ". رواه أحمد، وغيره. وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصفه، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما ". جواز فطر الصائم المتطوع 1 - عن أم هانئ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح، فأتي بشراب، فشرب، ثم ناولني، فقلت. إني صائمة فقال: " إن المتطوع أمير على نفسه، فإن شئت فصومي، وإن شئت فأفطري. " رواه أحمد والدارقطني، والبيهقي. ورواه الحاكم وقال صحيح الاسناد. ولفظه: " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر. "   (1) " زورك " أي ضيفك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وعن أبي جحيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم، بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء، ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل، وذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم، فنام، ثم ذهب. فقال: نم، فلما كان في آخر الليل، قال: قم الان، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولاهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان. رواه البخاري، والترمذي. 3 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام، قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعاكم أخوكم وتكلف لكم " ثم قال: " أفطر، وصم يوما مكانه، إن شئت ". رواه البيهقي بإسناد حسن، كما قال الحافظ. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الفطر، لمن صام متطوعا، واسحبوا له قضاء ذلك اليوم، استدلالا بهذه الاحاديث الصحيحة الصريحة. آداب الصيام يستحب للصائم أن يراعي في صيامه الاداب الاتية: (1) السحور: وقد أجمعت الامة على استحبابه، وأنه لا إثم على من تركه، فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تسحروا فإن في السحور (1) بركة ". رواه البخاري، ومسلم. وعن المقدام بن معد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم   (1) السحور بالفتح المأكول، وبالضم المصدر والفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 بهذا السحور، فإنه هو الغذاء المبارك ". رواه النسائي، بسند جيد. وسبب البركة: أنه يقوي الصائم، وينشطه، ويهون عليه الصيام. بم يتحقق: ويتحقق السحور بكثير الطعام وقليله، ولو بجرعة ماء. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " السحور بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ". رواه أحمد. وقته: وقت السحور من منتصف الليل إلى طلوع الفجر، والمستحب تأخيره. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما:؟ قال: خمسين آية. رواه البخاري، ومسلم. وعن عمرو بن ميمون قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطارا وأبطأهم سحورا. رواه البيهقي بسند صحيح. وعن أبي ذر الغفاري رضي الله مرفوعا: " لا تزال أمتي بخير، ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور ". وفي سنده سليمان بن أبي عثمان، وهو مجهول. الشك في طلوع الفجر: ولو شك في طلوع الفجر، فله أن يأكل، ويشرب، حتى يستيقن طلوعه، ولا يعمل بالشك، فإن الله عز وجل جعل نهاية الاكل والشرب التبين نفسه، لا الشك، فقال: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ". وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أتسحر فإذا شككت أمسكت، فقال ابن عباس: كل، ما شككت حتى لا تشك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقال أبو داود، قال أبو عبد الله (1) : " إذا شك في الفجر يأكل حى يستيقن طلوعه ". وهذا مذهب ابن عباس، وعطاء، والاوزاعي، وأحمد. وقال النووي: وقد اتفق أصحاب الشافعي على جواز الاكل للشاك في طلوع الفجر. (2) تعجيل الفطر: ويستحب للصائم أن يعجل الفطر، متى تحقق غروب الشمس. فعن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس بخير، ما عجلوا الفطر ". رواه البخاري ومسلم. وينبغي أن يكون الفطر على رطبات وترا، فإن لم يجد فعلى الماء. فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن، حسا حسوات (2) من ماء ". رواه أبو داود، والحاكم وصححه، والترمذي وحسنه. وعن سليمان بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان أحدكم صائما، فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإن الماء طهور ". رواه أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح. وفي الحديث دليل على أنه يستحب الفطر قبل صلاة المغرب بهذه الكيفية، فإذا صلى تناول حاجته من الطعام بد ذلك، إلا إذا كان الطعام موجودا، فإنه يبدأ به، قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم ". رواه الشيخان. (3) الدعاء عند الفطر وأثناء الصيام: روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد ". وكان عبد الله إذا أفطر   (1) هو أحمد بن حنبل. (2) " حسا " أي شرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 يقول: " اللهم إني أسألك - برحمتك التي وسعت كل شئ - أن تغفر لي ". وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الاجر إن شاء الله تعالى ". وروي مرسلا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت ". وروى الترمذي - بسند حسن - أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر (1) ، والامام العادل، والمظلوم ". (4) الكف عما يتنافى مع الصيام: الصيام عبادة من أفضل القربات، شرعه الله تعالى ليهذب النفس، ويعودها الخير. فينبغي أن يتحفظ الصائم من الاعمال التي تخدش صومه، حتى ينتفع بالصيام، وتحصل له التقوى التي ذكرها الله في قوله: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ". وليس الصيام مجرد إمساك عن الاكل والشرب، وإنما هو إمساك عن الاكل، والشرب، وسائر ما نهى الله عنه. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس الصيام من الاكل والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل إني صائم، إني صائم ". رواه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وروى الجماعة - إلا مسلما - عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يدع (2) قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (3) ".   (1) يستفاد منه استحباب الدعاء طول مدة الصيام. (2) " يدع " أي يترك. (3) أي ليس لله إرادة في قبول صيامه، أي إن الله لا يقبل صيامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ". رواه النسائي، وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري. (5) السواك: ويستحب للصائم أن يتسوك أثناء الصيام، ولا فرق بين أول النهار وآخره. قال الترمذي: " ولم ير الشافعي بالسواك، أول النهار وآخره بأسا ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك، وهو صائم. وتقدم ذلك في هذا الكتاب فليرجع إليه. (6) الجود ومدارسة القرآن: الجود ومدارسة القرآن مستحبان في كل وقت، إلا أنهما آكد في رمضان. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة (1) . (7) الاجتهاد في العبادة في العشر الاواخر من رمضان: 1 - روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان إذا دخل العشر الاواخر أحيى الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر ". وفي رواية لمسلم: " كان يجتهد في العشر الاواخر ما لا يجتهد في غيره ". 2 - وروى الترمذي وصححه، عن علي رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الاواخر، ويرفع المئزر ".   (1) أي في الاسراع والعموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مباحات الصيام يباح في الصيام ما يأتي: 1 - نزول الماء والانغماس فيه: لما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حدثه فقال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم، من العطش أو من الحر. رواه أحمد، ومالك، وأبو داود، بإسناد صحيح. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يصبح جنبا، وهو صائم، ثم يغتسل ". فإن دخل الماء في جوف الصائم من غير قصد قصومه صحيح. 2 - الاكتحال: والقطرة ونحوهما مما يدخل العين، سواء أوجد طعمه في حلقه أم لم يجده، لان العين ليست بمنفذ إلى الجوف. وعن أنس: " أنه كان يكتحل وهو صائم ". وإلى هذا ذهبت الشافعية، وحكاه ابن المنذر، عن عطاء، والحسن، والنخعي، والاوزاعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور. وروي عن ابن عمر، وأنس وابن أبي أوفى من الصحابة. وهو مذهب داود. ولم يصح في هذا الباب شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الترمذي. 3 - القبلة: لمن قدر على ضبط نفسه. فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم (1) ، وكان أملككم لاربه ". وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: " هششت (2) يوما، فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله عليه وسلم: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت   (1) والمقصود المداعبة (2) " هششت " أي نشطت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 صائم؟ " قلت: لا بأس بذلك؟، قال: " ففيم (1) ". قال ابن المنذر رخص في القبلة عمر وابن عباس وأبو هريرة وعائشة، وعطاء، والشعبي، والحسن، وأحمد، وإسحاق. ومذهب الاحناف والشافعية: أنها تكره على من حركت شهوته، ولا تكره لغيره، لكن الاولى تركها. ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك، والاعتبار بتحريك الشهوة، وخوف الانزال، فإن حركت شهوة شاب، أو شيخ قوي، كرهت وإن لم تحركها لشيخ أو شاب ضعيف، لم تكره، والاولى تركها، وسواء قبل الخد أو الفم أو غيرهما. وهكذا المباشرة باليد والمعانقة لهما حكم القبلة. 4 - الحقنة: مطلقا، سواء أكانت للتغذية، أم لغيرها، وسواء أكانت في العروق، أم تحت الجلد، فإنها وإن وصلت إلى الجوف، فإنها تصل إليه من غير المنفذ المعتاد. 5 - الحجامة (2) : فقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم (3) ، إلا إذا كانت تضعف الصائم فإنها تكره له، قال ثابت البناني لانس: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف. رواه البخاري وغيره. والفصد (4) مثل الحجامة في الحكم. 6 - المضمضة والاستنشاق: إلا أنه لا تكره المبالغة فيهما، فعن لقيط ابن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فإذا استنشقت فأبلغ، إلا أن تكون صائما ". رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد كره أهل العلم السعوط (5) للصائم، ورأوه: أن ذلك يفطر، وفي الحديث ما يقوي قولهم.   (1) " ففيم " أي ففيم السؤال. (2) " الحجامة " أخد الدم من الرأس. (3) رواه البخاري. (4) " الفصد " أي أخذ الدم من أي عضو. (5) " السعوط " أي وضع الدواء في الانف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قال ابن قدامة: وإن تمضمض، أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه، من غير قصد ولا إسراف فلا شئ عليه، وبه قال الاوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه، وروي ذلك عن ابن عباس. وقال مالك، وأبو حنيفة: يفطر، لانه أوصل الماء إلى جوفه، ذاكرا لصومه، فأفطر، كما لو تعمد شربه. قال ابن قدامة - مرجحا الرأي الاول - ولنا أنه وصل الماء إلى حلقه، من غير إسراف ولا قصد، فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه (1) وبهذا فارق المتعمد. 7 - وكذا يباح له ما لا يمكن الاحتراز عنه كبلع الريق وغبار الطريق، وغربلة الدقيق والنخالة ونحو ذلك. وقال ابن عباس: لا بأس أن يذوق الطعام الخل، والشئ يريد شراءه. وكان الحسن يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم، ورخص فيه إبراهيم. وأما مضغ العلك (2) فإنه مكروه، إذا كان لا يتفتت منه أجزاء. وممن قال بكراهته: الشعبي، والنخعي، والاحناف، الشافعي، والحنابلة. ورخصت عائشة وعطاء في مضغه، لانه لا يضل إلى الجوف، فهو كالحصاة، يضعها في فمه. هذا إذا لم تتحلل منه أجزاء، فإن تحللت منه أجزاء ونزلت إلى الجوف، أفطر. قال ابن تيمية: وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم. وقال: أما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشئ من ذلك، ومنهم من فطر بالجمع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع، لا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحل، ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك.   (1) قال ابن عباس: دخول الذباب في حلق الصائم لا يفطر. (2) " العلك " أي اللبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فإن الصيام من دين الاسلام، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص، والعام. فلو كانت هذه الامور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الامة، كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لا حديثا صحيحا، ولا ضعيفا، ولا مسندا، ولا مرسلا علم أنه لم ينكر شيئا من ذلك. قال: فإذا كانت الاحكام التي تعم بها البلوى، لابد ان يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولابد أن تنقل الامة ذلك. فمعلوم أن الكحل، ونحوه لمما تعم به البلوى، كماتعم بالدهن، والاغتسال، والبخور، والطيب. فلو كان هذا مما يفطر، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين الافطار بغيره، فلما لم يبين ذلك، علم أنه من جنس الطيب، والبخور، والدهن. والبخور قد يتصاعد إلى الانف ويدخل في الدماغ، وينعقد أجساما. والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله ويتقوى به الانسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة. فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطيبه، وتبخره، وادهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم، إما في الجهاد، وإما في غيره، مأمومة، وجائفة، فلو كان هذا يفطر، لبين لهم ذلك. فلما لم ينه الصائم عن ذلك، علم أنه لم يجعله مفطرا. ثم قال: فإن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه، لامن أنفه، ولا من فمه. وكذلك الحقنة (1) لاتغذي، بل تستفرغ ما في البدن، كما لوشم شيئا من   (1) يقصد الحقنة الشرجية، فإنها لا تفطر الصائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 المسهلات، أو فزع فزعا، أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة. والدواء الذي يصل إلى المعدة، في مداواة الجائفة (1) والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه. والله سبحانه قال: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) . وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة) ، وقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم) . فالصائم نهي عن الاكل والشرب، لان ذلك سبب التقوى، فترك الاكل والشراب الذي يولد الدم الكثير، الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء، لاعن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة " انتهى. 8 - ويباح للصائم، أن يأكل، ويشرب، ويجامع، حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر، وفي فمه طعام، وجب عليه أن يلفظه، أو كان مجامعا وجب عليه أن ينزع. فإن لفظ أو نزع، صح صومه، وإن ابتلع ما في فمه من طعام، مختارا، أو استدام الجماع، أفطر. روى البخاري، ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم ". 9 - ويباح للصائم أن يصبح جنبا، وتقدم حديث عائشة في ذلك. 10 - والحائض والنفساء إذا انقطع الدم من الليل، جاز لهما تأخير الغسل إلى الصبح، وأصبحتا صائمتين، ثم عليهما أن تتطهرا للصلاة.   (1) " الجائفة " أي الجراحة التي تصل إلى الجوف " والمأمومة " أي الشجة في الرأس تصل إلى أم الدماغ ومداواتهما ليست تغذية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ما يبطل الصيام ما يبطل الصيام قسمان: 1 - ما يبطله، ويوجب القضاء. 2 - وما يبطله، ويوجب القضاء، والكفارة. فأماما يبطله، ويوجب القضاء فقط فهو ما يأتي: (1 و 2) الاكل، والشرب عمدا: فإن أكل أو شرب ناسيا، أو مخطئا، أو مكرها، فلا قضاء عليه ولا كفارة. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نسي - وهو صائم - فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ". رواه الجماعة. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وروى الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال - صحيح على شرط مسلم. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أفطر في رمضان - ناسيا - فلا قضاء عليه، ولا كفارة ". قال الحافظ ابن حجر: اسناده صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ". رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم. (3) القئ عمدا: فإن غلبه القئ، فلا قضاء عليه ولا كفارة. فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ذرعه (1) القئ   (1) " ذرعه " أي غلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 فليس عليه قضاء، ومن استقاء (1) عمدا فليقض ". رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وصححه. قال الخطابي: لا أعلم خلافا بين أهل العلم، في أن من ذرعه القئ، فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامدا، فعليه القضاء. (4، 5) الحيض، والنفاس، ولو في اللحظة الاخيرة، قبل غروب الشمس، وهذا مما أجمع العلماء عليه. (6) الاستمناء (2) ، سواء، أكان سببه تقبيل الرجل لزوجته أو ضمها إليه، أو كان باليد، فهذا يبطل الصوم، ويوجب القضاء. فإن كان سببه مجرد النظر، أو الفكر، فإنه مثل الاحتلام نهارا في الصيام لا يبطل الصوم، ولا يجب فيه شئ. وكذلك المذي، لا يؤثر في الصوم، قل، أو كثر. (7) تناول ما لا يتغذى به، من المنفذ المعتاد، إلى الجوف، مثل تعاطي الملح الكثير، فهذا يفطر في قول عامة أهل العلم. (8) ومن نوى الفطر - وهو صائم - بطل صومه، وإن لم يتناول مفطرا. فإن النية ركن من أركان الصيام، فإذا نقضها - قاصدا الفطر ومعتمدا له - انتقض صيامه لا محالة. (9) إذا أكل، أو شرب، أو جامع - ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر، فظهر خلاف ذلك - فعليه القضاء، عند جمهور العلماء، ومنهم الائمة الاربعة. وذهب إسحاق، وداود، وابن حزم، وعطاء، وعروة، والحسن البصري، ومجاهد: إلى أن صومه صحيح، ولاقضاء عليه. لقول الله تعالى: (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ الخ ... ". وتقدم.   (1) " استقاء " أي تعمد القئ واستخرجه، بثم ما يقيئه، أو بإدخال يده. (2) " الاستمناء " أي تعمد إخراج المني بأي سبب من الاسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وروى عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن الاعمش، عن زيد بن وهب قال: " أفطر الناس في زمن عمر بن الخطاب، فرأيت عساسا (1) أخرجت من بيت حفصة فشربوا ثم طلعت الشمس من سحاب فكأن ذلك شق على الناس، فقالوا: نقضي هذا اليوم، فقال عمر: لم؟ والله ما تجانفنا لاثم " (2) . وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أفطرنا يوما من رمضان، في غيم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس. قال ابن تيمية: وهذا يدل على شيئين: (الاول) : يدل على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب، فإنهم لم يفعلوا ذلك، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة - مع نبيهم - أعلم وأطوع لله ولرسوله، ممن جاء بعدهم. (والثاني) : يدل على أنه لا يجب القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء، لشاع ذلك كما نقل فطرهم فلما لم ينقل دل على أنه لم يأمرهم به. وأماما يبطله ويوجب القضاء، والكفارة، فهو الجماع، لاغير، عند الجمهور. فعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت يا رسول الله، قال: " وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال: " هل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين "؟ قال: لا. قال: " فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا "؟ قال: لا. قال: ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق (3) فيه تمر، فقال: " تصدق بهذا ". قال: فهل على أفقر منا؟ فما بين لابتيها (4)   (1) " عساسا " أي أقداحا ضخاما، قيل: إن القدح نحو ثمانية أرطال. (2) " ما تجانفنا " التجانف: الميل. أي لم نمل لارتكاب الاثم. (3) " العرق " مكيال يسع 15 صاعا. (4) " لابتيها " جمع لابة. وهي الارض التي فيها حجارة سود. والمراد ما بين أطراف المدينة أفقر منا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه، وقال: " اذهب فأطعمه أهلك (1) ". رواه الجماعة. ومذهب الجمهور: أن المرأة، والرجل سواء، في وجوب الكفارة عليهما ما داما قد تعمدا الجماع، مختارين، في نهار رمضان (2) ناويين الصيام. فإن وقع الجماع نسيانا، أو لم يكونا مختارين، بان أكرها عليه، أو لم يكونا ناويين الصيام، فلا كفارة على واحد منهما. فإن أكرهت المرأة من الرجل، أو كانت مفطرة لعذر وجبت الكفارة عليه دونها. ومذهب الشافعي: أنه لا كفارة على المرأة مطلقا، لافي حالة الاختيار، ولافي حالة الاكراه. وإنما يلزمها القضاء فقط. قال النووي: والاصح - على الجملة - وجوب كفارة واحدة عليه خاصة، عن نفسه فقط، وأنه لاشئ على المرأة، ولا يلاقيها الوجوب، لافه حتى مال مختص بالجماع، فاختص به الرجل، دون المرأة، كالمهر. قال أبو داود: سنل أحمد (3) عمن أتى أهله في رمضان، أعليها كفارة؟ قال: ما سمعنا أن على امرأة كفارة. قال في المغني: ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشئ، مع علمه بوجود ذلك منها " اه. والكفارة على الترتيب المذكور في الحديث، في قول جمهور العلماء. فيجب العتق أولا، فإن عجز عنه صام شهرين متتابعين (4) ، فإن عجز   (1) إستدل بهذا، من ذهب إلى سقوط الكفارة بالاعسار، وهو أحد قولي الشافعي، ومشهور مذهب أحمد، وجزم به بعض المالكية والجمهور على أن الكفارة لا تسقط بالاعسار. (2) فإن كان الصيام قضاء رمضان، أو نذرا وأفطر بالجماع، فلا كفارة في ذلك. (3) هذه إحدى الروايتين، عن أحمد. (4) ليس فيهما رمضان ولا أيام العيدين والتشريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 عنه، أطعم ستين مسكينا من أوسط ما يطعم منه أهله (1) ، وانه لا يصح الانتقال من حالة إلى أخرى، إلا إذا عجز عنها. ويذهب المالكية، ورواية لاحمد: أنه مخير بين هذه الثلاث فأيها فعل أجزأ عنه. لما روى مالك، وابن جريج، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا. رواه مسلم و " أو " تفيد التخيير. ولان الكفارة بسبب المخالفة، فكانت على التخيير، ككفارة اليمين. قال الشوكاني: وقد وقع في الروايات، ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر، ومعهم الزيادة. وجمع المهلب، والقرطبي، بين الروايات، بتعدد الواقعة. قال الحافظ: وهو بعيد، لان القصة واحدة، والمخرج متحد، والاصل عدم التعدد. وجمع بعضهم بحمل الترتيب على الاولوية، والتخيير على الجواز. وعكسه بعضهم. انتهى. ومن جامع عامدا في نهار رمضان ولم يكفر، ثم جامع في يوم آخر منه فعليه كفارة واحدة، عند الاحناف، ورواية عن أحمد لانها جزاء عن جناية تكرر سببها، قبل استيفائها، فتتداخل. وقال مالك والشافعي، ورواية عن أحمد: عليه كفارتان، لان كل يوم عبادة مستقلة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين. وقد أجمعوا على أن من جامع في نهار رمضان، عامدا وكفر، ثم جامع في يوم آخر، فعليه كفارة أخرى.   (1) مذهب أحمد لكل مسكين مدمن قمح، أو نصف صاع من تمر أو شعير ونحوهما. وقال أبو حنيفة: من القمح نصف صاع ومن غيره صاع. وقال الشافعي ومالك: يطعم مدا من أي الانواع شاء. وهذا رأي أبي هريرة وعطاء والاوزاعي، وهو أظهر. فإن العرق الذي أعطي للاعرابي يسع 15 صاعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وكذلك أجمعوا، على أن من جامع مرتين، في يوم واحد ولم يكفر عن الاول، أن عليه كفارة واحدة. فإن كفر عن الجماع الاول لم يكفر ثانيا، عند جمهور الائمة. وقال أحمد: عليه كفارة ثانية. قضاء رمضان : قضاء رمضان لا يجب على الفور، بل يجب وجوبا موسعا في أي وقت، وكذلك الكفارة. فقد صح عن عائشة: أنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان (1) ولم تكن تقضيه فورا عند قدرتها على القضاء. والقضاء مثل الاداء، بمعنى أن من ترك أياما، يقضيها دون أن يزيد عليها. ويفارق القضاء الاداء، في أنه لا يلزم فيه التتابع، لقول الله تعالى: " ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ". أي ومن كان مريضا، أو مسافرا فأفطر، فليصم عدة الايام، التي أفطر فيها، في أيام أخر، متتابعات أو غير متتابعات، فإن الله أطلق الصيام ولم يقيده. وروى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في قضاء رمضان -: " إن شاء فرق، وإن شاء تابع ". وإن أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، صام رمضان الحاضر، ثم يقضي بعده ما عليه، ولا فدية عليه، سواء كان التأخير لعذر، أم لغير عذر. وهذا مذهب الاحناف، والحسن البصري. ووافق مالك والشافعي، وأحمد، وإسحق، والاحناف: في أنه لافدية عليه، إذا كان التأخير بسبب العذر. وخالفوهم فيما إذا لم يكن له عذر في التأخير، فقالوا: عليه أن يصوم رمضان الحاضر. ثم يقضي ما عليه بعده ويفدي عما فاته عن كل يوم مدا من طعام.   (1) رواه أحمد ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وليس لهم في ذلك دليل يمكن الاحتجاج به. فالظاهر ما ذهب إليه الاحناف، فانه لاشرع إلا بنص صحيح. من مات وعليه صيام : أجمع العلماء على أن من مات - وعليه فوائت من الصلاة - فإن وليه لا يصلي عنه، هو ولا غيره، وكذلك من عجز عن الصيام لا يصوم عنه أحد أثناء حياته. فإن مات وعليه صيام وكان قد تمكن من صيامه قبل موته فقد اختلف الفقهاء في حكمه. فذهب جمهور العلماء، منهم أبو حنيفة، ومالك، والمشهور عن الشافعي إلى أن وليه لا يصوم عنه ويطعم عنه مدا، عن كل يوم (1) . والمذهب المختار عند الشافعية: أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى طعام عنه. والمراد بالولي، القريب، سواء كان عصبة، أو وارثا، أو غيرهما. ولو صام أجنبي عنه، صح، إن كان بإذن الولي، وإلا فإنه لا يصح. واستدلوا بما رواه أحمد، والشيخان، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " زاد البزار لفظ: إن شاء (2) . وروى أحمد وأصحاب السنن: عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صيام شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى " قال النووي: وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الاحاديث الصحيحة الصريحة.   (1) يرى الحنيفة أن الواجب نصف صاع من قمح، وصاعا من غيره. (2) سندها حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 التقدير في البلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها: اختلف الفقهاء في التقدير، في البلاد التي يطول نهارها، ويقصر ليلها، والبلاد التي يقصر نهارها، ويطول ليلها، على أي البلاد يكون؟ فقيل: يكون التقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع، كمكة والمدينة، وقيل: على أقرب بلاد معتدلة إليهم. ليلة القدر فضلها: ليلة القدر أفضل ليالي السنة لقوله تعالى: (إنا أنزلناه (1) في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر) أي العمل فيها، من الصلاة والتلاوة، والذكر، خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر. استحباب طلبها: ويستحب طلبها في الوتر من العشر الاواخر من رمضان فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في طلبها في العشر الاواخر من رمضان. وتقدم، أنه كان إذا دخل العشر الاواخر أحيى الليل وأيقظ أهله، وشد المئزر (2) أي الليالي هي؟: للعلماء آراء في تعيين هذه الليلة، فمنهم من يرى أنها ليلة الجادي والعشرين، ومنهم من يرى أنها ليلة الثالث والعشرين ومنهم من يرى أنها ليلة الخامس والعشرين، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة التاسع والعشرين، ومنهم من قال: إنها تنتقل في ليالي الوتر من العشر الاواخر. وأكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين. روى أحمد - بإسناد صحيح - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال   (1) أي القرآن: " شهر رمضان " الذي أنزل فيه القرآن. (2) أي اعتزل النساء واشتد في العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين ". وروى مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي - وصححه عن أبي ابن كعب أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - ووالله إني لاعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها، بيضاء، لاشعاع لها. قيامها والدعاء فيها: 1 - روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ". 2 - وروى أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت، أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الاعتكاف : (1) معناه: الاعتكاف لزوم الشئ وحبس النفس عليه، خيرا كان أم شرا. قال الله تعالى: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أي مقيمون متعبدون لها. والمقصود به هنا لزوم المسجد والاقامة فيه بنية التقرب إلى الله عزوجل. (2) مشروعيته: وقد أجمع العلماء على أنه مشروع، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما. رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه، وقد اعتكف أصحابه وأزواجه معه وبعده، وهو إن كان قربة، إلا أنه لم يرد في فضله حديث صحيح. قال أبوداود: قلت لاحمد رحمه الله: تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا، إلا شيئا ضعيفا. (3) أقسامه: الاعتكاف ينقسم إلى مسنون وإلى واجب، فالمسنون ما تطوع به المسلم تقربا إلى الله، وطلبا لثوابه، واقتداء بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويتأكد ذلك في العشر الاواخر من رمضان لما تقدم، والاعتكاف الواجب ما أوجبه المرء على نفسه، إما بالنذر المطلق، مثل أن يقول: لله علي أن أعتكف كذا، أو بالنذر المعلق كقوله: إن شفا الله مريضي لاعتكفن كذا. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وفيه: أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: " أوف بنذرك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 (4) زمانه: الاعتكاف الواجب يؤدى حسب ما نذره وسماه الناذر، فإن نذر الاعتكاف يوما أو أكثر وجب الوفاء بما نذره. والاعتكاف المستحب ليس له وقت محدد، فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع نية الاعتكاف طال الوقت أم قصر. ويثاب ما بقي في المسجد، فإذا خرج منه ثم عاد إليه جدد النية إن قصد الاعتكاف، فعن يعلى بن أمية قال: إني لامكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لاعتكف. وقال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف. وإلا فلا. وللمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب متى شاء، قبل قضاء المدة التي نواها. فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه. وأنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الاواخر من رمضان فأمر ببنائه (1) فضرب. قالت عائشة: فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب. فلما صلى الفجر نظر إلى الابنية، فقال: ما هذه؟ " آلبرتردن " (2) قالت: فأمر ببنائه فقوض (3) ، وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الاول " يعني من شوال " فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بتقويض أبنيتهن وترك الاعتكاف بعد نيته منهن دليل على قطعه بعد الشروع فيه. وفي الحديث أن للرجل أن يمنع زوجته من الاعتكاف   (1) في هذا دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه لئلا يضيق على غيره وليكون أخلى له وأكمل لانفراده. (2) " البر " الطاعة، في شرح مسلم سبب إنكاره أنه خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو غيرته عليهن فكره ملازمتهن المسجد مع أنه يجمع الناس ويحضره الاعراب والمنافقون. وهن محتاجات إلى الخروج والدخول لما يعرض لهن فيبتذلن بذلك. أو لانه صلى الله عليه وسلم رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف، وهو التخلي عن الازواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك، أو لانهن ضيقن المسجد بأبنيتهن. انتهى. (3) أزيل وهدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 بغير إذنه، وإليه ذهب عامة العلماء، واختلفوا فيما لو أذن لها، هل له منعها بعد ذلك؟ فعند الشافعي وأحمد وداود: له منعها وإخراجها من اعتكاف التطوع. (5) شروطه: ويشترط في المعتكف أن يكون مسلما، مميزا طاهرا من الجنابة والحيض والنفاس، فلا يصح من كافر ولا صبي غير مميز ولاجنب ولاحائض ولا نفساء. (6) أركانه: حقيقة الاعتكاف المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى، فلو لم يقع المكث في المسجد أو لم تحدث نية الطاعة لا ينعقد الاعتكاف. أما وجوب النية فلقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " وأما أن المسجد لا بد منه فلقول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ووجه الاستدلال، أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لانها منافية للاعتكاف، فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد. (7) رأي الفقهاء في المسجد الذي ينعقد فيه الاعتكاف: اختلف الفقهاء في المسجد يصح الاعتكاف فيه فذهب أبو حنيفة واحمد وإسحاق وأبو ثور إلى أنه يصح في كل مسجد يصلى فيها الصلوات الخمس وتقام فيه الجماعة، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح " رواه الدارقطني. وهذا حديث مرسل ضعيف لا يحتج به. وذهب مالك والشافعي وداود، إلى أنه يصح في كل مسجد لانه لم يصح في تخصيص بعض المساجد شئ صريح. وقالت الشافعية الافضل أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع، لان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الرسول صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع، ولان الجماعة في في صلواته اكتر، ولا يعتكف في غيره إذا تخلل وقت الاعتكاف صلاة جمعة حتى لا تفوته. وللمعتكف أن يؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه. ويصعد على ظهر المسجد لان كل ذلك من المسجد، فإن كان باب المئدنة خارج المسجد بطل اعتكافه إن تعمد ذلك، ورحبة المسجد منه عند الحنفية والشافعية، ورواية عن أحمد. وعن مالك ورواية عن أحمد، أنها ليست منه، فليس للمعتكف أن يخرج إليها. وجمهور العلماء على أن المرأة لا يصح لها أن تعتكف في مسجد بيتها، لان مسجد البيت لا يطلق عليه اسم مسجد، ولا خلاف في جواز بيعه، وقد صح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد لنبوي. صوم المعتكف المعتكف إن صام فحسن، وإن لم يصم فلا شئ عليه. روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: " أوف بنذرك " ففي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالوفاء بالنذر دليل على ان الصوم ليس شرطا في صحة الاعتكاف، إذ أنه لا يصح الصيام في الليل. وروى سعيد بن منصور عن أبي سهل. قال، كان على امرأة من أهلي اعتكاف. فسألت عمر بن عبد العزيز، فقال ليس عليها صيام، إلا أن تجعله على نفسها. فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال له عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فعن أبي بكر؟ قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: واظنه قال عن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده فلقيت عطاء وطاووسا فسألتهما؟ فقال طاووس: كان فلان لا يرى عليها صياما إلا أن تجعله على نفسها. وقال عطاء: ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها. قال الخطابي، وقد اختلف الناس في هذا، فقال الحسن البصري: إن اعتكف من غير صيام أجزأه، وإليه ذهب الشافعي. وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا: إن شاء صام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وإن شاء أفطر. وقال الاوزاعي ومالك: لا اعتكاف إلا بصوم، وهو مذهب أهل الرأي وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة، وهو قول سعيد ابن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وقت دخول المعتكف والخروج منه تقدم أن الاعتكاف المندوب ليس له وقت محدد. فمتى دخل المعتكف المسجد ونوى التقرب إلى الله بالمكث فيه صار متعكفا حتى يخرج، فإن نوى اعتكاف العشر الاواخر من رمضان، فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس. فعند البخاري عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الاواخر ". والعشر اسم لعدد الليالي، أول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين أو ليلة العشرين. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه. فمعناه أنه كان يدخل المكان الذي أعده للاعتكاف في المسجد. أما وقت دخول المسجد للاعتكاف فقد كان أول الليل. ومن اعتكف العشر الاواخر من رمضان فإنه يخرج بعد غروب الشمس آخر يوم من الشهر عند أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك وأحمد: إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه، والمستحب عندهما أن يبقى في المسجد حتى يخرج إلى صلاة العيد. وروى الاثرم بإسناده عن أبي أيوب عن أبي قلابة: أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر، ثم يغدو كما هو إلى العيد، وكان - يعنى في اعتكافه - لا يلقى له حصير ولا مصلى يجلس عليه، كان يجلس كأنه بعض القوم، قال: فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجره جويرية مزينة، ما ظننتها إلا بعض بناته، فإذا هي أمة له، فأعتقها، وغدا كما هو إلى العيد. وقال إبراهيم. كانوا يحبون لمن اعتكف الشعر الاواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد، ثم يغدو إلى المصلى من المسجد ومن نذر اعتكاف يوم أو أيام مسماة، أو أراد ذلك تطوعا فإنه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبين له طلوع الفجر، ويخرج إذا غاب جميع قرص الشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 سواء أكان ذلك في رمضان أم في غيره، ومن نذر اعتكاف ليلة أو ليال مسماة، أو أراد تطوعا، فإنه يدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس ويخرج إذا تبين له طلوع الفجر. قال ابن حزم: لان مبدأ الليل إثر غروب الشمس، وتمامه بطلوع الفجر، ومبدأ اليوم بطلوع الفجر، واتمامه بغروب الشمس، وليس على أحد إلا ما التزم أو نوى. فإن نذر اعتكاف شهر أو أراده تطوعا بدأ الشهر من أول ليلة منه. فيدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس، ويخرج إذا غابت الشمس كلها من آخر الشهر سواء رمضان وغيره. ما يستحب للمعتكف وما يكره له يستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات، ويشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه والدعاء، ونحو ذلك من الطاعات التي تقرب إلى الله تعالى وتصل المرء بخالقه جل ذكره. ومما يدخل في هذا الباب دراسة العلم واستذكار كتب التفسير والحديث، وقراءة سير الانبياء والصالحين وغيرها من كتب الفقه والدين، ويستحب له أن يتخذ خباء في صحن المسجد انتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ويكره له أن يشغل نفسه بما لا يعنيه من قول أو عمل، لما رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي بسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ويكره له الامساك عن الكلام ظنا منه أن ذلك مما يقرب إلى الله عزوجل، فقد روى البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم فسأل عنه؟ فقالوا: أبو اسرائيل. نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه. " وروى أبو داود عن على رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل " (1)   (1) أي لا يسمى من فقد أباه يتيما بعد بلوغه، والصمات: السكوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ما يباح للمعتكف يباح للمعتكف ما يأتي: 1 - خروجه من معتكفه لتوديع أهله، قالت صفية، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني (1) ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد. فمر رجلان من الانصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " على رسلكما، إنها صفية بنت حيي "، قالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: " إن الشيطان يجري من الانسان مرجى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " أو قال " شرا (2) " رواه البخاري ومسلم وأبو داود. 2 - ترجيل شعره وحلق رأسه، وتقليم أظفاره وتنظيف البدن من الشعث والدرن ولبس أحسن الثيات والتطيب بالطيب. قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة، فأغسل رأسه - " وقال مسدد فأرجله (3) " وأنا حائض. رواه البخاري ومسلم وأبو داود. 3 - الخروج للحاجة التي لا بد منها، قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان. رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، لان هذا مما لا بد منه. ولا يمكن فعله في المسجد، وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه، وإن بغته القئ فله أن يخرج ليقئ   (1) يردها لبيتها قال الحطامي وفيه انه خرج من المسجد معها ليبلغها منزلها، وفي هذا حجة لمن رأى أن الاعتكاف لا يفسد إذا خرج في واجب وأنه لا يمنع المعتكف من اتيان معروف. (2) حكي عن الشافعي: ان ذلك كان منه شفقة عليهما، لانهما لو ظنا به ظن سوء كفرا فبادر إلى إعلامهما ذلك لئلا يهلكا. وفي تاريخ ابن عساكر عن ابراهيم بن محمد قال كنا في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر حدث بهذا الحديث. وقال للشافعي: ما فقهه؟ فقال: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يظن بكم ظن السوء، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم اكهمهم، وهو أمين الله في أرضه. فقال ابن عيينة جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله ما يجيئنا منك إلا كلام تحبه. (3) تصليحه بالمشط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 خارج المسجد، وكل ما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد فله خروجه إليه، ولا يفسد اعتكافه ما لم يطل. انتهى. ومثل هذا الخروج للغسل من الجنابة وتطهير البدن والثوب من النجاسة. روى سعيد بن منصور قال: قال علي بن أبي طالب: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليحضر الجنازة، وليعد المريض وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم. وأعان رضي الله عنه ابن أخته بسبعمائة درهم من عطائه أن يشتري بها خادما، فقال: إني كنت معتكفا، فقال له علي: وما عليك لو خرجت إلى السوق فابتعت؟ وعن قتادة: أنه كان يرخص للمعتكف أن يتبع الجنازة ويعود المريض ولا يجلس. وقال إبراهيم النخعي كانوا يستحبون للمعتكف أين يشترط هذه الخصال - وهن له وإن لم يشترط - عيادة المريض، ولا يدخل سقفا، ويأتي الجمعة: ويشهد الجنازة، ويخرج إلى الحاجة. قال: ولا يدخل المعتكف سقيفة إلا لحاجة. قال الخطابي: وقالت طائفة للمعتكف أن يشهد الجمعة ويعود المريض، ويشهد الجنازة. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وهو قول سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي. وروى أبو داود عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر بالمريض وهو معتكف، فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه وما روي عنها من أن السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا فمعناه أن لا يخرج من معتكفه، قاصدا عيادته، وأنه، لا يضيق عليه أن يمر به فيسأل غير معرج عليه. 4 - وله أن يأكل ويشرب في المسجد وينام فيه، مع المحافظة على نظافته وصيانته، وله أن يعقد العقود فيه كعقد النكاح وعقد البيع والشراء، ونحو ذلك. ما يبطل الاعتكاف يبطل الاعتكاف بفعل شئ مما يأتي: 1 - الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا وإن قل، فإنه يفوت المكث فيه، وهو ركن من أركانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 2 - الرده. لمنافاتها للعبادة، ولقول الله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) . 3، 4، 5 - ذهاب العقل بجنون أو سكر. والحيض والنفاس، لفوات شرط التمييز والطهارة من الحيض والنفاس. 6 - الوطء لقول الله تعالى: (ولا تقربوهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها) ولا بأس باللمس بدون شهوة، فقد كانت إحدى نسائه صلى الله عليه وسلم ترجله وهو معتكف، أما القبلة واللمس بشهوة فقد قال أبو حنيفة وأحمد أنه قد أساء، لانه قد أتى بما يحرم عليه، ولا يفسد اعتكافه إلا أن ينزل، وقال مالك: يفسد اعتكافه لانها مباشرة محرمة فتفسد كما لو أنزل، وعن الشافعي روايتان كالمذهبين. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم، هل الاسم المشترك، بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا وهو أحد أنواع الاسم المشترك. فمن ذهب إلى أن له عموما قال: إن المباشرة في قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد،) يطلق على الجماع وعلى ما دونه، ومن لم ير له عموما - وهو الاشهر الاكثر - قال: يدل إما على الجماع، وإما على ما دون الجماع، فإذا قلنا: إنه يدل على الجماع بإجماع، بطل أن يدل على غير الجماع، لان الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا. ومن أجرى الانزال بمنزلة الوقاع، فلانه في معناه، ومن خالف فلانه يطلق عليه الاسم حقيقة. قضاء الاعتكاف من شرع في الاعتكاف متطوعا ثم قطعه استحب له قضاءه وقيل: يجب. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى. فقال مالك: إذا انقضى اعتكافه وجب عليه القضاء، واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشرا من شوال. وقال الشافعي: إن لم يكن عليه نذر اعتكاف أو شئ أوجبه على نفسه وكان متطوعا، فخرج فليس عليه قضاء، إلا أن يحب ذلك اختيارا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قال الشافعي: وكأن علم لك أن لا تدخل فيه، فإذا دخلت فيه وخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة. أما من نذر أن يعتكف يوما أو أياما ثم شرع فيه وأفسده وجب عليه قضاؤه متى قدر عليه باتفاق الائمة، فإن مات قبل أن يقضيه لا يقضى عنه. وعن أحمد: أنه يجب على وليه أن يقضي ذلك عنه. روى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أمية قال: سمعت عبد الله بن عبد الله بن عتبة يقول: إن أمنا ماتت وعليها اعتكاف، فسألت ابن عباس فقال: اعتكف عنها وصم. وروى سعيد ابن منصور: ان عائشة اعتكفت عن أخيها بعد ما مات. المعتكف يلزم مكانا من المسجد، وينصب فيه الخيمة : 1 - روى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الاواخر من رمضان. قال نافع: وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف طرح له فراش، أو يوضع له سرير وراء اسطوانة التوبة (1) . 3 - وروى عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية على سدتها (2) قطعة حصير. نذر الاعتكاف في مسجد معين من نذر الاعتكاف في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الاقصى وجب عليه الوفاء بنذره في المسجد الذي عينه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا " أما إذا نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد الثلاثة فلا يجب عليه الاعتكاف   (1) هي أسطوانة ربط بها رجل من الصحابة نفسه حتى تاب الله عليه. (2) " سدتها " أي بابها وإنما وضع الحصير على بابها حتى لا ينظر فيها أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 في المسجد الذي عينه، وعليه أن يعتكف في أي مسجد شاء، لان الله تعالى لم يجعل لعبادته مكانا معينا ولانه لا فضل لمسجد من المساجد على مسجد آخر إلا المساجد الثلاثة، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاز في مسجدي هذا بمائة صلاة ". وإن نذر الاعتكاف في المسجد النبوي جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لانه أفضل منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الجنائز (1) أدب السنة في المرض والطب المرض: جاءت الاحاديث مصرحة بأن المرض يكفر السيئات ويمحو الذنوب. نذكر بعضها فيما يلي: 1 - روي البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من يرد الله به خيرا يصب منه ". 2 - ورويا عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ". 3 - روى البخاري عن ابن مسعود، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال أجل: " إني أوعك كما يوعك (2) رجلان منكم. " قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: " أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ". 4 - وروى عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفا بالبلاء، والفاجر كالارزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء ". الصبر عند المرض على المريض أن يصبر على ما ينزل به من ضر، فما أعطى العبد عطاء خيرا وأوسع له من الصبر.   (1) الجنائز: جمع جنازة. من جنزه إذا ستره. (2) الوعك: حرارة الحمى وألمها. يقال: وعكه المرض وعكا ووعكة فهو موعوك، أي اشتد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 1 - روى مسلم عن صهيب بن سنان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عجبا لامر المؤمن إن أمره كله خير - وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن - إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ". 2 - وروى البخاري عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة " يريد عينيه. 3 - وروى البخاري ومسلم عن عطاء بن رباح عن ابن عباس قال: ألا أريك امرأة من أهل الجنة فقلت: بلى، فقال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي. فقال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك؟ " فقالت: أصبر، ثم قالت، إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. شكوى المريض : يجوز للمريض أن يشكو للطبيب والصديق ما يجده من الالم والمرض ما لم يكن ذلك على سبيل التسخط وإظهار الجزع. وقد تقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم، " إني أوعك كما يوعك رجلان منكم " وشكت عائشة فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وارأساه، فقال: " بل أنا، وارأساه " وقال عبد الله بن الزبير لاسماء - وهي وجعة - كيف تجدينك؟ قالت: وجعة. وينبغي أن يحمد المريض ربه قبل ذكر ما به. قال ابن مسعود: إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك والشكوى إلى الله مشروعة، قال يعقوب: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) وقال الرسول: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي " الخ. المريض يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح : وروى البخاري عن أبي موسى الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 عيادة المريض : من أدب الاسلام أن يعود المسلم المريض ويتفقد حاله تطبيبا لنفسه ووفاء بحقه، قال ابن عباس: عيادة المريض أول يوم سنة وبعد ذلك تطوع. وروى البخاري عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أطعموا الجائع وعودوا المريض: وفكوا العاني (1) ". وروى البخاري ومسلم " حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه ". فضلها: 1 - روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عاد مريضا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا ". 2 - وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت ان عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ". 3 - وعن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع ". قيل يا رسول الله: وما خرفة الجنة؟ قال: " جناها (2) ". 4 - وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه   (1) العاني: الاسير. (2) " الجنى " ما يجنى من الثمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وسلم يقول: " ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف (1) في الجنة " رواه الترمذي وقال: حديث حسن. آداب العيادة: يستحب في العيادة أن يدعو العائد للمريض بالشفاء والعافية وأن يوصيه بالصبر والاحتمال، وأن يقول له الكلمات الطيبة التي تطيب نفسه، وتقوي روحه، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخلتم على المريض فنفسوا له (2) في الاجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب نفس المريض. " وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا دخل على من يعود قال: " لا بأس طهور إن شاء الله ". ويستحب تخفيف العيادة وتقليلها من أمكن حتى لا يثقل على المريض إلا إذا رغب في ذلك. عيادة النساء الرجال: قال البخاري: باب: عيادة النساء الرجال " وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الانصار. وروى عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر، وبلال رضي الله عنهما. قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا اخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:   (1) " الخريف " الثمر المخروف أي المجتنى. (2) " فنفسوا له " أي طمعوه في طول أجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد. اللهم وصححها وبارك في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة ". عيادة المسلم الكافر لا بأس بعيادة المسلم الكافر. قال البخاري: " باب عيادة المشرك " وروي عن أنس رضي الله عنه أن غلاما ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده. فقال: " أسلم "، فأسلم. وقال سعيد بن المسيب عن أبيه، لما حضر أبو طالب جاءه النبي صلى الله عليه وسلم. العيادة في الرمد: روى أبو داود عن زيد بن أرقم. قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني. طلب الدعاء من المريض روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخلت على مريض فمره فليدع لك. فان دعاءه كدعاء الملائكة " (1) قال في الزوائد: واسناده صحيح ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع. التداوي : أمر الشارع بالتداوي في أكثر من حديث. 1 - روى أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي عن أسامة بن شريك. قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأن على رؤوسهم الطير (2) فسلمت ثم قعدت فجاء الاعراب من ههنا وههنا. فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال " تداووا فان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد، الهرم.."   (1) أي في قرب الاستجابة. (2) من السكون والوقار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 2 - روى النسائي وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن مسعود: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا. " 3 - وروى مسلم عن جابر: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ باذن الله. " التداوي بالمحرم: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات، واستدلوا بالاحاديث الاتية: 1 - روى مسلم وابو داود والترمذي عن وائل بن حجر الحضرمي، أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يصنعها للدواء؟. فقال: " إنها ليست بدواء، ولكنها داء ". فأفاد الحديث حرمة التداوي بها، وأخبر بأنها داء. 2 - وروى البيهقي وصححه ابن حبان، عن أم سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " وذكره البخاري عن ابن مسعود. 3 - وروى أبو داود عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أنزل الداء والدواء. وجعل لكل داء دواء.، فتداووا، ولا تتداووا بحرام. " وفي سنده إسماعيل بن عياش. وهو ثقة في الشاميين، ضعيف في الحجازيين. 4 - وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث - يعني السم. والقطرات القليلة غير الظاهرة، والتي لا يكون من شأنها الاسكار، إذا اختلطت بالدواء المركب لا تحرم، مثل القليل من الحرير في الثوب، أفاده في المنار. الطبيب الكافر وفي كتاب الاداب الشرعية لابن مفلح: وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرا بالطب ثقة عند الانسان جاز له ان يستطب (1) كما   (1) يجعل طبيبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، كما قال الله تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) . وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا (1) وائتمنه على نفسه وماله. وكانت خزاعة عينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمهم وكافرهم، وقد روى: ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر ان يستطب الحارث بن كلدة، وكان كافرا، وإذا أمكنه أن يستطب مسلما، فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله، فلا ينبغي ان يعدل عنه، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي، أو أستطبابه فلم ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها، وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنا، فان الله تعالى يقول: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ". اه وذكر أبو الخطاب في حديث صلح الحديبية وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عينا له من خزاعه وقبوله خبره: أن فيه دليلا على جواز قبول المتطبب الكافر فيما يخبر به من صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه. وكان غير مظنون به الريبة. جواز استطباب المرأة يجوز للرجل أن يداوي المرأة، ويجوز للمرأة أن تداوي الرجل عند الضرورة. قال البخاري: هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل. ثم روى عن ربيع بنت معوذ بن عفراء. قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم، ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة. وقال الحافظ في الفتح: يجوز مداواة الاجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك. وقال ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية: فإن مرضت امرأة ولم يوجد من يطبها غير رجل، جاز له منها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظره منها حتى الفرجين، وكذا الرجل مع الرجل. قال ابن حمدان: وان لم يوجد من يطبه سوى امرأة، فلها نظر ما تدعو الحاجة إلى نظرها منه حتى فرجيه. قال القاضي: يجوز للطيب   (1) الخريت: الماهر بالهداية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 أن ينظر من المرأة إلى العورة عند الحاجة، وكذلك يجوز للمرأة والرجل، أن ينظرا إلى عورة الرجل عند الضرورة. انتهى. العلاج بالرقي (1) والأدعية: يشرع العلاج بالرقى والادعية إذا كانت مشتملة على ذكر الله، وكانت باللفظ العربي المفهوم لان مالا يفهم، لا يؤمن أن يكون فيه شئ من الشرك فعن عوف بن مالك. قال: كنا نرقى في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال اعرضوا علي رقاكم. لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " رواه مسلم وأبو داود، وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن ترقى بكتاب الله، وبما تعرف من ذكر الله قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. بعض الادعية الواردة في ذلك: 1 - روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: " اللهم رب الناس أذهب البأس (2) أشف وأنت الشافي، لاشفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ". 2 - وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا بحدة في جسده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله، وقل: سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " قال ففعلت ذلك مرارا فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر به أهلى وغيرهم. 3 - وروى الترمذي عن محمد بن سالم قال: قال لى ثابت البناني: يا محمد إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل: بسم الله أعوذ بعزة الله من شر ما أجد من وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترا، فان أنس بن مالك حدثني: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك.   (1) الرق: جمع رقية، مثل مدى جمع مدية: وهي الادعية التي يدعى بها للمريض. (2) البأس: الشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 4 - وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك. إلا عافاه الله من ذلك المرض ". رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. 5 - وروى البخاري عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: " أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة. ومن كل عين لامة (1) ويقول: " إن أباكما (2) كان يعوذ بهما إسماعيل واسحاق ". 6 - وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده في مرضه فقال: " اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا ". النهي عن التمائم : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمائم. 1 - فعن عقبة بن عامر، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من علق تميمة فلا أتم الله له. ومن علق ودعة فلا أودع الله له " رواه أحمد والحاكم. وقال: صحيح الاسناد. والتميمة: هي الخرزة التي كان العرب يعلقونها على أولادهم يمنعون بها العين في زعمهم، فأبطله الاسلام ونهى عنه. ودعا رسول الله على من علق تميمة بعدم التمام، لما قصده من التعليق. 1 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه دخل على امرأته، وفي عنقها شئ معقود، فجذبه فقطعه. ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك " قالوا: يا أبا عبد الله هذه التمائم والرقى قد   (1) " الهامة ": كل ذات سم قاتل تجمع على هوام، وقد تطلق على ما يدب من الحيوان، كالق. " واللامة ": التي تصيب بسوء. (2) يقصد إبراهيم عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 عرفناها، فما التولة؟ قال: شئ يصنعه النساء يتحببن الى أزواجهن (1) . رواه الحاكم وابن حبان وصححاه. 3 - وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة أراه قال: " من صفر " (2) ، فقال: " ويحك ما هذه؟ " قال: من الواهنة. قال " أما إنها لا تزيد إلا وهنا، انبذها عنك، فانك لومت وهي عليك ما أفلحت ابدا " رواه أحمد. والواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، وقيل: مرض يأخذ في العضد. وقد علق الرجل حلقة من نحاس، ظنا منه أنها تعصمه من الالم، فنهاه الرسول عنها، وعدها من التمائم. 4 - وروى أبو داوود عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن حكيم وبه حمرة، فقلت ألا تعلق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق شيئا وكل إليه ". هل يجوز تعليق الادعية الواردة في الكتاب والسنة؟ روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: اعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، من همزات الشياطين وأن يحضرون فانها لن تضره " وكان عبد الله بن عمرو يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبها في صك ثم علقها في عنقه. رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم وقال: صحيح الاسناد. وإلى هذا ذهبت عائشة ومالك وأكثر الشافعية ورواية عن أحمد. وذهب ابن عباس وابن مسعود، وحذيفة والاحناف وبعض الشافعية ورواية عن أحمد: إلى أنه لا يجوز تعليق شئ من ذلك لما تقدم من النهي العام في الاحاديث السابقة. منع المريض من السكن بين الأصحاء ومن كان مبتلى بأمراض معدية، يجوز منعه من السكن بين الاصحاء ولا   (1) قيل: هي خيط يقرأ فيه من السحر أو قرطاس فيه شئ يتحبب به النساء إلى قلوب الرجال، أو الرجال إلى قلوب النساء. (2) " صفر " نحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 يجاور الاصحاء، فان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يوردن ممرض على مصح " فنهى صاحب الابل المراض أن يوردها على صاحب الابل الصحاح مع قوله " لا عدوى ولا طيرة " وكذلك روي انه لما قدم رجل محذوم ليبايعه، أرسل إليه بالبيعة، ولم يأذن له في دخول المدينة. النهي عن الخروج من الطاعون أو الدخول في أرض هو بها : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج من الارض التي وقع بها الطاعون أو الدخول فيها، لما في ذلك من التعرض للبلاء. وحتى يمكن حصر المرض في دائرة محددة، ومنعا لانتشار الوباء. وهوما يعبر عنه بالحجر الصحي. روى الترمذي وقال: حسن صحيح. عن أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: " بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها " وروى البخاري عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الاجناد، أبو عبيدة ابن الجراح وأصحابه. فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس فقال عمر: ادع لي المهاجرين الاولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا. فقال بعضهم قد خرجنا لامر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الانصار. فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر اللهإلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة، والاخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجاته، فقال: إن عندي في هذا علما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال فحمد الله عمر ثم انصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 استحباب ذكر الموت والاستعداد له بالعمل: رغب الشارع في تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح، وعدذلك من دلائل الخير. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الانصار فقال: يا نبي الله من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال: " أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم استعدادا للموت، أولئك الاكياس. ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ". وعنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هاذم (1) اللذات " رواهما الطبراني بإسناد حسن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام. " قال: " إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال: " الانابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت ". رواه ابن جرير، وله طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا. كراهة تمني الموت : يكره للمرء أن يتمنى الموت أو يدعو به، لفقر أو مرض أو محنة أو نحو ذلك، لما رواه الجماعة عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرالي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ". وحكمة النهي عن تمني الموت ما جاء من حديث أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على العباس، وهو يشتكي فتمنى الموت فقال: " يا عباس يا عم رسول الله لاتتمن الموت إن كنت محسنا تزداد إحسانا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعتب (2) خير لك. فلا تمن   (1) هاذم: قاطع والمراد به الموت. (2) تستعتب: تسترضي الله بالاقلاع عن الاساءة والاستغفار منها. " والاستعتاب " طلب إزالة العتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الموت " رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. فإن خاف أن يفتن في دينه يجوز له تمني الموت دون كراهة، فمما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في دعائه: " اللهم إني أسألك فعل الخيرات. وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قومي فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك " رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه دعا. فقال: " اللهم كبرت سني وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط " فضل طول العمر مع حسن العمل : 1 - عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: " من طال عمره وحسن عمله ". قال: فأي الناس شر. قال: " من طال عمره وساء عمله " رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. 2 - وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أنبئكم بخيركم؟ " قالوا: نعم يا رسول الله قال: " خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا " رواه أحمد وغيره بسند صحيح. العمل الصالح قبل الموت دليل على حسن الختام : روى أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله " قيل: كيف يستعمله؟ قال " يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه ". استحباب حسن الظن بالله ينبغي أن يذكر المريض سعة رحمة الله ويحسن ظنه بربه، لما رواه مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث (1) :   (1) أي بثلاث ليال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ". وفي الحديث استحباب تغليب الرجاء وتأميل العفو ليلقى الله تعالى على حالة هي أحب الاحوال إلى الله سبحانه إذ هو الرحمن الرحيم، والجواد الكريم، يحب العفو والرجاء. وفي الحديث " يبعث كل أحد على ما مات عليه ". وروى ابن ماجه والترمذي بسند جيد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهوفي الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجوه وأمنه مما يخاف ". استحباب الدعاء والذكر لمن حضر عند الميت : يستحب أن يحضر الصالحون من أشرف على الموت فيذكروا الله. 1 - روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أم سلمة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". قالت: فلما مات أبو سلمة، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أبا سلمة قد مات، قال: " قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة " فقلت: فأعقبني الله من هو خير منه " محمدا صلى الله عليه وسلم ". 2 - وفي صحيح مسلم عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر " فضج ناس من أهله فقال: " لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون "، ثم قال: " اللهم اغفر لابي سلمة وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبة الغابرين (1) واغفر لنا وله يا رب العالمين. وأفسح له في قبره، ونور له فيه ".   (1) الغابرين: الباقين: أي كن خليفة له في إصلاح من يعقبه من ذريته حال كونهم في الباقين من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ما يسن عند الاحتضار : يسن عند الاحتضار مراعاة السنن الآتية: 1 - تلقين المحتصر " لا إله إلا الله " لما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقنوا موتاكم (1) : لا إله إلا الله " وروى أبو داود، وصححه الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لاإله إلا الله دخل الجنة ". والتلقين إنما يكون في حالة ما إذا كان لا ينطق بلفظ الشهادة. فإن كان ينطق بها فلا معنى لتلقينه. والتلقين إنما يكون في الحاضر العقل القادر على الكلام فإن شارد اللب لا يمكن تلقينه، والعاجز عن الكلام يردد الشهادة في نفسه. قال العلماء: وينبغي أن لا يلح عليه في ذلك. ولا يقول له: قل لا إله إلا الله، خشية أن يضجر، فيتكلم بكلام غير لائق، ولكن يقولها بحيث يسمعه معرضا له، ليفطن له فيقولها. وإذا أتى بالشهادة مرة لا يعاود التلقين ما لم يتكلم بعدها بكلام آخر فيعاد التعريض له به ليكون آخر كلامه. وجمهور العلماء على أن المحتضر يقتصر في تلقينه على لفظ " لا إله إلا الله " لظاهر الحديث، ويرى جماعة أنه يلقن الشهادتين لان المقصود تذكر التوحيد وهو يتوقف عليهما. 2 - توجيهه إلى القبلة مضطجعا على شقه الايمن، لما رواه البيهقي والحاكم وصححه عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور؟ فقالوا: توفي، وأوصى بثلث ماله لك، وأن يوجه للقبلة لما احتضر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصاب الفطرة، وقد رددت ثلث ماله على ولده ". ثم ذهب فصلى عليه وقال: " اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلت (2) " قال الحاكم: ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره.   (1) أي المحتضرين الذين هم في سياق الموت من المسلمين، أما غيرهم فيعرض عليهم الاسلام. (2) فعلت: أي استجبت الدعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وروى أحمد: أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها. وهذه الصفة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم النائم أن ينام عليها، والتي يكون عليها الميت في قبره. وفي رواية عن الشافعي: أن المحتضر يستلقي على قفاه وقدماه إلى القبلة وترفع رأسه قليلا ليصير وجهه إليها والاول الذي ذهب إليه الجمهور أولى. 3 - قراءة سورة يس، لما رواه أحمدو أبو داود والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه، عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له. واقرؤوها على موتاكم (1) ". قال ابن حبان: أراد به من حضرته المنية، لا أن الميت يقرأ عليه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه أحمد في مسنده عن صفوان قال: كانت المشيخة (2) يقولون: إذا قرئت " يس " عند الموت خفف عنه بها، وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدرداء وأبي ذر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن ميت يموت فتقرأ عنده يس إلا هون الله عليه ". 4 - تغميض عينيه إذا مات، لما رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر ". 5 - تسجيته صيانة له عن الانكشاف وسترا لصورته المتغيرة عن الاعين. فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبره (3) رواه البخاري ومسلم. ويجوز تقبيل الميت إجماعا فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابن مظعون وهو ميت، وأكب أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته فقبله بين عينيه وقال: يا نبياه، يا صفياه.   (1) أعل هذا الحديث ابن القطان بالاضطراب والوقف وجهالة بعض الرواة. ونقل عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث مضطرب الاسناد مجهول المتن ولا يصح. (2) جمع شيخ. (3) سجي: غطي. " حبرة ": ثوب فيه أعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 6 - المبادرة بتجهيزه متى تحقق (1) موته، فيسرع وليه بغسله ودفنه مخافة أن يتغير، والصلاة عليه، لما رواه أبو داود وسكت عنه. عن الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: " إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فأذنوبي به (2) وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله ". ولا ينتظر به قدوم أحد إلا الولي: فإنه ينتظر ما لم يخش عليه التغير. روى أحمد والترمذي عن علي رضي الله عنه: أن النبي قال له، " يا علي: ثلاث لا تؤخرها الصلاة: إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والايم (3) إذا وجدت كفئا ". 7 - قضاء دينه، لما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وحسنه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا بهلاك أو محبوسة عن الجنة، وهذا فيمن مات وترك ما لا يقضى منه دينه. أما من لامال له ومات عازما على القضاء، فقد ثبت أن الله تعالى يقضي عنه، ومثله من مات وله مال وكان محبا للقضاء ولم يقض من ماله ورثته فعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ". وروى أحمد وأبو نعيم والبزار والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدعى بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عز وجل فيقول: يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين، وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع، ولكن أتى علي إما حرق وإما سرق، وإما وضيعة، فيقول الله صدق عبدي، وأنا أحق من قضى عنك، فيدعو الله بشئ فيضعه في كفة ميزانه، فترجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته ".   (1) لابد من تحقق الموت بواسطة الاطباء وغيرهم من العارفين المشهود لهم في المعرفة، ولا سيما من توقع أن يغمى عليه. (2) آذونوني: أعلموني. (3) الايم: من لا زوج لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يمتنع عن الصلاة على المديون، فلما فتح الله عليه البلاد، وكثرت الاموال صلى على من مات مديونا وقضى عنه، وقال في حديث البخاري: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين، ولم يترك وفاء، فعلينا قضاؤه. ومن ترك ما لا فلورثته ". وفي هذا ما يدل على أن من مات مدينا استحق أن يقضى عنه من بيت مال المسلمين، ويؤخذ من سهم الغارمين " أحد مصارف الزكاة " وأن حقه لا يسقط بالموت. استحباب الدعاء والاسترجاع (1) عند الموت : يستحب أن يسترجع المؤمن ويدعو الله عند موت أحد أقاربه بالآتي. 1 - روى أحمد ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرا منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرا منه " رسول الله صلى الله عليه وسلم ". 2 - وفي الترمذي عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد " قال: حديث حسن. 3 - وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ". 4 - وعن ابن عباس في قول الله تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم   (1) الاسترجاع قول: " إنا لله وإنا إليه راجعون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ورحمة. وأولئك هم المهتدون " قال: أخبر الله عزوجل: أن المؤمن إذا سلم لام الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى. استحباب اعلام قرابته وأصحابه بموته : استحب العلماء إعلام أهل الميت وقرابته وأصدقائه وأهل الصلاح بموته ليكون لهم أجر المشاركة في تجهيزه، لما رواه الجماعة. عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف أصحابه، وكبر عليه أربعا. وروى أحمد والبخاري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا، وجعفرا وابن رواحة، قبل أن يأتيهم خبرهم، قال الترمذي: لا بأس بأن يعلم الرجل قرابته وإخوانه بموت الشخص. وقال البيهقي: وبلغني عن مالك بن أنس أنه قال: لاأحب الصياح لموت الرجل على أبواب المساجد، ولو وقف على حلق المساجد فأعلم الناس بموته لم يكن به بأس. وأما ما رواه أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة، قال: إذا مت فلا تؤذني بي أحدا، فإني أخاف أن يكون نعيا. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي (1) فإنه محمول على النعي الذي كانت الجاهلية تفعله. وكانت عادتهم إذا مات منهم شريف بعثوا راكبا إلى القبائل، يقول: نعاء فلانا أي هلكت العرب بمهلك فلان، ويصحب ذلك ضجيج وبكاء. البكاء على الميت : أجمع العلماء، على أنه لا يجوز البكاء على الميت، إذا خلا من الصراخ والنوح، ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم " وأشار إلى لسانه. وبكى لموت ابنه إبراهيم وقال: " إن العين تدمع، والقلب يحزن. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " وبكى لموت   (1) النعي: الاخبار بموت الشخص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أميمة بنت ابنته زينب، فقال له سعد بن عبادة يا رسول الله أتبكي؟ أو لم تنه زينب، فقال: " إنما هي رحمة فجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " وروى الطبراني عن عبد الله بن زيد قال: رخص في البكاء من غير نوح. فإن كان البكاء بصوت ونياحة، كان ذلك من أسباب ألم الميت وتعذيبه. فعن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت ليعذب ببكاء الحي ". وعن أبي موسى قال: لما أصيب عمر جعل صهيب يقول: واأخاه، فقال له عمر: يا صهيب أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت ليعذب ببكاء الحي " وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه " روى هذه الاحاديث البخاري ومسلم. ومعنى الحديث، أن الميت يتألم ويسوءه نوح أهله عليه، فإنه يسمع بكاءهم وتعرض أعمالهم عليه، وليس معنى الحديث أنه يعذب ويعاقب بسبب بكاء أهله عليه، فإنه لاتزر وازرة وزر أخرى. فقد روى ابن جرير عن أبي هريرة قال: إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم فإن رأوا خيرا فرحوا به. وإذا رأوا شرا كرهوا. وروى أحمد والترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الاموات، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا. " وعن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي: واحبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي: أأنت كذلك. رواه البخاري. النياحة : النياحة مأخوذة من النوح، وهو رفع الصوت بالبكاء. وقد جاءت الاحاديث مصرخة بتحريمها، فعن أبي مالك الاشعري: أن النبي صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الاحساب (1) ، والطعن في الانساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة " وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (2) " رواه أحمد ومسلم. وعن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لاننوح. رواه البخاري ومسلم. وروى البزار بسند رواته ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، وزنة عند مصيبة " وفي الصحيحين عن أبي موسى أنه قال: " أنا برئ ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة والشاقة (3) ". وروى أحمد عن أنس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن، أن لا ينحن، فقلن: يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية. افنسعدهن في الاسلام؟ فقال: " لا إسعاد (4) في الاسلام ". الاحداد على الميت : يجوز للمرأة أن تحد (5) على قريبها الميت ثلاثة أيام ما لم يمنعها زوجها، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك، إلا إذا كان الميت زوجها، فيجب عليها أن تحد عليه مدة العدة. وهي أربعة أشهر وعشر. لما رواه الجماعة إلا الترمذي عن أم عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاتحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا. ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب (6) ، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا، ولا تختضب، ولا تمتشط   (1) الفخر في الاحساب: التعاظم بمناقب الآباء. " الطعن في الانساب " نسبة الرجل المرء لغير أبيه. " الاستسقاء بالنجوم ": اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر. (2) السربال: القميص. والجرب: تقرح الجلد، والقطران: يقوي شعلة النار، فيكون عذاب النائحة بالنار بسبب هذين القميصين أشد عذاب. (3) الصالقة: التي ترفع صوتها بالندب والنياحة - الحالقة: التي تحلق رأسها عند المصيبة - الشاقة: أي التي تشق. (4) الاسعاد: المساعدة في النياحة. (5) تحد: من باب نصر وضرب. (6) عصب: برود يمانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 إلا إذا ظهرت، تمس نبذة من قسط، أو اظفار (1) ". والاحداد ترك ما تتزين به المرأة من الحلي والكحل والحرير والطيب والخضاب. وإنما وجب على الزوجة ذلك مدة العدة، من أجل الوفاء للزوج، ومراعاة لحقه. استحباب صنع الطعام لأهل الميت : عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم " رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي. وقال: حسن صحيح. واستحب الشارع هذا العمل، لانه من البر والتقرب إلى الاهل والجيران. قال الشافعي: وأحب لقرابة الميت أن يعملوا لاهل الميت في يومهم وليلتهم طعاما يشبعهم، فإنه سنة وفعل أهل الخير. واستحب العلماء الالحاح عليهم ليأكلوا، لئلا يضعفوا بتركه استحياء أو لفرط جزع. وقالوا: لا يجوز اتخاذ الطعام للنساء إذا كن ينحن لانه إعانة لهن على معصية. واتفق الائمة على كراهة صنع أهل الميت طعاما للناس يجتمعون عليه، لما في ذلك من زيادة المصيبة عليهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية لحديث جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وذهب بعض العلماء إلى التحريم. قال ابن قدامه: فإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والاماكن البعيدة. ويبيت عندهم، ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه ".   (1) القسط والاظفار: نوعان من العود الذي يتطيب به. و" النبذة " القطعة: أي يجوز لها وضع الطيب عند الغسل من الحيض لازالة الرائحة الكريهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 جواز اعداد الكفن والقبر قبل الموت قال البخاري: باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، وروى عن سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فيها حاشيتها (1) أتدرون ما البردة (2) ؟ قالوا: الشملة. قال: نعم. قالت: نسجتها بيدي، فجئت لاكسوها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فخرج إلينا، وإنها إزارة، فحسنها فلان فقال: اكسنيها. ما أحسنها. قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لايرد، قال: إني والله ما سألته لالبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل فكانت كفنه. قال الحافظ معلقا على الترجمة: وإنما قيد " أي البخاري " الترجمة بذلك. أي بقوله: " فلم ينكر ليشير إلى أن الانكار وقع من الصحابة، كان على الصحابي في طلب البردة، فلما أخبرهم بعذره لم ينكروا ذلك عليه، فيستفاد منه جواز تحصيل ما لابد منه للميت من كفن ونحوه في حال حياته، وهل يلتحق بذلك حفر القبر؟ ثم قال: قال ابن بطال: فيه جواز إعداد الشئ قبل وقت الحاجة إليه. قال: وقد حفر جماعة من الصالحين قبورهم قبل الموت، وتعقبه الزين بن المنير: بأن ذلك لم يقع من أحد من الصحابة، قال: ولو كان مستحبا لكثر فيهم. وقال العيني: لا يلزم من عدم وقوعه من أحد من الصحابة عدم جوازه. لان ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، ولاسيما إذا فعله قوم من العلماء الاخيار. قال أحمد: لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه. وروي عن عثمان وعائشة وعمر بن عبد العزيز رضيا لله عنهم أنهم فعلوا ذلك.   (1) حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب. (2) مقول سهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 استحباب طلب الموت في أحد الحرمين : يستحب طلب الموت في أحد الحرمين: الحرم المكي، والحرم المدني، لما رواه البخاري عن حفصة رضي الله عنها أن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم. فقلت: أنى هذا؟ فقال: يأتيني به الله إن شاء الله. وروى الطبراني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات في أحد الحرمين بعث آمنا يوم القيامة " وفيه موسى بن عبد الرحمن، ذكره ابن حبان في الثقات وعبد الله ابن المؤمل ضعفه أحمد ووثقه ابن حبان. موت الفجأة (1) روى أبو داود عن عبيد بن خالد السلمي - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة: عن عبيد. قال: " موت الفجأة أخذة آسف (2) ". وقد روي هذا الحديث من حديث عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي هريرة وعائشة، وفي كل منها مقال. وقال الازدي: ولهذا الحديث طرق، وليس فيها صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث عبيد هذا الذي أخرجه أبوداود، رجال إسناده ثقات. والوقف فيه لا يؤثر، فإن مثله لا يؤخذ بالرأي، فكيف وقد أسنده الراوي مرة. ثواب من مات له ولد : 1 - روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مامن الناس من مسلم يتوفى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث (3) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ".   (1) أي الموت بغتة. (2) آسف: غضبان وإنما كان موت الفجأة يكرهه الناس لانه يفوت ثواب المرض الذي يكفر الذنوب والاستعداد بالتوبة والعمل الصالح. (3) الحنث: الاثم: أي لم يبلغوا سن التكليف فيكتب عليهم الاثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 2 - وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوما. فوعظهن وقال: " أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من النار "، قالت امرأة: واثنان قال: " واثنان ". أعمار هذه الامة روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين (1) وأقلهم من يجوز (2) ذلك ". الموت راحة: روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: " مستريح ومستراح منه (3) "، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال: " العبد المؤمن يستريح من نصب (4) الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد (5) والبلاد والشجر والدواب ". تجهيز الميت : يجب تجهيز الميت فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، وتفصيل ذلك فيما يلي: غسل الميت يرى جمهور العلماء أن غسل الميت المسلم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن جميع المكلفين، لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولمحافظة المسلمين عليه.   (1) السبعين: أي السبعين سنة. (2) يجوز: أي يتجاوز. (3) أي هذا البيت إما مستريح وإما مستراح منه. (4) نصب الدنيا: تعبها. (5) من أذاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 (2) من يجب غسله ومن لا يجب: يجب غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معركة بأيدي الكفار. (3) غسل بعض الميت: واختلف الفقهاء في غسل بعض الميت المسلم. فذهب الشافعي وأحمد وابن حزم إلى أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وقال الشافعي: بلغنا أن طائرا ألقى يدا بمكة في وقعة الجمل (1) ، فعرفوها بالخاتم، فغسلوها وصلوا عليها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة. وقال أحمد: صلى أبو أيوب على رجل، وصلى عمر على عظام. وقال ابن حزم: ويصلى على ما وجد من الميت المسلم، ويغسل ويكفن إلا أن يكون من شهيد. قال: وينوى بالصلاة على ما وجد منه، الصلاة على جميعه: جسده وروحه. وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد أكثر من نصفه غسل وصلي عليه، وإلا فلا غسل ولا صلاة. (4) الشهيد لا يغسل: الشهيد الذي قتل بأيدي الكفرة في المعركة لا يغسل ولو كان جنبا (2) ، ويكفن في ثيابه الصالحة للكفن، ويكمل ما نقص منها، وينقص منها ما زاد على كفن السنة، ويدفن في دمائه، ولا يغسل شئ منها. روى أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تغسلوهم فإن كل جرح، أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة "، وأمر صلوات الله وسلامه عليه بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. قال الشافعي: لعل ترك الغسل والصلاة لان يلقوا الله بكلومهم (3) لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك، واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم، مع التخفيف على من بقي من المسلمين، لما يكون فيمن قاتل من جراحات وخوف   (1) كانت عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. (2) الشهيد الجنب: لا يغسل عند المالكية والاصح من مذهب الشافعية. ورأي محمد وأبي يوسف، ويشهد لهذا، أن حنظلة استشهد جنبا فلم يغسله النبي صلى الله عليه وسلم. (3) " كلومهم " جروحهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 عبودة العدو، رجاء طلبهم وهمهم بأهلهم، وهم أهلهم بهم. وقيل: الحكمة في ترك الصلاة عليهم: أن الصلاة على الميت، والشهيد حي، أو أن الصلاة شفاعة، والشهداء في غنى عنها لانهم يشفعون لغيرهم. (5) الشهداء الذين يغسلون ويصلى عليهم: أما القتلى الذين لم يقتلوا في المعركة بأيدي الكفار، فقد أطلق الشارع عليهم لفظ الشهداء، وهؤلاء يغسلون، ويصلى عليهم، فقد غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات منهم في حياته. وغسل المسلمون بعده عمر وعثمان وعليا، وهم جميعا شهداء، ونحن نذكر هؤلاء الشهداء فيما يلي: 1 - عن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون (1) شهيد، والغرق (2) شهيد، وصاحب ذات الجنب (3) شهيد، والمبطون (4) شهيد، وصاحب الحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع (5) شهيدة ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح. 2 - وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تعدون الشهيد فيكم؟ " قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: " إن شهداء أمتي إذا لقليل "، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله (6) فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد ". رواه مسلم. 3 - وعن سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ". رواه أحمد والترمذي وصححه.   (1) المطعون: من مات بالطاعون (2) الغرق: الغريق. (3) ذات الجنب: القروح تصيب الانسان داخل جنبه وتنشأ عنها الحمى والسعال. (4) المبطون: من مات بموت البطن. (5) بجمع: أي التي تموت عند الولادة (6) في سبيل الله: أي في طاعة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 (6) الكافر لا يغسل: ولا يجب على المسلم أن يغسل الكافر، وجوزه بعضهم. وعند المالكية والحنابلة: أنه ليس للمسلم أن يغسل قريبه الكافر ولا يكفنه، ولا يدفنه، إلا أن يخاف عليه الضياع فيجب عليه أن يواريه، لما رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي، أن عليا رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: " اذهب فوار أباك، ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ". قال: فذهبت، فواريته، وجئته، فأمرني فاغتسلت فدعا لي. قال ابن المنذر: ليس في غسل الميت سنة تتبع. صفة الغسل : الواجب في غسل الميت أن يعمم بدنه بالماء مرة واحدة ولو كان جنبا أو حائضا، والمستحب في ذلك أن يوضع الميت فوق مكان مرتفع ويجرد من ثيابه (1) ويوضع عليه ساتر يستر عورته ما لم يكن صبيا، ولا يحضر عند غسله إلا من تدعوا الحاجة إلى حضوره. وينبغي أن يكون الغاسل ثقة أمينا صالحا، لينشر ما يراه من الخير، ويستر ما يظهر له من الشر. فعند ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليغسل موتاكم المأمونون ". وتجب النية عليه، لانه هو المخاطب بالغسل، ثم يبدأ فيعصر بطن الميت عصرا رفيقا، لاخراج ما عسى أن يكون بها، ويزيل ما على بدنه من نجاسة، على أن يلف على يده خرقة يمسح بها عورته فإن لمس العورة حرام، ثم يوضئه وضوء الصلاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " ولتجديد سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرة والتحجيل، ثم يغسله ثلاثا بالماء والصابون، أو الماء القراح، مبتدئا باليمين، فإن رأى الزيادة على الثلاث بعدم حصول الانقاء بها أولشئ آخر غسله خمسا، أو سبعا، ففي الصحيح:   (1) رأى الشافعي أن يغسل في قميصه أفضل إذا كان رقيقا لايمنع وصول الماء إلى البدن لان النبي صلى الله عليه وسلم غسل في قميصه. والاظهر أن هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه فان تجريد الميت فيما عدا العورة كان مشهورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن (1) ". قال ابن المنذر: إنما فرض الرأي اليهن بالشرط المذكور وهو الايثار، فإذا كان الميت امرأة ندب نقض شعرها وغسل وأعيد تضفيره وأرسل خلفها، ففي حديث أم عطية: أنهن جعلن رأس ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون. قلت: نقضنه وجعلنه ثلاثة قرون (2) قالت: نعم. وعند مسلم: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون: قرنيها وناصيتها. وفي صحيح ابن حبان الامر بتضفيرها من قوله صلى الله عليه وسلم: " واجعلن لها ثلاثة قرون ". فإذا فرغ من غسل الميت جفف بدنه بثوب نظيف، لئلا تبتل أكفانه، ووضع عليه الطيب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أجمرتم (3) الميت فأوتروا ". رواه البيهقي والحاكم وابن حبان وصححاه. وقال أبو وائل: كان عند علي رضي الله عنه مسك، فأوصى أن يحنط به، وقال: هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجمهور العلماء على كراهة تقليم أظفار الميت وأخذ شئ من شعر شاربه، أو إبطه أو عانته، وجوز لك ابن حزم. واتفقوا فيما إذا خرج من بطنه حدث بعد الغسل وقبل التكفين، على أنه يجب غسل ما أصابه من نجاسة، واختلفوا في إعادة طهارته فقيل: لا يجب (4) . وقيل: يجب الوضوء. وقيل: يجب إعادة الغسل. والاصل الذي بنى عليه العلماء أكثر اجتهادهم في كيفية الغسل ما رواه الجماعة عن أم عطية، قالت: " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر واجعلن في الاخيرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا   (1) قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع، وكره المجاوزة أحمد وابن المنذر. (2) قرون: أي ضفائر. (3) أجمرتم: بخرتم. (4) هذا مذهب الاحناف والشافعية ومالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فرغتن فآذنني (1) " فلما فرغن آذناه، فأعطانا حقوه فقال: " أشعرنها (2) إياه ". يعني إزاره. وحكمة وضع الكافور ما ذكره العلماء من كونه طيب الرائحة، وذلك وقت تحضر فيه الملائكة. وفيه أيضا تبريد، وقوة نفود، وخاصة في تصلب بدن الميت، وطرد الهوام عنه ومنع إسراع الفساد إليه، وإذا عدم قام غيره مقامه مما فيه هذه الخواص أو بعضها. التيمم للميت عند العجز عن الماء: ان عدم الماء يمم الميت، لقوله تعالى: (فإن لم تجدوا ماء فتيمموا) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جعلت لي الارض مسجدا وطهورا ". وكذلك لو كان الجسم بحيث لو غسل لتهرى. وكذلك المرأة تموت بين الرجال الاجانب عنها، والرجل يموت بين النساء الاجنبيات عنه. روى أبو داود في مراسيله والبيهقي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ماتت المرأة مع الرجال، ليس معهم امرأة غيرها، والرجل مع النساء، ليس معهن رجل غيره، فإنهما ييممان ويدفنان، وهما بمنزلة من لم يجد الماء ". وييمم المرأة ذو رحم محرم منها بيده، فإن لم يوجد يممها أجنبي بخرقة يلفها على يده. هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك والشافعي: إن كان بين الرجال ذو رحم محرم منها غسلها، لانها كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة. قال في المروي عن الامام مالك: إنه سمع أهل العلم يقولون: إذا ماتت المرأة وليس معها نساء يغسلنها ولا من ذوي المحرم أحد يلي ذلك منها، ولا زوج يلي ذلك، يممت، يمسح بوجهها وكفيها من الصعيد.   (1) آذنني: أي أخبرنني. (2) أشعرنها: اجعلنه شعارا " والشعار " الثوب الذي يلي الجسد. " والحقو " الازار. وهو في الاصل: معقد الازار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 قال: وإذا هلك الرجل، وليس معه أحد إلا نساء يممنه أيضا (1) . غسل أحد الزوجين الآخر اتفق الفقهاء على جواز غسل المرأة زوجها، قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه. واختلفوا في جواز غسل الزوج امرأته فأجازه الجمهور. لما روي من غسل علي فاطمة رضي الله عنها. رواه الدارقطني والبيهقي، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: " لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ". رواه ابن ماجه. وقال الاحناف: لا يجوز للزوج غسل زوجته، فإن لم يكن إلا الزوج يممها، والاحاديث حجة عليهم. غسل المرأة الصبي: قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل الصبي الصغير. الكفن : (1) حكمه: تكفين الميت بما يستره ولو كان ثوبا واحدا فرض كفاية. روى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه إلابردة، إذا   (1) يرى ابن حزم أنه إذا مات رجل بين نساء لارجل معهن، أو امرأة بين رجال لا نساء معهم غسل النساء الرجل وغسل الرجال المرأة على ثوب كثيف. يصب الاء على جميع الجسد دون مباشرة اليد، ولا يجوز أن يعوض التيمم عن الغسل عند فقد الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه وأن نجعل على رجليه من الاذخر (1) . (2) ما يستحب فيه: يستحب في الكفن ما يأتي: 1 - أن يكون حسنا، نظيفا، ساترا للبدن. لما رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه ". 2 - وأن يكون أبيض، لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البسوا من ثيابكم البيض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ". 3 - وأن يجمر، ويبخر، ويطيب، لما رواه أحمد والحاكم وصححه عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا ". وأوصى أبو سعيد وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: أن تجمر أكفانهم بالعود. 4 - أن يكون ثلاث لفائف للرجل، وخمس لفائف للمرأة، لما رواه الجماعة عن عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد ليس فيها قميص ولاعمامة. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قال: وقال سفيان الثوري: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، إن شئت في قميص ولفافتين، وإن شئت في ثلاث لفائف. ويجزئ ثوب واحد إن لم يجدوا ثوبين. والثوبان يجزيان، والثلاثة لمن وجد أحب إليهم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق. وقالوا: تكفن المرأة في خمسة أثواب.   (1) الاذخر: حشيشة طيبة الرائحة، تسقف بها البيوت فوق الخشب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وعن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها إزارا، ودرعا (1) ، وخمارا (2) وثوبين (3) . وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب. (3) تكفين المحرم: إذا مات المحرم غسل كما يغسل غيره ممن ليس محرما وكفن في ثياب إحرامه، ولا تغطى رأسه ولا يطيب لبقاء حكم الاحرام، لما رواه الجماعة عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه إذ وقع عن راحلته فوقصته (4) فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه (5) ، ولا تحنطوه (6) ولا تخمروا (7) رأسه فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيا ". وذهبت الحنفية والمالكية إلى أن المحرم إذا مات انقطع إحرامه، وبانقطاع إحرامه يكفن كالحلال، فيخاط كفنه ويغطى رأسه ويطيب. وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها فتختص به، ولكن التعليل بأنه يبعث يوم القيامة ملبيا ظاهر أن هذا عام في كل محرم. والاصل أن ما ثبت لاحد الافراد من الاحكام يثبت لغيره، ما لم يقم دليل على التخصيص. (4) كراهة المغالاة في الكفن: ينبغي أن يكون الكفن حسنا دون مغالاة في ثمنه، أو أن يتكلف الانسان في ذلك ما ليس من عادته. قال الشافعي: إن عليا كرم الله وجهه قال: لاتغال لي في كفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاتغالوا في الكفن فإنه يسلب   (1) الدرع: القميص. (2) الخمار: غطاء الرأس. (3) تلف فيهما. (4) وقصته: أي دقت عنقه. (5) - في ثوبيه: إزاره ورداءه. (6) تحنطوه: تطيبوه بالحنوط: وهو الطيب الذي يوضع الميت. (7) تخمروه: تستروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 سلبا سريعا ". رواه أبو داود وفي إسناده أبو مالك، وفيه مقال: وعن حذيفة، قال: لاتغالوا في الكفن، اشتروا لي ثوبين نقيين. وقال أبو بكر: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهم. قالت عائشة: إن هذا خلق (1) . قال: إن الحي أولى بالجديد من الميت. إنما هو للمهلة (2) . (5) الكفن من الحرير: لا يحل للرجل أن يكفن في الحرير ويحل للمرأة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: " إنهما حرام على ذكور، أمتي حل لاناثها ". وكره كثير من أهل العلم للمرأة أن تكفن في الحرير لما فيه من السرف، وإضاعة المال، والمغالاة المنهي عنها، وفرقوا بين كونه زينة لها في حياتها، وكونه كفنا لها بعد موتها. قال أحمد: لا يعجبني أن تكفن المرأة في شئ من الحرير. وكره ذلك الحسن وابن المبارك وإسحق. قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم. (6) الكفن من رأس المال: إذا مات الميت وترك مالا، فتكفينه من ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته، فإن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه من بيت مال المسلمين، وإلا فعلى المسلمين أنفسهم. والمرأة مثل الرجل في ذلك. وقال ابن حزم: وكفن المرأة وحفر قبرها من رأس مالها، ولا يلزم ذلك زوجها، لان أموال المسلمين محظورة إلا بنص قرآن أو سنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام "، وإنما أوجب الله تعالى على الزوج النفقة والكسوة والاسكان، ولا يسمى في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها الكفن كسوة، ولا القبر إسكانا.   (1) الخلق: غير الجديد. (2) " المهلة " القيح السائل من الميت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 الصلاة على الميت : (1) حكمها: من المتفق عليه بين أئمة الفقه، أن الصلاة على الميت، فرض كفاية، لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ولمحافظة المسلمين عليها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا، قال للمسلمين: " صلوا على صاحبكم ". (2) فضلها: 1 - روى الجماعة عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تبع جنازة وصلى عليها، فله قيراط (1) . ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان، أصغرهما مثل أحد " أو (2) " أحدهما مثل أحد ". 2 - وروى مسلم عن خباب رضي الله عنه، قال: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد. ومن صلى عليها ثم رجع (3) كان له مثل أحد. " فأرسل ابن عمر رضي الله عنهما خبابا إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. (3) شروطها: صلاة الجنازة يتناولها لفظ الصلاة، فيشترط فيها الشروط التي تفر ض في سائر الصلوات المكتوبة من الطهارة الحقيقية والطهارة من الحدث الاكبر والاصغر واستقبال القبلة وستر العورة.   (1) القيراط 16 / 1 من الدرهم. وقيل في معناه: إن العمل يتجسم على قدر جرم الجبل المذكور تثقيلا للميزان. (2) أو: للشك. (3) في هذا دليل على أنه لا استئذان عند الانصراف من صاحب الجنازة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 روى مالك عن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر. وتختلف عن سائر الصلوات المفروضة، في أنه لا يشترط فيها الوقت، بل تؤدى في جميع الاوقات متى حضرت، ولو في أوقات النهي (1) . عند الاحناف والشافعية. وكره أحمد وابن المبارك وإسحاق الصلاة على الجنازة وقت الطلوع والاستواء والغروب، إلا إن خيف عليها التغير. (4) أركانها: صلاة الجنازة لها أركان تتركب منها حقيقتها ولو ترك منها ركن بطلت ووقعت غير معتد بها شرعا، نذكرها فيما يلي: 1 - النية لقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". وتقدم حقيقة النية وأن محلها القلب وأن التلفظ بها غير مشروع. 2 - القيام للقادر عليه: وهو ركن عند جمهور العلماء، فلا تصح الصلاة على الميت لمن صلى عليه راكبا أو قاعدا من غير عذر. قال في المغني: لا يجوز أن يصلي على الجنائز وهو راكب لانه يفوت القيام الواجب، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأبي ثور: ولا أعلم فيه خلافا، ويستحب أن يقبض بيمينه على شماله أثناء القيام كما يفعل في الصلاة، وقيل: لا. والاول أولى. 3 - التكبيرات الاربع. لما رواه البخاري ومسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر أربعا. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. رفع اليدين عند التكبير: والسنة عدم رفع اليدين في صلاة الجنازة، إلا في أول تكبيرة فقط، لانه   (1) يراجع " فقه السنة " بصدد " أوقات النهي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع في شئ من تكبيرات الجنازة إلا في أول تكبيرة فقط. قال الشوكاني: بعد ذكر الخلاف ومناقشة أدلة كل: والحاصل أنه لم يثبت في غير التكبيرة الاولى شئ يصلح للاحتجاج به عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأفعال الصحابة وأقوالهم لاحجة فيها، فينبغي أن يقتصر على الرفع عند تكبيرة الاحرام لانه لم يشرع في غيرها، إلا عند الانتقال من ركن إلى ركن كما في سائر الصلوات، ولا انتقال في صلاة الجنازة. 4 و 5 - قراءة الفاتحة سرا والصلاة والسلام على الرسول (1) ، لما رواه الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الاولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء في الجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شئ منهن، ثم يسلم سرا في نفسه (2) . قال في الفتح: وإسناده صحيح. وروى البخاري عن طلحة بن عبد الله قال: صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: إنها من السنة. ورواه الترمذي وقال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم يختارون أن يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الاولى. وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق. وقال بعضهم: لايقرأ في الصلاة على الجنازة، إنما هو الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، وهو قول الثوري وغيره من أهل الكوفة. ومن حجج القائلين بفرضية القراءة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها صلاة بقوله: " صلوا على صاحبكم "، وقال: " لاصلاة لمن لايقرأ بأم القرآن ". صيغة الصلاة والسلام على رسول الله وموضعها: وتؤدى الصلاة والسلام على رسول الله بأي صيغة، ولو قال اللهم صل   (1) مذهب أبي حنيفة ومالك أنها لها ركنين وسيأتي كلام الترمذي في ذلك. (2) رأي الجمهور أن القراءة والصلاة على النبي والدعاء والسلام يسن الاسرار بها إلا بالنسبة للامام فانه يسن له الجهر بالتكبير والتسليم للاعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 على محمد، لكفى. واتباع المأثور أفضل مثل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كمال باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. ويؤتى بها بعد التكبيرة الثانية كما هو الظاهر، وإن لم يرد ما يدل على تعيين موضعها. 6 - الدعاء: وهو ركن باتفاق الفقهاء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ". رواه أبو داود والبيهقي وابن حبان وصححه. ويتحقق بأي دعاء مهما قل، والمستحب فيه أن يدعو بأية دعوة من الدعوات المأثورة الآتية: 1 - قال أبو هريرة: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة فقال: " اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للاسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء له، فاغفر له ذنبه ". 2 - وعن وائلة بن الاسقع قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين فسمعته يقول: " اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحبل (1) جوارك. فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق. اللهم فاغفر له وارحمه فإنك أنت الغفور الرحيم ". رواهما أحمد وأبو داود. 3 - عن عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد صلى على جنازة - يقول: " اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار ". رواه مسلم. 4 - عن أبي هريرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة   (1) الذمة: الحفظ، والحبل: العهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 فقال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده ". رواه أحمد وأصحاب السنن. فإذا كان المصلى عليه طفلا استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وذخرا. رواه البخاري والبيهقي من كلام الحسن. قال النووي: وإن كان صبيا أو صبية اقتصر على ما في حديث: " اللهم اغفر لحينا وميتنا..الخ "، وضم اليه: " اللهم اجعله فرطا لابويه وسلفا وذخرا وعظة واعتبارا وشفيعا وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده، ولاتحرمهما أجره ". موضع هذه الادعية: قال الشوكاني: وأعلم أنه لم يرد تعيين موضع هذه الادعية فإذا شاء المصلي جاء بما يختار منها دفعة، إما بعد فراغه من التكبير أو بعد التكبيرة الاولى أو الثانية أو الثالثة، أو يفرقه بين كل تكبيرتين، أو يدعو بين كل تكبيرتين بواحد من هذه الادعية، ليكون مؤديا لجميع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم. قال: والظاهر أنه يدعو بهذه الالفاظ الواردة في هذه الاحاديث، سواء كان الميت ذكرا، أو أنثى، ولا يحول الضمائر المذكرة إلى صيغة التأنيث، إذا كان الميت أنثى، لان مرجعها الميت، وهو يقال عن الذكر والانثى. (7) الدعاء بعد التكبيرة الرابعة: يستحب الدعاء بعد التكبيرة الرابعة، وإن كان المصلي دعا بعد التكبيرة الثالثة، لما رواه أحمد عن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت له ابنة فكبر عليها أربعا، ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو. ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنازة هكذا. وقال الشافعي: يقول بعدها: اللهم لا تحرمنا أجره، ولاتفتنا بعده. وقال ابن أبي هريرة: كان المتقدمون يقولون بعد الرابعة: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 (8) السلام: وهو متفق على فرضيته بين الفقهاء ما عدا أبا حنيفة القائل بأن التسليمتين يمينا وشمالا واجبتان وليستا ركنين، استدلوا على الفرضية بأن صلاة الجنازة صلاة، وتحليل الصلاة التسليم. وقال ابن مسعود: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة. وأقله: السلام عليكم، أو سلام عليكم. وذهب أحمد إلى أن التسليمة الواحدة هي السنة، يسلمها عن يمينه، ولا بأس إن سلم تلقاء وجهه، استدلالا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل الاصحاب الذين كانون يسلمون تسليمة واحدة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. واستحب الشافعي تسليمتين، يبدأ بالاولى ملتفتا إلى يمينه ويختم بالاخرى ملتفتا إلى يساره، قال ابن حزم: والتسليمة الثانية ذكر وفعل خير. كيفية الصلاة على الجنازة : أن يقف المصلي بعد استكمال شروط الصلاة ناويا الصلاة على من حضر من الموتى رافعا يديه مع تكبيرة الاحرام، ثم يضع يده اليمنى على اليسرى ويشرع في قراءة الفاتحة، ثم يكبر ويصلي على النبي، ثم يكبر ويدعو للميت، ثم يكبر ويدعو، ثم يسلم. موقف الامام من الرجل والمرأة من السنة أن يقوم الامام حذاء رأس الرجل، ووسط المرأة لحديث أنس، أنه صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه فلما رفعت، أتي بجنازة امرأة، فصلى عليها فقام وسطها (1) ، فسئل عن ذلك وقيل له: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه. قال الطحاوي وهذا أحب إلينا فقد قوته الآثار التي رويناها عن النبي صلى الله عليه وسلم.   (1) روي أنه كان يقوم عند عجيزتها ولا منافاة بين الروايتين لان العجيزة يصدق عليه أنها وسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الصلاة على أكثر من واحد إذا اجتمع أكثر من ميت وكانوا ذكورا أو إناثا صفوا واحدا بعد واحد بين الامام والقبلة ليكونوا جميعا بين يدي الامام ووضع الافضل مما يلي الامام، وصلى عليهم جميعا صلاة واحدة. وإن كانوا رجالا ونساء جاز أن يصلي على الرجال وحدهم والنساء وحدهن، وجاز أن يصلي عليهم جميعا، وصفت الرجال أمام الامام، وجعلت النساء مما يلي القبلة. وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الامام، وجعل النساء مما يلي القبلة، وصفهم صفا واحدا. ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر، وابن لها - يقال له زيد - والامام يومئذ سعيد بن العاص، وفي الناس يومئذ ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة. فوضع الغلام مما يلي الامام قال رجل: فأنكرت ذلك، فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة، وأبي سعيد وأبي قتادة. فقلت: ما هذا؟. قالوا: هي السنة. رواه النسائي والبيهقي. قال الحافظ: وإسناده صحيح. وفي الحديث: أن الصبي إذا صلي عليه مع امرأة كان الصبي مما يلي الامام، والمرأة مما يلي القبلة. وإن كان فيه رجال ونساء وصبيان كان الصبيان مما يلي الرجال. استحباب الصفوف الثلاثة وتسويتها : يستحب أن يصف المصلون على الجنازة ثلاثة صفوف (1) وأن تكون مستوية، لما رواه مالك بن هبيرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له " فكان مالك ابن هبيرة يتحرى إذا قل أهل الجنازة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.   (1) أقل صف اثنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قال أحمد: أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف. قالوا: فإن كان وراءه أربعة كيف يجعلهم؟ قال: يجعلهم صفين، في كل صف رجلين، وكره أن يكونوا ثلاثة فيكون في صف رجل واحد. استحباب الجمع الكثير : ويستحب تكثير جماعة الجنازة لما جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة. كلهم يشفعون (1) له إلا شفعوا " (2) رواه أحمد ومسلم والترمذي. وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا، لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه. " رواه أحمد ومسلم وأبو داود. المسبوق في صلاة الجنازة : من سبق في صلاة الجنازة بشئ من التكبير استحب له أن يقضيه متتابعا فإن لم يقض فلا بأس. وقال ابن عمر والحسن وأيوب السختياني والاوزاعي: لا يقضي ما فات من تكبير الجنازة، ويسلم مع الامام. وقال أحمد: إذا لم يقض لم يبال. ورجح صاحب المغني هذا المذهب فقال: ولنا قول ابن عمر، ولم يعرف له في الصحابة مخالف. وقد روي عن عائشة أنها قالت: " يا رسول الله إني أصلي على الجنازة ويخفى علي بعض التكبير. قال: " ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك " وهذا صريح. ولانها تكبيرات متواليات فلا يجب ما فاته منها كتكبيرات العيدين. من يصلى عليهم ومن لا يصلى عليهم : اتفق الفقهاء على أن يصلى على المسلم ذكرا كان أم أنثى، صغيرا كان أم كبيرا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته   (1) يخلصون له الدعاء ويسألون له المغفرة. (2) قبلت شفاعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 واستهل يصل عليه (1) . فعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها، والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة " رواه أحمد وأبو داود. وقال فيه: " والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها ويسارها قريبا منها. " وفي رواية: " الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه " رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الصلاة على السقط (2) السقط إذا لم يأت عليه أربعة أشهر فإنه لا يغسل. ولا يصلى عليه، ويلف في خرقة، ويدفن من غير خلاف بين جمهور الفقهاء. فإن أتى عليه أربعة أشهر فصاعدا واستهل غسل وصلي عليه باتفاق. فإذا لم يستهل فإنه لا يصلى عليه عند الاحناف ومالك والاوزاعي والحسن، لما رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه والبيهقي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استهل السقط صلي عليه وورث " ففي الحديث اشتراط الاستهلال في الصلاة عليه. وذهب أحمد وسعيد وابن سيرين وإسحاق إلى أنه يغسل ويصلى عليه للحديث المتقدم. وفيه: " والسقط يصلى عليه " ولانه نسمة نفخ فيه الروح، فيصلى عليه كالمستهل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ينفخ فيه الروح لاربعة أشهر، وأجابوا عما استدل به الاولون بأن الحديث مضطرب. وبأنه معارض بما هو أقوى منه، فلا يصلح للاحتجاج به. الصلاة على الشهيد الشهيد هو الذي قتل في المعركة بأيدي الكفار. وقد جاءت الاحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا يصلى عليه. 1 - روى البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن   (1) الاستهلال: الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياة الطفل. (2) السقط: الولد ينزل من بطن أمه قبل مدة الحمل وبعد تبين خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم ولم يصل عليهم. 2 - وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس: أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم. وجاءت أحاديث أخرى صحيحة مصرحة بأنه يصلى عليه: 1 - روى البخاري عن عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت بعد ثمان سنين كالمودع للاحياء والاموات. 2 - وعن أبي مالك الغفاري قال: كان قتلى أحد يؤتى منهم بتسعة وعاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة فيصلي عليهم، وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البيهقي وقال: هو أصح ما في الباب. وهو مرسل. وقد اختلفت آراء الفقهاء تبعا لاختلاف هذه الاحاديث، فأخذ بعضهم بها جميعا، ورجح بعضهم بعض الروايات على بعض. فممن ذهب مذهب الاخذ بها كلها " ابن حزم " فجوز الفعل والترك قال: فإن صلي عليه فحسن. وإن لم يصل عليه فحسن. وهو إحدى الروايات عن أحمد، واستصوب هذا الرأي ابن القيم فقال: والصواب في المسألة انه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجئ الآثار بكل واحد من الامرين، وهذه إحدى الروايات عن أحمد، وهو الاليق بأصول مذهبه. قال: والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصل عليهم عند الدفن. وقد قتل معه بأحد سبعون نفسا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم. وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ. فله من الخبرة ما ليس لغيره، ويرجح أبو حنيفة والثوري والحسن وابن المسيب روايات الفعل. فقالوا بوجوب الصلاة على الشهيد. ورجح مالك والشافعي وإسحاق وإحدى الروايات عن أحمد العكس وقالوا بأنه لا يصلى عليه. قال الشافعي في " الام " مرجحا ما ذهب إليه: جاءت الاخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الاحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه. قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث: أن ذلك كان بعد ثمان ستين. قال: وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعا لهم، بذلك، ولا يدل على نسخ الحكم الثابت. من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة من جرح في المعركة وعاش حياة مستقرة ثم مات، يغسل ويصلى عليه. وإن كان يعتبر شهيدا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل سعد بن معاذ، وصلى عليه بعد أن مات بسبب إصابته بسهم قطع أكحله (1) فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما ثم انفتح جرحه فمات شهيدا رحمه الله. فإن عاش عيشة غير مستقرة فتكلم أو شرب ثم مات، فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه. قال في المغني. وفي فتوح الشام: إن رجلا قال: أخذت ماء لعلي أسقي به ابن عمي إن وجدت به حياة. فوجدت الحارث بن هشام. فأردت أن أسقيه. فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي أن أسقيه، فذهبت إليه لاسقيه، فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي أن أسقيه، فذهبت إليه لاسقيه، فإذا آخر ينظر إليه. فأومأ لي أن أسقيه حتى ماتوا كلهم. ولم يفرد أحد منهم بغسل ولا صلاة، وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب. الصلاة على من قتل في حد من قتل في حد غسل وصلي عليه، لما رواه البخاري عن جابر: أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا، فأعرض عنه حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال: " أبك جنون؟ " قال: لا. قال: " أحصنت (2) ؟ " قال: نعم. فأمر به فرجم بالمصلى (3) فلما أذلقته الحجارة فر فأدرك فرجم حتى مات. فقال له - أي عنه - النبي صلى الله عليه وسلم خيرا   (1) الاكحل: عرق في اليد. (2) أحصنت: أي تزوجت. (3) المصلى: المكان الذي كان يصلى فيه العيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وصلى عليه. وقال أحمد: ما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه. الصلاة على الغال وقاتل نفسه وسائر العصاة ذهب جمهور العلماء إلى أنه يصلى على الغال (1) وقاتل نفسه وسائر العصاة قال النووي: قال القاضي " مذهب العلماء كافة: الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا " وما روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الغال وقاتل نفسه. فلعله للزجر عن هذا الفعل كما امتنع عن الصلاة على المدين وأمرهم بالصلاة عليه. قال ابن حزم: ويصلى على كل مسلم، بر، أو فاجر، مقتول في حد أو حرابة أو في بغي، ويصلي عليهم الامام وغيره، وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر وعلى من قتل نفسه وعلى من قتل غيره. ولو أنه شر من على ظهر الارض، إذا مات مسلما، لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " صلوا على صاحبكم " والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) فمن منع الصلاة على مسلم، فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لاحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم!! وصح أن رجلا مات بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلوا على صاحبكم إنه قد غل في سبيل الله " قال: ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا لا يساوي درهمين. وصح عن عطاء أنه يصلى على ولد الزنا، وعلى أمه، وعلى المتلاعنين، وعلى الذي يقاد منه (2) ، وعلى المرجوم، وعلى الذي يفر من الزحف فيقتل. قال عطاء: لا أدع الصلاة على من قال: " لا إله إلا الله " قال تعالى: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) . وصح عن إبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد   (1) الغال: الذي سرق من الغنيمة قبل القسمة. (2) يقاد منه: أي يقتص منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 من أهل القبلة، والذي قتل نفسه يصلى عليه، وأنه قال: السنة أن يصلى على المرجوم. وصح عن قتادة أنه قال: ما أعلم أحدا من أهل العلم اجتنب الصلاة عمن قال " لا إله إلا الله "، وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحدا يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة. وعن أبي غالب: قلت لابي أمامة الباهلي: الرجل يشرب الخمر، أيصلى عليه؟ قال: نعم. لعله اضطجع مرة على فراش فقال " لا إله إلا الله " فغفر له. وصح عن الحسن أنه قال: يصلى على من قال: " لا إلا إلا الله " وصلى إلى القبلة. إنما هي شفاعة. الصلاة على الكافر : لا يجوز لمسلم أن يصلي على كافر، لقول الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله) وقال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) . وكذلك لا يصلى على أطفالهم لان لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه بأن يسلم أحد أبويه أو يموت أو يسبى منفردا من أبويه أو من أحدهما. فإنه يصلى عليه. الصلاة على القبر : تجوز الصلاة على الميت بعد الدفن في أي وقت، ولو صلي عليه قبل دفنه، وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين. وعن زيد بن ثابت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؟ فقيل: فلانة، فعرفها، فقال: " ألا آذنتموني (1) بها؟ " قالوا: يارسول الله، كنت قائلا (2) صائما، فكرهنا أن   (1) آذنتموني: أي أعلمتموني. في هذا دليل على جواز إعادة الصلاة على الميت لمن فاتته الصلاة عليه. (2) قائلا: من القيلولة وهو النوم وقت الظهيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 نؤذيك. فقال: " لا تفعلوا، لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة. " ثم أتى القبر فصفنا خلفه وكبر عليه أربعا. رواه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححاه. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق، وفي الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على القبر بعد ما صلى عليها أصحابه قبل الدفن، لانهم ما كانوا ليدفنوها قبل الصلاة عليها. وفي صلاة الاصحاب معه على القبر ما يدل على أن ذلك ليس خاصا به صلوات الله عليه. قال ابن القيم: ردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها " وهذا حديث صحيح، والذي قاله هو الذي صلى على القبر فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الاخر، فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان، بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه، فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين، ولا فرق بين كونه على النعش، وعلى الارض وبين كونه في بطنها بخلاف سائر الصلوات، فإنها لم تشرع في القبور، ولا إليها لانها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، فأين ما لعن فاعله وحذر منه؟ وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم مرارا متكررة. الصلاة على الغائب : تجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر، سواء أكان البلد قريبا أم بعيدا، فيستقبل المصلي القبلة، وإن لم يكن البلد الذي به الغائب جهة القبلة، ينوي الصلاة عليه، ويكبر ويفعل مثل ما يفعل في الصلاة على الحاضر، لما رواه الجماعة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف أصحابه وكبر أربع تكبيرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 قال ابن حزم: ويصلى على الميت الغائب بإمام وجماعة، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على " النجاشي " رضي الله عنه، ومات بأرض الحبشة، وصلى معه أصحابه صفوفا، وهذا إجماع منهم لا يجوز تعديه. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك، وليس لهما حجة يمكن أن يعتد بها. الصلاة على الميت في المسجد : لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، إذا لم يخش تلويثه، لما رواه مسلم عن عائشة قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد. وصلى الصحابة على أبي بكر وعمر في المسجد بدون إنكار من أحد لانها صلاة كسائر الصلوات. وأما كراهة ذلك عند مالك وأبي حنيفة استدلالا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له (1) " فهي معارضة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من جهة، ولضعف الحديث من جهة أخرى. قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف، تفرد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف. وصحح العلماء هذا الحديث فقالوا: إن الذي في النسخ الصحيحة المشهورة من سنن أبي داود يلفظ: " فلا شئ عليه " أي من الوزر. قال ابن القيم: ولم يكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراتب الصلاة على الميت في المسجد. وإنما كان يصلي على الجنازة خارج المسجد، إلا لعذر، وربما صلى أحيانا على الميت كما صلى على ابن بيضاء، وكلا الامرين جائز، والافضل الصلاة عليها خارج المسجد. الصلاة على الجنازة وسط القبور : كره الجمهور الصلاة على الجنازة في المقبرة بين القبور. روي ذلك عن علي وعبد الله بن عمرو وابن عباس. وإليه ذهب عطاء والنخعي والشافعي وإسحق وابن المنذر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الارض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام ".   (1) أي لا شئ له من الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وفي رواية لاحمد: أنه لا بأس بها، لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وهو في المقبرة. وصلى أبو هريرة على عائشة وسط قبور البقيع. وحضر ذلك ابن عمر وفعله عمر بن عبد العزيز. جواز صلاة النساء على الجنازة يجوز للمرأة أن تصلي على الجنازة مثل الرجل، سواء أصلت منفردة أو صلت مع الجماعة: فقد انتظر عمر أم عبد الله حتى صلت على عتبة. وأمرت عائشة أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه. وقال النووي: وينبغي أن تسن لهن الجماعة كما في غيرها، وبه قال الحسن بن صالح وسفيان الثوري وأحمد والاحناف، وقال مالك: يصلين فرادى. أولى الناس بالصلاة على الميت : اختلف الفقهاء فيمن هو أولى وأحق بالامامة في صلاة الجنازة. فقيل: أحق الناس الوصي، ثم الامير، ثم الاب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، وإلى هذا ذهبت المالكية والحنابلة، وقيل: الاولى الاب، ثم الجد، ثم ابن ثم ابن الابن، ثم الاخ، ثم ابن الاخ، ثم العم، ثم ابن العم على ترتيب العصبات. وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف. ومذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أن الاولى: الوالي إن حضر، ثم القاضي، ثم إمام الجهة، ثم ولي المرأة الميت، ثم الاقرب فالاقرب على ترتيب العصبة، إلا الاب فإنه يقدم على الابن إذا اجتمعا. حمل الجنازة والسير بها يشرع في حمل الجنازة والسير بها أمور نذكرها فيما يلي: 1 - يشرع تشييع الجنازة وحملها، والسنة أن يدور على النعش، حتى يدور على جميع الجوانب. روى ابن ماجه والبيهقي وأبو داود الطيالسي عن ابن مسعود. قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 السنة (1) ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع. وعن أبي سعيد: أن النبي قال: " عودوا المريض، وامشوا مع الجنازة تذكركم الاخرة " رواه أحمد ورجاله ثقات. 2 - الاسراع بها، لما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ". وروى أحمد والنسائي وغيرهما عن أبي بكرة قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا (2) . وروى البخاري في التاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ. قال في الفتح: والحاصل أنه يستحب الاسراع بها، لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة الميت أو مشقة على الحامل أو المشيع لئلا يتنافى المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم. وقال القرطبي: مقصود الحديث أن لا يتباطأ بالميت عن الدفن. لان التباطؤ ربما أدى إلى التباهي والاختيال. 3 - المشي أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو شمالها قريبا منها، وقد اختلف العلماء في أيهما. فاختار الجمهور وأكثر هل العلم المشي أمامها وقالوا: إنه الافضل، لان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمامها. رواه أحمد وأصحاب السنن. ويرى الاحناف أن الافضل للمشيع أن يمشي خلفها، لان ذلك هو المفهوم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة، والمتبع هو الذي يمشي خلف. ويرى أنس بن مالك أن ذلك كله سواء. لما تقدم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها ". والظاهر ان الكل واسع، وأنه من الخلاف المباح الذي ينبغي التساهل فيه. فعن عبد الرحمن بن أبزى: أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة وكان   (1) قول الصحابي: من السنة كذا يعطي حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (2) الرمل: المشي السريع مع هز الكتفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 علي يمشي خلفها، فقيل لعلي: إنهما يمشيان أمامها. فقال: إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذا، ولكنهما سهلان يسهلان للناس. رواه البيهقي وابن أبي شيبة. قال الحافظ: وسنده حسن. وأما الركوب عند تشييع الجنازة فقد كرهه الجمهور إلا لعذر، وأجازوه بعد الانصراف بدون كراهة. لحديث ثوبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بدابة وهو مع جنازة فأبى أن يركبها، فلما انصرف أتي بدابة فركب، فقيل له، فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلم أكن لاركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت " رواه أبو داود والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس. رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. ولا يعارض القول بالكراهة ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم " الراكب يمشي خلفها " فإنه يمكن أن يكون لبيان الجواز مع الكراهة. ويرى الاحناف أنه لا بأس بالركوب، وإن كان الافضل المشي إلا من عذر، والسنة للراكب أن يكون خلف الجنازة للحديث المتقدم. قال الخطابي في الراكب: لا أعلمهم اختلفوا في أنه يكون خلفها. ما يكره مع الجنازة : يكره في الجنازة الاتيان بفعل من الافعال الاتية: 1 - رفع الصوت بذكر أو قراءة أو غير ذلك. قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباد أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند الجنائز، وعند الذكر، وعند القتال. وكره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وأحمد وإسحاق قول القائل خلف الجنازة: استغفروا له. قال الاوزاعي: بدعة. قال فضيل بن عمرو: بينا ابن عمر في جنازة إذ سمع قائلا يقول: استغفروا له غفر الله له. فقال ابن عمر: لا غفر الله لك. وقال النووي: واعلم ان الصواب ما كان عليه السلف من السكوت حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة، ولا ذكر ولا غيرهما، لانه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال. فهذا هو الحق ولا تغتر بكثرة ما يخالفه، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضعه فحرام بالاجماع. وللشيخ محمد عبده فتوى في رفع الصوت بالذكر قال فيها: وأما الذكر جهرا أمام الجنازة ففي " الفتح " في باب الجنائز يكره للماشي أمام الجنازة رفع الصوت بالذكر، فإن أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه. وهذا أمر محدث لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم، فهو مما يلزم منعه. 2 - أن تتبع بنار، لان ذلك من أفعال الجاهلية. قال ابن المنذر: يكره ذلك كل من يحفظ عنه من أهل العلم. قال البيهقي: وفي وصية عائشة وعبادة بن الصامت وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم: أن لا تتبعوني بنار. وروى ابن ماجه: أن أبا موسى الاشعري حين حضره الموت قال: لا تتبعوني بمجمر (1) . قالوا: أو سمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . فإن كان الدفن ليلا واحتاجوا إلى ضوء فلا بأس به، وقد روى الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج. وقال: حديث ابن عباس حديث حسن. 3 - قعود المتبع لها قبل أن توضع على الارض. قال البخاري: من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال. فإن قعد أمر بالقيام. ثم روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا. فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع ". وروى عن سعيد المقبري عن أبيه قال: كنا في جنازة. فأخذ أبو هريرة رضي الله عنه بيد مروان فجلسا قبل أن توضع، فجاء أبو سعيد رضي الله عنه فأخذ بيد مروان   (1) المجمر: على وزن متبر: ما يوضع فيه الجمر والبخور. (2) في اسناده أبو حريز مولى معاوية وهو مجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 فقال: قم. فوالله لقد علم هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، فقال أبو هريرة: صدق. رواه الحاكم. وزاد: أن مروان لما قال له أبو سعيد: قم، قام. ثم قال له: لم أقمتني؟ فذكر له الحديث. فقال لابي هريرة: فما منعك أن تخبرني؟ فقال: كنت إماما فجلست فجلست. وهذا مذهب أكثر الصحابة والتابعين والاحناف والحنابلة والاوزاعي وإسحاق. وقالت الشافعية: لا يكره الجلوس لمشيعها قبل وضعها على الارض. واتفقوا على أن من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه. قال الترمذي: روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم كانوا يتقدمون الجنازة ويقعدون قبل أن تنتهي إليهم، وهو قول الشافعي. فإذا جاءت وهو جالس لم يقم لها. وعن أحمد قال: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس. 4 - القيام لها عندما تمر: لما رواه أحمد عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. قال: شهدت جنازة في بني سلمة، فقمت فقال لي نافع بن جبير: اجلس فإني سأخبرك في هذا بثبت (1) . حدثني مسعود بن الحاكم الزرقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة. ثم جلس بعد ذلك: وأمرنا بالجلوس. ورواه مسلم بلفظ: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، فقعد فقعدنا. يعني في الجنازة، قال الترمذي: حديث علي حسن صحيح وفيه أربعة من التابعين بعضهم عن بعض، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. قال الشافعي: وهذا أصح شئ في هذا الباب. وهذا الحديث ناسخ للحديث الاول: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا ". وقال أحمد: إن شاء قام وإن شاء لم يقم، واحتج بان النبي صلى الله عليه وسلم قد روي عنه أنه قام ثم قعد. وهكذا قال إسحق بن إبراهيم. ووافق أحمد وإسحق ابن حبيب وابن الماجشون من المالكية. قال النووي: والمختار: إن القيام مستحب، وبه قال المتولي وصاحب المذهب.   (1) ثبت: حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 قال ابن حزم: ويستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء. وإن كانت جنازة كافر حتى توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج. استدل القائلون بالاستحباب بما رواه الجماعة عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع " ولاحمد: وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما. فقيل لهما: إنها من أهل الارض - أي من أهل الذمة - فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام. فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: " أو ليست نفسا ". وللبخاري عن أبي ليلى قال: كان ابن مسعود وقيس يقومان للجنازة. والحكمة في القيام، ما جاء في رواية أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا " إنما تقومون إعظاما للذي يقبض النفوس "، ولفظ ابن حبان " إعظاما لله تعالى الذي يقبض الارواح ". وجملة القول: إن العلماء اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من ذهب إلى القول بكراهة القيام للجنازة، ومنهم من ذهب إلى استحبابه، ومنهم من رأى التخيير بين الفعل والترك، ولكل حجته ودليله. والمكلف إزاء هذه الاراء له أن يتخير منها ما يطمئن له قلبه. والله أعلم. 5 - اتباع النساء لها: لحديث أم عطية قالت: نهينا أن نتبع الجنائز، ولم يعزم (1) علينا. رواه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه. وعن عبد الله ابن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة   (1) أي لم يوجب علينا. قال الحافظ في الفتح: " ولم يعزم علينا " أي لم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم. وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز، وهو قول أهل المدينة، ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، ورأى عمر امرأة فصاح بها، فقال: " دعها يا عمر.." الحديث: وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الازرق عن أبي هريرة. ورجاله ثقات. وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات. ا. هـ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 لا نظن أنه عرفها، فلما توجهنا إلى الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة رضي الله عنها. فقال: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ " قالت: أتيت أهل هذا البيت، فرحمت إليهم ميتهم، وعزيتهم. فقال: " لعلك بلغت معهم الكدى (1) ؟ " قالت: معاذ الله أن أكون قد بلغتها معهم وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر. قال: لو بلغتها ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " رواه أحمد والحاكم والنسائي والبيهقي، وقد طعن العلماء في هذا الحديث وقالوا إنه غير صحيح لان في سنده ربيعة بن سيف وهو ضعيف الحديث، عنده مناكير. وروى ابن ماجه والحاكم عن محمد بن الحنفية عن علي رضى الله عنه. قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلسكن؟ " قلن: ننتظر الجنازة قال: " هل تغلسن؟ " قلن: لا. قال: " هل تحملن؟ " قلن: لا. قال: " هل تدلين (2) فيمن يدلي؟ " قلن: لا. قال: " فارجعن مأزورات (3) غير مأجورات ". وفي إسناده دينار بن عمر، قال أبو حاتم: ليس بالمشهور. وقال الازدي: متروك. وقال الخليلي في الارشاد: كذاب. وهذا مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبو أمامة وعائشة ومسروق والحسن والنخعي والاوزاعي وإسحاق والحنفية والشافعية والحنابلة. وعند مالك: أنه لا يكره خروج عجوز لجنازة مطلقا، ولا خروج شابة في جنازة من عظمت مصيبته عليها بشرط أن تكون مستترة ولا يترتب على خروجها فتنة. ويرى ابن حزم أن ما استدل به الجمهور غير صحيح، وأنه يصح للنساء اتباع الجنازة. فيقول: ولا نكره اتباع النساء الجنازة، ولا نمنعهن من ذلك. جاءت في النهي عن ذلك آثار ليس شئ منها يصح، لانها إما مرسلة، وإما عن مجهول. وإما عمن لا يحتج به. ثم ذكر حديث أم عطية المتقدم وقال فيه: لو صح مسندا لم يكن فيه حجة، بل كان يكون كراهة فقط، بل قد صح خلافه كما روينا من طريق   (1) الكدى: القبور. (2) تنزلن الميت في القبر. (3) مأزورات: آثمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 شعبة: عن وكيع عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو ابن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عمر امرأة، فصاح بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها يا عمر. فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب (1) ". قال: وقد صح عن ابن عباس أنه لم يكره ذلك. ترك الجنازة من أجل المنكر : قال صاحب المغني: فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه، فإن قدر على إنكاره وإزالته أزاله، وإن لم يقدر على إزالته ففيه وجهان: أحدهما ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالانكارو لا يترك حقا لبالطل. والثاني يرجع لانه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك. الدفن : (1) حكمه: أجمع المسلمون على أن دفن الميت ومواراة بدنه فرض كفاية، قال الله تعالى: (ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا) . يرى جمهور العلماء أن الدفن بالليل كالدفن بالنهار سواء بسواء. فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر ليلا، ودفن علي فاطمة رضي الله عنها ليلا، وكذلك دفن أبو بكر وعثمان وعائشة وابن مسعود. وعن ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبرا ليلا فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال: " رحمك الله. إن كنت لاواها تلاء للقرآن " وكبر عليه أربعا. رواه الترمذي وقال: حديث حسن قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل. وإنما يجوز ذلك إذا كان لا يفوت بالدفن ليلا شئ من حقوق الميت   (1) إسناد هذا الحديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 والصلاة عليه. فإذا كان يفوت به حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام بأمره، فقد نهى الشارع عن الدفن بالليل وكرهه، روى مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك. وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا ". (3) الدفن وقت الطلوع والاستواء والغروب: اتفق العلماء على أنه إذا خيف تغير الميت فإنه يدفن في هذه الاوقات الثلاثة بدون كراهة. أما إذا لم يخش عليه من التغير، فإنه يجوز دفنه في هذه الاوقات عند الجمهور ما لم يتعمددفنه فيها فإنه حينئذ يكون مكروها، لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عقبة قال: " ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها أو نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف (1) الشمس للغروب حتى تغرب ". وقالت الحنابلة يكره الدفن في هذه الاوقات مطلقا للحديث المذكور. (4) استحباب إعماق القبر: القصد من الدفن أن يوارى الميت في حفرة تحجب رائحته، وتمنع السباع والطيور عنه، وعلى أي وجه تحقق هذا المقصود تأدى به الفرض وتم به الواجب، إلا أنه ينبغي تعميق القبر قدر قامة، لما رواه النسائي والترمذي وصححه عن هشام بن عامر. قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد " فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: " قدموا أكثرهم قرآنا " وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد..   (1) تضيف: تميل وتجنح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عمر أنه قال: أعمقوا إلى قدر قامة وبسطة. وعند أبي حنيفة وأحمد يعمق قدر نصف القامة. وإن زاد فحسن. (5) تفضيل اللحد على الشق: اللحد هو الشق في جانب القبر جهة القبلة، ينصب عليه اللبن (1) فيكون كالبيت المسقف. والشق حفرة في وسط القبر تبنى جوانبها باللبن يوضع فيه الميت ويسقف عليه بشئ، وكلاهما جائز، إلا أن اللحد أولى، لما رواه أحمد وابن ماجه عن أنس قال: " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد، وآخر يضرح، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيما سبق تركناه، فأرسلوا إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا له ". وهذا يدل على الجواز. أما ما يدل على أولوية اللحد، فما رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللحد لنا، والشق لغيرنا ". (6) صفة إدخال الميت القبر: من السنة في إدخال الميت القبران يدخل من مؤخره إذا تيسر، لما رواه أبو داود وابن أبي شيبة والبيهقي من حديث عبد الله بن زيد: أنه أدخل ميتا من قبل رجليه القبر وقال: هذا من السنة. فان لم يتسر فكيفما أمكن. قال ابن حزم: ويدخل الميت القبر كيف أمكن، إما من القبلة، وامامن دبر القبلة، واما من قبل رأسه. واما من قبل رجليه، إذ لانص في شئ من ذلك. (7) استحباب توجيه الميت في قبره الى القبلة والدعاء له وحل أربطة الكفن: السنة التي جرى عليها العلم، ان يجعل الميت في قبره على جنبه الايمن ووجهه تجاه القبلة. ويقول واضعه: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو وعلى سنة رسول الله " ويحل أربطة الكفن. فعن ابن عمر - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر، قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله، أو، وعلى سنة رسول الله " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه،   (1) اللبن: الطوب النئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 ورواه النسائي مسندا وموقوفا. (8) كراهة الثوب في القبر: كره جمهور الفقهاء وضع ثوب أو وسادة أو نحو ذلك للميت في القبر. ويرى ابن حزم أنه لا بأس ببسط ثوب في القبر تحت الميت، لما رواه مسلم عن ابن عباس، قال: بسط في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء، قال وقد ترك الله هذا العمل في دفن رسوله المعصوم من الناس ولم يمنع منه، وفعله خيرة أهل الارض في ذلك الوقت باجماع منهم، لم ينكره احد منهم. واستحب العلماء أن يوسد رأس الميت بلبنة أو حجر أو تراب، ويفضى بخده الايمن إلى اللبنة ونحوها، بعد ان ينحى الكفن عن خده، ويوضع على التراب، قال عمر: إذا انزلتموني الى اللحد فأفضوا بخدي الى التراب. واوصى الضحاك ان تحل عنه العقد ويبرز خده من الكفن، واستحبوا ان يوضع شئ خلفه من لبن أو تراب يسنده، لا يستلقى على قفاه. واستحب أبو حنيفة ومالك واحمد، أن يمد ثوب على المرأة عند إدخالها في القبر دون الرجل، واستحب الشافعية ذلك في الرجل والمرأة على السواء. (9) استحباب ثلاث حثيات على القبر: ويستحب أن يحثو من شهد الدفن ثلاث حثيات بيديه على القبر من جهة رأس الميت، لما رواه ابن ماجه: " ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا " واستحب الائمة الثلاثة أن يقول في الحثية الاولى: " منها خلقناكم " وفي الثانية: " وفيها نعيدكم " وفي الثالثة: " ومنها نخرجكم تارة أخرى " لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما وضعت أم كلثوم بنته في القبر. وقال أحمد: لا يطلب قراءة شئ عند حثو التراب لضعف الحديث. (10) استحباب الدعاء للميت بعد الفراغ من الدفن: يستحب الاستغفار للميت عند الفراغ من دفنه وسؤال التثبيت له، لانه يسأل في هذه الحالة. فعن عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: " استغفر والاخيكم وسلواله التثبيت فانه الآن يسأل " رواه أبو داود والحاكم وصححه، والبزار وقال: لا يروى عن النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وروى رزين عن علي: أنه كان إذا فرغ من دفن الميت قال: اللهم هذا عبدك نزل بك واتت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله. واستحب ابن عمر قراءة أول سورة البقرة وخاتمتها على القبر بعد الدفن. رواه البيهقي بسند حسن. (11) حكم التلقين بعد الدفن: استحب بعض أهل العلم والشافعي ان يلقن الميت (1) بعد الدفن، لما رواه سعيد بن منصور عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، وحكيم بن عمير (2) قالوا: إذا سوي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون ان يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لاإله إلا الله، أشهد ان لا إله إلا الله " ثلاث مرات " يا فلان قل: ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ينصرف. وقد ذكر هذا الاثر الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وروى الطبراني من حديث أبي أمامة أنه قال: " إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فانه يستوي قاعدا. ثم يقول: يا فلان بن فلانة. فانه يقول: ارشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، فان منكرا ونكيرا يأخذ كل واحد بيد صاحبه، ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته " فقال رجل: يا رسول الله فان لم يعرف أمه؟ قال: " ينسبه إلى أمه حواء: يا فلان ابن حواء ". قال الحافظ في التلخيص: واسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه. وفي إسناده عاصم بن عبد الله، وهو ضعيف. وقال الهيثمي بعد أن ساقه: في إسناده جماعة لم أعرفهم. قال النووي: هذا الحديث وان كان ضعيفا فيستأنس به، وقد اتفق علماء   (1) الميت: أي المكلف. أما الصغير فلا يلقن. (2) هؤلاء تابعيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد كحديث " واسألوا له التثبيت " ووصية عمرو بن العاص وهما صحيحان، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدى به والى الان. وذهبت المالكية في المشهور عنهم، وبعض الحنابلة الى ان التلقين مكروه. وقال الاثرم: قلت لاحمد: هذا الذي يصنعونه، إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة ... قال: ما رأيت أحدا يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة. يروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم: أنهم كانوا يفعلونه، وكان إسماعيل بن عياش يرويه، يشير إلى حديث أبي أمامة. السنة في بناء المقابر : من السنة ان يرفع القبر عن الارض قدر شبر، ليعرف أنه قبر، ويحرم رفعه زيادة على ذلك. لما رواه مسلم وغيره عن هرون: أن ثمامة بن شفى حدثه. قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم " برودس " فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وروي عن ابي الهياج الاسدي. قال: قال لي علي بن أبي طالب: الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته. قال الترمذي: " والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون ان يرفع القبر فوق الارض إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكيلا يوطأ ولا يجلس عليه ". وقد كان الولاة يهدمون ما بني في المقابر - مما زاد على المشروع - عملا بالسنة الصحيحة. قال الشافعي: " وأحب الا يزاد في القبر تراب من غيره، وإنما أحب ان يشخص على وجه الارض شبرا أو نحوه وأحب أن لايبنى ولايجصص، فان ذلك يشبه الزينة والخيلاء. وليس الموت موضع واحد منهما، ولم أر قبور المهاجرين والانصار مجصصة. وقد رأيت من الولاة من يهدم ما بني في المقابر، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك. " قال الشوكاني: والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم، وقد صرح بذلك اصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك، والقول بأنه غير محظور لوقوعه من السلف والخلف بلانكير - كما قال الامام يحيى والمهدي في الغيث - لا يصح، لان غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك والسكوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 لا يكون دليلا إذا كان في الامور الظنية، وتحريم رفع القبور ظن. ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا القباب والمشاهد المعمورة على القبور، وايضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك..وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها مفاسد يبكي لها الاسلام. منها اعتقاد الجهلة فيها كاعتقاد الكفار في الاصنام، وعظموا ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالاصنام إلا فعلوه. فانا لله وإنا إليه راجعون ... ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع، لاتجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لاعالما، ولا متعلما، ولا أميرا ولاوزيرا ولاملكا. وقد توارد إلينا من الاخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الادلة الدالة على ان شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين ويا ملوك الاسلام أي رزء للاسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟. لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد وقد أفتى العلماء بهدم المساجد والقباب التي بنيت على المقابر. قال ابن حجر في الزواجر (1) : وتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لانها أسست على معصية رسول الله   (1) كانت هذه الفتوى في عهد الملك الظاهر حين عزم على هدم كل ما في القرافة في البناء، فاتفق علماء عصره على أنه يجب على ولي الامر هدم ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 صلى الله عليه وسلم، لانه نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة. وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. تسنيم القبر وتسطيحه اتفق الفقهاء على جواز تسنيم القبر وتسطيحه. قال الطبري: لاأحب أن يتعدى في القبور أحد المعنيين من تسويتها بالارض، أو رفعها مسنمة قدر شبر على ما عليه عمل المسلمين، وتسوية القبور ليست بتسطيح. وقد اختلف الفقهاء في الافضل منها، فنقل القاضي عياض عن أكثر أهل العلم: ان الافضل تسنيمها، لان سفيان النمار حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما، رواه البخاري. وهذا رأي أبي حنيفة ومالك واحمد والمزني وكثير من الشافعية. وذهب الشافعي إلى أن التسطيح أفضل لامر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسوية. تعليم القبر بعلامة يجوز أن يوضع على القبر علامة، من حجرة أو خشب يعرف بها، لما رواه ابن ماجه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " أعلم قبر عثمان بن مظعون بصخرة " أي وضع عليه الصخرة ليتبين به. وفي الزوائد: هذا إسناد حسن رواه أبو داود من حديث المطلب بن أبي وداعة. وفيه: أنه حمل الصخرة فوضعها عند رأسه وقال: " أتعلم بها قبر أخي، وادفن إليه من مات من أهلي ". وفي الحديث استحباب جمع الموتى الاقارب في أماكن متجاورة لانه أيسر لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم. خلع النعال في المقابر ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا بأس بالمشي في المقابر بالنعال. قال جرير بن حازم: رأيت الحسن وابن سيرين يمشيان بين القبور بنعالهم. وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه اصحابه. إنه ليسمع قرع نعالهم " وقد استدل العلماء بهذا الحديث على جواز المشي في المقابر بالنعل: إذ لا يسمع قرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 النعل إلا إذا مشوا بها. وكره الامام أحمد المشي بالنعال السبتية (1) في المقابر، لما رواه أبو داودو النسائي وابن ماجه عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل يمشي في القبور عليه نعلان. فقال: " يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك " فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما. قال الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيه من الخيلاء، وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم. ثم قال: فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس اهل الخشوع. والكراهة عند أحمد عند عدم العذر. فإذا كان هناك عذر يمنع الماشي من الخلع كالشوكة أو النجاسة انتفت الكراهة. النهي عن ستر القبور لا يحل ستر الاضرحة، لما فيه من العبث وصرف المال في غير غرض شرعي، وتضليل العامة، روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزاة، فأخذت نمطا (2) فسترته على الباب، فلما قدم رأى النمط، فجذبه حتى هتكه، ثم قال: " إن الله لم يأمرنا ان نكسو الحجارة والطين ". تحريم المساجد والسرج على المقابر : جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بتحريم بناء المساجد في المقابر واتخاذ السرج عليها. 1 - روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 - روى أحمد واصحاب السنن إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. 3 - وفي صحيح مسلم عن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون   (1) السبتية: أي النعال المدبوغة بالقرظ. (2) " النمط " ضرب من البسط له خمل رقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 لي منكم خليل، فان الله عز وجل قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك. " 4 - وفيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". 5 - وروى البخاري ومسلم عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة - رأتاها بالحبشة فيها تصاوير - لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ". قال صاحب المغني: ولايجوز اتخاذ المساجد على القبور لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن المساجد والسرج " رواه أبو داود والنسائي ولفظه: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الخ " ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولان فيه تضييعا للمال في غير فائدة وافراطا في تعظيم القبور اشبه تعظيم الاصنام، ولايجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر مثل ما صنعوا. متفق عليه. وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يتخذ مسجدا، ولان تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الاصنام لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الاصنام تعظيم الاموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عليها (1) .   (1) قال معلقه: يشير إلى ما رواه البخاري عن ابن عباس من سبب اتخاذ قوم نوح للاصنام: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وحاصله أن هذه أسماء رجال صالحين اتخذ الناس لهم صورا بعد موتهم ليتذكروا بها فيقتدوابهم، فلما ذهب العلم زين لهم الشيطان عبادة صورهم وتماثيلهم بتعظيمها والتمسح بها والتقرب إليها، ومسحها: إمرار اليد عليها تبركا وتوسلا بها، وكذلك فعل الناس بقبور الصالحين، وسرى ذلك من الوثنيين إلى أهل الكتاب فالمسلمين، فالاصنام في ذلك سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 كراهية الذبح عند القبر نهى الشارع عن الذبح عند القبر تجنبا لما كانت تفعله الجاهلية، وبعدا عن التفاخر والمباهاة. فقد روى أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعقر في الاسلام " قال عبد الرزاق: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الابل على قبر الرجل الجواد، يقولون: نجازيه على فعله، لانه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الاضياف، فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير: فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته قال الشاعر: عقرت على قبر النجاشي ناقتي بأبيض عضب أخلصته صياقله على قبر من لو أنني مت قبله لهانت عليه عند قبري رواحله ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه حشر راجلا، وكان على مذهب من يرى البعث منهم بعد الموت. النهي عن الجلوس على القبر والاستناد إليه والمشي عليه : لا يحل القعود على القبر ولا الاستناد إليه، ولا المشي عليه، لما رواه عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكثا على قبر. فقال: " لا تؤذ صاحب هذا القبر. " أو " لاتؤذه "، رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر. " رواه أحمد، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والقول بالحرمة مذهب ابن حزم، لما ورد فيه من الوعيد، قال: وهو قول جماعة من السلف، منهم أبو هريرة. ومذهب الجمهور: أن ذلك مكروه. قال النووي: عبارة الشافعي في الام، وجمهور الاصحاب في الطرق كلها: أنه يكره الجلوس، وأرادوا به كراهة التنزيه، كما هو المشهور في استعمال الفقهاء، وصرح به كثير منهم، قال: وبه قال جمهور العلماء منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 النخعي والليث وأحمد وداود، قال: ومثله في الكراهة الاتكاء عليه والاستناد إليه. وذهب ابن عمر من الصحابة وأبو حنيفة ومالك إلى جواز القعود على القبر. قال في الموطأ: إنما نهى عن القعود على القبور فيما نرى " نظن " للذاهب يقصد لقضاء حاجة الانسان من البول أو الغائط. وذكر في ذلك حديثا ضعيفا. وضعف أحمد هذا التأويل. وقال: ليس هذا بشئ. وقال النووي: هذا تأويل ضعيف أو باطل، وأبطله كذلك ابن حزم من عدة وجوه. وهذا الخلاف في غير الجلو س لقضاء الحاجة، فاما إذا كان الجلوس لها، فقد اتفق الفقهاء على حرمته، كما اتفقوا على جواز المشي على القبور إذا كان هناك ضرورة تدعو إليه، كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بذلك. النهي عن تجصيص القبر والكتابة عليه : عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه. رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. ولفظه: " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها وأن يبني عليها وأن توطأ (1) " وفي لفظ النسائي: " أن يبني على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه ". والتجصيص معناه الطلاء بالجص، وهو الجير المعروف. وقد حمل الجمهور النهي على الكراهة، وحمله ابن حزم على التحريم، وقيل: الحكمة في ذلك إن القبر للبلى لا للبقاء، وإن تجصيصه من زينة الدنيا، ولا حاجة للميت إليها. وذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجص أحرق بالنار، ويؤيده ما جاء عن زيد بن أرقم أنه قال لمن أراد أن يبني قبر ابنه ويجصصه: جفوت ولغوت، لا يقربه شئ مسته النار. ولا بأس بتطيين القبر. قال الترمذي: وقد رخص بعض أهل العلم - منهم الحسن البصري - في تطيين القبور. وقال الشافعي: لا بأس به أن يطين القبر.   (1) توطأ: تداس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وعن جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره من الارض شبرا وطين بطين أحمر من العرصة وجعل عليه الحصباء. رواه أبو بكر النجاد وسكت الحافظ عليه في التلخيص. وكما كره العلماء تجصيص القبر، كرهوا بناءه بالآجر أو الخشب أو دفن الميت في تابوت إذا لم تكن الارض رخوة أو ندية، فإن كانت كذلك جاز بناء القبر بالآجر ونحوه وجاز دفن الميت في تابوت من غير كراهة. فعن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الآجر، ويستحبون القصب ويكرهون الخشب. وفي الحديث النهي عن الكتابة على القبور، وظاهره عدم الفرق بين كتابة اسم الميت على القبر وغيرها. قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث: الاسناد صحيح وليس العمل عليه. فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم، وهو شئ أخذه الخلف عن السلف. وتعقبه الذهبي: بأنه محدث ولم يبلغهم النهي. ومذهب الحنابلة: أن النهي عن الكتابة الكراهة سواء أكانت قرآنا، أم كانت اسم الميت. ووافقهم الشافعية إلا أنهم قالوا: إذا كان القبر لعالم أو صالح ندب كتابة اسمه عليه وما يميزه ليعرف. ويرى المالكية: أن الكتابة إن كانت قرآنا حرمت. وإن كانت لبيان اسمه أو تاريخ موته فهي مكروهة وقالت الاحناف: إنه يكره تحريما الكتابة على القبر إلا إذا خيف ذهاب أثره فلا يكره. وقال ابن حزم: لو نقش اسمه في حجر لم نكره ذلك. وفي الحديث: النهي عن زيادة تراب القبر على ما يخرج منه، وقد بوب على هذه الزيادة البيهقي فقال: " باب لا يزاد على القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع ". قال الشوكاني: وظاهره أن المراد بالزيادة عليه، الزيادة على ترابه. وقيل: المراد بالزيادة عليه أن يقبر على قبر ميت آخر. ورجح الشافعي المعنى الاول فقال: يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه. وإنما استحب ذلك لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا قال: فإن زاد فلا بأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 دفن أكثر من واحد في قبر : هدي السلف الذي جرى عليه العمل أن يدفن كل واحد في قبر، فإن دفن أكثر من واحد كره ذلك إلا إذا تعسر إفراد كل ميت بقبر لكثرة الموتى وقلة الدافنين أو ضعفهم. فإنه في هذه الحالة يجوز دفن أكثر من واحد في قبر واحد. لما رواه أحمد والترمذي وصححه: أن الانصار جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فقالوا: يا رسول الله أصابنا جرح وجهد. فكيف تأمرنا؟ فقال: " احفروا وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر. " قالوا: فأيهم نقدم؟ قال: " أكثرهم قرآنا ". وروى عبد الرزاق بسند حسن عن واثلة بن الاسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل وتجعل المرأة وراءه. الميت في البحر : قال في المغني: إذا مات في سفينة في البحر، فقال أحمد رحمه الله: ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعا يدفنونه فيه حبسوه يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد. فإن لم يجدوا غسل، وكفن، وحنط، ويصلى عليه، ويثقل بشئ ويلقى في الماء. وهذا قول عطاء والحسن. قال الحسن: يترك في زنبيل. ويلقى في البحر. وقال الشافعي: يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل، فربما وقع إلى قوم يدفنونه، وإن ألقوه في البحر لم يأثموا، والاول أولى، لانه يحصل به الستر المقصود من دفنه، وإلقاؤه بين لوحين تعريض له للتغير والهتك. وربما بقي على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قوم من المشركين، فكان ما ذكرناه أولى. وضع الجريدة على القبر لايشرع وضع الجريد ولا الزهور فوق القبر، وأما ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " فقد أجاب عنه الخطابي بقوله: وأما غرسه شق العسيب على القبر، وقوله: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس. والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه وجه. وما قاله الخطابي صحيح، وهذا هو الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه وضع جريدا ولا أزهارا على قبر سوى بريدة الاسلمي، فإنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان. رواه البخاري. ويبعد أن يكون وضع الجريد مشروعا ويخفى على جميع الصحابة ما عدا بريدة. قال الحافظ في الفتح: وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصا بذينك الرجلين. قال ابن رشيد: ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما، فلذلك عقبه بقول ابن عمر حين رأى فسطاطا على قبر عبد الرحمن: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله. وفي كلام ابن عمر ما يشعر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر، بل التأثير للعمل الصالح. المرأة تموت وفي بطنها جنين حي : إذا ماتت المرأة وفي بطنها جنين حي وجب شق بطنها لاخراج الجنين إذا كانت حياته مرجوة، ويعرف ذلك بواسطة الاطباء الثقات. المرأة الكتابية تموت وهي حامل من مسلم تدفن وحدها : روى البيهقي عن واثلة بن الاسقع: أنه دفن امرأة نصرانية في بطنها ولد مسلم في مقبرة ليست بمقبرة النصارى ولا المسلمين، واختار هذا الامام أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 لانها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين، فيتأذوا بعذابها، ولافي مقبرة الكفار لان ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم. تفضيل الدفن في المقابر : قال ابن قدامة: والدفن في مقابر المسلمين أحب إلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت، لانه أقل ضررا على الاحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الاخرة وأكثر للدعاء له والترحم عليه، ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحارى. فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم قبر في بيته، وقبر صاحباه معه. قلنا: قالت عائشة: إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجدا. رواه البخاري. ولان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع، وفعله أولى من فعل غيره، وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك. ولانه روى " يدفن الانبياء حيث يموتون " وصيانة له عن كثرة الطراق، وتمييزا له عن غيره. وسئل أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره؟ قال يدفن في المقابر مع المسلمين. النهي عن سب الأموات : لا يحل سب أموات المسلمين ولاذكر مساويهم، لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لاتسبوا الاموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " وروى أبو داود والترمذي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم "، أما المسلمون المعلنون بفسق أو بدعة، أو عمل فاسد فإنه يباح ذكر مساويهم إذا كان فيه مصلحة تدعو إليه، كالتحذير من حالهم والتنفير من قولهم وترك الاقتداء بهم، وإن لم تكن فيه مصلحة فلا يجوز. وقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: " مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وجبت. " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: " وجبت "، فقال عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: " هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الارض ". ويجوز سب أموات الكفار ولعنهم. قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ... " وقال: " تبت يدا أبي لهب وتب) ولعن فرعون وأمثاله، وسبه مشهور في كتاب الله. وفيه: (ألا لعنة الله على الظالمين) . قراءة القرآن عند القبر : اختلف الفقهاء في حكم قراءة القرآن عند القبر، فذهب إلى استحبابها الشافعي ومحمد بن الحسن لتحصيل للميت بركة المجاورة، ووافقهما القاضي عياض والقرافي من المالكية، ويرى أحمد: أنه لا بأس بها. وكرهها مالك وأبو حنيفة لانها لم ترد بها السنة. نبش القبر : اتفق العلماء على أن الموضع الذي يدفن المسلم فيه وقف عليه ما بقي شئ منه من لحم أو عظم، فإن بقي شئ منه فالحرمة باقية لجميعه، فإن بلي وصار ترابا جار الدفن في موضعه وجاز الانتفاع بأرضه في الغرس والزرع والبناء وسائر وجوه الانتفاع به، ولو حفر القبر فوجد فيه عظام الميت باقية لايتم الحافر حفره. ولو فرغ من الحفر، وظهر شئ من العظم جعل في جنب القبر وجاز دفن غيره معه. ومن دفن من غير أن يصلى عليه أخرج من القبر - إن كان لم يهل عليه التراب - وصلي عليه، ثم أعيد دفنه. وإن كان أهيل عليه التراب حرم نبش قبره وإخراجه منه عند الاحناف والشافعية ورواية عن أحمد، وصلي عليه وهو في القبر، وفي رواية عن أحمد أنه ينبش، ويصلى عليه. وجوز الائمة الثلاثة نبش القبر لغرض صحيح مثل إخراج مال ترك في القبر، وتوجيه من دفن إلى غير القبلة إليها، وتغسيل من دفن بغير غسل، وتحسين الكفن، إلا أن يخشى عليه أن يتفسخ فيترك. وخالف الاحناف في النبش من أجل هذه الامور واعتبروه مثلة، والمثلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 منهى عنها. قال ابن قدامة: إنما هو مثلة في حق من تغير وهولا ينبش. قال: وإن دفن بغير كفن ففيه وجهان: أحدهما يترك، لان القصد بالكفن ستره وقد حصل ستره بالتراب، والثاني ينبش ويكفن، لان التكفين واجب، فأشبه الغسل. قال أحمد: إذا نسي الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها. وقال في الشئ يسقط في القبر - مثل الفأس والدراهم - ينبش. قال: إذا كان له قيمة - يعني ينبش - قيل: فإن أعطاه أولياء الميت؟ قال: إن أعطوه حقه أي شئ يريد. وقد ورد في ذلك ما رواه البخاري عن جابر. قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في حفرته فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصا، وروى عنه أيضا. قال: دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته (1) فجعلته في قبر على حدة. وقد بوب البخاري لهذين الحديثين. فقال: " باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ ". وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك: أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه، فابتدره الناس، فاستخرجوا الغصن ". قال الخطابي: فيه دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا كان فيه أرب أو نفع للمسلمين. وأنه ليست حرمتهم في ذلك كحرمة المسلمين. نقل الميت : يحرم عند الشافعية نقل الميت من بلد إلى بلد إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فإنه يجوز النقل إلى إحدى هذه البلاد لشرفها وفضلها.   (1) كان إخراجه له بعد مضي ستة أشهر على وفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ولو أوصى بنقله إلى غير هذه الاماكن الفاضلة لا تنفذ وصيته لما في ذلك من تأخير دفنه وتعرضه للتغير. ويحرم كذلك نقله من القبر إلا لغرض صحيح، كأن دفن من غير غسل، أو إلى غير القبلة، أو لحق القبر سيل أو ندوة. قال في المنهاج: ونبشه بعد دفنه للنقل وغيره حرام إلا لضرورة، كأن دفن بلا غسل أو في أرض، أو ثوب مغصوبين، أو وقع مال، أو دفن لغير القبلة. وعند المالكية: يجوز نقله من مكان إلى مكان آخر، قبل الدفن وبعده لمصلحة، كأن يخاف عليه أن يغرقه البحر أو يأكله السبع، أو لزيارة أهله له، أو لدفنه بينهم، أو رجاء بركته للمكان المنقول إليه ونحو ذلك. فالنقل حينئذ جائز ما لم تنتهك حرمة الميت بانفجاره أو تغيره أو كسر عظمه. وعند الاحناف: يكره النقل من بلد إلى بلد، ويستحب أن يدفن كل في مقبرة البلد التي مات بها، ولا بأس بنقله قبل الدفن نحو ميل أو ميلين لان المسافة إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار، ويحرم النقل بعد الدفن إلا لعذر كما تقدم. ولو مات ابن لامرأة ودفن في غير بلدها وهي غائبة ولم تصبر، وأرادت نقله، لاتجاب إلى ذلك. وقالت الحنابلة: يستحب دفن الشهيد حيث قتل. قال أحمد: أما القتلى، فعلى حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ادفنوا القتلى في مصارعهم " وروى ابن ماجه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم. فأما غيرهم فلا ينقل الميت من بلد إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح، وهذا مذهب الاوزاعي وابن المنذر. قال عبد الله بن ملكيه: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبش فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره. ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك. لان ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغير، فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز. قال أحمد: ما أعلم بنقل الرجل يموت في بلده إلى بلد أخرى بأسا. وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: قد حمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 التعزية : العزاء: الصبر. والتعزية التصبير والحمل على الصبر بذكر ما يسلي المصاب ويخفف حزنه ويهون عليه مصيبته. حكمها: التعزية مستحبة ولو كان ذميا، لما رواه ابن ماجه والبيهقي بسند حسن عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة " وهي لا تستحب إلا مرة واحدة. وينبغي أن تكون التعزية لجميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال والنساء (1) . سواء أكان ذلك قبل الدفن أم بعده، إلى ثلاثة أيام، إلا إذا كان المعزي أو المعزى غائبا، فلا بأس بالتعزية بعد الثلاث. ألفاظها: والتعزية تؤدى بأي لفظ يخفف المصيبة ويحمل الصبر والسلوان، فإن اقتصر على اللفظ الوارد كان أفضل. روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما. قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه إن ابنا لي قبض فأتنا. فأرسل يقرئ السلام ويقول: " إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شئ عنده بأجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب (2) " وروى الطبراني والحاكم وابن مردويه بسند فيه رجل ضعيف عن معاذ   (1) استثنى العلماء الشابة الفاتنة. فقالوا: لامعز بها الا محارمها. (2) قال النووي: هذا الحديث من أعظم قواعد الاسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه وآدابه والصبر على النوازل كلها والهموم والاسقام، وغير ذلك من الاعراض. ومعنى أن لله تعالى ما أخذ: أن العالم كله ملك لله تعالى، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العارية. ومعنى له ما أعطى، أن ما وهبه لكم ليس خارجا عن ملكه، بل هو له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، وكل شئ عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا، فان من قبضه قد انقضى أجله المسمى، فمحال تأخره أو تقدمه، فإذا علمتم هذا كله، فاصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 ابن جبل رضي الله عنه، أنه مات ابن له فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزيه بابنه، فكتب إليه: " بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فأعظم الله لك الاجر وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر فإن أنفسنا وأموالنا وأهلنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه منك بأجر كثير، الصلاة والرحمة والهدى، إن احتسبته فاصبر، ولا يحبط جزعك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا، ولا يدفع حزنا، وما هو نازل فكأن قد (1) . والسلام ". وروى الشافعي في مسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده. قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. وإسناده ضعيف. قال العلماء فإن عزى مسلما بمسلم قال: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وإن عزى مسلما بكافر قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك. وإن عزى كافرا بمسلم قال: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك. وإن عزى كافرا بكافر قال: أخلف الله عليك. وأما جواب التعزية فيؤمن المعزى ويقول للمعزي: آجرك الله. وعند أحمد إن شاء صافح المعزي وإن شاء لم يصافح، وإذا رأى الرجل شق ثوبه على المصيبة عزاه ولا يترك حقا لباطل. وإن نهاه فحسن. الجلوس لها : السنة أن يعزى أهل الميت وأقاربه ثم ينصرف كل في حوائجه دون أن يجلس أحد سواء أكان معزى أو معزيا. وهذا هو هدي السلف الصالح. قال الشافعي في الام: أكره الماتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء، فإن ذلك   (1) هذه رواية ضعيفة لا تثبت فان ابن معاذ مات بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. " فكأن قد " أي فكأن قد وقع ما هو نازل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الاثر. قال النووي: قال الشافعي وأصحابه رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية. قالوا: ويعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم. ولافرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها. صرح به المحاملي ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه. وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة - كما هو الغالب منها في العادة - كان ذلك حراما من قبائح المحرمات، فإنه محدث وثبت في الحديث الصحيح " أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ". وذهب أحمد وكثير من علماء الاحناف إلى هذا الرأي. وذهب المتقدمون من الاحناف إلى أنه لا بأس بالجلوس في غير المسجد ثلاثة أيام للتعزية، من غير ارتكاب محظور. وما يفعله بعض الناس اليوم من الاجتماع للتعزية، وإقامة السرادقات، وفرش البسط، وصرف الاموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة من الامور المحدثة والبدع المنكرة التي يجب على المسلمين اجتنابها، ويحرم عليهم فعلها، لاسيما وأنه يقع فيها كثير مما يخالف هدي الكتاب ويناقض تعاليم السنة، ويسير وفق عادات الجاهلية، كالتغني بالقرآن وعدم التزام آداب التلاوة، وترك الانصات والتشاغل عنه بشرب الدخان وغيره. ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل تجاوزه عند كثير من ذوي الاهواء فلم يكتفوا بالايام الاول: جعلوا يوم الاربعين يوم تجدد لهذه المنكرات وإعادة لهذه البدع. وجعلوا ذكرى أولى بمناسبة مرور عام على الوفاة وذكرى ثانية، وهكذا مما لا يتفق مع عقل ولانقل. زيارة القبور زيارة القبور مستحبة للرجال. لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها. فإنها تذكركم الاخرة " وكان النهي ابتداء لقرب عهدهم بالجاهلية، وفي الوقت الذي لم يكونوا يتورعون فيه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 هجر الكلام وفحشه، فلما دخلوا في الاسلام واطمأنوا به وعرفوا أحكامه، أذن لهم الشارع بزيارتها: وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " استأذنت ربي أن استغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي. فزوروها، فإنها تذكر الموت " رواه احمد ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي. ولما كان المقصود من الزيارة التذكر والاعتبار، جاز زيارة قبور الكفرة لهذا المعنى نفسه، فإن كانوا ظالمين وأخذهم الله بظلمهم، استحب البكاء واظهار الافتقار إلى الله عند المرور بقبورهم وبمصارعهم، لما رواه البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه - يعني لما وصلوا الحجر - ديار لثمود - " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ". صفة الزيارة : إذا وصل الزائر إلى القبر استقبل وجه الميت وسلم عليه ودعا له، وقد جاء في ذلك: 1 - عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: " السلام عليكم أهل (1) الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم فرطنا ونحن لكم تبع، ونسأل الله لنما ولكم العافية. " رواه احمد ومسلم وغيرهما. 2 - وعن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: " السلام عليكم يا أهل القبور. يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالاثر " رواه الترمذي. 3 - وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها، يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم   (1) " أهل " منصوب على الاختصاص أو النداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد " رواه مسلم. 4 - وروى عنها قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ". وأما ما يفعله بعض من لاعلم لهم، من التمسح بالاضرحة وتقبيلها والطواف حولها، فهو من البدع المنكرة، التي يجب اجتنابها ويحرم فعلها، فإن ذلك بالكعبة زادها الله شرفا. ولا يقاس عليها قبر نبي ولا ضريح ولي والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع. قال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار القبور يزورها للدعاء لاهلها والترحم عليهم والاستغفار لهم. فأبى المشركون إلا دعاء الميت والاقسام على الله به وسؤاله الحوائج والاستعانة به، والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام إما أن يدعوا للميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبين له الفرق بين الامرين. زيارة النساء : رخص مالك وبعض الاحناف ورواية عن أحمد وأكثر العلماء، في زيارة النساء للقبور، لحديث عائشة: كيف أقول لهم يارسول الله - أي عند زيارتها للقبور -. وقد تقدم عن عبد الله بن أبي مليكة، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت نعم. كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها. رواه الحاكم والبيهقي وقال: تفرد به بسطام بن مسلم البصري. وقال الذهبي: صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وفي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها، فقال لها: " اتقي الله، واصبري "، فقالت: وما تبالي بمصيبتي. فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يارسول الله، لم أعرفك. فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الاولى. " ووجهة الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها عند القبر فلم ينكر عليها ذلك. ولان الزيارة من أجل التذكير بالاخرة، وهو أمر يشترك فيه الرجال والنساء، وليس الرجال بأحوج إليه منهن. وكره قوم الزيارة لهن لقلة صبرهن وكثرة جزعهن، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زوارات القبور " رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. قال القرطبي: اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة. ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج. وما ينشأ من الصياح، ونحو ذلك. وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الاذن لهن، لان تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. قال الشوكاني - تعليقا على كلام القرطبي -: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر. الأعمال التي تنفع الميت وهل يجوز إهداء الثواب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ من المتفق عليه: أن الميت ينتفع بما كان سببا فيه من أعمال البر في حياته، لما رواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " وروى ابن ماجه عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه. أو مسجدا بناه، أو بيتا بناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لابن السبيل أو نهرا أكراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلخه من بعد موته. " وروى مسلم عن جرير بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم، ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من يعمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ " أما ما ينتفع به من أعمال البر الصادرة عن غيره فبيانها فيما يلي: 1 - الدعاء والاستغفار له، وهذا مجمع عليه لقول الله تعالى: (والذين جاؤا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) ، وتقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " وحفظ من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغفر لحينا وميتنا " ولا زال السلف والخلف يدعون للاموات ويسألون لهم الرحمة والغفران دون إنكار من أحد. 2 - الصدقة: وقد حكى النووي الاجماع على أنها تقع عن الميت ويصله ثوابها سواء كانت من ولد أو غيره، لما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: " نعم ". وعن الحسن عن سعد بن عبادة أن امه ماتت. فقال: يارسول الله: إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: " نعم ". قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: " سقي الماء " قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة. رواه أحمد والنسائي وغيرهما. ولا يشرع إخراجها عند المقابر، ويكره إخراجها مع الجنازة. 3 - الصوم: لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها "؟ قال: نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى ". 4 - الحج: لما رواه البخاري عن ابن عباس: أن امرأة من جهينة جاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: " حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا فالله أحق بالقضاء ". 5 - الصلاة: لما رواه الدارقطني أن رجلا قال: يارسول الله، إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك ". 6 - قراءة القرآن: وهذا رأي الجمهور من أهل السنة. قال النووي: المشهور من مذهب الشافعي: أنه لا يصل. وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل. فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل مثل ثواب ما قرأته إلى فلان. وفي المغني لابن قدامة: قال أحمد بن حنبل، الميت يصل إليه كل شئ من الخير، للنصوص الواردة فيه، ولان المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعا. والقائلون بوصول ثواب القراءة إلى الميت، يشترطون أن لا يأخذ القارئ على قراءته أجرا. فإن أخذ القارئ أجرا على قراءته حرم على المعطي والاخذ ولا ثواب له على قراءته، لما رواه أحمد والطبراني والبيهقي عن عبد الرحمن ابن شبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اقرءوا القرآن، واعملوا ... ولا تجفوا عنه ولا تغفلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ". قال ابن القيم: والعبادات قسمان: مالية وبدنية، وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالانواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار. اشتراط النية ولابد من نية الفعل على الميت. قال ابن عقيل: إذا فعل طاعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 صلاة صيام وقراءة قرآن وأهداها، بأن جعل ثوابها للميت المسلم، فإنه يصل إليه ذلك وينفعه، بشرط أن تتقدم نية الهدية على الطاعة وتقارنها. ورجح هذا ابن القيم. أفضل ما يهدى للميت : قال ابن القيم: قيل الافضل ما كان أنفع في أنفسه، فالعتق عنه، والصدقة أفضل من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصدقة سقي الماء " وهذا في موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش، وإلا فسقي الماء على الانهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة، وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة، والوقوف للدعاء على قبره. وبالجملة: فأفضل ما يهدى إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه. اهداء الثواب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن القيم: قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شئ لانه الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدي فله من الاجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم، وكل هدي وعلم، فإنما نالته أمته على يده، فله مثل أجر من اتبعه، أهداه إليه أو لم يهده. أولاد المسلمين وأولاد المشركين : من مات من أولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم فهو في الجنة، لما رواه البخاري عن عدي بن ثابت: أنه سمع البراء رضي الله عنه قال: لما توفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ابراهيم عليه السلام (1) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له مرضعا في الجنة " قال الحافظ في الفتح: وإيراد البخاري له في هذا الباب، يشعر باختيار القول: " إلى أنهم في الجنة ". وروى عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ". ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن من يكون سببا في دخول الجنة أولى، بأن يدخلها هو، لانه أصل الرحمة وسببها. وأما أولاد المشركين فهم مثل أولاد المسلمين، في دخولهم الجنة. قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلان لا يعذب غير العاقل من باب أولى. ولما رواه أحمد عن خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة " قال الحافظ: إسناده حسن. سؤال القبر اتفق أهل السنة والجماعة على أن كل إنسان يسأل بعد موته، قبر أم لم يقبر، فلو أكلته السباع أو احرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو غرق في البحر لسئل عن أعماله، وجوزي بالخير خيرا وبالشر شرا، وأن النعيم أو العذاب على النفس والبدن معا. قال ابن القيم: مذهب سلف الامة وائمتها ان الميت إذا مات، يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن، منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الارواح إلى الاجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعاد الابدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.   (1) ابن النبي عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 وقال المروزي: قال أبو عبد الله يعني الامام أحمد -: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل. وقال حنبل: قلت لابي عبد الله في عذاب القبر. فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، وكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به، فإنا إذا لم نقر بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) . قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق. يعذبون في القبور. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر، وبمنكر ونكير، وأن العبد يسأل في قبره: ف (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) في القبر. وقال أحمد بن القاسم: قلت: يا أبا عبد الله، تقر بمنكر ونكير، وما يروى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله ... نعم نقر بذلك ونقوله. قلت هذه اللفظة تقول: منكر ونكير هكذا. أو تقول: ملكين؟ قال منكر ونكير. قلت: يقولون: ليس في حديث منكر ونكير. قال: هو هكذا يعني أنهما منكر ونكير. قال الحافظ في الفتح: وذهب أحمد بن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط، من غير عود إلى الجسد. وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه. لان الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال. كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه. والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط، أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه، من إقعاد ولاغيره ولاضيق في قبره ولاسعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب. وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة: بل له نظير في العادة. وهو النائم. فإنه يجد لذة، وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه، ولا يدرك ذلك جليسه وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله. والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 عن مشاهدة ذلك وستره عنهم، إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله. وقد ثبتت الاحاديث بما ذهب إليه الجمهور، كقوله: " إنه ليسمع خفق نعالهم " وقوله: " تختلف أضلاعه لضمة القبر، وقوله: " يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق " وقوله: " يضرب بين أذنيه " وقوله: " فيقعدانه " وكل ذلك من صفات الاجساد ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك من الاحاديث الصحيحة: 1 - روى مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط (1) لبني النجار على بغلته ونحن معه إذ حادت (2) به فكادت تلقيه فإذا قبر ستة، أو خمسة، أو أربعة، فقال: " من يعرف أصحاب هذه القبور؟ " فقال رجل: أنا. قال: " فمتى مات هؤلاء "؟ قال: ماتوا في الاشراط. فقال: " ان هذه الامة تبتلى في قبورها. فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه " ثم أقبل علينا بوجهه. فقال: " تعوذوا بالله من عذاب النار. " قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، قال: " تعوذوا بالله من عذاب القبر ". قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ". قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: " تعوذوا بالله من فتنة الدجال. " قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. 2 - وروى البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاد ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ - لمحمد - فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال: فيقولان: أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا. وأما الكافر، والمنافق، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقولان. لادريت ولاتليت (3) ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة فيسمعها فيسمعها من يليه، غير الثقلين. "   (1) " الحائط ": البستان. (2) " حادت ": مالت. (3) لادريت ولاتليت: دعاء عليه: أي لا كنت داريا ولا تاليا، أو إخبار بحاله فانه لم يكن قد علم بنفسه ولا سأل غيره من العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 3 - وروى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " المسلم إذا سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قول الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) وفي لفظ: نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك؟ فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، فذلك قول الله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) ". 4 - وفي مسند الامام أحمد وصحيح أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه. فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف والاحسان، عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يسارد، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل. ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والاحسان: ما قبلي مدخل فيقال له: اجلس فيجلس، قد مثلت له الشمس وقد أخذت للغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولان: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه؟ أرأيتك (1) هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب إلى الجنة. فيقال له: هذا مقعدك وما أعد الله لك فيها. فيزداد غبطة وسرورا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل نسمته (2) في النسيم الطيب، وهي طير معلق في شجر الجنة، قال: فذلك قول الله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة) . وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن   (1) أرأيتك: أخبرنا. (2) نسمته: روحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 قال: " ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: (فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) ". 5 - وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: " من رأى منكم الليلة رؤيا؟ " قال: فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول: " ما شاء الله " فسألنا يوما، فقال: " هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " قلنا: لا. قال: " لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الارض المقدسة، فإذا رجل جالس. ورجل قائم بيده كلوب من حديد، يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بصخرة أو فهر (1) فيشدخ بها رأسه. فإذا ضربه تدهده (2) الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه. قلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع، يوقد تحته نار. فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا فإذا خمدت رجعوا. فقلت: ماهذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فرجع كما كان. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها. فيها شيوخ وشبان، ثم صعداني، فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت؟ قالا: نعم، الذي رأيته يشق شدقه كذاب يحدث بالكذبة. فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة. وأما الذي رأيته في النقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر فآكل الربا،   (1) الفهر: حجر ملء الكف. (2) " تدهده " تدحرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم، وأما الصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار، فمالك خازن النار، والدار الاولى دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل، فارفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا قصر مثل السحابة، قالا: ذلك منزلك، قلت دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك " قال ابن القيم: وهذا نص في عذاب البرزخ، فإن رؤيا الانبياء وحي مطابق لما في نفس الامر. 6 - وروى الطحاوي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلا قبره عليه نارا فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره ". 7 - وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوتا من قبر، فقال: " متى مات هذا؟ " فقالوا: مات في الجاهلية فسر بذلك وقال: " لولا أن لاتدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر " رواه النسائي ومسلم. 8 - وعن ابن عمر رضي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذا الذي تحرك له العرش (1) وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة (2) ، ثم فرج عنه " رواه البخاري ومسلم والنسائي. مستقر الارواح عقد ابن القيم فصلا ذكر فيه أقوال العلماء في مستقر الارواح ثم ذكر القول الراجح فقال: قيل: الارواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم التفاوت. فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملا الاعلى، وهي أرواح الانبياء   (1) هو سعد بن معاذ (2) ضمه القبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء. ومنها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (1) . وهي أرواح بعض الشهداء لاجميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: " الجنة " فلما ولى، قال: " إلا الدين، سارني به جبريل آنفا. " ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة، كما في الحديث الاخر: " رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة. " ومنهم من يكون محبوسا في قبره كحديث صاحب الشملة التي غلها (2) ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره ". ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا " رواه أحمد وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب، حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما، في الجنة حيث شاء. ومنهم من يكون محبوسا في الارض، لم تعل روحه إلى الملا الاعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية، فإن الانفس الارضية لا تجامع الانفس السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والانس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، ولا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره، والتقرب إليه، والانس به، تكون بعد المفارقة مع الارواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد ويجعل روحه " يعني المؤمن "   (1) هذا نص الحديث. (2) " غلها " أي سرقها من الغنيمة قبل القسمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 مع القسم الطيب " يعني الارواح الطيبة المشاكلة لروحه " فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك. ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم، تسبح فيه، وتلقم الحجارة، فليس للارواح - سعيدها وشقيها - مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الارض. وأنت إذا تأملت السنن والاثار في هذا الباب، وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الاثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا، فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شئ حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا، وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض، ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والالم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والانطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال البدن في بطن أمه! وحالتها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار، فلهذه الانفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها. الدار الاولى: في بطن الام، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث. والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة. والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الاولى. والدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة والنار فلا دار بعدهما. والله ينقلها في هذه الدور طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل لها إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الاخرى، فتبارك الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها، فمن عرفها كما ينبغي، شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الامر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله، وأن الذي جاءوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل ... وبالله التوفيق. الذكر الذكر: هو ما يجري على اللسان والقلب، من تسبيح الله تعالى وتنزيهه وحمده والثناء عليه ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال. 1 - وقد أمر الله بالاكثار منه فقال: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا) . 2 - وأخبر أنه يذكر من يذكره فقال: (فاذكروني أذكركم) وقال في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم: " أنا عند ظن عبدي بي (1) وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منه، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. " (2) 3 - وأنه سبحانه اختص أهل الذكر بالتفرد والسبق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبق المفردون ". قالوا: وما المفردون يا رسول الله قال: " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " رواه مسلم. 4 - وأنهم هم الاحياء على الحقيقة، فعن أبي موسى، أن النبي صلى الله   (1) أي إن ظن أن الله يقبل دعاءه وهو يدعوه قبله، ومن استغفره وظن أن الله يغفر له وهكذا. (2) أي أنه كلما زاد إقبال العبد على ربه كان الله له بكل خير أسرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 عليه وسلم قال: " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت " رواه البخاري. 5 - والذكر رأس الاعمال الصالحة، من وفق له فقد أعطي منشور الولاية، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. ويوصي الرجل الذي قال له: إن شرائع الاسلام قد كثرت علي. فأخبرني بشئ أتشبث (1) به؟ فيقول له: " لا يزال فوك رطبا من ذكر الله " ويقول لاصحابه " ألا انبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق (2) وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: " ذكر الله ". رواه الترمذي وأحمد والحاكم وقال: صحيح الاسناد. 6 - وأنه سبيل النجاة، فعن معاذرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما عمل آدمي قط أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل. " رواه أحمد. 7 - وعند أحمد، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به؟ ". حد الذكر الكثير أمر الله جل ذكره، بأن يذكر ذكرا كثيرا، ووصف أولي الالباب الذين ينتفعون بالنظر في آياته بأنهم: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) . (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما. ) وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وسئل ابن الصلاح عن القدر الذي يصير به من الذاكرين الله كثيرا   (1) أتشبث: أي أتمسك به. (2) الورق: الفضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 والذاكرات فقال: إذا واظب على الاذكار المأثورة المثبتة صباحا ومساء في الاوقات والاحوال المختلفة ليلا ونهارا كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآيات، قال: إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما وعذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه. ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على تركه فقال: (اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرو العلانية، وعلى كل حال. شمول الذكر كل الطاعات قال سعيد بن جبير: كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله، وأراد بعض السلف أن يخصص هذا العام، فقصر الذكر على بعض أنواعه، منهم عطاء حيث يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق وتحج وأشباه ذلك. وقال القرطبي: مجلس ذكر يعني مجلس علم وتذكير، وهي المجالس التي يذكر فيها كلام الله وسنة رسوله، وأخبار السلف الصالحين، وكلام الائمة الزهاد المتقدمين المبرأة عن التصنع والبدع والمنزهة عن المقاصد الردية والطمع. أدب الذكر المقصود من الذكر تزكية الانفس وتطهير القلوب، وإيقاظ الضمائر. وإلى هذا تشير الآية الكريمة: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر) أي أن ذكر الله في النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر من الصلاة، وذلك أن الذاكر حين ينفتح لربه جنانه ويلهج بذكره لسانه يمده الله بنوره فيزداد إيمانا إلى إيمانه، ويقينا إلى يقينه، فيسكن قلبه للحق ويطمئن به " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". وإذا اطمأن القلب للحق اتجه نحو المثل الاعلى، وأخذ سبيله إليه، دون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 تلفته عنه نوازع الهوى، ولادوافع الشهوة، ومن ثم عظم أمر الذكر، وجل خطره في حياة الانسان، ومن غير المعقول أن تتحقق هذه النتائج بمجرد لفظ يلفظه اللسان، فإن حركة اللسان قليلة الجدوى ما لم تكن مواطئة للقلب، وموافقة له، وقد أرشد الله إلى الادب الذي ينبغي أن يكون عليه المرء أثناء الذكر. فقال: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغد والآصال، ولا تكن من الغافلين. ) والآية تشير إلى أنه يستحب أن يكون الذكر سرا، لا ترتفع به الاصوات، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الناس رفعوا أصواتهم بالدعاء في بعض الاسفار، فقال: " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ". كما تشير إلى حالة الرغبة والرهبة التي يحسن بالانسان أن يتصف بها عند الذكر. ومن الادب أن يكون الذاكر نظيف الثوب طاهر البدن طيب الرائحة، فإن ذلك مما يزيد النفس نشاطا، ويستقبل القبلة ما أمكن، فإن خير المجالس ما استقبل به القبلة. استحباب الاجتماع في مجالس الذكر يستحب الجلوس في حلق الذكر. وقد جاء في ذلك ما يأتي: 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا " قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: " حلق الذكر، فإن لله تعالى سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر. فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ". 2 - وروى مسلم عن معاوية أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: " ما أجلسكم؟ " قالوا جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للاسلام ومن به علينا. قال: " الله. ما أجلسكم إلا ذاك، أما إني لم استحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 3 - وروى أيضا عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ". فضل من قال: لا اله الا الله مخلصا 1 - عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش (1) ما اجتنبت الكبائر ". رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. 2 - وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جددوا إيمانكم ". قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: " أكثروا من قول: لا إله إلا الله ". رواه أحمد بإسناد حسن. 3 - وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله ". رواه النسائي وابن ماجه والحاكم. وقال: صحيح الاسناد. فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغير ذلك 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". رواه الشيخان والترمذي. 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لان أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ". رواه مسلم والترمذي. 3 - عن أبي ذررضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ " قلت: أخبرني يا رسول الله. قال: " إن   (1) يفضي إلى العرش: أي يصل هذا القول إليه، وهذا كقول الله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده ". رواه مسلم والترمذي. ولفظه " أحب الكلام إلى الله عز وجل ما اصطفى الله لملائكته: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده ". 4 - عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة ". رواه الترمذي وحسنه. 5 - وعن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات ". قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: " التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولاحول ولاقوة إلا بالله ". رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح الاسناد. 6 - عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: " يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان (1) ، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ". رواه الترمذي والطبراني، وزاد " ولا حول ولاقوة إلا بالله ". 7 - وعند مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحب الكلام إلى الله أربع - لا يضرك بأيهن بدأت -: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ". 8 - وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ". رواه البخاري ومسلم. أي " أجزأتاه عن قيام تلك الليلة ". وقيل: كفتاه ما يكون من الآفات تلك الليلة. وقال ابن خزيمة في صحيحه " باب ذكر أقل ما يجزئ من القراءة في قيام الليل ". ثم ذكره.   (1) قيعان: جمع قاع أي مستوية منبسطة واسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 9 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة "؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " الله الواحد (1) الصمد ثلث القرآن ". رواه البخاري ومسلم والنسائي. 10 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بافضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك ". رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وابن ماجه. وزاد مسلم والترمذي والنسائي: " ومن قال سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر. " فضل الاستغفار عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك - على ماكان منك - ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان (2) السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب (3) الارض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لاتيتك بقرابها مغفرة ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح الاسناد.   (1) يقصد سورة الاخلاص. (2) العنان: السحاب (3) القراب: ما يقارب ملاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الذكر المضاعف وجوامعه 1 - عن جويرة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: " ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لووزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ". رواه مسلم وأبو داود. 2 - ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى، تسبح الله به فقال: " أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا، أو أفضل " فقال: " سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الارض، وسبحان الله عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك ". رواه أصحاب السنن والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. 3 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم " أن عبدا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك فعضلت (1) بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها "، فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكبتها؟ قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قد قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ". رواه أحمد وابن ماجه. عد الذكر بالاصابع وأنه أفضل من السبحة 1 - عن بسيرة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه   (1) فعضلت: اشتدت وعظمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وسلم: " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالانامل فإنهن مسئولات، ومستنطقات (1) ". رواه أصحاب السنن والحاكم بسند صحيح. 2 - وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه. رواه أصحاب السنن. الترهيب من أن يجلس الانسان مجلسا لا يذكر الله فيه ولا يصلي عن نبيه صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما قعد قوم مقعدا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة. رواه الترمذي وقال: حسن، ورواه أحمد بلفظ: " ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة (2) وما من رجل يمشي طريقا فلم يذكر الله تعالى إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة. " وفي رواية " إلا كان عليهم حسرة، وإن دخلوا الجنة للثواب. " وفي فتح العلام: الحديث دليل على وجوب الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، لاسيما مع تفسير الترة بالنار أو العذاب، فقد فسرت بهما، فإن التعذيب لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محظور، وظاهره أن الواجب هو الذكر والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم معا. " ذكر كفارة المجلس 1 - عن أبي هريرة قال، فال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه (3) فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك   (1) في هذا دليل على أن التسبيح على الاصابع أفضل من السبحة وإن كان يجوز العد عليها. (2) الترة: معناها الحسرة أو النقص، أو التبعة. (3) لغط: من باب نقع. واللغط: كلام فيه جلبة واختلاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب اليك، إلا كفر (1) الله له ما كان في مجلسه ذلك ". ما يقوله من اغتاب أخاه المسلم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، تقول اللهم اغفر لنا وله ". والمذهب المختار أن الاستغفار لمن اغتيب وذكر محامده يكفر الغيبة ولا يحتاج ألا إعلامه أو استسماحه. الدعاء (1) الامر به: أمر الله الناس أن يدعوه ويضرعوا إليه، ووعدهم أن يستجيب لهم ويحقق لهم سؤلهم. 1 - فقد روى أحمد وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: (ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) . 2 - وروى عبد الرازق عن الحسن: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه: أين ربنا؟ فأنزل الله: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ". 3 - وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس شئ أكرم على الله من الدعاء ". 4 - وروى الترمذي عنه: أنه صلوات الله عليه وسلامه قال: " من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء ". 5 - وروى أبو يعلى عن أنس بن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه   (1) كفر: أي ستر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عن ربه عزوجل، قال: " أربع خصال: واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي. فأما التي لي، لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك، فما عملت من خير جزيتك عليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعلي الاجابة. وأما التي بينك وبين عبادي، فارض لهم ما ترضى لنفسك ". 6 - وثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " من لم يسأل الله يغضب عليه ". 7 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان (1) إلى يوم القيامة ". رواه البزار والطبراني والحاكم وقال: صحيح الاسناد. 8 - وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لايرد القضاء إلا الدعاء. ولا يزيد في العمر إلا البر ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. 9 - وروى أبو عوانة وابن حبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة، فإنه لا يتعاظم عن الله شئ ". (3) آدابه للدعاء آداب ينبغي مراعاتها، نذكرها فيما يلي: 1 - تحري الحلال: أخرج الحافظ بن مردويه عن ابن عباس، وقال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا) ، فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يارسول الله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: " يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به ".   (1) يعتلجان: يتصارعان ويتدافعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وفي مسند الامام أحمدو صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا. إني بما تعملون عليم) . وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، فأنى يستجاب لذلك. " 2 - استقبال القبلة إن أمكن: فقد خرج النبي يستسقي، فدا واستسقى واستقبل القبلة. 3 - ملاحظة الاوقات الفاضلة والحالات الشريفة: كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الاخير من الليل، ووقت السحر، وأثناء السجود، ونزول الغيث، وبين الاذان والاقامة، والتقاء الجيوش، وعند الوجل، ورقة القلب. (ا) فعن أبي أمامة قال: قيل: يارسول، أي الدعاء أسمع؟ قال " جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات ". رواه الترمذي بسند صحيح. (ب) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ". رواه مسلم. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منثورة في ثنايا الكتب. 4 - رفع اليدين حذو المنكبين: لما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا. وروي عن مالك بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها ". وروي عن سلمان، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إن ربكم تبارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا ". 5 - أن يبدأ بحمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه، ويصلي على النبي، لما رواه أبو داودو النسائي والترمذي وصححه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي، فقال: " عجل هذا " ثم دعاه، فقال له - أو لغيره - " إذا صلى (1) أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما يشاء ". 6 - حضور القلب وإظهار الفاقة والضراعة إلى الله جل شأنه وخفض الصوت بين المخافته والجهر: قال الله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك (2) ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) . وقال: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) . قال ابن جرير: تضرعا: تذللا واستكانة لطاعته، وخفية: أي بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهار مراءاة. وفي الصحيحين عن أبي موسى الاشعري، قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لاحول ولاقوة إلا بالله ". وروى أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله - أيها الناس - فاسألوه وأنتم موقنون بالاجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل ". 7 - الدعاء بغير إثم أو قطيعة رحم: لما رواه أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس   (1) صلى: أي دعا. (2) صلاتك: أي بدعائك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. " قالوا: إذا نكثر؟ قال: " الله اكبر ". 8 - عدم استبطاء الاجابة: لما رواه مالك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يستجاب لاحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي ". 9 - الدعاء مع الجزم بالاجابة: لما رواه أبو داود عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مكره له ". 10 - اختيار جوامع الكلم: مثل: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار "، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك. وفي سنن ابن ماجه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الدعاء أفضل؟ قال: " سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة " ثم أتاه في اليوم الثاني، والثالث، فسأله هذا السؤال، وأجيب بذلك الجواب. ثم قال صلى الله عليه وسلم: " فإذا أعطيت العفو والعافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت ". وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من دعوة يدعو بها العبد أفضل من: " اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا الآخرة ". 11 - تجنب الدعاء على نفسه وأهله وماله: فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدعو اعلى أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم. لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل عطاء فيستجاب لكم ". 12 - تكرار الدعاء ثلاثا: فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يدعو ثلاثا ويستغفر ثلاثا. رواه أبو داود. 13 - إذا دعا لغيره أن يبدأ بنفسه: قال الله تعالى: (ربنا اغفر لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) . وعن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه. رواه الترمذي بإسناد صحيح. 14 - مسح الوجه باليدين عقب الدعاء وحمد الله وتمجيده والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي مسح الوجه باليدين من عدة طرق كلها ضعيفة، وأشار الحافظ إلى أن مجموعها تبلغ به درجة الحسن. دعاء الوالد والصائم والمسافر والمظلوم روى أحمد وأبو داود والترمذي بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ". وروى الترمذي بسند حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والامام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لانصرنك ولو بعد حين ". دعاء الاخ لاخيه بظهر الغيب 1 - روى مسلم وأبو داود عن صفوان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟ قلت: نعم. قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " دعوة المسلم لاخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لاخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل (1) ". قال فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء، فقال لي مثل ذلك   (1) بمثل: أي أدعو لك بمثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - ولابي داود والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب. " 3 - ورويا عن عمر قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال: " لا تنسنا يا أخي من دعائك. " فقال عمر: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. بعض ما ورد فيما ينبغي أن يستفتح به الدعاء رجاء أن يقبل 1 - عن بريدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لاإله إلا أنت الاحد الصمد (1) الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا (2) أحد، فقال: " لقد سألت الله بالاسم الاعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ". رواه أبو داود والترمذي وحسنه. قال المنذري: قال شيخنا أبو الحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه، ولم يرد في هذا الباب حديث أجود إسنادا منه. 2 - وعن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا، وهو يقول: يا ذا الجلال (3) والاكرام، فقال: " قد استجيب لك فسل ". رواه الترمذي وقال: حسن. 3 - وعن أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي، وهو يصلي ويقول: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، يا حنان يا منان، يا بديع السموات والارض، يا ذا الجلال والاكرام، يا حي يا قيوم، فقال رسوال الله صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت الله باسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ". رواه أحمد وغيره، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. 4 - وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:   (1) الصمد: الذي يقصد في الحوائج. (2) كفوا: شبيها. (3) الجامع لصفات العظمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 " من دعا بهؤلاء الكلمات الخمس، لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه: لا إله الا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ". رواه الطبراني بإسناد حسن. أذكار الصباح والمساء أذكار الصباح يبتدئ وقتها من الفجر إلى طلوع الشمس، وأذكار المساء ما بين العصر والغروب. 1 - روى مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يصبح، وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه ". 2 - وروى أيضا عن ابن مسعود قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: " أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر " وإذا أصبح قال ذلك أيضا: " أصبحنا وأصبح الملك لله ". 3 - وروى أبو داود عن عبد الله بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل ". قلت: يارسول الله ما أقول؟ قال: " قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شئ ". قال الترمذي حديث حسن صحيح. 4 - وروى أيضا عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه، يقول: " إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور. وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا وربك أصبحنا، وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير ". قال الترمذي حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 5 - وفي صحيح البخاري عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك (1) بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة، ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة ". 6 - وفي الترمذي عن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرنى بشئ أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: " قل: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والارض، رب كل شئ ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن نقترف سوءا على أنفسنا أو نجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 7 - وفي الترمذي أيضا عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شئ في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شئ ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. 8 - وفيه أيضا عن ثوبان وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، كان حقا على الله أن يرضيه ". وقال: حديث حسن صحيح. 9 - وفي الترمذي أيضا عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم اني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمن   (1) أبوء: أي اعترف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومن قالها أربعا أعتقه الله من النار ". 10 - وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن غنام، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي، فقد أدى شكر ليلته ". 11 - وفي السنن وصحيح الحاكم عن عبد الله بن عمر قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والاخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ". قال وكيع: يعني الخسف. 12 - وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه قال لابيه: يا أبت إني أسمعك تدعو كل غداة: " اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري. لا إله إلا أنت " تعيدها ثلاثا حين تصبح، وثلاثا حين تمسي فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهن، فأنا أحب أن أستن بسنته. رواه أبو داود. وروى ابن السني عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال إذا أصبح: اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتم نعمتك علي وعافيتك وسترك في الدنيا والاخرة، ثلاث مرات إذا أصبح وإذا أمسى، كان حقا على الله أن يتم عليه ". وروى عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم "؟ قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: " كان إذا أصبح قال: اللهم وهبت نفسي وعرضي لك. فلا يشتم من شتمه ولا يظلم من ظلمه ولا يضرب من ضربه ". وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 " من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والاخرة ". وروى عن طلق بن حبيب قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال: يا أبا الدرداء قد احترق بيتك. فقال: ما احترق - لم يكن الله عز وجل ليفعل ذلك - بكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: " اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم ". وفي بعض الروايات أنه قال: انهضوا بنا، فقام، وقاموا معه، فانتهوا إلى داره، وقد احترق ما حولها، ولم يصبها شئ. أذكار النوم 1 - روى البخاري عن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما، قالا: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: " باسمك اللهم أحياء وأموت " وإذا استيقظ قال: " الحمدلله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ". وكان من هديه أن يضع يده اليمنى تحت خده ويقول: " اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك " ثلاثا، ويقول: " اللهم رب السموات ورب الارض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شئ، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والانجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الاول فليس قبلك شئ، وأنت الاخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ". وكان يقول: " الحمدلله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا، وآوانا، فكم ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 لا كافي ولا مؤوي ". وكان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث (1) فيهما فقرأ فيهما: " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. وأمر أن يقول المضطجع: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وقال لفاطمة: " سبحي الله ثلاثا وثلاثين، واحمديه ثلاثا وثلاثين، وكبريه أربعا وثلاثين. وأوصى بقراءة الدعاء المتقدم ذكره: " اللهم فاطر السموات والارض ... ألخ، " كما أوصى بقراءة آية الكرسي، وأخبر بأن من يقرأها لا يزال عليه من الله حافظ. وقال للبراء: " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الايمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك. لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ثم قال: فإن مت، مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول " (2) دعاء الانتباه من النوم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المستيقظ من نومه أن يقول: " الحمد لله الذي رد علي روحي. وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره ". وكان إذا استيقظ قال: " لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.   (1) النفث: نفخ لطيف بلا ريق. (2) ذكرنا الاحاديث المتقدمة بدون تخريج اختصارا، وكلها صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 وصح أنه قال: " من تعار (1) من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شئ قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا. استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته. " الذكر عند الفزع والارق والوحشة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون، فإنها لن تضره. " قال: وكان ابن عمر يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك وعلقها في عنقه. وإسناده حسن. عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنه أصابه أرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن نمت، قل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الارضين وما أقلت. ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا. أن يفرط علي أحد منهم أو أن يبغي علي عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك ". أو " لا إله إلا أنت. " رواه الطبراني في الكبير والاوسط، وإسناده جيد. إلا أن عبد الرحمن ابن سابط لم يسمع من خالد، ذكره الحافظ المنذري. روى الطبراني وابن السني عن البراء بن عازب: أن رجلا اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال: " قل: سبحان الله الملك القدوس رب الملائكة والروح، جللت السموات والارض بالعزة والجبروت " فقالها الرجل، فأذهب الله عنه الوحشة. ما يقوله ويفعله من رأى في منامه ما يكره 1 - عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: " إذا رأى أحدكم   (1) " التعار " السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام. اهـ قاموس والمراد: من استيقظ بالليل ولا يستطيع العود إلى النوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه. " رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. 2 - وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بما رأى، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لاحد فإنها لا تضره. " رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. الذكر عند لبس الثوب 1 - وروى ابن السني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لبس ثوبا، أو قميصا، أو رداء، أو عمامة يقول: " اللهم إني أسألك من خيره وخير ما هو له، وأعوذ بك من شره وشر ما هو له. " 2 - روي عن معاذ بن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه " وتستحب التسمية كذلك، فإن كل شئ لا يبدأ فيه ببسم الله فهو ناقص. الذكر إذا لبس ثوبا جديدا 1 - عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه - عمامة أو قميصا أو رداء - ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " رواه أبو داود والترمذي وحسنه. 2 - وروى الترمذي عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لبس ثوبا جديدا فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري (1) به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به   (1) أواري: أي أستر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 كان في حفظ الله وفي كنف الله عزوجل، وفي سبيل الله حيا وميتا ". ما يقول لصاحبه إذا رأى عليه ثوبا جديدا: 1 - صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لام خالد - بعد أن ألبسها خميصة: " أبلي وأخلفي " وكانت الصحابة تقول: تبلي ويخلف الله. 2 - ورأى على عمر رضي الله عنه ثوبا فقال: " البس جديدا وعش حميدا، ومت شهيدا سعيدا " رواه ابن ماجه وابن السني. الذكر عند طرح الثوب روى ابن السني عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم، أن يقول الرجل المسلم إذا أراد أن يطرح ثيابه: بسم الله الذي لا إله إلا هو ". أذكار الخروج من المنزل 1 - روى أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال - يعني إذا خرج من بيته -: بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقال له كفيت ووقيت وهديت، وتنحى عنه الشيطان فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي. " 2 - وفي مسند أحمد عن أنس: " بسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله " حديث حسن. 3 - وروى أهل السنن عن أم سلمة قالت: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيتي إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: " اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل، أو يجهل علي " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. أذكار دخول المنزل 1 - في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء. " 2 - وفي سنن أبي داود عن أبي مالك الاشعري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير المولج (1) وخير المخرج، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله. 3 - وفي الترمذي عن أنس قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم تكن بركة عليك وعلى أهل بيتك " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. الذكر عند رؤية ما يعجبه من ماله ينبغي للمرء إذا رأى ما يعجبه من أهله أو ماله أو يقول: " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " فإنه لا يرى بها سوءا. فإن رأى ما يسوءه فليقل: الحمد لله على كل حال قال الله تعالى " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ". وروى ابن السني عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ومال وولد فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيها آفة دون الموت. " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى ما يسره قال: " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات " وإذا رأى ما يسوءه قال: " الحمد لله على كل حال " رواه ابن ماجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد. الذكر عند النظر في المرآة 1 - روى ابن السني عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه   (1) المولج: كموعد الدخول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وسلم كان إذا نظر في المرآة قال: " الحمد لله. اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي. " وروى عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه في المرآة قال: " الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله، وكرم صورة وجهي فحسنها، وجعلني من المسلمين. " ما يقال عند رؤية أهل البلاء روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء ". قال النووي: قال العلماء: ينبغي أن يقول هذا الذكر سرا بحيث يسمع نفسه، ولا يسمعه المبتلى، لئلا يتألم قلبه بذلك. إلا أن تكون بليته معصية، فلا بأس أن يسمعه ذلك إن لم يخف من ذلك مفسدة. الذكر عند صياح الديكة والنهيق والنباح روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا. " وعند أبي داود " إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله منهن، فإنهن يرين مالا ترون ". الذكر عند الريح إذا هاجت روى أبو داود باسناد حسن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الريح من روح (1) الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها ".   (1) روح: رحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به ". ما يقول عند سماع الرعد روى الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: " اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك " وسنده ضعيف. الذكر عند رؤية الهلال 1 - روى الطبراني عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: " الله أكبر، اللهم أهله علينا بالامن والايمان، والسلامة والاسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله ". 2 - عند أبي داود مرسلا عن قتادة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: " هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالله الذي خلقك " ثلاث مرات، ثم يقول: " الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا. " اذكار الكرب والحزن 1 - روى البخاري ومسلم عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الارض، ورب العرش الكريم ". 2 - وفي الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر (1) قال: " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ".   (1) حزبه: نزل به أمر مهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 3 - وفيه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الامر رفع رأسه إلى السماء فقال: " سبحان الله العظيم " وإذا اجتهد في الدعاء قال: " يا حي يا قيوم ". 4 - وفي سنن أبي داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت ". 5 - وفيه أيضا عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئا " وفي رواية: أنها تقال سبع مرات. 6 - وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت " لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين " لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط إلا استجيب له. " وفي رواية له: " إني لاعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس عليه السلام. " 7 - وعند أحمد وابن حبان عن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن امتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا ". الذكر عند لقاء العدو وعند الخوف من الحاكم روى أبو داود والنسائي عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: " اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. " وروى ابن السني: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة فقال: " يا مالك يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 الدين إياك أعبد وإياك أستعين " قال أنس: فلقد رأيت الرجال تصرعها الملائكة من بين يديها ومن خلفها. وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا خفت سلطانا أو غيره فقل لا إله إلا الله الحكيم الكريم سبحان الله ربي، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت عز جارك، وجل ثناؤك. " وروى البخاري عن ابن عباس قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: " إن الناس قد جمعوا لكم ". وعن عوف بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين. فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبنا الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس (1) فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل. " ما يقول إذا استصعب عليه أمر روى ابن السني عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا. وانت تجعل الحزن (2) سهلا ". ما يقول إذا تعسرت معيشته روى ابن السني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما يمنع أحدكم إذا عسر عليه أمر معيشته أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك، وبارك لي فيما قدر حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت ".   (1) الكيس: العمل. (2) الحزن: غليظ الارض وخشنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 الذكر عند الدين 1 - روى الترمذي وحسنه عن علي رضي الله عنه، أن مكاتبا جاءه. فقال: إني عجزت عن كتابتي فأعني. فقال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صبر (1) دينا إلا أداه الله عنك، قل: " اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك ". 2 - وقال أبو سعيد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الانصار، يقال له أبو أمامة، فقال: " يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة؟ " قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال: " أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ " قلت: بلى يا رسول الله. قال: " قل إذا أصبحت وأذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، واعوذ بك من العجز والكسل، واعوذ بك من الجبن والبخل، واعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. " قال، ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني. ما يقول إذا نزل به ما يكره أو غلب على أمره روى ابن السني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسترجع احدكم في كل شئ حتى في شسع نعله فانها من المصائب ". يسترجع: يقول إذا نزل به ما يسوءه حتى ولو انقطع الشسع: " إنا لله وإنا إليه راجعون ". والشسع: أحد سيور النعل التي تشد إلى زمامها. وروى مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شئ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ".   (1) جبل صبر: جبل لطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 ما يقول له من نزل به الشك 1 - روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ". 2 - وفي الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسله. ما يقول عند الغضب روى البخاري ومسلم عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبان: أحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لاعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب عنه ". من جوامع أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم 1 - قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الجوامع من الدعاء ويدع ما بين ذلك. ونحن نذكر من هذه الادعية مالا غنى للمرء عنه ... عن أنس رضي الله عنه قال، كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذا ب النار ". 2 - وروى مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت (1) فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل كنت تدعو بشئ أو تسأله إياه؟ " قال نعم. كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الاخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) خفت: ضعف وهزل حتى صار مثل ولد الطائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 سبحان الله، لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ". 3 - وروى أحمد والنسائي، أن سعدا سمع ابنا له يقول: اللهم إني أسألك الجنة وغرفها وكذا وكذا، واعوذ بك من النار وأغلالها وسلاسلها. فقال سعد لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت به من شر كثير. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء. بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم اعلم، واعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم. " ورويا عن ابن عباس قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " رب اعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي وانصري على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا، لك ذكارا، لك رهابا (1) لك مطواعا، لك (2) ، مخبتا أواها (3) إليك منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، (4) ، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني واهد قلبي، واسلل سخيمة (5) صدري " وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، زكها انت خير من زكاها، إنك وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها. " وفي صحيح الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء؟ " قالوا: نعم يا رسول الله قال: " قولوا: اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ".   (1) رهابا: كثير الرهبة والخوف. (2) الاخبات: الخشوع. (3) التأوه: شدة الحرقة " والمنيب ": كثير الرجوع إلى الله. (4) الحوبة: الاثم. (5) السخيمة: الغلل والحقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وعند أحمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألظوا (1) بيا ذا الجلال والاكرام. " وعنده أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " والميزان بيد الرحمن عزوجل، يرفع أقواما ويضع آخرين. وعن ابن عمر رضى الله عنهما، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك وجميع سخطك. " وروى الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، واعوذ بالله من حال أهل النار. " روى مسلم: ان فاطمة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما. فقال لها: " قولي: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شي، منزل التوراة والانجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته، أنت الاول فليس قبلك شئ وأنت الاخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ، وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عني الدين وأغنني من الفقر. " وروى أيضا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ". روى الترمذي، وحسنه، والحاكم عن ابن عمر قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الكلمات لاصحابه " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل تأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ".   (1) ألظوا: أي الزموا هذه الدعوة وداوموا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 الصلاة والسلام على رسول الله قال الله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ". معنى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البخاري: قال أبو العالية: " صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء ". وقال أبو عيسى الترمذي، وروى عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: " صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار ". قال ابن كثير: والمقصود من هذه الاية، أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملا الاعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وان الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين، العلوي والسفلي جميعا. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، ونذكر بعضها فيما يلى. 1 - روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ". 2 - وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " قال الترمذي: " حديث حسن " اي أحقهم بشفاعته واقربهم مجلسا منه. 2 - وروى أبو داود باسناد صحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". 4 - وروى أبو داود والنسائي عن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 الصلاة فيه، فان صلاتكم معروضة علي ". فقالوا يارسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت: أي: بليت؟. قال: " إن الله حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء ". 5 - وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه باسناد صحيح: - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مامن أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ". 6 - روى الامام أحمد عن أبي طلحة الانصاري قال: " أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر " قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر. قال: " أجل: أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها " قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد. 7 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سره أن يكال له بالمكيال الاوفى - إذا صلى علينا أهل البيت - فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ". رواه أبو داود والنسائي. 8 - عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: " يا ايها الناس اذكروا الله. اذكروا الله. جاءت الراجفة (1) تتبعها الرادفة (2) جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه " قلت: يارسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: " ما شئت ". قلت: الربع؟ قال: " ما شئت، فان زدت فهو خير لك " قلت: النصف؟ قال: " ما شئت، فان زدت فهو خير لك ". قلت: فالثلثين؟ قال: " ما شئت، فان زدت فهو خير لك ". قلت: أجعل لك صلاتي كلها (3) قال: " إذن تكفي همك ويغفر لك ذنبك " رواه الترمذي.   (1) الراجفة: النفخة الاولى. (2) الرادفة: النفخة الثانية. (3) أي: أجعل مجالسي كلها في الصلاة والسلام عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 هل تجب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه ذهب إلى وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر طائفة من العلماء، منهم الطحاوي والحليمي واستدلوا على ذلك بما رواه الترمذي وحسنه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل ان يغفر له، ورغم أنف رجل ادرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة ". ولحديث أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي ". وذهب آخرون إلى وجوب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس، بل تستحب. لحديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة (1) يوم القيامة، فان شاء عذبهم، وان شاء غفر لهم " رواه الترمذي وقال: حسن. استحباب كتابة الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه استحب العلماء الصلاة والسلام عليه - صلوات الله وسلامه عليه - كلما كتب اسمه، إلا أنه لم يرد في ذلك حديث يصح الاحتجاج به. وذكر الخطيب البغدادي قال: رأيت بخط الامام أحمد بن حنبل رحمه الله كثيرا ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة. قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا. الجمع بين الصلاة والتسليم قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم، ولا يقتصر على احدهما فلا يقل: صلى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط.   (1) الترة: النقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 الصلاة على الانبياء تستحب الصلاة على الانبياء والملائكة استقلالا. واما غير الانبياء فانه يجوز الصلاة عليهم تبعا باتفاق العلماء وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم صل على محمد النبي وازواجه أمهات المؤمنين إلخ ". وتكره الصلاة عليهم استقلالا، فلا يقال: عمر صلى عليه وسلم. صيغة الصلاة والسلام عليه (1) وروى مسلم عن أبي مسعود الانصاري أن بشير بن سعد قال: أمرنا الله أن نصلي عليك يارسول الله. كيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم. " وروى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة فانكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا له فعلمنا قال: قولوا، اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقدمين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاما يغبطه به الاولون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ما جاء في السفر عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا " رواه أحمد، وصححه المناوي.   (1) تقدم بعض الصيغ الواردة في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 الخروج لما يحبه الله: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من خارج يخرج من بيته إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله عز وجل اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك، حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله، اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان، حتى يرجع إلى بيته " رواه أحمد والطبراني، وسنده جيد. الاستشارة والاستخارة قبل الخروج: ينبغي للمسافر أن يستشير أهل الخير والصلاح في سفره قبل خروجه. لقوله تعالى " وشاورهم في الامر ". وقوله تعالى في وصف المؤمنين: " وأمرهم شورى بينهم ". قال قتادة: ما شاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم. وأن يستخير الله تعالى: فعند أحمد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سعادة ابن آدم استخارة الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله ". قال ابن تيمية: " ما ندم من استخار الخلق وشاور المخلوقين ". وصفة الاستخارة: أن يصلي ركعتين من غير الفريضة، ولو كانتا من السنن الراتبة، أو تحية المسجد، في أي وقت من الليل أو النهار، يقرأ فيهما بما شاء بعد الفاتحة، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بالدعاء الذي رواه البخاري، من حديث جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور كلها (1) كما   (1) قال الشوكاني: هذا دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الاقدام عليه أو في تركه ضرر عظيم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم. " ليسأل أحدكم ربه، حتى شسع نعله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 يعلمنا السورة من القرآن يقول: " إذا هم أحدكم بالامر، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك (1) بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر (2) خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، (3) فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال - عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به " قال: ويسمي حاجته - أي يسمى حاجته عند قوله: " اللهم ان كان هذا الامر ". ولم يصح في القراءة فيها شئ مخصوص، كما لم يصح شئ في استحباب تكرارها. قال النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون غير صادق في طلب الخيرة، وفي التبري من العلم والقدرة، وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة، ومن اختياره لنفسه ". استحباب السفر يوم الخميس: روى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما كان يخرج، إذا أراد سفرا، إلا يوم الخميس. استحباب الصلاة قبل الخروج: عن المطعم بن المقدام رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد سفرا " رواه الطبراني وابن عساكر وسنده معضل، أو مرسل.   (1) أستخيرك: أي أطلب منك الخيرة أو الخير. (2) يسمى حاجته هنا. (3) يجمع بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 استحباب اتخاذ الاصحاب والرفقاء: 1 - روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده، أو يسافر وحده. 2 - وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب ". استحباب توديع أهله وأقاربه وطلب الدعاء منهم، ودعائه لهم: 1 - روى ابن السني، وأحمد، عن أبي هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من أراد أن يسافر فليقل لمن يخلف: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ". 2 - وروى أحمد عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا استودع شيئا حفظه ". 3 - ويروى عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد أحدكم سفرا فليودع إخوانه، فإن الله تعالى جاعل في دعائهم خيرا ". 4 - والسنة أن يدعو الاهل والاصحاب والمودعون للمسافر بهذا الدعاء المأثور. قال سالم: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول للرجل - إذا أراد سفرا - أدن مني اودعك، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فيقول: " استودع الله دينك، وأمانتك (1) وخواتيم عملك ". وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ودع رجلا، أخذ بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الحديث المتقدم. قال الترمذي: حسن صحيح.   (1) قال الخطابي: الامانة - هنا - أهله، ومن يخلفه، وماله الذي عند أمينه، وذكر الدين هنا، لان السفر مظنة المشقة، فربما كان سببا لاهمال بعض أمور الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 - وعن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أريد سفرا فزودني، فقال: " زودك الله التقوى " قال: زدني، قال: " وغفر ذنبك ". قال: زدني، قال: " ويسر لك الخير حيثما كنت ". قال الترمذي: حديث حسن. 6 - وعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله صلى إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: " عليك بتقوى الله عز وجل، والتكبير على كل شرف (1) " فلما ولى الرجل قال: " اللهم اطو (2) له البعد وهون عليه السفر ". قال الترمذي: حديث حسن. طلب الدعاء: من المسافر في موطن الخير: قال عمر رضي الله عنه: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن لي، وقال: " لا تنسنا يا أخي من دعائك " فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. أدعية السفر يستحب للمسافر أن يقول - إذا خرج من بيته -. " بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوز إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي ". ثم يتخير من الادعية الامأثورة ما يشاء. وهاك بعضها: 1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر قال: " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الاهل، اللهم إني أعوذ بك من الضبنة (3) في السفر، والآبة في المنقلب، اللهم اطولنا الارض، وهون علينا السفر. " وإذا أراد الرجوع قال: " آيبون تائبون   (1) الشرف: المكان المرتفع. (2) الطو: قرب. (3) " الضبنة " مثلثة الضاد: الرفاق الذين لا كفاية لهم: أي أعوذ بك من صحبتهم في السفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 عابدون لربنا حامدون. " وإذا دخل على أهله قال: " توبا توبا (1) لربنا أوبا، لا يغادر علينا حوبا " رواه أحمد، والطبراني، والبزار، بسند رجاله رجال الصحيح. 2 - وعن عبد الله بن سرجس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في سفر قال: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب. والحور بعد الكور (2) ، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في المال والاهل ". وإذا رجع قال مثلها، إلا أنه يقول: " وسوء المنظر في الاهل والمال ". فيبدأ بالاهل. رواه أحمد، ومسلم. ما يقول المسافر عند الركوب: عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليا رضي الله عنه أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى عليها قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا مقرنين (3) وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم حمد الله ثلاث، وكبر ثلاثا، ثم قال: سبحانك، لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك، فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: يعجب الرب من عبده إذا قال رب اغفر لي، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري. رواه أحمد وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن الازدي: ان ابن عمر رضى الله عنهما علمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال، " سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم   (1) " توبا " مصدر تاب. و" أوبا " مصدر آب، وهما بمعنى رجع. " والحوب ": الذنب. (2) " والحور بعد الكور ": أي أعوذ بك من الفساد بعد الصلاح. (3) " وما كنا له مقرنين ": أي مطيقين قهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 هون علينا سفرنا هذا، واطوعنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الاهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر (1) ، وكآبة المنقلب (2) ، وسوء المنظر في الاهل والمال (3) " وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: " آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون " أخرجه أحمد، ومسلم. ما يقوله المسافر إذا أدركه الليل: عن ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: " يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود (4) ، وحية وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن شر والد وما ولد " رواه أحمد وأبو داود. ما يقوله المسافر إذا نزل منزلا: عن خولة بنت حكيم السلمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات (5) كلها من شر ما خلق، لم يضره شئ حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه الجماعة إلا البخاري، وأبا داود. ما يقوله المسافر إذا أشرف على قرية أو مكان وأراد أن يدخله: عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى: أن صهيبا حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: " اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الارضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح   (1) " وعثاء السفر ": مشقته. (2) " كآبة " أي حزن. " المنقلب " العودة: والمعنى أي أعوذ بك من الحزن عند الرجوع. (3) وسوء المنظر في الاهل والمال " أي مرضهم " مثلا. (4) " الاسود ": العظيم من الحيات. (5) " التامات " أي الكاملات، والمراد بالكلمات الله: القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك ما شرها وشر أهلها وشر ما فيها ". رواه النسائي وابن حبان، والحاكم وصححاه. وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى قرية يريد أن يدخلها قال: " اللهم بارك لنا فيها - ثلاث مرات - اللهم ارزقنا جناها (1) وحببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا " رواه الطبراني في الاوسط بسند جيد. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال، " اللهم إني أسألك من خير هذه وخير ما جمعت فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها اللهم ارزقنا جناها وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا " رواه ابن السني. ما يقوله المسافر وقت السحر: عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر وسحر (2) يقول: " سمع سامع (3) بحمد لله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار (4) " رواه المسلم. ما يقول المسافر إذا علا شرفا، أو هبط واديا أو رجع: 1 - روى البخاري عن جابر رضى الله عنه قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا. 2 - وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله   (1) " اللهم ارزقنا جناها ": أي ما يجتنى منها من ثمار. (2) " أسحر " أي انتهى في سيره إلى السحر، وهو آخر الليل. (3) " سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ": أي شهد شاهد لناا بحمدنا الله، وحمدنا لنعمته، ولحسن فضله علينا " والبلاء ": الفضل والنعمة. (4) هذا دعاء لله أن يكون صاحبا لنا، وعاصما لنا من النار ومن أسبابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 عليه وسلم كان إذا قفل (1) من الحج أو العمرة " ولا أعلمه إلا قال: الغزو " كلما أوفى (2) على ثنية (3) أو " فدفد (4) كر ثلاثا " ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون، عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده ". ما يقوله المسافر إذا ركب سفينة: 1 - رسو ابن السني عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمان أمتي من الغرق - إذا ركبوا - أن يقولوا: " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم "، " وما قدروا الله حق قدره، والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ". ركوب البحر عند اضطرابه: لا يجوز ركوب البحر عند اضطرابه. لحديث أبى عمران الجوني قال: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بات فوق بيت ليس له إجار (5) فوقع فمات فقد برئت منه الذمة (6) ومن ركب البحر عند ارتجاجه (7) فمات فقد برئت منه الذمة " رواه أحمد، بسند صحيح.   (1) " قف ": أي عاد. (2) " أوفى ": أي أشرف. (3) " الثنية ": الطريق العالي في الجبل. (4) " الفدفد ": أي الموضع الذي فيه اغلظ وارتفاع. والمراد الطريق الوعر. (5) " أجار ": سور. (6) الذمة ": حفظ الله له، والمراد: أن الله يتخلى عن حفظه. (7) " ارتجاجه ": اضطرابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 الحج قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة (1) مباركا وهدى للعالمين - فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا - ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فزن الله غني عن العالمين ". تعريفه: هو قصد مكة، لان عبادة الطواف، والسعي والوقوف بعرفة، وسائر المناسك، استجابة لامر الله، وابتغاء مرضاته. وهو أحد أركان الخمسة، وفرض من الفرائض التي علمت من الدين بالضرورة. فلو أنكر وجوبه منكر كفر وارتد عن الاسلام. والمختار لدى جمهور العلماء، أن إيجابه كان سنة ست بعد الهجرة، لانه نزل فيها قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) . وهذا مبني على أن الاتمام يراد به ابتداء الفرض. ويؤيد هذا قراءة علقمة، ومسروق، وإبراهيم النخعي: " وأقيموا " رواه الطبراني بسند صحيح. ورجح ابن القيم، أن افتراض الحج كان سنة تسع أو عشر. فضله : رغب الشارع في أداء فريضة الحج، وإليك بعض ما ورد في ذلك:   (1) " ببكة " أي بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 ما جاء في أنه من أفضل الاعمال: عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الاعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " ثم جهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " ثم حج مبرور ". والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم. وقال الحسن: أن يرجع زاهدا في الدنيا، راغبا في الاخرة. وروي مرفوعا - بسند حسن - إن بره إطعام الطعام، ولين الكلام. ما جاء في أنه جهاد: 1 - عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، وإني ضعيف، فقال: " هلم إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج " رواه عبد الرزاق، والطبراني، ورواته ثقات. 2 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جهاد الكبير، والضعيف، والمرأة، الحج " رواه النسائي بإسناد حسن. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، ترى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: " لكن أفضل الجهاد: حج مبرور " رواه البخاري، ومسلم. 4 - ورويا عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم؟ قال: " لكن أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور " قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما جاء في أنه يمحق الذنوب: 1 - عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حج فلم يرفث (1) ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " رواه البخاري، ومسلم. 2 - وعن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الاسلام في قلبي أتيت   (1) " يرفث ": يجامع. " يفسق " يعصى. " كيوم ولدته أمه ": أي بلا ذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يدك فلا بايعك. قال: فبسط فقبضت يدي فقال: " مالك يا عمرو؟ " قلت: أشترط، قال: " تشترط ماذا؟ " قلت: أن يغفر لي؟ قال: " أما علمت أن الاسلام يهدم ما قبله. وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله " رواه مسلم. 3 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تابعوا (1) بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب. كما ينفي الكير خبث (2) الحديد، والذهب، والفضلة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " رواه النسائي، والترمذي وصححه. ما جاء في أن الحجاج وفد الله: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " " الحجاج، والعمار، وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم "، رواه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، ولفظهما: " وفد الله ثلاثة، الحجاج والمعتمر، والغازي ". ما جاء في أن الحج ثوابه الجنة: 1 - روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة ". 2 - وروى ابن جريج - بإسناد حسن - عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا البيت دعامة الاسلام، فمن خرج يؤم (3) هذا البيت من حاج أو معتمر، كان مضمونا على الله، إن قبضه أن يدخله الجنة " وإن رده، رده بأجر وغنيمة ". فضل النفقة في الحج: عن بريدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " النفقة في الحج   (1) " تابعوا " أي والوا بينهما وأتبعوا أحد النسكين الاخر، بحيث يظهرا. (2) " خبث ": وسخ " الكير ": الالة التي ينفخ بها الحداد والصائغ النار. (3) " يؤم " أي يقصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 كالنفقة في سبيل الله: الدرهم بسبعمائة ضعف " رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، والطبراني، والبيهقي، وإسناده حسن. الحج يجب مرة واحدة: أجمع العلماء على أن الحج لا يتكرر، وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة - إلا أن ينذره فيجب الوفاء بالنذر - وما زاد فهو تذوع. فعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا أيها الناس، إن الله كتب (1) عليكم الحج فحجوا "، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال صلى الله عليه وسلم " لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم " ثم قال: " ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فزذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه " رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا أيها الناس كتب عليكم الحج " فقام الاقرع بن حابس، فقال: أفي كل عام يا رسول الله " فقال: " لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، وصححه. وجوبه على الفور أو التراخي: ذهب الشافعي، والثوري، والاوزاعي، ومحمد بن الحسن إلى أن الحج واجب على التراخي، فيؤدى في أي وقت من العمر، ولا يأثم من وجب عليه بتأخيره متى أداه قبل الوفاة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الحج إلى سنة عشرة، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، مع أن إيجابه كان سنة ست فلو كان واجبا على الفور لما أخره صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: فاستدللنا على أن الحج فرضه مرز في العمر، أوله البلوغ،   () " كتب " أي فرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 وآخره أن يأتي به قبل موته. وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي، وأبو يوسف إلى أن الحج واجب على الفور. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد الحج فليعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتكون الحاجة ". رواه أحمد، والبيهقي، والطحاوي، وابن ماجه. وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " تعجلوا الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " رواه أحمد، والبيهقي، وقال ما يعرض له من مرض أو حاجة. وحمل الاولون هذه الاحاديث على الندب، وأنه يستحب تعجيله والمبادرة به متى استطاع المكلف أداءه. شروط وجوب الحج : اتفق الفقهاء على أنه يشتررط لوجوب الحج، الشرط الاتية: 1 - الاسلام. 2 - البلوغ. 3 - العقل. 4 - الحرية. 5 - الاستطاعة. فمن لم تتحقق فيه هذه الشروط، فلا يجب عليه الحج. وذلك أن الاسلام، والبلوغ، والعقل، شرط التكليف في أية عبادة من العبادات. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل (1) . والحرية شرط لوجوب الحج، لانه عبادة تقتضي وقتا، ويشترط فيها   (!) تقدم الحديث في الاجزاء السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 الاستطاعة، بينما العبد مشغول بحقوق سيده وغير مستطيع. وأما الاستطاعة، فلقول الله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (1) . ) بم تتحقق الاستطاعة؟ تتحقق الاستطاعة التي هي شرط من شروط الوجوب بما يأتي: 1 - أن يكون المكلف صحيح البدن، فإن عجز عن الحج لشيخوخته، أو زمانة، أو مرض لا يرجى شفاؤه، لزمه إحجاج غيره عنه إن كان له مال، وسيأتي في " مبحث الحج عن الغير " 2 - أن تكون الطريق آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله. فلو خاف على نفسه من قطاع الطريق، أو وباء، أو خاف على ماله من أن يسلب منه، فهو ممن لم يستطع إليه سبيلا. وقد اختلف العلماء فيما يؤخذ في الطريق، من المكس والكوشان، هل يعد عذرا مسقطا للحج أم لا؟. ذهب الشافعي وغيره، إلى اعتباره عذرا مسقطا للحج، وإن قل المأخوذ. وعند المالكية: لا يعد عذر، إلا إذا أجحف بصاحبه أو تكرر أخذه. 3، 4 - أن يكون مالكا للزاد، والراحلة. والمعتبر في الزاد: أن يملك ما يكفيه مما يصح به بدنه، ويكفي من يعوله كفايز فاضلة عن حوائجه الاصلية، من ملبس ومسك، ومركب، وآلة حرفة (2) حتى يؤدي الفريضة ويعود. والمعتبر في الراحلة أن تمكنه من الذهاب والاياب، سواء أكان ذلك عن طريق البر، أو البحر، أو الجو. وهذا بالنسبة لما لا يمكنه المشي لبعده عن مكة.   (1) أي فرض الله على الناس حج البيت من استطاع منهم إليه سبيلا. (2) لا تباع الثياب التي يلبسها، ولا المتاع الذي يحتاجه، ولا الدار التي يسكنها، وإن كانت كبيرة، تفضل عنه، من أجل الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 فأما القريب الذي يمكنه المشي، فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه، لانها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها. وقد جاء في بعض روايات الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسر السبيل بالزاد والراحلة. فعن أنس رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله ما السبيل (1) ؟ قال: " الزاد والراحلة " رواه الدارقطني وصححه. قال الحافظ: والراجح إرساله: وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضا، وفي إسناده ضعف. وقال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسندا، والحصيح رواية الحسن المرسلة. وعن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا، وذلك أن الله تعالى يقول: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) رواه الترمذي، وفي إسناده " هلال " ابن عبد الله، وهو مجهول، و " الحارث " وكذبه الشعبي وغيره. والاحاديث، وإن كانت كلها ضعيفة، إلا أن أكثر العلماء يشترط لايجاب الحج الزاد والراحلة لمن نأت داره فمن لم يجد زادا ولا راحلة فلا حج عليه. قال ابن تيمية: فهذه الاحاديث - مسندة من طرق حسان، ومرسلة، وموقوفة - تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي. وأيضا فإن الله قال: في الج: " من استطاع إليه سبيلا " إما أن يعني القدرة المعتبرز في جميع العبادات - وهو مطلق المكنة - أو قدرا زائدا على ذلك، فإن كان المعتبر الاول لم تحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة فعلم أن المعتبر قدر زائدا على ذلك، وليس هو إلا المال.   (1) أي ما معنى " السبيل " المذكور في الاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 وأيضا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسفاة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة، كالجهاد. ودليل الاصل (1) قوله تعالى: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) إلى قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم، قلت لا أجد ما أحملكم عليه) . وفي المهذب: وإن وجد ما يشتري به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه، لم يلزمه، حالا كان الدين ومؤجلا، لان الدين الحال على الفور، والحج على التراخي، فقدم عليه، والمؤجل يحل عليه، فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدين. قال: وإن احتاج إليه لمسكن لا بد من مثله، أو خادك يحتاج إلى خدمته. لم يلزمه. وإن احتاج إلى النكاح - وهو يخاج العنت - قدم النكاح، لان الحاجة إلى ذلك على الفور. وإن احتاج إليه في بضاعة يتجر فيها، ليحصل منها ما يحتاج إليه للنفقة، فقد قال أبو العباس، ابن صريح: لا يلزمه الحج، لانه محتاج إليه، فهو كالمسكن والخادم. وفي المغني: إن كان دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه، لانه قادر، وإن كان على معسر، أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه. وعند الشافعية: أنه إذا بذل رجل لاخر راحلة من غير عوض لم يلزمه قبولها، لان عليه في قبول ذلك منة، وفي تحمل المنة مشقة، إلا إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه، لانه أمكنه الحج من غيره منة تلزمه. وقالت الحنابلة: لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يصير مستطيعا بذلك، سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا. وسواء بذل له الركوب والزاد، أو بذل له مالا. 5 - أن لا يوجد ما يمنع الناس من الذهاب إلى الحج كالحبس والخوف من سلطان جائر يمنع الناس منه.   (1) " الاصل " أي الجهاد المقيس عليه، فإنه أصل يقاس عليه الفرع. وهو الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 حج الصبي والعبد لا يجب عليهما الحج، لكنهما إذا حجا صح منهما، ولا يجزئهما عن حجة الاسلام: قال ابن عباس رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما صبى حج ثم بلغ الحنث (1) فعليه أن يحج حجة أخرى. أيما عبد حج ثم أعتق، فعليه أن يحج حجة أخرى " رواه الطبراني بسند صحيح. وقال السائب بن يزيد: حج أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأنا ابن سبع سنين. رواه أحمد والبخاري، والترمذي، وقال: قد أجمع أهل العلم: على أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا. فقالت: ألهذا حج؟ قال: " نعم (2) ولك أجرا (3) ". وعن جابر رضي الله عنه: قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم. رواه أحمد، وابن ماجه. ثم إن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه وأدى مناسك الحج، وإلا أحرم عنه وليه (4) ولبى عنه وطاف به وسعى، ووقف بعرفة، ورمى عنه. ولو بلغ قبل الوقوف بعرفة، أو فيها: أجزأ عن حجة الاسلام، كذلك العبد إذا أعتق.   (1) الحنث: الاثم، أي بلغ أن يكتب عليه إثمه. (2) أكثر أهل العلم على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته، وهو مروي عن عمر. (3) أي فيما تتكلفين من أمره بالحج، وتعليمه إياه. (4) قال النووي: الولي الذي يحرم عنه إذا كان غير مميز هو ولي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي من جهة الحاكم. اما الام فلا يصح احرامها الا إذا كانت وصيز أو منصوبة من جهة الحاكم. وقيل: يصح إحرامها وإحرام الوصية وإن لم يكن لهما ولاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وقال مالك، وابن المنذر: لايجزئهما، لان الاحرام العقد تطوعا، فلا ينقلب فرضا. حج المرأة : يجب على المرأة الحج، كما يجب على الرجل، سواء بسواء، إذا استوفت شرائط الوجوب التي تقدم ذكرها، ويزاد عليها بالنسبة للمرأة أن يصحبها زوج أو محرم (1) . فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل، فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة وكذا وكذا فقال: " انطلق فحج (2) مع امرأتك " رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم. وعن يحيى بن عباد قال: كتبت امرأة من أهل الري إلى إبراهيم النخعي: إني لم أحج حجة الاسلام، وأنا موسرة، ليس لي ذو محرم، فكتب إليها: " إنك ممن لم يجعل الله له سبيلا ". وإلى اشتراط هذا الشرط، وجعله من جملة الاستطاعة، ذهب أبو حنيفة وأصحابه، والنخعي، والحسن، والثوري، وأحمد، وإسحق. قال الحافظ: والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات، وفي قول: تكفي امرأة واحدة ثقة، وفي قول - نقله الكرابيسي وصححه في المهذب - تسافر وحدها، إذا كان الطريق آمنا. وهذا كله في الواجب من حج أو عمرة.   (1) قال الحافظ في الفتح: وضابط المحرم عند العلماء: من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد: أخت الزوجة وعمتها، وبالمباح: أم الموطوءة بشبهة وبنتها، وبحرمتها: الملاعنة. (2) هذا الامر للندب، فإنه لا يلزم الزوج أو المحرم السفر مع المرأة، إذا لم يوجد غيره، لما في الحج من المشقة، ولانه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه، ليحصل غيره ما يجب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 وفي " سبل السلام ": قال جماعة من الائمة: يجوز للعجوز السفر من غير محرم. وقد استدل المجيزون لسفر المرأة من غير محرم ولازوج - إذا وجدت رفقة مأمونة، أو كان الطريق آمنا - بماروه البخاري عن عدي بن حاتم قال: " بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: " يا عدي هل رأيت الحيرة (1) " قال: قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (2) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله ". واستدلوا أيضا بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن بعد أن أذن لهن عمر في آخر حجة حجها، وبعث معهن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن ابن عوف. وكان عثمان ينادي: ألا لا يدنو أحد منهن، ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الابل. وإذا خالفت المرأة وحجت، دون أن يكون معها زوج أو محرم، صح حجها. وفي سبل السلام قال ابن تيمية: إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم، ومن غير المستطيع. وحاصله: أن من لم يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة، مثل المريض، والفقير، والمعضوب، والمقطوع طريقه، والمرأة بغير محرم، وغير ذلك، إذا تكلفوا شهود المشاهد، أجزأهم الحج. ثم منهم من هو محسن في ذلك، كالذي يحج ماشيا، ومنهم من هو مسئ في ذلك، كالذي يحج بالمسألة، والمرأة تحج بغير محرم. وإنما أجزأهم، لان الاهلية تامة، والمعصية إن وقعت، في الطريق، لا في نفس المقصود.   (1) " الحيرة " قرية قريبة من الكوفة. (2) " الظعينة " أي الهودج فيه امرأة أم لا - اه. قاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وفي المغني: لو تجشم غير المستطيع المشقة، سار بغير زاد وراحلة فحج، كان حجه صحيحا مجزئا. استئذان المرأة زوجها: يستحب للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إلى الحج الفرض، فإن أذن لها خرجت، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إذنه، لانه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة، لانها عبادة وجبت عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولها أن تعجل به لتبرئ ذمتها، كمالها أن تصلي أول الوقت، وليس له منعها، ويليق به الحج المنذور، لانه واجب عليه كحجة الاسلام. وأما حج التطوع فله منعها منه. لما رواه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في امرأة كان لها زوج ولها مال، فلا يأذن لها في الحج - قال: " ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها ". من مات وعليه حج من مات وعليه حجة الاسلام، أو حجة كان قد نذرها وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من ماله، كما أن عليه قضاء ديونه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما ان امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ان أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: " نعم، حجي عنها. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء " رواه البخاري. وفي الحديث دليل على وجوب الحج عن الميت، سواء أوصى أم لم يوص، لان الدين يجب قضاؤه مطلقا، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة، أو زكاة، أو نذر. وإلى هذا ذهب ابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والشافعي، ويجب إخراج الاجرة من رأس المال عندهم. وظاهر أنه يقدم على دين الآدمي إذا كانت التركة لا تتسع للحج والدين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 لقوله صلى الله عليه وسلم: " فالله أحق بالوفاء ". وقال مالك: إنما يحج عنه إذا أوصى. أما إذا لم يوص فلا يحج عنه، لان الحج عبادة غلب فيه جانب البدنية، فلا يقبل النيابة. وإذا أوصى حج من الثلث. لحج عن الغير من استطاع السبيل إلى الحج ثم عجز عنه، بمرض أو شيخوخة، لزمه إحجاج غيره عنه، لانه أيس من الحج بنفسه لعجزه، فصار كالميت فينوب عنه غيره. ولحديث الفضل بن عباس: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخا كبيرا لايستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم " وذلك في حجة الوداع: رواه الجماعة، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الترمذي أيضا: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون أن يحج عن الميت. وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه، حج عنه. وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي إذا كان كبيرا وبحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك والشافعي. (1) وفي الحديث دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل والمرأة، والرجل يجوز له أن يحج عن الرجل والمرأة، ولم يأت نص يخالف ذلك. إذا عوفي المعضوب (2) إذا عوفي المريض بعد أن حج عنه نائبه فإنهيسقط الفرض عنه ولا تلزمه   (1) وهذا قول أحمد والاحناف. (1) " المعضوب " الزمن الذي لاحراك له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 الاعادة، لئلا تقضي إلى إيجاب حجتين، وهذا مذهب أحمد. وقال الجمهور: لايجزئه، لانه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه، وأن العبرة بالانتهاء. ورجح ابن حزم الرأي الاول، فقال: إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج عمن لايستطيع الحج، راكبا، ولا ماشيا، وأخبر أن دين الله يقضى عنه، فقد تأدى الدين بلاشك وأجزأ عنه. وبلا شك إن ما سقط وتأدى فلا يجوز أن يعود فرضه بذلك إلا بنص. ولا نص ههنا أصلا بعودته. ولو كان ذلك عائدا لبين عليه الصلاة والسلام ذلك. إذ قد يقوى الشيخ فيطيق الركوب. فإذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلا يجوز عودة الفرض عليه بعد صحة تأديته عنه. شرط الحج عن الغير يشترط فيمن يحج عن غيره، أن يكون قد سبق له الحج عن نفسه. لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: " فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة " رواه أبو داود، وابن ماجه. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه. قال ابن تيمية: إن أحمد حكم - في رواية ابنه صالح عنه - أنه مرفوع على أنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف. وهذا قول أكثر أهل العلم: أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقا، مستطيعا كان أولا، لان ترك الاستفصال، والتفريق في حكاية الاحوال، دال على العموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 من حج لنذر وعليه حجة الاسلام : أفتى ابن عباس وعكرمة، بأن من حج لوفاء نذر عليه ولم يكن حج حجة الاسلام أنه يجزئ عنهما. وأفتى ابن عمر، وعطاء: بأنه يبدأ بفريضة الحج، ثم يفي بنذره. لاصرورة في الاسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاصرورة في الاسلام " رواه أحمد وأبو داود. قال الخطابي: الصرورة تفسير تفسيرين. (أحدهما) أن الصرورة، هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل، على مذهب رهبانية النصارى، ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت الاشمط راهب - عبد الاله صرورة متعبد أدنا لبهجتها وحسن حديثها - ولخالها رشدا وإن لم يرشد (والوجه الآخر) أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج. فمعناه على هذا: أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج، فلا يكون صرورة في الاسلام. وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره. وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه، وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي، فلا يكون صرورة. وهذا مذهب الاوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك والثوري: حجه على مانواه. وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقد روي ذلك عن الحسن البصري، وعطاء، والنخعي. الاقتراض للحج : عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سألت رسول الله صلى اللهعليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 عن الرجل لم يحج، أو يستقرض للحج؟ قال: " لا "، رواه البيهقي. الحج من مال حرام ويجزئ الحج وإن كان المال حراما ويأثم عند الاكثر من العلماء. وقال الامام أحمد: لايجزئ، وهو الاصح لما جاء في الحديث الصحيح: " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ". وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة (1) ، ووضع رجله في الغرز (2) فنادى: لبيك اللهم ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك (3) زادك حلال، وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور (4) وإذاخرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لالبيك ولاسعد يك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مأجور ". قال المنذري: رواه الطبراني في الاوسط، ورواه الاصبهاني من حديث أسلم مولى عمر بن الخطاب مرسلا مختصرا. أيهما أفضل في الحج: الركوب أم المشي؟ قال الحافظ في الفتح: قال ابن المنذر: اختلف في الركوب والمشي للحجاج أيهما أفضل؟ قال الجمهور: الركوب أفضل، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه أعون على الدعاء والابتهال، ولما فيه من المنفعة. وقال إسحق بن راهويه: المشي أفضل لما فيه من التعب. ويحتمل أن يقال: يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى (5) بين ابنيه فقال: " ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال:   (1) طيبة: حلال. (2) الغرز. ركاب من جلد يعتمد عليه الراكب حين يركب. (3) لبيك: أجاب الله حجك إجابة بعد إجابة. (4) مبرور: مقبول، لا يخالطه وزر. مأزور: جالب للوزر والاثم. (5) يهادى: يعتمد عليهما في المشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 إن الله عز وجل عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب ". التكسب والمكاري في الحج لا بأس للحاج أن يتاجر، ويؤاجر ويتكسب، وهو يؤدي أعمال الحج والعمرة. قال ابن عباس: إن الناس في أول الحج (1) كانوا يتبايعون بمنى وعرفة، وسوق ذي المجاز (2) ومواسم الحج، فخافوا البيع وهم حرم. فأنزل الله تعالى: (ليس عليكم جناح (3) أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج) رواه البخاري، ومسلم، والنسائي. وعن ابن عباس أيضا، في قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) قال: كانوا لا يتجرون بمنى فأمروا أن يتجروا إذا أفاضوا من " عرفات " رواه أبو داود: وعن أبي أمامة التيمي: أنه قال لا بن عمر: إني رجل أكري (4) في هذا الوجه وإن ناسا يقولون لي: أنه ليس لك حج فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجار، قال: قلت: بلى، قال: فإن لك حجا، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني، فسكت عنه حتى نزلت هذه الآية: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) ، فأرسل إليه وقرأ عليه هذه الآية، وقال: " لك حج " رواه أبو داود، وسعيد بن منصور. وقال الحافظ المنذري أبو أمامة لايعرف اسمه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا سأله فقال: أؤجر نفسي من هؤلاء القوم فأنسك معهم المناسك، ألي أجر؟ قال ابن عباس: نعم   (1) أي في الاسلام. (2) " ذو المجاز " موضع بجوار عرفة. (3) أي لا إثم عليكم، وإن تبتغوا فضلا من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه الله عليكم من الحج، فالاذن في التجارة رخصة، والافضل تركها. (4) " أكري " أي أؤجر الرواحل للركوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 أولئك لهم نصيب مما كسبوا، والله سريع الحساب ". رواه البيهقي، والدراقطني. حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى مسلم قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحق بن إبراهيم جميعا، وعن حاتم، قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسمعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: " دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنه فسأل عن القوم حتى انتهى إلي؟ فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الاعلى، ثم نزع زري الاسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بك يا بن أخي، سل عما شئت؟ فسألته - وهو أعمى - وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة ملتحفا بها (1) ، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب (2) . فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بيده: فعقد تسعا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع (3) سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الخليفة: فولدت " أسماء " بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع، قال: " اغتسلي واستثفري (4) بثوب وأحرمي ". فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب " القصواء " (5)   (1) نساجة: ثوب كالطيلسان. (2) مشجب: اسم لاعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البدن " الشماعة ". (3) " مكث تسع سنين ". أي بالمدينة. (4) " الاستثفار ". أن تشد في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك الشدود في وسطها لمنع سيلان الدم. (5) " القصواء " اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شئ عملنا به. فأهل (1) بالتوحيد: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج: لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". فجعل المقام بينه وبين البيت. فكان يقرأ في الركعتين " قل هو الله أحد " و " قل يا أيها الكافرون " ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده (2) ، "، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال. " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه   (1) " أهل " من الاهلال: وهو رفع الصوت بالتلبية. (2) هزم الاحزاب وحده: معناه: هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم. والمراد بالاحزاب: الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 هدي فليحل، وليجعلها عمرة ". فقام سراقة بن مالك بن جعثم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لابد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في الاخرى، وقال: " دخلت العمرة في الحج مرتين، لابل لابد أبد ". وقدم علي من اليمن ببدن للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا (1) على فاطمة للذي صنعت، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: " صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟. " قال: قلت: " اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ". قال: " فإن معي الهدي فلانحل. " قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن؟ والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية (2) ، توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر. ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شععر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش ألا أنه واقف   (1) " التحريش " الاغراء. والمراد هنا أن يذكر له ما يقضي عتابها. (2) " يوم التروية " هو اليوم الثامن من ذي الحجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية (1) . فأجاز (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت (3) له. فأتى بطن الوادي (4) فخطب الناس، وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا، دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع (5) وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: بإصبعه السبابة (6) يرفعها إلى السماء ينكتها إلى الناس، اللهم اشهد، اللهم فاشهد ثلاث مرات. تم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما   (1) كانت قريش في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام، وهو جبل بالمزدلفة يقال له فرح. وقيل: إن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه. فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات، لان الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " أي سائر الناس العرب، غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لانها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله، فلا نخرج منه. (2) فأجاز: أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات. (3) " فرحلت " أي جعل عليها الرحل. (4) " بطن الوادي " هو وادي عرفة. (5) " موضوع " أي باطل. (6) " فقال بإصبعه السبابة " أي يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 شيئا (1) ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة (2) بين يديه واستقبل القبلة. فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق (3) للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله (4) ويقول بيده اليمنى (5) : " أيها الناس، السكينة السكينة " كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء، حتى أتى الشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا. فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما (6) فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن (7) يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلا، ثم سلك الطريق   (1) " فصلى الظهر ثم قام فصلى العصر ولم يصل بينهما الخ ": فيه دليل على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الامة عليه، واختلفوا في سببه: فقيل: بسبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر. (2) " جبل المشاة " أي مجتمعهم. (3) " شنق " أي ضم وضيق. (4) " المورك " الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه. قدام واسطة الرحل، إذا مل من الركوب. (5) " يقول بيده " أي يشير بها قائلا: الزموا السكينة. وهي الرفق والطمأنينة. (6) " وسيما " أي جميلا. (7) " الظعن " جمع ظعينة - وهي البعير الذي عليه امرأة، ثم سميت به المرأة مجازا لملابسها البعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الوسطى (1) التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الحذف، رمى من بطن الوادي (2) . ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر (3) وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة (4) فجعلت في قدر، فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت (5) فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد الملك يسقون على زمزم، فقال: " انزعوا (6) بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم (7) لنزعت معكم ". فناولوه دلوا فشرب منه. قال العلماء: واعلم أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه. وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا أخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا. قال: ولو تقصى لزيد على هذا العدد قريب منه. قالوا: وفيه دلالة على أن غسل الاحرام سنة للنفساء والحائض ولغيرهما (1) قوله " ثم سلك الطريق الوسطى " فيه دليل على أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة. وهو غير الطريق الذي ذهب به إلى عرفات. وكان قد ذهب إلى عرفات من طريق " ضب " ليخالف الطريق كما كان يعمل في الخروج إلى العيدين في مخالفته طريق الذهاب والاياب.   (2) قوله: " رمى من بطن الوادي " أي بحيث تكون " منى " و " عرفات " و " المزدلفة " عن يمينه و " مكة " عن يساره. (3) قوله: " فنحر ثلاثا وستين الخ " فيه دليل على استحباب تكثير الهدي وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة و " غبر " أي بقي. (4) البضعة: أي القطعة من اللحم. (5) " فأفاض إلى البيت " أي طاف بالبيت طواف الافاضة، ثم صلى الظهر. (6) " انزعوا " أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (الحبال) . (7) " فلولا أن يغلبكم الناس على الخ. معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 بالاولى. على استثفار الحائض والنفساء وعلى صحة إحرامهما، وأن يكون الاحرام عقب صلاة فرض أو نفل، وأن يرفع المحرم صوته بالتلبية، ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا زاد فلا بأس، فقد زاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك. وأنه ينبغي للحاج القدوم أولا إلى مكة ليطوف طواف القدوم وأن يستلم الركن - الحجر الاسود - قبل طوافه ويرمل في الثلاثة الاشواط الاولى، والرمل أسرع المشي مع تقارب الخطا وهو الخبب، وهذا الرمل يفعله ما عدا الركنين اليمانيين. ثم يمشي أربعا على عادته وأنه يأتي بعد تمام طوافه مقام إبراهيم ويتلو " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ". ثم يجعل المقام بينه وبين البيت ويصلي ركعتين. ويقرأ فيهما في الاولى - بعد الفاتحة - سورة " الكافرون " وفي الثانية - بعد الفاتحة - سورة " الاخلاص ". ودل الحديث أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد كما فعله عند الدخول. واتفق العلماء: على أن الاستلام سنة. وأنه يسعى بعد الطواف ويبدأ من الصفا ويرقى إلى أعلاه ويقف عليه مستقبل القبلة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر ويدعو ثلاث مرات ويرمل في بطن الوادي وهو الذي يقال له " بين الميلين " وهو - أي الرمل - مشروع في كل مرة من السبعة الاشواط لا في الثلاثة الاول كما في طواف القدوم بالبيت، وأنه يرقى أيضا على المروة كما رقي على الصفا ويذكر ويدعو. وبتمام ذلك تتم عمرته. فإن حلق أو قصر صار حلالا. وهكذا فعل الصحابة الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة. وأما من كان قارنا، فإنه لا يحلق ولا يقصر، ويبقى على إحرامه ثم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 يوم التروية : - وهو الثامن من ذي الحجة - يحرم من أراد الحج ممن حل من عمرته ويذهب هو ومن كان قارنا إلى منى، والسنة أن يصلي بمنى الصلوات الخمس، وأن يبيت بها هذه الليلة - وهي ليلة التاسع من ذي الحجة. ومن السنة كذلك أن لا يخرج يوم عرفة من منى إلا بعد طلوع الشمس، ولا يدخل " عرفات " إلا بعد زوال الشمس. وبعد صلاة الظهر والعصر جميعا ب " عرفات " فإنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وليست من عرفات. ولم يدخل صلى الله عليه وسلم الموقف إلا بعد الصلاتين. ومن السنة أن يصلي بينهما شيئا، وأن يخطب الامام الناس قبل الصلاة، وهذه إحدى الخطب المسنونة في الحج. والثانية - أي من الخطب المسنونة - يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر. والثالثة - أي من الخطب المسنونة - يوم النحر. والرابعة - يوم النفر الاول. وفي الحديث سنن وآداب منها: أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين. وأن يقف - في عرفات - راكبا أفضل. وأن يقف عند الصخرات، عند موقف النبي صلى الله عليه وسلم، أو قريبا منه. وأن يقف مستقبل القبلة. وأن يبقي في الموقف حتى تغرب الشمس. ويكون في وقوفه داعيا لله عزوجل، رافعا يديه إلى صدره، وأن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسكينة، ويأمر الناس بها إن كان مطاعا. فإذا أتى المزدلفة نزل وصلى المغرب والعشاء جمعا بأذان واحد وإقامتين، دون أن يتطوع بينهما شيئا من الصلوات. وهذا الجمع متفق عليه بين العلماء. وإنما اختلفوا في سببه. فقيل: أنه نسك، وقيل: لانهم مسافرون، أي السفر هو العلة لمشروعية الجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 ومن السنن: المبيت بمزدلفة، وهو مجمع على أنه نسك وإنما اختلفوا في كونه - أي المبيت - واجبا أو سنة. ومن السنة، أن يصلي الصبح في المزدلفة ثم يدفع عنها بعد ذلك. فيأتي المشعر الحرام فيقف به، ويدعو. والوقوف عنده من المناسك: ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفارا بليغا، فيأتي بطن محسر فيسرع السير فيه، لانه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل. فلاينبغي الاناة فيه. ولا البقاء فيه. فإذا أتى الجمرة - وهي جمرة العقبة - نزل ببطن الوادي رماها بسبع حصيات، كل حصاة كحبة الباقلاء - أي الفول - يكبر مع كل حصاة. ثم ينصرف بعد ذلك إلى النحر فينحر - إن كان عنده هدى ثم يحلق بعد نحره. ثم يرجع إلى مكة فيطوف طواف الافاضة - وهو الذي يقال له طواف الزيارة. ومن بعده يحل له كل ما حرم عليه بالاحرام، حتى وطء النساء. وأما إذا رمى جمرة العقبة. ولم يطف هذا الطواف فإنه يحل له كل شئ ماعد النساء. هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه والآتي به مقتد به، صلى الله عليه وسلم، وممتثل لقوله: " خذوا عني مناسككم " وحجه صحيح. وإليك تفصيل هذه الاعمال وبيان آراء العلماء، ومذهب كل منهم، في كل عمل من أعمال الحج. المواقيت المواقيت جمع ميقات. كمواعيد وميعاد، وهي مواقيت زمانية ومواقيت مكانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 المواقيت الزمانية : هي الاوقات التي لا يصح شئ من أعمال الحج إلا فيها، وقد بينها الله تعالى في قوله: (يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وقال: (الحج أشهر معلومات) أي وقت أعمال الحج أشهر معلومات. والعلماء مجمعون: على أن المراد بأشهر الحج شوال، وذو القعدة. واختلفوا في ذي الحجة. هل هو بكماله من أشهر الحج، أو عشر منه؟ فذهب ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، والاحناف والشافعي، وأحمد، إلى الثاني. وذهب مالك إلى الاول. ورجحه ابن حزم فقال: قال تعالى: (الحج أشهر معلومات) . ولا يطلق على شهرين، وبعض آخر أشهر. وأيضا، فإن رمي الجمار - وهومن أعمال الحج - يعمل يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وطواف الافاضة - وهو من فرائض الحج - يعمل في ذي الحجة كله بلا خلاف منهم، فصح أنها ثلاثة أشهر. وثمرة الخلاف تظهر، فيما وقع من أعمال الحج بعد النحر. فمن قال: إن ذا الحجة كله من الوقت، قال لم يلزمه دم التأخير. ومن قال: ليس إلا العشر منه قال: يلزمه من التأخير. الاحرام بالحج قبل أشهره: ذهب ابن عباس، وابن عمر، وجابر، والشافعي: إلى أنه لا يصح الاحرام بالحج إلا في أشهره (1) . قال البخاري: وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من السنة (2) أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يصح أن يحرم أحد بالحج، إلا في أشهر الحج.   (1) وقالوا فيمن أحرم قبلها أحل بعمرة ولا يجزئه عن إحرام الحج. (2) قول الصحابي: من السنة كذا. يعطي حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 ويرى الاحناف، ومالك، وأحمد: أن الاحرام بالحج قبل أشهره يصح مع الكراهة. ورجح الشوكاني الرأي الاول، فقال: إلا أنه يقوي المنع من الاحرام قبل أشهر الحج، أن الله - سبحانه - ضرب لاعمال الحج أشهرأ معلومة. والاحرام عمل من أعمال الحج. فمن ادعى أنه يصح قبلها فعليه الدليل. المواقيت المكانية : المواقيت المكانية هي الاماكن التي يحرم منها من يريد الحج أو العمرة. ولا يجوز لحاج أو معتمر أن يتجاوزها، دون أن يحرم. وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجعل ميقات أهل المدينة " ذا الحليفة " (موضع بينه وبين مكة 450 كيلومتر يقع في شمالها) . ووقت (1) لاهل الشام " الجحفة " (موضع في الشمال الغربي من مكة بينه وبينها 187 كيلومتر، وهي قريبة من " رابغ " و " رابغ " بينها وبين " مكة " 204 كيلومتر: وقد صارت " رابغ " ميقات أهل مصر والشام، ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم " جحفة ") . وميقات أهل نجد " قرن المنازل " (جبل شرقي مكة يطل على عرفات، بينه وبين مكة 94 كيلومتر) . وميقات أهل اليمن " يلملم " (جبل يقع جنوب مكة، بينه وبينها 54 كيلومتر) . وميقات أهل العراق " ذات عرق " (موضع في الشمال الشرقي لمكة، بينه وبينها 94 كيلومتر) . وقد نظمها بعضهم فقال: وقد نظمها بعضهم فقال: عرق العراق يلملم اليمن - وبذي الحليفة يحرم المدني   (1) " وقت ": أي حدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 والشام جحفة إن مررت بها - ولاهل نجد قرن فاستبن هذه هي المواقيت التي عينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مواقيت لكل من مر بها، سواء كان من أهل تلك الجهات أم كان من جهة أخرى (1) . وقد جاء في كلامه صلى الله عليه وسلم قوله: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج أو العمرة ". أي إن هذه المواقيت لاهل البلاد المذكورة ولمن مربها. وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة فإنه يحرم منها إذا أتى مكة قاصدا النسك. ومن كان بمكة وأراد الحج، فميقاته منازل مكة. وإن أراد العمرة، فميقاته الخل، فيخرج إليه ويحرم منه وأدنى ذلك " التنعيم ". ومن كان بين الميقات وبين مكة، فميقاته من منزله. قال ابن حزم: ومن كان طريقه لاتمر بشئ من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء، برا أو بحرا. الإحرام قبل الميقات : قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم، لان قول الصحابة " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل المدينة ذا الحليفة " يقضي بالاهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة، فلا أقل من أن يكون تركها أفضل. الإحرام: تعريفه: هونية أحد النسكين: الحج، أو العمرة، أو نيتهما معا: وهو ركن،   (1) فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته، ذو الحليفة، لاجتيازه عليها ولا يؤخر حتى يأتي " رابغ " التي هي ميقاته الاصلي، فإن أخرأساء ولزمه دم عند الجمهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 لقول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". وقد سبق الكلام على حقيقة النية (1) وأن محلها القلب: قال الكمال ابن الهمام: ولم نعلم الرواة لنسكه صلى الله عليه وسلم. روى واحد منهم: أنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول: " نويت العمرة، أو نويت الحج ". آدابه: للاحرام آداب ينبغي مراعاتها، نذكرها فيما يلي: (1) النظافة: وتتحقق بتقليم الاظافر، وقص الشارب ونتف الابط، وحلق العانة، والوضوء، أو الاغتسال، وهو أفضل، وتسريح اللحية، وشعر الرأس. قال ابن عمر رضي الله عنهما: من السنة أن يغتسل (2) إذا أراد الاحرام، وإذا أراد دخول مكة. رواه البزار، والدارقطني، والحاكم، وصححه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن النفساء والحائض تغتسل (3) وتحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وحسنه. (2) التجرد: من الثياب المخيطة ولبس ثوبي الاحرام، وهما رداء يلف النصف الاعلى من البدن، دون الرأس، وإزار يلف به النصف الاسفل منه.   (1) " باب الوضوء " من هذا الكتاب. (2) أي يغتسل بنية غسل الاحرام. (3) قال الخطابي: في أمره عليه الصلاة والسلام الحائض والنفساء بالاغتسال: دليل على أن الظاهر أولى بذلك. وفيه دليل على أن المحدث إذا أحرم، أجزأه أحرامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 وينبغي أن يكونا أبيضين، فإن الابيض أحب الثياب إلى الله تعالى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل، وادهن، ولبس إزاره ورداءه، هو وأصحابه. الحديث رواه البخاري. (3) التطيب: في البدن والثياب، وإن بقي أثره عليه بعد الاحرام (1) . فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيض (2) الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. رواه البخاري، ومسلم. ورويا عنها أنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم، ولحله (3) قبل أن يطوف بالبيت. وقالت: " كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فننضح جباهنا بالمسك عند الاحرام، فإذا عرقت إحدانا، سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا، رواه أحمد، وأبو داود. (4) صلاة ركعتين: ينوي بهما سنة الاحرام، يقرأ في الاولى منهما بعد الفاتحة سورة " الكافرون " وفي الثانية سورة " الاخلاص ". قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة (4) ركعتين. رواه مسلم. وتجزئ المكتوبة عنهما، كما أن المكتوبة تغني عن تحية المسجد. أنواع الإحرام : الاحرام أنواع ثلاثة: 1 - قران. 2 - وتمتع. 3 - وإفراد.   (1) كرهه بعض العلماء، والحديث حجة عليهم. (2) " وبيض " أي بريق. (3) " المراد بالاحلال، بعد المرمى " الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده الا من النساء كما سيأتي. (4) " ذو الحليفة " أي المكان الذي أحرم منه النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 وقد أجمع العلماء: على جواز كل واحد من هذه الانواع الثلاثة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. فمنا من أهل بعمرة، ومنامن أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج. وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة، فحل عند قدومه، وأما من أهل بحج، أو جمع بين الحج والعمرة، فلم يحل، حتى كان يوم النحر، رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، ومالك. معنى القران (1) : أن يحرم من عند الميقات بالحج والعمرة معا. ويقول عند التلبية: " لبيك بحج وعمرة ". وهذا يقتضي بقاء المحرم على صفة الاحرام إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحج جميعا. أو يحرم بالعمرة، ويدخل عليها الحج قبل الطواف (2) معنى التمتع: والتمتع: هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم يحج من عامه الذي اعتمر فيه. وسمي تمتعا، للانتفاع بأداء النسكين في أشهر الحج، في عام واحد، من غير أن يرجع إلى بلده. ولان المتمتع يتمتع بعد التحلل من إحرامه بما يتمتع به غير المحرم من لبس الثياب، والطيب، وغير ذلك. وصفة التمتع: أن يحرم من الميقات بالعمرة وحدها، ويقول عند التلبية " لبيك بعمرة ". وهذا يقتضي البقاء على صفة الاحرام حتى يصل الحاج إلى مكة، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق شعره أو يقصره، ويتحلل فيخلع   (1) سمي بذلك، لما فيه من القران والجمع بين والعمرة، بإحرام واحد. (2) يطلق على هذا لفظ " تمتع " في الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 ثياب الإحرام : ويلبس ثيابه المعتادة ويأتي كل ما كان قد حرم عليه بالاحرام، إلى أن يجئ يوم التروية، فيحرم من مكة بالحج. قال في الفتح: والذي ذهب إليه الجمهور: أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بين الحج والعمرة في سفر واحد في أشهر الحج، في عام واحد، وأن يقدم العمرة وأن يكون مكيا. فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا. معنى الافراد: والافراد أن يحرم من يريد الحج من الميقات بالحج وحده، ويقول في التلبية: " لبيك بحج " ويبقى محرما حتى تنتهي أعمال الحج، ثم يعتمر بعد أن شاء. أي أنواع النسك أفضل؟ اختلف الفقهاء في الافضل من هذه الانواع (1) . فذهبت الشافعية إلى أن الافراد والتمتع أفضل من القران، إذ أن المفرد، أو المتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله. والقارن يقتصر على عمل الحج وحده. وقالوا - في التمتع والافراد - قولان: أحدهما أن التمتع أفضل، والثاني أن الافراد أفضل. وقالت الحنفية: القران أفضل من التمتع والافراد والتمتع، أفضل من الافراد. وذهبت المالكية إلى أن الافراد أفضل من التمتع والقران. وذهبت الحنابلة إلى أن التمتع أفضل من القران، ومن الافراد. وهذا هو الاقرب إلى اليسر، والاسهل على الناس (2) .   (1) هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحيح أنه كان قارنا لانه كان قد ساق الهدي. (2) لا سيما نحن - المصريين - وأمثالنا ممن لا يسوق معه هديا، فإن ساق الهدي كان القران أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 وهو الذي تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأمر به أصحابه. روى مسلم عن عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أهللنا - أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا وحده، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل. قال: " حلوا وأصيبوا النساء " ولم يعزم عليهم (1) ، ولكن أحلهن لهم. فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا نفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة، تقطر مذاكيرنا المني؟. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: " قد علمتم أني أتقاكم لله، وأصدقكم، وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا " فحللنا، وسمعنا، وأطعنا. جواز اطلاق الاحرام من أحرم إحراما مطلقا، قاصدا أداء ما فرض الله عليه، من غير أن يعين نوعا من هذه الانواع الثلاثة، لعدم معرفته بهذا التفصيل، جاز وصح إحرامه. قال العلماء: ولو أهل ولبى - كما يفعل الناس - قصدا للنسك، ولم يسم شيئا بلفظه، ولا قصد بقلبه، لاتمتعا ولاإفرادا، ولاقرانا، صح حجه أيضا. وفعل واحدا من الثلاثة. طواف القارن والمتمتع وسعيهما وأنه ليس لاهل الحرم إلا الإفراد : عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون، والانصار، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، واهل لنا، فلما قدمنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعلوا إهلالكم عمرة إلا من قلد الهدي " فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء ولبسنا الثياب. وقال: " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله "، ثم   (1) " لم يعزم عليهم ": أي لم يوجبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت، وبالصفا والمروة، فقدتم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) إلى أمصاركم (1) الشاة تجزي. فجمعوا نسكين في عام، بين الحج والعمرة، فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) . وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى: شوال، وذو القعدة وذو الحجة. فمن تمتع في هذه الاشهر فعليه دم أو صوم. رواه البخاري. 1 - وفي هذا الحديث دليل على أن أهل الحرم لا متعة لهم ولا قران (2) ، وأنهم يحجون حجا مفردا ويعتمرون عمرة مفردة. وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة لقول الله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) . واختلفوا في من هم حاضر والمسجد الحرام. فقال مالك: هم أهل مكة بعينها، وهو قول الاعرج واختاره الطحاوي، ورجحه. وقال ابن عباس وطاوس وطائفة: هم أهل الحرم. قال الحافظ: وهو الظاهر. وقال الشافعي: من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة. واختاره ابن جرير. وقالت الاحناف من كان أهله بالميقات أو دونه. والعبرة بالمقام لا بالمنشأ. 2 - وفيه: أن على المتمتع أن يطوف ويسعى للعمرة أولا: ويغني هذا عن طواف القدوم الذي هو طواف التحية ثم يطوف طواف الافاضة بعد الوقوف بعرفة، ويسعى كذلك بعده.   (1) " أمصاركم " أي أوطانكم. (2) يرى مالك، والشافعي، وأحمد: أن للمكي أن يتمتع ويقرن، بدون كراهة، ولاشئ عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 أما القارن فقد ذهب الجمهور من العلماء: إلى أنه يكفيه عمل الحج، فيطوف طوافا واحدا (1) ويسعى سعيا واحدا للحج والعمرة، مثل الفرد (2) . 1 - فعن جابر رضي الله عنه، قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة. وطاف لهما طوافا واحدا. رواه الترمذي وقال: حديث حسن. 2 - وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أهل بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد وسعي واحد ". رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح غريب، وخرجه الدارقطني وزاد: " ولا يحل منهما حتى يحل منهما جميعا ". 3 - وروى مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة " طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ". وذهب أبو حنيفة: إلى أنه لابد من طوافين وسعيين. والاول أولى لقوة أدلته. 4 - وفي الحديث: أن على التمتع والقارن هديا، وأقله شاة، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. والاولى أن يصوم الايام الثلاثة في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة. ومن العلماء من جوز صيامها من أول شوال. منهم: طاوس، ومجاهد. ويرى ابن عمر رضي الله عنهما أن يصوم قبل يوم التروية ويوم التروية، ويوم عرفة. فلولم يصمها، أو يصم بعضه قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن، إلا لمن لا يجد الهدي. رواه البخاري. وإذا فاته صيام الايام الثلاثة في الحج، لزمه قضاؤها.   (1) أي طواف الافاضة بعد الوقوف بعرفة. (2) والفرق بينهما أنه في حالة القرن يقرن بينهما في نيته عند الاحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 وأما السبعة الايام. فقيل: يصومها إذا رجع إلى وطنه. وقيل إذا رجع إلى رحله. وعلى الرأي الاخير يصح صومها في الطريق. هو مذهب مجاهد، وعطاء. ولا يجب التتابع في صيام هذه الايام العشرة. وإذا نوى وأحرم شرع له أن يلبي. التلبية : (1) حكمها: أجمع العلماء على: أن التلبية مشروعة. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا آل محمد، من حج منكم فليهل (2) في حجه " أو (3) " حجته " رواه أحمد، وابن حبان. وقد اختلفوا في حكمها، وفي وقتها، وفي حكم من أخرها. فذهب الشافعي، وأحمد: إلى أنها سنة، وأنه يستحب اتصالها بالاحرام. فلو نوى النسك ولم يلب، صح نسكه، دون أن يلزمه شئ لان الاحرام عندهما ينعقد بمجرد النية. ويرى الاحناف: أن التلبية، أو ما يقوم مقامها - مما هو في معناها كالتسبيح، وسوق الهدي - شرط من شروط الاحرام، فلو أحرم، ولم يلب أو لم يسبح، أو لم يسق الهدي فلا إحرام له. وهذا مبني: على أن الاحرام عندهم مركب من النية وعمل من أعمال الحج. فإذا نوى الاحرام وعمل عملا من أعمال النسك، فسبح، أو هلل، أو ساق الهدي ولم يلب، فإن إحرامه ينعقد، ويلزمه بترك التلبية دم.   (1) التلبية: من " لبيك " بمنزلة التهليل من " لا إله إلا الله " (2) " فليهل " أي ليرفع صوته بالتلبية. (3) أو (للشك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 ومشهور مذهب مالك: انها واجبة، يلزم يتركها أو ترك اتصالها بالاحرام مع الطول دم. لفظها: روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لبيك (1) اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". قال نافع: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها " لبيك، لبيك، لبيك وسعديك (2) والخير بيديك، لبيك والرغباء (3) إليك، والعمل "، وقد استحب العلماء الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الزيادة عليها. فذهب الجمهور: إلى أنه لا بأس بالزيادة عليها، كما زاد ابن عمروكما زاد الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا يقول لهم شيئا، رواه أبو داود، والبيهقي. وكره مالك، وأبو يوسف: الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فضلها: 1 - روى ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن محرم يضحي يومه (4) يلبي حتى تغيب الشمس، إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه ". 2 - وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " منا   (1) قال الزمخشري: معنى لبيك: أي دواما على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد أخرى، من " لب " بالمكان، و " ألب ". إذا أقام به. (2) وسعديك: أي إسعاد بعد إسعاد، من المساعدة والموافقة على الشئ. (3) " الرغباء " أي الطلب والمسألة. والمعنى الرغبة إلى من بيده الخير. وهو المقصود بالعمل. (4) " يضحي " أي يظل يومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 أهل مهل قط، إلا بشر، ولاكبر مكبر قط إلا بشر ". قيل: يا نبي الله: بالجنة؟ قال: " نعم ". رواه الطبراني، وسعد بن منصور. 3 - وعن سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يلبي إلا لبي من عن يمينه وشماله، من حجر، أو شجر، أو مدر (1) حتى تنقطع الارض من هاهنا وهاهنا ". رواه ابن ماجه، والبيهقي، والترمذي والحاكم، وصححه. استحباب الجهر بها: 1 - عن زيد بن خالد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جاءني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج ". رواه ابن ماجه، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، وقال: صحيح الاسناد. 2 - وعن أبي بكر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الحج أفضل؟ فقال: " العح (2) والثج (3) ". رواه الترمذي، وابن ماجه. 3 - وعن أبي حازم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا، لم يبلغوا الروحاء حتى تبح (4) أصواتهم. وقد استحب الجمهور رفع الصوت بالتلبية، لهذه الاحاديث: وقال مالك: لا يرفع (الملبي) الصوت في مسجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه، إلا في مسجد منى والمسجد الحرام، فإنه يرفع صوته فيهما. وهذا بالنسبة للرجال: أما المرأة فتسمع نفسها ومن يليها، ويكره لها أن ترفع صوتها أكثر من ذلك.   (1) " المدر " أي الحصى. (2) " العج " رفع الصوت بالتلبية. (3) " الثج " نحر الهدي. (4) " تبح " أي تغلظ وتخش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 وقال عطاء: يرفع الرجال أصواتهم. وأما المرأة فتسمع نفسها، ولا ترفع صوتها. المواطن التي تستحب التلبية فيها: تستحب التلبية في مواطن: عند الركوب، أو النزول، وكلما علا شرفا (1) أو هبط واديا (2) ، أو لفي ركبا، وفي دبر كل صلاة، وبالاسحار. قال الشافعي: ونحن نستحبها على كل حال. وقتها: يبدأ المحرم بالتلبية من وقت الاحرام، إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، باول حصاة ثم يقطعها. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة. رواه الجماعة. وهذا مذهب الثوري، والاحناف، والشافعي وجمهور العلماء. وقال أحمد، وإسحاق: يلبي حتى يرمي الجمرات جميعها، ثم يقطعها. وقال مالك: يلبي حتى تزول الشمس من يوم عرفة ثم يقطعها. هـ ذا بالنسبة للحج. وأما المعتمر فيلبي حتى يستلم الحجر الاسود. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم (3) . استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء بعدها: عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: يستحب للرجل - إذا فرغ من تلبينه - أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه، واستعقه من الناس. رواه الطبراني وغيره.   (1) " الشرف " المكان المرتفع. (2) " الوادي " المكان المنخفض. (3) قال إذا أحرم من الميقات قطع التلبية بدخول الحرم. وإن أحرم من الجعرانة أو التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 ما يباح للمحرم : (1) الاغتسال وتغيير الرداء والازار: فعن إبراهيم النخعي قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئرا ميمون اغتسلوا، ولبسوا أحسن ثيابهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه دخل حمام الجحفة وهو محرم. قيل له: أتدخل الحمام وأنت محرم؟ فقال: إن الله ما يعبأ (1) بأوساخنا شيئا. وعن جابر رضي الله عنه قال: يغتسل المحرم، ويغسل ثوبه. وعن عبد الله بن حنين: أن ابن عباس، والمسور بن مخرمة اختلفا بالابواء (2) فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه. وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الانصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين (3) ، وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين. أرسلني اليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل، وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه (4) حتى بدا لي رأسه ثم قال: الانسان يصب عليه الماء: أصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيده، فأقبل بهما، وأدبر فقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل. رواه الجماعة، إلا الترمذي. وزاد البخاري في رواية: فرجعت اليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك (5) أبدا. قال الشوكاني: والحديث يدل على جواز الاغتسال للمحرم، وتغطية الرأس باليد حاله - أي حال الاغتسال. قال ابن المنذر: أجمعوا: على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك.   (1) " ما يعبأ ": أي لا يصنع. (2) " الابواء ": اسم مكان. (3) " القرنين " قرني البئر. (4) " طأطأ ": أي أزاله عن رأسه. (5) " أماريك " أي أجادلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 وروى مالك في الموطأ عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يغسل رأسه وهو محرم، إلا من الاحتلام. وروي عن مالك: أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء. ويجوز استعمال الصابون وغيره من كل ما يزيل الاوساخ، كالاشنان والسدر (1) والخطمي. وعند الشافعية والحنابلة، يجوز أن يغتسل بصابون له رائحة، وكذلك يجوز نقض الشعر وامتشاطه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فقال: " انقضي رأسك وامتشطي ". رواه مسلم. قال النووي: نقض الشعر والامتشاط جائزان عندنا في الاحرام بحيث لا ينتف شعرا، ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر، ولا بأس بحمل متاعه على رأسه. (2) لبس التبان: وروى البخاري، وسعيد بن منصور عن عائشة: أنها كانت لا ترى بالتبان بأسا للمحرم (2) (3) تغطية وجهه: روى الشافعي، وسعيد بن منصور، عن القاسم، قال: كان عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، ومروان بن الحكم يخمرون (3) وجوههم وهم محرمون. وعن طاوس: يغطي المحرم وجهه من غبار، أو رماد. وعن مجاهد قال: كانوا إذا هاجت الريح غطوا وجوههم، وهم محرمون.   (1) " السدر ": ورق النبق. (2) " التبان " سروال قصير، قال الحافظ: هذا رأي رأته عائشة، والاكثرون على أنه لا فرق بين التبان والسراويل، في منعه للمحرم. (3) " يخمرون " أي يسترون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 (4) لبس الخفين للمرأة: لما رواه أبو داود، والشافعي عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين. (5) تغطية رأسه ناسيا: قالت الشافعية: لا شئ على من غطى رأسه ناسيا، أو لبس قميصه ناسيا. وقال عطاء: لاشئ عليه، ويستغفر الله تعالى. وقالت الاحناف: عليه الفدية. وكذلك الخلاف فيما إذا تطيب ناسيا، أو جاهلا. وقاعدة الشافعية: أن الجهل والنسيان، عذر يمنع وجوب الفدية في كل محظور، ما لم يكن إتلافا كالصيد، وكذلك الحق والقلم (1) ، على الاصح عندهم. وسيأتي ذلك في موضعه. (6) الحجامة، وفقء الدمل، ونزع الضرس، وقطع العرق: قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وسط رأسه (2) وقال مالك: لا بأس للمحرم أن يفقأ الدمل، ويربط الجرح، ويقطع العرق إذا احتاج. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحرم ينزع ضرسه، ويفقأ القرحة. قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام، لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك. وعن الحسن: فيها الفدية، وإن لم يقطع شعرا. وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية. وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس.   (1) " القلم ": أي قص الاظافر. (2) قال ابن تيمية: لا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 (7) حك الرأس والجسد: فعن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن المحرم يحك جسده؟ قالت: نعم، فليحككه وليشدد. رواه البخاري، ومسلم، ومالك. وزاد: ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت. وروي مثل ذلك عن ابن عباس، وجابر وسعيد بن جبير، وعطاء، وإبراهيم النخعي. (8، 9) النظر في المرآة وشم الريحان: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: المحرم يشم الريحان وينظر في المرآة، ويتداوى بأكل الزيت والسمن. وعن عمربن عبد العزيز: أنه كان ينظر فيها وهو محرم، ويتسوك وهو محرم. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن، وعلى أن المحرم ممنوع من استعمال الطيب في جميع بدنه. وكره الاحناف والمالكية المكث في مكان فيه روائح عطرية، سواء أقصد شمها أم لم يقصد. وعند الحنابلة والشافعية: إن قصد حرم عليه، وإلا فلا. وقال الشافعية: ويجوز أن يجلس عند العطار في موضع يبخر، لان في المنع من ذلك مشقة، ولان ذلك ليس بطيب مقصود. والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون في موضع قربة، كالجلوس عند الكعبة وهي تجمر، فلا يكره ذلك، لان الجلوس عندها قربة، فلا يستحب تركها لامر مباح. وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة ولا فدية عليه. (10، 11) شد الهميان في وسط المحرم ليحفظ فيه نقوده ونقود غيره ولبس الخاتم. قال ابن عباس: لا بأس بالهميان، والخاتم، للمحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 (12) الاكتحال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد، ما لم يكتحل بطيب، ومن غير رمد. وأجمع العلماء على جوازه للتداوي لاللزينة. (13) تظلل المحرم بمظلة أو خيمة أو سقف ونحو ذلك: قال عبد الله بن عامر: خرجت مع عمر رضي الله عنه فكان يطرح النطع على الشجرة، فيستظل به وهو محرم، أخرجه ابن أبي شيبة. وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة بن زيد، وبلالا، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والاخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. أخرجه أحمد، ومسلم. وقال عطاء: يستظل المحرم من الشمس، ويستكن من الريح والمطر. وعن ابراهيم النخعي: أن الاسود بن يزيد، طرح على رأسه كساء يستكن، به من المطر، وهو محرم. (14) الخضاب بالحناء: ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يحرم على المحرم، ذكرا كان أو انثى، الاختضاب بالحناء، في أي جزء من البدن ما عدا الرأس. وقالت الشافعية: يجوز للرجل الخضاب بالحناء حال الاحرام في جميع أجزاء جسده، ما عدا اليدين والرجلين، فيحرم خضبهما بغير حاجة، وكذا لا يغطي رأسه بحناء ثخينة. وكرهوا للمرأة الخضاب بالحناء حال الاحرام إلا إذا كانت معتدة من وفاة، فيحرم عليها ذلك، كما يحرم عليها الخضاب إذا كان نقشا، ولو كانت معتدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 وقالت الاحناف والمالكية: لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحناء في أي جزء من البدن سواء أكان رجلا أم امرأة، لانه طيب، والمحرم ممنوع من التطيب. وعن خولة بنت حكيم عن أمها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لام سلمة " لا تطيبي وأنت محرمة، ولا تمسي الحناء فإنه طيب ". رواه الطبراني في الكبير، والبيهقي في المعرفة، وابن عبد البر في التمهيد. (15) ضرب الخادم للتأديب: فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا، حتى إذا كنا بالعرج (1) ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست إلى جنب أبي بكر، وكانت زمالة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة، مع غلام لابي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع الغلام، فطلع، وليس مع بعيره، فقال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. فقال ابو بكر: بعير واحد تضلله؟ فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، ويقول: " انظروا لهذا المحرم ما يصنع "؟ فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول: " انظروا لهذا المحرم ما يصنع ". ويبتسم. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه. (16) قتل الذباب والقراد والنمل: فعن عطاء: أن رجلا سأله عن القرادة والنملة تدب عليه وهو محرم، فقال: ألق عنك ما ليس منك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا بأس أن يقتل المحرم القرادة والحلمة (3) . ويجوز نزع القراد من البعير للمحرم.   (1) " العرج ": اسم موضع بين مكة والمدينة. (2) " الزمالة ": أداة المسافر وما يكون معه من السفر. (3) " الحلمة " أكبر القراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 فعن عكرمة: أن ابن عباس أمره أن يقرد (1) بعيرا وهو محرم، فكره ذلك عكرمة، قال: قم فانحره، فنحره، قال: لا أم لك (2) ، كم قتلت فيها من قرادة، وحلمة، وحمنانة (3) (17) قتل الفواسق الخمس وكل ما يؤذي: فعن عائشة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الدواب كلهن فاسق (4) يقتلن في الحرم (5) : الغراب، والحدأة، والعقرب. والفأرة، والكلب العقور ". رواه مسلم، والبخاري، وزاد " الحية ". وقد اتفق العلماء على إخراج غراب الزرع، وهو الغراب الصغير الذي يأكل الحب. ومعنى الكلب العقور: كل ما عقر الناس وأخافهم، وعدا عليهم، مثل الاسد، والنمر، والفهد والذئب. لقول الله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح (6) مكلبين (7) تعلمونهن مما علمكم الله " فاشقها من الكلب. وقالت الاحناف: لفظ " الكلب " قاصر عليه، لا يلحق به غيره في هلا الحكم سوى الذئب. قال ابن تيمية: وللمحرم أن يقتل ما يؤذي - بعادته - الناس، كالحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور.   (1) " يقرد " أي ينزع. (2) " لا أم لك: سب وذم، وقد يكثر على الالسنة ولا يقصد به الذم. (3) " الحمنانة ": أقل من الحلمة. (4) سميت بهذا الاسم لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات، في تحريم قتل المحرم لها، فإن الفسق معناه الخروج. وقيل: إنما وصفت بهذا الوصف لخروجها عن غيرها من الحيوانات، في حل أكله، أو لخروجها عن حكم غيرها بالايذاء، والافساد، وعدم الانتفاع. (5) والحل أيضا. وهو رواية مسلم. (6) " الجوارح ": الكواسب التي تصاد، وهي سباع البهائم والطير كالكب، والصقر. (7) " مكلبين ": أي معلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وله أن يدفع ما يؤذيه من الادميين، والبهائم، حتى ولو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله. فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ". قال: وأذا قرصته البراغيث والقمل، فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شئ عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها. وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله، وإن كان في نفسه محرما، كالاسد، والفهد، فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء. وأما التفلي بدون التأذي، فهو من الترفه فلا يفعله، ولو فعله فلا شئ عليه. محظورات الإحرام : حظر الشارع على المحرم أشياء، وحرمها عليه، نذكرها فيما يلي: 1 - الجماع ودواعيه، كالتقبيل، واللمس لشهوة، وخطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالوطء. 2 - اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي التي تخرج المرء عن طاعة الله. 3 - المخاصمة مع الرفقاء والخدم وغيرهم. والاصل في تحريم هذه الاشياء، قول الله تعالى: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال (1) في الحج) . وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".   (1) الجدال المنهي عنه هنا: هو الجدال بغير علم، أو الجدال في باطل، أما الجدال في طلب الحق فهو مستحب أو واجب (وجادلهم بالتي هي أحسن. ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 4 - لبس المخيط (1) كالقميص والبرنس والقباء (2) والجبة والسراويل، أو لبس المحيط كالعمامة، والطربوش ونحو ذلك مما يوضع على الرأس. وكذلك يحرم لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة، كما يحرم لبس الخف والحذاء (3) . فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس (4) ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس (5) ، ولا زعفران، ولا الخفين، إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ". رواه البخاري، ومسلم. وقد أجمع العلماء على أن هذا مختص بالرجل. أما المرأة فلا تلحق به، ولها أن تلبس جميع ذلك، ولا يحرم عليها إلا الثوب الذي مسه الطيب والنقاب (6) والقفازان (7) . لقول ابن عمر رضي الله عنهما: نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر (8) أو خز (9) ، أو حلي (10) ، أو سراويل أو قميص، أو خف. رواه أبوه داود، والبيهقي، والحاكم ورجاله رجال الصحيح. قال البخاري: ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة، وقالت: لا تلثم، ولا تتبرقع، ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران. وقال جابر: لا أرى المعصفر طيبا. ولم تر عائشة بأسا بالحلي، والثوب الاسود، والمورد، والخف للمرأة وعند البخاري، وأحمد عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) المخيط: ما لبس على قدر العضو. (2) " القباء ": القفطان. (3) " الحذاء " في اللغة العامية المصرية: الجزمة، أو الكندرة. (4) " البرنس ": كل ثواب رأسه منه. (5) " الورس ": نبت أصفر طيب الريح يصبغ به. (6) " النقاب ": ما يستر الوجه كالبرقع. (7) " القفازان ": الجوانتي. (8) " المعصفر ": المصبوغ بالعصفر. (9) " الخز ": نوع من الحرير. (10) " حلي " ما تتزين به المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 " لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين ". وفي هذا دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها: قال العلماء: فإن سترت وجهها بشئ فلا باس (1) . ويجوز ستره عن الرجل بمظلة ونحوها، ويجب ستره إذا خيفت الفتنة من النظر. قالت عائشة: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبانها (2) على وجهها، فإذا جاوزوا بنا كشفناه. رواه أبو داود، وابن ماجه. وممن قال بجواز سدل الثوب: عطاء، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. الرجل الذي لا يجد الازار ولا الرداء ولا النعلين: من لم يجد الازار والرداء، أو النعلين لبس ما وجده. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفات وقال: " إذا لم يجد المسلم إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين (3) ". رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. وفي رواية لاحمد، عن عمرو بن دينار: أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب - يقول: " من لم يجد إزارا ووجد سراويل فليلبسها، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما ". قلت: ولم يقل ليقطعهما؟ قال: لا. وإلى هذا ذهب أحمد فأجاز للمحرم لبس الخف والسراويل، للذي لا يجد النعلين والازار، على حالهما، استدلالا بحديث ابن عباس وأنه لافدية (4) عليه.   (1) اشتراط المجافاة عن الوجه ضعيف لا أصل له، أفاده ابن القيم. كذلك حديث: إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها. (2) " الجلباب " الملحفة. (3) أي إذا لم يجد هذه الاشياء تباع، أو وجدها، ولكن ليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الاصلية. (4) رجح هذا ابن القيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 وذهب جمهور العلماء: إلى اشتراط قطع الخف دون الكعبين لمن لم يجد النعلين، لان الخف يصير بالقطع كالنعلين. لحديث ابن عمر المتقدم، وفيه " إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ". ويرى الاحناف شق السراويل وفتقها لمن لا يجد الازار، فإذا لبسها على حالها لزمته الفدية. وقال مالك والشافعي: لا يفتق السراويل، ويلبسها على حالها، ولا فدية عليه، لما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ". رواه النسائي بسند صحيح. فإذا لبس السراويل، ووجد الازار لزمه خلعه. فإذا لم يجد رداء لم يلبس القميص، لانه يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل. 5 - عقد النكاح لنفسه أو لغيره، بولاية، أو وكالة. ويقع العقد باطلا، لا تترتب عليه آثاره الشرعية. لما رواه مسلم وغيره، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب ". رواه الترمذي وليس فيه " ولا يخطب ". وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل. وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم: " تزوج ميمونة وهو محرم " فهو معارض بمارواه مسلم " أنه تزوجها وهو حلال ". قال الترمذي: اختلفوا في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، لانه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة، فقال بعضهم: تزوجها وهو حلال، وظهر أمر تزويجها وهو محرم، ثم بنى بها وهو حلال بسرف، في طريق مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 وذهب الاحناف إلى جواز عقد النكاح للمحرم، لان الاحرام لا يمنع صلاحية المرأة للعقد عليها، وإنما يمنع الجماع، لاصحة العقد. (6، 7) تقليم الاظفار وإزالة الشعر بالحلق، أو القص أو بأية طريقة، سواء أكان شعر الرأس أم غيره لقول الله تعالى: " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ". وأجمع العلماء: على حرمة قلم الظفر للمحرم، بلا عذر، فإن انكسر، فله إزالته من غير فدية. ويجوز إزالة الشعر، إذا تأذى ببقائه، وفيه الفدية إلا في إزالة شعر العين إذا تأذى به المحرم فإنه لافدية فيه (1) . قال الله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ". وسيأتي بيان ذلك. (8) التطيب في الثوب أو البدن، سواء أكان رجلا أم امرأة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر وجد ريح طيب من معاوية، وهو محرم. فقال له: ارجع فاغسله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحاج الشعث التفل ". رواه البزار بسند صحيح. ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما الطيب الذي بك فاغسله عنك، ثلاث مرات ". وإذا مات المحرم لا يوضع الطيب في غسله ولافي كفنه (2) لقوله صلى الله عليه وسلم - فيمن مات محرما -: " لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ". وما بقي من الطيب الذي وضعه في بدنه، أو ثوبه، قبل الاحرام، فإنه لا بأس به.   (1) قالت المالكية: فيه الفدية. (2) جوز ذلك أبو حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ويباح شم ما لا ينبت للطيب، كالتفاح والسفرجل، فإنه يشبه سائر النبات، في أنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه. وأما حكم ما يصيب المحرم من طيب الكعبة فقد روى سعيد بن منصور، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت أنس بن مالك، وأصاب ثوبه - وهو محرم - من خلوق الكعبة، فلم يغسله. وروى عن عطاء، قال: لا يغسله ولا شئ عليه. وعند الشافعية من تعمد إصابة شئ من ذلك، أو أصابه، وأمكنه غسله، ولم يبادر إليه فقد أساء، وعليه الفدية. (9) لبس الثوب مصبوغا بماله رائحة طيبة: اتفق العلماء على حرمة لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة، إلا أن يغسل، بحيث لا تظهر له رائحة. فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلبسوا ثوبا مسه ورس، أو زعفران، إلا أن يكون غسيلا " يعني في الاحرام، رواه ابن عبد البر، والطحاوي. ويكره لبسه لمن كان قدوة لغيره، لئلا يكون وسيلة لان يلبس العوام ما يحرم، وهو المطيب. لما رواه مالك عن نافع: أنه سمع أسلم - مولى عمر بن الخطاب - يحدث عبد الله بن عمر: أن عمربن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال عمر: ماهذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر (1) . فقال عمر: إنكم - أيها الرهط - أئمة يقتدي بكم الناس، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الاحرام، فلا تلبسوا - أيها الرهط - شيئا من هذه الثياب المصبغة. وأما وضع الطيب في مطبوغ، أو مشروب، بحيث لم يبق له طعم ولا لون ولاريح، إذا تناوله المحرم فلا فدية عليه.   (1) " مدر ": أي مصبوغة بالمغرة. وهو الدر الاحمر الذي تصبغ به الثياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 وإن بقيت رائحته، وجبت الفدية بأكله عند الشافعية. وقالت الاحناف: لافدية عليه، لانه لم يقصد به الترفه بالطيب. (10) التعرض للصيد: يجوز للمحرم أن يصيد صيد البحر، وأن يتعرض له، وأن يشير إليه، وأن يأكل منه. وأنه يحرم عليه التعرض لصيد البر (1) بالقتل أو الذبح، أو الاشارة إليه، وإن كان مرئيا، أو الدلالة عليه، إن كان غير مرئي، أو تنفيره. وأنه يحرم عليه إفساد بيض الحيوان البري، كما يحرم عليه بيعه وشراؤه وحلب لبنه. الدليل على هذا قول الله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة (2) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ". (11) الاكل من الصيد: يحرم على المحرم الاكل من صيد البر الذي صيد من أجله أو صيد بإشارته إليه، أو بأعانته عليه. لما رواه البخاري ومسلم عن عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا، فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم - فيهم أبو قتادة - فقال: " خذوا ساحل البحر حتى نلتقي " فأخذوا ساحل البحر. فلما انصرفوا، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون، إذا رأوا حمر وحش،   (1) " البري ": هو ما يكون توالده وتناسله في البر، وإن كان يعيش في الماء " والبحري " بخلافه عند الجمهور. وعند الشافعية: البري ما يعيش في البر فقط، أو في البر والبحر. و " البحري " ما لا يعيش إلا في البحر. (2) قصر الشافعية والحنابلة: الحرمة على الصيد المأكول من الوحش والطير، فقالوا بحرمة قتله دون غيره من حيوانات البر، فإنه يجوز قتلها عندهم. والجمهور يرى تحريم قتلها جميعا، سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة إلا ما استثناء الحديث: خمس يقتلن في الحل والحرام..الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا (1) ، فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد، ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الاتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا، يارسول الله: إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة، فعقر منها أتانا فنزلنا، فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ " قالوا: لا. قال: " فكلوا ما بقي من لحمها ". ويجوز له أن يأكل من لحم الصيد الذي لم يصده هو، أو لم يصد من أجله، أو لم يشر إليه، أو يعين عليه. لما رواه المطلب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " رواه أحمد والترمذي وقال: حديث جابر مفسر، والمطلب لا نعرف له سماعا من جابر. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لا يرون بأكل الصيد للمحرم بأسا إذا لم يصده أو يصد من أجله. قال الشافعي: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. وأقيس. وهو قول أحمد وإسحق وبمقتضاه قال مالك أيضا والجمهور. فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء، صيد له بإذنه أم بغير إذنه. أما إن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم، أو باعه، لم يحرم عليه. وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: خرجنا مع طلحة بن عبيد الله، ونحن حرم، فأهدي له طير، وطلحة راقد، فمنا من أكل، ومنا من تورع. فلما استيقظ طلحة وفق (2) من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد ومسلم. وما جاء من الاحاديث المانعة من أكل لحم الصيد كحديث الصعب بن   (1) " الاتان ": الانثى من الحمير الوحشية. (2) " وفق ": صوب، أو دعا له بالتوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 جثامة الليثي أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا - بالابواء أو بودان - فرده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه، قال: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ". فهي محمولة على ما صاده الحلال من أجل المحرم، جمعا بين الاحاديث. قال ابن عبد البر: وحجة من ذهب هذا المذهب، أنه عليه تصح الاحاديث في هذا الباب. وإذا حملت على ذلك لم تضاد، ولم تختلف، ولم تتدافع. وعلى هذا يجب تحمل السنن، ولا يعارض بعضها بعض ما وجد إلى استعمالها سبيل. ورجح ابن القيم هذا المذهب وقال: آثار الصحابة كلها في هذا إنما تدل على هذا التفصيل. حكم من ارتكب محظورا من محظورات الاحرام: من كان له عذر، واحتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الاحرام، غير الوطء (1) ، كحلق الشعر، ولبس المخيط اتقاء لحر، أو برد، ونحو ذلك، لزمه أن يذبح شاة، أو يطعم سنة مساكين، كل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. وهو مخير بين هذه الامور الثلاثة. ولا يبطل الحج أو العمرة بارتكاب شئ من المحظورات سوى الجماع. عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال: " قد آذاك هوام رأسك " قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود.   (1) سيأتي حكمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وعنه في رواية أخرى، قال: أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله سبحانه وتعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك. " فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقا (1) من زبيب. أو انسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت ". وقال الشافعي غير المعذور على المعذور في وجوب الفدية، وأوجب أبو حنيفة، الدم، على غير المعذور إن قدر عليه لا غير، كما تقدم. ما جاء في قص بعض الشعر: عن عطاء قال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعدا، فعليه دم (2) . رواه سعيد بن منصور. وروى الشافعي عنه: أنه قال في الشعرة مد، وفي الشعرتين مدان. وفي الثلاثة فصاعدا دم. حكم الادهان: قال في المسوى: ان الادهان إذا كانت بزيت خالص، أو خل خالص، يجب الدم عند أبي حنيفة في أي عضو كان. وعند الشافعية: في دهن شعر الرأس واللحية بدهن غير مطيب، الفدية، ولا فدية في استعماله في سائر البدن. لا حرج على من لبس، أو تطيب ناسيا، أو جاهلا: إذا لبس المحرم أو تطيب - جاهلا بالتحريم، أو ناسيا الاحرام - لم تلزمه الفدية. فعن يعلى بن أمية قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل   (1) " الفرق ": مكيال يسع ستة عشر رطلا عراقيا. (2) والمراد بالدم - هنا - شاة، وإليه ذهب الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 بالجعرانة، وعليه جبة، وهو مصفر لحيته ورأسه. فقال: يارسول الله، أحرمت بعمرة، وأنا كما ترى فقال: " غسل عنك الصفرة، وانزع عنك الجبة، وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك. " رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وقال عطاء: إذا تطيب، أو لبس - جاهلا أو ناسيا - فلا كفارة عليه. رواه البخاري. وهذا بخلاف ما إذا قتل صيدا - ناسيا أو جاهلا بالتحريم - فإنه يجب عليه الجزاء، لان ضمانه ضمان المال. وضمان المال يستوي فيه العلم والجهل، السهو والعمد، مثل ضمان مال الادميين. بطلان الحج بالجماع أفتى علي، وعمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم رجلا أصاب أهله وهو محرم بالحج، فقالوا: ينفذان لوجههما، حتى يقضيا حجمها، ثم عليهما حج قابل، والهدي. وقال أبو العباس الطبري -: إذا جامع المحرم قبل التحلل الاول فسد حجه، سواء أكان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعده. ويجب عليه أن يمضي في فاسده، ويجب عليه بدنة، والقضاء من قابل. فإن كانت المرأة محرمة مطاوعة فعليها المضي في الحج والقضاء من قابل. وكذا الهدي عند أكثر أهل العلم. وذهب بعضهم إلى أن الواجب عليهما هدي واحد، وهو قول عطاء. قال البغوي في شرح السنة: وهو أشهر قولي الشافعي، ويكون على الرجل كما قال في كفارة الجماع، في نهار رمضان. وإذا خرجا في القضاء تفرقا (1) حيث وقع الجماع حذرا من مثل وقوع الاول. وإذا عجز عن البدنة وجب عليه بقرة، فإن عجز فسبع من الغنم، فإن   (1) وجوبا عند أحمد ومالك، وندبا عند الحنفية والشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 عجز قوم البدنة بالدراهم، والدراهم طعاما، وتصدق به، لكل مسكين مد، فإن لم يستطع صام عن كل مد يوما. وقال أصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه، وعليه شاة، أو سبع بدنة، وإن جامع بعده لم يفسد حجه، وعليه بدنة. والقارن إذا أفسد حجه، يجب عليه ما يجب على المفرد، ويقضي - قارنا - ولا يسقط عنه هدي القران. قال: والجماع الواقع بعد التحلل الاول لا يفسد الحج. ولا قضاء عليه، عند أكثر أهل العلم. وذهب بعضهم إلى وجوب القضاء، وهو قول ابن عمر، وقول الحسن، وإبراهيم، ويجب به الفدية. وتلك الفدية بدنة أو شاة؟ اختلف فيه. فذهب ابن عباس وعطاء إلى وجوب البدنة وهو قول عكرمة، وأحد قولي الشافعي (1) . والقول الاخر: يجب عليه شاة. وهو مذهب مالك. وإذا احتلم المحرم، أو فكر، أو نظر فأنزل: فلا شئ عليه عند الشافعية. وقالوا: فيمن لمس بشهوة أو قبل: يلزمه شاة، سواء أنزل، أم لم ينزل. وعند ابن عباس رضي الله عنهما: أن عليه دما. قال مجاهد: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أحرمت، فأتتني فلانة في زينتها، فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي؟ فضحك ابن عباس حتى استلقى، وقال: إنك لشبق (2) ، لا بأس عليك ... أهرق دما، وقد تم حجك. رواه سعيد بن منصور.   (1) واختاره صاحب المبسوط، والبدائع من الاحناف. (2) " الشبق ": شدة الغلمة والرغبة في النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 جزاء قتل الصيد : قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم، هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما، ليذوق وبال أمره، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام) . قال ابن كثير: الذي عليه الجمهور: أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي. ومعنى هذا: أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه، بقوله تعالى: (ليذوق وبال أمره) الاية. وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العمد وأيضا، فإن قتل الصيد إتلاف، والاتلاف مضمون في العمد وفي النسيان. لكن المتعمد مأثوم، والمخطئ غير ماوم. وقال في المسوى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم) . معناه - على قول أبي حنيفة - يجب على من قتل الصيد جزاء هو مثل ما قتل (أي مماثله في القيمة) بحكم - بكونه مماثلا في القيمة، ذوا عدل: إما كائن من النعم، حال كونه هديا بالغ الكعبة، وإما كفارة طعام مساكين. ومعناه - على قول الشافعي - يجب على من قتل الصيد جزاء. إما ذلك الجزاء مثل ما قتل في الصورة والشكل، يكون هذا المماثل من جنس النعم يحتم بمثليته ذوا عدل، يكون جزاء حال كونه هديا. وإما ذلك الجزاء كفارة، وإما عدل ذلك صياما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 حكومة عمر وما قضى به السلف : عن عبد الملك بن قرير عن محمد بن سيرين: أن رجلا جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين إلى ثغرة ثنية (1) فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فما ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟. قال: لا، قال، فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟، قال: لا. فقال عمر: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لاوجعتك ضربا. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) . وهذا عبد الرحمن بن عوف. وقد قضى السلف في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش، وبقر الوحش، والايل (2) والاروى (3) في كل واحد من ذلك ببقرة، وفي الوبر والحمامة والقمري والحجل (4) والدبسي (5) في كل واحدة من هذه بشاة. وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الارنب بعناق (6) وفي الثعلب بجدي، وفي اليربوع (7) بجفرة (8) . العمل عند عدم الجزاء روى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:   (1) " ثغرة ثنية ": أي ثغرة في الطريق. (2) " الايل ": ذكر الوعول. (3) " الاروى ": أنثى الوعل. (4) " الحجل ": الدجاج الوحشي. (5) " الدبسي ": نوع من الطيور. (6) " عناق ": العنز التي زاد ت على أربعة أشهر. (7) " اليربوع ": حيوان على شكل الفأر. (8) " جفرة ": العنز التي بلغت أربعة أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 (فجزاء مثل ما قتل من النعم) قال: إذا أصاب المحرم صيدا حكم عليه بجزائه. فإن كان عنده جزاء ذبحه وتصدق بلحمه. وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاما، فصام عن كل نصف صاع يوما. فإذا قتل المحرم شيئا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيا أو نحوه، فعليه شاة، تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيلا أو نحوه، فعليه بقرة، فإن لم يجد، أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد، صام عشرين يوما. وإن قتل نعامة أو حمار وحش، أو نحوه، فعليه بدنة من الابل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما. رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. وزادوا: الطعام مد ... مد يشبعهم. كيفية الإطعام والصيام : قال مالك: أحسن ما سمعت - في الذي يقتل الصيد، فيحكم عليه فيه - أن يقوم الصيد الذي أصاب، فينظر: كم ثمنه من الطعام؟ فيطعم كل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما وينظر: كم عدة المساكين؟ فإن كانوا عشرة، صام عشرة أيام، وإن كانوا عشرين مسكينا، صام عشرين يوما، عددهم ما كانوا. وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا. الإشتراك في قتل الصيد : إذا اشترك جماعة في قتل صيد عامدين لذلك جميعا، فليس عليهم إلا جزاء واحد. لقول الله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم) . وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن جماعة قتلوا ضبعا، وهم محرمون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 فقال: اذبحوا كبشا. فقالوا عن كل إنسان منا؟ فقال: بل كبشا واحدا عن جميعكم. صيد الحرم وقطع شجره : يحرم على المحرم والحلال (1) صيد الحرم، وتنفيره وقطع شجره الذي لم يستنبته الادميون في العادة، وقطع الرطب من النبات، حتى الشوك إلا إلاذخر (2) والسنا، فإنه يباح التعرض لهما بالقطع، والقلع، والاتلاف ونحو ذلك. لما رواه البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة - " إن هذا البلد حرام، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه (3) ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف " فقال العباس: إلا الاذخر، فإنه لا بد لهم منه، فإنه للقيون (4) والبيوت! فقال: " إلا الاذخر ". قال الشوكاني: قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عنه بما ينبته الله تعالى، من غير صنيع آدمي. فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه: فالجمهور على الجواز. وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الاول. فقال مالك: لا جزاء فيه، بل يأثم. وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي. وقال الشافعي: في العظيمة (5) بقرة، وفيما دونها شاة.   (1) " الحلال ": غير المحرم. (2) " الاذخر ": نبت طيب الرائحة. و " السنا ": السنامكي. (3) " لا يختلي خلاه " أي لا يقطع الرطب من النبات. (4) " القيون " جمع قين، وهو الحداد. (5) العظيمة: أي الشجرة العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 واستثنى العلماء الانتفاع بما انكسر من الاغصان. وانقطع من الشجر من غير صنيع الادمي، وبما يسقط من الورق. قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم، من بقل، وزرع، ومشموم، وأنه لا بأس برعيه واختلائه. وفى الروضة الندية: ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شئ، إلا مجرد الاثم. وأما من كان محرما فعليه الجزاء الذي ذكره الله عزوجل، إذا قتل صيدا. وليس عليه شئ في شجر مكة، لعدم ورود دليل تقوم به الحجة. وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في الدوحة الكبيرة إذا قطعت من أصلها بقرة " لم يصح. وما روي عن بعض السلف لا حجة فيه. ثم قال: والحاصل أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد، وقطع الشجر، وبين وجوب الجزاء، أو القيمة. بل النهي يفيد بحقيقته التحريم. والجزاء والقيمة، لا يجبان إلا بدليل. ولم يرد دليل إلا قول الله تعالى، (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الاية. وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط، فلا يجب غيره. حدود الحرم المكي : للحرم المكي حدود تحيط بمكة، وقد نصبت عليها أعلام في جهات خمس. وهذه الاعلام أحجار مرتفعة قدر متر، منصوبة على جانبي كل طريق. فحده - من جهة الشمال " التنعيم " وبينه وبين مكة 6 كيلو مترات. وحده من جهة الجنوب " أضاه " بينها وبين مكة 12 كيلومترا. وحده من جهة الشرق " الجعرانة " بينها وبين مكة 16 كيلو مترا. وحده من جهة الشمال الشرقي " وادي نخلة " بينه وبين مكة 14 كيلو مترا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 وحده من جهة الغرب " الشميسي " (1) بينها وبين مكة 15 كيلو مترا. قال محب الدين الطبري: عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: نصب إبراهيم أنصاب الحرم يريه جبريل عليه السلام. ثم لم تحرك حتى كان قصي، فجددها. ثم لم تحرك حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم. فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجددها. ثم لم تحرك حتى كان عمر، فبعث أربعة من قريش. محرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، وأزهر ابن عبد عوف. فجد دوها ثم جددها معاوية. ثم أمر عبد الملك بتجديدها. حرمة المدينة : وكما يحرم صيد حرم مكة وشجره، كذلك يحرم صيد حرم المدينة وشجره. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها (2) ولا يصاد صيدها ". رواه مسلم. وروى أحمد، وأبو داود، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: " لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشاد بها (3) ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره ". وفي الحديث المتفق عليه: " المدينة حرم، ما بين عير إلى ثور ". وفيه عن أبي هريرة: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى. " واللابتان " مثنى لابة. و" اللابة " الحرة، وهي الحجارة السود.   (1) كانت تسمى الحديبية، وهي التي وقعت عندها بيعة الرضوان. فسميت الغزوة باسمها. (2) " عضاهها " العضاه: واحدتها عضاهة: وهي الفجوة التي فيها الشوك الكثير. (3) " أشاد بها ": رفع صوته بتعريفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 والمدينة تقع بين اللابتين: الشرقية، والغربية. وقدر الحرم باثني عشر ميلا، يمتد من عير إلى ثور و " عير " جبل عند الميقات، و " ثور " جبل عند أحد، من جهة الشمال. ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل المدينة قطع الشجر لاتخاذه آلة للحرث، والركوب، ونحو ذلك مما لا غنى لهم عنه، وأن يقطعوا من الحشيش ما يحتاجون إليه لعلف دوابهم. روى أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حرام ما بين حرتيها، وحماها كلها، لا يقطع شجرة إلا أن يعلف منها ". وهذا بخلاف حرم مكة، إذ يجد أهله ما يكفيهم. وحرم المدينة لا يجد أهله ما يستغنون به عنه. وليس في قتل صيد الحرم المدني، ولا قطع شجره جزاء، وفيه الاثم. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المدينة حرم، من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ". ومن وجد شيئا في شجره مقطوعا حل له أن يأخذه. فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه، فسلبه. فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم ما أخذ منه. فقال: معاذ الله، أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم. رواه مسلم. وروى أبو داود، والحاكم، وصححه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه ". هل فيه حرم آخر؟ قال ابن تيمية: وليس في الدنيا حرم، لا بيت المقدس، ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما " حرما " كما يسمي الجهال فيقولون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 حرم المقدس، وحرم الخليل، فإن هذين وغيرهما، ليسا بحرم، باتفاق المسلمين. والحرم المجمع عليه: حرم مكة. وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور كما استفاضت بذلك الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث، إلا وجاء، وهو واد بالطائف. وهو عند بعضهم (1) حرم، وعند الجمهور ليس بحرم. تفضيل مكة على المدينة ذهب جمهور العلماء: إلى أن مكة أفضل من المدينة. لما رواه أحمد، وابن ماجه والترمذي، وصححه، عن عبد الله بن عدي ابن الحمراء، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ". وروى الترمذي، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: " ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ". دخول مكة بغير احرام يجوز دخول مكة بغير إحرام، لمن لم يرد حجا ولا عمرة، سواء أكان دخوله لحاجة تتكرر - كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم - أم لم تتكرر، كالتاجر والزائر، وغيرهما، وسواء أكان آمنا أم خائفا. وهذا أصح القولين للشافعي، وبه يفتي أصحابه. وفي حديث مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء، بغير إحرام.   (1) وهو الشافعي وقد رجح الشوكاني رأيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم. وعن ابن شهاب قال: لا بأس بدخول مكة بغير إحرام. وقال ابن حزم: دخول مكة بلا إحرام جائز. لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل المواقيت لمن مر بهن، يريد حجا أو عمرة. ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة. فلم يأمر الله تعالى قط، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام، بأن لا يدخل مكة إلا بإحرام. فهذا إلزام ما لم يأت في الشرع إلزامه. ما يستحب لدخول مكة والبيت الحرام : يستحب لدخول مكة ما يأتي: 1 - الاغتسال: فعن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان يغتسل لدخول مكة. 2 - المبيت بذي طوى في جهة الزاهر. فقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، رواه البخاري، ومسلم. 3 - أن يدخلها من الثنية العليا (ثنية كداء) . فقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم من جهة المعلاة. فمن تيسر له ذلك فعله، وإلا فعل ما يلائم حالته، ولا شئ عليه. 4 - أن يبادر إلى البيت بعد أن يدع أمتعته في مكان أمين، ويدخل من باب بني شيبة - باب السلام - ويقول في خشوع وضراعة: " أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، اللهم صل على محمد وآله وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 5 - إذا وقع نظره على البيت، رفع يديه وقال: " اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتعظيما، وتكريما، ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه، أو اعتمره، تشريفا وتكريما وتعظيما، وبرا " (1) . " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام ". 6 - ثم يقصد إلى الحجر الاسود، فيقبله بدون صوت. فإن لم يتمكن استلمه بيده وقبله. فإن عجز عن ذلك، أشار إليه بيده. 7 - ثم يقف بحذائه ويشرع في الطواف . 8 - ولا يصلي تحية المسجد، فإن تحيته الطواف به، إلا إذا كانت الصلاة المكتوبة مقامة، فيصليها مع الامام. لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ". وكذلك إذا خاف فوات الوقت، يبدأ به فيصليه. الطواف: كيفيته: 1 - يبدأ الطائف طوافه مضطبعا محاذيا الحجر الاسود مقبلا له أو مستلما أو مشيرا إليه، كيفما أمكنه، جاعلا البيت عن يساره، قائلا: " بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ". 2 - فإذا أخذ في الطواف، استحب له أن يرمل في الاشواط الثلاثة الاولى، فيسرع في المشي. ويقارب الخطا، مقتربا من الكعبة. ويمشي مشيا عاديا في الاشواط الاربعة الباقية. فإذا لم يمكنه الرمل، أو لم يستطع القرب من البيت لكثرة الطائفين، ومزاحمة الناس له، طاف حسبما تيسر له.   (1) رواه الشافعي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 ويستحب أن يستلم الركن اليماني. ويقبل الحجر الاسود أو يستلمه في كل شوط من الاشواط السبعة. 3 - ويستحب له أن يكثر من الذكر والدعاء، ويتخير منهما ما ينشرح له صدره، دون أن يتقيد بشئ أو يردد ما يقوله المطوفون. فليس في ذلك ذكر محدود، الزنا الشارع به. وما يقوله الناس: من أذكار وأدعية في الشوط الاول والثاني، وهكذا، فليس له أصل. ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من ذلك، فللطائف أن يدعو لنفسه، ولاخوانه بما شاء، من خيري الدنيا والاخرة. واليك بيان ما جاء في ذلك من الادعية: 1 - إذا استقبل الحجر قال: " اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك، بسم الله والله أكبر " (1) . 2 - فإذا أخذ في الطواف قال: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ". رواه ابن ماجه. 3 - فإذا انتهى إلى الركن اليماني دعا فقال: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ". رواه أبو داود، والشافعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4 - قال الشافعي: وأحب - كلما حاذى الحجر الاسود - أن يكبر، وأن يقول في رمله: " اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا ". ويقول في الطواف عند كل شوط: " رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم وأنت الاعز الاكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، وقنا عذاب النار ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يقول بين الركنين: " اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة بخير " (2) . رواه سعيد بن منصور، والحاكم.   (1) هذا الدعاء روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (2) " أخلف علي " اي اجعل لي عوضا حاضرا عما فاتني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 قراءة القرآن للطائف: لا بأس للطائف بقراءة القرآن أثناء طوافه. لان الطواف إنما شرع من أجل ذكر الله تعالى، والقرآن ذكر. فعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار، لاقامة ذكر الله عز وجل ". رواه أبو داود والترمذي. وقال: حسن صحيح. فضل الطواف: روى البيهقي - بإسناد حسن - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل الله كل يوم على حجاج بيته الحرام، عشرين ومائة رحمة: ستين للطائفين وأربعين للمصلين، وعشرين للناظرين " 5 - فإذا فرغ من الاشواط السبعة صلى ركعتين عند مقام إبراهيم، تاليا قول الله تعالى: " واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ". وبهذا ينتهي الطواف. ثم إن كان الطائف مفردا سمى هذا الطواف طواف القدوم. وطواف التحية، وطواف الدخول. وهو ليس بركن. ولا واجب. وإن كان قارنا، أو متمتعا، كان هذا الطواف طواف العمرة، ويجزئ عن طواف التحية والقدوم. وعليه أن يمضي في استكمال عمرته. فيسعى بين الصفا والمروة. أنواع الطواف: (1) طواف القدوم (2) وطواف الافاضة (3) وطواف الوداع، وسيأتي الكلام عليها في مواضعها (4) وطواف التطوع. وينبغي للحاج أن يغتنم فرصة وجوده بمكة ويكثر من طواف التطوع، والصلاة في المسجد الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 فإن الصلاة فيه خير من مائة الف، فيما سواه من المساجد. وليس في طواف التطوع رمل ولا اضطباع. والسنة أن يحيي المسجد الحرام بالطواف حوله كلما دخله، بخلاف المساجد الاخرى، فإن تحيتها الصلاة فيها. وللطواف شروط وسنن وآداب نذكرها فيما يلي: شروط الطواف : 1 - الطهارة من الحدث الاصغر والاكبر والنجاسة (1) لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الطواف صلاة ... إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ". رواه الترمذي والدارقطني، وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن السكن. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تبكي، فقال: " أنفست؟ (2) " - يعني الحيضة - قالت، نعم. قال: " إن هذا شئ كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ". رواه مسلم. وعنها قالت: إن أول شئ بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة - أنه توضأ ثم طاف بالبيت. رواه الشيخان. ومن كان به نجاسة، لا يمكن إزالتها، كمن به سلس بول وكالمستحاضة التي لا يرقا دمها، فإنه يطوف ولا شئ عليه باتفاق. روى مالك: ان عبد الله بن عمر جاءته امرأة تستفتيه، فقالت: إني أقبلت أريد أن أطوف بالبيت، حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء،   (1) يرى الحنفية أن الطهارة من الحدث ليست شرطا وإنما هي واجب يجبر بالدم. فلو كان محدثا حدثا أصغر وطاف صح طوافه ولزمه شاة. وإن طاف جنبا أو حائضا، صح ولزمه بدنة، ويعيده ما دام بمكة. وأما الطهارة من النجاسة في الثوب أو البدن، فهي سنة عندهم فقط. (2) " أنفست " أي أحضت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 فرجعت، حتى ذهب ذلك عني، ثم أقبلت، حتي إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء، فرجعت، حتى ذهب ذلك عني، ثم أقبلت، حتى إذا كنت عند باب المسجد، هرقت الدماء. فقال عبد الله بن عمر: إنما ذلك ركضة من الشيطان، فاغتسلي، ثم استثفري بثوب، ثم طوفي. 2 - ستر العورة: (1) لحديث أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع، في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: " لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ". رواه الشيخان. 3 - أن يكون سبعة أشواط كاملة. فلو ترك خطوة واحدة، في أي شوط، لا يحسب طوافه. فإن شك بنى على الاقل، حتى يتقن السبع. وإن شك بعد الفراغ من الطواف فلا يلزمه شئ. 4 - أن يبدأ الطواف من الحجر الاسود، وينتهي إليه. 5 - أن يكون البيت عن يسار الطائف. فلو طاف، وكان البيت عن يمينه، لا يصح الطواف. لقول جابر رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر الاسود فاستلمه، تم مشى عن يمينه فرمل (2) ثلاثا ومشى أربعا (3) . رواه مسلم. 6 - أن يكون الطواف خارج البيت. فلو طاف في الحجر لا يصح طوافه، فإن الحجر (4) ، والشاذ روان (5) من البيت.   (1) عند الاحناف واجب، فمن طاف عريانا صح طوافه وعليه الاعادة إلا خرج من مكة، فإنه يلزم دم. (2) " الرمل ": الا سراع مع هز الكتفين. (3) عند الاحناف أن ركن الطواف أربعة أشواط، والثلاثة الباقية واجب يجبر بالدم. (4) الحجر: هو حجر إسماعيل، ويقع شمال الكعبة، يحوطه سور على شكل نصف دائرة وليس الحجر كله من البيت، بل الجزء الذي هو من البيت قدره ستة أذرع: نحو ثلاثة أمتار. (5) " الشاذروان " البناء الملاصق لاساس الكعبة الذي توضع به حلق الكسوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 والله أمر بالطواف بالبيت، لا في البيت، فقال: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . ويستحب القرب من البيت، إن تيسر. 7 - موالاة السعي: عند مالك وأحمد. ولا يضر التفريق اليسير، لغير عذر، ولا التفريق الكثير، لعذر. وذهبت الحنفية، والشافعية: إلى أن الموالاة سنة. فلو فرق بين أجزاء الطواف تفريقا كثيرا، بغير عذر، لا يبطل. ويبني على ما مضى من طوافه. روى سعيد بن منصور، عن حميد بن زيد قال: رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، طاف بالبيت ثلاثة أطواف أو أربعة، ثم جلس يستريح، وغلام له يروح عليه، فقام فبنى على ما مضى من طوافه. وعند الشافعية والحنفية: لو أحدث في الطواف، توضأ وبنى ولا يجب الاستئناف، وإن طال الفصل. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يطوف بالبيت، فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم، ثم قام، فبنى على ما مضى من طوافه. وعن عطاء: أنه كان يقول - في الرجل يطوف بعض طوافه، ثم تحضر الجنازة - قال: يخرج يصلي عليها، ثم يرجع فيقضي ما بقي من طوافه. سنن الطواف : للطواف سنن نذكرها فيما يلي: 1 - استقبال الحجر الاسود، عند بدء الطواف مع التكبير والتهليل، ورفع اليدين: كرفعهما في الصلاة، واستلامه بهما بوضعهما عليه، وتقبيله بدون صوت، ووضع الخد عليه، إن أمكن ذلك، وإلا مسه بيده وقبلها أو مسه بشئ معه وقبله، أو أشار إليه بعصا ونحوها. وقد جاء في ذلك أحاديث، واليك بعضها: قال ابن عمر رضي الله عنهما: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر واستلمه، ثم وضع شفيته يبكي طويلا، فإذا عمر يبكي طويلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 فقال: " يا عمر، هنا تسكب العبرات (1) ". رواه الحاكم، وقال: صحيح الاسناد. وعن ابن عباس: ان عمر أكب على الركن (2) فقال: إني لاعمل أنك حجر، ولو لم أر حبيبي صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما استلمتك ولا قبلتك: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . رواه أحمد، وغيره، بألفاظ مختلفة متقاربة. وقال نافع: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما استلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. رواه البخاري ومسلم. وقال سويد بن غفلة: رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر، والتزمه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا (3) " رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي البيت، فيستلم الحجر ويقول: " بسم الله والله أكبر ". رواه أحمد. وروى مسلم عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم بمحجن معه ويقبل المحجن. وروى البخاري، ومسلم، وأبو داود عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر فقبله. فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. قال الخطابي: فيه من العلم، أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة، وأسباب معقولة. وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها. إلا أنه معلوم في الجملة أن تقبيله الحجر، إنما هو إكرام له، وإعظام لحقه، وتبرك به. وقد فضل الله بعض الاحجار على بعض، كما فضل بعض البقاع والبلدان، وكما فضل بعض الليالي والايام والشهور.   (1) " العبرات ": أي الدموع. (2) " الركن ": المراد به هنا الحجر الاسود. (3) " حفيا ": أي مهتما ومعنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 وباب هذا كله التسليم. وهذا وقد روى أمر سائغ في العقول جار فيها، غير ممتنع ولا مستنكر. في بعض الاحاديث: " الحجر يمين الله في الارض ". والمعنى أن من صافحه في الارض كان له عند الله عهد. فكان كالعهد الذي تعقده الملوك بالمصافحة، لمن يريد موالاته، والاختصاص به. وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة. وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء. فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به. وقال المهلب: حديث عمر يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الارض، يصافح بها عباده. ومعاذ الله، أن تكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختبارا، ليعلم - بالمشاهدة - طاعة من يطيع. وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لادم. هذا، ولا يعلم - على وجه اليقين - أنه بقي حجر من أحجار الكعبة. من وضع إبراهيم إلا الحجر الاسود. المزاحمة على الحجر: ولا بأس في المزاحمة على الحجر على أن لا يؤذي أحدا. فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يزاحم حتى يدمى أنفه. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: " يا أبا حفص إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبر وامض ". رواه الشافعي في سننه. (1) الاضطباع: فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فاضطبعوا أرديتهم تحت آباطهم، وقذفوها على عواتقهم اليسرى. رواه أحمد وأبو داود.   (1) " الاضطباع " هو جعل وسط الرداء تحت الابط الايمن، وطرفيه على الكتف الايسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 وهذا مذهب الجمهور. وقالوا في حكمته: إنه يعين على الرمل في الطواف. وقال مالك: لا يستحب، لانه لم يعرف ولم ير أحدا يفعله ولا يستحب في صلاة الطواف اتفاقا. 2 - الرمل (1) فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الاسود إلى الحجر الاسود ثلاثا، ومشى أربعا. رواه أحمد، ومسلم. ولو تركه في الثلاث الاول لم يقضه في الاربعة الاخيرة. والاضطباع والرمل خاص بالرجال في طواف العمرة، وفي كل طواف يعقبه سعي في الحج. وعند الشافعية: إذا اضطبع ورمل في طواف القدوم ثم سعى بعده، لم يعد الاضطباع والرمل في طواف الافاضة. وإن لم يسع بعده، وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة. أما النساء، فلا اضطباع عليهن - لوجوب ستزهن - ولا رمل، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ليس على النساء سعي (2) بالبيت، ولا بين الصفا والمروة. رواه البيهقي. حكمة الرمل: والحكمة فيه ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم (3) حمى يثرب (4) فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شرا، فأطلع الله سبحانه نبيه   (1) " الرمل ": الاسراع في المشي مع هز الكتفين وتقارب الخطا. وقد شرع إظهارا للقوة والنشاط. (2) أي رمل. (3) " وهنتهم ": أي أضعفتهم. (4) " يثرب " أي المدينة المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الاشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منا (1) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولم يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا إبقاء (2) عليهم. رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، واللفظ له. ولقد بدا لعمر رضي الله عنه أن يدع الرمل بعد ما انتهت الحكمة منه، ومكن الله للمسلمين في الارض، إلا أنه رأى إبقاءه على ما كان عليه في العهد النبوي. لتبقى هذه الصورة ماثلة للاجيال بعده. قال محب الدين الطبري: وقد يحدث شئ من أمر الدين لسبب ثم يزول السبب ولا يزول حكمه. فعن زيد بن أسلم. عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: فيم الرملان اليوم، والكشف عن المناكب؟ وقد أطأ (3) الله الاسلام، ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - استلام (4) الركن اليماني: لقول ابن عمر رضي الله عنهما: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الاركان إلا اليمانيين. وقال: ما تركت استلام هذين الركنين - اليماني، والحجر الاسود - منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، في شدة، ولا في رخاء. رواهما البخاري، ومسلم. وإنما يستلم الطائف هذين الركنين، لما فيهما من فضيلة، ليست لغيرهما. ففي الركن الاسود ميزتان، إحداهما: أنه عل قواعد إبراهيم عليه السلام.   (1) " أجلد " أي أقوى وأشد. (2) " إبقاء عليهم ": هذا تعليل الرمل في جميع الاشواط حتى لا يجهدوا أو يصابوا بضرر. (3) " أطأ ": أي ثبت. (4) " الاستلام ": المسح باليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 وثانيتهما: أن فيه الحجر الاسود الذي جعل مبدءا للطواف ومنتهى له. وأما الركن اليماني المقابل له، فقد وضع أيضا على قواعد إبراهيم عليه السلام. روى أبو داود عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه أخبر بقول عائشة رضي الله عنها: " إن الحجر بعضه من البيت ". فقال ابن عمر: والله إني لاظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني لاظن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك استلامهما، إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس وراء الحجر إلا لذلك. والامة متفقة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، وعلى أنه لا يستلم الطائف الركنين الاخرين. وروى ابن حبان في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحجر والركن اليماني يحط الخطايا حطا ". صلاة ركعتين بعد الطواف (1) يسن للطائف صلاة ركعتين بعد كل طواف (2) ، عند مقام إبراهيم، أو في مكان من المسجد. فعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، طاف بالبيت سبعا، وأتى المقام فقرأ: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والسنة فيهما قراءة سورة " الكافرون " بعد " الفاتحة " في الركعة الاولى، وسورة " الاخلاص " في الركعة الثانية. فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم، وغيره. وتؤديان في جميع الاوقات، حتى أوقات النهي.   (1) وهي واجبة عند أبي حنيفة. (2) أي سواء كان الطواف فرضا أو نقلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 فعن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء، من ليل، أو نهار ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه. وهذا مذهب الشافعي، وأحمد. وكما أن الصلاة بعد الطواف تسن في المسجد، فإنها تجوز خارجه. فقد روى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها طافت راكبة، فلم تصل حتى خرجت. وروى مالك عن عمر رضي الله عنه، أنه صلاهما بذي طوى. وقال البخاري: وصلى عمر رضي الله عنه خارج الحرم. ولو صلى المكتوبة بعد الطواف أجزأته عن الركعتين، وهو الصحيح عند الشافعية والمشهور من مذهب أحمد. وقال مالك والاحناف: لا يقوم غير الركعتين مقامهما. المرور أمام المصلي في الحرم المكي يجوز أن يصلي المصلي في المسجد الحرام، والناس يمرون أمامه، رجالا ونساء، بدون كراهة، وهذا من خصائص المسجد الحرام. فعن كثير بن كثير بن المطلب بن وداعة، عن بعض أهله، عن جده: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي بني سهم، والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة. قال سفيان بن عيينة: " ليس بينه وبين الكعبة سترة ". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. طواف الرجال مع النساء : روى البخاري عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف تمنعهن، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قال: قلت: أبعد الحجاب أقبله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن الرجال، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة (1) من الرجال لا تخالطهم. فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: انطلقي ... عنك، وأبت. فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت، قمن، حتى يدخلن وأخرج الرجال. وللمرأة أن تستلم الحجر عند الخلوة، والبعد عن الرجال. فعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لامرأة: لا تزاحمي على الحجر، إن رأيت خلوة فاستلمي، وإن رأيت زحاما فكبري وهللي إذا حاذيت به، ولا تؤذي أحدا. ركوب الطائف : يجوز للطائف الركوب، وإن كان قادرا على المشي، إذا وجد سبب يدعو إلى الركوب. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (2) . رواه البخاري، ومسلم. وعن جابر رضي الله عنه قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبالصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإن الناس غشوه (3) . كراهة طواف المجذوم مع الطائفين روى مالك عن ابن أبي مليكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى امرأة مجذومة، تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله، لا تؤذى الناس، لو   (1) " حجرة " أي ناحية منفردة. (2) " المحجن ": عود معقود الرأس يكون مع الراكب يحرك به راحلته. (3) " غشوه ": ازدحموا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 جلست في بيتك!؟ ففعلت. ومر بها رجل بعد ذلك فقال لها: إن الذي نهاك قد مات، فاخرجي. فقالت: ما كنت لاطيعه حيا وأعصيه ميتا. استحباب الشرب من ماء زمزم : وإذا فرغ الطائف من طوافه، وصلى ركعتيه عند المقام، استحب له أن يشرب من ماء زمزم. ثبت في الصحيحين: أن رسول صلى الله عليه وسلم، شرب من ماء زمزم، وأنه قال: " إنها مباركة. إنها طعام طعم وشفاء سقم (1) ". وأن جبريل عليه السلام غسل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائها ليلة الاسراء. وروى الطبراني في الكبير، وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير ماء على وجه الارض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم ". الحديث. قال المنذري: ورواته ثقات. آداب الشرب منه : يسن أن ينوي الشارب عند شربه الشفاء ونحوه، مما هو خير في الدين والدنيا. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ماء زمزم لما شرب له ". وعن سويد بن سعيد قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى ماء زمزم واستسقى منه شربة، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ماء زمزم لما شرب له، وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شرب ". رواه أحمد بسند صحيح، والبيهقي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماء زمزم لما شرب له، إن شرته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك، الله   (1) الزيادة لابي داود الطيالسي. وقيل هي في إحدى نسخ مسلم. ومعنى " طعام طعم ": أي أنه يشبع من شربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة (1) جبرائيل وسقيا (2) الله إسماعيل ". رواه الدارقطني، والحكم، وزاد: " وإن شربته مستعيذا، أعاذك الله ". ويستحب أن يكون الشرب على ثلاثة أنفاس، وأن يستقبل به القبلة، ويتضلع منه (3) ، ويحمد الله، ويدعو بما دعا به ابن عباس. فعن أبي مليكة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: من أين جئت؟..قال: شربت من ماء زمزم. قال ابن عباس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذاك يا ابن عباس؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة، واذكر الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم ". رواه ابن ماجه، والدارقطني والحاكم. وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شربت من ماء زمزم قال: اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء. أصل بئر زمزم: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن " هاجر " لما أشرفت على على المروة حين أصابها وولدها العطش سمعت صوتا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد اسمعت، إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا - تغترف من الماء في سقائها - وهو يفور بعد ما تغترف. قال ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغترف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا ". قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملك:   (1) " هزمة ": أي حفرة. (2) أي أخرجه الله لسقي إسماعيل في اول الامر. (3) " تضلع ": أي امتلا شبعا وريا حتى بلغ الماء أضلاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبتني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مثل الرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله. استحباب الدعاء عند الملتزم : وبعد الشرب من ماء زمزم، يستحب الدعاء عند الملتزم. فقد روى البيهقي عن ابن عباس، أنه كان يلزم ما بين الركن والباب، وكان يقول: ما بين الركن والباب يدعى الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه. وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزق وجهه وصدره بالملتزم. وقيل: إن الحطيم هوالملتزم. ويرى البخاري أن الحطيم الحجر نفسه. واحتج عليه بحديث الاسراء فقال: بينا أنا نائم في الحطيم، وربما قال في الحجر. قال: وهو حطيم: بمعنى محطوم، كفتيل، بمعنى مقتول. استحباب دخول الكعبة وحجر إسماعيل : روى البخاري، ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة (1) ، هو وأسامة بن زيد، وعثمان ابن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا، أخبرني بلال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة، بين العمودين اليمانيين. وقد استدل العلماء بهذا على أن دخول الكعبة، والصلاة فيها سنة. وقالوا: وهو وإن كان سنة، إلا أنه ليس من مناسك الحج، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: أيها الناس إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شئ. رواه الحاكم بسند صحيح.   (1) كان ذلك عام الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 ومن لم يتمكن من دخول الكعبة، يستحب له الدخول في حجر إسماعيل والصلاة فيه فإن جزءا منه من الكعبة. روى أحمد بسند جيد، عن سعيد بن جبير، عن عائشة قالت: يا رسول الله، كل أهلك قد دخل البيت غيري! فقال: " أرسلي إلى شيبة (1) فيفتح لك الباب "، فأرسلت إليه. فقال شيبة: ما استطعنا فتحه في جاهلية، ولا إسلام، بليل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلي في الحجر فإن قومك استقصروا (2) عن بناء البيت، حين بنوه ". السعي بين الصفا والمروة : أصل مشروعيته: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم عليه السلام ب " هاجر " وبابنها " إسماعيل " عليه السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، فوضعهما تحتها وليس بمكة يومئذ من أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ؟ فقالت له ذلك مرارا، فجعل لا يلتفت إليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟..قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. وفي رواية: فقالت له: إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله. فقالت: قد رضيت. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، رفع يديه وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم،   (1) ابن عثمان بن طلحة كان بيده مفتاح الكعبة. (2) " استقصروا ": أي تركوا منه جزءا وهو الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 ربنا ليقيموا لصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) . وقعدت أم إسماعيل تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها وعلقت شنها تشرب منه، وترضع ابنها، حتى فني ما في شنها، فانقطع درها، واشتد جوع ابنها حتى نظرت إليه يتشحط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا - وهو أقرب جبل يليها - ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا؟..فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا. حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي إنسان مجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلذلك سعى الناس بينهما ". حكمه: اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، إلى آراء ثلاثة: (أ) فذهب ابن عمر، وجابر، وعائشة من الصحابة رضي الله عنهم، ومالك، والشافعي، وأحمد - في إحدى الروايتين عنه - إلى أن السعي ركن من أركان الحج. بحيث لو ترك الحاج السعي بين الصفا والمروة، بطل حجه ولا يجبر بدم، ولا غيره. واستدلوا لمذهبهم بهذه الادلة: 1 - روى البخاري عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة. قالت: بئسما قلت يا ابن أخي: إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما. ولكنها أنزلت في الانصار: كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بى الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما. 2 - وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون - يعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. 3 - وعن حبيبة بنت أبي تجراه - إحد نساء بني عبد الدار - قالت: دخلت مع نسوة من قريش دارآل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه، حتى إني لاقول: إني لارى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي " (1) . رواه ابن ماجه، وأحمد، والشافعي. 4 - ولانه نسك في الحج والعمرة، فكان ركنا فيهما، كالطواف بالبيت. (ب) وذهب ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وابن سيرين، ورواية عن أحمد: أنه سنة، لا يجب بتركه شئ. 1 - استدلوا بقوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) . ونفى الحرج عن فاعله: دليل على عدم وجوبه، فإن هذا رتبة المباح. وإنما تثبت سنيته بقوله: " من شعائر الله ". وروى في مصحف أبي، وابن مسعود: " فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ". وهذا، وإن لم يكن قرآنا، فلا ينحط عن رتبة الخبر، فيكون تفسيرا. 2 - ولانه نسك ذو عدد، لا يتعلق بالبيت، فلم يكن ركنا، كالرمي. (ج) وذهب أبو حنيفة، والثوري، والحسن: إلى أنه واجب، وليس   (1) في إسناه عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف كما سيأتي بعد. إلا أن طرقا أخرى إذا انضمت إلى بعضها قويت كما في الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 بركن، لا يبطل الحج أو العمرة بتركه، وأنه إذا تركه وجب عليه دم. ورجح صاحب المغني هذا الرأي فقال: 1 - وهو أولى، لان دليل من أوجبه، دل على مطلق الوجوب، لاعلى كونه لا يتم الواجب إلا به. 2 - وقول عائشة رضي الله عنها في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة. 3 - وحديث بنت أبي تجراه، قال ابن المنذر يرويه عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا في حديثه. وهو يدل على أنه مكتوب، وهو الواجب. 4 - وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الاسلام، لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية، لاجل صنمين، كانا على الصفا والمروة. شروطه: يشترط لصحة السعي أمور: 1 - أن يكون بعد طواف. 2 - وأن يكون سبعة أشواط. 3 - وأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة (1) . 4 - وأن يكون السعي في المسعى، وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة (2) . لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، مع قوله: " خذوا عني مناسككم ". فلو سعى قبل الطواف، أو بدأ بالمروة وختم بالصفا، أو سعى في غير المسعى، بطل سعيه. الصعود على الصفا: ولا يشترط لصحة السعي أن يرقى على الصفا والمروة. ولكن يجب عليه   (1) يقدر طوله 420 مترا. (2) مذهب الاحناف: أنهما واجبان لا شرطان، فإذا سعى قبل الطواف، أو بدأ بالمروة وختم بالصفا، صح سعيه، ووجب عليه دم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 أن يستوعب ما بينهما، فليصق قدمه بهما في الذهاب والاياب، فإن ترك شيئا لم يستوعبه، لم يجزئه حتى يأتي. الموالاة في السعي: ولا تشترط الموالاة في السعي (1) . فلو عرض له عارض يمنعه من مواصلة الاشواط، أو أقيمت الصلاة، فله أن يقطع السعي لذلك، فإذا فرغ مما عرض له، بني عليه وأكمله. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يطوف بين الصفا والمروة، فأعجله البول، فتنحى ودعا بماء فتوضأ، ثم قام، فأتم على ما مضى. رواه سعيد بن منصور. كما لا تشترط الموالاة بين الطواف والسعي. قال في المغني: قال أحمد: لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح، أو إلى العشي. وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا - لمن طاف بالبيت أول النهار - أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي. وفعله القاسم وسعيد بن جبير، لان الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي، ففيما بينه وبين الطواف أولى. وروى سعيد بن منصور: أن سودة زوج عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة، فقضت طوافها في ثلاثة أيام، وكانت ضخمة. الطهارة للسعي: ذهب أكثر أهل العلم: إلى أنه لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة - حين حاضت -: " فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ". رواه مسلم. وقالت عائشة وأم سلمة: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف بالصفا والمروة. رواه سعيد بن منصور. وإن كان المستحب أن يكون المرء على طهارة في جميع مناسكه فإن الطهارة أمر مرغوب شرعا.   (1) عند مالك موالاة السعي - بلاد تفريق كثير - شرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 المشي والركوب فيه: يجوز السعي راكبا وماشيا، والمشي أفضل. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم مشى، فلما كثر عليه الناس وغشوه ركب ليروه ويسألوه. قال أبو الطفيل لابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة. قال: صدقوا وكذبوا. قال: قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟ ... قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق (1) من البيوت قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب. والمشي والسعي (2) أفضل. رواه مسلم، وغيره. والركوب، وإن كان جائزا، إلا أنه مكروه. قال الترمذي: وقدكره قوم من أهل العلم أن يطوف الرجل بالبيت وبين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، وهو قول الشافعي. وعند المالكية: أن من سعى راكبا من غير عذر أعاد، إن لم يفت الوقت، وإن فات فعليه دم، لان المشي عند القدرة عليه واجب. وكذا يقول أبو حنيفة. وعللوا ركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكثرة الناس وازدحامهم عليه، وغشيانهم له. وهذا عذر يقتضي الركوب. استحباب السعي بين الميلين: يندب المشي بين الصفا والمروة، فيما عدا ما بين الميلين، فإنه يندب الرمل بينهما، وقد تقدم حديث بنت أبي تجراه وفيه: ان النبي صلى الله عليه وسلم سعى، حتى إن مئزره ليدور من شدة السعي.   (1) " العواتق ": جمع عائق وهي البكر البالغة، سميت بذلك لانها عتقت من الابتذال والتصرف الذي تفعله الطفلة. (2) السعي يكون في بطن الوادي بين الميلين. والمشي فيما سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 وفي حديث ابن عباس المتقدم: والمشي والسعي أفضل. أي السعي في بطن الوادي بين الميلين، والمشي فيما سواه. فإن مشى دون أن يسعى جاز. فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يمشي بين الصفا والمروة. ثم قال: إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي. وإن سعيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، فأنا شيخ كبير. رواه أبو داود الترمذي. وهذا الندب في حق الرجل. أما المرأة فإنه لا يندب لها السعي، بل تمشي مشيا عاديا. روى الشافعي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت - وقد رأت نساء يسعين -: أما لكن فينا أسوة؟ ... ليس عليكن سعي (1) استحباب الرقي على الصفا والمروة والدعاء عليهما مع استقبال البيت: يستحب الرقي على الصفا والمروة، والدعاء عليهما بما شاء من أمر الدين والدنيا، مع استقبال البيت. فالمعروف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خرج من باب الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: " (إن الصفا والمروة من شعائر الله) . أبدأ بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت. فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثلاثا، وحمده وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا، ثلاث مرات. ثم نزل ما شيا إلى المروة، حتى أتاها، فرقي عليها، حتى نظر إلى البيت، ففعل على المروة، كما فعل على الصفا. وعن نافع قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - وهو على الصفا يدعو - يقول: اللهم إنك قلت: (ادعوني أستحب لكم) وإنك   (1) أي إنهن يمشين ولا يسعين، إذ لا خلاف في وجوب السعي عليهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 لاتخلف الميعاد، وإني أسألك - كما هديتني للاسلام - أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم. الدعاء بين الصفا والمروة: يستحب الدعاء بين الصفا والمروة، وذكر الله تعالى، وقراءة القرآن. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه " رب اغفر وارحم واهدني السبيل الاقوم ". وروي عنه: رب اغفر وارحم، إنك أنت الاعز الاكرم ". وبالطواف والسعي تنتهي أعمال العمرة. ويحل المحرم من إحرامه بالحلق أو التقصير إن كان متمتعا، ويبقى على إحرامه إن كان قارنا. ولا يحل إلا يوم النحر، ويكفيه هذا السعي عن السعي بعد طواف الفرض، إن كان قارنا. ويسعى مرة أخرى، بعد طواف الافاضة إن كان متمتعا. ويبقى بمكة حتى يوم التروية. التوجه الى منى من السنة التوجه إلى منى يوم التروية (1) . فإن كان الحاج قارنا، أو مفردا، توجه إليها بإحرامه. وإن كان متمتعا، أحرم بالحج، وفعل كما فعل عند الميقات. والسنة: أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه. فإن كان في مكة: أحرم منها، وإن كان خارجها: أحرم حيث هو. ففي الحديث: " من كان منزله دون مكة فمهله من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة ". ويستحب الاكثار من الدعاء والتلبية عند التوجه إلى منى وصلاة الظهر   (1) " يوم التروية " هو اليوم الثامن من ذي الحجة. وسمي بذلك، لانه مشتق من الرواية، لان الامام يروي للناس مناسكهم. وقيل من الارتواء لانهم يرتوون الماء في ذلك اليوم، ويجمعونه بمنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 والعصر، والمغرب والعشاء، والمبيت بها. وأن لا يخرج الحاج منها حتى تطلع شمس يوم التاسع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. فإن ترك ذلك أو شيئا منه فقد ترك السنة، ولاشئ عليه، فإن عائشة لم تخرج من مكة يوم التروية، حتى دخل الليل، وذهب ثلثه. روى ذلك ابن المنذر. جواز الخروج قبل يوم التروية: روى سعيد بن منصور عن الحسن: أنه كان يخرج إلى منى من مكة قبل التروية بيوم أو يومين. وكرهه مالك، وكره الاقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي، إلا إن أدركه وقت الجمعة بمكة، فعليه أن يصليها قبل أن يخرج. التوجه الى عرفات يسن التوجه إلى عرفات بعد طلوع شمس يوم التاسع، عن طريق ضب، مع التكبير والتهليل والتلبية. قال محمد بن أبي بكر الثقفي: سألت أنس بن مالك - ونحن غاديان من منى إلى عرفات - عن التلبية، كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه، وينكر المكبر، فلا ينكر عليه ويهلل المهلل، فلا ينكر عليه. رواه البخاري وغيره. ويستحب النزول بنمرة والاغتسال عندها للوقوف بعرفة، ويستحب أن لا يدخل عرفة إلا وقت الوقوف بعد الزوال. الوقوف بعرفة : فضل يوم عرفة: عن جابررضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مامن أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة ". فقال رجل: هن أفضل، أم من عدتهن جهادا في سبيل الله؟ قال: " هن أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 الله. وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الارض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي، جاءوني شعثا غبرا ضاحين. جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ". قال المنذري: رواه أبو يعلى والبزار، وابن خزيمة، وابن حبان، واللفظ له. وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن علي، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تثوب. فقال: " يا بلال: أنصت لي الناس "، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس. فقال: " معشر الناس: أتاني جبريل عليه السلام آنفا، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لاهل عرفات، وأهل المشعر الحرام، وضمن عنهم المتبعات ". فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟ قال: " هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة ". فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب. روى مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ " وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أدحر (1) ولا أغيظ منه في يوم عرفة ". وما ذك إلالما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري من يوم بدر.   (1) " أدحر " الدحر: الدفع بعنف على سبيل الاذلال والاهانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: " أما إنه رأى جبريل يزع (1) الملائكة ". رواه مالك مرسلا، والحاكم موصولا. حكم الوقوف: أجمع العلماء: على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الاعظم، لما رواه أحمد، وأصحاب السنن، عبد الرحمن بن يعمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي: " الحج عرفة (2) ، من جاء ليلة جمع (3) قبل طلوع الفجر فقد أدرك ". وقت الوقوف: يرى جمهور العلماءأن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع (4) إلى طلوع فجر يوم العاشر، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلا أو نهارا. إلا أنه إن وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب. أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شئ. ومذهب الشافعي: أن مد الوقوف إلى الليل سنة. المقصود بالوقوف: المقصود بالوقوف: الحضور والوجود، في أي جزء من عرفة ولو كان نائما، أو يقظان، أو راكبا، أو قاعدا، أو مضطجعا أو ماشيا. وسواء أكان طاهرا أم غير طاهر كالحائض والنفساء والجنب. واختلفوا في وقوف المغمى عليه ولم يفق حتى خرج من عرفات. فقال أبو حنيفة ومالك: يصح.   (1) " يزع " أي يقود. (2) " الحج عرفة ": أي الحج الصحيح حج من أدرك الوقوف يوم عرفة. (3)) " ليلة جمع ": ليلة المبيت بمزدلفة، وهي ليلة النحر. وظاهره أنه يكفي الوقوف في أي جزء من عرفة ولو لحظة. (4) مذهب الحنابلة: أن الوقوف يبتدئ من فجر يوم التاسع إلى فجر يوم النحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 وقال الشافعي وأحمد، والحسن، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر: لا يصح، لانه ركن من أركان الحج. فلم يصح من المغمى عليه، كغيره من الاركان. قال الترمذي عقب تخريجه لحديث ابن يعمر المتقدم، قال سفيان الثوري: والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن من لم يقف بعرفات قبل الفجر، فقد فاته الحج، ولايجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما. استحباب الوقوف عند الصخرات: يجزئ الوقوف في أي مكان من عرفة، لان عرفة كلها موقف إلا بطن عرفة (1) ، فإن الوقوف به لايجزئ بالاجماع. ويستحب أن يكون الوقوف عند الصخرات، أو قريبا منها حسب الامكان. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في هذا المكان وقال: " وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف " رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، من حديث جابر. والصعود إلى جبل الرحمة واعتقاد أن الوقوف به أفضل خطأ، وليس بسنة. استحباب الغسل: يندب الاغتسال للوقوف بعرفة. وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يغتسل لوقوفه عشية عرفة. رواه مالك. واغتسل عمر رضي الله عنه بعرفات وهو مهل. آداب الوقوف والدعاء: ينبغي المحافظة على الطهارة الكاملة، واستقبال القبلة والاكثار من الاستغفار والذكر والدعاء لنفسه، ولغيره، بما شاء من أمر الدين والدنيا مع الخشية، وحضور القلب، ورفع اليدين.   (1) " بطن عرفة " واد يقع في الجهة الغربية من عرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 قال أسامة بن زيد: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو. رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شئ قدير ". رواه أحمد والترمذي، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الدعاء، دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي. لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير ". ويروى عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة. فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء. فقال: أنا تعرف حديث مالك بن الحارث؟ هو تفسيره. فقلت: حدثنيه أنت، فقال: حدثنا منصور، عن مالك بن الحارث قال: يقول الله عزوجل: " إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ". قال: وهذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال سفيان: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله ابن جدعان يطلب نائله؟ فقلت: لا. فقال: قال أمية: أأذكر حاجتي أم قد كفاني - حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع - لك الحسب المهذب والسناء إذا أثنى عليك المرء يوما - كفاه من تعرضه الثناء ثم قال: يا حسين، هذا مخلوق يكتفى بالثناء عليه دون مسألة، فكيف بالخالق؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 روى البيهقي (1) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه ال وسلم: " إن أكثر دعاء من كان قبلي من الانبياء، ودعائي يوم عرفة، أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، اللهم اجعل في بصري نورا، وفي سمعي نورا، وفي قلبي نورا. اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم أعوذ بك من وسواس الصدر، وشتات الامر، وشر فتنة القبر. وشر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق (2) الدهر ". وروى الترمذي عنه قال: أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: " اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الامر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تهب به الريح ". الوقوف سنة ابراهيم عليه السلام: وعن مربع الانصاري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كونوا على مشاعركم (3) فإنكم على إرث من إرث إبراهيم (4) " رواه الترمذي وقال: حديث ابن مربع، حديث حسن. صيام عرفة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة وأنه قال: " إن يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا - أهل السلام - وهي أيام أكل وشرب ". ثبت عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفات. وقد استدل أكثر أهل العلم بهذا الاحاديث: على استحباب الافطار يوم عرفة للحاج، ليتقوى على الدعاء والذكر.   (1) سنده ضعيف. (2) " بوائق الدهر " أي مهلكاته. (3) " مشاعر " جمع مشعر، مواضع النسك: سميت بذلك لانها معالم العبادات. (4) أي أن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه منه، ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وما جاء من الترغيب في صوم يوم عرفة، فهو محمول على من لم يكن حاجا بعرفة. الجمع بين الظهر والعصر : في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم، جمع بين الظهر والعصر بعرفة. أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر. وعن الاسود، وعلقمة، أنهما قالا: من تمام الحج أن يصلي الظهر والعصر مع الامام بعرفة. وقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم: على أن الامام يجمع بين الظهر العصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الامام " فإن لم يجمع مع الامام يجمع ومنفردا. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يقيم بمكة، فإذا خرج إلى منى، قصر الصلاة. وعن عمرو بن دينار قال: قال لي جابر بن زيد: أقصر الصلاة بعرفة. روى ذلك سعيد بن منصور. الإفاضة من عرفة : يسن الافاضة (1) من عرفة بعد غروب الشمس، بالسكينة، وقد أفاض صلى الله عليه وسلم بالسكينة، وضم إليه زمام ناقته، حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله، وهو يقول: " أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالابضاع " - أي الاسراع - رواه البخاري ومسلم. وكان - صلوات الله وسلامه عليه - يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. رواه الشيخان. أي أنه كان يسير سيرا رفيقا من أجل الرفق بالناس فإذا وجد فجوة   (1) " الافاضة ": الدفع، يقال: أفاض من المكان، إذا أسرع منه إلى المكان الاخر، وأصله، الدفع، سمي به لانهم إذا انصرفوا ازدحموا. ودفع بعضهم بعضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 - أي مكانا متسعا، ليس به زحام - سار سيرا، فيه سرعة. ويستحب التلبية والذكر. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي، حتى رمى جمرة العقبة. وعن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: أقبلت مع ابن عمر رضي الله عنهما من عرفات إلى مزدلفة، فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة. رواه أبو داود. الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة: فإذا أتى المزدلفة، صلى المغرب والعشاء ركعتين بأذان وإقامتين، ومن غير تطوع بينهما. ففي حديث مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فجمع بين المغرب والعشاء، بأذان واحد، وإقامتين، ولم يسبح (1) بينهما شيئا. وهذا الجمع سنة بإجماع العلماء. واختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها. فجوزه أكثر العلماء، وحملوا فعله صلى الله عليه وسلم على الاولوية. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن صلى المغرب دون مزدلفة، فعليه الاعادة. وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلي كل واحدة في وقتها مع الكراهية. المبيت بالمزدلفة والوقوف بها: في حديث جابر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى المزدلفة، صلى المغرب والعشاء، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، ولم يزل واقفا، حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل طلوع الشمس. ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أحيا هذه الليلة. وهذه هي السنة الثابتة في المبيت بالمزدلفة، والوقوف بها. وقد أوجب أحمد المبيت بالمزدلفة على غير الرعاة والسقاة. أما هم فلا يجب عليهم المبيت بها. أما سائر أئمة المذاهب، فقد أوجبوا الوقوف بها دون البيات.   (1) " يسبح " أي يصلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 والمقصود بالوقوف الوجود على أية صورة. سواء أكان واقفا أم قاعدا، أم سائرا أم نائما. وقالت الاحناف: الواجب هو الحضور المزدلفة قبل فجر يوم النحر. فلو ترك الحضور لزمه دم. إلا إذا كان له عذر، فإن لا يجب عليه الحضور ولا شئ عليه حينئذ. وقالت المالكية: الواجب هو النزول بالمزدلفة ليلا، قبل الفجر، بمقدار ما يحط رحله وهو سائر من عرفة إلى منى، ما لم يكن له عذر. فإن كان له عذر، فلا يجب عليه النزول. وقالت الشافعية: الواجب هو الوجود بالمزدلفة، في النصف الثاني من ليلة يوم النحر، بعد الوقوف بعرفة. ولا يشترط المكث بها، ولا العلم بأنها المزدلفة، بل يكفي المرور بها. سواء أعلم أن هذا المكان هو المزدلفة، أم لم يعلم. والسنة أن يصلي الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يطلع الفجر، ويسفر جدا قبل طلوع الشمس. ويكثر من الذكر والدعاء. قال تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ". فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى منى فإذا أتى محسرا أسرع قدر رمية بحجر. مكان الوقوف: المزدلفة كلها مكان للوقوف إلا وادي محسر (1) . فعن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر " رواه أحمد، ورجاله موثقون. والوقوف عند قزح أفضل. ففي حديث علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح   (1) " وادي محسر " وهو بين المزدلفة ومنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 بجمع أتى قزح (1) فوقف عليه، وقال: " هذا قزح وهو الموقف، وجمع كلها موقف ". رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح. أعمال يوم النحر : أعمال يوم النحر تؤدى مرتبة هكذا: يبدأ بالرمي، ثم الذبح، ثم الحلق، ثم الطواف بالبيت. وهذا الترتيب سنة. فلو قدم منها نسكا على نسك فلا شئ عليه، عند أكثر أهل العلم. وهذا مذهب الشافعي، لحديث عبد الله بن عمرو أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع للناس بمنى، والناس يسألونه، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله. إني لم أشعر (2) فحلقت قبل أن أنحر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذبح ولا حرج ". ثم جاء آخر، فقال يا رسول الله إني لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارم ولا حرج ". قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: " افعل ولا حرج ". وذهب أبو حنيفة: إلى أنه إن لم يراع الترتيب، فقدم نسكا على نسك فعليه دم. وتأول قوله " ولا حرج " على رفع الاثم دون الفدية. التحلل الاول والثاني وبرمي الجمرة يوم النحر وحلق الشعر أو تقصيره، يحل للمحرم كل ما كان محرما عليه بالاحرام. فله أن يمس الطيب ويلبس الثياب وغير ذلك ما عدا النساء.   (1) " قزح ": موضع من المزدلفة، وهو موقف قريش في الجاهلية إذ كانت لا تقف بعرفة. وقال الجوهري: اسم جبل بالمزدلفة، ويقال إنه المشعر الحرام عند كثير من الفقهاء. (2) " لم أشعر ": أي لم انتبه ولم أدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وهذا هو التحلل الاول. فإذا طاف طواف الافاضة - وهو طواف الركن - حل له كل شئ، حتى النساء. وهذا هو التحلل الثاني، والاخير. رمي الجمار : (1) أصل مشروعيته: روى البيهقي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما أتى إبراهيم عليه السلام المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض. ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض. ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض. " قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون. قاله المنذري: ورواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقاله صحيح على شرطهما. حكمته: قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في الاحياء: وأما رمي الجمار فليقصد الرامي به الانقياد للامر، وإظهارا للرق والعبودية، وانتهاضا لمجرد الامتثال، من غير حظ للنفس والعقل في ذلك. ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام، حيث عرض له إبليس - لعنه الله تعالى - في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة، أو يفتنه بمعصية. فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له، وقطعا لامله.   (1) " الجمار ": هي الحجارة الصغيرة. والجمار التي ترمى ثلاث، كلها بمنى، وهي: 1 - " جمرة العقبة " على يسار الداخل إلى منى. 2 - الوسطى بعدها وبينهما: 77 و 116 مترا. 3 - والصغرى وهي التي تلي مسجد الحيف وبين الصغر والوسطى 4 و 156 مترا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 فإن خطر لك: أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان. فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه هو الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي. ويخيل إليك أنه لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير والرمي، فبذلك ترغم أنف الشيطان. واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمى به وجه الشيطان وتقصم به ظهره. إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيما له بمجرد الامر من غير حظ للنفس فيه. حكمه: ذهب جمهور العلماء: إلى أن رمي الجمار واجب، وليس بركن، وأن تركه يجبر بدم. لما رواه أحمد ومسلم، والنسائي، عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، ويقول: " لتأخذوا عني مناسككم، فإني لاأدرى لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ". وعن عبد الرحمن التيمي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرمي الجمار بمثل حصى الحذف (1) في حجة الوداع. رواه الطبراني في الكبير بسند، ورجاله رجال الصحيح. قدر كم تكون الحصاة، وما جنسها؟ في الحديث المتقدم: أن الحصى الذي يرمى به مثل حصى الحذف. ولهذا ذهب أهل العلم إلى استحباب ذلك. فإن تجاوزه ورمى بحجر كبير فقد قال الجمهور: يجزئه ويكره. وقال أحمد: لا يجزئه حتى يأتي بالحصى، على ما فعل النبي صلى الله   (1) " الحذف "، الرمي. والمراد هنا الرمي بالحصى الصغار مثل حب الباقلاء، وهو الفول. قال الاثرم: يكون أكبر من الحمص، ودون البندق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 عليه وسلم، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فعن سليمان بن عمرو بن الاحوص الازدي، عن أمه قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في بطن الوادي - وهو يقول: " يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، إذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الحذف " رواه أبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هات، القط لي " فلقطت له حصيات هي حصى الحذف، فلما وضعتهن في يده قال: " بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين ". رواه أحمد، والنسائي، وسنده حسن. وحمل الجمهور هذه الاحاديث على الاولوية والندب. واتفقوا: على أنه لا يجوز الرمي إلا بالحجر، وأنه لا يجوز بالحديد، أو الرصاص، ونحوهما. وخالف في ذلك الاحناف، فجوزوا الرمي بكل ما كان من جنس الارض حجرا، أو طينا، أو آجرا، أو ترابا، أو خزفا. لان الاحاديث الواردة في الرمي مطلقة. وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته محمول على الافضلية، لا على التخصيص. ورجح الاول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الحصى، وأمر بالرمي بمثل حصى الحذف، فلا يتناول غير الحصى، ويتناول جميع أنواعه. من أين يؤخذ الحصى : كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ الحصى من المزدلفة، وفعله سعيد ابن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصى منها واستحبه الشافعي. وقال أحمد: خذ الحصى من حيث شئت. وهو قول عطاء وابن المنذر. لحديث ابن عباس المتقدم وفيه: " القط لي " ولم يعين مكان الالتقاط. ويجوز الرمي بحصى أخذ من المرمى مع الكراهة، عند الحنفية، والشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 وأحمد. وذهب ابن حزم إلى الجواز بدون كراهة..فقال: ورمي الجمار بحصى قد رمي به قبل ذلك جائز، وكذلك رميها راكبا. أما رميها بحصى قد رمي به، فلانه لم ينه عن ذلك قرآن ولا سنة. ثم قال: فإن قيل: قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حصى الجمار، ما تقبل منه رفع، وما لم يتقبل منه ترك ولولا ذلك لكان (1) هضابا تسد الطريق؟ قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وإن لم يتقبل رمي هذه الحصاة من عمرو فسيتقبل من زيد وقد يتصدق المرء بصدقة فلا يتقبلها الله منه، ثم يملك تلك العين آخر فيتصدق بها فتقبل منه. وأما رميها راكبا فلحديث قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقة له صهباء، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك، إليك (2) . عدد الحصى: عدد الحصى الذي يرمى به، سبعون حصاة، أو تسع وأربعون. سبع يرمى بها يوم النحر عند جمرة العقبة. وإحدى وعشرون في اليوم الحادي عشر، موزعة على الجمرات الثلاث، ترمى كل جمرة منها بسبع. وإحدى وعشرون يرمي بها كذلك في اليوم الثاني عشر. " " " " " " " الثالث عشر. فيكون عدد الحصى سبعين حصاة. فإن اقتصر على الرمي في الايام الثلاثة، ولم يرم في اليوم الثالث عشر جاز. ويكون الحصى الذي يرميه الحاج تسعا وأربعين. ومذهب أحمد: إن رمى الحاج بخمس حصيات أجزأه. وقال عطاء: إن رمى بخمس أجزأه. وقال مجاهد إن رمى بست، فلا شئ عليه.   (1) " الهضاب " جمع هضبة: الجبل المنبسط على وجه الارض. (2) " إليك " اسم فعل: أي ابتعد وتنح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 وعن سعيد بن مالك قال: رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول رميت ست حصيات، وبعضنا يقول رميت سبع حصيات، فلم يعب بعضنا على بعض. أيام الرمي: أيام الرمي ثلاثة أو أربعة: يوم النحر، ويومان، أو ثلاثة من أيام التشريق. قال الله تعالى: " واذكروا الله في أيام معدودات، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى (1) ". الرمي يوم النحر: الوقت المختار للرمي، يوم النحر، وقت الضحى بعد طلوع الشمس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رماها ضحى ذلك اليوم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله، وقال " لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ". رواه الترمذي، وصححه. فإن أخره إلى آخر النهار، جاز. قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها، وإن لم يكن ذلك مستحبا لها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فقال رجل: رميت بعد ما أمسيت، فقال: " لا حرج ". رواه البخاري. هل يجوز تأخير الرمي إلى الليل : إذا كان فيه عذر بمنع الرمي نهارا، جاز تأخير الرمي إلى الليل. لما رواه مالك عن نافع: أن ابنة لصفية امرأة ابن عمر نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي صفية، حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما ابن   (1) أي لا إثم على من تعجل، فنفر في اليوم الثاني عشر، ولا على من أخر النفر، إلى اليوم الثالث عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 عمر أن تريما الجمرة حين قدمتا، ولم ير عليهما شيئا. أما إذا لم يكن فيه عذر فإنه يكره التأخير، ويرمي بالليل، ولا دم عليه عند الاحناف والشافعية، ورواية عن مالك، لحديث ابن عباس المتقدم. وعند أحمد: إن أخر الرمي حتى انتهى يوما النحر فلا يرمي ليلا، وإنما يرميها في الغد بعد زوال الشمس. الترخيص للضعفة وذوي الاعذار بالرمي بعد منتصف ليلة النحر لا يجوز لاحد أن يرمي قبل نصف الليل الاخير بالاجماع ويرخص للنساء، والصبيان، والضعفة، وذوي الاعذار، ورعاة الابل: أن يرموا جمرة العقبة، من نصف ليلة النحر فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر، فرمت قبل الفجر ثم أفاضت. رواه أبو داود، والبيهقي، وقال: إسناده صحيح لا غبار عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الابل أن يرموا ... بالليل رواه البزار. وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف. وعن عروة قال: دار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر، فأمرها أن تعجل الافاضة من جمع، حتى تأتي مكة، فتصلي بها الصبح، وكان يوما، فأحب أن ترافقه. رواه الشافعي، والبيهقي. عن عطاء قال: أخبرني مخبر عن أسماء: أنها رمت الجمرة، قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود. قال الطبري: استدل الشافعي بحديث أم سلمة، وحديث أسماء، على ما ذهب إليه من جواز الافاضة بعد نصف الليل. وذكر ابن حزم أن الاذن في الرمي بالليل مخصوص بالنساء دون الرجال، ضعفاؤهم وأقوياؤهم في عدم الاذن سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 والذي دل عليه الحديث: أن من كان ذا عذر جاز أن يتقدم ليلا ويرمي ليلا. وقال ابن المنذر: السنة ألا يرمي إلى بعد طلوع الشمس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر: لان فاعله مخالف للسنة. ومن رماها حينئذ فلا إعادة عليه، إلا لا أعلم أحدا قال: لا يجزئه. رمي الجمرة من فوقها: رمي الاسود قال: رأيت عمر رضي الله عنه رمى جمرة العقبة من فوقها. وسئل عطاء عن الرمي من فوقها فقال: لا بأس. رواهما سعيد ابن منصور. الرمي في الأيام الثلاثة : الوقت المختار للرمي في الايام الثلاثة يبتدئ من الزوال إلى الغروب. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار عند زوال الشمس، أو بعد زوال الشمس. رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه. وروى البيهقي عن نافع: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا نرم في الايام الثلاثة، حتى تزول الشمس. فإن أخر الرمي إلى الليل، كره له ذلك، ورمى في الليل إلى طلوع شمس الغد. وهذا متفق عليه بين أئمة المذاهب، سوى أبي حنيفة، فإنه أجاز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال. لحديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا انتفخ النهار من يوم النفر الاخر، حل الرمي، والصدر (1) . الوقوف والدعاء بعد الرمي في أيام التشريق: يستحب الوقوف بعد الرمي مستقبلا القبلة، داعيا الله، وحامدا له مستغفرا لنفسه ولاخوانه المؤمنين.   (1) " الانتفاخ ": الارتفاع، " الصدر " الانصراف من منى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 لما رواه أحمد، والبخاري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: أن رسول صلى الله عليه وسلم، كان إذا رمى الجمرة الاولى، التي تلي المسجد، رماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف، ذات اليسار إلى بطن الوادي فيقف ويستقبل القبلة، رافعا يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف، ثم يرمي الثانية بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف ذات اليسار إلى بطن الوادي، فيقف، ويستقبل القبلة، رافعا يديه ثم يمضي حتى يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف ولا يقف. وفي الحديث أنه لا يقف بعد رمي جمرة العقبة، وإنما يقف بعد رمي الجمرتين الاخريين. وقد وضع العلماء لذلك أصلا فقالوا: إن كل رمي ليس بعده رمي في ذلك اليوم لا يقف عنده، وكل رمي بعده رمي في اليوم نفسه يقف عنده. وروى ابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة، مضى ولم يقف. الترتيب في الرمي: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بدأ رمي الجمرة الاولى التي تلي منى، ثم الجمرة الوسطى التي تليها، ثم رمى جمرة العقبة. وثبت عنه أنه قال: " خذوا عني مناسككم ". فاستدل بهذا الائمة الثلاثة على اشتراط الترتيب بين الجمرات وأنها ترمى هكذا، مرتبة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمختار عند الاحناف: أن الترتيب سنة. استحباب التكبير والدعاء مع كل حصاة ووضعها بين أصابعه : عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهما: أنهما كانا يقولان - عند رمي جمرة العقبة - اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 وعن إبراهيم أنه قال: كانوا يحبون للرجل - إذا رمى جمرة العقبة - أن يقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا. فقيل له: تقول ذلك عند كل جمرة؟ قال: نعم. وعن عطاء قال: إذا رميت فكبر، وأتبع الرمي التكبيرة. روى ذلك سعيد بن منصور. وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة. قال في الفتح: وأجمعوا: على أن من لم يكبر لا شئ عليه. وعن سلمان بن الاحوص عن أمه، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكبا، ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى، ورمى الناس معه. رواه أبو داود. النيابة في الرمي : من كان عنده عذر يمنعه من مباشرة الرمي، كالمرض ونحوه، استناب من يرمي عنه. قال جابر رضي الله عنه: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم. رواه ابن ماجه. المبيت بمنى : البيات بمنى واجب في الليالي الثلاث، أو ليلتي الحادي عشر، والثاني عشر، عند الائمة الثلاثة. ويرى الاحناف أن البيات سنة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا رميت الجمار فبت حيث شئت. رواه ابن أبي شيبة. وعن مجاهد: لا بأس بأن يكون أول الليل بمكة، وآخره بمنى. أو أول الليل بمنى، وآخره بمكة. وقال ابن حزم: ومن لم يبت ليالي منى بمنى فقد أساء، ولا شئ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 واتفقوا على أنه يسقط عن ذوي الاعذار كالسقاة ورعاة الابل فلا يلزمهم بتركه شئ. وقد استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له. رواه البخاري وغيره. وعن عاصم بن عدي أنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يتركوا المبيت بمنى. رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي. متى يرجع من منى ؟ يرجع من " منى " إلى مكة قبل غروب الشمس، من اليوم الثاني عشر بعد الرمي، عند الائمة الثلاثة. وعند الاحناف: يرجع إلى مكة ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث عشر من ذي الحجة. لكن يكره النفر بعد الغروب، لمخالفة السنة ولا شئ عليه. الهدي : الهدي هو ما يهدى من النعم إلى الحرم تقربا إلى الله عزوجل، قال الله تعالى " والبدن (1) جعلناها لكم من شعائر (2) الله، لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع (3) والمعتر (4) كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون. لن ينال الله لحومها ولادماؤها، ولكن يناله التقوى منكم ". وقال عمر رضي الله عنه: أهدوا، فإن الله يحب الهدي. وأهدى رسول الله عليه وسلم مائة من الابل، وكان هديه تطوعا.   (1) " البان ": الابل. (2) " الشعائر " أعمال الحج، وكل ما جعل علما لطاعة الله. (3) " القانع " أي السائل. (4) " المعتر " الذي يتعرض لاكل اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 الافضل فيه: أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم (1) ، واتفقوا: على أن الافضل الابل، ثم البقر، ثم الغنم. على هذا الترتيب. لان الابل أنفع للفقراء، لعظمها، والبقر أنفع من الشاة كذلك. واختلفوا في الافضل للشخص الواحد: هل يهدي سبع بدنة، أو سبع بقرة أو يهدي شاة؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء. أقل ما يجزئ في الهدي: للمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم. وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الابل وكان هديه هدي تطوع. وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة، أو سبع بدنة، أو سبع بقرة، فإن البقرة أو البدنة تجزئ عن سبعة. قال جابر رضي الله عنه: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه أحمد، ومسلم. ولا يشترط في الشركاء أن يكونوا جميعا ممن يريدون القربة إلى الله تعالى. بل لو أراد بعضهم التقرب، وأراد البعض اللحم جاز. خلافا للاحناف الذين يشترطون التقرب إلى الله، من جميع الشركاء. متى تجب البدنة؟ ولا تجب البدنة إلا إذا طاف للزيارة جنبا، أو حائضا، أو نفساء، أو جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل الحلق، أو نذر بدنة أو جزورا، ومن لم يحد بدنة فعليه أن يشتري سبع شياه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر بها، ولا أجدها فأشتريها، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن. رواه أحمد، وابن ماجه بسند صحيح.   (1) " والنعم " هي الابل، والبقر، والغنم، والذكر، أو الانثى، سواء في جواز الاهداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 أقسامه: ينقسم الهدي إلى مستحب، وواجب. فالهدي المستحب: للحاج المفرد، والمعتمر المفرد. والهدي الواجب: أقسامه كالآتي: 1 و 2 - واجب على القارن، والمتمتع. 3 - واجب على من ترك واجبا من واجبات الحج، كرمي الجمار والاحرام من الميقات والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، أو منى، أو ترك طواف الوداع. 4 - واجب على من ارتكب محظورا من محظورات الاحرام، غير الوطء، كالتطيب والحلق. 5 - واجب بالجنابة على الحرم، كالتعرض لصيده، أو قطع شجره، وكل ذلك مبين في موضعه كما تقدم. شروط الهدي: يشترط في الهدي الشروط الآتية: 1 - أن يكون ثنيا، إذا كان من غير الضأن، أما الضأن فإنه يجزئ منه الجذع فما فوقه. وهو ما له ستة أشهر، وكان سمينا. والثني من الابل: ماله خمس سنين، ومن البقر: ما له سنتان، ومن المعز ما له سنة تامة، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه. 2 - أن يكون سليما، فلا تجزئ فيه العوراء ولا العرجاء ولا الجرباء، ولا العجفاء (1) . وعن الحسن: أنهم قالوا: إذا اشترى الرجل البدنة، أو الاضحية، وهي وافية، فأصابها عور، أو عرج، أو عجف قبل يوم النحر فليذبحها وقد أجزأته. رواه سعيد بن منصور.   (1) العجفاء: الهزيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 استحباب اختيار الهدي: روى مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يقول لبنيه: يا بني لايهد أحدكم لله تعالى من البدن شيئا. يستحيي أن يهديه لكريمه (1) ، فإن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له. وروى سعيد بن منصور ان ابن عمر رضي الله عنهما سار فيما بين مكة على ناقة بختية (2) ، فقال لها: بخ بخ (3) ، فأعجبته فنزل عنها، وأشعرها، وأهداها. إشعار الهدي وتقليده: الاشعار: هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة، إن كان لها سنام حتى يسيل دمها ويجعل ذلك علامة لكونها هديا فلا يتعرض لها. والتقليد: هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليعرف بها أنه هدي. وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم غنما، وقلدها، وقد بعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه عندما حج سنة تسع. وثبت عنه: أنه صلى الله عليه وسلم، قلد الهدي، وأشعره وأحرم بالعمرة وقت الحديبية. وقد استحب الاشعار عامة العلماء، ما عدا أبا حنيفة. الحكمة في الاشعار والتقليد: والحكمة فيهما تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، تذبح له ويتقرب بها إليه. ركوب الهدى: يجوز ركوب البدن، والانتفاع بها.   (1) " لكريمه " أي لحبيبه المكرم العزيز لديه. (2) البختية: الانثى من الجمال. (3) بخ بخ: كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ، وتكرر للمبالغة، وبخبخت الرجل: إذا قلت له ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 لقول الله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق) . قال الضحاك، وعطاء: المنافع فيها الركوب عليها إذا احتاج، وفي أوبارها وألبانها. والاجل المسمى: أن تقلد فتصير هديا. ومحلها إلى البيت العتيق، قالا: يوم النحر ينحر بمنى. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: " اركبها ". قال: إنها بدنة. فقال: " اركبها ويلك ": في الثانية، أو الثالثة. رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، ومشهور مذهب مالك. وقال الشافعي: يركبها إذا اضطر إليها. وقت الذبح: اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي. فعند الشافعي: أن وقت ذبحه يوم النحر، وأيام التشريق لقوله صلى الله عليه وسلم: " وكل أيام التشريق ذبح " رواه أحمد. فإن فات وقته، ذبح الهدي الواجب قضاء. وعند مالك وأحمد، وقت ذبح الهدي - سواء أكان ذبح الهدي واجبا، أم تطوعا - أيام النحر. وهذا رأي الاحناف بالنسبة لهدي التمتع والقران. وأمادم النذر، والكفارات، والتطوع فيذبح في أي وقت. وحكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والنخعي: وقتها من يوم النحر، إلى آخر ذي الحجة. مكان الذبح: الهدي - سواء أكان واجبا، أم تطوعا - لا يذبح إلا في الحرم وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه. فعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طرق، ومنحر ". رواه أبو داود، وابن ماجه. والاولى بالنسبة للحاج، أن يذبح بمنى، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة، لانها موضع تحلل كل منهما. فعن مالك أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - بمنى - " هذا المنحر، وكل منى منحر " وفي العمرة: هذا المنحر - يعني المروة - وكل فجاج مكة وطرقها منحر. استحباب نحر الابل، وذبح غيرها: يستحب أن تنحر الابل، وهي قائمة، معقولة اليد اليسرى وذلك للاحاديث الآتية: 1 - لما رواه مسلم، عن زياد بن جبير: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل، وهو ينحر بدنته باركة، فقال: ابعثها قياما مقيدة، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. 2 - وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي منها. رواه أبو داود. 3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف) أي قياما على ثلاث. رواه الحاكم. أما البقر والغنم، فيستحب ذبحها مضطجعة. فإن ذبح ما ينحر، ونحر ما يذبح، قيل: يكره، وقيل: لا يكره. ويستحب أن يذبحها بنفسه، إن كان يحسن الذبح، وإلا فيندب له أن يشهده. لا يعطى الجزار الاجرة من الهدي: لا يجوز أن يعطى الجزار الاجرة من الهدي، ولا بأس بالتصدق عليه منه. لقول علي رضي الله عنه: أمرني رسولا لله صلى الله عليه وسلم أن أقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 على بدنه، وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني ألا أعطي الجزار منها شيئا، وقال: " نحن نعطيه من عندنا " رواه الجماعة. وفي الحديث ما يدل على أنه يجوز أنه ينيب عنه من يقوم بذبح هديه، وتقسيم لحمه، وجلده وجلاله (1) . وأنه لا يجوز أن يعطى الجزار منه شيئا، على معنى الاجرة، ولكن يعطى أجرة عمله، بدليل قوله: " نعطيه من عندنا ". وروي عن الحسن أنه قال لا بأس أن يعطى الجازر الجلد. الاكل من لحوم الهدي: أمر الله بالاكل من لحوم الهدي فقال: " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ". وهذا الامر يتناول - بظاهره - هدي الواجب، وهدي التطوع. وقد اختلف فقهاء الامصار في ذلك. فذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى جواز الاكل من هدي المتعة، وهدي القران، وهدي التطوع، ولا يأكل مما سواها. وقال مالك: يأكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه، ولفوات الحج. ومن هدي المتمتع، ومن الهدي كله، إلا فدية الاذى، وجزاء الصيد. وما نذره للمساكين، وهدي التطوع، إذا عطب قبل محله. وعند الشافعي: لايجوز الاكل من الهدي الواجب مثل الدم الواجب، في جزاء الصيد، وإفساد الحج وهدي التمتع والقران، وكذلك ما كان نذرا أوجبه على نفسه. أماماكان تطوعا، فله أن يأكل منه ويهدي، ويتصدق. مقدار ما يأكله من الهدي: للمهدي أن يأكل من هديه الذي يباح له الاكل منه أي مقدار يشاء أن يأكله، بلا تحديد، وله كذلك أن يهدي أو يتصدق بما يراه. وقيل: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف.   (1) اتفق الائمة: على عدم جواز بيع جلد الهدي ولاشئ من اجزائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 وقيل: يقسمه أثلاثا، فيأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث. الحلق أو التقصير : ثبت الحلق والتقصير بالكتاب، والسنة والاجماع. قال الله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) . وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رحم الله المحلقين ". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " رحم الله المحلقين ". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: " والمقصرين (1) ". ورويا عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق، وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم. والمقصود بالحلق إزالة شعر الرأس بالموسى ونحوه، أو بالنتف، ولو اقتصر على ثلاث شعرات جاز. والمراد بالتقصير أن يأخذ من شعر الرأس قدر الانملة (2) . وقد اختلف جمهور الفقهاء في حكمه. فذهب أكثرهم: إلى أنه واجب، يجبر تركه بدم. وذهبت الشافعية: إلى أنه ركن من أركان الحج. وقته: وقته للحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، فإذا كان معه هدي حلق بعد الذبح.   (1) قيل: في سبب تكرار الدعاء للمحلقين هو الحث عليه، والتأكيد لندبته، لانه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية في التذلل لله، لان المقصر مبق لنفسه من الزينة، ثم جعل للمقصرين نصيبا لئلا يخيب أحد من أمته من صالح دعوته. (2) واختار ابن المنذر: أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير، لتناول اللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 في حديث معمر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه بمنى قال: " أمرني أن أحلقه ". رواه أحمد والطبراني. ووقته في العمرة بعد أن يفرغ من السعي، بين الصفا والمروة، ولمن معه هدي بعد ذبحه. ويجب أن يكون في الحرم، وفي أيام النحر عند أبي حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد، للحديث المتقدم. وعند الشافعي ومحمد بن الحسن، والمشهور من مذهب أحمد: يجب أن يكون الخلق أو التقصير بالحرم دون أيام النحر، فإن أخر الحلق عن أيام النحر جاز ولا شئ عليه. ما يستحب فيه: يستحب في الحلق أن يبدأ بالشق الايمن، ثم الايسر ويستقبل القبلة، ويكبر ويصلي بعد الفراغ منه. قال وكيع: قال لي أبو حنيفة: أخطأت، في خمسة أبواب من المناسك، فعلمنيها حجام، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي وقفت على حجام، فقلت له بكم تحلق رأسي؟ فقال أعراقي أنت؟ قلت: نعم. قال: النسك لا يشارط عليه. اجلس، فجلست منحرفا عن القبلة، فقال لي: حرك وجهك إلى القبلة. وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الايسر، فقال: أدر الشق الايمن من رأسك، فأدرته، وجعل يحلق وأنا ساكت، فقال لي: كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لا ذهب، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: رحلي. قال صل ركعتين ثم امض، فقلت: ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام، فقلت له: من أين لك ما أمرتني به، قال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا. ذكره المحب الطبري. استحباب امرار الموسى على رأس الأصلع : ذهب جمهور العلماء: إلى أنه يستحب للاصلع الذي لاشعر على رأسه أن يمر الموسى على رأسه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 الاصلع يمر الموسى على رأسه. وقال أبو حنيفة: إن إمرار الموسى على رأسه واجب. استحباب تقليم الاظفار والاخذ من الشارب: يستحب لمن حلق شعره أو قصره أن يأخذ من شاربه ويقلم أظافره، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما، إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه. وقال ابن النذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه قلم أظفاره. أمر المرأة بالتقصير ونهيها عن الحلق: روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير. " حسنه الحافظ. قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل العلم، وذلك لان الحلق في حقهن مثلة. القدر الذي تأخذه المرأة من رأسها: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: المرأة إذا أرادت أن تقصر جمعت شعرها إلى مقدم رأسها ثم أخذت منه أنملة. وقال عطاء: إذا قصرت المرأة شعرها تأخذ من أطرافه، من طويله وقصيره. رواهما سعيد بن منصور. وقيل: لا حد لما تأخذه المرأة من شعرها. وقال الشافعية: أقل ما يجزئ، ثلاث شعرات. طواف الإفاضة : أجمع المسلمون على أن طواف الافاضة ركن من أركان الحج، وأن الحاج إذا لم يفعله بضل حجه. لقول الله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . ولابد من تعيين النية له، عند أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 والائمة الثلاثة: يرون أن نية الحج تسري عليه، وأنه يصح من الحاج ويجزئه، وإن لم ينوه نفسه. وجمهور العلماء: يرى أنه سبعة أشواط. ويرى أبو حنيفة: أن ركن الحج من ذلك أربعة أشواط لو تركها الحاج بطل حجه. وأما الثلاثة الباقية فهي واجبة، وليست بركن. ولو ترك الحاج هذه الثلاثة، أو واحدا منها، فقد ترك واجبا، ولم يبطل حجه. وعليه دم. وقته: وأول وقته نصف الليل، من ليلة النحر، عند الشافعي، وأحمد، ولا حد لآخره، ولكن لا تحل له النساء حتى يطوف، ولا يجب تأخيره - عن أيام التشريق - دم، وإن كان يكره له ذلك. وأفضل وقت يؤدى فيه، ضحوة النهار، يوم النحر. وعند أبي حنيفة ومالك: أن وقته يدخل بطلوع فجر يوم النحر، واختلفا في آخر وقته. فعند أبي حنيفة: يجب فعله في أي يوم من أيام النحر، فإن أخره لزمه دم. وقال مالك: لا بأس بتأخيره إلى آخر أيام التشريق، وتعجيله أفضل. ويمتد وقته إلى آخر شهر ذي الحجة، فإن أخره عن ذلك لزمه دم، وصح حجه، لان جميع ذي الحجة عنده من أشهر الحج. تعجيل الإفاضة للنساء : يستحب تعجيل الافاضة للنساء يوم النحر، إذا كن يخفن مبادرة الحيض. وكانت عائشة تأمر النساء بتعجيل الافاضة يوم النحر، مخافة الحيض. وقال عطاء: إذا خافت المرأة الحيضة فلتزر البيت قبل أن ترمي الجمرة، وقبل أن تذبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 ولا بأس من استعمال الدواء، ليرتفع حيضها حتى تستطيع الطواف. روى سعيد بن منصور عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سئل عن المرأة تشري الدواء، ليرتفع حيضها، لتنفر، فلم ير به بأسا ونعت لهن ماء الاراك. قال محب الدين الطبري: وإذا اعتد بارتفاعه في هذه الصورة، اعتد بارتفاعه في انقضاء العدة وسائر الصور. وكذلك في شرب دواء يجلب الحيض، إلحاقا به. النزول بالمحصب (1) ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نفر من منى إلى مكة نزل بالمحصب، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد به رقدة. وأن ابن عمر كان يفعل ذلك. وقد اختلف العلماء في استحبابه. فقالت عائشة: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب، ليكون أسمح (2) لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله. وقال الخطابي: وكان هذا شيئا يفعل، ثم ترك. وقال الترمذي: وقد استحب بعض أهل العلم نزول الابطح، من غير أن يروا ذلك واجبا، إلامن أحب ذلك. والحكمة في النزول في هذا المكان، شكر الله تعالى، على ما منح نبيه صلى الله عليه وسلم من الظهور فيه على أعدائه الذين تقاسموا فيه على بني هاشم بني المطلب، ان لا يناكحوهم لا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم: فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الاسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله. وهذه كانت عادته، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقيم شعائر التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم: أن يبنى مسجد الطائف، موضع اللات والعزى.   (1) المحصب: هو الابطح، أو البطحاء، وادبين جبل النور، والحجون. (2) أسمح: أي أسهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 العمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 العمرة: مأخوذ من الاعتمار، وهو الزيارة، والمقصود بها هنا زيارة الكعبة والطواف حولها، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق، أو التقصير. وقد أجمع العلماء: على أنها مشروعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عمرة في رمضان تعدل حجة (1) " رواه أحمد، وابن ماجه. وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " رواه أحمد، والبخاري، ومسلم. وتقدم حديث: " تابعوا بين الحج والعمرة ". تكرارها: 1 - قال نافع: اعتمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أعواما في عهد ابن الزبير، عمرتين في كل عام. 2 - وقال القاسم: إن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنة ثلاث مرات. فسئل: هل عاب ذلك عليها أحد؟ قال: سبحان الله. أم المؤمنين؟!! وإلى هذا: ذهب أكثر أهل العلم. وكره مالك تكرارها في العام أكثر من مرة. جوازها قبل الحج وفي أشهره : ويجوز للمعتمر أن يعتمر في أشهر الحج، من غير أن يحج، فقد اعتمر   (1) أي أن ثواب أدائها في رمضان يعدل ثواب حجة غير مفروضة وأداؤها لا يسقط الحج المفروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 عمر في شوال، ورجع إلى المدينة، دون أن يحج. كما يجوز له الاعتمار قبل أن يحج، كما فعل عمر رضي الله عنه. قال طاوس: كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور، ويقولون: إذا انفسخ صفر، وبرأ الدبر (1) وعفا الاثر (2) حلت العمرة لمن اعتمر. فلما كان الاسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة. عدد عمره صلى الله عليه وسلم: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجته. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، بسند رجاله ثقات. حكمها: ذهب الاحناف، ومالك: إلى أن العمرة سنة. لحديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: " لا، وأن تعتمروا هو أفضل " رواه أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعند الشافعية، وأحمد: أنها فرض. لقول الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) . وقد عطفت على الحج، وهو فرض، فهي فرض كذلك، والاول أرجح. قال في " فتح العلام ": وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة. ونقل الترمذي عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شئ ثابت. إنها تطوع.   (1) " الدبر ": تقرح خف البعير. وقيل: القرح يكون في ظهر الدابة. (2) " عفا الاثر ": أي زال أثر الحج من الطريق، وانمحى بعد رجوعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 وقتها : ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت العمرة جميع أيام السنة. فيجوز أداؤها في يوم من أيامها. وذهب أبو حنيفة إلى كراهتها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة. وذهب أبو يوسف إلى كراهتها في يوم عرفة، وثلاثة أيام بعده، واتفقوا على جوازها في أشهر الحج. 1 - روى البخاري عن عكرمة بن خالد قال: سألت عبد الله بن عمر رضيا لله عنهما، عن العمرة قبل الحج فقال: لا بأس على أحد أن يعتمر قبل الحج، فقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج. 2 - وروي عن جابر رضي الله عنه أن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت. فلما طهرت وطافت قالت: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بالحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة. وأفضل أوقاتها رمضان لما تقدم. ميقاتها : الذي يريد العمرة إما أن يكون خارج مواقيت الحج المتقدمة، أو يكون داخلها، فإن كان خارجها، فلا يحل له مجاوزتها بلا إحرام. لما رواه البخاري: أن زيد بن جبير أتى عبد الله بن عمر، فسأله: من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل نجد " قرنا " ولاهل المدينة " ذا الحليفة " ولاهل الشام " الجحفة ". وإن كان داخل المواقيت، فميقاته في العمرة الحل، ولو كان بالحرم، لحديث البخاري المتقدم، وفيه: أن عائشة خرجت إلى التنيعم وأحرمت فيه، وأن ذلك كان أمرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. طواف الوداع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 طواف الوداع، سمي بهذا الاسم، لانه لتوديع البيت، ويطلق عليه طواف الصدر، لانه عند صدور الناس من مكة، وهو طواف لا رمل فيه، وهو آخر ما يفعله الحاج الغير المكي (1) عند إرادة السفر من مكة. روى مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: آخر النسك الطواف بالبيت (2) . أما المكي والحائض، فإنه لا يشرع في حقهما، ولا يلزم بتركهما له شئ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت. رواه البخاري، ومسلم. وفي رواية قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. ورويا عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها حاضت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي؟ " فقالوا: إنها قد أفاضت. قال: " فلا إذا ". حكمه: اتفق العلماء: على أنه مشروع. لما رواه مسلم وأبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت ". واختلفوا في حكمه: فقال مالك، وداود، وابن المنذر: إنه سنة، لا يجب بتركه شئ. وهو قول الشافعي. وقالت الاحناف، والحنابلة، ورواية عن الشافعي: إنه واجب، يلزم بتركه دم.   (1) أما المكي فإنه مقيم بمكة، وملازم لها، فلا وداع بالنسبة له. (2) قال في الروضة الندية: قال في الحجة، والسرفيه تعظيم البيت، فيكون هو الاول وهو الآخر، تصويرا لكونه هو المقصود من السفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 وقته: وقت طواف الوداع، بعد أن يفرغ المرء من جميع أعماله، ويريد السفر، ليكون آخر عهده بالبيت. كما تقدم في الحديث. فإذا طاف الحاج سافر توا (1) دون أن يشتغل ببيع أو بشراء ولا يقيم زمنا، فإن فعل شيئا من ذلك، أعاده. اللهم إلا إذا قضى حاجة في طريقه، أو اشترى شيئا لا غنى له عنه من طعام، فلا يعيد لذلك. لان هذا لا يخرجه عن أن يكون آخر عهده بالبيت. ويستحب للمودع أن يدعو بالمأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهو: " اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسترتني في بلادك حتى بلغتني - بنعمتك - إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني قبل أن تنأى عن بيتك داري. فهذا أو ان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولاببيتك، ولا راغب عنك، ولا عن بيتك. اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شئ قدير ". قال الشافعي: أحب، إذا ودع البيت - أن يقف في الملتزم. وهوما بين الركن والباب. ثم ذكر الحديث. كيفية أداء الحج : إذا قارب الحاج الميقات استحب له أن يأخذ من شاربه ويقص شعره، وأظافره، ويغتسل، أو يتوضأ، ويتطيب، ويلبس لباس الاحرام. فإذا بلغ الميقات صلى ركعتين وأحرم - أي نوى الحج، إن كان مفردا، أو العمرة إن كان متمتعا، أوهما معا، إن كان قارنا.   (1) " توا ": أي فورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 وهذا الاحرام ركن، لا يصح النسك بدونه. أما تعيين نوع النسك، من إفراد، أو تمتع، أن قران فليس فرضا. ولو أطلق النية ولم يعين نوعا خاصا صح إحرامه. وله أن يفعل أحد الانواع الثلاثة. بمجرد الاحرام تشرع له التلبية بصوت مرتفع، كلما علا شرفا، أو هبط واديا، أو لقي ركبا، أو أحدا، وفي الاسحار، وفي دبر كل صلاة. وعلى المحرم أن يتجنب الجماع ودواعيه، ومخاصمة الرفاق وغيرهم، والجدل فيما لا فائدة فيه، وأن لا يتزوج، ولا يزوج غيره. ويتجنب أيضا لبس المخيط والمحيط، والخذاء الذي يستر ما فوق الكعبين. ولا يستر رأسه ولا يمس طيبا، ولا يحلق شعرا. ولا يقص ظفرا ولا يتعرض لصيد البر مطلقا، ولا لشجر الحرم وحشيشه. فإذا دخل مكة المكرمة استحب له أن يدخلها من أعلاها بعد أن يغتسل من بئر ذي طوى، بالزاهر، إن تيسر له. ثم يتجه إلى الكعبة فيدخلها من " باب السلام " ذاكرا أدعية دخول المسجد، ومراعيا آداب الدخول، وملتزما الخشوع، والتواضع، والتلبية. فإذا وقع بصره على الكعبة، رفع يديه وسأل الله من فضله، وذكر الدعاء المستحب في ذلك. ويقصد رأسا إلى الحجر الاسود، فيقبله بغير صوت أو يستلمه بيده ويقبلها، فإن لم يستطع ذلك أشار إليه. ثم يقف بحذائه، ملتزما الذكر المسنون، والادعية المأثورة، ثم يشرع في الطواف. ويستحب له أن يضطبع ويرمل في الاشواط الثلاثة الاول. ويمشي على هينته في الاشواط الاربعة الباقية. ويسن له استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الاسود في كل شوط. فإذا فرغ من طوافه. توجه إلى مقام إبراهيم تاليا قول الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . فيصلي ركعتي الطواف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 ثم يأتي " زمزم " فيشرب من مائها ويتضلع منه. وبعد ذلك يأتي " الملتزم " فيدعو الله عز وجل بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، ثم يستلم الحجر ويقبله ويخرج من باب " الصفا " إلى " الصفا " تاليا قول الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية. ويصعد عليه، ويتجه إلى الكعبة، فيدعو بالدعاء المأثور ثم ينزل فيمشي في السعي، ذاكرا داعيا بما شاء. فإذا بلغ " ما بين الميلين " هرول، ثم يعود ما شيا على رسله حتى يبلغ المروة، فيصعد السلم ويتجه إلى الكعبة، داعيا، ذاكرا. وهذا هو الشوط الاول. وعليه أن يفعل ذلك حتى يستكمل سبعة أشواط. وهذا السعي واجب على الارجح، وعلى تاركه - كله أو بعضه - دم. فإذا كان المحرم متمتعا حلق رأسه أو قصر. وبهذا تتم عمرته، ويحل له ما كان محظورا من محرمات الاحرام، حتى النساء. أما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، يحرم المتمتع من منزله. ويخرج - هو وغيره ممن بقي على إحرامه - إلى منى، فيبيت بها. فإذا طلعت الشمس ذهب إلى " عرفات " ونزل عند مسجد " نمرة. واغتسل، وصلى الظهر والعصر جمع تقديم مع الامام، يقصر فيهما الصلاة " هذا إذا تيسر له أن يصلي مع الامام: وإلا صلى جمعا وقصرا، حسب استطاعته. ولايبدأ الوقوف بعرفة إلا بعد الزوال. فيقف بعرفة عند الصخرات، أو قريبا منها. فإن هذا موضع وقوف النبي صلى الله عليه وسلم. والوقوف ب " عرفة " هو ركن الحج الاعظم. ولايسن ولا ينبغي صعود جبل الرحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 ويستقبل القبلة، ويأخذ في الدعاء، والذكر، والابتهال حتى يدخل الليل. فإذا دخل الليل أفاض إلى " المزدلفة " فيصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير. ويبيت بها. فإذا طلع الفجر وقف بالمشعر الحرام. وذكر الله كثيرا حتى يسفر الصبح، فينصرف بعد أن يستحضر الجمرات، ويعود إلى " منى ". والوقوف بالمشعر الحرام واجب، يلزم بتركه دم. وبعد طلوع الشمس يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات. ثم يذبح هديه - إن أمكنه - ويحلق شعره أو يقصره. وبالحلق يحل له كل ما كان محرما عليه، ما عدا النساء. ثم يعود إلى مكة، فيطوف بها طواف الافاضة، وهو طواف الركن، فيطوف - كما طاف - طواف القدوم. ويسمى هذا الطواف أيضا طواف الزيارة، وإن كان متمتعا سعى بعد الطواف. وإن كان مفردا، أو قارنا، وكان قد سعى عند القدوم، فلا يلزمه سعي آخر. وبعد هذا الطواف يحل له كل شئ، حتى النساء. ثم يعود إلى " منى " فيبيت بها. والمبيت بها واجب، يلزم بتركه دم. وإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر من ذي الحجة رمى الجمرات الثلاث، مبتدئا بالجمرة التي تلي " منى " ثم يرمي الجمرة الوسطى. ويقف بعد الرمي، داعيا ذاكرا، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها. وينبغي أن يرمي كل جمرة بسبع حصيات قبل الغروب. ويفعل في اليوم الثاني عشر مثل ذلك. ثم هو مخير بين أن ينزل إلى مكة قبل غروب اليوم الثاني عشر، وبين أن يبيت ويرمي، في اليوم الثالث عشر. ورمي الجمار واجب يجبر تركه بالدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 فإذا عاد إلى مكة وأراد العودة إلى بلاده طاف طواف الوداع، وهذا الطواف واجب. وعلى تاركه أن يعود إلى مكة ليطوف طواف الوداع إن أمكنه الرجوع، ولم يكن قد تجاوز الميقات، وإلا ذبح شاة. ويؤخذ من كل ما تقدم أن أعمال الحج والعمرة، هي الاحرام من الميقات، والطواف والسعي، والحلق، وبهذا تنتهي أعمال العمرة. ويزيد عليها الحج الوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وطواف الافاضة، والمبيت ب " منى "، والذبح، والحلق أو التقصير. هذه هي خلاصة أعمال الحج والعمرة. استحباب تعجيل العودة : عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته (1) فليعجل إلى أهله " رواه البخاري، ومسلم. وعن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى أحدكم حجه فليتعجل إلى أهله، فإنه أعظم لاجره ". رواه الدارقطني. وروى مسلم عن العلاء بن الحضرمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا ". الاحصار : الاحصار هو المنع والحبس، قال الله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) . وقد نزلت هذه الآية في حصر النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعه هو وأصحابه في الحديبية عن المسجد الحرام. والمراد به: المنع عن الطواف في العمرة، وعن الوقوف بعرفة، أو طواف الافاضة في الحج.   (1) " نهمته " بلوغ النهمة: شدة الشهوة في الحصول على الشئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 وقد اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الاحصار. قال مالك، والشافعي: الاحصار لا يكون إلا بالعدو. لان الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم به. وقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وذهب أكثر العلماء - منهم الاحناف، وأحمد - إلى أن الاحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدو (1) أو مرض يزيد بالانتقال والحركة، أو خوف، أو ضياع النفقة أو موت محرم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الاعذار المانعة، حتى أفنى ابن مسعود رجلا لدغ، بأنه محصر. واستدلوا بعموم قوله تعالى: (فإن أحصرتم) وأن سبب نزول الآية إحصار النبي صلى الله عليه وسلم بالعدو فإن العام لا يقصر على سببه. وهذا أقوى من غيره، من المذاهب. على المحصر شاة فما فوقها: الآية صريحة في أن على المحصر أن يذبح ما استيسر من الهدي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحصر فحلق وجامع نساءه ونحر هديه، حتى اعتمر عاما قابلا. رواه البخاري. وقد استدل بهذا الجمهور من العلماء على أن المحصر يجب عليه ذبح شاة أو بقرة أو نحر بدنة. وقال مالك: لا يجب. قال في " فتح العلام ": والحق معه، فإنه لم يكن مع كل المحصرين هدي، وهذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم ساقه من المدينة متنفلا به. وهو الذي أراده الله تعالى بقوله: (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) . والآية لاتدل على الايجاب.   (1) كافرا كان أو باغيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 موضع ذبح هدي الإحصار : قال في " فتح العلام ": اختلف العلماء - هل نحره يوم الحديبية في الحل أو في الحرم؟ وظاهر قوله تعالى: (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) أنهم نحروه في الحل. وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال: الاول للجمهور: أنه يذبح هديه حيث يحل في حرم أو حل. الثاني للحنفية: أنه لا ينحره إلا في الحرم. الثالث لابن عباس وجماعة: أنه إن كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، ولا يحل حتى ينحر في محله. وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحر في محل إحصاره. لا قضاء على المحصر إلا أن يكون عليه فرض الحج : عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) يقول: من أحرم بحج أو بعمرة ثم حبس عن البيت، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي: شاة فما فوقها، يذبح عنه. فإن كان حجة الاسلام، فعليه قضاؤها. وإن كان حجة بعد حج الفريضة فلا قضاء عليه. وقال مالك: إنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء هو وأصحابه الحديبية فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلتوا من كل شئ، قبل الطواف بالبيت، ومن قبل أن يصل الهدي إلى البيت. ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه، ولاممن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا يعودوا له. والحديبية خارج من الحرم. رواه البخاري. قال الشافعي: فحيث أحصر ذبح، وحل، ولاقضاء عليه من قبل أن الله لم يذكر قضاء. ثم قال: لانا علمنا - من تواطئ حديثهم - أنه كان معه في عام الحديبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 رجال معروفون، ثم اعتمروا عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة، من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزم القضاء لامرهم بألا يتخلفوا عنه. وقال: وإنما سميت عمرة القضاء، والقضية، للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين قريش، لا على أنه واجب قضاء تلك العمرة. جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه : ذهب كثير من العلماء، إلى جواز أن يشترط المحرم عند إحرامه، أنه إن مرض تحلل. فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة: " حجي، واشترطي أن محلي حيث تحبسني ". فإذا أحصر بسبب من الاسباب، من مرض، أو غيره، إذا اشترطه في إحرامه فله أن يتحلل وليس عليه دم، ولاصوم. كسوة الكعبة : كان الناس على عهد الجاهلية يكسون الكعبة، حتى جاء الاسلام فأقر كسوتها. فقد ذكر الواقدي عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن أبيه قال: كسي البيت في الجاهلية الانطاع (1) ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية. وكساه عمر وعثمان القباطي (2) ثم كساه الحجاج الديباج. وروي: أن أول من كساها أسعد الحميري وهو " تبع ". وكان ابن عمر رضيا لله عنهما يجلل بدنه القباطي والانماط (3) والحلل، ثم يبعث بها إلى الكعبة يكسوها إياها، رواه مالك. وأخرج الواقدي أيضا إسحاق بن أبي عبد بن أبي جعفر محمد بن علي قال:   (1) " الانطاع " جمع نطع وهوما يفرش على الارض كالبساط، ويصنع من الجلد الاحمر. (2) " القباطي " جمع قبطية. وهو الثوب من ثياب مصر، رقيق أبيض لانه منسوب إلى القبط، وهم أهل مصر. (3) " الانماط " جمع نمط، نوع من البسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة، ويهدون إليها البدن عليها الحبرات (1) فيبعث بالحبرات إلى البيت كسوة. فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج. فلما كان ابن الزبير اتبع أثره. وكان يبعث إلى مصعب بن الزبير، ليبعث بالكسوة كل سنة فكان يكسوها يوم عاشوراء. وأخرج سعيد بن منصور: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينزع ثياب الكعبة في كل سنة، فيقسمها على الحاج فيستظلون بها على السمر (2) بمكة. تطييب الكعبة : عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره. وطيب ابن الزبير جوف الكعبة كله. وكان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر (3) ويجمرها كل جمعة برطلين. النهي عن الإلحاد في الحرم : قال الله تعالى: (ومن يرد فيه بالحاد (4) بظلم نذقه من عذاب أليم) . وروى أبو داود عن موسى بن باذان قال: أتيت يعلى بن أمية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ". وروى البخاري في التاريخ الكبير، عن يعلى بن أمية أنه سمع عمرو ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: " احتكار " الطعام إلحاد ".   (1) " الحبرات " جمع حبرة، وهو ما كان مخططا من البرود من ثياب اليمن. (2) " السمر " نوع من الشجر. (3) " المجمر " العود الذي يتطيب به. (4) " الالحاد " أي العصيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وروى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أتى ابن الزبير وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير، إياك والالحاد في حرم الله عز وجل، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يحلها رجل من قريش. " وفي رواية " سيلحد فيه رجل من قريش، له وزنت ذنوبه وذنوب الثقلين لوزنتها " فانظر أن لا تكون هو. قال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة، كما تضاعف الحسنات. وسئل الامام أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إلا بمكة، لتعظيم البلد. غزو الكعبة روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء (1) من الارض يخسف بأولهم وآخرهم " قلت: يا رسول الله، كيف وفيهم أسواقهم (2) ومن ليس منهم؟ قال: " يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ". استحباب شد الرحال إلى المساجد الثلاثة : عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاتشد الرحال، إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى ". رواه البخاري، ومسلم وأبو داود. وفي لفظ: " انما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي، ومسجد إيليا (3) ". وعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الارض أول؟ قال: " المسجد الحرام. " قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الاقصى. "   (1) " بيداء " فلاة وصحراء. (2) أسواق: جمع سوق. وقد يكون في السوق الصالحون لقضاء مصالحهم. (3) " إيليا ": القدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 قلت: كم بينهما؟ قال: " أربعون سنة، ثم أين أدركتك الصلاة بعد فصل، فإن الفضل فيه ". وإنما شرع السفر إلى هذه المساجد الثلاثة، لما فيها من فضائل وميزات ليست في غيرها. فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه. إلا المسجد الحرام. وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ". رواه أحمد بسند صحيح. وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى في مسجدي أربعين صلاة، لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق ". رواه أحمد، والطبراني، بسند صحيح. وقد جاء في الاحاديث: أن فضل الصلاة في مسجد بيت المقدس أفضل مما سواه من المساجد - غير المسجد الحرام والمسجد النبوي - بخمسمائة صلاة. آداب دخول المسجد النبوي وآداب الزيارة : 1 - يستحب إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكينة والوقار، وأن يكون متطيبا بالطيب، ومتجملا بحسن الثياب. وأن يدخل بالرجل اليمنى. ويقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم. بسم الله، اللهم صلي على محمد وآله وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. 2 - ويستحب أن يأتي الروضة الشريفة أولا، فيصلي بها تحية المسجد، في أدب وخشوع. 3 - فإذا فرغ من الصلاة - أي تحية المسجد - اتجه إلى القبر الشريف مستقبلا له ومستدبرا القبلة، فيسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: " السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا نبي الله. السلام عليك يا خيرة خلق الله من خلقه. السلام عليك يا خير خلق الله. السلام عليك يا حبيب الله. السلام عليك يا سيد المرسلين. السلام عليك يا رسول الله رب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 العالمين. السلام عليك يا قائد الغر المحجلين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وخيرته من خلقه. وأشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الامانة، ونصحت الامة، وجاهدت في الله حق جهاده ". 4 - ثم يتأخر نحو ذراع إلى الجهة اليمنى. فيسلم على أبي بكر الصديق، ثم يتأخر أيضا نحور ذراع. فيسلم على عمر الفاروق رضي الله عنهما. 5 - ثم يستقبل القبلة، فيدعو لنفسه، ولاحبابه، وإخوانه وسائر المسلمين. ثم ينصرف. 6 - وعلى الزائر أن لا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه وعلى ولي الامر أن يمنع ذلك برفق. فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد النبوي فقال: لو أعلم أنكما من البلد، لاوجعتكما ضربا. 7 - وأن يتجنب التمسح بالحجرة - أي القبر - والتقبيل لها، فإن لك مما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام. روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا. وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". وقد رأى عبد الله بن حسن رجلا ينتاب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء عنده فقال: يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا. وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "، فما أنت - يا رجل - ومن بالاندلس إلاسواء. استحباب كثرة التعبد في الروضة المباركة : روى البخاري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (1) ، ومنبري على حوضي ". استحباب إتيان مسجد " قبا " والصلاة فيه : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت، راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين. وكان عليه الصلاة والسلام يرغب في ذلك فيقول: " من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة. " رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح الاسناد. فضائل المدينة روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الايمان ليأرز (2) إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ". وروى الطبراني عن أبي هريرة - بإسناد لا بأس به - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المدينة قبة الاسلام، ودار الايمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام. " وعن عمر رضي الله عنه قال: غلا السعر بالمدينة فاشتد الجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصبروا، وأبشروا فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، وكلوا ولا تنفرقوا، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي لاربعة، وطعام الاربعة يكفي الخمسة والستة، وإن البركة في الجماعة، من صبر على لاوائها وشدتها، كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة، ومن خرج عنها، رغبة عما فيها أبدل الله به من هو خير منه فيها، ومن أرادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ". رواه البزار بسند جيد.   (1) قيل في معنى " روضة من رياض الجنة ": أن ما يحدث فيها من العبادة والعلم يشبه أن يكون روضة من رياض الجنة. ويكون هذا كقوله عليه الصلاة والسلام " إذا مررتم برياض الجنة. فارتعوا. " قالوا يا رسول الله، وما رياض الجنة! قال: " حلق الذكر ". (2) " يأرز " أي ينضم ويتجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 فضل الموت في المدينة : روى الطبراني بإسناد حسن عن امرأة يتيمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإنه من مات بها كنت له شهيدا، أو شفيعا يوم القيامة ". ولهذا سأل عمر - رضي الله عنه - ربه أن يموت في المدينة. فقد روى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سيبلك واجعل موتي في حرم رسولك صلى الله عليه وسلم. تم بعون الله تعالى المجلد الاول ويليه المجلد الثاني محتويا على: الزواج وأحكامه الولاية على الزواج والمهر والنفقة الطلاق وأحكامه الحدود وأحكامها الجنايات (القصاص والديات) نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله وينفع به آمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 بسم الله الرحمن الرحيم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قرآن كريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الاولين والاخرين، سيدنا محمد وعلى آله ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو المجلد الثاني من كتاب فقه السنة، نقدمه للقراء الكرام، سائلين الله سبحانه أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. السيد سابق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الزواج الزوجية سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، وهي عامة مطردة، لا يشذ عنها عالم الانسان، أو عالم الحيوان أو عالم النبات: (من كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) . (سبحان الذي خلق الازواج كلها، مما تنبت الارض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون) . وهي الاسلوب الي اختاره الله للتوالد والتكاثر، واستمرار الحياة، بعد أن أعد كلا الزوجين وهيأهما. بحيث يقوم كل منهما بدور إيجابي في تحقيق هذه الغاية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) . (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) . ولم يشأ الله أن يجعل الانسان كغيره من العوالم، فيدع غرائزه تنطلق دون وعي، ويترك اتصال الذكر بالانثى فوضى لا ضابط له. بل وضع النظام الملائم لسيادته، والذي من شأنه أن يحفظ شرفه، ويصون كرامته. فجعل اتصال الرجل بالمرأة اتصالا كريما، مبنيا على رضاهما. وعلى إيجاب وقبول، كمظهرين لهذا الرضا. وعلى إشهاد، على أن كلا منهما قد أصبح للاخر. وبهذا وضع للغريزة سبيلها المأمونة، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة عن أن تكون كلاء مباحا لكل راتع. ووضع نواة الاسرة التي تحوطها غريزة الامومة وترعاها عاطفة الابوة. فتنبت نباتا حسنا، وتثمر ثمارها اليانعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وهذا النظام هو الذي ارتضاه الله، وأبقى عليه الاسلام، وهدم كل ما عداه. الانكحة التي هدمها الاسلام فمن ذلك: نكاح الخدن: كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به وما ظهر فهو لؤم. وهو المذكور في قول الله تعالى: (ولا متخذات أخدان) . ومنها: نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك. رواه الدارقطني عن أبي هريرة بسند ضعيف جدا. وذكرت عائشة غير هذين النوعين فقالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء (1) : (1) نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها. (2) ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها (2) ، أرسلي إلى فلان فاستضعي منه (3) ، ويعتزلها زوجها حتى يتبين حملها. فإذا تبين، أصاب إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. ويسمى هذا النكاح الاستبضاع. (3) ونكاح آخر: يجتمع الرهط (ما دون العشرة) على المرأة فيدخلون، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم ما كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.   (1) انحاء: انواع. (2) طمثها: حيضها. (3) استبضعي: اطلبي منه المباضعة، أي الجماع لتنالي به الولد فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 (4) ونكاح رابع: يجتمع ناس كثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا (1) - ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت، جمعوا لها، ودعوا لهم القافة (2) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به (3) ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم. وهذا النظام الذي أبقى عليه الاسلام، لا يتحقق إلا بتحقق أركانه من الايجاب والقبول، وبشرط الاشهاد. وبهذا يتم العقد الذي يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالاخر على الوجه الذي شرعه الله. وبه تثبت الحقوق والواجبات التي تلزم كلا منها. الترغيب في الزواج : وقد رغب الاسلام في الزواج بصور متعددة الترغيب. فتارة يذكر أنه من سنن الانبياء وهدى المرسلين. وأنهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم: (ولقد أرسلنا مرسلا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجا وذرية) . وفي حديث الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من سنن المرسلين: الحناء (4) ، والتعطر، والسواك، والنكاح) .   (1) البغايا: الزواني. (2) القافة: جمع قائف وهو من يشبهه بين الناس، فيلحق الولد بالشبيه. (3) التاط به: التصق به وثبت النسب بينهما. (4) وقال بعض الرواة: الحياء بالياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وتارة يذكر في معرض الامتنان: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات) . وأحيانا يتحدث عن كونه آية من آيات الله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) . وقد يتردد المرء في قبول الزواج، فيحجم عنه خوفا من الاضطلاع بتكاليفه، وهروبا من احتمال أعبائه. فيلفت الاسلام نظره إلى أن الله سيجعل الزواج سبيلا إلى الغنى، وأنه سيحمل عنه هذه الاعباء ويمده بالقوة التي تجعله قادرا على التغلب على أسباب الفقر: (وأنكحوا الأيامى (1) منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم (2) ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم) وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح الذي يريد العفاف) . والمرأة خير كنز يضاف إلى رصيد الرجل. روى الترمذي وابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه، قال لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم) . قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: (لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) .   (1) الأيامى: جمع أيم، وهو الذي لا زوجة له، أو التي لا زوج لها. (2) العباد: العبيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وروى الطبري بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أعطي خير الدنيا والاخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله) . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) . وقد يخيل للانسان في لحظة من لحظات يقظته الروحية، أن يتبتل وينقطع عن كل شأن من شؤون الدنيا، فيقوم الليل، ويصوم النهار، ويعتزل النساء، ويسير في طريق الرهبانية المنافية لطبيعة الانسان. فيعلمه الاسلام أن ذلك مناف لفطرته، ومغاير لدينه، وأن سيد الانبياء - وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له - كان يصوم ويفطر، ويقوم وينام، ويتزوج النساء. وأن من حاول الخروج عن هديه فليس له شرف الانتساب إليه. روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا - كأنهم تقالوها (1) - فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟. أما والله إني لاخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . والزوجة الصالحة فيض من السعادة يغمبر البيت ويملؤه سرورا وبهجة وإشراقا.   (1) عدوها قليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فعن أبي أمامة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن - بعد تقوى الله عز وجل - خيرا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) . رواه ابن ماجه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء) . رواه أحمد بسند صحيح. ورواه الطبراني، والبزاز، والحاكم وصححه، وقد جاء تفسير هذا الحديث في حديث آخر رواه الحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، تراها تعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة (1) تلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفا (2) فان ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق) . والزواج عبادة يستكمل الانسان بها نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء. فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) . رواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح الاسناد. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر) . رواه ابن ماجه وفيه ضعف.   (1) وطيئة: ذلول سريعة السير. (2) قطوفا: بطيئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 قال ابن مسعود: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها، ولي طول النكاح فيهن، لتزوجت مخافة الفتنة) . حكمة الزواج : وإنما رغب الاسلام في الزواج على هذا النحو، وحبب فيه لما يترتب عليه من آثار نافعة على الفرد نفسه، وعلى الامة جميعا، وعلى النوع الانساني عامة: 1 - فإن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها، وهي تلح على صاحبها دائما في إيجاد مجال لها، فما لم يكن ثمة ما يشبعها، انتاب الانسان الكثير من القلق والاضطراب، ونزعت به إلى شر منزع. والزواج هو أحسن وضع طبيعي، وأنسب مجال حيوي لارواء الغريزة وإشباعها. فيهدأ البدن من الاضطراب، وتسكن النفس من الصراع، ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام، وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله. وهذا هو ما أشارت إليه الاية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، أن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي. 2 - والزواج هو أحسن وسيلة لانجاب الاولاد وتكثير النسل، واستمرار الحياة مع المحافظة على الانساب التي يوليها الاسلام عناية فائقة، وقد تقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الانبياء يوم القيامة) . وفي كثرة النسل من المصالح العامة والمنافع الخاصة، ما جعل الامم تحرص أشد الحرص على تكثير سواد أفرادها بإعطاء المكافات التشجيعية لمن كثر نسله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وزاد عدد أبنائه، وقديما قيل: إنما العزة للكاثر. ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقضها. دخل الاحنف بن قيس على معاوية - ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا به - فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منا لمن بعدنا فكن لهم أرضا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وان استعتبوك (1) فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك (2) فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك. فقال: لله درك يا أبا بحر، هم كما وصفت (3) . 3 - ثم أن غريزة الابوة والامومة تنمو وتتكامل في ظلال الطفولة، وتنمو مشاعر العطف والود والحنان، وهي فضائل لا تكمل إنسانية إنسان بدونها. 4 - الشعور بتبعة الزواج، ورعاية الاولاد يبعث على النشاط وبذل الوسع في تقوية ملكات الفرد ومواهبه. فينطلق إلى العمل من أجل النهوض بأعبائه، والقيام بواجبه. فيكثر الاستغلال وأسباب الاستثمار مما يزيد في تنمية الثروة وكثرة الانتاج، ويدفع إلى استخراج خيرات الله من الكون وما أودع فيه من أشياء ومنافع للناس. 5 - توزيع الاعمال توزيعا ينتظم به شأن البيت من جهة، كما ينتظم به العمل خارجه من جهة أخ رى، مع تحديد مسؤولية كل من الرجل والمرأة فيما يناط به من أعمال. فالمرأة تقوم على رعاية البيت وتدبير المنزل، وتربية الاولاد، وتهيئة الجو الصالح للرجل ليستريح فيه ويجد ما يذهب بعنائه، ويجدد نشاطه، بينما يسعى الرجل وينهض بالكسب، وما يحتاج إليه البيت من مال ونفقات. وبهذا التوزيع العادل يؤدي كل منهما وظائفه الطبيعية على الوجه الذي   (1) استعتبوك: طلبوا منك الرضى. (2) رفدك: عطاءك. (3) الامالي لابي علي القالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 يرضاه الله ويحمده الناس، ويثمر الثمار المباركة. 6 - على أن ما يثمره الزواج من ترابط الاسر، وتقوية أواصر المحبة بين العائلات، وتوكيد الصلات الاجتماعية مما يباركه الاسلام ويعضده ويسانده. فإن المجتمع المترابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد. 7 - جاء في تقرير هيئة الامم المتحدة الذي نشرته صحيفة الشعب الصادرة يوم السبت 6 / 6 / 1959 م أن المتزوجين يعيشون مدة أطول مما يعيشها غير المتزوجين سواء كان غير المتزوجين أرامل أم مطلقين أم عزابا من الجنسين. وقال التقرير: إن الناس بدءوا يتزوجون في سن أصغر في جميع أنحاء العالم، وان عمر المتزوجين أكثر طولا. وقد بنت الامم المتحدة تقريرها على أساس أبحاث وإحصائيات تمت في جميع أنحاء العالم خلال عام 1958 بأكمله، وبناء على هذه الاحصاءات قال التقرير: انه من المؤكد أن معدل الوفاة بين المتزوجين - من الجنسين - أقل من معدل الوفاة بين غير المتزوجين، وذلك في مختلف الاعمار. واستطرد التقرير قائلا: وبناء على ذلك فإنه يمكن القول بأن الزواج شئ مفيد صحيا للرجل والمرأة على السواء. حتى ان أخطار الحمل والولادة قد تضاءلت فأصبحت لا تشكل خطرا على حياة الامم. وقال التقرير: إن متوسط سن الزواج في العالم كله اليوم هو 24 للمرأة و 27 للرجل. وهو سن أقل من متوسط سن الزواج منذ سنوات. حكم الزواج (1) : الزواج الواجب: يجب الزواج على من قدر عليه وتاقت نفسه إليه وخشي العنت (2) . لان صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب، ولا يتم ذلك إلا بالزواج.   (1) حكمه: وصفه الشرعي من الوجوب أو الحرمة..الخ. (2) العنت: الزنا. ويطبق على الاثم والفجور والامر الشاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يرتفع عن ذلك إلا بالتزوج، لا يختلف في وجوب التزويج عليه. فإن قلت نفسه إليه وعجز عن الانفاق على الزوجة فانه يسعه قول الله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) . وليكثر من الصيام، لما رواه الجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر (1) الشباب، من استطاع منكم الباءة (2) فليتزوج، فإنه (3) أغض للبصر. وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) (4) . من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه. فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء. الزواج المستحب: أما من كان تائقا له وقادرا عليه ولكنه يأمن على نفسه من اقتراف ما حرم الله عليه الزواج يستحب له، ويكون أولى من التخلي للعبادة، فإن الرهبانية ليست من الاسلام في شئ. روى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة) (5) . وروى البيهقي من حديث أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الامم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى) (6) . وقال عمر لابي الزوائد: إنما يمنعك من التزوج عجز أو فجور.   (1) المعشر: الطائفة يشملهم وصف، فالانبياء معشر، والشيوخ معشر، والشباب معشر، والنساء معشر ... وهكذا. (2) الباءة: الجماع. (3) اغض واحصن: أشد غضا للبصر، واشد إحصانا للفرج ومنعا من الوقوع في الفاحشة. (4) الوجاء: رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء. (5) إذ انها مخالفة لطبيعة الانسان، وما كان الله ليشرع إلاما يتفق وطبيعته. (6) في مسنده محمد بن ثابت وهو ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وقال ابن عباس: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. الزواج الحرام: ويحرم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والانفاق، مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه. قال الطبري: فمتى علم الزواج أنه يعجز عن نفقة زوجته، أو صداقها أو شئ من حقوقها الواجبة عليه، فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها. وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع، كان عليه أن يبين كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع، من جنون، أو جذام، أو برص، أو داء في الفرج، لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها في ذلك. كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب. ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد. فإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها (1) برصا فردها وقال: (دلستم علي) . واختلف الرواية عن مالك في امرأة العنين (2) إذا أسلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة فقال مرة: لها جميع الصداق. وقال مرة: لها نصف الصداق. وهذا ينبني على اختلاف قوله. بم تستحق الصداق؟ بالتسليم أو بالدخول؟ قولان (3) .   (1) أي خاصرتها. (2) أي العاجز عن اتيان النساء. (3) سيأتي ذلك مفصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الزواج المكروه: ويكره في حق من يخل بالزوجة في الوطء والانفاق، حيث لا يقع ضرر بالمرأة، بأن كانت غنية وليس لها رغبة قوية في الوطء. فان انقطع بذلك عن شئ من الطاعات أو الاشتغال بالعلم اشتدت الكراهة. الزواج المباح: ويباح فيما إذا انتفت الدواعي والموانع. النهي عن التبتل (1) للقادر على الزواج: 1 - عن ابن عباس: أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ فقال: (ليس لنا من خصى أو اختصى) . رواه الطبراني. 2 - وقال سعد بن أبي وقاص: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. رواه البخاري. أي لو أذن له بالتبتل لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الامر إلى الاختصاء. قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب وكل ما يتلذذ به فلهذا أنزل في حقه: (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين) . تقديم الزواج على الحج : وان احتاج الانسان إلى الزواج وخشي العنت بتركه، قدمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدم الحج عليه. وكذلك فروض الكفاية - كالعلم والجهاد - تقدم على الزواج إن لم يخش العنت.   (1) التبتل: الانقطاع عن الزواج وما يتبعه من الملاذ الى العبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الاعراض عن الزوجة وسببه تبين مما تقدم أن الزواج ضرورة لا غنى عنها، وأنه لا يمنع منه إلا العجز أو الفجور كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأن الرهبانية ليست من الاسلام في شئ، وأن الاعراص عن الزواج يفوت على الانسان كثيرا من المنافع والمزايا. وكان هذا كافيا في دفع الجماعة المسلمة إلى العمل على تهيئة أسباب وتيسير وسائله حتى ينعم به الرجال والنساء على السواء. ولكن على العكس من ذلك. خرج كثير من الاسر عن سماحة الاسلام وسمو تعاليمه، فعقدوا الزواج ووضعوا العقبات في طريقه، وخلقوا بذلك التعقيد أزمة تعرض بسببها الرجال والنساء لالام العزوبة وتباريحها، والاستجابة إلى العلاقات الطائشة والصلات الخليعة. وظاهرة أزمة الزواج لا تبدو في مجتمع القرية كما تبدو في مجتمع المدينة. إذ أن القرية لا تزال الحياة فيها بعيدة عن الاسراف وأسباب التعقيد، - إذا استثنينا بعض الاسر الغنية - بينما تبدو الحياة في المدينة معقدة كل التعقيد. ومعظم أسباب هذه الازمة ترجع إلى التغالي في المهور (1) وكثرة النفقات التي ترهق الزوج ويعيابها. هـ ذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان تبذل المرأة وخروجها بهذه الصورة المثيرة، ألقى الريبة والشك في مسلكها، وجعل الرجل حذرا في اختيار شريكة حياته. بل ان بعض الناس أضرب عن الزواج، إذ لم يجد المرأة التي تصلح - في نظره - للقيام بأعباء الحياة الزوجية. ولابد من العودة إلى تعاليم الاسلام فيما يتصل بتربية المراة وتنشئتها على الفضيلة والعفاف والاحتشام وترك التغالي في المهر وتكاليف الزوج.   (1) راجع فصل التغالي في المهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 اختيار الزوج ة : الزوجة سكن للزوج، وحرث له، وهي شريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده، وموضع سره ونجواه. وهي أهم ركن من أركان الاسرة، إذ هي المنجبة للاولاد، وعنها يرثون كثيرا من المزايا والصفات، وفي أحضانها تتكون عواطف الطفل، وتتربى ملكاته ويتلقى لغته، ويكتسب كثيرا من تقاليده وعاداته، ويتعرف دينه، ويتعود السلوك الاجتماعي. من أج ل هذا عني الاسلام باختيار الزوجة الصالحة، وجعلها خير متاع ينبغي التطلع إليه والحرص عليه. وليس الصلاح إلا المحافظة على الدين، والتمسك بالفضائل، ورعاية حق الزوج، وحماية الابناء، فهذا هو الذي ينبغي مراعاته. وأما ما عدا ذلك من مظاهر الدنيا، فهو ما حظره الاسلام ونهى عنه إذا كان مجردا من معاني الخير والفضل والصلاح. وكثيرا ما يتطلع الناس إلى المال الكثير، أو الجمال الفاتن، أو الجاه العريض، أو النسب، أو إلى ما بعد من شرف الاباء، غير ملاحظين كمال النفوس وحسن التربية. فتكون ثمرة الزواج مرة، وتنتهي بنتائج ضارة. لهذا يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التزوج على هذا النحو، فيقول 0 إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) (1) . ويقول: (لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لاموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين ولامة خرماء (2) ذات دين أفضل) (3)   (1) رواه الدارقطني وقال: تفرد به الواقدي وهو ضعيف والدمن ما بقي من آثار الديار ويستعمل سمادا. (2) الخرماء: المشقوقة الانف والاذن. (3) هذا الحديث رواه عبد بن حميد. وفيه عبد الرحمن بن زياد الافريقي، وهو ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ويخبر أن الذي يريد الزواج مبتغيا به غير ما يقصد منه من تكوين الاسرة ورعاية شؤونها، فانه يعامل بنقيض مقصوده، فيقول: (من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره، ويحصن فرجه، أو يصل رحمه، بارك الله له فيها وبارك لها فيه) . رواه ابن حبان في الضعفاء. والقصد من هذا الخطر ألا يكون القصد الاول من لازواج هو هذا الاتجاه نحو هذه الغايات الدنيا، فإنها لا ترفع من شأن صاحبها ولا تسمو به، بل الواجب أن يكون الدين متوفرا أولا، فان الدين هداية العقل والضمير. ثم تأتي بعد ذلك الصفات التي يرغب فيها الانسان بطبعه، وتميل إليها نفسه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لاربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) (1) . رواه البخاري ومسلم. ويضع تحديدا للمرأة الصالحة، وأنها الجميلة المطيعة البارة الامينة، فيقول: (خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) . رواه النسائي وغيره بسند صحيح. ومن المزايا التي ينبغي توفرها في المرأة المخطوبة أن تكون من بيئة كريمة معروفة باعتدال المزاج، وهدوء الاعصاب، والبعد عن الانحرافات النفسية، فانها أجدر أن تكون حانية على ولدها، راعية لحق زوجها. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أم هانئ) فاعتذرت إليه بأنها صاحبة أولاد، فقال، (خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه (2) على ولد في صغره. وأرعاه (3) على زوج في ذات يده) (4) .   (1) تربت يداك: التصقت بالتراب، وهو دعاء بالفقر على من لم يكن الدين من أهدافه. (2) أحناء: أكثره شفقة، والحانية على ولدها: هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم، فإذا تزوجت فليست بحانية. (3) أرعاه: أحفظه واصون لما له بالامانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الانفاق. (4) ذات اليد: المال. يقال فلان قليل ذات اليد: أي قليل المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وطبيعة الاصل الكريم أن يتفرع عنه مثله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الناس معدن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا) . وهل ينتج الحطي إلا وشيجة - ويغرس إلا في منابته النخل خطب رجل امرأة لا يدانيها في شرفها فأنشدت: بكى الحسب الزاكي بعين غزيرة - من الحسب المنقوص أن يجمعا معا ومن مقاصد الزواج الاولى إنجاب الاولاد، فينبغي أن تكون الزوجة منجبة، ويعرف ذلك بسلامة بدنها، وبقياسها على مثيلاتها من أخواتها وعماتها وخالاتها. خطب رجل امرأة عقيما لا تلد، فقال: يا رسول الله، إني خطبت امرأة ذات حسب، وجمال وانها لا تلد، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة) . والودود هي المرأة التي تتودد إلى زوجها وتتحبب إليه، وتبذل طاقاتها في مرضاته. والانسان بطبيعته يعشق الجمال ويهواه، ويشعر دائما في قراره نفسه بأنه فاقد لشئ من ذاته إذا كان الشئ الجميل بعيدا عنه. فإذا أحرزه واستولى عليه شعر بسكن نفسي، وارتواء عاطفي وسعادة، ولهذا لم يسقط الاسلام الجمال من حسابه عند اختيار الزوجة، ففي الحديث الصحيح: (إن الله جميل يحب الجمال) . وخطب المغيرة بن شعبة امرأة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (إذهب فانظروا إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما) . أي تدوم بينكما المودة والعشرد. ونصح الرسول رجلا خطب امرأة من الانصار وقال له: (انظر إليها فان في أعين الانصار شيئا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وكان جابر بن عبد الله يختبئ لمن يريد التزوج بها، ليتمكن من رؤيتها، والنظر إلى ما يدعوه إلى الاقتران بها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض النسوة ليتعرفن بعض ما يخفى من العيوب، فيقول لها: (شمي فمها، شمي إبطيها، انظري إلى عرقوبيها) . ويستحسن أن تكون الزوجة بكرا، فإن البكر ساذجة لم يسبق لها عهد بالرجال، فيكون التزويج بها أدعى إلى تقوية عقدة النكاح، ويكون حبها لزوجها ألصق بقلبها (فما الحب إلا للحبيب الاول) . ولما تزوج جابر بن عبد الله ثيبا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟) ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباه قد ترك بنات صغارا، وهن في حاجة إلى رعاية امرأة تقوم على شؤونهن، وأن الثيب أقدر على هذه الرعاية من البكر التي لم تدرب على تدبير المنزل. ومما ينبغي ملاحظته أن يكون ثمة تقارب بين الزوج والزوجة من حيث السن والمركز الاجتماعي، والمستوى الثقافي والاقتصادي، فإن التقارب في هذه النواحي مما يعين على دوام العشرة، وبقاء الالفة. وقد خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها صغيرة) . فلما خطبها علي زوجها إياه. هذه بعض المعاني التي أرشد الاسلام إليها، ليتخذها مريدو الزواج نبراسا يستضيئون به، ويسيرون على هداه. لو أننا لاحظنا هذه المعاني عند اختيارنا للزوجة لامكن أن نجعل من بيوتنا جنة ينعم فيها الصغير، ويسعد بها الزوج، وتعد للحياة أبناء صالحين، تحيا بهم أممهم حياة طيبة كريمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 اختيار الزوج : وعلى الولي أن يختار لكريمته، فلا يزوجها إلا لمن له دين وخلق وشرف وحسن سمت، فان عاشرها عاشرها بمعروف، وإن سرحها سرحها بإحسان. قال الامام الغزالي في الاحياء: والاحتياط في حقها أهم، لانها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال. ومهما زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو مبتدعا أو شارب خمر، فقد جنى على دينه وتعرض لسخط الله لما قطع من الرحم وسوء الاختيار. قال رجل للحسن بن علي: إن لي بنتا، فمن ترى أن أزوجها له؟ قال: زوجها لمن يتقي الله، فان أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. وقالت عائشة: النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته. وقال صلى الله عليه وسلم: 0 من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها) . رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أنس، ورواه في الثقات من قول الشعبي باسناد صحيح. قال ابن تيمية: ومن كان مصرا على الفسوق لا ينبغي أن يزوج. الخطبة : الخطبة: فعلة كقعدة وجلسة، يقال: خطب المرأة يخطبها خطبا وخطبة، أي طلبها للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، ورجل خطاب: كثير التصرف في الخطبة، والخطيب، والخاطب، والخطب، الذي يخطب المرأة، وهي خطبه وخطبته. وخطب يخطب، قال كلاما يعظ به، أو يمدح غيره ونحو ذلك. والخطبة من مقدمات الزواج. وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية ليعرف كل من الزوجين صاحبه، ويكون الاقدام على الزواج على هدى وبصيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 من تباح خطبتها: لا تباح خطبة امرأة إلا إذا توافر فيها شرطان: (الاول) أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال. (الثاني) ألا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية. فإن كانت ثمة موانع شرعية، كأن تكون محرمة عليه بسبب من أسباب التحريم المؤبدة أو المؤقتة، أو كان غيره سبقه بخطبتها، فلا يباح له خطبتها. خطبة معتدة الغير: تحرم خطبة المعتدة. سواء أكانت عدتها عدة وفاة أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق طلاقا رجعيا أم بائنا. فإن كانت معتدة من طلاق رجعي حرمت خطبتها، لانها لم تخرج عن عصمة زوجها. وله مراجعتها في أي وقت شاء. وإن كانت معتدة من طلاق بائن حرمت خطبتها بطريق التصريح، إذ حق الزوج لا يزال متعلقا بها، وله حق إعادتها بعقد جديد. ففي تقدم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه. واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه. وإن كانت معتدة من وفاة فانه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح، لان صلة الزوجيد قد انقطعت بالوفاة، فلم يبق للزوج حتى يتعلق بزوجته التي مات عنها. وإنما حرمت خطبتها بطريق التصريح، رعاية لحزن الزوجة وإحدادها من جانب، ومحافظة على شعور أهل الميت وورثته من جانب آخر. يقول الله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرا، إلا أن تقولوا قولا معروفا، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه. والمراد بالنساء، المعتدات لوفاة أزواجهن، لان الكلام في هذا السياق. ومعنى التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به علي شئ لم يذكره. مثل أن يقول: (إني أريد التزوج) و (لوددت أن ييسر الله لي امرأة صالحة) ، أو يقول: (إن الله لسائق لك خيرا) . والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض. وجائز أن يمدح نفسه، ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين. قالت سكينة بنت حنظلة: استأذن علي بن محمد علي ولم تنقض عدتي من مهلك (1) زوجي ز فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب. قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي. وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة (2) من أبي سلمة، فقال: (لقد علمت أني رسول الله وخيرته، وموضعي في قومي) . وكانت تلك خطبة. رواه الدارقطني (3) . وخلاصة الاراء أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للبائن وللمعتدة من الوفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي. وإذا صرح بالخطبة في العدة ولكن لم يعقد عليها إلا بعد انقضاء عدتها فقد اختلف العلماء في ذلك. قال مالك: يفارقها، دخل بها أم لم يدخل.   (1) مهلك: أي هلاك. (2) متأيمة: أي انها أيم. (3) الحديث المنقطع، لان محمد بن علي الباقر لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وقال الشافعي: صح العقد وان ارتكب النهي الصريح المذكور لاختلاف لجهة. واتفقوا على أنه يفرق بينهما لو وقع العقد في العدة ودخل بها. وهل تحل له بعد أم لا؟ قال مالك، والليث، والاوزاعي: لا يحل له زواجها بعد. وقال جمهور العلماء: بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء. الخطبة على الخطبة: يحرم على الرجل أن يخطب على خطبة أخيه، لما في ذلك من اعتداء على حق الخاطب الاول وإساءة إليه، وقد ينجم عن هذا التصرف الشقاق بين الاسر، والاعتداء الذي يروع الامنين. فعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه (1) حتى يذر (2)) . رواه أحمد ومسلم. ومحل التحريم ما إذا صرحت المخطوبة بالاجابة، وصرح وليها الذي أذنت له، حيث يكون إذنه معتبرا. وتجوز الخطبة وقع التصريح بالرد، أو وقعت الاجابة بالتعريض، كقولها: لا رغبة عنك. أو لم يعلم الثاني بخطبة الاول، أو لم تقبل وترفض، أو أذن الخاطب الاول للثاني. وحكى الترمذي عن الشافعي في معنى الحديث: إذا خطب المرأة فرضيت به وركنت إليه؟ فليس لاحد أن يخطب على خطبته. فإذا لم يعلم برضاها ولا ركونها، فلا بأس أن يخطبها.   (1) مفهوم لفظ الاخ معطل: لانه خرج مخرج الغالب، فتحرم الخطبة على خطبة الكافر والفاسق. وأخذ بالمفهوم بعض الشافعية والاوزاعي، وجوزوا الخطبة على خطبة الكافر، قال الشوكاني: وهو الظاهر. (2) يذر: يترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وإذا خطبها الثاني بعد إجابة الاول وعقد عليها أثم والعقد صحيح لان النهي عن الخطبة، وليست شرطا في صحة الزواج، فلا يفسخ بوقوعها غير صحيحة. وقال داود: إذا تزوجها الخاطب الثاني فسخ العقد قبل الدخول وبعده. النظر إلى المخطوبة : مما يرطب الحياة الزوجية ويجعلها محفوفة بالسعادة محوطة بالهناء، أن ينظر الرجل إلى المرأة قبل الخطبة ليعرف جمالها الذي يدعوه إلى الاقدام على الاقتران بها، أؤ قبحها الذي يصرف عنها إلى غيرها. والحازم لا يدخل مدخلا حتى يعرف خيره من شره قبل الخول فيه، قال الاعمش: كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم. وهذا النظر ندب إليه الشرع، ورغب فيه: 1 - فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة، فان استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل) . قال جابر: فخطبت امرأة من بني سلمة، فكنت أختبئ لها (1) حتى رأيت منها بعض ما دعاني إليها. رواه أبو داود. 2 - وعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب امرأة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها؟) قال: لا، قال: (أنظر إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما) ، أي أجدر أن يدوم الوفاق بينكما. رواه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه. 3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا خطب امرأة من الانصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها) ؟ قال: لا، قال: (فاذهب فانظر إليها، فان في أعين الانصار شيئا) (2) .   (1) فيه دليل على أنه ينظر إليها على غفلتها وان لم تأذن له. (2) قيل صغر أو عمش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 المواضع التي ينظر إليها: ذهب الجمهور من العلماء إلى أن الرجل ينظر إلى الوجه والكفين لا غير، لانه يستدل بالنظر إلى الوجه على الجمال أو الدمامة، وإلى الكفين على خصوبة البدن أو عدمها. وقال داود: ينظر إلى جميع البدن. وقال الاوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. والاحاديث لم تعين مواضع النظر، بل أطلقت لينظر إلى ما يحصل له المقصود بالنظر إليه (1) . والدليل على ذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور: أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقال: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل إليها، فكشف عن ساقها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك. وإذا نظر إليها ولم تعجبه فليسكت ولا يقل شيئا، حتى لا تتأذى بما يذكر عنها، ولعل الذي لا يعجبه منها قد يعجب غيره. نظر المرأة إلى الرجل: وليس هذا الحكم مقصورا على الرجل، بل هو ثابت للمرأة أيضا. فلها أن تنظر إلى خاطبها فانه يعجبها منه مثل ما يعجبه منها. قال عمر: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فانه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن. التعرف على الصفات: هذا بالنسبة للنظر الذي عرف به الجمال من القبح، وأما بقية الصفات الخلقية فتعرف بالوصف والاستيصاف، والتحري ممن خالطوهما بالمعاشرة أو الجوار، أو بواسطة بعض أفراد ممن هم موضع ثقته من الاقرباء كالام، والاخت.   (1) فتح الام ج 2 ص 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم إلى امرأة فقال: (انظري إلى عرقوبها وشمي معاطفها) (1) وفي رواية (شمي عوارضها) (2) رواه أحمد والحاكم والطبراني والبيهقي. قال الغزالي في الاحياء: ولا يستوصف في أخلاقها وجمالها إلا من هو بصير صادق، خبير بالظاهر والباطن. ولا يميل إليها فيفرط في الثناء، ولا يحسدها فيقصر، فالطباع مائلة في مبادئ الزواج، ووصف المزوجات إلى الافراط أو التفريط. وقل من يصدق فيه ويقتصد، بل الخداع والاغراء أغلب. والاحتياط فيه مهم لمن يخشى على نفسه التشوف إلى غير زوجته. حظر الخلوة بالمخطوبة: يحرم الخلو بالمخطوبة، لانها محرمة على الخاطب حتى يعقد عليها. ولم يرد الشرع بغير النظر، فبقيت على التحريم، ولانه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة ما نهى الله عنه. فإذا وجد محرم جازت الخلوة، لامتناع وقوع المعصية مع حضوره. فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فان ثالثهما الشيطان) . وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له، فان ثالثهما الشيطان إلا محرم) . رواهما أحمد. خطر التهاون في الخلوة وضرره: درج كثير من الناس على التهاون في هذا الشأن، فأباح لابنته أو قريبته.   (1) معاطفها ناحيتا العنق. (2) العوارض: الاسنان في عرض الفم، وهي ما بين الاسنان والاضراس وواحدها عارض. والمراد اختبار رائحة الفم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 أن تخالط خطيبها وتخلو معه دون رقابة، وتذهب معه حيث يريد من غير إشراف. وقد نتج عن ذلك أن تعرضت المرأة لضياع شرفها وفساد فعافها وإهدار كرامتها. وقد لا يتم الزواج فتكون قد أضافت إلى ذلك فوات الزواج منها. وعلى النقيض من ذلك طائفة جامدة لا تسمح للخاطب أن يرى بناتها عند الخطبة، وتأبى إلا أن يرضى بها، ويعقد عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة الزفاف. وقد تكون الرؤية مفاجئة لهما غير متوقعة، فيحدث ما لم يكن مقدرا من الشقاق والفراق. وبعض الناس يكتفي بعرض الصورة الشمسية، وهي في الواقع لا تدل على شئ يمكن أن يطمئن، ولا تصور الحقيقة تصويرا دقيقا. وخير الامور هو ما جاء به الاسلام، فإن فيه الرعايد لحق كلا الزوجين في رؤية كل منهما الاخر، مع تجنب الخلوة، حماية للشرف، وصيانة للعرض. العدول عن الخطبة وأثره : الخطبة مقدمة تسبق عقد الزواج ، وكثيرا ما يعقبها تقديم المهر كله أو بعضه، وتقديم هدايا وهبات (1) ، تقوية للصلات، وتأكيدا للعلاقة الجديدة. وقد يحدث أن يعدل الخاطب، أو المخطوبة، أو هما معا عن إتمام العقد، فهل يجوز ذلك؟ وهل يرد ما أعطي للمخطوبة؟ إن الخطبة مجرد وعد بالزواج، وليست عقدا ملزما، والعدول عن إنجازه حق من الحقوق التي يملكها كل من المتواعدين. ولم يجعل الشارع لا خلاف الوعد عقوبة مادية يجازي بمقتضاها المخلف،   (1) الشبكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وإن عد ذلك خلقا ذميما، ووصفه بأنه من صفات المنافقين، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملزمة تقتضي عدم الوفاء. ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) . ولما حضرت الوفاة (عبد الله بن عمر) قال: انظروا فلانا (لرجل من قريش) ، فإني قلت له في ابنتي قولا كشبه العدة، وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق، وأشهدكم أني قد زوجته (1) . وما قدمه الخاطب من المهر فله الحق في استرداده، لا لانه دفع في مقابل الزواج، وعوضا عنه. وما دام الزواج لم يوجد، فإن المهر لا يستحق شئ منه، ويجب رده إلى صاحبه، إذ أنه حق خالص له. وأما الهدايا فحكمها حكم الهبة، والصحيح أن الهبة لا يجوز الرجوع فيها إذا كانت تبرعا محضا لا لاجل العوض. لان الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في ملكه، وجاز له التصرف فيها، فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه. وهذا باطل شرعا وعقلا (2) . فإذا وهب ليتعوض من هبته ويثاب عليها فلم يفعل الموهوب له، جاز له الرجوع في هبته، وللواهب هنا حق الرجوع فيما وهب، لان هبته على جهة المعاوضة، فلما لم يتم الزواج كان له حق الرجوع فيما وهب، والاصل في ذلك: 1 - ما رواه أصحاب السنن، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) . 2 - ورووا عنه أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) .   (1) تذكرة الحفاظ. (2) اعلام الموقعين جزء 2 ص 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 3 - وعن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها) أي يعوض عنها. وطريقة الجمع بين هذه الاحاديث هي ما ذكره (اعلام الموقعين) قال: ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع هو من وهب تبرعا محضا لا لاجل العوض، والواهب الذي له الرجوع هو من وهب ليتعوض من هبته، ويثاب منها، فلم يفعل الموهوب له، وتستعمل سنن رسول الله كلها، ولا يضرب بعضها ببعض. رأي الفقهاء: إلا أن العمل الذي جرى عليه القضاء بالمحاكم: تطبيق المذهب الحنفي الذي يرى أن ما أهداه الخاطب لمخطوبته له الحق في استرداده إن كان قائما على حالته لم يتغير. فالاسورة، أو الخاتم، أو العقد، أو الساعة، ونحو ذلك يرد إلى الخاطب إذا كانت موجودة. فإن لم يكن قائما على حالته، بأن فقد أو بيع أو تغير بالزيادة، أو كان طعاما فأكل، أو قماشا فخيط ثوبا، فليس للخاطب الحق في استرداد ما أهداه أو استرداد بدل منه. وقد حكمت محكمة طنطا الابتدائية الشرعية حكما نهائيا بتاريخ 13 يوليو سنة 1933. وقررت فيه القواعد الاتية: 1 - ما يقدم من الخاطب لمخطوبته، مما لا يكون محلا لورود العقد عليه، يعتبر هدية. 2 - الهدية ك الهبة، حكما ومعنى. 3 - الهبة عقد تمليك يتم بالقبض. وللموهوب له أن يتصرف في العين الموهوبة بالبيع ولاشراء وغيره، ويكون تصرفه نافذا. 4 - هلاك العين أو استهلاكها مانع من الرجوع في الهبة. 5 - ليس للواهب إلا طلب رد العين إن كانت قائمة. وللمالكية في ذلك تفصيل بين أن يكون العدول من جهته أو جهتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فإن كان العدول من جهته فلا رجوع له فيما أهداه، وإن كان العدول من جهتها فله الرجوع بكل ما أهداه، سواء أكان باقيا على حاله، أو كان قد هلك، فيرجع ببدله إلا إذا كان عرف أو شرط، فيجب العمل به. وعند الشافعية ترد الهدية سواء أكانت قائمة أم هالكة، فإن كانت قائمة ردت هي ذاتها، وإلا ردت قيمتها. وهذا المذهب قريب مما ارتضيناه. عقد الزواج : الركن الحقيقي للزواج هو رضا الطرفين، وتوافق ارادتهما في الارتباط. ولما كان الرضا ونوافق الارادة من الامور النفسية التي لا يطلع عليها، كان لابد من التعبير الدال على التصميم على إنشاء الارتباط وايجاده. ويتمثل التعبير فيما يجري من عبارات بين المتعاقدين. فما صدر أولا من أحد المتعاقدين للتعبير عن ارادته في إنشاء الصلة الزوجية يسمى إيجابا، ويقال: أنه أوجب. وما صدر ثانيا من المتعاقد الاخر من العبارات الدالة على الرضا والموافقة يسمى قبولا. ومن ثم يقول الفقهاء: إن أركان الزواج (الايجاب، والقبول) . شروط الإيجاب والقبول (1) : ولا يحقق العقد وتترتب عليه الاثار الزوجية، إلا إذا توافرت فيه الشروط الاتية: 1 - تمييز المتعاقدين: فإن كان أحدهما مجنونا أو صغيرا لا يميز فان الزواج لا ينعقد. 2 - اتجاد مجلس الايجاب والقبول، بمعنى ألا يفصل بين الايجاب والقبول بكلام أجنبي، أو بما يعد في العرف إعراضا وتشاغلا عنه بغيره.   (1) وتسمى شروط الاعتقاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 ولا يشترط أن يكون القبول بعد الايجاب مباشرة. فلو طال المجلس وتراخى القبول عن الايجب، ولم يصدر بينهما ما يدل على الاعراض، فالمجلس متحد. وإلى هذا ذهب الاحناف والحنابلة. وفي المغني: إذا تراخى القبول عن الايجاب صح، ماداما في المجلس، ولم يتشاغلا عنه بغيره. لان حكم المجلس حكم حالة العقد، بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، وثبوت الخيار في عقود المعاوضات. فإن تفرقا قبل القبول بطل الايجاب، فانه لا يوجد معناه، فان الاعراض قد وجد من جهته بالتفرق، فلا يكون مقبولا. وكذلك أن تشاغلا عنه بما يقطعه: لان معرض عن العقد أيضا بالاشتغال عن قبوله. روي عن أحمد، في رجل مشى إليه قوم، فقالوا له: زوج فلانا. قال: قد زوجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت، هل يكون هذا نكاحا. قال: نعم. ويشترط الشافعية الفور. قالوا: فان فصل بين الايجاب والقبول بخطبة بأن قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت نكاحها، ففيه وجهان: (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني، أنه يصح، لان الخطبة مأمور بها للعقد، فلم تمنع صحته: كالتيمم بين صلاتي الجمع. (والثاني) لا يصح، لانه فصل بين الايجاب والقبول. فلم يصح. كما لو فصل بينهما بغير الخطبة. ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد. وأما مالك، فأجاز التراخي والسير بين الايجاب والقبول. وسبب الخلاف، هل من شرط الانعقاد وجود القبول من المتعاقدين في وقت واحد معا؟ أم ليس ذلك من شرطه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 3 - ألا يخالف القبول الايجاب إلا إذا كانت المخالفة إلى ما هو أحسن للموجب، فانها تكون أبلغ في الموافقة. فإذا قال الموجب: زوجتك ابنتي فلانة، على مهر قدره مائة جنيه، فقال القابل: قبلت زواجها على مائتين، انعقد الزواج، لاشتمال القبول على ما هو أصلح. 4 - سماع كل من المتعاقدين بعضهما من بعض ما يفهم أن المقصود من الكلام هو إنشاء عقد الزواج، وإن لم يفهم منه كل منهما معاني مفردات العبارة، لان العبرة بالمقاصد والنيات. ألفاظ الإنعقاد : (1) ينعقد الزواج بالالفاظ التي تؤدي إليه باللغة التي يفهمها كل من المتعاقدين، متى كان التعبير الصادر عنهما دالا على إرادة الزواج، دون لبس أو إبهام. قال شيخ الاسلام ابن تيمية: وينعقد النكاح بما عده الناس نكاحا بأي لغة ولفظ وفعل كان ومثله كل عقد (2) . وقد وافق الفقهاء على هذا بالنسبة للقبول، فلم يشترطوا اشتقاقه من مادة خاصة، بل يتحقق بأي لفظ يدل على الموافقة أو الرضا، مثل: قبلت، وافقت، أمضيت، نفذت. أما الايجاب فإن العلماء متفقون على أنه يصح بلفظ النكاح والتزويج، وما اشتق منهما مثل: زوجتك، أو أنكحتك: لدلالة هذين اللفظين صراحة على المقصود. واختلفوا في انعقاده بغير هذين اللفظين، كلفظ الهبة أو البيع أو التمليك أو الصدقة. فأجازه الاحناف (3) و (الثوري) و (أبو ثور) و (أبو داود) .   (1) الايجاب والقبول. (2) الاختيارات العلمية ص 119. (3) قاعدة الاحناف ان عقد الزواج ينعقد بكل لفظ موضوع لتمليك العين في الحال بصفة دائمة فلا ينعقد بلفظ الاحلال أو الاباحة. لانه ليس فيهما ما يدل على التمليك ولا بلفظ الاعارة والاجارة، لان الحاصل بكل منهما تمليك منفعة العين. ولا بلفظ الوصية لانها موضوعة لافادة المك بعد الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 لانه عقد يعتبر فيه النية، ولا يشترط في صحته اعتبار اللفظ المخصوص، بل المعتبر فيه أي لفظ اتفق إذا فهم المعنى الشرعي منه: أي إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة، لان النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة فقال: (قد ملكتكها بما معك من القرآن) . رواه البخاري. ولان لفظ الهبة انعقد به زواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك ينعقد به زواج أمته، قال الله تعالى: (يأيها النبي إنا أح للنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) إلى قوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) . ولانه أمكن تصحيحه بمجازه، فوجب تصحيحه، كايقاع الطلاق بالكنايات. وذهب الشافعي وأحمد وسعيد بن المسيب وعطاء إلى أنه لا يصح إلا بلفظ التزويج أو الانكاح وما اشتق منهما، لان ما سواهما من الالفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى الزواج، ولان الشهادة عندهم شرط في الزواج، فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع على الزواج. العقد بغير اللغة العربية : اتفق الفقهاء على جواز الزواج بغير اللغة العربية إذا كان العاقدان أو أحدهما لا يفهم العربية. واختلفوا فيما إذا كانا يفهمان العربية ويستطيعان العقد بها: قال ابن قدامة في المغني: ومن قدر على لفظ النكاح بالعربية لم يصح بغيرها، وهذا أحد قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة ينعقد، لانه أتى بلفظه الخاص فانعقد به، كما ينعقد بلفظ العربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ولنا: انه عدل عن لفظ الانكاح والتزويج مع القدرة فلم يصح كلفظ الاحلال. فأما من لا يحسن العربية فيصح منه عقد النكاح بلسانه، لانه عاجز عما سواه فسقط عنه: كالاخرس، ويحتاج أن يأتي بمعناهما الخاص بحيث يشتمل على معنى اللفظ العربي، وليس على من لا يحسن العربية تعلم ألفاظ النكاح بها. وقال أبو الخطاب: عليه أن يتعلم، لان ما كانت العربية شرطا فيه لزمه أن يتعلمها مع القدرة، كالتكبير. ووجه الاول أن النكاح غير واجب، فلم يجب تعلم أركانه بالعربية كالبيع بخلاف التكبير. فان كان أحد المتعاقدين يحسن العربية دون الاخر أتى الذي يحسن العربية بها، والاخر يأتي بلسانه. فان كان أحدهما لا يحسن لسان الاخر احتاج أن يعلم أن اللفظة التي أتى بها صحبه لفطة الانكاح ان يخبره بذلك ثقة يعرف اللسانين جميعا. والحق الذي يبدو لنا أن هذا تشدد، ودين الله يسر، وسبق أن قلنا: إن الركن الحقيقي هو الرضا. والايجاب والقبول ما هما إلا مظهران لهذا الرضا ودليلان عليه. فإذا وقع الايجاب والقبول كان ذلك كافيا، مهما كانت اللغة التي أديا بها. قال ابن تيمية: انه (أي النكاح) وان كان قربة، فانما هو كالعتق والصدقة، لا يتعين له لفظ عربي ولا عجمي. ثم ان الاعجمي إذا تعلم العربية في الحال ربما لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ، كما يفهم من اللغة التي اعتادها. نعم لو قيل: تكره العقود بغير العربية لغير حاجة، كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة، لكان متوجها. كما روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهية اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 زواج الاخرس: ويصح زواج الاخرس باشارته إن فهمت كما يصح بيعه، لان الاشارة معنى مفهم. وإن لم تفهم إشارته لا يصح منه، لان العقد بين شخصين، ولا بد من فهم كل واحد منهام ما يصدر من صاحبه (1) عقد الزواج للغائب : إذا كان أحد طرفي العقد غائبا وأراد أن يعقد الزواج فعليه أن يرسل رسولا أو يكتب كتابا إلى الطرف الاخر يطلب الزواج. وعلى الطرف الاخر - إذا كان له رغبة في القبول - أن يحضر الشهود ويسمعهم عبارة الكتاب أو رسالة الرسول، ويشهدهم في المجلس على أنه قبل الزواج. ويعتبر القبول مقيدا بالمجلس. شروط صيغة العقد : اشترط الفقهاء لصيغة الايجاب والقبول: أن تكون بلفظين وضعا للماضي، أو وضع أحدهما للماضي والاخر للمستقبل. فمثال الاول: أن يقول العاقد الاول: زوجتك ابنتي. ويقول القابل: قبلت. ومثال الثاني: أن يقول الخاطب أزوجك ابنتي، فيقول له: قبلت. وإنما اشترطوا ذلك، لان تحقق الرضا من الطرفين وتوافق ارادتهما هو الركن الحقيقي لعقد الزواج، والايجاب والقبول مظهر ان لهذا الرضا كما تقدم. ولابد فيهما من أن يدلا دلالة قطعية على حصول الرضا وتحققه فعلا وقت العقد. والصيغة التي استعملها الشارع لانشاء العقود هي صيغة الماضي، لان دلالتها على حصول الرضا من الطرفين قطعية. ولا تحتمل أي معنى آخر.   (1) جاء في لائحة ترتيب المحاكم الشرعة والاجراءات المتعلقة بها مادة 128 اقرار الاخرس يكون باشارته المعهودة. ولا يعتبر إقراره بالاشارة إذا كان يمكنه الاقرار بالكتابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 بخلاف الصيغ الدالة على الحال أو الاستقبال، فانها لا تدل قطعا على حصول الرضا وقت التكلم. فلو قال أحدهما: أزوجك ابنتي. وقال الاخر: أقبل، فإن الصيغة منهما لا ينعقد بها الزواج، لاحتمال أن يكون المراد من هذه الالفاظ مجرد الوعد. والوعد بالزواج مستقبلا ليس عقدا له في الحال، ولو قال الخاطب: زوجني ابنتك، فقال الاخر: زوجتها لك، انعقد الزواج، لان صيغة (زوجني) دالة على معنى التوكيل، والعقد يصح أن يتولاه واحد عن الطرفين. فإذا قال الخاطب: زوجني، وقال الطرف الاخر: قبلت، كان مؤى ذلك أن الاول وكل الثاني، والثاني أنشأ العقد عن الطرفين بعبارته. اشتراط التنجيز في العقد : كما اشترطوا أن تكون منجزة: أي أن الصيغة التي يعقد بها الزواج يجب أن تكون مطلقة غير مقيدة بأي قيد من القيود، مثل أن يقول الرجل للخاطب: زوجك ابنتي، فيقول الخاطب: قبلت. فهذا العقد منجز. ومتى استوفى شروطه وصح ترتبت عليه آثاره. ثم ان صيغة العقد قد تكون معلقة على شرط، أو مضافة إلى زمن مستقبل أو مقرونة بوقت معين، أو مقترنة بشرط، فهي في هذه الاحوال لا ينعقد بها العقد. واليك بيان كل على حدة. (10) الصيغة المعلقة على شرط: وهي أن يجعل تحقق مضمونها معلقا على تحقق شئ آخر بأداة من أدوات التعليق: مثل أن يقول الخاطب: ان التحقت بالوظيفة تزوجت ابنتك، فيقول الاب: قبلت، فإن الزواج بهذه الصيغة لا ينعقد، لان انشاء العقد معلق على شئ قد يكون، وقد لا يكون في المستقبل. وعقد الزواج يفيد ملك المتعة في الحال، ولا يتراخى حكمه عنه، بينما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الشرط - وهو الالتحاق بالوظيفة - معدوم حال التكلم، والمعلق على المعدوم معدوم. فلم يوجد زواج. أما إذا كان التعليق على أمر محقق في الحال فان الزواج ينعقد، مثل أن يقول: إن كانت ابنتك سنها عشرون سنة تزوجتها. فيقول الاب: قبلت. وسنها فعلا عشرون سنة. وكذلك إن قالت: إن رضي أبي تزوجتك، فقال الخاطب، قبلت، وقال أبوها في المجلس: رضيت. إذ أن التعليق في هذه الحال صوري، والصيغة في الواقع منجزة. (2) الصيغة المضافة إلى زمن مستقبل: مثل أن يقول الخاطب: تزوجت ابنتك غدا أو بعد شهر: فيقول الاب: قبلت، فهذه الصيغة لا ينعقد بها الزواج، لا في الحال، ولا عند حلول الزمن المضاف إليه، لان الاضافة إلى المستقبل تنافي عقد الزواج الذي يوجب تمليك الاستمتاع في الحال. (3) الصيغة المقترنة بتوقيت العقد بوقت معين: كأن يتزوج مدة شهر، أو أكثر، أو أقل فان الزواج لا يحل، لان المقصود من الزواج دوام المعاشرة للتوالد، والمحافظة على النسل، وتربية الاولاد. ولهذا حكم الفقهاء على زواج المتعة والتحليل بالبطلان، لانه يقصد بالاول مجرد الاستمتاع الوقتي، ويقصد بالثاني تحليل الزوجة الاول. وإليك تفصيل القول في كل منهما: زواج المتعة: ويسمى الزواج المؤقت، والزواج المنقطع، وهو أن يعقد الرجل على المرأة يوما أو اسبوعا أو شهرا وسمي بالمتعة. كأن لرجل ينتفع ويتبلغ بالزواج ويتمتع إلى الاجل الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقته. وهو زواج متفق على تحريمه بين أئمة المذاهب. وقالوا: انه إذا انعقد يقع باطلا (1) واستدلوا على هذا: (أولا) : إن هذا الزواج لا تتعلق به الاحكام الواردة في القرآن بصدد الزواج، والطلاق، والعدة، والميراث، فيكون باطلا كغيره من الانكحة الباطلة. (ثانيا) : أن الاحاديث جاءت مصرحة بتحريمه. فعن سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء. قال: فلم يخرج منها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ رواه ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة فقال: (يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وان الله قد حرمها إلى يوم القيامة) . وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الاهلية) (2) . (ثالثا) : أن عمر رضي الله عنه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة رضي الله عنهم وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئا. (رابعا) : قال الخطابي: تحريم المتعة كالاجماع إلا عن بعض الشيعة،   (1) ويرى زفر إذا نص على توقيته بمدة. فالنكاح صحيح ويسقط شرط التوقيت. هذا إذا حصل العقد بلفظ التزويج فان حصل بلفظ المتعة فهو موافق للجماعة على البطلان. (2) الصحيح ان المتعة انما حرمت عام الفتح لانه قد ثبت في صحيح مسلم انهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم باذنه ولو كان التحريم زمن، خيبر للزم النسخ مرتين. وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثله فيها. ولهذا اختلف أهل العلم في هذا الحديث فقال قوم فيه تقديم وتأخير وتقديره: ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر وعن متعة النساء ولم يذكر الوقت الذي نهى عنها فيه، وقد بينه حديث مسلم، وانه كان عام الفتح. اما الامام الشافعي فقد حمل الامر على ظاهره فقال: لا أعلم شيئا أحله الله ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى علي، فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه. (خامسا) : ولانه يقصد به قضاء الشهوة، ولا يقصد به التناسل، ولا المحافظة على الاولاد، وهي المقاصد الاصلية للزواج، فهو يشبه الزنا من حيث قصد الاستمتاع دون غيره. ثم هو يضر بالمرأة، إذ تصبح كالسلعة التي تنتقل من يد إلى يد، كما يضر بالاولاد، حيث لا يجدون البيت الذي يستقرون فيه، ويتعهدهم بالتربية والتأديب. وقد روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين أن زواج المتعة حلال، واشتهر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وفي تهذيب السنن: وأما ابن عباس فانه سلك هذا المسلك في إباحتها عند الحاجة والضرورة، ولم يبحها مطلقا، فلما بلغه إكثار الناس منها رجع. وكان يحمل التحريم على من لم يحتج إليها. قال الخطابي: ان سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: هل تدري ما صنعت، وبم أفتيت؟ قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيه الشعراء. قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال محبسه - يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟ هل لك في رخصة الاطراف آنسة - تكون مثواك حتى رجعة الناس؟ فقال ابن عباس: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ! والله ما بهذا أفتيت، ولا هذا أردت، ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم ولحم الخنزير، وما تحل إلا للمضطر، وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وذهبت الشيعة الامامية إلى جوازه، وأركانه عندهم: 1 - الصيغة: أي أنه ينعقد بلفظ (زوجتك) و (أنكحتك) و (متعتك) 2 - الزوجة: ويشترط كونها مسلمة أو كتابية، ويستحب اختيار المؤمنة العفيفة، ويكره بالزانية. 3 - المهر: وذكره شرط ويكفي فيه المشاهدة ويتقدر بالتراضي ولو بكف من بر. 4 - الاجل: وهو شرط في العقد. ويتقرر بتراضيهما، كاليوم والسنة والشهر، ولا بد من تعيينه. ومن أحكام هذا الزواج عندهم: 1 - الاخلال بذكر المهر مع ذكر الاجل يبطل العقد، وذكر المهر من دون ذكر الاجل يقلبه دائما ز 2 - ويلحق به الولد. 3 - لا يقع بالمتعة طلاق، ولا لعان. 4 - لا يثبت به ميراث بين الزوجين. 5 - أما الولد فإنه يرثهما ويرثانه. 6 - تنقضي عدتها إذا انقضى أجلها بحيضتين، إن كانت ممن تحيض، فإن كانت ممن تحيض ولم تحض فعدتها خمسة وأربعون يوما. تحقيق الشوكاني: قال الشوكاني: وعلى كل حلا فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد. ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به، ورووه لنا؟ حتى قال ابن عمر - فيما أخرجه عنه ابن ماجه باسناد صحيح -: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لنا في المتعة ثلاثا تم حرمها، والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وقال أبو هريرة فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث) . أخرجه الدارقطني، وحسنه الحافظ. ولا يمنع من كونه حسنا كون في إسناده مؤمل بن اسماعيل، لان الاختلاف فيه لا يخرج حديثه عن حد الحسن إذا انضم إليه من الشواهد ما يقويه كما هو شأن الحسن لغيره. وأما ما يقال من أن تحليل المتعة مجمع عليه، والمجمع عليه قطعي، وتحريمها مختلف فيه، والمختلف فيه ظني، والظني لا ينسخ القطعي، فيجاب عنه: أولا: بمنع هذه الدعوى (أعني كون القطعي لا ينسخه الظني) فما الدليل عليها؟ ومجرد كونها مذهب الجمهور غير مقنع لمن قام في مقام المنع يسائل خصمه عن دليل العقل والسمع باجماع المسلمين. وثانيا: بأن لانسخ بذلك الظني إنما هو لاستمرار الحل، والاستمرار ظني لا قطعي. وأما قراءة ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وسعيد بن جبير (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ، فليست بقرآن عند مشترطي التواتر، ولا سنة لاجل روايتها قرآنا، فيكون من قبيل التفسير للاية، وليس ذلك بحجة. وأما من لم يشترط التواتر فلا مانع من نسخ ظني القرآن بظني السنة كما تقرر في الاصول. انتهى. العقد على المرأة وفي نية الزوج طلاقها : اتفق الفقهاء على أن من تزوج امرأة دون أن يشترط التوقيت وفي نيته أن يطلقها بعد زمن، أو بعد انقضاء حاجته في البلد الذي هو مقيم به، فالزواج صحيح. وخالف الاوزاعي فاعتبره زواج متعة. قال الشيخ (رشيد رضا) تعلقا على هذا في تفسير المنار: هذا وان تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي مع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزواج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد. ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا. وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزواج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات. وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشا وخداعا تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو احصان كل من الزوجين للاخر، واخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الامة. زواج التحليل : وهو أن يتزوج المطلقة ثلاثا بعد انقضاء عدتها، أو يدخل بها ثم يطلقها ليحلها للزوج الاول. وهذا النوع من الزواج كبيرة من كبائر الاثم والفواحش، حرمه الله، ولعن فاعله. 1 - فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له) . رواه أحمد بسند حسن. 2 - وعن عبد الله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له) ..رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر وغيرهم. وهو قول الفقهاء من التابعين. 3 - وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بالتيس المستعار) ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (هو المحلل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 لعن الله المحلل والمحلل له) . رواه ابن ماجه، والحاكم، وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بالارسال. واستنكره البخاري، وفيه يحيى بن عثمان، وهو ضعيف. 4 - وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المحلل، فقال: (لا. إلا نكاح رغبة، لا دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله عزوجل، حتى تذوق عسيلته) . رواه أبو اسحاق الجوزجاني. 5 - وعن عمر رضي الله عنه قال، (لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا جمتهما) . فسئل ابنه عن ذلك فقال: كلاهما زان. رواه ابن المنذر، وابن رأبي شيبة، وعبد الرزاق. 6 - وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لاحلها لزوجها، ولم يأمرني ولم يعلم؟ فقال له ابن عمر: (لا، إلا نكاح رغبة، ان أعجبتك أمسكتها، وان كرهتها فارقتها، وإن كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وقال: لا يزالان زانيين وان مكثا عشرين سنة إذا علم أنه يريد أن يحلها. حكمه: هذه النصوص صريحة في بطلان هذا الزواج وعدم صحته (1) ، لان اللعن لا يكون إلا على أمر غير جائز في الشريعة، وهو لا يحل المرأة للزوج الاول. ولو لم يشترط التحليل عند العقد مادام قصد التحليل قائما، فان العبرة بالمقاصد والنوايا. قال ابن القيم: ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشترط ذلك بالقول، أو بالتواطؤ والقصد. فإن المقصود في العقود عندهم معتبرة، والاعمال بالنيات. والشرط المتوطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم. والالفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على المعاني: فإذا ظهرت المعاني   (1) ثبت فيه جميع أحكام العقود الفاسدة ولا يثبت به الاحصان والا الاباحة للزوج الاول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 والمقاصد، فلا عبرة بالالفاظ لانها وسائل، وقد تحققت غاياتها فترتب عليها أحكامها. وكيف يقال: إن هذا زواج تحل به الزوجة لزوجها الاول، مع قصد التوقيت، وليس له غرض في دوام العشرة ولا ما يقصد بالزواج من التناسل وتربية الاولاد وغير ذلك من المقاصد الحقيقية لتشريع الزواج. إن هذا الزواج الصوري كذب وخداع لم يشرعه الله في دين، ولم يبحه لاحد، وفيه من المفاسد والمضار ما لا يخفى على أحد. قال ابن تيمية: دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا مصاهرته، ولا يراد بقاؤه مع المرأة أصلا، فينزو عليها، وتحل بذلك فان هذا سفاح وزنا، كما سماه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يكون الحرام محللا؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا؟ أم كيف يكون النجس مطهرا؟! وغير خاف على من شرح الله صدره للاسلام، ونور قلبه بالايمان، أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل، فضلا عن شرائع الانبياء لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج. انتهى. هذا هو الحق، وإليه ذهب مالك وأحمد، والثوري، وأهل الظاهر، وغيرهم من الفقهاء، منهم الحسن، والنخعي، وقتادة، والليث وابن المبارك. وذهب آخرون إلى أنه جائز إذا لم يشترط في العقد. لان القضاء بالظواهر لا بالمقاصد والضمائر، والنيات في العقود غير معتبرة. قال الشافعي: المحلل الذي يفسد نكاحه هو من يتزوجها ليخلها ثم يطلقها، فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح. وقال ابن حنيفية وزفر: ان اشترط ذلك عند انشاء العقد، بأن صرح أنه يحلها للاول تحل للاول ويكره، لان عقد الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة فتحل للزواج الاول بعد طلاقها من الزوج الثاني أو موته عنها وانقضاء عدتها. وعند أبي يوسف هو عقد فاسد، لانه زواج مؤقت، ويرى محمد بصحة العقد الثاني، ولكنه لا يحلها للزوج الاول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الزواج الذي تحل به المطلقة للزوج الأول : إذا طلق الرجل زوجته ثلاث تطليقات فلا تحل له مراجعتها حتى تتزوج بعد انقضاء عدتها زوجا آخر زواجا صحيحا لا بقصد التحليل. فإذا تزوجها الثاني زواج رغبة، ودخل بها دخولا حقيقيا حتى ذاق كل منهما عسيلة الاخر، ثم فارقها بطلان أو موت، حل للاول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها. روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني: فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن زبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أتريدين أن ترجعي إلى (1) رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) . وذوق العسيلة كناية عن الجماع. ويكفي في ذلك التقاء الخنانين الذي يوجب الحد والغسل. ونزل في ذلك قول الله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظلنا أن يقيما حدود الله) . وعلى هذا فان المرأة لا تحل للاول إلا بهذه الشروط: 1 - أن يكون زواجها بالزوج الثاني صحيحا (2) . 2 - أن يكون زواج رغبة. 3 - أن يدخل بها دخولا حقيقيا بعد العقد، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته.   (1) استدل العلماء بهذا على أن نية المرأة التحليل ليست بشئ. فلو قصدت التحليل أو قصد وليها ولم يقصد الزوج لم يؤثر ذلك في العقد. وكذلك الزوج الاول فانه لا يملك شيئا من العقد ولا من رفعه، فهو أجنبي، وإنما لمن إذا رجع الى المرأة بذلك التحليل، لانها لم تحل له، فكان زانيا. (2) الزواج الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 حكمة ذلك: قال المفسرون والعلماء في حكمة ذلك: انه إذا علم الرجل ان المرأة لا تحل له بعد أن يطلقها ثلاث مرات إلا إذا نكحت زوجا غيره فانه يرتدع، لانه مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، ولا سيما إذا كان الزوج الاخر عدوا أو مناظرا للاول. وزاد على ذلك صاحب المنار فقال في تفسيره (1) : إن الذي يطلق زوجته، ثم يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادما على طلاقها، ثم يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلقها، ثم يبدو له ويترجح عنده عدم الاستغناء عنها، فيرتجعها ثانية، فانه يتم له بذلك اختبارها. لان الطلاق الاول ربما جاء عن غير روية تامة ومعرفة صحيحة منه بمقدار حاجته إلى امرأته. ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك، لانه لا يكون إلا بعد الندم على ما كان أولا، والشعور بأن كان خطأ، ولذلك قلنا ان الاختبار يتم به. فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحا لامساكها على تسريحها. ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التام مرجوحا. فإذا هو عاد وطلق ثالثة، كان ناقص العقل والتأديب، فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلبه ويرتجعها متى شاء هواه، بل يكون من الحكمة أن تبين منه، ويخرج أمرها من يده، لانه علم أن لا ثقة بالتثامهما واقامتهما حدود الله تعالى. فان اتفق بعد ذلك أن تزوجت برجل آخر عن رغبة، واتفق أن طلقها الاخر أو مات عنها، ثم رغب فيها الاول وأحب أن يتزوج بها - وقد علم أنها صارت فراشا لغيره - ورضيت هي بالعودة إليه فان الرجاء في التئامهما، واقامتهما حدود الله تعالى، يكون حينئذ قويا جدا، ولذلك أحلت له بعد العدة. صيغة العقد المقترنة بالشرط : إذا قرن عقد الزواج بالشرط، فإما أن يكون هذا الشرط من مقتضيات   (1) جزء 2 ص 392. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 العقد أو يكون منافيا له، أو يكون ما يعود نفعه على المرأة، أو يكون شرطا نهى الشارع عنه. ولكل حالة من هذه الحالات حكم خاص بها نجمله فيما يلي: (1) الشروط التي يجب الوفاء بها: من الشروط ما يجب الوفاء به، وهي ما كانت من مقتضيات العقد ومقاصده (1) ولم تتضمن تغييرا لحكم الله ورسوله، كاشتراط العشرة بالمعروف والانفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف، وأنه لا يقصر في شئ من حقوقها ويقسم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا باذنه، ولا تنشز عليه ولا تصوم تطوعا بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إذا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك. (2) الشروط التي لا يجب الوفاء بها: ومنها ما لا يجب الوفاء به مع صحة العقد، وهو ما كان منافيا لمقتضى العقد (2) كاشتراط ترك الانفاق والوطء أو كاشتراط أن لا مهر لها، أو يعزل عنها، أو اشتراط أن تنفق عليه، أو تعطيه شيئا، أو لا يكون عندها في الاسبوع إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل. فهذه الشروط كلها باطلة في نفسها، لانها تنافي العقد. ولانها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، فلم يصح، كما لو أسقط الشفيع شفعته قبل البيع. أما العقد في نفسه فهو صحيح، لان هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به، فلم يبطل، كما لو شرط في العقد صداقا محرما، ولان الزواج يصح مع الجهل بالعوض، فجاز أن ينعقد مع الشرط الفاسد. (3) الشروط التي فيها نفع للمرأة: ومن الشروط ما يعود نفعه وفائدته الى المرأة، مثل أن يشترط لها ألا   (1) النووي: شرح مسلم. (2) زاد المعاد ج 4، 5 وانظر المغني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يسافر بها أو لا يتزوج عليها ونحو ذلك. فمن العلماء من رأي أن الزواج صحيح وأن هذه الشروط ملغاة ولا يلزم الزوج الوفاء بها. ومنهم من ذهب الى وجوب الوفاء بما اشترط للمرأة، فان لم يف لها فسخ الزواج. والاول مذهب أبي حنيفة والشافعي وكثير من أهل العلم، واستدلوا بما يأتي: 1 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) . قالوا وهذا الشرط الذي اشترط يحرم الحلال، وهو التزوج والتسري والسفر. وهذه كلها حلال. 2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط) . قالوا: وهذا ليس في كتاب الله لان الشرع لا يقتضيه. 3 - قالوا: إن هذه الشروط ليست من مصلحة العقد ولا مقتضاه، والرأي الثاني مذهب عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وطاووس والاوزاعي واسحاق والحنابلة، واستدلوا بما يأتي: 1 - يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) . 2 - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) . 3 - روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) (1) 4 - روى الاثرم بإسناده: أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر بن الخطاب فقال لها شرطها (مقاطع الحقوق عند الشروط) .   (1) أي أحق الشروط بالوفاء شروط الزواج، لان أمره أحوط وبابه أضيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 5 - ولانه شرط لها فيه منفعة ومقصود، لا يمنع المقصود من الزواج فكان لازما كما لو شرطت عليه زيادة المهر. قال ابن قدامة مرجحا هذا الرأي ومفندا الرأي الاول: ان قول من سمينا من الصحابة، لا نعلم له مخالفا في عصرهم، فكان اجماعا. وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ... الخ) . أي ليس في حكم الله وشرعه، وهذا مشروع، وقد ذكرنا ما دل على مشروعيته، على أن الخلاف في مشروعيته، ومن نفى ذلك فعليه الدليل. وقولهم: إن هذا يحرم الحلال، قلنا: لا يحرم حلالا، وانما يثبت للمرأة خيار الفسخ ان لم يف لها به. وقولهم: ليس من مصلحته، قلنا: لا نسلم بذلك. فانه من مصلحة المرأة، وما كان من مصلحد العاقد كان من مصلحة عقده. وقال ابن رشد (1) : وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط) . وأما الخصوص، فحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) . والحديثان صحيحان، خرجهما البخاري ومسلم. إلا أن المشهور عند الاصوليين القضاء بالخصوص على العموم، وهو (لزوم الشروط) . وقال ابن تيمية (2) : ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود لم تذهب عفوا ولم تهدر رأسا، كالاجال في الاعواض، ونقود الاثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين. وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الاطلاق، بل ما يخالف الاطلاق.   (1) بداية المجتهد ج 2 ص 55. (2) نظرية العقد ص 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 (4) الشروط التي نهى الشارع عنها: ومن الشروط ما نهى الشارع عنها ويحرم الوفاء بها: وهي اشتراط المرأة عند الزواج طلاق ضرتها. فعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام: (نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيعه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها أو إنائها (1) فإنما رزقها على الله تعالى) متفق عليه. وفي لفظ متفق عليه: نهى أن تشترط المرأة طلاق أختها..وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله عليه السلام قال: (لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى) رواه أحمد. فهذا النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولانها شرطت عليه فسخ عقده وإبطال حقه وحق امرأته، فلم يصح، كما لو شرطت عليه فسخ بيعه. فان قيل: فما الفارق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها، حتى صححتم هذا، وأبطلتم شرط طلاق الضرة. أجاب ابن القيم عن هذا فقال: قيل: الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الاضرار بها وكسر قلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غرها، وقد فرق النص بينهما، فقياس أحدهما على الاخر فاسد. ومعنى الحديث: نهي المرأة الاجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته، وإن يتزوجها فيصير لها من نفقته ومعونته ومعاشرته ما كان للمطلقة. (5) ومن صور الزواج المقترن بشرط غير صحيح زواج الشغار : وهو أن يزوج الرجل وليته رجلا، على أن يزوجه الاخر وليته، وليس بينهما صداق، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الزواج فقال: (لا شغار (2) في الاسلام) . رواه مسلم عن ابن عمر، ورواه (2) الشغار أصله الخلو، يقال: بلدة شاغرة إذا خلت عن السلطان، والمراد به هنا الخلو عن المهر. وقيل: إنما سمي شغارا لقبحه، تشبيها برفع الكلب رجله ليبول في القبح. يقال شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول. وكان هذا النوع من الزواج معروفا زمن الجاهلية.   (1) تكفئ: تميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ابن ماجه من حديث أنس بن مالك. قال في الزوائد: اسناده صحيح، ورجاله ثقات، وله شواهد صحيح. 2 - وعن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار) . والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك، على أن أزوجك ابنتي أو أختي، وليس بينهما صداق (1)) رواه ابن ماجه. رأي العلماء فيه: استدل جمهور العلماء بهذين الحديثين على أن عقد الشغار لا ينعقد أصلا وأنه باطل. وذهب أبو حنيفة الى أنه يقع صحيحا، ويجب لكل واحدة من البنتين مهر مثلها على زوجها، إذ أن الرجلين سميا ما لا تصلح تسميته مهرا، إذ جعل المرأة مقابل المرأة ليس بمال. فالفساد فيه من قبل المهر، وهو لا يوجب فساد العقد، كما لو تزوج على خمر أو خنزير. فان العقد لا يفسخ، ويكون فيه مهر المثل. علة النهي عن نكاح الشغار: واختلف العلماء في علة النهي: فقيل: هي التعليق والتوقيف، كأنه يقول (لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك) . وقيل: ان العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرا للاخرى. وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته. وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وخلاء لنكاحها عن مهر تنتفع به. قال ابن القيم: وهذا موافق للغة العرب.   (1) قال النووي: اجمعوا على أن غير البنات من الاخوات وبنات الاخ وغيرهن كالبنات في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 شروط صحة الزواج : شروط صحة الزواج هي الشروط التي يتوقف عليها صحته، بحيث إذا وجدت يعتبر عقد الزواج موجودا شرعا، وتثبت له جميع الاحكام والحقوق المترتبة عليه. وهذه الشروط اثنان: (الشرط الاول) حل المرأة للتزوج بالرجل الذي يريد الاقتران بها. فيشترط ألا تكون محرمة عليه بأي سبب من أسباب التحريم المؤقت أو المؤبد. وسيأتي ذلك مفصلا في بحث (المحرمات من النساء) . (الشرط الثاني) الاشهاد على الزواج، وهو ينحصر في المباحث الاتية: 1 - حكم الاشهاد. 2 - شروط الشهود. 3 - شهادة النساء. حكم الاشهاد على الزواج : ذهب جمهور العلماء إلى أن الزواج لا ينعقد إلا ببينة، ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد ولو حصل إعلان عنه بوسيلة أخرى. وإذا شهد الشهود وأوصاهم المتعاقدان بكتمان العقد وعدم إذاعته كان العقد صحيحا (1) واستدلوا على صحته بما يأتي: (أولا) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة) رواه الترمذي. واحتجوا لمذهبهم بأن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الاشهاد عند العقد. وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع. والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الاشهاد أخرى بأن لا يكون الاشهاد فيه من شروطه وفرائضه وانما الغرض الاعلان والظهور لحفظ الانساب. والاشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، فان عقد العقد ولم يحضره شهود ثم أشهد عليه قبل الدخول لم يفسخ العقد، وان دخلا ولم يشهدا فرق بينهما.   (1) مذهب مالك وأصحابه ان الشهادة على النكاح ليست بفرض، ويكفي من ذلك شهرته والاعلان به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 (ثانيا) وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) رواه الدارقطني. وهذا النفي يتوجه الى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الاشهاد شرطا، لانه قد استلزم عدمه عدم الصحة، وما كان كذلك فهو شرط. (ثالثا) وعن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة. فقال: (هذا نكاح السر، ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت) . رواه مالك في الموطأ. والاحاديث وإن كانت ضعيفة الا أنه يقوي بعضها بعضا. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: (لا نكاح إلا بشهود) لم يختلف في ذلك من مضى منهم إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم. (رابعا) ولانه يتعلق به حق غير المتعاقدين، وهو الولد، فاشترطت الشهادة فيه، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه. ويرى بعض أهل العلم أنه يصح بغير شهود: منهم الشيعة، وعبد الرحمن ابن مهدي، ويزيد بن هارون، وابن المنذر، وداود، وفعله ابن عمر، وابن الزبير. وروي عن الحسن بن علي أنه تزوج بغير شهادة، ثم أعلن النكاح. قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر. وقال يزيد بن هارون: أمر الله تعالى بالاشهاد في البيع دون النكاح، فاشترط أصحاب الرأي الشهادة للنكاح، ولم يشترطوها للبيع. وإذا تم العقد فأسروه وتواصوا بكتمانه صح مع الكراهة، لمخالفته الامر بالاعلان، وإليه ذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وابن المنذر. وممن كره ذلك عمر، وعروة، والشعبي، ونافع. وعند مالك أن العقد يفسخ. روى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما؟ قال يفرق بينهما بتطليقة، ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن أصابها، ولا يعاقب الشاهدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ما يشترط في الشهود : يشترط في الشهود: العقل، والبلوغ، وسماع كلام المتعاقدين مع فهم أن المقصود به عقد الزواج (1) . فلو شهد على العقد صبي، أو مجنون، أو أصم، أو سكران، فان الزواج لا يصح، إذ أن وجوه هؤلاء كعدمه. اشتراط العدالة في الشهود: وأما اشتراط العدالة في الشهود، فذهب الاحناف الى أن العدالة لا تشترط، وأن الزواج ينعقد بشهادة الفاسقين، وكل من يصلح أن يكون وليا في زواج يصلح أن يكون شاهدا فيه، ثم ان المقصود من الشهادة الاعلان. والشافعية قالوا، لابد من أن يكون الشهود عدولا للحديث المتقدم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) . وعندهم أنه إذا عقد الزواج بشهادة مجهولي الحال ففيه وجهان. والمذهب أنه يصح. لان الزواج يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس، ممن لا يعرف حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يشق فاكتفي بظاهر الحال، وكون الشاهد مستورا لم يظهر فسقه. فإذا تبين بعد العقد أنه كان فاسقا لم يؤثر ذلك في العقد، لان الشرط في العدالة من حيث الظاهر ألا يكون ظاهر الفسق، وقد تحقق ذلك. شهادة النساء : والشافعية والحنابلة يشترطون في الشهود الذكورة، فان عقد الزواج بشهادة رجل وامرأتين لا يصح، لما رواه أبو عبيد عن الزهري أنه قال: (مضت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن لا يجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق) . ولان عقد الزواج عقد ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويحضره الرجل غالبا، فلا يثبت بشهادتهن كالحدود.   (1) وإذا كان الشهود عميانا يشترط فيهم تيقن الصوت ومعرفة صوت المتعاقدين على وجه لا يشك فيهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 والاحناف لا يشترطون هذا الشرط، ويرون أن شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كافية، لقول الله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) . ولانه مثل البيع في أنه عقد معارضة فينعقد بشهادتهن مع الرجال. اشتراط الحرية: ويشترط أبو حنيفة والشافعي أن يكون الشهود أحرارا. وأحمد لا يشترط الحرية، ويرى أن شهادة العبدين ينعقد بها الزواج، تقبل في سائر الحقوق، وأنه ليس فيه نص من كتاب ولا سنة يرد شهادة العبد، ويمن عمن قبولها ما دام أمينا صادقا تقيا. اشتراط الاسلام: والفقهاء لم يختلفوا في اشتراط الاسلام في الشهود إذا كان العقد بين مسلم ومسلمة. واختلفوا في شهادة غير المسلم فيما إذا كان الزوج وحده مسلما. فعند أحمد والشافعي ومحمد بن الحسن أن الزواج لا ينعقد، لانه زواج مسلم، لا تقبل فيه شهادة غير المسلم. وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة كتابيين إذا تزوج مسلم كتابية. وأخذ بهذا مشروع قانون الاحوال الشخصية. عقد الزواج شكلي : عقد الزواج يتم بتحقيق أركانه، وشرائط انعقاده، الا أنه لا تترتب عليه آثاره الشرعية إلا بشهادة الشهود، وحضور الشهود شئ خارج عن رضا الطرفين، فهو من هذه الوجهة عقد شكلي، وهو يخالف العقد الرضائي الذي يكفي في انعقاده اقتران القبول بالايجاب، ويكون الرضا من المتعاقدين وحده منشئا للعقد ومكونا له كعقد الاجارة ونحوه، فهو في هذه الحالة تترتب عليه أحكامه، ويظله القانون بحماية دون الاحتياج لشئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 شروط نفاذ العقد : إذا تم العقد ووقع صحيحا، فانه يشترط لنفاذه وعدم توقفه على إجازة أحد: 1 - أن يكون كل من العاقدين اللذين توليا انشاء العقد تام الاهلية، أي عاقلا بالغا حرا. فان كان أحد العاقدين ناقص الاهلية بأن كان معتوها أو صغيرا مميزا، أو عبدا، فان عقده الذي يعقد بنفسه ينعقد صحيحا موقوفا على اجازة الولي، أو السيد، كان أجازه نفذ، وإلا بطل. 2 - وأن يكون كل من العاقدين ذا صفة، تجعل له الحق في مباشرة العقد. فلو كان العاقد فضوليا، باشر العقد لا بوكالة ولا بولاية، أو كان وكيلا ولكن خالف فيما وكل فيه، أو كان وليا ولكن يوجد ولي أقرب منه مقدم عليه، فان عقد أي واحد من هؤلاء إذا استوفى شروط الانعقاد والصحة ينعقد صحيحا موقوفا على اجازة صاحب الشأن. شروط لزوم عقد الزواج : يلزم عقد الزواج إذا استوفى أركانه وشروط صحته وشروط نفاذه. وإذا لزم فليس لاحد الزوجين ولا لغيرهما حق نقض العقد ولا فسخه، ولا ينتهي الا بالطلاق أو الوفاة، وهذا هو الاصل في عقد الزواج. لان المقاصد التي شرع من أجلها - من دوام العشرة الزوجية وتربية الاولاد والقيام على شؤونهم - لا يمكن أن تتحقق إلا مع لزومه. ولهذا قال العلماء: شروط لزوم الزواج يجمعها شرط واحد. وهو ألا يكون لاحد الزوجين حق فسخ العقد بعد انعقاده وصحته ونفاذه، فلو كان لاحد حق فسخه كان عقدا غير لازم. متى يكون العقد غير لازم : لا يكون العقد لازما فيما يأتي من الصور: إذا تبين أن الرجل غرر بالمرأة أو أن المرأة غررت بالرجل. مثال ذلك أن يتزوج الرجل المرأة وهو عقيم، لا يولد له ولم تكن تعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 بعقمه، فلها في هذه الحال حق نقض العقد وفسخه متى علمت، الا إذا اختارته زوجا لها، ورضيت معاشرته. قال عمر رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له، أخبرها انك عقيم وخيرها (1) . ومن صور التغرير أن يتزوجها على انه مستقيم، ثم يتبين أنه فاسق، فلها كذلك حق فسخ العقد. ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية: إذا تزوج امرأة على أنها بكر فبانت ثيبا فله الفسخ، وله أن يطالب بأرش الصداق - وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب - وإذا فسخ قبل الدخول سقط المهر. وكذلك لا يكون العقد لازما إذا وجد الرجل بالمرأة عيبا ينفر من كمال الاستمتاع. كأن تكون مستحاضة دائما، فان الاستحاضة عيب يثبت به فسخ النكاح (2) وكذلك إذا وجد بها ما يمنع الوطء كانسداد الفرج. ومن العيوب التي تجيز للرجل فسخ العقد: الامراض المنفرة: مثل البرص والجنون والجذام، وكما يثبت حق الفسخ للرجل فكذلك يثبت للمرأة إذا كان الرجل أبرص، أو كان مجنونا أو مجذوما أو مجبوبا أو عنينا (3) أو صغيرا. رأي الفقهاء في الفسخ بالعيب : وقد اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فمنهم من رأى أن الزواج لا يفسخ بالعيوب مهما كانت هذه العيوب، ومن هؤلاء الفقهاء داود وابن حزم (4) . قال صاحب الروضة الندية: اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية أن عقد النكاح لازم تثبت به أحكام الزوجية من جواز الوطء، ووجوب النفقة ونحوها، وثبوت الميراث، وسائر الاحكام.   (1) أي خيرها بين البقاء على العقد وبين فسخه. (2) الاختيارات العلمية ومختصر الفتاوى لابن تيمية. الاستحاضة: لنزيف. (3) المجبوب المقطوع الذكر. العنين الذي لا يصل الى النساء من الارتخاء. (4) سيأتي عن ابن حزم أن للزوج الفسخ إذا اشترط شرطا فلم يجده عند الزواج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق أو الموت. فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الاسباب، فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية. وما ذكروه من العيوب لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة ولم يثبت شئ منها. وأماق وله صلى الله عليه وسلم: (الحقي بأهلك) فالصيغة صيغة طلاق. وعلى فرض الاحتمال فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه. وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح، والاصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه. ومن أعجب ما يتعجب منه تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض. 2 - ومنهم من رأى أن الزواج يفسخ ببعض العيوب دون بعض، وهم جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم هذا بما يأتي: (أولا) ما رواه كعب بن زيد، أو زيد بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها، ووضع ثوبه، وقعد على الفراش أبصر بكشحها (1) بياضا فانحاز (2) عن الفراش، ثم قال: (خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا) . رواه أحمد وسعيد بن منصور. (ثانيا) عن عمر أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل، بها جنون أو جذام، أو برص، فلها مهرها بما أصاب منها. وصداق الرجل على من غر ... ) رواه مالك والدارقطني. وهؤلاء اختلفوا في العيوب التي يفسخ بها النكاح. فخصها أبو حنيفة بالجب والعنة. وزاد مالك والشافعي الجنون والبرص والجذام. والقرن (انسداد في الفرج) . وزاد أحمد على ما ذكره الائمة الثلاثة أن تكون المرأة فتقاء (منخرقة ما بين السبيلين) . التحقيق في هذه القضية: والحق أن كلا من الاراء المتقدمة غير جدير بالاعتبار، وأن الحياة   (1) الكشح: ما بين الخاصرتين الى الضلع. (2) انحاز: تنحى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الزوجية التي بنيت على السكن والمودة والرحمن لا يمكن أن تتحقق وتستقر مادام هناك شئ من العيوب والامراض ينفر أحد الزوجين من الاخر. فان العيوب والامراض المنفرة لا يتحقق معها المقصود من النكاح. ولهذا أذن الشارع بتخيير الزوجين في قبول الزواج أو رفضه. وللامام ابن القيم تحقيق جدير بالنظر والاعتبار: قال: فالعمى، والحرس والطرش، وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو احداهما، أو كون الرجل كذلك، من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين. وقد قال أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: (أخبرها أنك عقيم وخيرها) . فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هي عندها كمال بلا نقص. قال: والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الاخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع. وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط، ولا مغبونا بما غر وغبن به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره، وموارده، وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد قواعد الشريعة. وقد روى يحيى بن سعيد الانصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أن جذام أو برص، فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي الصداق بما دلس، كما غره. وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه، أيما امرأة نكحت، وبها برص، أو جنون، أو جذام، أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، ان شاء أمسك، وان شاء طلق، وان مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 المسيب، عن عمر رضي الله عنه قال: (إذا تزوجها برصاء أو عمياء، فدخل بها فلها الصداق، ويرجع به على من غره) . قال: وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها. وكذلك حكم قاضي الاسلام شريح رضي الله عنه الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه. قال عبد الرازق: عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين رضي الله عنه، خاصم رجل رجلا الى شريح فقال: ان هذا قال لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاءني بامرأة عمياء. فقال شريح: إن كان دلس عليك بعيب لم يجز. فتأمل هذا القضاء وقوله: (إن كان دلس عليك بعيب) كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به. قال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال قال: ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب، إلا رواية رويت عن عمر: " لا ترد النساء إلا من العيوب الاربعة: الجنون، والجذام، والبرص، والداء في الفرج ". وهذه الرواية لا نعلم لها اسنادا أكثر من أصبغ وابن وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما. وقد روي ذلك عن ابن عباس باسناد متصل. هذا كله إذا أطلق الزوج. وأما إذا اشترط السلامة، أو اشترط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء. أو شرطها بيضاء فبانت سوداء، أو بكرا ببانت ثيبا فله الفسخ في ذلك. فان كان قبل الدخول فلا مهر، وان كان بعده فلها المهر. وهو غرم على وليها ان كان غره. وان كانت هي الغارة سقط مهرها، أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط. وقال أصحابه إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها، إلا في شرط الحرية إذا بان عبدا فلها الخيار. وفي شرط النسب إذا بن بخلافه وجهان. والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها. بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لانها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق. فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلان يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى. وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة، لا تشينه في دينه ولا في عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به. فإذا شرطته شابا جميلا صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى، أطرش، أخرس، أسود، فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع. قال: وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير. وكذلك غيره من أنواع الداء العضال. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته، وحرم على من علمه أن يكتمه على المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ". فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب. فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه؟ وجعل ذي العيب غلا لازما في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وهذا ما يعلم يقينا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم. انتهى. وذهب أبو محمد بن حزم الى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا اجازة، ولا نفقة، ولا ميراث. قلت: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج، إذ السالمة غير المعيبة بلا شك، فإذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما. ما جرى عليه العمل بالمحاكم: وقد جرى العمل الان بالمحاكم حسب ما جاء بالمادة التاسعة من قانون سنة 1920. " أنه يثبت للمرأة هذا الحق (1) إذا كان العيب مستحكما لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن، ولا يمكنها المقام معه إلا بضرر أيا كان هذا العيب، كالجنون، والجذام والبرص، سواء أكان ذلك بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به، فان تزوجته عالمة بالعيب، أو حدث العيب بعد العقد، ورضيت صراحة أو دلالة بعد علمها، فلا يجوز طلب التفريق، واعتبر التفريق في هذا الحال طلاقا بائنا، ويستعان بأهل الخبرة في معرفة العيب ومداه من الضرر. ومما يدخل في هذا الباب - عند الاحناف - تزويج الكبيرة العاقلة نفسها من كفء بمهر أقل من مهر مثلها بدون رضا أقرب عصبتها. وكذلك إذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الاب والجد من الاولياء - عند عدمهما - وكان الزوج كفئا، وكان المهر مهر المثل كان الزواج غير لازم، وسيأتي ذلك مفصلا في مبحث الولاية. شروط سماع الدعوى بالزواج قانونا : رأى المشرع الوضعي شروطا لسماع الدعوى بالزواج من جهة،   (1) حق التفريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وشروطا أخرى لمباشرة عقد الزواج رسميا من جهة أخرى، نجملها فيما يلي اتماما للفائدة: المسوغ الكتابي لسماع دعوى الزواج: جاءت الفقرات الاربع من المادة 99 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 الخاص بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية والاجراءات المتعلقة بها: " لا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الطلاق أو الاقرار بهما، بعد وفاة أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة 1911 أفرنكية، سواء أكانت مقامة من أحد الزوجين أم من غيرهما، الا إذا كانت مؤيدة بأوراق خالية من شبهة التزوير على صحتها. ومع ذلك، يجوز سماع دعوى الزوجية، أو الاقرار بها، المقامة من أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة ألف وثمانمائة وسبع وتسعين فقط، بشهادة الشهود وبشرط أن تكون الزوجية معروفة بالشهرة العامة. ولايجوز سماع دعوى ما ذكر كله من أحد الزوجين أو غيره في الحوادث الواقعة من سنة ألف وتسعمائة واحدى عشرة الا إذا كانت ثابتة بأوراق رسمية أو مكتوبة كلها بخط المتوفى وعليها امضاؤه كذلك. ولا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الاقرار بها الا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1921 م ". وجاء في المذكرة التفسرية لهذه المواد ما يأتي: " ومن القواعد الشرعية أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والحوادث والاشخاص، وأن لولي الامر أن يمنع قضاته عن سماع بعض الدعاوى، وأن يقيد السماع بما يراه من القيود تبعا لاحوال الزمان وحاجة الناس، وصيانة للحقوق من العبث والضياع. وقد درج الفقهاء من سالف العصور على ذلك، وأقروا هذا المبدأ في أحكام كثيرة، واشتملت لائحتا سنة 1897 وسنة 1910 للمحاكم الشرعية على كثير من مواد التخصيص وخاصة فيما يتعلق بدعاوى الزوجية والطلاق والاقرار بهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وألف الناس هذه القيود واطمأنوا إليها بعد ما تبين مالها من عظيم الاثر في صيانة حقوق الاسر. إلا أن الحوادث قد دلت على أن عقد الزواج - وهو أساس رابطة الاسرة - لا يزال في حاجة الى الصيانة والاحتياط في أمره. فقد يتفق اثنان على الزواج بدون وثيقة ثم يجحده أحدهما ويعجز الاخر عن إثباته أمام القضاء. وقد يدعى الزوجية بعض ذوي الاغراض زورا وبهتانا أو نكاية وتشهيرا، أو ابتغاء غرض آخر، اعتمادا على سهولة اثباتها. خصوصا وأن الفقه يجيز الشهادة بالتسامع في الزواج، وقد تدعى الزوجية بورقة إن ثبتت صحتها مرة لا تثبت مرارا. وما كان لشئ من ذلك أن يقع لو أثبت هذا العقد دائما بوثيقة رسمية، كما في عقود الرهن وحجج الاوقاف، وهي أقل منه شأنا وهو أعظم منها خطرا. فحملا للناس على ذلك، واظهارا لشرف هذا العقد، وتقديسا عن الجحود والانكار، ومنعا لهذه المفاسد العديدة، واحتراما لروابط الاسرة، زيدت الفقرة الرابعة في المادة " 99 " التي نصها: " ولا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الاقرار بها إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931 م ". تحديد سن الزوجين لسماع دعوى الزواج : نصت الفقرة الخامسة من المادة 99 من لائحة الاجراءات الشرعية على أنه " لا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة هجرية، أو سن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة هجرية إلا بأمر منا ". وقد جاء في المذكرة الايضاحية بشأن هذه الفقرة ما نصه: " كانت دعوى الزوجية لا تسمع إذا كانت سن الزوجين وقت العقد أقل من ست عشرة سنة للزوجة وثماني عشرة للزوج. سواء أكانت سنهما كذلك وقت الدعوى أم جاوزت هذا الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فرئي تيسيرا على الناس، وصيانة للحقوق، واحتراما لاثار الزوجية، أن يقصر المنع من السماع على حالة واحدة، وهي مااذا كانت سنهما أو سن أحدهما وقت الدعوى أقل من السن المحددة ". تحديد سن الزواج لمباشرة عقد الزواج رسميا : نصت الفقرة الثانية من المادة 366 من لائحة الاجراءات على أنه " لا يجوز مباشرة عقد الزواج، ولا المصادقة على زواج مسند الى ما قبل العمل بهذا القانون، ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة سنة، وسن الزواج ثماني عشرة وقت العقد ". ومما جاء في المذكرة الايضاحية بشأن هذه الفقرة: " ان عقد الزواج له من الاهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمي من جهة سعادة المعيشة المنزلية أو شقائها، والعناية بالنسل أو اهماله. وقد تطورت الحال بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادا كبيرا لحسن القيام بها ولا تستأهل الزوجة والزوج لذلك غالبا قبل سن الرشد المالي (1) . غير أنه لما كانت بنية الانثى تستحكم وتقوى قبل استحكام بنية الصبي، كان من المناسب أن يكون سن الزواج للفتى ثماني عشرة، وللفتاة ست عشرة. فلهذه الاغراض الاجتماعية حدد الشارع المصري سن الزواج لمباشرة العقد رسميا، كما حدد سنا لسماع دعوى الزوجية قانونا ". وصيانة لقانون تحديد السن لمباشرة العقد صدر قانون رقم 44 من السنة 1933 ونص المادة الثانية منه ما يأتي: مادة (2) - يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على مائة جنيه كل من أبدى أمام السلطة المختصة - بقصد اثبات بلوغ أحد الزوجين السن المحددة قانونا لضبط عقد الزواج - أقوالا يعلم أنها غير صحيحة، أو حرر، أو قدم لها أوراقا كذلك، متى ضبط عقد الزواج على أساس هذه الاقوال، أو الاوراق. ويعاقب بالحبس أو بغرامة لا تزيد عن مائتي جنيه كل شخص خوله   (1) سن الرشد المالي احدى وعشرون سنة ميلادية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 القانون سلطة ضبط عقد الزواج وهو يعلم أن أحد طرفيه لم يبلغ السن المحددة في القانون. المحرمات من النساء : ليست كل امرأة صالحة للعقد عليها، بل يشترط في المرأة التي يراد العقد عليها أن تكون غير محرمة على من يريد التزوج بها، سواء أكان هذا التحريم مؤبدا أم مؤقتا. والتحريم المؤبد يمنع المرأة أن تكون زوجة للرجل في جميع الاوقات. والتحريم المؤقت يمنع المرأة من التزوج بها مادامت على حالة خاصة قائمة بها، فان تغير الحال وزال التحريم الوقتي صارت حلالا. وأسباب التحريم المؤبدة هي: 1 - النسب. 2 - المصاهرة. 3 - الرضاع. وهي المذكورة في قول الله تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الاخ، وبنات الاخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الاختين، إلا ما قد سلف ". والمؤقتة تنحصر في أنواع. وهذا بيان كل منها: المحرمات من النسب هن: 1 - الامهات. 2 - البنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 3 - الاخوات. 4 - العمات. 5 - الخالات. 6 - بنات الاخ. 7 - بنات الاخت. والام اسم لكل أنثى لها عليك ولادة. فيدخل في ذلك الام، وأمهاتها، وجداتها، وأم الاب، وجداته، وإن علون. البنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، أو كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو درجات. فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها. والاخت: اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما. والعمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه. أو في احدهما. وقد تكون العمة من جهة الام، وهي أخت أبي أمك. والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما. وقد تكون من جهة الاب. وهي أخت أم أبيك. وبنت الخ: اسم لكل أنثى لاخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة، وكذلك بنت الاخت. المحرمات بسبب المصاهرة: المحرمات بسبب المصاهرة (1) هن: 1 - أم زوجته، وأم أمها، وأم أبيها، وان علت. لقول الله تعالى " وأمهات نسائكم ". ولا يشترط في تحريمها الدخول بها، بل مجرد العقد عليها يحرمها (2) . 2 - وابنة زوجته التي دخل بها.   (1) المصاهرة، القرابة الناشئة بسبب الزواج. (2) روي عن ابن عباس وزيد بن ثابت أن من عقد على امرأة ولم يدخل بها جاز له ان يتزوج بأمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ويدخل في ذلك بنات بناتها، وبنات أبنائها، وان نزلن، لانهن من بناتها لقول الله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ". والربائب: جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره. سمي ربيبا له، لانه يربه كما يرب ولده (أي يسوسه) . وقوله: " اللاتي في حجوركم " وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون في حجر زوج أمها، وليس قيدا. وعند الظاهرية أنه قيد، وأن الرجل لا تحرم عليه ربيبته - أي ابنة امرأته - إذا لم تكن في حجره. وروي هذا عن بعض الصحابة. فعن مالك بن أوس قال: " كان عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي. فوجدت (1) فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة. فقال: ألها بنت؟ قلت: نعم، وهي بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا. قال: " انكحها ". قلت: فأين قول الله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم "؟! قال: انها لم تكن في حجرك، انما ذلك إذا كانت في حجرك. ورد جمهور العلماء هذا الرأي وقالوا: ان حديث علي هذا لا يثبت، لان رواية ابراهيم بن عبيد، عن مالك بن أوس، عن علي رضي الله عنه. وابراهيم هذا لايعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف. 3 - زوجة الابن، وابن ابنه، وابن بنته وان نزل لقول الله تعالى: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ".   (1) حزنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 و " الحلائل " جمع حليلة، وهي الزوجة، و " الزوج حليل ". 4 - زوجة الاب: يحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه، بمجرد عقد الاب عليها، ولم يدخل بها. وكان هذا النوع من الزواج فاشيا في الجاهلية، وكانوا يسمونه زواج المقت (1) وسمي الولد منها مقيتا، أو مقتيا، وقد نهى الله عنه وذمه ونفر منه. قال الامام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي. وقد وصف الله هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: " فاحشة " إشارة الى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: " ومقتا " إشارة الى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله تعالى: " وساء سبيلا " اشارة الى مرتبة قبحه العادي. وقد روى ابن سعد عن محمد بن كعب سبب نزول هذه الاية، قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته، كان ابنه أحق بها أن ينكحها ان شاء، ان لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: " ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا " فنزلت الاية: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ". ويرى الاحناف أن من زنى بامرأة، أو لمسها، أو قبلها، أو نظر الى فرجها بشهوة، حرم عليه أصولها وفروعها، وتحرم هي على أصوله وفروعه إذ أن حرمة المصاهرة تثبت عندهم بالزنا، ومثله مقدماته ودواعيه، قالوا: " ولو زنا الرجل بأم زوجته، أو بنتها حرمت عليه حرمة مؤبدة. ويرى جمهور العلماء أن الزنا لا تثبت به حرمة المصاهرة، واستدلوا على هذا بما يأتي: 1 - قول الله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " فهذا بيان   (1) اصل المقت البغض من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 عما يحل من النساء بعد بيان ما حرم منهن، ولم يذكر أن الزنا من أسباب التحريم. 2 - روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة. فأراد أن يتزوجها أو ابنتها. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح " رواه ابن ماجه عن ابن عمر. 3 - ان ما ذكروه من الاحكام في ذلك هو مما تمس إليه الحاجة، وتعم به البلوى أحيانا، وما كان الشارع ليسكت عنه، فلا ينزل به قرآن، ولا تمضي به سنة، ولا يصح فيه خبر، ولا أثر عن الصحابة، وقد كانوا قريبي عهد بالجاهلية التي كان الزنا فيها فاشيا بينهم. فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركا في الشرع أو تدل عليه علة وحكمة لسألوا عن ذلك، وتوفرت الدواعي على نقل ما يفتنون به (1) . 4 - ولانه معنى لا تصير به المرأة فراشا، فلم يتعلق به تحريم المصاهرة، كالمباشرة بغير شهوة. المحرمات بسبب الرضاع: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والذي يحرم من النسب: الام، والبنت، والاخت، والعمة، والخالة، وبنات الاخ، وبنات الاخت. وهي التي بينها الله تعالى في قوله: " حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الاخ وبنات الاخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة ". وعلى هذا، فتنزل المرضعة منزلة الام، وتحرم على المرضع، هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب فتحرم: 1 - المرأة المرضعة، لانها بارضاعها تعد أما للرضيع. 2 - أم المرضعة، لانها جدة له.   (1) المنار. جزء 4 ص 479 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 3 - أم زوج المرضعة - صاحب اللبن - لانها جدة كذلك. 4 - أخت الام، لانها خالة الرضيع. 5 - أخت زوجها - صاحب اللبن - لانها عمته. 6 - بنات بنيها وبناتها، لانهن بنات اخوته وأخواته. 7 - الاخت، سواء أكانت أختا لاب وأم. أو أختا لام، أو أختا لاب (1) . الرضاع الذي يثبت به التحريم: الظاهر أن الارضاع الذي يثبت به التحريم، هو مطلق الارضاع. ولا يتحقق إلا برضعة كاملة، وهي أن يأخذ الصبي الثدي ويمتص اللبن منه، ولا يتركه إلا طائعا من غير عارض يعرض له، فلو مص مصة أو مصتين، فان ذلك لا يحرم لانه دون الرضعة، ولا يؤثر في الغذاء. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحرم المصة ولا المصتان " رواه الجماعة إلا البخاري. والمصة هي الواحدة من المص. وهو أخذ اليسير من الشئ، يقال أمصه ومصصته، أي شربته شربا رقيقا. هذا هو الامر الذي يبدو لنا راجحا. وللعلماء في هذه المسألة عدة آراء نجملها فيما يأتي: 1 - أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم أخذا بإطلاق الارضاع في الاية. ولما رواه البخاري، ومسلم، عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجرت أمة سوداء فقالت: " قد أرضعتكما ". فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك فقال: " وكيف، وقد قيل؟ دعها عنك ". فترك الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال عن عدد الرضعات، وأمره   (1) الاخت الاب وأم: وهي التي ارضعتها الام بلبان الاب، سواء أرضعت مع الطفل الرضيع أو رضعت قبله أو بعده..والاخت من الاب، وهي التي أرضعتها زوجة الاب..والاخت من الام، وهي التي أرضعتها الام بلبان رجل آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 بتركها دليل على أنه لا اعتبار إلا بالارضاع، فحيث وجد اسمه وجد حكمه. ولانه فعل يتعلق به التحريم، فيستوي قليله وكثيره، كالوطء الموجب له. ولان إنشاز العظم، وإنبات اللحم، يحصل بقليله وكثيره. وهذا مذهب " علي "، و " ابن عباس "، و " سعيد بن المسيب "، و " الحسن البصري " و " الزهري " و " قتادة " و " حماد " و " الاوزاعي " و " الثوري " و " أبي حنيفة " و " مالك " ورواية عن " أحمد ". 2 - أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات متفرقات. لما رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، عن عائشة قالت: " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يقرأ من القرآن ". وهذا تقييد لاطلاق الكتاب والسنة، وتقييد المطلق بيان، لانسخ ولا تخصيص. ولو لم يعترض على هذا الرأي، بأن القرآن لا يثبت الا متواترا، وأنه لو كان كما قالت عائشة لما خفي على المخالفين. ولاسيما الامام علي وابن عباس، نقول: لو لم يوجه إلى هذا الرأي هذه الاعتراضات لكان أقوى الاراء، ولهذا عدل الامام البخاري عن هذه الرواية. وهذا مذهب عبد الله بن مسعود، وإحدى الروايات عن عائشة، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاووس، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وابن حزم، وأكثر أهل الحديث. 3 - أن التحريم يثبت بثلاث رضعات فأكثر لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم المصة ولا المصتان ". وهذا صريح في نفي التحريم بما دون الثلاث، فيكون التحريم منحصرا فيما زاد عليهما. وإلى هذا ذهب أبو عبيد، وأبو ثور، وداود الظاهري، وابن المنذر، ورواية عن أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 لبن المرضعة يحرم مطلقا: التغذية بلبن المرضعة محرم، سواء أكان شربا أو وجورا (1) أو سعوطا (2) ، حيث كان يغذي الصبي ويسد جوعه، ويبلغ قدر رضعة، لانه يحصل به ما يحصل بالارضاع من انبات اللحم، وانشاز العظم، فيساويه في التحريم. اللبن المختلط لبن المرأة بطعام، أو شراب، أو دواء، أو لبن شاة أو غيره، وتناوله الرضيع فان كان الغالب لبن المرأة حرم، وان لم يكن غالبا فلا يثبت به التحريم. وهذا مذهب الاحناف، والمزني، وأبي ثور قال ابن القاسم من المالكية: " إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره، ثم سقيه الطفل لم تقع به الحرمة ". ويرى الشافعي، وابن حبيب، ومطرف، وابن الماجشون من أصحاب مالك: انه تقع به الحرمة بمنزلة مالو انفرد اللبن، أو كان مختلطا لم تذهب عينه. قال ابن رشد. وسبب اختلافهم: هل يبقى للتبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها؟ كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر. والاصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء، هل يطهر إذا خالطه شئ من الطاهر (3) ؟. صفة المرضعة: والمرضعة التي يثبت بلبنها التحريم، هي كل امرأة در اللبن من ثدييها،   (1) الوجور: أن يصب اللبن في حلق الصبي من غير ثدي. (2) السعوط: أن يصب اللبن في أنفه. (3) أي أنه إذا اختلط اللبن بغيره هل يبقى اطلاق اسم اللبن عليه أم لا؟! فان كان يطلق اسم اللبن عليه كان محرما وإلا فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، وسواء أكانت يائسة من المحيض أم غير يائسة، وسواء أكان لها زوج أم لم يكن. وسواء أكانت حاملا أم غير حامل. سن الرضاع: الرضاع المحرم للزواج ما كان في الحولين. وهي المدة التي بينها الله تعالى وحددها في قوله: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ". لان الرضيع في هذه المدة يكون صغيرا يكفيه اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءا من المرضعة. فيشترك في الحرمة مع أولادها. روى الدارقطني، وابن عدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لارضاع إلا في الحولين ". وروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " لا رضاع إلا ما أنشز (1) العظم، وأنبت اللحم " رواه أبو داود. وإنما يكون ذلك لمن هو في سن الحولين، ينمو باللبن عظمه، وينبت عليه لحمه. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق (2) الامعاء، وكان قبل الفطام ". رواه الترمذي وصححه. وقال ابن القيم: هذا حديث منقطع. ولو فطم الرضيع قبل الحولين واستغنى بالغذاء عن اللبن. ثم أرضعته امرأة، فان ذلك الرضاع تثبت به الحرمة عند أبي حنيفة والشافعي، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الرضاعة من المجاعة ". وقال مالك: ما كان من الرضاعة بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الماء. وقال: إذا فصل (3) الصبي قبل الحولين، أو استغنى بالفطام عن الرضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للارضاع حرمة ".   (1) انشز: قوى وشد. (2) فتق الامعاء: أي وصلها وغذاها واكتفت به عن غيره. (3) فصل: أي فطم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 رضاع الكبير: وعلى هذا فرضاع الكبير لا يحرم في رأي جماهير العلماء للادلة المتقدمة. وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه يحرم - ولو أنه شيخ كبير - كما يحرم رضاع الصغير، وهو رأي عائشة رضي الله عنها. ويروى عن علي كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث ابن سعد، وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما رواه مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت، وكانت تراه ابنا لها ". قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين رضيا لله عنها، فيمن كانت تحت أن يدخل عليها من الرجال. فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال. وروى مالك، وأحمد: أن أبا حذيفة تبنى (1) سالما. وهو مولى لامرأة من الانصار، كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا. وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس ابنه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل ": ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ". فردوا الى آبائهم. فمن لم يعلم له أب، فمولى وأخ في الدين، فجاء، سهلة. فقالت: يارسول الله كنا نرى سالما ولدا يأوي معي ومع أبي حذيفة، ويراني فضلا (2) ، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه خمس رضعات "، فكان بمنزلة ولده من الرضاعة. وعن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت: قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنها. " انه يدخل عليك الغلام الايفغ الذي ما أحب أن يدخل علي "   (1) تبنى: اتخذه ابنا له. (2) فضلا: يعني متبذلة في ثياب المهنة أو في ثوب واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 فقالت عائشة رضيا لله عنها: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟. فقالت: إن امرأة أن حذيفة قالت: يا رسول الله صلى ان سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه حتى يدخل عليك ". والمختار من هذين القولين ما حققه ابن القيم. قال: إن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولاعام في حق كل واحد، وإنما هو رخصة للحاجة، لمن لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة. فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الاسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، والاحاديث النافية للرضاع في الكبير: [إما مطلقة فتفيد بحديث سهلة، أو عامة في كل الاحوال فتخصص هذه الحال من عمومها. وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص لشخص بعينه، وأقرب الى العمل بجميع الاحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له. انتهى. الشهادة على الرضاع: شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع - إذا كانت مرضية - لما رواه عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: " قد أرضعتكما "، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. قال فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: " وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ " فنهاه عنها. احتج بهذا الحديث: طاووس، والزهري، وابن أبي ذئب، والاوزاعي، ورواية عن أحمد، على أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع. وذهب الجمهور الى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة، لانها شهادة على فعل نفسها. وقد أخرج أبو عبيد عن عمر، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس انهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فقال عمر رضي الله عنه: " ففرق بينهما ان جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته، إلا أن ينتزها (1) . ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت. ومذهب الاحناف أن الشهادة على الرضاع لابد فيها من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يقبل فيها شهادة النساء وحدهن، لقول الله عزوجل: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ". وروى البيهقي: أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأدة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما، فقال: لا: حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان. وعن الشافعي رضي الله عنه: أنه يثبت بهذا، وبشهادة أربع من النساء، لان كل امرأتين كرجل، ولان النساء يطلعن على الرضاع غالبا كالولادة. وعند مالك: تقبل فيه شهادة امرأتين بشرط فشو قولهما بذلك قبل الشهادة. قال ابن رشد: وحمل بعضهم حديث عقبة بن الحارث على الندب جمعا بينه وبين الاصول، وهو أشبه،] وهي رواية عن مالك. أبوة زوج الموضع للرضيع: إذا أرضعت امرأة رضيعا صار زوجها أبا للرضيع وأخوه عما له، لما تقدم من حديث حذيفة، ولحديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ائذني لافلح أخي أبي القعيس فانه عمك ". وكانت امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها. وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان أرضعت احداهما جارية والاخرى غلاما: أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال: " لا " اللقاح واحد. وهذا رأي الائمة الاربعة: والاوزاعي، والثوري. وممن قال به من الصحابة علي، وابن عباس رضي الله عنهما. التساهل في أمر الرضاع: كثير من النساء يتساهل في أمر الرضاع فيرضعون الولد من امرأة، أو من   (1) يتنزها: يتورعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 عدة نسوة، دون عناية بمعرفة أولاد المرضعة واخوانها، ولا أولاد زوجها - من غيرها - واخوته، ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الاحكام، كحرمة النكاح، وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب. فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته، أو عمته، أو خالته من الرضاعة، وهو لا يدري (1) . والواجب الاحتياط في هذا الامر، حتى لا يقع الانسان في المحظور. حكمة التحريم: قال في تفسير المنار (2) : إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة. فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الاولاد والوالدين من العاطفة والاريحية. فمن اكتنه السر في عطف الاب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه الى العناية بتربيته الى أن يكون رجلا مثله. فهو ينظر إليه كنظره الى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده، وممد حياته وقوام تأديبه، وعنوان شرفه. وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والاريحية يعطف الاب على ابنه، وبساعده. هذا ماقاله الاستاذ الامام محمد عبده. ولا يخفى على انسان أن عاطفة الام الوالدية أقوى من عاطفة الاب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لانها أرق قلبا، وأدق شعورا. وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها. ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها عاطفة   (1) المنار ص 470 ج. (2) ج 5 ص 29 من تفسير المنار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 جديدة، يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه. ثم انه يحب أباه، ولكن دون حبه لامه، وان كان يحترمه أشد مما يحترمها. أفليس من الجنابة على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والاولاد حب استمتاع الشهوة - فيزحمه ويفسده - وهو خير ما في هذه الحياة!! بلى: ولاجل هذا كان تحريم نكاح الامهات هو الاشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات. ولولا ما عهد في الانسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والافساد فيها، لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الامهات والبنات، لان فطرته تشعر أن النزوع الى ذلك من قبيل المستحيلات. وأما الاخوة والاخوات، فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والاولاد من حيث أنهم كأعضاء الجسم الواحد، يفان الاخ والاخت من أصل واحد يستويان في النسة إليه من غير تفاوت بينهما. ثم انهما ينشآن في حجر واحد، على طريقة واحدة في الغالب، وعاطفة الاخوة بينهما متكافئة، ليست أقوى في إحداهما منها في الاخرى، كقوة عاطفة الامومة والابوة على عاطفة البنوة. فلهذه الاسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس لآخر. إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة. ويحكى أن امرأة شفعت عند الحجاج في زوجها وابنها وأخيها، وكان يريد قتلهم، وفشفعها في واحد مبهم منهم، وأمرها أن تختار من يبقى، فاختارت أخاها، فسألها عن سبب ذلك فقالت: " ان الاخ لاعوض عنه، وقد مات الوالدان، وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما ". فأعجبه هذا الجواب وعفا عن الثلاثة. وقال: " لو اختارت الزوجة غير الاخ لما أبقيت لها أحدا ". وجملة القول: إن صلة الاخوة صلة فطرية قوية، وأن الاخوة والاخوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض، لان عاطفة الاخوة تكون هي المسؤولية على النفس بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة. فقضت حكمة الشريعة بتحريم نكاح الاخت حتى يكون لمعتلي الفطرة منفذ لاستبدال داعية الشهوة بعاطفة الاخوة. وأما العمات والخالات فهن من طينة الاب والام. وفي الحديث " عم الرجل صنو أبيه ". أي هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة. ولهذا المعنى - الذي كانت به صلة العمومة من صلة الابوة، وصلة الخؤولة من صلة الامومة - قالوا: إن تحريم الجدات مندرج في تحريم الامهات وداخل فيه، فكان من محاسن دين الفطرة المحافة على عاطفة صلة العمومة والخؤولة، والتراحم والتعاون بها، وأن لاتنزو الشهوة عليها، وذلك بتحريم نكاح العمات والخالات. وأما بنات الاخ وبنات الاخت، فهما من الانسان بمنزلة بناته، حيث أن أخاه وأخته كنفسه، وصاحب الفطرة السليمة يجد لهما هذه العاطفة يمن نفسه، وكذا صاحب الفطرة السقيمة، إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقهما. نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى لكونها بضعة منه، نمت وترعرعت بعنايته ورعايته. وأنسه بأخيه وأخته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم. وأما الفرق بين العمات والخالات، وبين بنات الاخوة والاخوات، فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان، والحب لاولئك حب تكريم واحترام. فهما - من حيث البعد عن مواقع الشهوة - متكافآن. وانما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات، لان الادلاء بهما من الآباء والامهات، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الاخوة والاخوات. هذه أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس ويتعاطفون ويتوادون ويتعاونون بها وبما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان والعطف والاحترام! فحرم الله فيها النكاح لاجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها الى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبة بينهم، كالغرباء والاجانب، والطبقات البعيدة من سلالة الاقارب، كأولاد الاعمام والعمات والاخوال والخالات. وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب، فتتسع دائرة المحبة والرحمة بين الناس. فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة. ثم قال: إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا. وهي أن تزوج الاقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل. فإذا تسلسلت واستمرت بتسلسل الضعف والضوى فيه إلى أن ينقطع، ولذلك سببان: (أحدهما) وهو الذي أشار إليه الفقهاء - أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين، وهي الشهوة. وقد قالوا: إنها تكون ضعيفة بين الاقارب. وجعلوا ذلك علة لكراهية تزوج بنات العم وبنات العمة، الى آخره. وسبب ذلك، أن هذه الشهوة شعور في النفس، يزاحمه شعور عواطف القرابة المضاد له، فإما أن يزيله، وإما أن يزلزله ويضعفه. (والسبب الثاني) يعرفه الاطباء، وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين، وهو أن الارض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها، يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى، الى أن ينقطع، لقلة المواد التي هي قوام غذائه، كثرة المواد الاخرى التي لا يتغذى منها، ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له. ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الارض نوع آخر من الحب لمناكل منهما. بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد. فإذا زرعوا حنطة في أرض، وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الارض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الارض نفسها يكون أنمى وأزكى. كذلك النساء حرث - كالارض - يزرع فيهن الولد. وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه. فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب. فان الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسادهما، ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية وبياينهما في شئ من ذلك. فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة، ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لاجل أن ترتقي السلائل البشرية ويتقارب الناس بعضهم من بعض، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض، والتزوج من الاقربين ينافي ذلك. فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا، مناف للفطرة، مخل بالروابط الاجتماعية، عائق لارتقاء البشر. وقد ذكر " الغزالي " في الاحياء: أن الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة، ألا تكون من القرابة القريبة. قال: فان الوليد يخلق ضاويا (1) . وأورد في ذلك حديث لا يصح. ولكن روى ابراهيم الحربي في غريب الحديث أن عمر قال لآل السائب: " اغتربوا لاتضووا " أي تزوجوا الغرائب لئلا تجئ أولادكم نحافا ضعافا. وعلل الغزالي ذلك بقوله: " إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الاحساس بالنظر أو اللمس وانما يقوي الاحساس بالامر الغريب الجديد. فأما المعهود الذي دام النظر إليه، فانه يضعف الحس عن تمام ادراكه والتأثر به، ولا ينبعث به الشهوة ". قال: وتعليله لا ينطبق على كل صورة، والعمدة ما قلنا. حكمة التحريم بالرضاع: وأما حكمة التحريم بالرضاعة، فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة   (1) ضاويا: أي نحيفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 القرابة بإلحاق الرضاع بها، وأن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع، وأنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته (1) . حكمة التحريم بالمصاهرة: وحكمة تحريم المحرمات بالمصاهرة أن بنت الزوجة وأمها أولى بالتحريم، لان زوجة الرجل شقيقة روحه، بل مقومة ماهيته الانسانية ومتممتها. فينبغي أن تكون أمها بمنزلة أمه في الاحترام. ويقبح جدا أن تكون ضرة لها فإن لحمة المصاهرة كلحمة النسب. فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، وتجددت في نفسه عاطفة مودة جديدة لهم. فهل يجوز أن يكون سببا للتغاير والضرار بين الام وبنتها؟ كلا. إن ذلك ينافي حكمة المصاهرة والقرابة ويكون سبب فساد العشيرة. فالموافق للفطرة، الذي تقوم به المصلحة، هو أن تكون أم الزوجة كأم الزوج، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه. وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزل ابنته، ويوجه إليها العاطفة يالتي يجدها لبنته، كما ينزل الابن امرأة أبيه منزلة أمه. وإذا كان من رحمة الله وحكمته أن حرم الجمع بين الاختين وما في معناهما لتكون المصاهرة لحمة مودة غير مشوبة بسبب من أسباب الضرار والنفرة، فكيف يعقل أن يبيح نكاح من هي أقرب إلى الزوجة، كأمها أو بنتها، أو زوجة الوالد للولد، وزوجة الولد للوالد؟ وقد بين لنا أن حكمة الزواج هي سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخره، والمودة والرحمة بينهما وبين من يلتحم معهما بلحمة النسب فقال: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة ". فقيد سكون النفس الخاص بالزوجية، ولم يقيد المودة والرحمة، لانها تكون بين الزوجين ومن يلتحم معهما بلحمة النسب، وتزداد وتقوى بالولد. اه.   (1) يرث منها: أي من طباعها وأخلاقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 المحرمات مؤقتا (1) : الجمع بين المحرمين: يحرم الجمع بينا الأختين (1) ، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، كما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة، لو كانت إحداهما رجلا لم يجزله التزوج بالاخرى. ودليل ذلك: 1 - قول الله تعالى: " وأن تجمعوا بين الاختين إلاما قد سلف " (2) . 2 - وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. 3 - وما رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه، عن فيروز الديلمي أنه أدركه الاسلام وتحته أختان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طلق أيتهما شئت ". 4 - عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال: " إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ". قال القرطبي: ذكره أبو محمد الاصيلي في فوائده، وابن عبد البر، وغيرهما. 5 - ومن مراسيل بي داود، عن حسين بن طلحة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة. وفي حديث ابن عباس، وحسين بن طلحة التنبيه على المعنى الذي من أجله حرم هذا الزواج، وهو الاحتراز عن قطع الرحم بين الاقارب، فان   (1) سواء أكان ذلك بعقد زواج أو بملك يمين. (2) أي وحرم عليكم الجمع بين الاختين معا، في التزوج وفي ملك اليمين، الا ماكان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الجمع بينهما يولد التحاسد ويجر الى البغضاء، لان الضرتين قلما تسكن عواصف الغيرة بينهما. وهذا الجمع بين المحارم كما هو ممنوع في الزواج فهو ممنوع في العدة. فقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا فلا يجوز له أن يتزوج أختها، أو أربعا سواها حتى تنقضي عدتها، لان الزواج قائم وله حق الرجعة في أي وقت. واختلفوا فيما إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك معه رجعتها. فقال علي، وزيد بن ثابت، ومجاهد، والنخعي، وسفيان الثوري، والاحناف وأحمد: ليس له أن يتزوج أختها ولا أربعة حتى تنقضي عدتها، لان العقد أثناء العدة باق حكما حتى تنقضي، بدليل أن لها نفقة العدة. قال ابن المنذر،: ولا أحسبه إلا قول مالك، وبه نقول، أن له أن يتزوج أختها أو أربعا سواها. وقال سعيد بن المسيب، والحسن، والشافعي: لان عقد الزواج قد انتهى بالبينونة، فلم يوجد الجمع المحرم. ولو جمع رجل بين المحرمات فتزوج الاختين مثلا، فاما أن يتزوجهما بعقد واحد أو بعقدين، فان تزوجهما بعقد واحد وليس بواحدة منهما مانع فسد عقده عليهما، وتجري على هذا العقد أحكام الزواج الفاسد. فيجب الافتراق عن المعاقدين، وإلا فرق بينهما القضاء. وإذا حصل التفريق قبل الدخول فلا مهر لواحدة منهما، ولا يترتب على مجرد هذا العقد أثر. وان حصل بعد الدخول فللمدخول بها مهر المثل، أو الاقل من مهر المثل، والمسمى. ويترتب على الدخول بها سائر الآثار التي تترتب على الدخول بعد الزواج الفاسد. أما إذا كان باحداهما مانع شرعي، بأن كانت زوجة غيره، أو معتدته مثلا، والاخرى ليس بها مانع، فان العقد بالنسبة للخالية من المانع صحيح، وبالنسبة للاخرى فاسد تجري عليه أحكامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وان تزوجهما بعقدين متعاقبين، واستوفى كل واحد من العقدين أركانه وشروطه، وعلم أسقهما فهو الصحيح، واللاحق فاسد. وان استوفى أحدهما فقط شروط صحته فهو الصحيح سواء كان السابق أو اللاحق. وان لم يعلم أسبقهما، أو علم ونسي، كأن يوكل رجلين بتزويجه فيزوجانه من اثنتين، ثم يتبين أنهما أختان، ولا يعلم أسبق العقدين، أو علم ونسي، فالعقدان غير صحيحين لعدم المرجح، وتجري عليهما أحكام الزواج الفاسد (1) . (2 و 3) زوجة الغير ومعتدته: يحرم على المسلم أن يتزوج زوجة الغير، أو معتدته رعاية لحق الزوج، لقول الله تعالى: " والمحصنات من النساء يإلا ما ملكت أيمانكم ". أي حرمت عليكم المحصنات من النساء، أي المتزوجات منهن إلا المسبيات، فان المسبية تحل لسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت متزوجة، لما رواه مسلم وابن أبي شيبة، عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه سولم بعث جيشا الى لوطاس، فلقي عدوا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكان ناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: " والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم " أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، والاستبراء يكون بحيضة. قال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبرئون المسبية بحيضة، وأما المعتدة فقد سبق الكلام عليها في باب " الخطبة ". (4) المطلقة ثلاثا: المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الاول حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا (2)   (1) أحكام الاحوال الشخصية للاستاذ عبد الوهاب خلاف. (2) يراجع فصل التحليل من هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 (5) عقد المحرم: يحرم على المحرم، أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره بولاية، أو وكالة، ويقع العقد باطلا، لاتترتب عليه آثاره الشرعية. لما رواه مسلم وغيره، عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه الترمذي وليس فيه ولا يخطب. وقال حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد، واسحق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل، وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، لانه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة وذهب الاحناف إلى جواز عقد النكاح للمرحم. لان الاحرام لايمنع صلاحية المرأة للعقد عليه، وإنما يمنع صحية الجماع لاصحية العقد. (6) زواج الامة مع القدرة على الزواج بالحرة: اتفق العلماء على أنه يجوز للعبد أن يتزوج الامة، وعلى أنه يجوز للحرة أن تتزوج العبد إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها كما اتتفقوا على أنه لا يجوز أن تتزوج من ملكته، وأنه إذا ملكت زوجها انفسخ النكاح. واختلفوا في زواج الحر بالامة. فرأي الجمهور أنه لا يجوز زواج الحر بالامة إلا بشرطين: (أولهما) عدم القدرة على نكاح الحرة. (وثانيهما) خوف العنت.   (1) سرف: أسم لمكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 واستدلوا على هذا بقول الله تعالى: " ومن لم يستطع منكم طولا (1) أن ينكح المحصنات (2) المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم (3) المؤمنات ". إلى قوله تعالى: " ذلك لمن خشي العنت (4) منكم، وأن تصبروا خير لكم ". قال القرطبي: الصبر على العزبة خير من نكاح الامة، لانه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس، والصبر على مكارم الاخلاق أولى من البذالة روي عن عمر أنه قال: أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه (5) وعن الضحاك بن مزاحم قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ". رواه ابن ماجه، وفي إسناده ضعف. وذهب أبو حنيفة إلى أن للحر أن يتزوج أمة، ولو مع طول حرة، إلا أن يكون تحته حرة. فان كان في عصمته زوجة حرة حرم عليه أن يتزوج عليها محافظة على كرامة الحرة. (7) زواج الزانية: لا يحل للرجل أن يتزوج بزانية، ولا يحل للمرأة أن تتزوج بزان، إلا أن يحدث كل منهما توبة. ودليل هذا: 1 - أن الله جعل العفاف شرطا يجب توفره في كل من الزوجين قبل الزواج. فقال تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. وطعامكم حل لهم، والمحصنات، من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم.   (1) طولا: سعة وقدرة. (2) المحصنات: الحرائر العفائف. (3) فتيات: إماء. (4) العنت: الزنا (5) أرق نصفه: يعني يصير ولده رقيقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 إذا آتيتموهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " (1) . أي أن الله كما أحل الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، أحل زواج العفيفات من المؤمنات، والعفيفات من أهل الكتاب، في حال كون الازواج أعفاء غير مسافحين ولا متخذي أخدان (2) . 2 - وذكر ذلك في زواج الاماء عند العجز عن طول الحرة فقال: " فالنكحوهن باذن أهلهن، وآتوهن أجورهن (3) بالمعروف محصنا ت غير مسافحات (4) ولا متخذات أخذان " (5) . 3 - يؤيد هذا ما جاء صريحا في قول الله تعالى: " الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين " (6) . ومعنى ينكح: يعقد. وحرم ذلك، أي وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا من هو متصف بالزنا أو بالشرك، فانه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك. 4 - ما رواه عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الاسارى بمكة، وكان بمكة يبغي يقال لها عناق، وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أأنكح عناقا؟ قال: فسكت عني. فنزلت: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ". فدعاني فقرأها علي وقال: " لا تنكحها " رواه أبو داود والترمذي والنسائي. 5 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " رواه أحمد وأبو داود.   (1) سورة المائدة آية 5 (2) أخدان " جمع خدن وخدين ": أصدقاء. (3) أجورهن: مهورهن. (4) مسافحات: زوان. (5) سورة النساء آية: 25 (6) سورة النور آية: 3 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 قال الشوكاني: هذا الوصف خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا. وفيه دليل على أنه لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا. وكذلك لا يحل للمرأة أن تتزوج بمن ظهر منه الزنا. ويدل على ذلك الآية المذكورة في الكتاب الكريم، لان في آخرها: " وحرم ذلك على المؤمنين " فانه صريح في التحريم. الزنا والزواج : وثمة فرق كبير بين الزواج، والعملية التناسلية، فان الزواج هو نواة المجتمع، وأصل وجوده، وهو القانون الطبيعي الذي يسير العالم على نظامه، والسنة الكونية التي تجعل للحياة قيمة وتقديرا. وأنه هو الحنان الحقيقي والحب الصحيح، وهو التعاون في الحياة والاشتراك في بناء الاسرة وعمار العالم. غاية الاسلام من تحريم نكاح الزنا: والاسلام لم يرد للمسلم أن يلقى بين أنياب الزانية، ولا للمسلمة أن تقع في يد الزاني، وتحت تأثير روحه الدنيئة، وأن تشاركه تلك النفس السقيمة، وأن تعاشر ذلك الجسم الملوث بشتى الجراثيم، المملوء بمختلف العلل والامراض. والاسلام - في كل أحكامه وأوامره وفي كل محرماته ونواهيه - لا يريد غير إسعاد البشر والسمو بالعالم الى المستوى الاعلى الذي يريد الله أن يبلغه الجنس البشري. الزناة ينبوع لاخطر الامراض: وكيف يسعد الزناة في دنياهم وهم ينبوع لاخطر الامراض وأشدها فتكا بهم، وأكثرها تغلغلا في جميع أعضائهم؟!! ولعل الزهري والسيلان من الامراض التناسلية التي تجعل - وحدها - الزناة شرا مستطيرا يجب اقتلاعه من العالم وخلعه من الارض. وكيف تسعد انسانية فيها مثل هؤلاء الزناة. ينقلون أمراضهم النفسية إلى   (1) من كتاب الاسلام والطب الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 نسلهم، وينقلون مع هذه الامراض النفسية أمراض الزهري الوراثي؟ بل كيف تسعد عائلة تلد أطفالا مشوهي الخلق والخلق بسبب الالتهابات التي تصيب الاعضاء التناسلية، والعلل التي تطرأ عليها. وجه الشبه بين الزناة والمشركين: والمسلم المتأدب بأدب القرآن الكريم، المتبع لسنة أفضل الخلق سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يعيش مع زانية لا تفكر تفكيره، ولا يستطيع أن يعاشر امرأة لاتحيى حياته المستقيمة، ولا يستطيع الارتباط برابطة الزواج مع كائنة لا تشعر شعوره، وهو يعلم أن الله تعالى قال عن الزواج: " خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة ". فأين المودة التي تحصل بين المسلم والزانية؟ وأين نفس الزانية من تلك النفس التي تسكن إليها نفس المؤمن الصحيح الايمان؟. وأن المسلم الذي لايستطيع نكاح الزانية - كما بينا لفساد نفسها وشذوذ عاطفتها - لا يمكن كذلك أن يعيش مع مشركة لا تعتقد اعتقاده، ولا تؤمن إيمانه، ولا ترى في الحياة ما يراه. لا تحرم ما يحرمه عليه دينه من الفسق والفجور. ولا تعترف بالمبادئ الانسانية السامية التي ينص عليها الاسلام. لها عقيدتها الضالة واعتقاداتها الباطلة. لها التفكير البعيد عن تفكيره، والعقل الذي لايمت الى عقله بصلة. ولذلك قال الله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك، ولو أعجبكم. أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 التوبة تجب ما قبلها: فان تاب كل من الزاني والزانية توبة نصوحا بالاستغفار والندم والاقلاع عن الذنب، واستأنف كل منهما حياة نظيفة مبرأة من الاثم ومطهرة من الدنس، فان الله يقبل توبتهما ويدخلهما برحمته في عباده الصالحين: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما ". سأل رجل ابن عباس فقال: إني كنت ألم بامرأة، آتي منها ما حرم الله علي، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها. فقال أناس: " إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ". فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا، انكحها، فما كان من إثم فعلي. رواه بن أبي حاتم. وسئل ابن عمر عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: إن تابا وأصلحا. وأجاب بمثل هذا جابر بن عبد الله، وروى ابن جرير أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها، فأدركت، فداووها حتى برأت. ثم ان عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلسها، ويكره أن يغش على ابنة أخيه. فأتى عمرا فذكر ذلك له. فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه. وفي رواية أن عمر قال: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لاجعلنك نكالا لاهل الامصار، بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وقال عمر: لقد هممت ألا أدع أحدا أصاب فاحشة في الاسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب. ويرى أحمد أن توبة المرأة تعرف بأن تراود عن لفسها، فان أجابت، فتوبتها غير صحيحة، وان امتنعت فتوبتها صحيحة. وقد تابع في ذلك ما روي عن ابن عمر. ولكن أصحابه قالوا (1) : لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا ويطلبه منها. لان طلبه ذلك منها يكون في خلوة، ولا تحل الخلوة بأجنبية، ولو كان في تعليمها القرآن، فكيف يحل في مراودتها على الزنا؟. ثم لا يأمن إن أجابته الى ذلك أن تعود الى المعصية، فلا يحل التعرض لمثل هذا. لان التوبة من سائر الذنوب، وفي حق سائر الناس، وبالنسبة إلى سائر الاحكام على غير هذا الوجه، فكذلك يكون هذا. وإلى هذا (2) ذهب الامام أحمد، وابن حزم، ورجحه ابن تيمية وابن القيم. إلا أن الامام أحمد ضم الى التوبة شرطا آخر، وهو انقضاء العدة. فمتى تزوجها قبل التوبة أو انقضاء عدتها، كان الزواج فاسدا ويفرق بينهما. وهل عدتها ثلاث حيض، أو حيضة؟. روايتان عنه. ومذهب الحنفية، والشافعية، والمالكية، أنه يجوز للزاني أن يتزوج الزانية، والزانية يجوز لها أن تتزوج الزاني، فالزنا لايمنع عندهم صحة العقد. قال ابن رشد: وسبب اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ". هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الاشارة في قوله تعالى: " وحرم ذلك على المؤمنين " الى الزنا أو النكاح؟.   (1) المغني لابن قدامة. (2) اي الى أنه لا يحل زواج الزانية أو الزاني قبل التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذم لاعلى التحريم، لما جاء في الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته: انها لا ترد يد لامس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " طلقها " فقال له: إني أحبها. فقال له: " أمسكها " (1) . ثم ان المجوزين اختلفوا في زواجها في عدتها. فمنعه " مالك " احتراما لماء الزوج وصيانة لاختلاط النسب الصريح بولد الزنا. وذهب أبو حنيفة، والشافعي، إلى أنه يجوز العقد عليها من غير انقضاء عدة. ثم ان الشافعي يجوز العقد عليها وان كانت حاملا لانه لاحرمة لهذا الحمل. وقال أبو يوسف، ورواية عن أبي حنيفة: لا يجوز العقد عليها حتى تضع الحمل لئلا يكون الزوج قد سقى ماؤه زرع غيره. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن توطأ المسبية الحامل حتى تضع) ، مع أن حملها مملوك له. فالحامل من الزنا أولى ألا توطأ حتى تضع. لان ماء الزاني وان لم يكن له حرمة، فماء الزوج محترم، فكيف يسوغ له أن يخلطه بماء الفجور؟. ولان النبي صلى الله عليه وسلم هم بلعن الذي يريد أن يطأ أمته الحامل من غيره وكانت مسبية، مع انقطاع الولد عن أبيه وكونه مملوكا له. وقال أبو حنيفة في الرواية الاخرى يصح العقد عليها، ولكن لا توطأ حتى تضع (2) . اختلاف حالة الابتداء عن حالة البقاء: ثم ان العلماء قالوا ان المرأة المتزوجة إذا زنت لا ينفسخ النكاح، وكذلك   (1) قال أحمد: هذا الحديث منكر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وأورد أبو عبيد على هذا الحديث انه خلاف الكتاب والسنة المشهورة، لان الله انما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم انزل في القاذف آية اللعان، وسن رسول الله التفريق بينهما فلا يجتمعان أبدا. فكيف يأمر بالاقامة على عاهر لا تمتنع ممن أرادها، والحديث مرسل. وقال ابن القيم عورض بهذا الحديث المتشابه الاحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج البغايا. (2) تهذيب السنة: جزء 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الرجل، لان حالة الابتداء تفارق حالة البقاء. وروي عن الحسن، وجابر بن عبد الله: أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما. واستحب أحمد مفارقتها وقال: لا أرى أن يمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولدا ليس منه. (8) زواج الملاعنة: لا يحل للرجل أن يتزوج المرأة التي لاعنها، فانها محرمة عليه حرمة دائمة بعد اللعان. يقول الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " (1) . (9) زواج المشركة: اتفق العلماء على أنه لا يحل للمسلم أن يتزوج الوثنية، ولاالزنديقة، ولاا لمرتدة عن الاسلام، ولا عابدة البقر، ولا المعتقدة لمذهب الاباحة - كالوجودية ونحوها من مذاهب الملاحدة - ودليل ذلك قول الله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم. ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون الى النار، والله يدعو الى الجنة والمغفرة بإذنه " (2) .   (1) سورة النور آية 6، 7، 8، 9. (2) سورة البقرة آية 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 سبب نزول هذه الآية: 1 - قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي. بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها " عناق " فجاءته فقال لها: إن الاسلام حرم ماكان في الجاهلية، قالت: فتزوجني. قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله فاستأذنه، فنهاه عن التزوج بها لانه مسلم، وهي مشركة (1) . 2 - وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فالطمها. ثم انه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ماهي يا عبد الله؟ ". قال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: " يا عبد الله هي مؤمنة ". قال عبد الله فوالذي بعثك بالحق لاعتقنها ولاتزوجنها، ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ". الآية. قال في المغني: وسائر الكفار غير أهل الكتاب - كمن عبد ما استحسن من الاصنام والاحجار والشجر والحيوان - فلاخلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم. قال: والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت زواج نساء أهل الكتاب : يحل للمسلم أن يتزوج الحرة من نساء أهل الكتاب لقول الله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل   (1) الجامع لاحكام القرآن ج 3 ص 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ". قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الاوائل أنه حرم ذلك. وعن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن زواج الرجل بالنصرانية أو اليهودية، قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الاشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله. قال القرطبي. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة. لانه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان، وطلحة، وابن عباس، وجابر، وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وطاووس، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، وفقهاء الامصار. ولا تعارض بين الآيتين، فان ظاهر لفظ " الشرك " لا يتناول أهل الكتاب لقول الله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ففرق بينهم في اللفظ. وظاهر العطف يقتضي المغايرة. وتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت القراقصة الكلبية النصرانية، وأسلمت عنده. وتزوج حذيفة يهودية من أهل المدائن. وسئل جابر عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: تزوجنا بهن زمن الفتح مع سعد بن أبي وقاص. كراهة الزواج منهن: والزواج بهن - وان كان جائزا - إلا أنه مكروه، لانه لا يؤمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدين، أو يتولى أهل دينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 فإن كانت حربية (1) فالكراهية أشد، لانه يكثر سواد أهل الحرب. ويرى بعض العلماء حرمة الزواج من الحربية. فقد سئل ابن عباس عن ذلك فقال لا تحل، وتلا قول الله عزوجل: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ". قال القرطبي: وسمع بذلك ابراهيم النخعي فأعجبه. حكمة إباحة التزوج منهن: وإنما أباح الاسلام الزواج منهن ليزيل الحواجز بين أهل الكتاب وبين الاسلام. فان في الزواج المعاشرة والمخالطة وتقارب الاسر بعضها ببعض، فتتاح الفرص لدراسة الاسلام، ومعرفة حقائقه ومبادئه ومثله. فهو أسلوب من أساليب التقريب العملي بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، ودعاية للهدى ودين الحق. فعلى من يبتغي الزواج منهن أن يجعل ذلك غاية من غاياته، وهدفا من أهدافه. الفرق بين المشركة والكتابية (2) : والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة، ويوجب عليها الامانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة الى طبيعتها وما تربت عليه في عشيرها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها وأماني الشياطين وأحلامها، تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها. فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها. وإن نبا طرفه عن حسن الصورة، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة،   (1) الحربية: المقيمة في غير ديار الاسلام. (2) المنار: ج 2 ص 356، 357. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فقد تنغص عليه التمتع بالجمال، على ما هو عليه من سوء الحال. وأما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة. فانها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالانبياء، وبالحياة الاخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر. والفرق الجوهري العظيم بينهما، هو الايمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الايمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به. وكونه قد جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه، واستعداده لاكثر مما هو فيه، أو المعاندة والمجاحدة في الظاهر، مع الاعتقاد في الباطن - وهذا قليل - والكثير هو الاول. ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل أحقية دينه وحسن شريعته والوقوف على سيرة من جاء بها، وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات، فيكمل إيمانها ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين إن كانت من المحسنات في الحالين. ا. هـ. زواج الصابئة: الصابئون هم قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى. وليس لهم دين. قال مجاهد: وقيل هم فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور. وعن الحسن أنهم قوم يعبدون الملائكة. وقال عبد الرحمن بن زيد: هم أهل دين من الاديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل، ولا كتاب، ولا نبي، إلا قول لا إلا إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول. فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء الصابئون "، يشبهونهم بهم في قول لا إله إلا الله. قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون، ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة. واختار الرازي: أنهم قوم يعبدون الكواكب، بمعنى أن الله جعلها قبلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها. وبناء على هذا اختلفت أنظار الفقهاء في حكم التزوج منهم. فمنهم من رأى أنهم أصحاب كتاب دخله التحريف والتبديل، فسوى بينهم وبين اليهود والنصارى، وأنهم بمقتضى هذا يصح الزواج منهم لقول الله عزوجل: " اليوم أجل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " الآية. وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه. ومنهم من تردد، لعدم معرفة حقيقة أمرهم فقالوا: إن وافقوا اليهود والنصارى في أصول الدين - من تصديق الرسل والايمان بالكتب - كانوا منهم. وإن خالفوهم في أصول الدين لم يكونوا منهم، وكان حكمهم حكم عباد الاوثان. وهذا هو المروي عن الشافعية والحنابلة. زواج المجوسية (1) : قال ابن المنذر: ليس تحريم نكاح المجوس وأكل ذبائحهم متفقا عليه. ولكن أكثر أهل العلم عليه، لانه ليس لهم كتاب، ولا يؤمنون بنبوة، ويعبدون النار. وروى الشافعي أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) ". فهذا دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب. وسئل الامام أحمد: أيصح على أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل، وأستعظمه جدا.   (1) المجوس: هم عبدة النار. (2) اي حقن دمائهم واقرارهم على الجزية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وذهب أبو ثور الى حل التزوج بالمجوسية، لانهم يقرون على دينهم بالجزية كاليهود والنصارى. الزواج ممن لهم كتاب غير اليهود والنصارى: ذهبت الاحناف الى أن كل من يعتقد دينا سماويا، وله كتاب منزل، كصحف ابراهيم، وشيت، وزبور داود، عليهم السلام، يصح الزواج منهم وأكل ذبائحهم ما لم يشركوا. وهو وجه في مذهب الحنابلة، لانهم ممسكوا بكتاب من كتب الله فأشبهوا اليهود أو النصارى. ومذهب الشافعية، ووجه عند الحنابلة: أنه لا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم لقول الله تعالى: " أن تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " الآية. ولان تلك الكتب كانت مواعظ وأمثالا لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الاحكام. زواج المسلمة بغير المسلم : أجمع العلماء على أنه لا يحل للمسلمة أن تتزوج غير المسلم، سواء أكان مشركا أو من أهل الكتاب. ودليل ذلك أن الله تعالى قال: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن (1) ". وحكمة ذلك أن للرجل حق القوامة على زوجته، وأن عليها طاعته فيما يأمرها به من معروف، وفي هذا معنى الولاية والسلطان عليها. وما كان لكافر أن يكون له سلطان على مسلم أو مسلمة.   (1) في هذه الآية أمر الله المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات ان يمتحنوهن فان علموهن مؤمنات فلايرجعوهن الى الكفار، لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن. ومعنى الامتحان أن يسألوهن عن سبب ما جاء بهن، هل خرجن حبا في الله ورسوله وحرصا على الاسلام؟..فان كان ذلك كذلك قبل ذلك منهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 يقول الله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ". ثم ان الكافر لا يعترف بدين المسلمة، بل يكذب بكتابها، ويجحد رسالة نبيها، ولا يمكن لبيت أن يستقر ولا لحياة أن تستمر مع هذا الخلاف الواسع والبون الشاسع. وعلى العكس من ذلك المسلم إذا تزوج بكتابية، فانه يعترف بدينها، ويجعل الايمان بكتابها وبنبيها جزءا لايتم إيمانه إلا به. (10) الزيادة على الاربع: يحرم على الرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع روجات في وقت واحد، إذ أن في الاربع الكفاية، وفي الزيادة عليها تفويت الاحسان الذي شرعه الله لصلاح الحياة الزوجية، والدليل على ذلك قول الله تعالى: " وان خفتم (1) ألا تقسطوا (2) في اليتامى فانكحوا ما (3) طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا (4) ". سبب نزول هذه الآية: روى البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، عن عروة بن الزبير " أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ". فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليها فتشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في   (1) خفتم: أي غلب على ظنكم التقصير في القسط لليتيمة فاعدلوا عنها إلى غيرها، وليس لهذا القيد مفهوم، فقد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى فله ان يتزوج أكثر من واحدة، اثنين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف. (2) تقسطوا: تعدلوا. من " أقسط " إذا عدل و " قسط " إذا ظلم. (3) ما: بمعنى من: أي من طاب. (4) أدنى الا تعولوا: أي أقرب الا تميلوا عن الحق وتجوروا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم ان الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله عزوجل: " يستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن ". قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الاولى التي قال الله سبحانه فيها: " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ". قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الاخرى: " وترغبون أن تنكحوهن ". هي رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إن كن قليلات المال والجمال. معنى الآية: ويكون معنى الآية على هذا أن الله سبحانه وتعالى يخاطب أولياء اليتامى فيقول: إذا كانت اليتيمة في حجر أحدكم وتحت ولايته، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل عنها إلى غيرها من النساء، فانهن كثيرات، ولم يضيق الله عليه فأحل له من واحدة الى أربع. فان خاف أن يجور إذا تزوج أكثر من واحدة، فواجب عليه أن يقتصر على واحدة، أو ما ملكت يمينه من الاماء. افادتها الاقتصار على الاربع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لاحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وقال بعضهم بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح. وقد رد الامام القرطبي على هؤلاء فقال: اعلم أن هذا العدد " مثنى " و " ثلاث " و " رباغ " لا يدل على إباحة تسع كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الامة، وزعم أن الواو جامعة. وعضد ذلك بأن النبي نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة، الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا " مثنى " مثل اثنين اثنين. وكذلك ثلاث، ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثماني عشرة تمسكا منه بأن العدد في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع. فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان (1) والسنة، ومخالفة لاجماع الامة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في الموطأ، والنسائي، والدارقطني، في سننها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: " اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن ". وفي كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اختر منهن أربعا ". وقال مقاتل: ان قيس بن الحارث كان عنده ثماني نسوة حرائر، فلما   (1) اللسان: اللغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 نزلت الاية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا، ويمسك أربعا، كذا قال قيس بن الحارث. والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الاسدي كما ذكر أبو داود. وكذا روى " محمد بن الحسن " في كتاب " السير " الكبير، أن ذلك كان حارث بن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذلك من خصوصياته. وأما قولهم: ان الواو جامعة، فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة، وأن تقول اثنين وثلاثة، وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول أعط فلانا أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول، ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي أنكحوا ثلاثة بدلا من مثنى، ورباعا بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف ب " أو ". ولو جاء ب " أو " لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثا، ورباع أربعا فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم. وكذلك جهله الاخرون لان مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث: ثلاثا ثلاثا، ورباع: أربعا أربعا. ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى وثلاث ورباع بخلافها. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الاصل. وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك معدول العدل. وقال غيره فإذا قالت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث، أو آحاد، أو عشار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فانما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة. وليس هذا المعنى في الاصل لانك إذا قلت: جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة. فإذا قلت جاءوني ثناء ورباع، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك اثنين اثنين، أو أربعة أربعة، سواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب. فقصرهم كل صيغة على أقل مما تقتضيه بزعمهم تحكم. انتهى. وجوب العدل بين الزوجات : أباح الله تعدد الزوجات وقصره على أربع، وأوجب العدل بينهن في الطعام والسكن والكسوة والمبيت (1) ، وسائر ما هو مادي من غير تفرقة بين غنية وفقيرة، وعظيمة وحقيرة، فان خاف الرجل الجور وعدم الوفاء بحقوقهن جميعا حرم عليه الجمع بينهن، فان قدر على الوفاء بحق ثلاث منهن دون الرابعة حرم عليه العقد عليها. فان قدر على الوفاء بحق اثنتين دون الثالثة حرم عليه العقد عليها. وكذلك من خاف الجور بزواج الثانية حرمت عليه لقول الله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا ". أي أقرب ألا تجوروا. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه. ولا تعارض بين ما أوجبه الله من العدل في هذه الاية وبين ما نفاه الله في الاية الاخرى من سورة النساء وهي: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة "   (1) أي يبيت عند الواحدة مقدار ما يبيت عند الاخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 فان العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه وليس هو العدل في المودة والمحبة، فان ذلك لا يستطيعه أحد، بل العدل المبتغى هو العدل في المحبة والمودة والجماع. قال محمد بن سيرين سألت عبيدة عن هذه الاية فقال هو الحب والجماع. قال ابو بكر بن العربي: وصدق، فان ذلك لا يملكه أحد إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء، وكذلك الجماع فقد ينشط للواحدة مالا ينشط للاخرى، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه، فانه مما لا يستطيعه، فلا يتعلق به تكليف. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تلك ولا أملك " قال أبو داود: يعني القلب. رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الخطابي في هذا دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر، وإنما المكروه في الميل، هو ميل العشرة الذي يكون معه نجس الحق، دون ميل القلوب، فان القلوب لا تملك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول: " اللهم هذا قسمي " الحديث. وفي هذا نزل قوله تعالى: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ". وإذا سافر الزوج فله أن يصطحب من شاء منهن وان أقرع بينهن كان حسنا. ولصاحبة الحق في القسم أن تنزل عن حقها، إذ أن ذلك خالص حقها، فلها أن تهيه لغيرها. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة (1) .   (1) قال الخطابي: فيه اثبات القرعة، وفيه ان القسم قد يكون بالنهار كما يكون بالليل. وفيه أن الهبة قد تجري في حقوق عشرة الزوجية كما تجري في حقوق الاموال. واتفق أكثر أهل العلم على أن المرأة التي يخرج بها في السفر لا تحتسب عليها تلك المدة للبواقي، ولا يقاص بما فاتهن من أيام الغيبة إذا كان خروجها بقرعة. وزعم بعض أهل العلم ان عليه أن يوفي للبواقي ما فاتهن ايام غيبته حتى يساوينها في الحظ. والقول الاول أولى لاجتماع عامة أهل العلم عليه، ولانها أنما أرفقت بزيادة الحظ لكان في ذلك مما يلحقها من مشقة السفر وتعب السير: والقواعد خليات من ذلك. فلو سوى بينها وبينهن العدول عن الانصاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 حق المرأة في اشتراط عدم التزوج عليها : كما أن الاسلام قيد التعدد بالقدرة على العدل، وقصره على أربع، فقد جعل من حق المرأة أو وليها أن يشترط ألا يتزوج الرجل عليها. فلو شرطت الزوجة في عقد الزواج على زوجها ألا يتزوج عليها صح الشرط ولزم، وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم يف لها بالشرط، ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته، ورضيت بمخالفته. وإلى هذا ذهب الامام أحمد، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم. إذ الشروط في الزواج أكبر خطرا منها في البيع والاجارة، ونحوهما، فلهذا يكون الوفاء بما التزم منها أوجب وآكد. واستدلوا لمذهبهم هذا بما يأتي: 1 - بما رواه البخاري، ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج ". 2 - ورويا عن عبد الله بن أبي مليكة أن المسور بن مخرمة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: " إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم من علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها " وفي رواية: " إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها ". ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه، فأحسن، قال: " حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحدا أبدا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 قال ابن القيم: فتضمن هذا الحكم أمورا: أن الرجل إذا اشترط لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ. ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يؤذي فاطمة رضي الله عنها، ويريبها، وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه. ومعلوم قطعا أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضي الله عنها على ألا يؤذيها، ولا يريبها، ولا يؤذي أباها صلى الله عليه وسلم ولا يريبه، وإن لم يكن هذا مشروطا في صلب العقد، فانه من المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه. وفي ذكره صلى الله عليه وسلم صهره الاخر وثنائه عليه بأنه حدثه فصدقه ووعده فوفى له، تعريض بعلي رضي الله عنه وتهييج له على الاقتداء به، وهذا يشعر بأنه قد جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها. فهيجه على الوفاء له، كما وفى له صهره الاخر. فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفا كالمشروط لفظا، وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه، فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم ولا يمكنون الزوج من ذلك البتة. واستمرت عادتهم بذلك، كان كالمشروط لفظا، وهو مطرد على قواعد أهل المدينة. وقواعد أحمد رحمه الله، أن الشرط العرفي كاللفظي سواء، ولهذا أوجبوا الاجرة على من دفع ثوبه الى غسال أو قصار، أو عجينه إلى خباز، أو طعامه إلى طباخ يعملون بالاجرة، أو دخل الحمام واستخدم من يغسله ممن عادته أن يغسل بالاجرة، أنه يلزمه أجرة المثل. وعلى هذا فلو فرض أن المرأة من بيت لا يتزوج الرجل على نسائهم ضرة، ولا يمكنونه من ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك كان كالمشروط لفظا. وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا يمكن إدخال الضرة عليها عادة لشرفها، وحسبها، وجلالتها، كان ترك التزوج عليها كالمشروط لفظا. وعلى هذا فسيدة نساء العالمين، وابنة سيد ولد آدم أجمعين، أحق النساء بهذا، فلو شرطه علي في صلب العقد كان تأكيدا لا تأسيسا، وفي منع علي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الجمع بين فاطمة رضي الله عنها وبين بنت أبي جهل حكم حكم بديعة، وهي أن المرأة مع زوجها في درجة تبع له، فان كانت في نفسها ذات درجة عالية وزوجها كذلك، كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأن فاطمة وعلي رضي الله عنهما. ولم يكن الله عز وجل ليجعل ابنة أبي جهل مع فاطمة رضي الله عنها في درجة واحدة، لا بنفسها ولا تبعا، وبينهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن نكاحها على سيدة نساء العالمين مستحسنا، لا شرعا ولا قدرا، وقد أشار صلى الله عليه وسلم الى هذا بقوله: " والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحدا أبدا ". فهذا إما أن يتناول درجة الاخر بلفظه أو اشارته. انتهى. وقد تقدم رأي الفقهاء في اشتراط مثل هذا الشرط ونحوه مما فيه للمرأة، فليرجع إليه. حكمة التعدد : 1 - من رحمة الله بالانسان وفضله عليه أن أباح له تعدد الزوجات، وقصره على أربع. فللرجل أن يجمع في عصمته في وقت واحد أكثر من واحدة، بشرط أن يكون قادرا على العدل بينهن في النفقة والمبيت كما تقدم. فإذا خاف الجور وعدم الوفاء بما عليه من تبعات حرم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة. بل إذا خاف الجور بعجزه عن القيام بحق المرأة الواحدة حرم عليه أن يتزوج حتى تتحق له القدرة على الزواج (1) . وهذا التعدد ليس واجبا ولا مندوبا، وإنما هو أمر أباحه الاسلام، لان ثمة مقتضيات عمرانية وضرورات إصلاحية لا يجمل بمشترع إغفالها، ولا ينبغي له التغاضي عنها.   (1) يراجع حكم الزواج من هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 2 - ذلك أن للاسلام رسالة إنسانية عليا كلف المسلمون أن ينهضوا بها، ويقوموا بتبليغها للناس. وهم لا يستطيعون النهوض بهذه الرسالة إلا إذا كانت لهم دولة قوية، قد توفر لها جميع مقومات الدولة: من الجندية، والعلم، والصناعة، والزراعة والتجارة، وغير ذلك من العناصر التي يتوقف عليها وجود الدولة وبقاؤها مرهوبة الجانب نافذة الكلمة قوية السلطان. ولا يتم ذلك إلا بكثرة الافراد، بحيث يوجد في كل مجال من مجالات النشاط الانساني عدد وفير من العاملين، ولهذا قيل: " إنما العزة للكاثر ". وسبيل هذه الكثرة إنما هو الزواج المبكر من جهة، والتعدد من جهة أخرى. ولقد أدركت الدول الحديثة قيمة الكثرة العددية وآثارها في الانتاج، وفي الحروب، وفي سعة النفوذ، فعملت على زيادة عدد السكان بتشجيع الزواج ومكافأة من كثر نسله من رعاياها لتضمن القوة والمنعة. ولقد فطن الرحالة الالماني " بول اشميد " الى الخصوبة في النسل لدى المسلمين، واعتبر ذلك عنصرا من عناصر قوتهم فقال في كتاب " الاسلام قوة الغد " الذي ظهر سنة 1936: " ان مقومات القوى في الشرق الاسلامي، تنحصر في عوامل ثلاثة: (أ) في قوة الاسلام " كدين "، وفي الاعتقاد به، وفي مثله، وفي تأخيه بين مختلفي الجنس، واللون، والثقافة. (ب) وفي وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الاسلامي الذي يمتد من المحيط الاطلسي، على حدود مراكش غربا إلى المحيط الهادي على حدود أندونيسيا شرقا. وتمثيل هذه المصادر العديدة لوحدة اقتصادية سليمة قوية ولاكتفاء ذاتي لا يدع المسلمين في حاجة مطلقا الى أوربا أو غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا. (ج) وأخيرا أشار إلى العامل الثالث وهو: خصوبة النسل البشري لدى المسلمين، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة، ثم قال: " فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث فتأخى المسلمون على وحدة العقيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وتوحيد الله، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزايد عددهم، كان الخطر الاسلامي خطرا منذرا بفناء أوربا، وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله ". ويقترح " بول أشميد " هذا، بعد أن فصل هذه العوامل الثلاثة، عن طريق الاحصاءات الرسمية، وعما يعرفه عن جوهر العقيدة الاسلامية، كما تبلورت في تاريخ المسلمين، وتاريخ ترابطهم وزحفهم لرد الاعتداء عليهم " أن يتضامن الغرب المسيحي - شعوبا وحكومات - ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر، ولكن في أسلوب نافذ حاسم (1) ". 3 - والدولة صاحبة الرسالة، كثيرا ما تتعرض لاخطار الجهاد، فتفقد عددا كبيرا من الافراد، ولا بد من رعاية أرامل هؤلاء الذين استشهدوا ولا سبيل إلى حسن رعايتهن إلا بتزويجهن. كما أنه لا مندوحة عن تعويض من فقدوا، وإنما يكون ذلك بالاكثار من النسل، والتعدد من أسباب الكثرة. 4 - قد يكون عدد الاناث في شعب من الشعوب أكثر من عدد الذكور، كما يحدث عادة في أعقاب الحروب، بل تكاد تكون الزيادة في عدد الاناث مطردة في أكثر الامم، حتى في أحوال السلم، نظرا لما يعانيه الرجال غالبا من الاضطلاع بالاعمال الشاقة التي تهبط بمستوى السن عند الرجال أكثر من الاناث. وهذه الزيادة توجب التعدد، وتفرض الاخذ به لكفالة العدد الزائد وإحصانه، وإلا اضطرون إلى الانحراف واقتراف الرذيلة، فيفسد المجتمع وتنحل أخلاقه، أو إلى أن يقضين حياتهن في ألم الحرمان وشقاء العزوبة، فيفقدن أعصابهن، وتضيع ثروة بشرية كان يمكن أن تكون قوة للامة، وثروة تضاف إلى مجموع ثرواتها. ولقد اضطرت بعض الدول التي زاد فيها عدد النساء على الرجال إلى إباحة التعدد، لانها لم ترحلا أمثل منه مع مخالفته لما تعتقده، ومنافاته لما ألفته ودرجت عليه.   (1) ترجمة الاستاذ الدكتور محمد البهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 قال الدكتور " محمد يوسف موسى ": أذكر أني وبعض اخواني المصريين دعينا عام 1948 - ونحن في باريس - لحضور مؤتمر الشباب العالمي بمدينة " ميونخ " بألمانيا. وكان من نصيبي أن اشتركت أنا وزميل لي من المصريين في الحلقة التي كانت تبحث مشكلة زيادة عدد النساء بألمانيا أضعافا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب، وتستعرض ما يمكن أن يكون حلا طيبا لها. وبعد استعراض سائر الحلول التي يعرفونها هناك ورفضها جميعا تقدمت وزميلي بالحل الطبيعي الوحيد، وهو إباحة تعدد الزوجات. فقوبل هذا الرأي أولا بشئ من الدهشة والاشمئزاز، ولكنه بعد بحثه بحثا عادلا عميقا رأى المؤتمرون أنه لا حل غيره، وكانت النتيجة اعتباره توصية من التوصيات التي أقرها المؤتمر. وكان مما سرني كثيرا بعد عودتي الى الوطن عام 1949 ما عرفته من أن بعض الصحف المصرية نشرت أن أهالي مدينة " بون: عاصمة ألمانيا الغربية " طلبوا أن ينص في الدستور على إباحة تعدد الزوجات. 5 - ثم إن استعداد الرجل للتناسل أكثر من استعداد المرأة، فهو مهيأ للعملية الجنسية منذ البلوغ إلى سن متأخرة. بينما المرأة لا تتهيأ لذلك مدة الحيض (وهو دورة شهرية قد تصل إلى عشرة أيام) ولا تتهيأ كذلك مدة النفاس والولادة (وقد تصل هذه المدة الى أربعين يوما) يضاف الى ذلك ظروف الحمل والرضاع. واستعداد المرأة للولادة ينتهي بين الخامسة والاربعين والخمسين، بينما يستطيع الرجل الاخصاب إلى ما بعد الستين، ولا بد من رعاية مثل هذه الحالات ووضع الحلول السليمة لها. فإذا كانت الزوجة في هذه الحالة عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، فماذا يصنع الرجل أثناء هذه الفترة؟ وهل الافضل له أن يضم إليه حليلة تعف نفسه وتحصن فرجه يتخذ خليلة لا تربطه بها رابطة إلا الرابطة التي تربط الحيوانات بعضها ببعص؟! مع ملاحظة أن الاسلام يحرم الزنا أشد تحريم:. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ". ويقرر لمقترفه عقوبة رادعة: " الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (1) ". 6 - وقد تكون الزوجة عقيما لا تلد، أو مريضة مرضا لا يرجى شفاؤها منه، وهي مع ذلك راغبة في استمرار الحياة الزوجية، والزوج راغب في إنجاب الاولاد، وفي الزوجة التي تدبر شؤون بيته. فهل من الخير للزوج أن يرضى بهذا الواقع الاليم، فيصطحب هذه العقيم دون أو يولد له، وهذه المريضة دون أن يكون له من يدبر أمر منزله، فيحتمل هذا الغرم كله وحده؟!. أم الخير في أن يفارقها وهي راغبة في المعاشرة فيؤذيها بالفراق؟! أم يوفق بين رغبتها ورغبته، فيتزوج بأخرى ويبقي عليها فتلتقي مصلحته ومصحلتها معا؟! أعتقد أن الحل الاخير هو أهدى الحلول وأحقها بالقبول، ولا يسع صاحب ضمير حي وعاطفة نبيلة إلا أن يتقبله ويرضى به. 7 - وقد يوجد عند بعض الرجال - بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية - رغبة جنسية جامحة، إذ ربما لا تشبعه امرأة واحدة، ولا سيما في بعض المناطق الحارة. فبدلا من أن يتخذ خليلة تفسد عليه أخلاقه، أبيح له أن يشبع غريزته عن طريق حلال مشروع. 8 - هذه بعض الاسباب الخاصة والعامة التي لاحظها الاسلام، وهو يشرع لا لجيل خاص من الناس، ولا لزمن معين محدود، وإنما يشرع للناس جميعا إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، فمراعاة الزمان والمكان لها اعتبارها، وتقدير ظروف الافراد لابد وأن يحسب حسابها. والحرص على مصالح الامة - بتكثير سوادها ليكونوا عدتها في الحرب والسلم - من أهم الاهداف التي يستهدفها المشرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 9 - ولقد كان لهذا التشريع والاخذ به في العالم الاسلامي فضل كبير في بقائه نقيا بعيدا عن الرذائل الاجتماعية والنقائص الخلقية التي فشت في المجتمعات التي لا تؤمن بالتعدد ولا تعترف به. فقد لوحظ في المجتمعات التي تحرم التعدد: 1 - شيوع الفسق، وانتشار الفجور، حتى زاد عدد البغايا عن عدد المتزوجات في بعض الجهات. 2 - وتبع ذلك كثرة المواليد من السفاح إذ بلغت نسبتها في بعض الجهات 50 % من مجموع المواليد هناك. وفي الولايات المتحدة يولد في كل عام أكثر من مائتي ألف ولادة غير شرعية!!! نشرت جريدة الشعب في شهر أغسطس سنة 1959 ما يلي: " الرقم المذهل للاطفال غير الشرعيين الذي ولدوا في الولايات التحدة، أثار من جديد الجدل حول انحطاط مستوى الاخلاق في أمريكا، والحمل الذي يقع على عاتق دافع الضرائب الامريكي - نتيجة لتحمله نفقات هذا الجيش من الاطفال - ولا غرو فقد تعدى عدد هؤلاء المواليد ال " مائتي ألف " سنويا. ولمواجهة هذه المشكلة تدرس الجهات الرسمية في بعض المجتمعات إمكانية تعقيم النساء اللاتي يحدن عن التعاليم الدينية. ويتركز الجدل في أماكن أخرى، حول المقترحات التي تطالب بتخفيض الاعانات للامهات اللاتي يضعن أكثر من مولود واحد غير شرعي. وتقول وزارات الصحة، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، في الولايات المتحدة: ان دافعي الضرائب في أمريكا سوف يتحملون هذا العام مبلغ 210 مليون دولارا لتغطية نفقات الاطفال غير الشرعيين، وذلك بواقع 27 دولارا و 29 سنتا شهريا لكل طفل. وتقول الاحصاءات الرسمية ان عدد هؤلاء الاطفال ارتفع من " 87 ألفا و 900 " عام 1938 الى " 201 ألف و 700 " عام 1957. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 كما تقدر وزارة الشؤون الاجتماعية عدد هؤلاء الاطفال في عام 1958 - 205 ألف طفل ... ولكن الخبراء يعتقدون أن الرقم الصحيح يتعدى هذا بكثير. وتدل الاحصاءات الاخيرة على أن معدل هذه الولادات غير الشرعية في كل ألف، قد زاد ثلاثة أضعاف - خلال الجيلين الاخيرين - مع زيادة تنذر بالخطر بين الفتيات المراهقات. ويعلن علماء علم الاجتماع حقيقة أخرى، وهي أن العلائلات المقتدرة تخفي عادة أن إحدى بناتها حملت بطريقة غير شرعية، وترسل الطفل بهدوء الى أسرة أخرى تتبناه ". انتهى. 3 - وأثمرت هذه الاتصالات الخبيثة الامراض البدنية والعقد النفسية والاضطرابات العصبية. 4 - وتسربت عوامل الضعف والانحلال إلى النفوس. 5 - وانحلت عرى الصلات الوثيقة بين الزوج وزوجته، واضطربت الحياة الزوجية وانفكت روابط الاسرة حتى لم تعد شيئا ذا قيمة. 6 - وضاع النسب الصحيح، حتى أن الزوج لا يستطيع الجزم بأن الاطفال الذين يقوم على تربيتهم هم من صلبه. فهذه المفاسد وغيرها كانت النتيجة الطبيعية لمخالفة الفطرة والانحراف عن تعاليم الله، وهي أقوى دليل وأبلغ حجة على أن وجهة الاسلام هي أسلم وجهة، وأن تشريعه هو أنسب تشريع لانسان يعيش على الارض، وليس لملائكة يعيشون في السماء. ولنختم هذه الكلمة بالسؤال والجواب اللذين أوردهما الفونس اتيين دينيه حيث قال: هل في زوال تعدد الزوجات فائدة أخلاقية؟ ثم أجاب: إن هذا أمر مشكوك فيه، فالدعارة التي تندر في أكثر الاقطار الاسلامية سوف تتفشى فيها، وتنشر آثارها المخربة. وكذلك سوف يظهر في بلاد الاسلام داء لم تعرفه من قبل، هو عزوبة النساء التي تنتشر بآثارها المفسدة في البلاد المقصور فيها الزواج على واحدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وقد ظهر ذلك فيها بنسبة مفزعة، وخاصة عقب فترات الحروب (1) تقييد التعدد: ولقد كان سوء التطبيق، وعدم رعاية تعاليم الاسلام حجة ناهضة للذين يريدون أن يقيدوا تعدد الزوجات، وألا يباح للرجل أن يتزوج بأخرى إلا بعد دراسة القاضي أو غيره - من الجهات التي يناط بها هذا الامر - حالته ومعرفة قدرته المالية، والاذن له بالزواج. ذلك أن الحياة المنزلية تتطلب نفقات باهظة، فإذا كثر أفراد الاسرة بتعدد الزوجات ثقل حمل الرجل، وضعف عن القيام بالنفقة عليهم، وعجز عن تربيتهم التربية التي تجعل منهم أفرادا صالحين، يستطعيون النهوض بتكاليف الحياة وتبعاتها، وبذلك يفشو الجهل، ويكثر المتعطلون، ويتشرد عدد كبير من أفراد الامة، فيشبون وهم يحملون جراثيم الفساد التي تنخر في عظامها. ثم ان الرجل لا يتزوج في هذه الايام بأكثر من واحدة إلا لقضاة الشهوة أو الطمع في المال، فلا يتحرى الحكمة من التعدد، ولا يبتغي وجه المصلحة فيه، وكثيرا ما يعتدي على حق الزوجة التي تزوج عليها، ويضار أولاده منها، ويحرمهم من الميراث، فتشتعل نيران العداوة بين الاخوة والاخوات من الضرائر، ثم تنتشر هذه العداوة إلى الاسر، فيشتد الخصام، وتسعى كل زوجة للانتقام من الاخرى، وتكبر هذه الصغائر حتى تصل الى حد القتل في بعض الاحايين. هذه بعض آثار التعدد، والتي اتخذ منها دليل التقييد. ونبادر فنقول: إن العلاج لا يكون بمنع ما أباحه الله، وإنما يكون ذلك بالتعليم والتربية وتفقيه الناس في أحكام الدين. ألا ترى أن الله أباح للانسان أن يأكل ويشرب دون أن يتجاوز الحد، فإذا أسرف في الطعام والشراب فأصابته الامراض وانتابته العلل، فليس ذلك راجعا الى الطعام والشراب بقدر ما هو راجع الى النهم والاسراف.   (1) من كتاب " محمد رسول الله ": ترجمة الاستاذ الدكتور عبد الحليم محمود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وعلاج مثل هذه الحالة لا يكون بمنعه من الاكل والشرب، وإنما يكون بتعليمه الادب الذي ينبغي مراعاته اتقاء لما يحدث من ضرر. ثم إن الذين ذهبوا إلى حظر التعدد إلا بإذن من القاضي مستدلين بالواقع من أحوال الذين تزوجوا بأكثر من واحدة، جهلوا أو تجاهلوا المفاسد التي تنجم من الحظر، فان الضرر الحاصل من إباحة التعدد أخف من ضرر حظره، والواجب أن يتقى أشدهما باباحة أخفهما - تبعا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين - وترك الامر للقاضي مما لا يمكن ضبطه، فليست هناك مقاييس صحيحة يمكن أن يعرف بها ظروف الناس وأحوالهم، وقد يكون ضره أقرب من نفعه. ولقد كان المسلمون، من العهد الاول إلى يومنا هذا، يتزوجون بأكثر من واحدة، ولم يبلغنا أن أحدا حاول حظر التعدد، أو تقييده على النحو المقترح، فليسعنا ما وسعهم، وما ينبغي لنا أن نضيق رحمة الله الواسعة، وننتقص من التشريع الذي جمع من المزايا والفضائل ما شهد به الاعداء، فضلا عن الاصدقاء. تاريخ تعدد الزوجات (1) : الحقيقة أن هذا النظام كان سائدا قبل ظهور الاسلام في شعوب كثيرة. منها: " العبريون " و " العرب " في الجاهلية، وشعوب " الصقالبة " أو " السلافيون ". وهي التي ينتمي إليها معظم أهل البلاد التي نسميها الآن: " روسيا، وليتوانيا، وليثونيا، واستونيا، وبولونيا، وتشيكو سلوفاكيا ويوغوسلافيا ". وعند بعض الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها معظم أهل البلاد التي تسميها الآن " ألمانيا، والنمسا، وسويسرا، وبلجيكا، وهولندا، والدانيمارك، والسويد، والنرويج، وانجلترا ". فليس بصحيح إذن ما يدعونه من أن الاسلام هو الذي قد أتى بهذا النظام.   (1) من كتاب حقوق الانسان في الاسلام: للاستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 والحقيقة كذلك أن نظام تعدد الزوجات لا يزال إلى الوقت الحاضر منتشرا في عدة شعوب لا تدين بالاسلام كأفريقيا، والهند، والصين، واليابان. فليس بصحيح إذن ما يزعمونه من أن هذا النظام مقصور على الامم التي تدين بالاسلام. والحقيقة كذلك أنه لا علاقة للدين المسيحي في أصله بتحريم التعدد. وذلك أنه لم يرد في الانجيل نص صريح يدل على هذا التحريم. وإذا كان السابقون الاولون إلى المسيحية من أهل أوربا قد ساروا على نظام وحدة الزوجة فما ذاك إلا لان معظم الامم الاوربية الوثنية التي انتشرت فيها المسيحية في أول الامر - وهي شعوب اليونان، والرومان - كانت تقاليدها تحرم تعدد الزوجات المعقود عليهن، وقد سار أهلها، بعد اعتناقهم المسيحية، على ما وجدوا عليه آباءهم من قبل. إذن فلم يكن نظام وحدة الزوجة لديهم نظاما طارئا جاء به الدين الجديد الذي دخلوا فيه، وإنما كان نظاما قديما جرى عليه العمل في وثنيتهم الاولى، وكل ما هنالك أن النظم الكنسية المستحدثة بعد ذلك قد استقرت على تحريم تعدد الزوجات واعتبرت هذا التحريم من تعاليم الدين، على الرغم من أن أسفار الانجيل نفسها لم يرد فيها شئ يدل على هذا التحريم. والحقيقة كذلك، أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة، على حين أنه قليل الانتشار أو منعدم في الشعوب البدائية المتأخرة كما قرر ذلك علماء الاجتماع ومؤرخو الحضارات، وعلى رأسهم " وستر مارك، وهو بهوس، وهيلير، وجنربرج ". فقد لو حظ أن نظام وحدة الزوجية كان النظام السائد في أكثر الشعوب تأخرا وبدائية، وهي الشعوب التي تعيش على الصيد، أو جمع الثمار التي تجود بها الطبيعة عفوا، وفي الشعوب التي تتزحزح تزحزحا كبيرا عن بدائيتها، وهي الشعوب الحديثة العهد بالزراعة. على حين أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب التي قطعت مرحلة كبيرة في الحضارة، وهي الشعوب التي تجاوزت مرحلة الصيد البدائي إلى مرحلة استئناس الانعام وتربيتها ورعيها واستغلالها، والشعوب التي تجاوزت جمع الثمار والزراعة البدائية إلى مرحلة الزراعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ويرى كثير من علماء الاجتماع ومؤرخي الحضارات أن نظام تعدد الزوجات سيتسع نطاقه حتما، ويكثر عدد الشعوب الآخذة به كلما تقدمت المدنية واتسع نطاق الحضارة. فليس بصحيح إذن ما يزعمونه من أن نظام تعدد الزوجات مرتبط بتأخر الحضارة، بل عكس ذلك تماما هو المتفق مع الواقع. هذا هو الوضع الصحيح لنظام التعدد من الناحية التاريخية، وهذا هو موقف المسيحية منه، وهذه هي الحقيقة فيما يتعلق بمدى انتشاره وارتباطه بتقدم الحضارة. ولم نذكر ذلك لتبرير هذا النظام، وإنما ذكرناه لمجرد وضع الامور في نصابها، ولبيان ما تنطوي عليه حملة الفرنجة من تزييف للحقيقة والتاريخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الولاية على الزواج : معنى الولاية: الولاية حق شرعي، ينفذ بمقتضاه الامر على الغير جبرا عنه. وهي ولاية عامة، وولاية خاصة. والولاية الخاصة ولاية على النفس، وولاية على المال. والولاية على النفس هي المقصودة هنا. أي ولاية على النفس في الزواج. شروط الولي: ويشترط في الولي: الحرية، والعقل، والبلوغ، سواء كان المولى عليه مسلما أو غير مسلم، فلاولاية لعبد، ولا مجنون، ولا صبي، لانه لا ولاية لواحد من هؤلاء على نفسه، فأولى ألا تكون له ولاية على غيره. ويزاد على هذه الشروط شرط رابع، وهو الاسلام، إذا كان المولى عليه مسلما. فإنه لا يجوز أن يكون لغير المسلم ولاية على المسلم لقول الله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (1) ". عدم اشتراط العدالة: ولا تشترط العدالة في الولي، إذ الفسق لا يسلب أهلية التزويج إلا إذا خرج به الفسق إلى حد التهتك، فإن الولي في هذه الحالة لا يؤتمن على ما تحت يده، فيسلب حقه في الولاية. اعتبار ولاية المرأة على نفسها في الزواج: ذهب كثير من العلماء إلى أن المرأة لاتزوج نفسها ولا غيرها، وإلى أن الزواج لا ينعقد بعبارتها، إذ أن الولاية شرط في صحة العقد، وأن العاقد هو الولي، واحتجوا لهذا: 1 - يقول الله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين   (1) سورة النساء آية 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 من عبادكم وإمائكم " (1) . 2 - وبقوله سبحانه: " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا (2) " ووجه الاحتجاج بالآيتين: أن الله تعالى خاطب بالنكاح الرجال، ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: " لا تنكحوا أيها الاولياء مولياتكم للمشركين. 3 - وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نكاح إلا بولي ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححاه. والنفي في الحديث يتجه إلى الصحة التي هي أقرب المجازين إلى الذات. فيكون الزواج بغير ولي باطلا، كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها. 4 - وروى البخاري عن الحسن قال: " فلا تعضلوهن " قال: " حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك، وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها!!. لا والله لا تعود إليها أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية " فلا تعضلوهن " فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. قال: فزوجتها إياه ". قال الحافظ في الفتح: ومن أقوى الحجج هذا السبب المذكور في نزول هذه الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولانها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه. 5 - وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا (3) فالسلطان ولي من لا ولي له ". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن.   (1) سورة النور آية 32 (2) سورة البقر آية 222. (3) أي امتنعوا عن التزويج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 قال القرطبي: وهذا الحديث صحيح. ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال: سألت عنه الزهري، فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري ولم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة. لانه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى، وهو ثقة إمام، وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك لان النسيان لا يعصم منه ابن آدم. قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة وأم سلمة، وزينب، ثم سرد تمام ثلاثين حديثا. وقال ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من أصحابه خلاف ذلك. 6 - قالوا: ولان الزواج له مقاصد متعددة، والمرأة كثيرا ما تخضع لحكم العاطفة، فلا تحسن الاختيار، فيفوتها حصول هذه المقاصد، فمنعت من مباشرة العقد وجعل إلى وليها، لتحصل على مقاصد الزواج على الوجه الاكمل. قال الترمذي: والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب (لانكاح إلا بولي) عند أهل العلم من أصحاب النبي: منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن مسعود وعائشة. وممن ذهب إلى هذا من فقهاء التابعين: سعيد بن المسيب والحسن البصري، وشريح، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم. وبهذا يقول سفيان الثوري، والاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي وابن شبرمه، وأحمد، وإسحاق، وابن حزم، وابن أبي ليلى، والطبري، وأبو ثور. وقال الطبري: في حديث حفصة - حين تأيمت، وعقد عليها عمر النكاح، ولم تعقده هي - إبطال قول من قال: إن من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف: أن المرأة العاقلة البالغة لها الحق في مباشرة العقد لنفسها. بكرا كانت أو ثيبا. ويستحب لها أن تكل عقد زواجها لوليها. صونا لها عن التبذل إذا هي تولت العقد بمحضر من الرجال الاجانب عنها. وليس لوليها العاصب (1) حق الاعتراض عليها، إلا إذا زوجت نفسها من غير الكفء أو كان مهرها أقل من مهر المثل. فإن زوجت نفسها بغير كفء، وبغير رضا وليها العاصب، فالمروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، والمفتى به في المذهب عدم صحة زواجها، إذ ليس كل ولي يحسن المرافعة، ولاكل قاض يعدل، فأفتوا بعدم صحة الزواج سدا لباب الخصومة. وفي رواية أن للولي حق الاعتراض بأن يطلب من الحاكم التفريق، دفعا لضرر العار ما لم تلد من زوجها، أو تحبل حبلا ظاهرا، فإنه حينئذ يسقط حقه في طلب التفريق لئلا يضيع الولد، ومحافظة على الحمل من الضياع. وإن كان الزوج كفئا، وكان المهر أقل من مهر المثل فإن من حق الولي أن يطالب بمهر مثلها، فإن قبل الزوج لزم العقد، وإن رفض رفع الامر للقاضي ليفسخه. وإن لم يكن لها ولي عاصب. بأن كانت لاولي لها أصلا، أولها ولي غير عاصب، فلاحق لاحد في الاعتراض على عقدها. سواء زوجت نفسها من كفء أوغير كفء، بمهر المثل، أو أقل، لان الامر في هذه الحالة يرجع إليها وحدها، وأنها تصرفت في خالص حقها، وليس لها ولي يناله العار لزواجها من غير كفء، ومهر مثلها قد سقط بتنازلها عنه. واستدل جمهور الاحناف بما يأتي: 1 - قول الله تعالى: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (2) ". 2 - وقوله سبحانه: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن (3) ".   (1) العاصب: الوارث. (2) سورة البقرة الآية 230. (3) سورة البقرة الآية 232. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 ففي هاتين الآيتين إسناد الزواج إلى المرأة. والاصل في الاسناد أن يكون إلى الفاعل الحقيقي. 3 - ثم إنها تستقل بعقد البيع وغيره من العقود، فمن حقها أن تستقل بعقد زواجها، إذ لا فرق بين عقد وعقد. وعقد الزواج وإن كان لاوليائها حق فيه فهو لم يلغ، إذ اعتبر في حالة ما إذا أساءت التصرف، وتزوجت من غير كفء، إذ أن سوء تصرفها يلحق عاره أولياءها. قالوا: وأحاديث اشتراط الولاية في الزواج تحمل على ناقصة الاهلية، كأن تكون صغيرة، أو مجنونة. وتخصيص العام، وقصره على بعض أفراده بالقياس جائز عند كثير من أهل الاصول. وجوب استئذان المرأة قبل الزواج: ومهما يكن من خلاف في ولاية المرأة، فإنه يجب على الولي أن يبدأ بأخذ رأي المرأة. ويعرف رضاها قبل العقد، إذ أن الزواج معاشرة دائمة، وشركة قائمة بين الرجل والمرأة، ولا يدوم الوثام ويبقى الود والانسجام ما لم يعلم رضاها، ومن ثم منع الشرع إكراه المرأة - بكرا كانت أو ثيبا - على الزواج، وإجبارها على من لارغبة لها فيه، وجعل العقد عليه قبل استئذانها غير صحيح، ولها حق المطالبة بالفسخ إبطالا لتصرفات الولي المستبد إذا عقد عليها: 1 - فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثيب أحق بنفسها (1) من وليها. والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها (2) " رواه الجماعة إلا البخاري. وفي رواية لاحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي (والبكر يستأمرها أبوها) . أي يطلب أمرها قبل العقد عليها. 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) أي أنها أحق بنفسها في أن الولي لا يعقد عليها إلا برضاها لا أنها أحق بنفسها أن تعقد على نفسها دون وليها. (2) أي أن سكوتها إذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قال: " لا تنكح الايم (1) حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: أن تسكت ". 3 - وعن خنساء بنت خدام " أن أباها زوجها وهي ثيب، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها ". أخرجه الجماعة إلا مسلما. 4 - وعن ابن عباس: " أن جارية بكرا، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي ". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني. 5 - وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: " جاءت فتاة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الامر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الامر شئ ". رواه ابن ماجه. ورجاله رجال الصحيح. زواج الصغيرة: هذا بالنسبة للبالغة، أما الصغيرة، فإنه يجوز للاب والجد تزويجها دون إذنها، إذ لا رأي لها، والاب والجد يرعيان حقها ويحافظان عليها. وقد زوج أبو بكر رضي الله عنه ابنته عائشة أم المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة دون إذنها، إذ لم تكن في سن يعتبر فيها إذنها. وليس لها الخيار إذا بلغت. واستحب الشافعية ألا يزوجها الاب أو الجد حتى تبلغ ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزواج وهي كارهة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز لغير الاب والجد من الاولياء أن يزوج الصغيرة، فإن زوجها لم يصح. وقال أبو حنيفة والاوزاعي وجماعة من السلف: يجوز لجميع الاولياء ويصح، ولها الخيار إذا بلغت وهو الاصح، لما روي أن النبي صلى الله عليه.   (1) الايم من لا زوج لها ولابد من تصريحها بالرضا بما يدل عليه من نطق أو غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وسلم زوج أمامة بنت حمزة - وهي صغيرة -، وجعل لها الخيار إذا بلغت. وإنما زوجها النبي صلى الله عليه لقربه منها، وولايته عليها، ولم يزوجها بصفته نبيا، إذ لو زوجها بصفته نبيا لم يكن لها حق الخيار إذا بلغت، لقول الله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (1) " وهذا المذهب قال به من الصحابة عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، رضي الله عنهم أجمعين. ولاية الاجبار: تثبت ولاية الاجبار على الشخص الفاقد الاهلية مثل المجنون، والصبي غير المميز، كما تثبت هذه الولاية على الشخص الناقص الاهلية مثل الصبي، والمعتوه المميزين. ومعنى ثبوت ولاية الاجبار، أن للولي حق عقد الزواج لمن له الولاية عليه من هؤلاء دون الرجوع إليهم لاخذ رأيهم. ويكون عقده نافذا على المولى عليه دون توقف على رضاه. وقد جعل الشارع هذه الولاية إجبارية للنظر في مصالح المولى عليه، إذ أن فاقد الاهلية، أو ناقصها عاجز عن النظر في مصالح نفسه. وليس له من القدرة العقلية ما يستطيع بها أن يدرك مصلحته في العقود التي يعقدها، والتصرفات التي تصدر عنه بسبب الصغر أو الجنون أوالعته، ومن ثم فإن تصرفات فاقد الاهلية أو ناقصها ترجع إلى وليه. إلا أن فاقد الاهلية إذا عقد عقد الزواج، فإن عقده يقع باطلا، إذ لا تعتبر عباراته في إنشاء العقود والتصرفات، لعدم التمييز الذي هو أصل الاهلية. أما ناقص الاهلية إذا عقد عقد الزواج فإن عقده يقع صحيحا، متى توفرت الشروط اللازمة. إلا أنه يتوقف على إجازة الولي، فإن شاء أجازه، وإن شاء رده.   (1) سورة الاحزاب آية 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وقال الاحناف: إن ولاية الاجبار هذه تثبت للعصبات النسبية على الصغار، والمجانين، والمعتوهين. أما غير الاحناف، فقد فرقوا بين الصغار وبين المجانين والمعاتهة، فاتفقوا على أن الولاية على المجانين والمعاتهة تثبت للاب، والجد، والوصي، والحاكم. واختلفوا فيمن تثبت له هذه الولاية على الصغيرة والصغير فقال الامام مالك وأحمد: تثبت للاب، ووصيه فقط، ولا تثبت لغيرهما. وذهب الشافعي إلى أنها تثبت للاب والجد. من هم الاولياء؟ ذهب جمهور العلماء، منهم مالك والثوري، والليث والشافعي إلى أن الاولياء في الزواج هم العصبة، وليس للخال ولا للاخوة لام، ولا لولد الام، ولا لاي من ذوي الارحام ولاية. قال الشافعي: لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن فبعبارة السلطان (1) . فإن زوجت نفسها بإذن الولي، أو بغير إذنه بطل الزواج، ولم يتوقف. وعند أبي حنيفة أن لغير العصبة من الاقارب ولاية التزويج. ولصاحب الروضة الندية تحقيق في هذا الموضوع. قال: الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال: " إن الاولياء هم قرابة المرأة: الادنى فالادنى، الذين تلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء، وكان المزوج لها غيرهم ". وهذا المعنى لا يختص بالعصبات، بلى قد يوجد في ذوي السهام، كالاخ لام، وذوي الارحام كإبن البنت. وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الاعمام ونحوهم، فلا   (1) أي أن الترتيب عنده يجب أن يكون هكذا: الاب، ثم الجد أبو الاب، ثم الاخ للاب والام، ثم الاخ للاب، ثم ابن الاخ للاب والام ثم ابن الاخ، ثم العم، ثم ابنه. على هذا الترتيب، ثم الحاكم. أي أنه لا يزوج أحد وهناك من هو أقرب منه، لانه حق مستحق بالتعصب، فأشبه الارث، فلو زوج احد منهم على خلاف هذا الترتيب المذكور لم يصح الزواج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصابات، كما أنه لاوجه لتخصيصها بمن يرث. ومن زعم ذلك فعليه الدليل أو النقل، بأن معنى الولي في النكاح شرعا أو لغة هو هذا. قال: ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض. وهذه الاولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال، واستحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث، أو كولاية الصغير، بل باعتبار أمر آخر، وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به. وهذا لا يختص بالعصبات، بل يوجد في غيرهم، ولاشك أن بعض القرابة أدخل في هذا الامر من بعض. فالآباء والابناء أولى من غيرهم، ثم الاخوة لابوين، ثم الاخوة لاب، أو لام، ثم أولاد البنين، وأولاد البنات، ثم أولاد الاخوة، وأولاد الاخوات، ثم الاعمام، والاخوال، ثم هكذا من بعد هؤلاء. ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض فليأت بحجة. وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه فلسنا ممن يعول على ذلك (1) جواز تزويج الرجل نفسه من موليته: يجوز للرجل أن يزوج نفسه من المرأة التي يلي أمرها دون الاحتياج الى ولي آخر، إذا رضيت به زوجا لها. فعن سعيد بن خالد عن أم حكيم بنت قارظ، قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت. قال: وتجعلين ذلك إلي؟ قالت: نعم. قال: قد تزوجتك. وقال مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار لها، لزمها ذلك، ولو لم تعليم عين الزوج. وهذا مذهب الاحناف، والليث، والثوري، والاوزاعي. وقال الشافعي، وداود: يزوجها السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، لان الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه. وناقش ابن حزم رأي الشافعي، وداود، فقال: وأما قولهم: إنه لا   (1) ص 14 الروضة ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 يجوز أن يكون الناكح هو المنكح، ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى. وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شئ أن يبتاعه لنفسه إن لم يحابها بشئ، ثم ساق البرهان على صحة ما رجحه من أن البخاري روى عن أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وأولم عليه بحيس ". قال: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج مولاته من نفسه وهو الحجة على من سواه، ثم قال: قال الله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم (1) " فمن أنكح أيمة من نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله تعالى به، ولم يمنع الله عز وجل من أن يكون المنكح لايمة هو الناكح لها، فصح أنه الواجب. غيبة الولي: إذا كان الولي الاقرب المستوفي شروط الولاية موجودا فلا ولاية للبعيد معه، فإذا كان الاب - مثلا - حاضرا لا يكون للاخ ولاية التزويج، ولا للعم، ولا لغيرهما. فإن باشر واحد منهما زواج الصغيرة ومن في حكمها بغير إذن الاب وتوكيله كان فضوليا، وعقده موقوف على إجازة من له الولاية، وهو الاب. أما إذا غاب الاقرب بحيث لا ينتظر الخاطب الكفء استطلاع رأيه، فإن الولاية تنتقل إلى من يليه، حتى لا تفوت المصلحة، وليس للغائب بعد عودته أن يعترض على ما باشره من يليه، لانه لغيبته اعتبر كالمعدوم، وصارت حق من يليه. وهذا مذهب الاحناف وقال الشافعي: إذا زوجها من أولياتها الابعد - والاقرب حاضر -   (1) سورة النور آية 42 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 فالنكاح باطل: وإذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها القاضي. وقال في " بداية المجتهد ": اختلف في ذلك قول مالك، فمرة قال: إن زوج الابعد مع حضور الاقرب فالنكاح مفسوخ. ومرة قال: النكاح جائز. ومرة قال: للاقرب أن يجيز أو يفسخ. قال: وهذا الخلاف كله فيما عدا الاب في ابنته البكر، والوصي في محجورته. فإنه لا يختلف قوله: " إن النكاح في هذين مفسوخ " أعني تزويج غير الاب البنت البكر مع حضور الاب، أو غير الوصي المحجورة مع حضور الوصي. ويوافق الامام مالك أبا حنيفة في انتقال الولاية إلى الولي البعيد في حالة ما إذا غاب الولي القريب. الولي القريب المحبوس مثل البعيد: وفي المغني: " وإذا كان القريب محبوسا أو أسيرا في مسافة قريبة لاتمكن مراجعته فهو كالبعيد، فإن البعد لم يعتبر لعينه، بل لتعذر الوصول إلى التزويج بنظره. وهذا موجود هاهنا، ولذلك إن كان لا يعلم أقريب أم بعيد، أو يعلم أنه قريب ولم يعلم مكانه فهو كالبعيد. عقد الوليين: إذا عقد الوليان لامرأة، فإما أن يكون العقدان في وقت واحد، أو يكون أحدهما متقدما والآخر متأخرا. فإن كان العقدان في وقت واحد بطلا. وإن كانا مرتبين كانت المرأة للاول منهما، سواء دخل بها الثاني أم لا. فإن دخل بها مع علمه بأنها معقود لها على غيره قبل عقده هو، كان زانيا مستحقا للحد. وإن كان جاهلا ردت إلى الاول، ولا يقام عليه الحد لجهله. فعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي. فعموم هذا الحديث يقتضي أنها للاول، دخل بها الثاني، أم لم يدخل. المرأة التي لاولي لها، ولا تستطيع أن تصل إلى القاضي: قال القرطبي: وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه، ولا ولي لها، فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها، ويكون هو وليها في هذه الحال، لان الناس لابد لهم من التزويج وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن (1) . وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لانها ممن تضعف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها. وقال الشافعي: إذا كان في الرفقة امرأة لاولي لها فولت أمرها رجلا حتى زوجها جاز، لان هذا من قبيل التحكيم والمحكم يقوم مقام الحاكم. عضل الولي : اتفق العلماء على أنه ليس للولي أن يعضل موليته، ويظلمها بمنعها من الزواج، إذا أراد أن يتزوجها كفء بمهر مثلها، فإذا منعها في هذه الحال كان من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليزوجها. ولا تنتقل الولاية في هذه الحالة إلى ولي آخر يلي هذا الولي الظالم، بل تنتقل إلى القاضي مباشرة، لان العضل ظلم، وولاية رفع الظلم إلى القاضي. فأما إذا كان الامتناع بسبب عذر مقبول، كأن يكون الزوج غير كفء، أو المهر أقل من مهر المثل، أو لوجود خاطب آخر أكفأ منه، فإن الولاية في هذه الحال لا تنتقل عنه، لانه لا يعد عاضلا. عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا له رجعة، تم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، فقلت: لا، والله لا أنكحها أبدا. قال: ففي نزلت هذه الآية: " وإذا طلقتم النساء فبلغن   (1) الجامع لاحكام القرآن ص 76 جزء 3 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن (1) " الآية. قال: فكفرت عن يميني، فأنكحتها إياه. زواج اليتيمة : يجوز تزويج اليتيمة قبل البلوغ. ويتولى الاولياء العقد عليها، ولها الخيار بعد البلوغ. وهو مذهب عائشة رضي الله عنها وأحمدو أبي حنيفة. قال الله تعالى: " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن " (2) . قالت عائشة رضي الله عنها: " هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في نكاحها، ولا يقسط لها سنة صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لها سنة صداقهن ". وفي السنن الاربعة عنه صلى الله عليه وسلم " اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها ". وقال الشافعي: لا يصح تزويج اليتيمة إلا بعد البلوغ، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام " اليتيمة تستأمر " ولا استئمار إلا بعد البلوغ، إذ لا فائدة من استئمار الصغيرة. انعقاد الزواج بعاقد واحد : إذا كان للشخص الواحد ولاية على الزوج والزوجة يجوز له أن يلي العقد، فللجد أن يزوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة، وكما إذا كان وكيلا. ولاية السلطان (القاضي) : تنتقل الولاية إلى السلطان في حالتين: (الاولى) إذا تشاجر الاولياء. (الثانية) إذا لم يكن الولي موجودا، ويصدق ذلك بعدمه مطلقا، أو غيبته. فإذا حضر الكفء، ورضيت المرأة البالغة به، ولم يكن أحد من الاولياء حاضرا، بأن كان غائبا ولو في محل قريب، إذا كان خارجا عن بلد المرأة، ومن يريد زواجها. فإن للقاضي في هذه الحالة حق العقد إلا أن ترضى   (1) سورة البقرة آية 232 (2) سورة النساء آية 127. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 المرأة ومن يريد التزوج بها انتظار قدوم الغائب، فذلك حق لها وإن طالت المدة. أما مع عدم الرضا فلاوجه لايجاب الانتظار. ففي الحديث: " ثلاث لا يؤخرن وهن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والايم إذا وجدت كفئا ". رواه البيهقي وغيره عن علي "، وسنده ضعيف وقد ورد في الباب أحاديث كلها واهية، أمثلها هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الوكالة في الزواج : الوكالة، من العقود الجائزة في الجملة، لحاجة الناس إليها في كثير من معاملاتهم. وقد اتفق الفقهاء على أن كل عقد جاز أن يعقده الانسان بنفسه، جاز أن يوكل به غيره، كالبيع، والشراء، والاجارة، واقتضاء الحقوق، والخصومة في المطالبة بها، والتزويج، والطلاق، وغير ذلك من العقود التي تقبل النيابة. وقد كان النبي، صلوات الله وسلامه عليه، يقوم بدور الوكيل في عقد الزواج بالنسبة لبعض أصحابه. روى أبو داود، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم. وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا؟ قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها، ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا - وكان ممن شهد الحديبية - وكان من شهد الحديبية لهم سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمه فباعته بمائة ألف. وفي هذا الحديث دليل على أنه يصح أن يكون الوكيل وكيلا عن الطرفين. وعن أم حبيبة: " أنها كانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عنده " رواه أبو داود. وكان الذي تولى العقد عمرو بن أمية الضمري وكيلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكله بذلك. وأما النجاشي، فهو الذي كان قد أعطى لها المهر فأسند التزويج إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 من يصح توكيله ومن لا يصح: يصح التوكيل من الرجل العاقل البالغ الحر، لانه كامل الاهلية (1) . وكل من كان كامل الاهلية، فإنه يملك تزويج نفسه بنفسه. وكل من كان كذلك فإنه يصح أن يوكل عنه غيره. أما إذا كان الشخص فاقد الاهلية، أو ناقصها، فإنه ليس له الحق في توكيل غيره، كالمجنون، والصبي، والعبد، والمعتوه، فإنه ليس لواحد منهم الاستقلال في تزويج نفسه بنفسه. وقد اختلف الفقهاء في صحة توكيل المرأة البالغة العاقلة في تزويج نفسها، حسب اختلافهم في انعقاد الزواج بعبارتها. فقال أبو حنيفة: يصح منها التوكيل كما يصح من الرجل، إذ من حقها أن تنشئ العقد. وما دام ذلك حقا من حقوقها، فمن حقها أن توكل عنها من يقوم بإنشائه. أما جمهور العلماء فإنهم قالوا: إن لوليها الحق في أن يعقد عليها من غير توكيل منها له. وإن كان لابد من اعتبار رضاها كما تقدم. وفرق بعض علماء الشافعية بين الاب والجد، وبين غيرهما من الاولياء. فقالوا: إنه لا حاجة إلى توكيل الاب والجد، أو غيرهما فلابد من التوكيل منها له. التوكيل المطلق والمقيد: والتوكيل يجوز مطلقا ومقيدا: فالمطلق: أن يوكل شخص آخر في تزويجه دون أن يقيده بامرأة معينة، أو بمهر، أو بمقدار معين من المهر. والمقيد: أن يوكله في التزويج، ويقيده بامرأة معينة. أو امرأة من أسرة معيبة، أو بقدر معين من المهر. وحكم التوكيل المطلق، أن الوكيل لا يتقيد بأي قيد عند أبي حنيفة. فلو زوج الوكيل موكله بامرأة معيبة أو غير كفء، أو بمهر زائد عن مهر المثل   (1) لابد من اعتبار هذه الشروط في التوكيل. وقالت الاحناف يصح توكيل الصبي المميز والعبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 جاز ذلك (1) ، وكان العقد صحيحا نافذا، لان ذلك مقتضى الاطلاق. وقال أبو يوسف ومحمد: لابد أن يتقيد بالسلامة والكفاءة ومهر المثل. ويتجاوز عن الزيادة اليسيرة التي يتغابن الناس فيها عادة. وحجتهما: أن الذي يوكل غيره إنما يوكله ليكون عونا له على اختيار الاصلح بالنسبة إليه. وترك التقييد لا يقتضي أن يأتي بأي امرأة، لان المفهوم أن يختار له امرأة مماثلة بمهر مماثل، ولابد من ملاحظة هذا المفهوم واعتباره، لان المعروف عرفا كالمشروط شرطا. وهذا هو الرأي الذي لا ينبغي التعويل إلا عليه. وحكم التوكيل المقيد: أنه لا تجوز فيه المخالفة إلا إذا كانت المخالفة إنى ما هو أحسن. بأن تكون الزوجة التي اختارها الوكيل أجمل وأفضل من الزوجة التي عينها له، أو يكون المهر أقل من المهر الذي عينه. فإذا كانت المخالفة إلى غير ذلك، كان العقد صحيحا غير لازم على الموكل. فإن شاء أجازه، وإن شاء رده. وقالت الاحناف: إن المرأة إذا كانت هي الموكلة، فإما أن توكله بمعين، أو غير معين. فإن كان الاول، فلا ينفذ العقد عليها إلا إذا وافقها في كل ما أمرته به، سواء كان من جهة الزوج أو المهر. وإن كان الثاني - وهو ما إذا أمرته بتزويجها بغير معين، كما إذا قالت له: وكلتك في أن تزوجني رجلا، فزوجها من نفسه، أو لابيه، أو لابنه - لا يلزم العقد، للتهمة. فإن حصل ذلك توقف نفاذ العقد على إجازتها. فإن زوجها بغير من ذكر: أي بأجنبي. فإن كان الزوج كفئا، والمهر مهر المثل، لزم النكاح وليس لهاولا لوليها رده. وإن كان الزوج كفثا، والمهر أقل من مهر المثل - وكان الغبن فاحشا - فلا ينفذ العقد، بل يكون موقوفا على إجازتها وإجازة وليها، لان كلامنهما له حق في ذلك.   (1) ويستثنى من هذا ما فيه تهمة، كأن يزوجه ابنته، أو امرأة تحت ولايته، فانه لا ينفذ إلا برضا الموكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وإن كان الزوج غير كفء وقع العقد فاسدا. سواء كان المهر أقل من مهر المثل، أو مساويا له، أو أكثر، ولا تلحقه الاجازة، لان الاجازة لا تلحق الفاسد وإنما تلحق الزواج الموقوف. الوكيل في الزواج سفير ومعبر (1) : تختلف الوكالة في الزواج عن الوكالة في العقود الاخرى، فالوكيل في الزواج ما هو إلا سفير ومعبر لاغير، فلا ترجع إليه حقوق العقد، فلا يطالب بالمهر (2) ولا بإدخال الزوجة في طاعة زوجها إذا كان وكيل الزوجة، ولا يقبض المهر عن الزوجة إذا كان وكيلا عنها إلا إذا أذنت له، فيكون إذنها توكيلا له بالقبض. وهو غير توكيل الزواج الذي ينتهي بمجرد إتمام العقد.   (1) أي سفير عن موكله ومعبر عن إرادته. (2) إلا إذا ضمن المهر عن الزوج، فإنه يطالب به كضامن، لاكوكيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الكفاءة في الزواج : تعريفها: الكفاءة: هي المساواة، والمماثلة. والكفء والكفاء، والكفء: المثل والنظير. والمقصود بها في باب الزواج أن يكون الزوج كفئا لزوجته. أي مساويا لها في المنزلة، ونظير الها في المركز الاجتماعي، والمستوى الخلقي والمالي. وما من شك في أنه كلما كانت منزلة الرجل مساوية لمنزلة المرأة، كان ذلك أدعى لنجاح الحياة الزوجية، وأحفظ لها من الفشل والاخفاق. حكمها: ولكن ما حكم هذه الكفاءة؟ وما مدى اعتبارها؟. أما ابن حزم، فذهب إلى عدم اعتبار هذه الكفاءة، فقال: " أي مسلم - ما لم يكن زانيا - فله الحق في أن يتزوج أية مسلمة، ما لم تكن زانية ". قال: وأهل الاسلام كلهم إخوة لا يحرم على إبن من زنجية لغية (1) نكاح لابنة الخليفة الهاشمي. والفاسق المسلم الذي بلغ الغاية من الفسق - ما لم يكن زانيا - كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية. قال: والحجة قول الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة (2) " وقوله عز وجل مخاطبا جميع المسلمين: " نانكحوا ما طاب لكم من النساء. " (3) وذكر عز وجل ما حرم علينا من النساء، ثم قال سبحانه: " وأحل لكم ما وراء ذلكم (4) ". وقد أنكح رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين زيدا مولاه و   (1) لغية: غير معروفة النسب. (2) سورة الحجرات آية 10 (3) سورة النساء آية 3. (4) سورة النساء آية 24 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وأنكح المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. قال: وأما قولنا في الفاسق والفاسقة فيلزم من خالفنا ألا يجيز للفاسق أن ينكح إلا فاسقة، وأن لا يجيز للفاسقة أن ينكحها إلا فاسق، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " (1) وقال سبحانه: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (2) ". اعتبار الكفاءة بالاستقامة والخلق: وذهب جماعة إلى أن الكفاءة معتبرة، ولكن اعتبارها بالاستقامة والخلق خاصة، فلا اعتبار لنسب، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشئ آخر، فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحرفة الدنئية أن يتزوج المرأة الرفيعة القدر، ولمن لاجاه له أن يتزوج صاحبة الجاه والشهرة، وللفقير أن يتزوج المثرية الغنية - ما دام مسلما عفيفا - وأنه ليس لاحد من الاولياء الاعتراض، ولاطلب التفريق. وإن كان غير مستوفي الدرجة مع الولي الذي تولى العقد ما دام الزواج كان عن رضى منها، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل فلا يكون كفئا للمرأة الصالحة، ولها الحق في طلب فسخ العقد إذا كانت بكرا وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق. وفي بداية المجتهد: ولم يختلف المذهب - المالكية - أن البكر إذا زوجها الاب من شارب الخمر، وبالجملة من فاسق، أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرق بينهما، وكذلك إذا زوجها ممن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق، واستدل أصحاب هذا المذهب بما يأتي: 1 - ان الله تعالى قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم (3) ". ففي هذه الآية تقرير أن الناس متساوون في الخلق، وفي القيمة الانسانية، وأنه لا أحد أكرم من أحد إلا من حيث تقوى الله عزوجل، بأداء حق الله وحق الناس.   (1) سورة الحجرات آية 10. (2) سورة التوبة آية 71. (3) سورة الحجرات آية 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 2 - وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي حاتم المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير، قالوا يارسول اللهوإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه - ثلاث مرات - " ففي هذا الحديث توجيه الخطاب إلى الاولياء أن يزوجوا مولياتهم من يخطبهن من ذوي الدين والامانة والخلق، وإن لم يفعلوا ذلك بعدم تزويج صاحب الخلق الحسن، ورغبوا في الحسب، والنسب، والجاه، والمال، كانت الفتنة والفساد الذي لا آخر له. 3 - وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني بياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه " (1) وكان حجاما. قال في معالم السنن: في هذا الحديث حجة لمالك ومن ذهب مذهبه في الكفاءة بالدين وحده دون غيره، وأبو هند مولى بني بياضة، ليس من أنفسهم. 4 - وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فامتنعت، وامتنع أخوها عبد الله، لنسبها في قريش، وأنها كانت بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وأن زيدا كان عبدا، فنزل قول الله عزوجل: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (2) "، فقال أخوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرني بما شئت. فزوجها من زيد. 5 - وزوج أبو حذيفة سالما من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الانصار. 6 - وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف. 7 - وسئل الامام علي كرم الله وجهه عن حكم زواج الاكفاء، فقال: الناس بعضهم أكفاء لبعض، عربيهم وعجميهم، قرشيهم وهاشميهم إذا   (1) أي زوجوه وتزوجوا منه. (2) سورة الاحزاب آية 36 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 أسلموا وآمنوا. وهذا مذهب المالكية. قال الشوكاني: ونقل عن عمر، وابن مسعود، وعن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز. ورجحه ابن القيم فقال: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الكفاءة في الدين أصلا وكمالا، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولاعفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبا، ولا صناعة، ولا غنى، ولا حرفة. فيجوز للعبد القن نكاح المرأة النسيبة الغنية إذا كان عفيفا مسلما. وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيان، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات (1) . مذهب جمهور الفقهاء: وإذا كان المالكية وغيرهم من العلماء الذين سبقت الاشارة إليهم، يرون أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والصلاح لا غير، فإن غير هؤلاء من الفقهاء يرون أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والصلاح، وأن الفاسق ليس كفئا للعفيفة، إلا أنهم لا يقصرون الكفاءة على ذلك، بل يرون أن ثمة أمورا أخرى لابد من اعتبارها. ونحن نشير إلى هذه الامور فيما يأتي: (أولا) النسب: فالعرب بعضهم أكفاء لبعض، وقريش بعضهم أكفاء لبعض ... فالاعجمي لا يكون كفئا للعربية، والعربي لا يكون كفئا للقرشية. ودليل ذلك: 1 - ما رواه الحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيل، وحي لحي، ورجل لرجل، إلا حائكا أو حجاما ". 2 - وروى البزار عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) زاد المعاد جزء 4 ص 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 " العرب بعضهم لبعض أكفاء، والموالي بعضهم أكفاء بعض ". 3 - وعن عمر قال: لامنعن تزوج ذوات الاحساب إلا من الاكفاء. رواه الدارقطني. وحديث ابن عمر سأل عنه ابن أبي حاتم أباه فقال: هذا كذب لا أصل له. وقال الدارقطني في الملل: لا يصح. قال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع. وأما حديث معاذ، ففيه سليمان بن أبي الجون. قال بن القطان: لا يعرف. ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ، ولم يسمع منه. والصحيح أنه لا يثبت في اعتبار الكفاءة والنسب من حديث. ولم يختلف الشافعية، ولا الحنفية في اعتبار الكفاءة بالنسب على هذا النحو المذكور. ولكنهم اختلفوا في التفاضل بين القرشيين. فالاحناف يرون أن القرشي كفء للهاشمية (1) . أما الشافعية فإن الصحيح من مذهبهم أن القرشي ليس كفئا للهاشمية والمطلبية. واستدلوا لذلك بما رواه واثلة بن الاسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار، من خيار، من خيار ". رواه مسلم. قال الحافظ في الفتح: والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء لبعض. والحق خلاف ذلك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان بن عفان، وزوج أبا العاص بن الربيع زينب، وهما من عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وعمر عدوي. على أن شرف العلم دونه كل نسب، وكل شرف، فالعالم كفء لاي امرأة، مهما كان نسبها، وإن لم يكن له نسب معروف، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في   (1) القرشي من كان من ولد النضر بن كنانة، والهاشمي من كان من ولد هاشم عبد مناف، والعرب من جمعهم أب فوق النضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ". وقول الله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (1) . وقوله عزوجل: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (2) . هذا بالنسبة للعرب، وأما غيرهم من الاعاجم فقيل: لا كفاءة بينهم بالنسب. وروي عن الشافعي وأكثر أصحابه: أن الكفاءة معتبرة في أنسابهم فيما بينهم قياسا على العرب، ولانهم يعيرون إذا تزوجت واحدة منهم زوجا دونها نسبا، فيكون حكمهم حكم العرب لاتحاد العلة. (ثانيا) الحرية: فالعبد ليس بكفء للحرة، ولا العتيق كفئا لحرة الاصل، ولا من مس الرق أحد آبائه كفئا لمن لم يمسها رق، ولا أحدا من آبائها، لان الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد، أو تحت من سبق من كان في آبائه مسترق. (ثالثا) الاسلام: أي التكافؤ في إسلام الاصول. وهو معتبر في غير العرب، أما العرب فلا يعتبر فيهم، لانهم اكتفوا بالتفاخر بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم. وأما غير العرب من الموالي والاعاجم، فيتفاخرون بإسلام الاصول، وعلى هذا إذا كانت المرأة مسلمة لها أب وأجداد مسلمون، فإنه لا يكافئها المسلم الذي ليس له في الاسلام أب ولاجد، ومن لها أب واحد في الاسلام يكافؤها من له أب واحد فيه، ومن له أب وجد في الاسلام فهو كفء لمن لها أب وأجداد، لان تعريف المرء يتم بأبيه وجده، فلا يلتفت إلى ما زاد. ورأي أبي يوسف أن من له أب واحد في الاسلام كفء لمن لها آباء، لان التعريف عنده يكون كاملا بذكر الاب، أما أبو حنيفة ومحمد فلا يكون التعريف عندهما كاملا إلا بالاب والحد.   (1) سورة المجادلة: آية 11. (2) سورة الزمر: آية 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 (رابعا) الحرفة: إذا كانت المرأة من أسرة تمارس حرفة شريفة، فلا يكون صاحب الحرفة الدنيئة كفئا لها، وإذا تقاربت الحرف فلا اعتبار للتفاوت فيها. والمعتبر في شرف الحرب ودنائتها العرف، فقد تكون حرفة ما شريفة في مكان ما، أو زمان ما، بينما هي دنيئة في مكان ما، أو زمان ما. وقد استدل القائلون باعتبار الكفاءة بالحرفة بالحديث المتقدم: " العرب بعضهم أكفاء لبعض، إلى: حائكا أو حجاما ". وقد قيل لاحمد بن حنبل رحمه الله: وكيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل على هذا. قال في المغني: يعني أنه ورد موافقا لاهل العرف. ولان أصحاب الصنائع الجليلة والحرف الشريفة يعتبرون تزويج بناتهم لاصحاب الصنائع الدنيئة - كالحائك، والدباغ، والكناس، والزبال - نقصا يلحقهم، وقد جرى عرف الناس بالتعيير بذلك، فأشبه النقص في النسب. وهذا مذهب الشافعية، ومحمد وأبي يوسف من الحنفية. ورواية عن أحمد وأبي حنيفة. ورواية عن أبي يوسف أنها لا تعتبر إلا أن تفحش. (خامسا) المال: وللشافعية اختلاف في اعتباره، فمنهم من قال باعتباره، فالفقير عند هؤلاء ليس بكفء للموسرة لما روى سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحسب المال، والكرم التقوى ". قالوا: ولان نفقة الفقير دون نفقة الموسر. ومنهم من قال: لا يعتبر، لان المال غاد ورائح، ولانه لا يفتخر به ذوو المروءات، وأنشدوا قول الشاعر: غنينا (1) زمانا بالتصعلك والفقر وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر   (1) غنينا رمانا: أي أقمنا، والتصعلك: الفقرو الصعلوك: الفقير، وعروة الصعاليك: رجل عربي كان يجمع الفقراء في مكان ويرزقهم مما يغنم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وعند الاحناف اعتبار المال، والمعتبر فيه أن يكون مالكا المهر والنفقة، حتى إن من لم يملكهما، أو لا يملك أحدهما لا يكون كفئا. والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله، لان ما وراءه مؤجل عرفا. وعن أبي يوسف أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر، لانه تجري المساهلة فيه، وبعد المرء قادرا عليه بيسار أبيه. واعتبار المال في الكفاءة رواية عن أحمد، لان على الموسرة ضررا في إعسار زوجها، لاخلاله بنفقتها ومؤنة أولادها، ولان الناس يعتبرون الفقر نقصا، ويتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب، وأبلغ. (سادسا) السلامة من العيوب: وقد اعتبر أصحاب الشافعي - وفيما ذكره ابن نصر عن مالك - السلامة من العيوب من شروط الكفاءة. فمن به عيب مثبت للفسخ ليس كفئا للسليمة منه، فإن لم يكن مثبتا للفسخ عنده وكان منفرا كالعمى، والقطع، وتشويه الخلقة. فوجهان، واختيار الروياني أن صاحبه ليس بكفء. ولم يعتبرها الاحناف ولا الحنابلة. وفي المغني: وأما السلامة من العيوب فليس من شروط الكفاءة، فإنه لا خلاف في أنه لا يبطل النكاح بعدمه، وكلنها تثبت الخيار للمرأة دون الاولياء، لان ضرره مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم، والابرص والمجنون. فيمن تعتبر؟ والكفاءة في الزواج معتبرة في الزوج دون الزوجة. أي أن الرجل هو الذي يشترط فيه أن يكون كفئا للمرأة ومماثلا لها، ولا يشترط أن تكون المرأة كفئا للرجل (1) .   (1) يرى الاحناف أن الكفاءة من جانب الزوجة معتبرة في حالتين: 1 - فيما إذا وكل الرجل عنه من يزوجه امرأة غير معيبة، فإنه يشترط لنفاذ تزويج الوكيل على الموكل أن يزوجه ممن تكافئه. كما تقدم في الوكالة. 2 - وفيما إذا كان الولي الذي زوج الصغيرة غير الاب الذي لم يعرف بسوء الاختيار فإنه يشترط لصحة التزويج أن تكون الزوجة كفئا له احتياطا لمصلحته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ودليل ذلك: (أولا) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت عنده جارية، فعلمها وأحسن تعليمها، وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ". رواه البخاري ومسلم. (ثانيا) أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له في منزلته، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج من صفية بنت حيي وكانت يهودية وأسلمت. (ثالثا) أن الزوجة الرفيعة المنزلة، هي التي تعير هي وأولياؤها عادة، إذا تزوجت من غير الكفء. أما الزوج الشريف فلا يعير إذا كانت زوجته خسيسة ودونه منزلة. الكفاءة حق للمرأة والأولياء: يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة حق للمرأة والاولياء، فلا يجوز للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الاولياء (1) . لان تزويجها بغير الكفء فيه إلحاق عار بها وبهم، فلم يجز من غير رضاهم جميعا. فإذا رضيت، ورضي أولياؤها جاز تزويجها لان المنع لحقهم، فإذا رضوا زال المنع. وقال الشافعية: هي لمن له الولاية في الحال. وقال أحمد - في رواية: هي حق لجميع الاولياء: قريبهم وبعيدهم. فمن لم يرض منهم فله الفسخ. وفي رواية عن أحمد: أنها حق الله، فلو رضي الاولياء والزوجة بإسقاط الكفاءة لا يصح رضاهم، ولكن هذه الرواية مبنية على أن الكفاءة في الدين لا غير، كما جاء في إحدى الروايات عنه. وقت اعتبارها: وإنما يعتبر وجود الكفاءة عند إنشاء العقد، فإذا تخلف وصف من أوصافها   (1) إذا زوجت المرأة من غير كفء بغير رضاها وغير رضا الاولياء فقيل إن الزواج باطل، وقيل إنه صحيح، ويثبت فيه الخيار. هذا عند الشافعية ورأي الاحناف مبين في الولاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 بعد العقد فإن ذلك لا يضر، ولا يغير من الواقع شيئا، ولا يؤثر في عقد الزواج، لان شروط الزواج إنما تعتبر عند العقد. فإن كان عند الزواج صاحب حرفة شريفة، أو كان قادرا على الانفاق، أو كان صالحا. ثم تغيرت الظروف فاحترف مهنة دنيئة، أو عجز عن الانفاق أو فسق عن أمر ربه بعد الزواج. فإن العقد باق على ما هو عليه ... فإن الدهر قلب، والانسان لا يدوم على حال واحدة. وعلى المرأة أن تقبل الواقع، وتصبر وتتقي، فإن ذلك من عزم الامور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الحقوق الزوجية : إذا وقع العقد صحيحا نافذا ترتبت عليه آثاره، ووجبت بمقتضاه الحقوق الزوجية. وهذه الحقوق ثلاثة أقسام: 1 - منها حقوق واجبة للزوجة على زوجها. 2 - ومنها حقوق واجبة للزوج على زوجته. 3 - ومنها حقوق مشتركة بينهما. وقيام كل من الزوجين بواجبه، والاضطلاع بمسؤولياته هو الذي يوفر أسباب الاطمئنان والهدوء النفسي، وبذلك تتم السعادة الزوجية. وفيما يلي تفصيل وبيان بعض هذه الحقوق: الحقوق المشتركة بين الزوجين: والحقوق المشتركة بين الزوجين هي: 1 - حل العشرة الزوجية واستمتاع كل من الزوجين بالاخر. وهذا الحل مشترك بينهما، فيحل للزوج من زوجته ما يحل لها منه..وهذا الاستمتاع حق للزوجين، ولا يحصل إلا بمشاركتهما معا، لانه لا يمكن أن ينفرد به أحدهما. 2 - حرمة المصاهرة: أي أن الزوجة تحرم على آباء الزوج، وأجداده، وأبنائه، وفروع أبنائه وبناته. كما يحرم هو على أمهاتها، وبناتها، وفروع أبنائها وبناتها. 3 - ثبوت التوارث بينهما بمجرد إتمام العقد. فإذا مات أحدهما بعد إتمام العقد ورثه الاخر ولو لم يتم الدخول. 4 - ثبوت نسب الولد من الزوج صاحب الفراش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 5 - المعاشرة بالمعروف: فيجب على كل من الزوجين أن يعاشر الاخر بالمعروف حتى يسودهما الوئام، ويظلهما السلام. قال الله تعالى: " وعاشروهن بالمعروف (1) ". الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها: الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها منها: 1 - حقوق مالية: وهي المهر، والنفقة. 2 - وحقوق غير مالية: مثل العدل بين الزوجات إذا كان الزوج متزوجا بأكثر من واحدة، ومثل عدم الاضرار بالزوجة. ونذكر تفصيل ذلك فيما يلي من صفحات ...   (1) سورة النساء آية 19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 المهر : من حسن رعاية الاسلام للمرأة واحترامه لها، أن أعطاها حقها في التملك، إذ كانت في الجاهلية مهضومة الحق مهيضة الجناح، حتى ان وليها كان يتصرف في خالص مالها، لا يدع لها فرصة التملك، ولا يمكنها من التصرف. فكان أن رفع الاسلام عنها هذا الاصر، وفرض لها المهر، وجعله حقا على الرجل لها، وليس لابيها، ولا لاقرب الناس إليها أن يأخذ شيئا منها إلا في حال الرضا والاختيار قال الله تعالى: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (1) ". : وآتوا النساء مهورهن عطاء مفروضا لا يقابله عوض، فإن أعطين شيئا من المهر بعد ما ملكن من غير إكراه ولا حياء ولا خديعة، فخذوه سائغا، لا غصة فيه، ولا إثم معه. فإذا أعطت الزوجة شيئا من مالها حياء، أو خوفا، أو خديعة، فلا يحل أخذه. قال تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟ (2) ". وهذا المهر المفروض للمرأة، كما أنه يحقق هذا المعنى. فهو يطيب نفس المرأة ويرضيها بقوامة الرجل عليها. قال تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم (3) " مع ما يضاف إلى ذلك من توثيق الصلات، وإيجاد أسباب المودة والرحمة.   (1) سورة النساء آية 4. (2) سورة النساء آية 20، 21. (3) سورة النساء الاية 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 قدر المهر: لم تجعل الشريعة حدا لقلته، ولا لكثرته، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، ولكل جهة عاداتها وتقاليدها، فتركت التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته، وحسب حالته، وعادات عشيرته، وكل النصوص جاءت تشير إلى أن المهر لا يشترط فيه إلا أن يكون شيئا له قيمة، بقطع النظر عن القلة والكثرة، فيجوز أن يكون خاتما من حديد، أو قدحا من تمر أو تعليما لكتاب الله، وما شابه ذلك، إذا تراضى عليه المتعاقدان. 1 - فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم. فأجازه ". رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه. 2 - وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يارسول الله إني وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل، فقال: يارسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا، فقال: ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شئ؟ قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن. رواه البخاري ومسلم. وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة: " علمها من القرآن ". وفي رواية أبي هريرة: أنه قدر ذلك بعشرين آية. 3 - وعن أنس: أن أبا طلحة خطب أم سليم، فقالت: " والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره. فكان ذلك مهرها ". فدلت هذه الاحاديث على جواز جعل المهر شيئا قليلا، وعلى جواز جعل المنفعة مهرا. وأن تعلم القرآن من المنفعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وقد قدر الاحناف أقل المهر بعشرة دراهم، كما قدره المالكية بثلاثة. وهذا التقدير لا يستند إلى دليل يعول عليه، ولا حجة يعتد بها. قال الحافظ: وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شئ، وقال ابن القيم - تعليقا على ما تقدم من الاحاديث - وهذا هو الذي اختارته أم سليم من انتفاعها بإسلام أبي طلحة وبذل نفسها له إن أسلم. وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج، فإن الصداق شرع في الاصل حقا للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالعلم والدين، وإسلام الزوج، وقراءته القرآن - كان هذا من أفضل المهور، وأنفعها، وأجلها. فما خلا العقد عن مهر وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم، أو عشرة من النص، والقياس، إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصا وقياسا. وليس هذا مستويا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبة مجردة من ولي وصداق، بخلاف ما نحن فيه فإنه نكاح بولي وصداق، وإن كان غير مالي. فإن المرأة جعلته عوضا عن المال، لما يرجع إليها من منفعة. ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة، كهبة شئ من مالها بخلاف الموهوبة التي خص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا مقتضى هذه الاحاديث. وقد خالف في بعضه من قال: لا يكون الصداق إلا مالا، ولا يكون منافع أخر، ولا علمه ولا تعليمه صداقا كقول أبي حنيفة، وأحمد رحمهما الله في رواية عنه. ومن قال: لا يكون أقل من ثلاثة دراهم كمالك رحمه الله وعشرة دراهم كأبي حنيفة رحمه الله. وفيه أقوال أخرى شاذة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب. ومن ادعى في هذه الاحاديث التي ذكرناها، اختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنها منسوخة، أو أن عمل أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل. والاصل بردها. وقد زوج سيد أهل المدينة من التابعين - سعيد بن المسيب - ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، بل عد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 من مناقبه وفضائله. وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع. أما من حيث الكثرة، فإنه لا حد لاكثر المهر. فعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى وهو على المنبر، أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم. ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت: أما سمعت الله يقول: " وآتيتم إحداهن قنطارا "!. فقال: اللهم عفوا، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع، فركب المنبر، فقال: " إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ". رواه سعيد بن منصور، وأبو يعلى بسند جيد. وعن عبد الله بن مصعب أن عمر قال: " لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال " فقالت امرأة: ما ذاك لك. قال: ولم؟. فقالت: لان الله تعالى يقول: و " آتيتم إحداهن قنطارا ". فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ. كراهة المغالاة في المهور: ومهما يكن من شئ فإن الاسلام يحرص على إتاحة فرص الزواج لاكثر عدد ممكن من الرجال والنساء، ليستمتع كل بالحلال الطيب. ولا يتم ذلك إلا إذا كانت وسيلته مذللة، وطريقته ميسرة. بحيث يقدر عليه الفقراء الذين يجهدهم بذل المال الكثير، ولا سيما أنهم الاكثرية، فكره الاسلام التغالي في المهور، وأخبر أن المهر كلما كان قليلا كان الزواج مباركا، وأن قلة المهر من يمن المرأة. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة ". وقال: " يمن المرأة خفة مهرها، ويسر نكاحها، وحسن خلقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وشؤمها غلاء مهرها، وعسر نكاحها، وسوء خلقها ". وكثير من الناس جهل هذه التعاليم، وحاد عنها وتعلق بعادات الجاهلية من التغالي في المهور، ورفض التزويج إلا إذا دفع الزوج قدرا كبيرا من المال يرهقه، ويضايقه، كأن المرأة سلعة يساوم عليها، ويتجر بها. وقد أدى ذلك إلى كثرة الشكوى، وعانى الناس من أزمة الزواج التي أضرت بالرجال والنساء على السواء، ونتج عنها كثير من الشرور والمفاسد، وكسدت سوق الزواج، وأصبح الحلال أصعب منالا من الحرام. تعجيل المهر وتأجيله: يجوز تعجيل المهر وتأجيله، أو تعجيل البعض، وتأجيل البعض الاخر، حسب عادات النساء، وعرفهم. ويستحب تعجيل جزء منه، لما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عليا أن يدخل بفاطمة حتى يعطيها شيئا. فقال: ما عندي شئ. فقال: فأين درعك الحطمية؟ فأعطاه إياها. رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه. وروى أبو داود، وابن ماجه عن عائشة قالت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا ". فهذا الحديث يدل على أنه يجوز دخول المرأة قبل أن يقدم لها شيئا من المهر. وحديث ابن عباس يدل على أن المنع كان على سبيل الندب. قال الاوزاعي: " كانوا يستحسنون ألا يدخل عليها حتى يقدم لها شيئا " وقال الزهري: " بلغنا في السنة ألا يدخل بامرأة حتى يقدم يكسو كسوة. ذلك مما عمل به المسلمون ". وللزوج أن يدخل على زوجته. وعليها أن تسلم نفسها إليه، ولا تمتنع عليه ولو لم يعطها ما اشترط تعجيله لها من المهر - وإن كان يحكم لها به. قال ابن حزم: " ومن تزوج فسمى صداقا أو لم يسم فله الدخول بها أحبت أم كرهت مقضي لها بما سمى لها، أحب أم كره، ولا يمنع من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أجل ذلك من الدخول بها، لكن يقضى له عاجلا بالدخول ويقضى لها عليه حسب ما يوجد عنده من الصداق. فإن كان لم يسم لها شيئا قضي عليه بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأقل أو أكثر ". وقال أبو حنيفة: " إن له أن يدخل بها أحبت أم كرهت، إن كان مهرها مؤجلا لانها هي التي رضيت بالتأجيل وهذا لا يسقط حقه. وإن كان معجلا كله أو بعضه لم يجز له أن يدخل بها حتى يؤذي إليها ما اشترط لها تعجيله، ولها أن تمنع نفسها منه حتى يوفيها ما اتفقوا على تعجيله ". قال ابن المنذر: " أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهرها " وقد ناقش صاحب المحلى هذا الرأي. فقال: " لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه من حين يعقد عليها الزوج فإنها زوجة له. فهو حلال لها، وهي حلال له. فمن منعها منه حتى يعطيها الصداق أو غيره، فقد حال بينه وبين امرأته، بلا نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ". لكن الحق ما قلنا: ألا يمنع حقه منها ولا تمنع هي حقها من صداقها، لكن له الدخول عليها - أحبت أم كرهت - ويؤخذ مما يوجد له صداقها، أحب أم كره..وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تصويب قول القائل: " أعط كل ذي حق حقه ". متى يجب المهر المسمى كله: يجب المهر المسمى كله في إحدى الحالات الاتية: 1 - إذا حصل الدخول الحقيقي لقول الله تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا. أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟ وكيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟! " (1) 2 - إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول. وهو مجمع عليه. 3 - ويرى أبو حنيفة: أنه إذا اختلى بها خلوة صحيحة، استحقت الصداق المسمى. وذلك بأن ينفرد الزوجان في مكان يأمنان فيه اطلاع أحد عليهما، ولم يكن بأحد منهما مانع شرعي، مثل أن يكون أحدهما صائما صيام فرض عليه، أو تكون حائضا. أو مانع حسي، مثل مرض أحدهما مرضا لا يستطيع معه الدخول الحقيقي، أو مانع طبيعي بأن يكون معهما ثالث. واستدل أبو حنيفة بما رواه أبو عبيدة عن زائدة بن أبي أوفى، قال: " قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أغلق الباب، وأرخى الستر، فقد وجب الصداق ". وروى وكيع عن نافع بن جبير قال: " كان أصحاب رسول الله يقولون: إذا أرخى الستر وأغلق الباب، فقد وجب الصداق ". ولان التسليم المستحق وجد من جهتها فيستقر به البدل. وخالف في ذلك الشافعي، ومالك وداود فقالوا: " لا يستقر المهر كله إلا بالوطء (2) ، ولا يجب بالخلوة الصحيحة إلا نصف المهر، لقول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم. (3) . أي ان نصف ما فرض من المهر يجب إذا وقع الطلاق قبل المسيس الذي هو الدخول الحقيقي. وفي حالة الخلوة لم يقع مسيس، فلا يجب المهر كله. قال شريح: " لم أسمع الله ذكر في كتابه بابا، ولا سترا. إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق ".   (1) سورة النساء آية 20، 21. (2) إلا أن مالكا قال: إذا بنى عليها وطالت هذه الخلوة - فإن المهر يستقر وإن لم يطأ وحدده ابن قاسم من أتباعه بعام. (3) سورة البقرة آية 237. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس أنه كان يقول في رجل دخلت عليه امرأته، ثم طلقها، فزعم أنه لم يمسها: " عليه نصف الصداق ". وروى عبد الرزاق عنه قال: " لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها ". وجوب المهر المسمى بالدخول في الزواج الفاسد: إذا عقد الرجل على المرأة، ودخل بها، ثم تبين فساد الزواج لسبب من الاسباب، وجب المهر المسمى كله، لما رواه أبو داود: أن بصرة بن أكثم تزوج امرأة بكرا في كسرها فدخل عليها، فإذا هي حبلى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لها الصداق بما استحللت من فرجها " وفرق بينهما. ففي هذا الحديث وجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد كما أنه تضمن فساد النكاح وبطلانه إذا تزوجها فوجدها حبلى من الزنا. الزواج بغير ذكر المهر: الزواج بغير ذكر المهر، ويسمى " زواج التفويض " يصح في قول عامة أهل العلم، لقول الله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة (1) ". ومعنى الاية: أنه لا إثم على من طلق زوجته قبل المسيس، وقبل أن يفرض لها مهرا. فإذا تزوج بغير ذكر المهر، واشترط أن لا مهر عليه فقيل: إن الزواج غير صحيح، وإلى هذا ذهبت المالكية وابن حزم. قال: وأما لو اشترط فيه أن لا صداق، فهو مفسوخ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل ". وهذا شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، بل في كتاب الله عز وجل إبطاله. قال الله تعالى: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ". فإذن هو باطل، فالنكاح المذكور لم تنعقد صحته إلا على تصحيح ما لا يصح، فهو نكاح لا صحة له.   (1) سورة البقرة: الاية 236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وذهبت الاحناف إلى القول بالجواز، إذ المهر ليس ركنا ولا شرطا في عقد الزواج. وجوب مهر المثل بالدخول أو بالموت قبله: وإذا دخل بها الزوج، أو مات قبل الدخول بها، في هذه الحال، فللزوجة مهر المثل والميراث، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود أنه قال في مثل هذه المسألة: " أقول فيها برأيي - فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني -: أرى لها صداق امرأة من نسائها: لاوكس (1) ، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار، فقال، أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع واشق. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد، وداود، وأصح قولي الشافعي. مهر المثل: مهر المثل هو المهر الذي تستحقه المرأة، مثل مهر من يماثلها وقت العقد في السن، والجمال، والمال، والعقل، والدين، والبكارة، والثيوبة، والبلد، وكل ما يختلف لاجله الصداق، كوجود الولد أو عدم وجوده، إذ أن قيمة المهر للمرأة تختلف عادة باختلاف هذه الصفات. والمعتبر في المماثلة من جهة عصبتها كأختها وعمتها وبنات أعمامها. وقال أحمد: هو معتبر بقراباتها من العصبات وغيرهم من ذوي أرحامها. وإذا لم توجد امرأة من أقرباتها من جهة الاب متصفة بأوصاف الزوجة التي نريد تقدير مهر المثل لها، كان المعتبر مهر امرأة أجنبية من أسرة تماثل أسرة أبيها. زواج الصغيرة بأقل من مهر المثل: ذهب الشافعي، وداود، وابن حزم، والصاحبان، من الاحناف، إلى أنه لا يجوز للاب أن يزوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، ولا يلزمها   (1) لا وكس: لا نقص عن مهر نسائها ولا شطط ولا زيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 حكم أبيها في ذلك، وتبلغ إلى مهر مثلها ولا بد، إذ أن المهر حق لها، ولا حكم لابيها في مالها..وقال أبو حنيفة: إذا زوج الاب ابنته الصغيرة، ونقص من مهرها، جاز ذلك عليها، ولا يجوز ذلك لغير الاب والجد. تشطير المهر: يجب على الزوج نصف المهر إذا طلق زوجته قبل الدخول بها، وكان قد فرض لها قدر الصداق، لقوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون (1) أو يعفو الذي بيده عقدة (2) النكاح، وأن تعفوا أقرب للتقوى. ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (3) ". وجوب المتعة : إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا، وجب عليه المتعة تعويضا لها عما فاتها. وهذا نوع من التسريح الجميل، والتسريح بإحسان، قال الله تعالى: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (4) ". وقد أجمع العلماء على أن التي لم يفرض لها، ولم يدخل بها، لا شئ لها غير المتعة. والمتعة تختلف باختلاف ثروة الرجل. وليس لها حد معين، قال الله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة. ومتعوهن على   (1) يعفون: أي النساء المكلفات. (2) بيده عقده النكاح: هو الزوج وقيل هو الولي. (3) سورة البقرة الاية 237. (4) سورة البقرة الاية: 229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الموسع (1) قدره (2) وعلى المقتر (3) قدره، متاعا بالمعروف (4) حقا على المحسنين (5) . سقوط المهر: ويسقط المهر كله عن الزوج، فلا يجب عليه شئ للزوجة في كل فرقة كانت قبل الدخول من قبل المرأة، كأن ارتدت عن الاسلام. أو فسخت العقد لاعساره، أو عيبه، أو فسخه هو بسبب عيبها، أو بسبب خيار البلوغ. ولا يجب لها متعة، لانها أتلفت المعوض قبل تسليمه، فسقط البلد كله كالبائع يتلف المبيع قبل تسليمه. ويسقط المهر كذلك، إذا أبرأته قبل الدخول بها أو وهبته له، فإنه في هذه الحال يسقط بإسقاطها له. وهو حق خالص لها. الزيادة على الصداق بعد العقد: قال أبو حنيفة: إن الزيادة على الصداق بعد العقد ثابتة إن دخل بالزوجة، أو مات عنها، فأما إن طلقها قبل الدخول، فإنها لا تثبت، وكان لها نصف المسمى فقط (6) . وقال مالك: الزيادة ثابتة إن دخل بها، فإن طلقها قبل الدخول فلها نصفها مع نصف المسمى. وإن مات قبل الدخول وقبل القبض بطلت، وكان لها المسمى بالعقد. وقال الشافعي: هي هبة مستأنفة. إن قبضها جازت وإن لم يقبضها بطلت. وقال أحمد: حكمها حكم الاصل. مهر السر ومهر العلانية: إذا اتفق العاقدان في السر على مهر، ثم تعاقدا في العلانية بأكثر منه.   (1) الموسع: ذو السعة وهى البسطة والغنى. (2) قدره: طاقته. (3) المقتر الفقير قليل المال. (4) متاعا بالمعرو ف: المعروف ما يتعارف عليه الناس بينهم. (5) سورة البقرة الاية 236. (6) هذا ما جرى عليه العمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ثم اختلفا إلى القضاء فبم يحكم القاضي. ؟ قال أبو يوسف: يحكم بما اتفقا عليه سرا، لانه يمثل الارادة الحقيقية وهو مقصد العاقدين. وقيل: يحكم بمهر العلانية، لانه هو المذكور في العقد، وما كان سرا فعلمه إلى الله، والحكم يتبع الظاهر. وهو مذهب أبي حنيفة، ومحمد، وظاهر قول أحمد في رواية الاثرم، وقول الشعبي وابن أبي ليلى، وأبي عبيد. قبض المهر: إذا كانت الزوجة صغيرة، فللاب قبض صداقها، لانه يلي مالها، فكان له قبضه كثمن مبيعها. وإن لم يكن لها أب ولا جد، فلوليها المالي قبض صداقها، ويودعه في المحاكم الحسبية، ولا يتصرف فيه إلا بإذن من المحكمة المختصة. أما صداق الثيب الكبيرة فلا يقبضه إلا بإذنها، إذا كانت رشيدة، لانها المتصرفة في مالها. والاب إذا قبض المهر بحضرتها، اعتبر ذلك إجازة منها بالقبض إذا سكتت، وتبرأ ذمة الزوج، لان إذنها في قبض صداقها كثمن مبيعها. وفي البكر البالغة العاقلة: أن الاب لا يقبض صداقها إلا بإذنها إذا كانت رشيدة (1) ، كالثيب. وقيل: له قبضه بغير إذنها، لانها العادة، ولانها تشبه الصغيرة.   (1) سن الرشد بمقتضى القوانين المصرية إحدى وعشرون سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الجهاز الجهاز هو الاثاث الذي تعده الزوجة هي وأهلها ليكون معها في البيت، إذا دخل بها الزوج. وقد جرى العرف، على أن تقدم الزوجة، وأهلها، بإعداد الجهاز وتأثيث البيت. وهو أسلوب من أساليب إدخال السرور على الزوجة بمناسبة زفافها. وقد روى النسائي عن علي رضي الله عنه قال: " جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل، وقربة، ووسادة حشوها إذخر ". وهذا مجرد عرف جرى عليه الناس، وأما المسؤول عن إعداد البيت إعدادا شرعيا، وتجهيز كل ما يحتاج له من الاثاث، والفرش، والادوات، فهو الزوج، والزوجة لا تسأل عن شئ من ذلك، مهما كان مهرها، حتى ولو كانت زيادة المهر من أجل الاثاث، لان المهر إنما تستحقه الزوجة في مقابل الاستمتاع بها، لا من أجل إعداد الجهاز لبيت الزوجية، فالمهر حق خالص لها، ليس لابيها، ولا لزوجها، ولا لاحد حق فيه. وقد رأى المالكية: أن المهر ليس حقا خالصا للزوجة، ولهذا لا يجوز لها أن تنفق منه على نفسها، ولا تقضي منه دينا عليها، وإن كان للمحتاجة أن تنفق منه، وتلتمس بالشئ القليل بالمعروف، وأن تقضي منه الدين القليل كالدينار إذا كان المهر كثيرا. وإنما ليس لها شئ من ذلك الذي ذكرناه، لان عليها أن تتجهز لزوجها بالمعروف، أي بما جرت به العادة في جهاز مثلها لمثله بما قبضته من المهر قبل الدخول، إن كان حالا، أو بما تقبضه منه إذا كان مؤجلا، وحل الاجل   (1) الخميل: القطيفة، وهي كل ثوب له خميل ووبر من أي شئ والاذخر نبت طيب الرائحة تحشى به الوسائد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 قبل الدخول بها، فإن تأخر قبض شئ من المهر حتى دخل زوجها بها، لم يكن عليها أن تتجهز بشئ مما تقبضه من بعد إلا إذا كان ذلك مشروطا، أو جرى به العرف. وقد استوحى واضعو مشروع قانون الاحوال الشخصية، مذهب الامام مالك في هذه الناحية، فقد جاء في المادة رقم 66 منه: " أن الزوجة تلتزم بتجهيز نفسها بما يتناسب وما تعجل من مهر قبل الدخول، ما لم يتفق على غير ذلك، فإذا لم يعجل شئ من المهر فلا تلتزم بالجهاز، إلا بمقتضى الاتفاق أو العرف " (1) . والجهاز إذا اشترته الزوجة بمالها، أو اشتراه لها أبوها فهو ملك خالص لها، ولاحق للزوج ولا لغيره فيه، ولها أن تمكن زوجها وضيوفه من الانتفاع به، كما أن لها أن تمتنع عن التمكين من الانتفاع، وإذا امتنعت لا تجبر عليه. وقال مالك: يجوز للزوج أن ينتفع بجهاز زوجته الانتفاع الذي جرى به العرف.   (1) ص 214 أحكام الاحوال الشخصية الدكتور يوسف موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 النفقة : المقصود بالنفقة هنا: توفير ما تحتاج إليه الزوجة من طعام، ومسكن، وخدمة، ودواء، وإن كانت غنية. وهي واجبة بالكتاب، والسنة، والاجماع. أما وجوبها بالكتاب: 1 - فلقول الله تعالى: " وعلى الولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف. ولا تكلف نفس إلا وسعها " (1) . والمراد بالمولود له: الاب. والرزق في هذا الحكم: الطعام الكافي: والكسوة. اللباس والمعروف: المتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. 2 - وقوله سبحانه: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " (2) . 3 - وقوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (3) . وأما وجوبها بالسنة: 1 - فقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه   (1) سورة البقرة آية 233. (2) سورة الطلاق آية 6. (3) سورة الطلاق آية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن، وكسونهن بالمعروف ". 2 - وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن هندا بنت عتبة قالت، يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا أن أخذت منه - وهو لا يعلم - قال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". 3 - وعن معاوية القشيري رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ". وأما الاجماع: فقد قال ابن قدامة: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن. ذكر ابن المنذر وغيره. قال: وفيه ضرب من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من النصرف والاكتساب. فلابد من أن يتفق عليها. سبب وجوب النفقة: وإنما أوجب الشارع النفقة على الزوج لزوجته، لان الزوجة بمقتضى عقد الزواج الصحيح تصبح مقصورة على زوجها، ومحبوسة لحقه، لاستدامة الاستمتاع بها، ويجب عليها طاعته، والقرار في بيته، وتدبير منزله، وحضانة الاطفال وتربية الاولاد، وعليه نظير ذلك أن يقوم بكفايتها والانفاق عليها، مادامت الزوجية بينهما قائمة، ولم يوجد نشوز، أو سبب يمنع من النفقة عملا بالاصل العام: " كل من احتبس لحق غيره ومنفعته، فنفقته على من احتبس لاجله ". شروط استحقاق النفقة: ويشترط لاستحقاق النفقة الشروط الاتية: 1 - أن يكون عقد الزواج صحيحا. 2 - أن تسلم نفسها إلى زوجها. 3 - أن تمكنه من الاستمتاع بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 4 - ألا تمتنع من الانتقال حيث يريد الزوج (1) . 5 - أن يكونا من أهل الاستمتاع. فإذا لم يتوفر شرط من هذه الشروط، فإن النفقة لا تجب: ذلك أن العقد إذا لم يكن صحيحا، بل كان فاسدا، فإنه يجب على الزوجين المفارقة، دفعا للفساد. وكذلك إذا لم تسلم نفسها إلى زوجها، أو لم تمكنه من الاستمتاع بها، أو امتنعت من الانتقال إلى الجهة التي يريدها، ففي هذه الحالات لا تجب النفقة حيث لم يتحقق الاحتباس الذي هو سببها، كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع، أو سلم في موضع دون موضع. ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق عليها إلا من حين دخلت عليه، ولم يلتزم نفقتها لما مضى. وإذا أسلمت المرأة نفسها إلى الزوج، وهي صغيرة لا يجامع مثلها، فعند المالكية والصحيح من مذهب الشافعية أن النفقة لا تجب، لانه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع. فلا تستحق العوض من النفقة. قالوا: وإن كانت كبيرة والزوج صغير فالصحيح أنها تجب، لان التمكين وجد من جهتها، وإنما تعذر الاستيفاء من جهته، فوجبت النفقة كما لو سلمت إلى الزوج، وهو كبير فهرب منها. والمفتى به عند الاحناف: أن الزوج إذا استبقى الصغيرة في بيته، وأسكنها للاستئناس بها، وجبت لها النفقة لرضاه هو بهذا الاحتباس الناقص. وإن لم يمسكها في بيته فلا نفقة لها (2) . وإذا سلمت الزوجة نفسها وهي مريضة مرضا يمنعها من مباشرة الزوج لها وجبت لها النفقة. وليس من حسن المعاشرة الزوجية، ولا من المعروف الذي أمر الله به أن يكون المرض مفوتا ما وجب لها من النفقة.   (1) إلا إذا كان الزوج يريد الاضرار بها بالسفر، أو لا تأمن على نفسها أو مالها. (2) هذا مذهب أبي يوسف، أما مذهب أبي حنيفة ومحمد فهو مثل مذهب الشافعية لان احتباسها كعدمه حيث لا يوصل إلى الغرض المقصود من الزواج فلا تجب لها النفقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ومثل المريضة الرتقاء (1) ، والنحيفة (2) ، والمعيبة بعيب يمنع من مباشرة الزوج لها. وكذلك إذا كان الزوج عنينا، أو مجبوبا (3) ، أو خصيا، أو مريضا مرضا يمنعه من مباشرة النساء، أو حبس في دين أو جريمة ارتكبها، لانه وجد التمكين من الاستمتاع من جهتها، وما تعذر فهو من جهته، وهو سبب لا تنسب فيه إلى التفريط، وإنما هو الذي فوت حقه على نفسه. ولا تجب النفقة إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوجية إلى منزل آخر بغير إذن الزوج بغير وجه شرعي، أو سافرت بغير إذنه، أو أحرمت بالحج بغير إذنه. فإن سافرت بإذنه، أو أحرمت بإذنه، أو خرج معها لم تسقط النفقة، لانها لم تخرج عن طاعته وقبضته. وكذلك لا تجب لها النفقة إذا منعته من الدخول عليها في بيتها المقيم معها فيه، ولم تكن طلبت منه الانتقال إلى غيره فامتنع. فإن كانت طلبت منه الانتقال فأيى، فمنعته من الدخول، فلا تسقط النفقة. وكذلك لا تجب النفقة إذا حبست الزوجة في جريمة، أو في دين، أو كان حبسها ظلما، إلا إذا كان هو الذي حبسها في دين له عليها، لانه هو الذي فوت حقه. وكذلك لو غصبها غاصب، وحال بينها وبين زوجها، فإنها لا تستحق النفقة مدة غصبها. وكذلك الزوجة المحترفة التي تخرج لحرفتها. إذا منعها زوجها فلم تمتنع، لا تستحق النفقة. وكذلك إن منعت نفسها بصوم تطوعا أو باعتكاف تطوعا. ففي كل هذه الصور لا تستحق الزوجة النفقة، لانها فوتت حتى الزوج في الاستمتاع بها بغير وجه شرعي. فلو كان تفويتها حقه لوجه شرعي، لم تسقط النفقة. كما إذا أخرجت من طاعته، لان المسكن غير شرعي أو لان الزوج غير أمين على نفسها. أو مالها.   (1) الرتقاء: التي سد فرجها. (2) النحيفة: الهزيلة. (3) المجبوب: المقطوع الذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 المرأة تسلم دون زوجها : وإذا كان الزوجان كافرين، وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج، لم تسقط النفقة، لانه تعذر الاستمتاع بها من جهته، وهو قادر على إزالته بأن يسلم، فلم تسقط نفقتها، كالمسلم إذا غاب عن زوجته. ارتداد الزوج لا يمنع النفقة: وإذا ارتد الزوج، بعد الدخول، لم تسقط نفقتها، لان امتناع الوطء بسبب من جهته، وهو قادر على إزالته بالعودة إلى الاسلام بخلاف ما إذا ارتدت الزوجة، فان نفقتها تسقط، لانها منعت الاستمتاع بمعصية من قبلها، فتكون كالناشز. مذهب الظاهرية في سبب استحقاق النفقة: وللظاهرية رأي آخر في سبب وجوب النفقة. وهو الزوجية نفسها. فحيث وجدت الزوجية وجبت النفقة. وبنوا على مذهبهم هذا وجوب النفقة للصغيرة والناشز، دون النظر إلى الشروط التي قال بها غيرهم من الفقهاء. قال ابن حزم: " وينفق الرجل على امرأته من حين يعقد نكاحها. دعى إلى البناء، أم لم يدع. ولو أنها في المهد. ناشزا كانت أو غير ناشز: غنية كانت أو فقيرة. ذات أب أو يتيمة. بكرا كانت أو ثيبا. حرة كانت أو أمة. على قدر حاله (1) . قال: وقال أبو سليمان، وأصحابه، وسفيان الثوري: النفقة واجبة للصغيرة من حين العقد عليها. وأفتى الحكم بن عتيبة - في امرأة خرجت من بيت زوجها غاضبة - هل لها نفقة؟ قال: نعم. قال: ولا يحفظ منع الناشز من النفقة عن أحد من الصحابة، إنما هو شئ روي عن النخعي والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، والحسن، والزهري. وما نعلم لهم حجة، إلا أنهم قالوا: النفقة بإزاء الجماع. فإذا منعت الجماع منعت النفقة. انتهى بتصرف قليل.   (1) المحلى ج. 1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 تقدير النفقة وأساسه: إذا كانت الزوجة مقيمة مع زوجها، وكان هو قائما بالنفقة عليها، ومتوليا إحضار ما فيه كفايتها، من طعام، وكسوة، وغيرهما، فليس للزوجة أن تطلب فرض النفقة، حيث أن الزوج قائم بالواجب عليه. فإذا كان الزوج بخيلا لا يقوم بكفاية زوجته، أو أنه تركها بلا نفقة، بغير حق، فلها أن تطلب فرض نفقة لها من الطعام، والكسوة، والمسكن. وللقاضي أن يقضي لها بالنفقة، ويلزم الزوج بها متى ثبت لديه صحة دعواها. كما أن لها الحق أن تأخذ من ماله ما يكفيها بالمعروف (1) ، وإن لم يعلم الزوج، إذ أنه منع الواجب عليه وهي مستحقة له، وللمستحق أن يأخذ حقه بيده متى قدر عليه. وأصل ذلك ما رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. عن عائشة، رضي الله عنها: أن هندأ قالت: يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي. إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". وفي الحديث دلالة على أن النفقة تقدر بكفاية المرأة مع التقييد بالمعروف، أي: المتعارف بين كل حهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، وهذا يختلف باختلاف الازمنة، والامكنة، والاحوال، والاشخاص. وقد رأى صاحب الروضة الندية: أن الكفاية بالنسبة للطعام تعم جميع ما تحتاج إليه الزوجة، فيدخل فيه الفاكهة وما هو معتاد من التوسعة في الاعياد، وسائر الاشياء التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث يحصل التضرر بمفارقتها أو التضجر، أو التكدر. قال: ويدخل فيه الادوية ونحوها، وإليه يشير قوله تعالى: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف. "   (1) إذا كانت رشيدة ولم تسرف في الاخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات: إن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه. والرزق يشمل ما ذكرناه. ثم ذكر رأي بعض الفقهاء في عدم وجوب ثمن الادوية، وأجرة الطبيب، لانه يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار. ورجح دخول العلاج في النفقة، وأنه واجب فقال: وقال في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة. قال: وهو الحق لدخوله تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يكفيك ". وتحت قوله تعالى: " رزقهن ". فإن الصيغة الاولى عامة باعتبار لفظ " ما ". والثانية عامة، لانها مصدر مضاف. وهي من صيغ العموم. واختصاصه ببعض المستحقين لايمنع من الالحاق. قال: وبمجموع ما ذكرنا، يقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة، هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل من خشية السرف في بعض الاحوال، بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لاسرف فيه، بعد تبين مقدار ما يكفي بإخبار المخبرين، أو تجريب المجربين. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بالمعروف، أي: لا بغير المعروف وهو السرف والتقتير. نعم إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة. جاز لنا الاذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه، إذا كان من أهل الرشد، لا إذا كان من أهل السرف والتبذير، فإنه لا يجوز تمكينه من مال من عليه النفقة، لان الله تعالى يقول: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ". ثم قال: ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد، أن نجعل الاخذ إلى ولي من لارشد له، أو إلى رجل عدل. انتهى. ومما يجب لها عليه من النفقة ما تحتاج إليه من المشط والصابون والدهن وسائر ما تتنظف به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وقالت الشافعية: أما الطيب فإن كان يراد لقطع السهوكة (1) ، لزمه لانه يراد للتنظيف، وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع، لم يلزمه، لانه حق له، فلا يجبر عليه. رأي الاحناف: أن النفقة غير مقدرة بالشرع، وأنه يجب على الزوج لزوجته قدر ما يكفيها من الطعام، والادام، واللحم والخضر، والفاكهة، والزيت، والسمن، وسائر مالابد منه للحياة حسب المتعارف. وأن ذلك يختلف باختلاف الامكنة، والازمنة، والاحوال. كما يجب عليه كسوتها صيفا وشتاء. ورأوا تقدير نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرا أو عسرا مهما تكن حالة الزوجة، لقول الله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر (1) عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا (2) ". وقوله سبحانه: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم (4) ". مذهب الشافعية في تقدير النفقة: والشافعية لم يتركوا تقدير النفقة إلى ما فيه الكفاية، بل قالوا: إنما هي مقدرة بالشرع، وإن اتفقوا مع الاحناف في اعتبار حال الزوج يسرا أو عسرا، وأن على الزوج الموسر وهو الذي يقدر على النفقة بماله وكسبه - في كل يوم مدين، وأن على المعسر الذي لا يقدر على النفقة بمال ولا كسب مدا في كل يوم. وأن على المتوسط مدا ونصفا. واستدلوا لمذهبهم هذا بقول الله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته. ومن قدر عليه رزقه فينفق مما آتاه الله ". قالوا: ففرق بين الموسر والمعسر، وأوجب على كل واحد منهما على   (1) الرائحة الكريهة. (2) قدر: ضيق. (3) سورة الطلاق آية. (4) حسب قدرتكم وحالكم. الطلاق آية 6 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قدر حاله، ولم يبين المقدار فوجب تقديره بالاجتهاد، وأشبه ما تقاس عليه النفقة، الطعام في الكفارة. لانه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة. وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الاذى. وأقل ما يجب مد وهو في كفارة الجماع في رمضان. فإن كان متوسطا لزمه مد ونصف، لانه لا يمكن إلحاقه بالموسر، وهو دونه، ولا بالمعسر وهو فوقه، فجعل عليه مد ونصف. قالوا: ولو فتح باب الكفاية للنساء من غير تقدير لوقع التنازع، لا إلى غاية. فتعيين ذلك التقدير اللائق بالمعروف. وهذا خلاف ما لابد منه في الطعام من الادام واللحم، والفاكهة. وقالوا: يجب لها الكسوة، مع مراعاة حال الزوج من اليسار والاعسار، فلزوجة الموسر من الكسوة، ما يلبس عادة في البلد من رفيع الثياب. ولامرأة المعسر الغليظ من القطن، والكتان، ونحوهما. ولامرأة المتوسط ما بينهما. ويجب لها مسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه، مع تأثيث المسكن تأثيثا يتناسب مع حالته. وقالوا: إذا كان الزوج معسرا، ينفق عليها أدنى ما يكفيها من الطعام، والادام، بالمعروف. ومن الكسوة أدنى ما يكفيها من الصيفية والشتوية. وإن كان متوسطا، ينفق عليها أوسع من ذلك بالمعروف ومن الكسوة أرفع من ذلك، كله بالمعروف. وإنما كانت النفقة والكسوة بالمعروف، لان دفع الضرر عن الزوجة واجب، وذلك بايجاب الوسط من الكفاية، وهو تفسير المعروف. العمل في المحاكم الان: وما ذهب إليه الشافعية وبعض الاحناف من رعاية حال الزوج المالية، حين فرض النفقة، هو ما جرى به العمل الان في المحاكم، تطبيقا للمادة 16 من القانون رقم 25 لسنة 1929 ونصها: " تقدير نفقة الزجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرا، وعسرا، مهما كانت حالة الزوجة ". وهذا هو العدل، لانه يتفق مع الايتين المتقدمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 تقدير النفقة عينا أو نقدا: يصح أن يكون ما يفرض من النفقة من الخبز، والادام والكسوة، أصنافا معينة، كما يصح أن تفرض قيمتها نقدا لتشتري به ما تحتاج إليه. ويصح أن تفرض النفقة سنوية، أو شهرية، أو أسبوعية، أو يومية، حسب ما هو ميسور للزوج. والذي يسري عليه العمل الان في المحاكم، هو فرض بدل طعام الزوجة شهريا، وبدل كسوتها عن ستة شهور باعتبار أنها تحتاج في السنة إلى كسوة للصيف، وأخرى للشتاء. وبعض القضاة يفرض مبلغا شهريا للنفقة بأنواعها الثلاثة بدون تفصيل، مراعيا أن يكون فيما يفرضه لها كفاية لطعامها، وكسوتها، وسكناها، حسب حالة الزوج عسرا ويسرا. تغير الاسعار أو تغير حال الزوج المالية: إذا تغيرت الاسعار عن وقت الفرض، أو تغيرت حالة الزوج المالية، فإما أن يكون هذا التغير في الاسعار إلى زيادة، أو إلى نقص، أو يكون تغير حالة الزوج المالية إلى ما هو أحسن، أو أسوأ. ولا بد من رعاية كل حالة من هذه الحالات. فإن تغيرت الاسعار عن وقت الفرض إلى زيادة، كان للزوجة أن تطالب بزيادة نفقتها. وإن تغيرت إلى نقص كان للزوج أن يطلب تخفيض النفقة. وإن تحسنت حالة الزوج المالية عما كان عليه حين تقدير النفقة، كان للزوجة أن تطلب زيادة نفقتها. وإن تغيرت حالة الزوج المالية إلى أسوأ، كان للزوج الحق في طلب تخفيض النفقة. الخطأ في تقدير النفقة: إذا ظهر بعد تقدير النفقة أن التقدير كان خطأ لا يكفي الزوجة - حسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 حالة الزوج - من العسر أو اليسر - كان من حق الزوجة المطالبة بإعادة النظر في التقدير، وعلى القاضي أن يقدر لها ما يكفيها لطعامها، وكسوتها، مع ملاحظة حالة الزوج. دين النفقة يعتبر دينا صحيحا في ذمة الزوج: قلنا: إن نفقة الزوجة واجبة على زوجها، متى توفرت الشروط التي تقدم ذكرها. ومتى وجبت النفقة على الزوج لزوجته، لوجود سببها، وتوفر شروطها، ثم امتنع عن أدائها تصير دينا في ذمته. شأنها في هذا شأن الديون الثابتة، التي التي لا تسقط إلا بالاداء أو الابراء. وإلى هذا ذهبت الشافعية، وجرى عليه العمل منذ صدور قانون رقم 25 لسنة 1920 فقد جاء فيه: مادة 1 - تعتبر نفقة الزوجة التي سلمت نفسها لزوجها، ولو حكما، دينا في ذمته، من وقت امتناع الزوج عن الانفاق مع وجوبه، بلا توقف على قضاء قاض، أو تراض بينهما، ولا يسقط دينها إلا بالاداء أو الابراء. مادة 2 - المطلقة التي تستحق النفقة. تعتبر نفقتها دينا، كما جاء في المادة السابقة. من تاريخ الطلاق. وقد جاء مع هذا القانون تعليمات من الجهة التي صدر عنها (1) . وهي: 1 - إن نفقة الزوجة. أو المطلقة، لا يشترط لاعتبارها دينا في ذمة الزوج - القضاء، أو الرضا - بل تعتبر دينا من وقت امتناع الزوج عن الانفاق، مع وجوبه. 2 - إن دين النفقة من الديون الصحيحة، وهي التي لا تسقط إلا بالاداء أو الابراء. ويترتب على هذين الحكمين: 1 - إن للزوجة، أو المطلقة أن تطلب لها الحكم بالنفقة على زوجها، عن مدة سابقة على الترافع، ولو كانت أكثر من شهر، إذا ادعت أن   (1) وزارة العدل وكانت تسمى وزارة الحقانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 زوجها تركها من غير نفقة، مع وجوب الانفاق عليها في هذه المدة، طالت أم قصرت. ومتى أثبت ذلك بطريق من طرق الاثبات. ولو كانت شهادة الاسكتشاف المنصوص عليها في المادة 178 من اللائحة حكم لها بما طلبت. 2 - أن دين النفقة لا يسقط بموت أحد الزوجين، ولا بالطلاق - ولو خلعا - فللمطلقة مطلق الحق فيما تجمد لها من النفقة، حال قيام الزوجية، ما لم يكن عوضا لها عن الطلاق، أو الخلع. 3 - أن النشوز الطارئ لا يسقط متجمد النفقة، وإنما يمنع النشوز مطلقا من وجوبها مادامت الزوجة، أو المعتدة ناشزا. وبعد صدور هذا القانون، استغلته بعض الزوجات، في ترك المطالبة بالنفقة، حتى يتجمع منها مبلغ باهظ، ثم يطالبن الزوج بالمتجمد كله، مما يرهق الزوج ويثقل كاهله. فرؤي تدارك هذا الامر بما يرفع الضرر عن الازواج. وجاء في الفقرة 6 من المادة 99 من القانون رقم 78 لسنة 1931 بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما نصه: " لا تسمع دعوى النفقة عن مدة ماضية، لاكثر من ثلاث سنين ميلادية، نهايتها تاريخ رفع الدعوى ". وجاء في المذكرة الايضاحية لهذا القانون، بشأن هذه الفقرة ما نصه: " أما النفقة عن المدة الماضية فقد رؤي - أخذا بقاعدة تخصيص القضاء - ألا تسمع الدعوى بها لاكثر من ثلاث سنوات ميلادية. نهايتها تاريخ قيد الدعوى. ولما كان في إطلاق إجازة المطالبة بالنفقة المتجمدة عن مدة سابقة على رفع الدعوى - احتمال المطالبة بنفقة سنين عديدة ترهق الشخص الملزم بها. رؤي من العدل دفع صاحب الحق في النفقة إلى المطالبة بها، أولا فأولا، بحيث لا يتأخر أكثر من ثلاث سنوات، وجعل ذلك عن طريق منع سماع الدعوى ". وليس في ذلك الحكم ضرر على صاحب الحق في النفقة، إذ يمكنه المطالبة بها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 قبل مضي ثلاث سنوات (1) . ولا زال العمل مستمرا بهذا القانون إلى اليوم: الابراء من دين النفقة والمقاصة به: وإذا كانت النفقة التي تستحقها الزوجة على زوجها تعتبر دينا في ذمته، من الوقت الذي امتنع فيه عن أدائها بغير حق شرعي - فإنه يصح للزوجة أن تبرئه من هذا الدين، كله أو بعضه. ولو أبرأته مما يكون لها من النفقة في المستقبل لا يصح، لانه لم يثبت دينا بعد، والابراء لا يكون إلا من دين ثابت فعلا. ويستثنى من ذلك الابراء عن شهر واحد مستقبل، أو عن سنة واحدة - إن كانت النفقة فرضت مشاهرة، أو مسانهة. وإذا كانت النفقة معتبرة دينا صحيحا، لا يسقط إلا بالاداء أو الابراء، وكان للزوج دين في ذمتها، وطلب أحدهما مقاصة الدينين، أجيب إلى طلبه لاستواء الدينين في القوة. وللحنابلة رأي في المقاصة، فهم يفرقون بين أن تكون المرأة موسرة، أو معسرة، فإن كانت موسرة، فله أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها، لان من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء، وهذا من ماله. وإن كانت معسرة لم يكن له ذلك، لان قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته. ودين زوجها الذي هو عليها لا يفضل عنها، ولان الله تعالى أمر بإنظار المعسر. فقال: " وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة " فيجب إنظاره بما عليها. تعجيل النفقه وطروء ما يمنع الاستحقاق: إذا عجل الزوج لزوجته نفقة مدة مستقبلة كشهر، أو سنة مثلا، ثم   (1) ويؤخذ على هذا القانون أن التحديد بثلاث سنين لم تعرف حكمته من جهة، ولا دليل يمكن الاستناد إليه من جهة أخرى. على أن هذه المدة تعتبر مدة طويلة، وقد ترهق الازواج، ولهذا جاء في مشروع قانون الاحوال الشخصية المادة رقم 81 من أنه لا تسمع دعوى النفقة عن مدة تزيد عن سنة سابقة على الدعوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 طرأ في أثناء المدة ما يجعلها لا تستحق النفقة، بأن مات أحد الزوجين أو نشزت الزوجة، فللزوج أن يسترد نفقة ما بقي من المدة التي لا تستحق نفقة عنها، لانها أخذته جزاء احتباسها لحق الزوج، ومتى فات الاحتباس بالموت أو النشوز، فعليها أن ترد النفقة التي عجلت لها بالنسبة للمدة الباقية. وإلى هذا ذهب الامام الشافعي ومحمد بن الحسن (1) نفقة المعتدة: وللمعتدة الرجعية، والمعتدة الحامل النفقة، لقول الله سبحانه في الرجعيات: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم " (2) . ولقوله في الحوامل: " وإن كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن (3) ". وهذه الاية تدل على وجوب النفقة لجامل - سواء أكانت في عدة الطلاق الرجعي، أم البائن، أو كانت عدتها عدة وفاة - أما البائنة فإن الفقهاء اختلفوا في وجوب النفقة لها، إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال: 1 - أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي، واستدلوا بقول الله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم ". 2 - أن لها النفقة والسكنى، وهو قول عمربن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، والاحناف، واستدلوا على قولهم هذا بعموم قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ". فهذا نص في وجوب السكنى، وحيثما وجبت السكنى شرعا وجبت النفقة   (1) يرى الامام أبو حنيفة وأبو يوسف أن الزوج لا يسترد شيئا مما يعجل من النفقة، لانها وإن كانت جزاء احتباس ففيها شبه صلة وقد قبضتها الزوجة والصلة بين الزوجين لا رجوع فيها. (2، 3) سورة الطلاق آية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 لكون النفقة تابعة لوجوب الاسكان في الرجعية، وفي الحامل، وفي نفس الزوجية. وقد أنكر عمر وعائشة رضي الله عنهما على فاطمة بنت قيس الحديث الذي أوردته، وقال عمر: لانترك كتاب الله (1) وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أم نسيت. وحين بلغ فاطمة ذلك قالت: " بيني وبينكم كتاب الله ". قال الله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ". فأي أمر يحدث بعد الثلاث!. 3 - أنه لانفقة لها ولاسكنى، وهو قول أحمد، وداود، وأبي ثور، وحكي عن علي، وابن عباس، وجابر، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، والاوزاعي، والامامية. واستدلوا بما رواه البخاري، ومسلم، عن فاطمة بنت قيس قالت: " طلقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي نفقة ولاسكنى ". وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة ". وروى أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي: " أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفقة لك، إلا أن تكوني حاملة ". نفقة زوجة الغائب: جاء في القانون رقم (25) لسنة 1920 مادة (5) : " إذا كان الزوج غائبا غيبة قريبة، فإن كان له مال ظاهر نفذ الحكم   (1) يريد قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 عليه بالنفقة في ماله، وإن لم يكن له مال ظاهر أعذر إليه القاضي بالطرق المعروفة وضرب له أجلا، فإن لم يرسل ما تنفق فيه زوجته على نفسها، طلق عليه القاضي بعد مضي الاجل. فإن كان بعيد الغيبة لا يسهل الوصول إليه، إذ كان مجهول المحل، أو كان مفقودا، وثبت أنه لامال له تنفق منه الزوجة، طلق عليه القاضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 الحقوق غير المادية : تقدم أن من حقوق الزوجة على زوجها منها ما هو مادي: وهو المهر والنفقة، ومنها ما هو غير مادي وهو ما نذكره فيما يلي: (1) حسن معاشرتها: أول ما يجب على الزوج لزوجته إكرامها، وحسن معاشرتها، ومعاملتها بالمعروف، وتقديم ما يمكن تقديمه إليها، مما يؤلف قلبها، فضلا عن تحمل ما يصدر منها والصبر عليه. يقول الله سبحانه: " وعاشروهن بالمعروف. فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (1) ". ومن مظاهر اكتمال الخلق، ونمو الايمان أن يكون المرء رقيقا مع أهله، يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم ". وإكرام المرأة دليل الشخصية المتكاملة، وإهانتها علامة على الخسة واللؤم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم ". ومن إكرامها التلطف معها، ومداعبتها. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلطف مع عائشة رضي الله عنها فيسابقها، تقول: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم (2) ، سابقته فسبقني. فقال: " هذه بتلك السبقة ". رواه أحمد، وأبو داود.   (1) سورة النساء آية 19 (2) أي امتلا جسمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وروى أحمد، وأصحاب السنن، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " كل شئ يلهو به ابن آدم، فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق ". ومن إكرامها أن يرفعها إلى مستواه، وأن يتجنب أذاها، حتى ولو بالكلمة النابية. فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: " قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه "؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ". والمرأة لا يتصور فيها الكمال، وعلى الانسان أن يتقبلها على ماهي عليه. يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا، المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج ". رواه البخاري، ومسلم. وفي هذا إشارة إلى أن في خلق المرأة عوجا طبيعيا، وأن محاولة إصلاحه غير ممكنة، وأنه كالضلع المعوج المتقوس الذي لا يقبل التقويم. ومع ذلك فلابد من مصاحبتها على ماهي عليه، ومعاملتها كأحسن ما تكون المعاملة، وذلك لايمنع من تأديبها وإرشادها إلى الصواب إذا اعوجت في أي أمر من الامور. وقد يغضي الرجل عن مزايا الزوجة وفضائلها، ويتجسد في نظره بعض ما يكره من خطالها، فينصح الاسلام بوجوب الموازنة بين حسناتها وسيئاتها، وأنه إذا رأى منها ما يكره - فإنه يرى منها ما يحب. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ": لا يفرك (1) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها خلقا آخر ". (2) صيانتها: ويجب على الزوج أن يصون زوجته، ويحفظها من كل ما يخدش شرفها،   (1) لا يفرك: لا يبغض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ويثلم عرضها، ويمتهن كرامتها، ويعرض سمعتها لقالة السوء، وهذا من الغيرة التي يحبها الله. روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه ". وروى عن ابن مسعود أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: " ما أحد أغير من الله، ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما أحد إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه، وما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ". وروى أيضا أن سعد بن عبادة قال: " لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " أتعجبون من غيرة سعد. لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ". وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يدخلون الجنة: " العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء ". رواه النسائي والجزار، والحاكم، وقال: صحيح الاسناد. وعن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر. قالوا: يارسول الله: أما مدمن الخمر فقد عرفناه. فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تتشبه بالرجال ". رواه الطبراني. قال المنذري: ورواته ليس فيهم مجروح. وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته، فإنه يطلب منه أن يعتدل في هذه الغيرة، فلا يبالغ في إساءة الظن بها. ولا يسرف في تقصي كل حركاتها وسكناتها ولا يحصي جميع عيوبها، فإن ذلك يفسد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو داود، والنسائي، وابن حبان عن جابر بن عنبرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 " إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، ومن الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله: فالغيرة في الريبة، والغيرة التي يبغضها الله: فالغيرة في غير ريبة (1) . والاختيال الذي يحبه الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال، وعند الصدمة، والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل ". وقال علي كرم الله وجهه: لا تكثر الغيرة على أهلك، فترامى بالسوء من أجلك. إتيان الرجل زوجته : قال ابن حزم: وفرض على الرجل أن يجامع امرأته، التي هي زوجته، وأدنى ذلك مرة في كل طهر، إن قدر على ذلك. وإلا فهو عاص لله تعالى. برهان ذلك قوله عز وجل: " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله (2) ". وذهب جمهور العلماء الى ما ذهب إليه ابن حزم من الوجوب على الرجل ذا لم يكن له عذر. وقال الشافعي: لا يجب عليه، لانه حق له، فلا يجب عليه كسائر الحقوق. ونص أحمد على أنه مقدر بأربعة أشهر، لان الله قدره في حق المولي بهذه المدة، فكذلك في حق غيره. وإذا سافر عن امرأته، فإن لم يكن له عذر مانع من الرجوع، فإن أحمد ذهب إلى توقيته بستة أشهر. وسئل: كم يغيب الرجل عن زوجته؟ قال: ستة أشهر. يكتب إليه، فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما. وحجته ما رواه أبو حفص باسناده عن زيد بن أسلم قال: بينما عمربن الخطاب يحرس المدينة، فمر بامرأة في بيتها وهي تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وطال علي أن لا خليل ألاعبه   (1) الريبة: الشك والظن، وإنما كان ذلك بغيضا لانه من سوء الظن، إن بعض الظن إثم. (2) سورة البقرة آية: 222 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 والله لولا خشية الله وحده لحرك من هذا السرير جوانبه ولكن ربي والحياء يكفيني وأكرم بعلي أن توطأ مراكبه فسأل عنها عمر، فقيل له: هذه فلانة، زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها تكون معه، وبعث إلى زوجها فأقفله (1) ، ثم دخل على حفصة، فقال: يا بنية. كم تصبر المرأة عن زوجها؟. فقالت: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي عن هذا؟. فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. قالت: خمسة أشهر. ستة أشهر. فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر. يسيرون شهرا، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون راجعين شهرا. وقال الغزالي من الشافعية: وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة، فهو أعدل، لان عدد النساء أربعة، فجاز التأخير إلى هذا الحد. نعم ينبغي أن يزيد، أو ينقص حسب حاجتها في التحصين، فإن تحصينها واجب عليه، وإن كان لا تثبت المطالبة بالوطء، فذلك لعسر المطالبة والوفاء بها. وعن محمد بن معن الغفاري قال: " أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين: إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه - وهو يعمل بطاعة الله عز وجل - فقال لها: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرر هذا القول ويكرر عليها الجواب. فقال له كعب الاسدي: يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما. فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام، أو شراب؟ وقال: لا، فقالت المرأة: يا أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا، كعب، ولا ترده نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده فقال زوجها: زهدني في النساء وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما نزل   (1) أقفله: أرجعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها عليك حقايا رجل نصيبها في أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك، فقال عمر: والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟. أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. وقد ثبت في السنة أن جماع الرجل زوجته من الصدقات التي يثيب الله عليها. روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ... ولك في جماع زوجتك أجر. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ". ويستحب المداعبة، والملاعبة، والملاطفة، والتقبيل، والانتظار حتى تقضي المرأة حاجتها. روى أبو يعلى عن أنس بن مالك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، فإذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها " وقد تقدم: " هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ". التستر عند الجماع: أمر الاسلام بستر العورة في كل حال إلا إذا اقتضى الامر كشفها. فعن بهزبن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: " يا نبي الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يميتك. قلت: يارسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد فلا يراها. قال: قلت: إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيا من الناس ". رواه الترمذي، وقال حديث حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وفي الحديث جواز كشف العورة عند الجماع، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يتجرد الزوجان تجردا كاملا. فعن عتبة بن عبد السليمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين (1) ". رواه ابن ماجه. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم، إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم ". رواه الترمذي وقال حديث غريب. قالت عائشة: " لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولم أر منه ". التسمية عند الجماع: يسن أن يسمي الانسان ويستعيذ عند الجماع. روى البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم إذا أتى أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقنا. فإن قدر بينهما في ذلك ولد، لن يضر ذلك الولد الشيطان أبدا ". حرمة التكلم بما يجري بين الزوجين أثناء المباشرة : ذكر الجماع، والتحدث به مخالف للمروءة، ومن اللغو الذي لا فائدة فيه، ولا حاجة إليه، وينبغي للانسان أن يتنزه عنه ما لم يكن هناك ما يستدعي التكلم به. ففي الحديث الصحيح: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ". وقد مدح الله المعرضين عن اللغو فقال: " والذين هم عن اللغو معرضون ". فإذا استدعى الامر التحدث به ودعت الحاجة إليه فلا بأس، وقد ادعت امرأة أن زوجها عاجز عن إتيانها. فقال يا رسول الله: " إني لانفضها نفض الاديم ".   (1) العيرين: الحمارين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فإذا توسع الزوج أو الزوجة في ذكر تفاصيل المباشرة وأفشى ما يجري بينهما من قول أو فعل، كان ذلك محرما. فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها ". رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى، فلما سلم، أقبل عليهم بوجهه فقال: " مجالسكم. هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟! فسكتوا، فأقبل على النساء، فقال هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعب على إحدى ركبتيها، وتطاولت ليراها الرسول صلى الله عليه وسلم وليسمع كلامها، فقالت: إي والله. إنهم يتحدثوه، وإنهن ليتحدثن. فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة. لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه ". رواه أحمد، وأبو داود. إتيان الرجل في غير المأتى : إتيان المرأة في دبرها تنفر منه الفطرة، ويأباه الطبع، ويحرمه الشرع. قال الله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم (1) ". والحرث: موضع الغرس والزرع، وهو هنا محل الولد، إذ هو المزروع. فالامر بإتيان الحرث أمر بالاتيان في الفرج خاصة. قال ثعلب: إنما الارحام أرضون لنا محترثات فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات وهذا كقول الله: " فأتوهن من حيث أمركم الله (2) ".   (1) سورة البقرة آية: 223. (2) سورة البقرة آية: 222 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وكقوله " أنى شئتم " أي كيف شئتم. وسبب نزول هذه الابة ما رواه البخاري ومسلم: " ان اليهود كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وكان الانصار يتبعون اليهود في هذا، فأنزل الله عزوجل: " نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم ". أي أنه لاحرج في إتيان النساء بأي كيفية، مادام ذلك في الفرج، وما دمتم تقصدون الحرث. وقد جاءت الاحاديث صريحة في النهي عن إتيان المرأة في دبرها. روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأتوا النساء في أعجازهن. أو قال: في أدبارهن ". ورواته ثقات. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها " هي اللوطية الصغرى ". وعند أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من أتى امرأة في دبرها ". قال ابن تيمية: ومتى وطئها في الدبر، وطاوعته عزرا جميعا، وإلا فرق بينهما كما يفرق بين الفاجر ومن يفجر به. العزل وتحديد النسل (1) : تقدم ان الاسلام يرغب في كثرة النسل. إذ أن ذلك مظهر من مظاهر القوة والمنعة بالنسبة للامم والشعوب. " وإنما العزة للكاثر ". ويجعل ذلك من أسباب مشروعية الزواج: " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة ". إلا أن الاسلام مع ذلك لايمنع في الظروف الخاصة من تحديد النسل باتخاذ دواء يمنع من الحمل، أو بأي وسيلة أخرى من وسائل انجع.   (1) العزل: هو أن ينزع الرجل بعد الايلاج لينزل خارج الفرج منعا للحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فيباح التحديد في حالة ما إذا كان الرجل معيلا (1) لايستطيع القيام على تربية أبنائه التربية الصحيحة. وكذلك إذا كانت المرأة ضعيفة، أو كانت موصولة الحمل، أو كان الرجل فقيرا. ففي مثل هذه الحالات يباح تحديد النسل بل إن بعض العلماء رأى أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحا فقط، بل يكون مندوبا إليه. وألحق الامام الغزالي بهذه الحالات حالة ما إذا خافت المرأة على جمالها، فمن حق الزوجين في هذه الحالة أن يمنعا النسل. بل ذهب كثير من أهل العلم إلى إباحته مطلقا واستدلوا لمذهبهم بما يأتي: 1 - روى البخاري ومسلم عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. 2 - وروى مسلم عنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا. وقال الشافعي رحمه الله: ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا به بأسا. وقال البيهقي: وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الانصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وغيرهم. وهو مذهب مالك والشافعي وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما على أنها لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل. فقالوا لا بأس به. فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى. فقال على رضي الله عنه: لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة ثم تكون مضغة. ثم تكون عظاما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك.   (1) المعيل: كثير العيال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 ويرى أهل الظاهر أن منع الحمل حرام، مستدلين بما ورته جذامة بنت وهب: أن أناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: " ذلك هو الواد الخفي ". وأجاب الامام الغزالي عن هذا فقال: " ورد في الصحيح أخبار صحيحة في الاباحة، وقوله: " إنه الوأد الخفي " كقوله " الشرك الخفي " وذلك يوجب كراهيته كراهة لا تحريما. والمقصود بالكراهة خلاف الاولى، كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، وبعض الائمة كالاحناف يرون أنه يباح العزل إذا أذنت الزوجة، ويكره من غير إذنها. حكم إسقاط الحمل : بعد استقرار النطفة في الرحم لا يحل إسقاط الجنين بعد مضي مائة وعشرين يوما، فإنه حينئذ يكون اعتداء على نفس يستوجب العقوبة في الدنيا والاخرة (1) أما إسقاط الجنين، أو إفساد اللقاح قبل مضي هذه المدة، فإنه يباح إذا وجد ما يستدعي ذلك، فإن لم يكن ثمة سبب حقيقي فإنه يكره. قال صاحب سبل السلام: " معالجة المرأة لاسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه على الخلاف في العزل، فمن أجازه أجاز المعالجة، ومن حرمه حرم هذا بالاولى. ويلحق بهذا تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، انتهى. ويرى الامام الغزالي: أن الاجهاض جناية على موجود حاصل، قال: ولها مراتب، أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة، ازدادت الجناية تفاحشا.   (1) عن عبد الله قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الإيلاء : تعريفه: الايلاء (1) في اللغة: الامتناع باليمين: وفي الشرع: الامتناع باليمين من وطء الزوجة. ويستوي في ذلك اليمين بالله، أو الصوم، أو الصدقة، أو الحج، أو الطلاق. وقد كان الرجل في الجاهلية يحلف على ألا يمس امرأته السنة، والسنتين، والاكثر من ذلك بقصد الاضرار بها، فيتركها معلقة، لاهي زوجة، ولاهي مطلقة. فأراد الله سبحانه أن يضع حدا لهذا العمل الضار. فوقته بمدة أربعة أشهر، يتروى فيها الرجل، عله يرجع إلى رشده، فإن رجع في تلك المدة، أو في آخرها، بأن حنث في اليمين، ولامس زوجته، وكفر عن يمينه فيها، وإلا طلق. فقال: " للذين يؤلون من نسائهم تربص (2) أربعة أشهر. فإن فاءوا (3) فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (4) ". مدة الايلاء (5) : اتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يمس زوجته أكثر من أربعة أشهر كان موليا. واختلفوا فيمن حلف ألا يمسها أربعة أشهر:   (1) آلى يولي إيلاء وإلية إذا حلف فهو مول. (2) التربص: الانتظار. (3) فاءوا: رجعوا. (4) سورة البقرة الاية: 227. (5) تبدأ المدة من وقت اليمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فقال أبو حنيفة وأصحابه: يثبت له حكم الايلاء. وذهب الجمهور ومنهم الائمة الثلاثة: إلى أنه لا يثبت له حكم الايلاء، لان الله جعل له مدة أربعة أشهر، وبعد انقضائها: إما الفئ وإما الطلاق. حكم الايلاء: إذا حلف ألا يقرب زوجته، فإن مسها في الاربعة الاشهر، انتهى الايلاء ولزمته كفارة اليمين. إذا مضت المدة ولم يجامعها، فيرى جمهور العلماء أن للزوجة أن تطالبه: إما بالوطء وإما بالطلاق. فإن امتنع عنهما فيرى مالك أن للحاكم أن يطلق عليه دفعا للضرر عن الزوجة. ويرى أحمد والشافعي وأهل الظاهر أن القاضي لا يطلق وإنما يضيق على الزوج ويحبسه حتى يطلقها بنفسه. وأما الاحناف فيرون أنه إذا مضت المدة ولم يجامعها فإنها تطلق طلقة بائنة بمجرد مضي المدة. ولا يكون للزوج حق المراجعة لانه أساء في استعمال حقه بامتناعه عن الوطء بغير عذر، ففوت حق زوجته وصار بذلك ظالما لها. ويرى الامام مالك أن الزوج يلزمه حكم الايلاء إذا قصد الاضرار بترك الوطء وإن لم يحلف على ذلك، لوقوع الضرر في هذه الحال كما هو واقع في حالة اليمين. الطلاق الذي يقع بالايلاء: والطلاق الذي يقع بالايلاء طلاق بائن، لانه لو كان رجعيا لامكن للزوج أن يجبرها على الرجعة، لانها حق له، وبذلك لا تتحقق مصلحة الزوجة، ولا يزول عنها الضرر. وهذا مذهب أبي حنيفة. وذهب مالك والشافعي وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن إلى أنه طلاق رجعي، لانه لم يقم دليل على أنه بائن، ولانه طلاق زوجة مدخول بها من غير عوض ولا استيفاء عود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 عدة الزوجة المولى منها: ذهب الجمهور إلى أن الزوجة المولى منها تعتد كسائر المطلقات لانها مطلقة، وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الاربعة أشهر ثلاث حيض. قال ابن رشد: وقال بقوله طائفة، وهو مروي عن ابن عباس، وحجته: أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم. وهذه قد حصلت لها البراءة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 حق الزوج على زوجته من حق الزوج على زوجته أن تطيعه في غير معصية، وأن تحفظه في نفسها وماله، وأن تمتنع عن مقارفة أي شئ يضيق به الرجل، فلا تعبس في وجهه، ولا تبدو في صورة يكرهها، وهذا من أعظم الحقوق. روى الحاكم عن عائشة قالت: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها. قالت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال: أمه ". ويؤكد رسول الله هذا الحق فيقول: " لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد. لامرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها ". رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان. وقد وصف الله سبحانه الزوجات الصالحات فقال: " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله (1) ". والقانتات هن الطائعات، والحافظات للغيب: أي اللائي يحفظن غيبة أزواجهن، فلا يخنه في نفس أو مال. وهذا أسمى ما تكون عليه المرأة، وبه تدوم الحياة الزوجية، وتسعد. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ". ومحافظة الزوجة على هذا الخلق يعتبر جهادا في سبيل الله. روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك: هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا   (1) سورة النساء من الاية: 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 من ذلك؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك. وقليل منكن من يفعله ". ومن عظم هذا الحق أن قرن الاسلام طاعة الزوج بإقامة الفرائض الدينية وطاعة الله، فعن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " رواه أحمد والطبراني. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راض، دخلت الجنة ". وأكثر ما يدخل المرأة النار، عصيانها لزوجها، وكفرانها إحسانه إليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء. يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ". رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح ". رواه أحمد والبخاري ومسلم. وحق الطاعة هذا مقيد بالمعروف. فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلو أمرها بمعصية وجب عليها أن تخالفه. ومن طاعتها لزوجها ألا تصوم نافلة إلا بإذنه، وألا تحج تطوعا إلا بإذنه، وألا تخرج من بيته إلا بإذنه. روى أبو داود الطيالسي، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حق الزوج على زوجته ألا تمنعه نفسها، ولو كان على ظهر قتب (1) وأن لا تصوم يوما واحدا إلا بإذنه، إلا لفريضة، فإن فعلت   (1) قتب: ظهر بعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 أثمت، ولم يتقبل منها، وألا تعطي من بيتها شيئا إلا بإذنه، فإن فعلت كان له الاجر، وعليها الوزر، وألا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنها الله وملائكة الغضب حتى تتوب أو ترجع، وإن كان ظالما ". عدم إدخال من يكره الزوج: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تدخل أحدا بيته يكرهه إلا بإذنه. عن عمرو بن الاحوص الجشمي رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ. ثم قال: " ألا، واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان (1) عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن ألا يوطئن فروشكم من تكرهونه، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهونه، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ". رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. خدمة المرأة زوجها: أساس العلاقة بين الزوج وزوجته هي المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات. وأصل ذلك قول الله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة (2) ". فالاية تعطي المرأة من الحقوق مثل ما للرجل عليها، فكلما طولبت المرأة بشئ طولب الرجل بمثله. والاساس الذي وضعه الاسلام للتعامل بين الزوجين وتنظيم الحياة بينهما، هو أساس فطري وطبيعي. فالرجل أقدر على العمل والكدح والكسب خارج المنزل، والمرأة أقدر على تدبير المنزل، وتربية الاولاد، وتيسير أسباب الراحة   (1) عوان: بفتح العين وتخفيف الواو: أي أسيرات. (2) سورة البقرة الاية: 228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 البيتية، والطمأنينة المنزلية، فيكلف الرجل ما هو مناسب له، وتكلف المرأة ما هو من طبيعتها، وبهذا ينتظم البيت من ناحية الداخل والخارج دون أن يجد أي واحد من الزوجين سببا من أسباب انقسام البيت على نفسه. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها، فجعل على فاطمة خدمة البيت، وجعل على علي العمل والكسب. روى البخاري ومسلم أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحاء وتسأله خادمة. فقال: " ألا أدلكم على ما هو خير لكما مما سألتما: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم ". وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكان له فرس فكنت أسوسه، وكنت أحش له، وأقوم عليه. وكانت تعلفه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ. ففي هذين الحديثين ما يفيد بأن على المرأة أن تقوم بخدمة بيتها، كما أن على الرجل أن يقوم بالانفاق عليها. وقد شكت السيدة فاطمة رضي الله عنها ما كانت تلقاه من خدمة، فلم يقل الرسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي لا خدمة عليها وإنما هي عليك. وكذلك لما رأى خدمة أسماء لزوجها لم يقل لا خدمة عليها، بل أقره على استخدامها. وأقر سائر أصحابه على خدمة أزواجهن. مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية. قال ابن القيم: هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصح التفريق بين شريفة دنيئة، وفقيرة وغنية. فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءت الرسول صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يشكها (1) .   (1) يشكها: أي لم يسمع شكايتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 قال بعض علماء المالكية: (1) إن على الزوجة خدمة مسكنها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة، أو ترفه، فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك. وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل كلفت ما يكلفه نساؤهم. وذلك أن الله تعالى قال: " ولهن مثل الذي عليهن، بالمعروف (2) ". وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الامر وحديثه بما ذكرنا. ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتكلفون الطحين والخبز والطبيخ وفرش الفراش، وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت عن ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذنهن بالخدمة. فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن. هذا هو المذهب الصحيح خلافا لما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة والشافعي من عدم وجوب خدمة المرأة لزوجها، وقالوا إن عقد الزواج إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع. والاحاديث المذكورة تدل على التطوع ومكارم الاخلاق. تجاوز الصدق بين الزوجين : المحافظة على الانسجام في البيت، وتقوية روابط الاسرة غاية من الغايات التي يستباح من أجل الحصول عليها تجاوز الصدق. روي أن ابن أبي عذرة الدؤلي - أيام خلافة عمر رضي الله عنه - كان يخلع النساء اللائي يتزوج بهن، فطارت له في النساء من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الارقم حتى أتى به إلا منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله (3) هل تبغضينني؟ قالت: لا تنشدني بالله.   (1) من تفسير القرطبي. (2) سورة البقرة الاية: 229. (3) أسألك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 قال: فإني أنشدك بالله. قالت: نعم. فقال لابن الارقم أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل ابن الارقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ فقالت: إني أول من تاب، وراجع أمر الله تعالى، إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب. أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبني على الحب. ولكن الناس يتعاشرون بالاسلام والاحساب. وقد روى البخاري ومسلم عن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرا ".قالت: ولم أسمعه يرخص في شئ مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والاصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها، فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة. إمساك الزوجة بمنزل الزوجية : من حق الزوج أن يمسك زوجته بمنزل الزوجية، ويمنعها عن الخروج منه (1) إلا بإذنه ويشترط في المسكن أن يكون لائقا بها، ومحققا لاستقرار المعيشة الزوجية، وهذا المسكن، يسمى بالمسكن الشرعي، فإذا لم يكن المسكن لائقا بها ولا يمكنها من استيفاء الحقوق الزوجية المقصودة من الزواج، فإنه لا يلزمها القرار فيه، لان المسكن غير شرعي. ومثال ذلك، ما إذا كان بالمسكن آخرون يمنعها وجودهم معها من المعاشرة الزوجية، أو كان يلحقها بذلك ضرر، أو تخشى على متاعها. وكذلك لو كان   (1) وهذا بخلاف زيارة أبويها فلها أن تزورهما كل أسبوع أو بحسب ما جرى به العرف ولو لم يأذن لها، لان ذلك من صلة الرحم الواجبة ولها أن تمرض المريض منهما إذا لم يوجد من يمرضه ولو لم يرض زوجها لان ذلك واجب ولا يجوز أن يمنعها من الواجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 المسكن خاليا من المرافق الضرورية، أو كان بحال تستوحش منها الزوجة، أو كان الجيران جيران سوء. الانتقال بالزوجة : من حق الزوج أن ينتقل وزوجته حيث يشاء لقول الله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (1) ". والنهي عن المضارة يقتضي ألا يكون القصد من الانتقال بالزوجة المضارة بها، بل يجب أن يكون القصد هو المعايشة، وما يقصد بالزواج، فإن كان يقصد المضارة والتضييق عليها في طلبه نقلها كأن تهبه شيئا من المهر، أو تترك شيئا من النفقة الواجبة عليه لها، أو لا يكون مأمونا عليها، فلها الحق في الامتناع. وللقاضي أن يحكم لها بعدم استجابتها له. وقيد الفقهاء استعمال هذا الحق أيضا بألا يكون في الانتقال بها خوف الضرر عليها. كأن يكون الطريق غير آمن، أو يشق عليها مشقة جديدة لا تحتمل في العادة، أو يخاف فيه من عدو. فإذا خافت الزوجة شيئا من ذلك فلها أن تمتنع عن السفر، وقد جاء في إحدى المذكرات القضائية ما يلي: " ولما كانت مصلحة الزوجين من النقله وعدمها لا تتحدد ولا تضبط أطلقوها من غير بيان وجهها اعتمادا على فطنة القاضي وعدالته وحكمته. فإن من البين أن مجرد كون الزوج في شخصه مأمونا على زوجته لا يكفي لتحقق المصلحة في الاجبار على النقلة. بل لا بد من مراعاة أحوال أخرى ترجع إلى الزوج وإلى الزوجة. وإلى البلدان المنقول منها والمنتقل إليها. كأن يكون الباعث على الانتقال مصلحة يعتد بها، فلما يمكن الحصول عليها بدون الاغتراب، وكأن يكون الزوج قادرا على نفقات ارتحالها كأمثالها، وفي يده فضل يغلب على الظن أنه لو اتجر فيه مثلا لربح ما يعدل نفقته ونفقة عياله، أو صناعة فنية تقوم بمعاشه ومعاشهم. " وكأن يكون الطريق بين البلدين مأمونا على النفس والعرض والمال.   (1) سورة الطلاق الاية: 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وكأن تكون الزوجة بحيث تقول على مشقة السفر من بلدها إلى المكان الذي يريد نقلها إليه. وكأن لا يكون المحل الذي يريد نقلها إليه بطبيعته منبعا للحميات، والاوبئة، والامراض. وكأن لا يكون الاختلاف بين البلدين في الحرارة والبرودة مثلا مما لا تحتمله الامزجة والطباع. وكأن تكون كرامة الزوجة في موضع نقلتها محفوظة ككرامتها في محلها الاصلي. وكأن لا يلحقها بسبب الانتقال ضرر مادي أو أدبي، إلى كثير من الاعتبارات التي يجب ملاحظتها في مثل هذه الظروف وتختلف باختلاف الاشخاص والمواطن ولا تخفى عن القاضي الفطن ". وهذا من خير ما يقال تفصيلا في هذا الموضوع. اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها : من تزوج امرأة، وشرط لها ألا يخرجها من دارها أو لا يخرج بها إلى بلد غير بلدها فعليه الوفاء بهذا الشرط، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج " رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عقبة بن عامر. وهذا مذهب أحمد، وإسحاق بن راهويه، والاوزاعي. وذهب غير هؤلاء من الفقهاء إلى أنه لا يلزمه الوفاء بهذا الشرط. وله نقلها عن دارها. وقالوا في الحديث: إن الشرط الواجب الوفاء به هو ما كان خاصا في المهر، والحقوق الزوجية التي هي من مقتضى العقد دون غيرها مما لا يقتضيه. وقد تقدم في أول هذا المجلد الشروط في الزواج، واختلاف العلماء فيه، مفصلا. منع الزوجة من العمل : فرق العلماء بين عمل الزوجة الذي يؤدي إلى تنقيص حق الزوج، أو ضرره، أو خروجها من بيته، وبين العمل الذي لا ضرر فيه، فمنعوا الاول. وأجازوا الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قال ابن عابدين، من فقهاء الاحناف: " والذي ينبغي تحريره أن يكون منعها من كل عمل يؤدي إلى تنقيص حقه، أو ضرره، أو إلى خروجها من بيته. أما العمل الذي لا ضرر فيه فلا وجه لمنعها منه وكذلك ليس له منعها من الخروج إذا كانت تحترف عملا هو من فروض الكفاية الخاصة بالمرأة مثل عمل القابلة ". خروج المرأة لطلب العلم : إذا كان العلم الذي تطلبه المرأة مفروضا (1) عليها وجب على الزوج أن يعلمها إياه - إذا كان قادرا على التعليم - فإذا لم يفعل، وجب عليها أن تخرج حيث العلماء ومجالس العلم، لتتعلم أحكام دينها ولو من غير إذنه. أما إذا كانت الزوجة عالمة بما فرضه الله عليها من أحكام، أو كان الزوج متفقها في دين الله، وقام بتعليمها، فلا حق لها في الخروج إلى طلب العلم إلا بأذنه. تأديب الزوجة عند النشوز : قال الله تعالى: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا (2) نشوز الزوجة: هو عصيان الزوج وعدم طاعته أو امتناعها عن فراشه، أو خروجها من بيته بغير إذنه. وعظتها تذكيرها بالله، وتخويفها به، وتنبيهها للواجب عليها من الطاعة وما لزوجها عليها من حق، ولفت نظرها إلى ما يلحقها من الاثم بالمخالفة والعصيان، وما يفوت من حقوقها من النفقة، والكسوة. والهجر في المضجع: أي في الفراش، وأما الهجر في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ". ولا تضرب الزوجة لاول نشوزها. والآية فيها إضمار وتقدير. أي: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ".   (1) العلم الفرض: هو العلم بالعمل الذي فرضه الله لان كل ما فرض الله عمله فرض العلم به. (1) سورة النساء الاية: 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 فإن نشزن " فاهجروهن في المضاجع "، فإن أصررن " فاضربوهن ". أي إذا لم ترتدع بالوعظ والهجر فله ضربها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح " أي غير شديد. وعليه أن يجتنب الوجه، والمواضع المخوفة، لان المقصود التأديب. لا الاتلاف. روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت يارسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ". تزين المرأة لزوجها : من المستحسن أن تتزين المرأه لزوجها بالكحل والخضاب والطيب، ونحو ذلك من أنواع الزينة. روى أحمد عن كريمة بنت همام: " قالت لعائشة رضي الله عنها: ما تقولين يا أم المؤمنين في الحناء؟ فقالت: كان حبيبي صلى الله عليه وسلم يعجبه لونه، ويكره ريحه، وليس بمحرم عليكن بين كل حيضتين، أو عند كل حيضة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 التبرج : معناه: التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه وأصله الخروج من البرج، وهو القصر، ثم استعمل في خروج المرأة من الحشمة وإظهار مفاتنها وإبراز محاسنها. التبرج في القرآن: وقد ورد التبرج في القرآن الكريم في موضعين: (الموضع الاول) في سورة النور. جاء فيه قول الله سبحانه: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن (1) . " (والموضع الثاني) ورد في النهي عنه والتشنيع عليه في سورة الاحزاب، في قوله سبحانه: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى " (2) . منافاته للدين والمدنية: إن أهم ما يتميز به الانسان عن الحيوان اتخاذ الملابس وأدوات الزينة. يقول الله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " (3) . والملابس والزينة هما مظهران من مظاهر المدنية والحضارة، والتجرد عنهما إنما هو ردة إلى الحيوانية، وعودة إلى الحياة البدائية.   (1) آية: 60. (2) آية: 33. (3) سورة الاعراف آية: 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 والحياة، وهي تسير سيرها الطبيعي، لا يمكن أن ترجع إلى الوراء، إلا إذا حدثت لها نكسة تبدل آراءها، وتغير أفكارها، وتجعلها تعود القهقرى ناسية أو متناسية مكأسبها الحضارية ورقيها الانساني. وإذا كان اتخاذ الملابس لازما من لوازم الانسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة ألزم، لانه هو الحفاظ الذي يحفظ عليها دينها وشرفها وعفافها وحياءها. وهذه الصفات ألصق بالمرأة، وأولى بها من الرجل، ومن ثم كانت الحشمة أولى بها وأحق. إن أعز ما تملكه المرأة، الشرف، والحياء، والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة، ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام. ولا سيما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الاطلاق. والتبذل مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها. ووضع الحدود والقيود والسدود أمامها مما يخفف من حدتها ويطفئ من جذوتها ويهذبها تهذيبا جديرا بالانسان وكرامته، ومن أجل هذا عني الاسلام عناية خاصة بملابس المرأة، وتناول القرآن ملابس المرأة مفصلا لحدودها، على غير عادة القرآن في تناوله المسائل الجزئية بالتفصيل، فهو يقول: " يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين (1) ". وتوجيه الخطاب إلى نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين دليل على أن جميع النساء مطالبات بتنفيذ هذا الامر، دون استثناء واحدة منهن، مهما بلغت من الطهر، ولو كانت في طهارة بنات النبي عليه الصلاة والسلام وطهارة نسائه. ويولي القرآن هذا الامر عناية بالغة ويفصل ذلك تفصيلا، فيبين ما يحل كشفه وما يجب ستره، فيقول: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن، إلا ما ظهر   (1) سورة الاحزاب الاية: 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... الخ " الاية (1) . حتى ولو كانت المرأة عجوزا لا رغبة لها ولا رغبة فيها: يقول الله تعالى: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا، فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير (2) لهن (3) ". ويهتم الاسلام بهذه القضية، فيحدد السن التي تبدأ بها المرأة في الاحتشام، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه ". والمرأة فتنة، ليس أضر على الرجال منها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة إذا أقبلت أقبلت ومعها شيطان، وإذا أدبرت أدبرت ومعها شيطان ". وتجرد المرأة من ملابسها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف ويهبط بها عن مستواها الانساني. ولا يطهرها مما التصق بها من رجس سوى جهنم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليشم من مسافة كذا وكذا ". وفي عهد النبوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بعض مظاهر التبرج، فيلفت نظر النساء إلى أن هذا فسق عن أمر الله، ويردهن إلى الجادة المستقيمة، ويحمل الاولياء والازواج تبعة هذا الانحراف، وينذرهم بعذاب الله. 1 - عن موسى بن يسار رضي الله عنه قال: مرت بأبي هريرة امرأة   (1) سورة النور آية: 31. (2) يستعففن: أي يستترن. (3) سورة النور آية: 60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وريحها تعصف (1) فقال لها أين تريدين (2) يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد. قال: وتطيبت؟ قالت: نعم. قال: فارجعي واغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقبل الله صلاة من امرأة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل (3) ". وإنما أمرت بالغسل لذهاب رائحتها. 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أصابت بخورا (4) فلا تشهدن العشاء ". أي: الاخرة. رواه أبو داود والنسائي. 3 - وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد دخلت امرأة من مزينة ترفل (5) في زينة لها في المسجد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس: انهوا (5) نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإن بني اسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبختروا في المسجد "، رواه ابن ماجه. وكان عمر رضي الله عنه يخشى من هذه الفتنة العارمة، فكان يطب لها قبل وقوعها، وعلى قاعدة " الوقاية خير من العلاج "، فقد روى عنه أنه كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج فقال: أما في عهد عمر فلا. فلما أصبح استدعى نصر بن حجاج فوجده من أجمل الناس وجها، فأمر بخلق شعره فازداد جمالا، فنفاه إلى الشام   (1) يشتد طيبه، من عصفت الريح عصفا وعصوفا. اشتدت، فهي عاصف وعاصفة. (2) إلى أي مكان تذهبين يا مخلوقة القهار وأمته. (3) رواه ابن خزيمة في صحيحه قال الحافظ: إسناده متصل ورواته ثقات، ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق عاصم بن عبيد الله العمري. (4) عود الطيب أحرقنه. (5) المشي خيلاه. (6) امنعوهن وحذروهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 سبب هذا الانحراف: وقد سبب الجهل والتقليد الاعمى الانحراف عن هذا الخط المستقيم، وجاء الاستعمار فنفخ فيه وأوصله إلى غايته ومداه، فأصبح من المعتاد أن يجد المسلم المرأة المسلمة، متبذلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن صدرها ونحرها وظهرها وذراعها وساقها. ولا تجد أي غضاضة في قص شعرها، بل تجد من الضروري وضع الاصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب واختيار الملابس المغرية، وأصبح " لموضات " الازياء مواسم خاصة يعرض فيها كل لون من ألوان الاغراء والاثارة. وتجد المرأة من مفاخرها ومن مظاهر رقيها أن ترتاد أماكن الفجور والفسق والمراقص والملاهي، والمسارح والسينما، والملاعب والاندية والقهاوي. وتبلغ منتهى هبوطها في المصايف وعلى البلاج. وأصبح من المألوف أن تعقد مسابقات الجمال تبرز فيها المرأة أمام الرجل، ويوضع تحت الاختبار كل جزء من بدنها، ويقاس كل عضو من أعضائها على مرأى ومسمع من المتفرجين والمفترجات، والعابثين والعابثات. وللصحف وغيرها من أدوات الاعلام، مجال واسع في تشجيع هذه السخافات، والتغرير بالمرأة للوصول إلى المستوى الحيواني الرخيص، كما أن لتجار الازياء دو خطيرا في هذا الاسفاف. نتائج هذا الانحراف: وكان من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وانهدم كيان الاسرة، وأهملت الواجبات الدينية وتركت العناية بالاطفال، واشتدت أزمة الزواج، وأصبح الحرام أيسر حصبولا من الحلال. وبالجملة فقد أدى هذا التهتك إلى انحلال الاخلاق وتدمير الاداب التي اصطلح الناس عليها في جميع المذاهب والاديان. وقد بلغ هذا الانحراف حدا لم يكن يخطر على بال مسلم، وتفنن دعاة التحلل والتفسخ، واتخذوا أساليب للتجميل واستعمال الزينة، ووضعوا لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 منهجا وأعدوا معاهدا لتدريس هذه الاساليب. نشرت جريدة الاهرام تحت عنوان " مع المرأة " ما يلي " أول معهد لتدريس تصفيف شعر السيدات في الاسكندرية " " خبير ألماني يقوم بالتدريس في المعهد بعد شهر ". لاول مرة تقيم رابطة مصففي شعر السيدات في الاسكندرية معهدا لتصفيف شعر السيدات. أقيم المعهد من تبرعات أعضاء الرابطة، تبرع أحدهم " بسشوار " وتبرع آخر ببعض المكاوي ودبابيس الشعر والفرش..وهكذا تكون المعهد بعد أن استأجرت له الرابطة شقة صغيرة ليكون نواة معهد كبير في المستقبل. وقد أصدرت الرابطة " أمر تكليف " إلى جميع أعضائها " أصحاب المهنة " بالحضور لالقاء المحاضرات النظرية، والقيام بالتجارب والدروس العملية أمام طلاب المعهد. افتتح المعهد صباح أمس في مقر الرابطة في كليوباتزه، أحد أعضاء الرابطة بإلقاء محاضرة في كيفية قص الشعر، وبعض الطرق في فن القص، نم قام بعمل تسريحة جديدة لن تصميمه سماها " لشعلة " لاحدى " المنيكانات " وكان يشرح التسريحة وهو يقوم بها. سيد رس في المعهد فن تصفيف الشعر، والصباغة، والالوان، والقص، وتقليم الاظافر، والمسياج، والتدليك، " يقول رئيس الرابطة في القاهرة وضيف رابطة الاسكندرية: إنه أنشأ مثل هذا المعهد في القاهرة منذ 5 أشهر، وزغم قصر المدة أحرز العهد نتيجة مشرفة، إذ أن الطلبة والطالبات يستفيدون من تبادل الافكار بين أعضاء الرابطة، ومن عرض التسريحات وشرحها أمامهم، مما يرفع مستوى المهنة، كما استفادوا أيضا من حضور بعض الخبراء الالمان ومحاضراتهم العلمية والنظرية أمام الطلبة، وسوف يحضر خبير ألماني إلى معهد الاسكندرية في الشهر القادم، كما تعقد الرابطة في الشهر نفسه مسابقة للحصول على جائزة الجمهورية في فن تصفيف الشعر، وستكون الدراسة في المعهد أسبوعية بصفة مبدئية ". انتهى ما نشر بالاهرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 هذا فضلا عن الاموال الطائلة التي تستهلك في شراء أدوات التجميل، فقد بلغ عدد الصالونات في القاهرة وحدها ألف صالون لتصفيف وتجميل الشعر، ويوزع في العام 10 ملايين قلم روج وعطر بودرة. ولم يقتصر هذا الفساد على ناحية دون ناحية، بل تجاوزها إلى دور العلم ومعاهد التربية وكليات الجامعة ... وكان المفروض أن تصان هذه الدور من الهبوط حتى تبقى لها حرمتها وكيانها المقدس، فقد جاء في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 29 / 9 / 1962 ما يلي. " فتاة الجامعة لا تفرق بين حرم الجامعة وصالة عرض الازياء " في هذه الايام من كل عام، عندما تعلن الجامعة عن افتتاح أبوابها ... تبدأ الصحف والمجلات في الكتابة عن الفتاة الجامعية وتثار المناقشات حول زيها ومكياجها ... فيطالب البعض بتوحيد زيها، وينادي آخرون بمنعها من وضع المكياج، قالت الكاتبة وأنا لا أؤيد هذه الاراء، لايماني بأن اختيار الفتاة لازيائها ينمي من شخصيتها، ويساعد على تكوين ذوقها ... والفتيات في معظم جامعات الخارج لا ترتدين زيا موحدا. ولا يحرمن من وضع المكياج، ولكني مع هذا لا ألوم كثيرا أصحاب هذه الاراء المتطرفة ... فالفتاة الجامعية عندنا تدفعهم إلى المطالبة بذلك، لانها لا تعرف كيف تختار الزي والماكياج المناسبين لها كطالبة، ولا تبذل أي مجهود في هذا السبيل ... إنها لا تفرق كثيرا بين حرم الجامعة وصالة عرض الازياء، أو الكرنفال ... فهي تذهب إلى الجامعة في " عز الصباح " بفستان ضيق يكاد ضيقه يمنعها من الحركة، مع الكعب العالي الذي ترتديه..وعندما تغيره تستبدل به فستانا واسعا تحته أكثر من " جيبونة " تشل بدورها حركة صاحبتها، وتجعلها أشبه بالاباجورة المتحركة، وهي فوق هذا - إن نسيت كتبها ومجد محاضراتها - فهي لا تنسى أبدا الحلق، والعقد، والسوار، والبروش، الذي تحلى به أذنيها وصدرها وذراعيها وشعرها في غير تناسق أو ذوق ... ثم مضت الكاتبة تقول: وهذا كله يرجع في رأيي إلى أن الفتاة الجامعية عندنا لا تأخذ الدراسة الجامعية مأخذ الجد..فهي تضع فوقها زينتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وأناقتها والمفروض أن يكون العكس هو الصحيح، في وقت نالت فيه ثقافة المرأة أعلى تقدير! ليس معنى هذا أنني أطالب الفتاة الجامعية بإهمال ملابسها وزينتها ... إنني أطالب بالاهتمام أولا بدروسها، ثم بتخفيف ماكياج وجهها، إن لم يكن مراعاة لحرم الجامعة، فعلى الاقل مراعاة لبشرتها التي يفسدها كثرة الماكياج، في سن تكون فضارة الوجه فيها أجمل بكثير من الماكياج المصطنع ... ثم بعد ذلك أطالبها بالحد من استعمال الحلي، وبارتداء الملابس البسيطة التي تناسب الفتاة الجامعية كالفستان " الشيزييه " و " التايير " ذي الخطوط البسيطة، والفستان الذي تنسدل جوبته إلى أسفل، في وسع خفيف لا يعرقل حركتها..والجوب والبلوزة، أو الجوب والبلوفر، أو الجوب والجاكت - وأن ترعى في اختيارها لهذه الازياء الالوان الهادثة التي لا تثير " القيل والقال " بين زملائها الطلبة ... " إنني أطالب الفتاة الجامعية باتباع هذه ... وأطالب أولياء أمورها بضرورة الاشراف التام على ثياب بناتهم، فالفتاة في العهد الجديد لم يعد هدفها الاول والاخير في الحياة جلب الانظار إليها " بالدندشة والشخلعة ". " إنها اليوم يجب أن تصقل بالثقافة والعلم والذوق السليم ". فلم يعد أقصى ما تصبو إليه هو مكتب سكرتيرة تجلس عليه لترد على تليفونات المدير، وإنما المجال قد فتح أمامها وجلست إلى مكتب الوزارة ... " هذا ما قالته إحدى الكاتبات في الاخبار، وهي تعتب على بنات جنسها، وتنعي عليهم هذا التصرف المعيب. وهذه الحالة قد أثارت اهتمام زائرات القاهرة من الجنبيات، إذ لم تكن المرأة الغربية تفكر في مدى الانحدار الذي تردت فيه المرأة الشرقية ... ففي " أهرام " 27 مارس 1962 جاء فيه في باب " مع المرأة " هذا العنوان: " المرأة الغربية غير راضية عن تقليد المرأة الشرقية لها " وجاء تحت هذا العنوان: " اهتمام المرأة العربية بالمودات الغربية، وحرصها على تقليد المرأة الغربية في تصرفاتها، وفي طباعها، لا تستسيغه السائحات الغربيات اللائي يحضرن لزيارة القاهرة، ولا يرفع من سمعتها في الخارج كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 تظن، أفصحت عن ذلك الرأي صحفية انجليزية زارت القاهرة أخيرا، وكتبت مقالا في مجلتها تقول فيه: " لقد صدمت جدا بمجرد نزولي أرض المطار، فقد كنت أتصور أنني سأقابل المرأة الشرقية بمعنى الكلمة، ولا أقصد بهذا المرأة التي ترتدي الحجاب والحبرة، وإنما المرأة الشرقية المتحضرة التي الازياء العملية التي تتسم بالطابع الشرقي، وتتصرف بطريقة شرقية، ولكنني لم أجد شيئا من هذا، فالمرأة هناك، هي نفسها المرأة التي تجدها عندما تنزل إلى أي مطار أوربي، فالازياء هي نفسها بالحرف الواحد، وتسريحات الشعر هي نفسها، والماكياج هو نفسه، حتى طريقة الكلام والمشية، وفي بعض الاحيان اللغة: إما الفرنسية أو الانجليزية!!! " وقد صدمني من المرأة الشرقية أنها تصورت أن التمدن والتحضر هو تقليد المرأة الغربية ونسيت أنها تستطيع أن تتطور وأن تتقدم كما شاءت، مع الاحتفاظ بطابعها الشرقي الجميل ". وفي " جمهورية " السبت 9 يونيو 1962 نشر تحت هذا العنوان: " كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية المرأة ". نقلت الصحيفة، تحت هذا العنوان كلاما ثمينا صريحا، وقد بدأت فقدمت الكاتبة الامريكية للقراء. فقالت: " غادرت القاهرة الصحفية الامريكية " هيلسيان ستانسبري " بعد أن أمضت عدة أسابيع ها هنا، زارت خلالها المدارس، والجامعات، ومعسكرات الشباب والمؤسسات الاجتماعية، ومراكز الاحداث، والمرأة، والاطفال وبعض الاسر في مختلف الاحياء، وذلك في رحلة دراسية لبحث مشاكل الشباب والاسرة في المجتمع العربي. " وهيلسيان " صحفية متجولة، تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي، يقرأه الملايين، ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الاذاعة والتيفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاما، وزارت جميع بلاد العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 تقول الصحفية الامريكية بعد أن أمضت شهرا في الجمهورية العربية بعد أن قدمتها الجريدة هذا التقديم: " إن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الاوربي والامريكي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة، وتحتم احترام الاب والام، وتحتم أكثر من ذلك، عدم الاباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والاسرة في أوربا وأمريكا. ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة - وأقصد ما تحت سن العشرين - هذه القيود صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا. امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الامريكي مجتمعا معقدأ، مليئا بكل صور الاباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين، يملاون السجون والارضفة والبارات والبيوت السرية. إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات " جيمس دين " وعصابات للمخدرات، والرقيق. إن الاختلاط والاباحية والحرية في المجتمع الاوربي والمريكي هدد الاسر، وزلزل القيم والاخلاق، فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث تخالط الشبان، وترقص " تشاتشا " وتشرب الخمر والسجاير. وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والاباحية. والعجيب في أوربا وأمريكا أن الفتاة الصغيرة تحت سن العشرين تلعب، تلهو تعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والديها ومدرسيها والمشرفين عليها، تتحداهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الاباحية والانطلاق، تتزوج في دقائق. وتطلق بعد ساعات!! ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 يكلفها هذا أكثر من إمضاء وعشرين قرشا وعريس ليلة، أو ليضع ليال، وبعدها الطلاق. وربما الزواج فالطلاق مرة أخرى. علاج هذا الوضع الشاذ: ولا مناص من وضع خطة حازمة للخلاص من هذه الموبقات، وذلك باتخاذ ما يأتي: 1 - نشر الوعي الديني وتبصير الناس بخطورة الاندفاع في هذا التيار الشديد. 2 - المطالبة بسن قانون يحمي الاخلاق والاداب، ومعاقبة من يخرج عليه بشدة وحزم. 3 - منع الصحف وجميع أدوات الاعلام من نشر الصور العارية، ووضع رقابة على مصممي الازياء. 4 - منع مسابقات الجمال والرقص الفاجر، وتحقير كل ما يتصل بهذا الامر. 5 - اختيار ملابس مناسبة أشبه بملابس الراهبات، وتكليف كل من يشتغل بعمل رسمي بارتدائها. 6 - يبدأ كل فرد بنفسه، ثم يدعو غيره. 7 - الاشادة بالفضيلة والحشمة والصيانة والتستر. 8 - العمل على شغل أوقات الفراغ حتى لا يبقى متسع من الوقت لمثل هذا العبث. 8 - اعتبار الزمن جزءا من العلاج، إذ أنها تحتاج إلى وقت طويل. دفع شبهة: ويحلو لبعض الناس أن يسايروا التيار ويمشوا مع الركب، زاعمين أن ذلك تطور حتمي اقتضته ظروف المدنية الحديثة. ونحن لا نمنع أن يسير التطور في طريقه، وأن يصل إلى مداه: ولكنا نخشى أن يفسر التطور على حساب الدين والاخلاق والاداب، فإن الدين وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 يتبعه من تعاليم خلقية وأدبية، إنما هو من وحي الله، شرعه لكل عصر ولكل زمان ومكان ... فإذا كان التطور جائزا في أمور الدنيا، وشئون الحياة، فليس ذلك مما يجوز في دين الله. إن الدين نفسه هو الذي فتح للعقل الانساني آفاق الكون، لينظر فيه، وينتفع بما فيه من قوى وبركات. ويطور حياته لتصل إلى أقصى ما قدر له من تقدم ورقي ... فثمة فرق كبير بين ما يقبل التطور وبين ما لا يقبله ... والدين ليس لعبة تخضع للاهواء، وتوجهها الشهوات والرغبات (1) . تزين الرجل لزوجته : من المستحب أن يتزين الرجل لزوجته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لاتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف (2) كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها علي، لان الله تعالى قال: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ". قال القرطبي في قول ابن عباس هذا: قال العلماء: " أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على الليق (3) والوفاق. فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ". قال: " وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل اللائق والوفاق، ليكون عند امرأته في زينة تسرها، ويعفها عن غيره من الرجال ".   (1) أطلنا القول في هذا الموضوع: لاهميته، ولانه إحدى المشكلات الاجتماعية التي تحتاج إلى المزيد من العناية. (2) أستنظف: آخذ الحق كله. (3) الليق: اللياقة والحذق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قال: " وأما الطيب، والسواك، والخلال، والرمي بالدرن (1) ، وفضول الشعر، والتطهر، وقلم الاظافر، فهو بين موافق للجميع. والخضاب للشيوخ، والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلى الرجال. ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجال فيعفها، ويغنيها عن التطلع إلى غيره ... وإن رأي الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها، أخذ من الادوية التي تزيد في باهه، وتقوي شهوته حتى يعفها (2) .   (1) الدرن: الوسخ. (2) درج بعض الناس على تعاطي المخدرات كالحشيش والافيون وسواها واستناموا لها استنامة لا إفاقة منها وهم في الحقيقة جانون على أنفسهم وعائلاتهم جناية ليست وراءها جناية. ومن المؤسف أنهم يترخصون في هذا إشباعا لشهواتهم وخضوعا لاهوائهم وقد ذهب العلماء إلى أن الحشيش محرم وأن متعاطيه يستحق حد شارب الخمر وأن مستحله كافر مرتد عن الاسلام، وإن زوجته تبين منه، هذا فضلا عن إضعافه البدن فيفقد نشاطه، وقوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 حديث أم زرع - عن عائشة قالت: " جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن، (1) وتعاقدن أن لا يكتمن من أحبار أزواجهن شيئا: قالت الاولى: زوجي لحم جمل غث (2) على رأس جبل (3) لا سهل (4) فيرتقى (5) ولا سمين فينتقل (6) . وقالت الثانية: زوجي لا أبث (7) خبره. إني أخاف أن لا أذره (8) .   ذكر النسائي أن سبب هذا الحديث أن قالت عائشة: " فخرت بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية. فقال النبي على الله عليه وسلم " اسكتي يا عائشة، فإني كنت لك كأبي زرع لام زرع "..وقيل سبب الحديث أن عائشة وفاطمة جرى بينهما كلام فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي. إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع، فقالت: يا رسول الله حدثنا عنهما. فقال: كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة، وكان الرجال خلوفا، فقلن، تعلين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب..وقيل إن هذه القرية كانت باليمن ... وقيل إنهن كن بمكة ... وقيل: إنهن كن في الجاهلية. (1) أي الزمن أنفسهن عهدا وتعاقدن على الصدق. (2) هزيل يستكره. (3) أي كثير الضجر شديد الغلظة يصعب الرقي إليه كالجبل. (4) أي لا هو سهل ولا سمين، شبهت شيئين بشيئين: شبهت زوجها باللحم الغث، وشبهت سوء خلقه بالجبل العوعر ثم فسرت ما أجملت: لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لاخذ اللحم ولو كان هزيلا، لان الشئ المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب، ولا اللحم سمين فيتحمل المشقة في صعود الجبل لاجل تحصيله. (5) وصف للجبل أي لا سهل فيرتقي إليه. (6) وصف للحم: أي أنه لهزاله لا يرغب أحد فهى ينتقل إليه أي أن زوجها شديد البخل سئ الخلق ميئوس منه. (7) أي لا أظهر حديثه الذي لا خير فيه. (8) أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئا، فلطوله وكثرته أكتفى بالاشارة إلى معايبه خشية أن يطول الخطب من طولها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 إن أذكره أذكر عجره (1) وبجره (2) . قالت الثالثة: زوجي العشنق (3) : إن أنطق أطلق (4) ، وإن أسكت أعلق. قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة (5) ، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد (6) ، وإن خرج أسد (7) ولا يسأل عما عهد (8) . قالت السادسة: زوجي إن أكل لف (9) ، وإن شرب اشتف (10) ، وإن اضطجع التف (11) ولا يولج الكف ليعلم البث (12) .   (1) العجر: تعقد العروق والعصب في الجسد ... (2) والبجر مثلها إلا أنها تكون مختصة بالتي تكون في البطن. قال الخطابي: أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة، ولعله كان مستور الظاهر ردئ الباطن، وهي عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم ... (3) المذموم الطول - أرادت أن لا منظرا بلا مخبر. وقيل هو السئ الخلق. (4) أي إن ذكرت عيوبه وبلغه ذلك طلقني، وإن أسكت عنها فأنا عنده معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة مع أنها متعلقة به وتحبه مع سوء خلقه. (5) تهامة بلاد حارة في معظم الزمان وليس فيها رياح باردة فيطيب الليل لاهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حرارتها..فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال، وسلامة الباطن، فكأنها قالت لا أذى عنده ولا مكروه ... وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ... فليس سئ الخلق فأسأم من عشرته. فأنا لذيذة العيش عنه كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل. (6) شبهته بالفهد لانه يوصف بالحياء وقلة الشر وكثرة النوم والوثوب، فهي وصفته بالغفلة عند دخول البيت على وجه المدح له. (7) أسد أي يصير بين الناس مثل الاسد فهي تريد أنه في البيت كالفهد في كثرة النوم والوثوب وفي خارجه كالاسد على الاعداء. (8) بمعنى أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب ما ماله فهو كثير التسامح. (9) المراد باللف الاكثار منه. فعنده نهم وشره. (10) الاشتفاف في الشرب عدم الابقاء على شئ من المشروب. (11) أي بكسائه وحده، وانقبض عن أهله إعراضا فهي حزينة بذلك. (12) البث هو الحزن أي لا يمد يده ليعلم ما هي عليه من حزن فيزيله، ويحتمل أن تكون أرادت أنه ينام نوم العاجز الفشل: أردات أنه لا يسأل عن الامر الذي تهتم به، هو المباشرة الجنسية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 قالت السابعة: زوجي غياباء. أو عياياء، طباقاء (1) ، كل داء له داء (2) شجك (3) أو قلك (4) أو جمع كلا لك (5) . قالت الثامنة: زوجي المس مس (6) أرنب، والريح ريح زرنب (7) . قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد (8) طويل النجاد (9) ، عظيم الرماد (10) قريب البيت من الناد (11) . قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك (12) قليلات المسارح (13) وإذا سمعن صوت المزهر (14) أيقن أنهن هوالك (15) . قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ (16)   (1) شك من راوي الحديث والعياباء الذي لا يضرب، ولا يلقح من الابل، وبالمعجمة ليس بشئ، والطباقاء الاحمق..أو هو الثقيل الصدر: فهي تصفه بأنه عاجز عن النساء ثقيل الصدر (2) أي كل داء تفرق في الناس فهو فيه. (3) شجك: أي جرحك في رأسك وجراحات الرأس تسمى شجاجة. (4) فلك: أي جرح جسدك. (5) أي أنه ضروب للنساء، فإذا ضرب إما أن يكسر عظما، أو يشج رأسا أو يجمعهما. (6) أي ناعم الجلد مثل الارنب. (7) الززنب نبت طيب الريح. (8) وصفته بعلو بيته وطوله، فإن بيوت الاشراف كذلك يعلونها ويضربونها في المواضع المرتلعة (9) النجاد: حمالة السيف، وهي تريد أنه أيضا شجاع. (10) كناية عن الكرم. (11) أي وضع بيته وسط الناس ليسهل لقاؤه، وهو لا يحتجب عن الناس. (12) جمع مبرك وهو موضع نزول الابل. (13) الموضع الذي تطلق لترعى فهى أي لا تخرج إلى المرعى إلا قليلا استعدادا لنحهن للضيوف. (14) آلة من آلات الطرب والغناء وهو العود. (15) فإذا رأت الابل ذلك وسمعت ضرب العود أيقنت أنها هوالك، وأنها ستذبح للضيوف. وقولها مالك وما مالك استفهامية تقال للتعظيم والتعجب. (16) أي أن شأنه عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 أناس (1) من حلي أذني (2) ، وملا من شحم عضدي (3) وبجحني فبجحت (4) إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمه بشق (5) فجعلني في أهل صهيل (6) وأطيط (7) ودائس (8) ومنق (9) فعنده أقول فلا أقبح (10) ، وأرقد فأتصبح (11) . وأشرب فأتقمح (12) . أم أبي زرع، فما أم أبي زرع؟: عكومها (13) رداح (14) ، وبيتها فساح (15) . ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعة كمسل (16) شطبة،   (1) أناس، أي حرك وأثقل. (2) المراد أنه ملا أذنيها من أقراط من ذهب ولؤلؤ. و3) لم ترد العضد وحده، وإنما أرادت الجسم كله، وخصت العضد لانه أقرب ما يلي بصر الانسان من جسده أي كثرت نعمه عليها حتى سمن جمسها. (4) المراد أنه فرحها ففرحت، وقيل عظمني فعظمت إلى نفسي. (5) بشق: أي بشظف وجهد ومنه قول الله تعالى: لم تكونوا بالغيه إلى بشق الانفس) أي بعد جهد ومشقة. (6) صهيل: أي خيل. (7) أطيط: أي إبل، وأصل الاطيط صوت أعواد المحامل، ويطلق الاطيط على كل شئ نشأ عن ضغط. (8) المارد أن عندهم طعاما منتقى من الزرع الذي يداس في بيدره ليتميز الحب من السنبل. (9) المنق: الالة التي تميز الحب وتنقيه مثل المنخل والغربال. (10) أي لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها قولا، ولا يقبح عليها ما تأتي به. (11) أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار، فلا أوقظ، إشارة إلى أن لها من يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها. (12) هو الشرب على مهل حتى تمتلئ، وترتوي وهي تريد أنواع الاشربة من لبن وغير ذلك. (13) هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها ومتاعها - حقيبة -. (14) يقال للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير، ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الوردك رداح. أي أنها ثقيلة من ملئها. (15) فساح: واسع. والمعنى أنها وصفت أم زوجها بأنها كثيرة الالات والاثات والقماش واسعة المال كبيرة البيت، والمرأة التي تكون على هذا الحال يكون ابنها صغيرا لم يطعن في السن غالبا فزوجها صغير. (16) أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده، فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر سل شطبة واحدة: وهي العود المحدود كالمسلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ويشبعه ذراع الجفرة (1) . بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها (2) ، وملء كسائها (3) وغيظ جارتها (4) جارية أبي زرع. فما جارية أبي زرع؟ لا تبث (5) حديثنا تبثيثا (6) ، ولا تنقث (7) ميراثنا تنقيثا (8) ولا تملا بيتنا تقشيشا (9) . قالت خرج أبو زرع، والاوطاب (10) تمخض (11) فلقي (12) امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلقيان من تحت خصرها برمانتين (13) فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا (14) ركب شريا (15)   (1) الجفرة: هي الانثى من ولد المعز إذا كان سن أربعة أشهر، وفصل عن أمه وأخذ في الرعي فهي وصفت ابن زوجها بأنه خفيف الوطأة عليها، فإذا دخل بيتها وقت القيلولة مثلا لم يضطجع إلا قدر ما يسل السيف من غمده، وأنه لا يحتاج طعاما من عندها، فلو طعم لا كتفي باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب فهو ظريف لطيف. (2) أي أنها بارة بهما. (3) كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها. (4) أي أنها تغيظ جارتها لما ترى من نعم وخير، والمراد بجارتها ضرتها أو المراد في الحقيقة شأن أغلب الجارت. (5) لا تبث أي لا تظهر. (6) أي لا تفش سرا. (7) أي لا تسرع فيه بالخيانة ولا تذهبه بالسرقة. أو تحسن صنع الطعام. (8) الميرة: هي الزاد وأصله ما يحصله البدوي من الخضر ويحمله إلى منزله. (9) أي مصلحة للبيت مهتمة بتنظيمه وتنظيفه. (10) جمع وطب وهو وعاء اللبن. (11) إخراج الزبد من اللبن والمراد أنه خرج من عندها مبكرا. (12) سبب رؤية أبي زرع للمرأة وهي على هذه الحالة أنها تعبت من مخض اللبن فاستلقت تستريح فرآها على هذه الحالة، وسبب رغبته في إنكاحها أنهم كانوا يحبون نكاح المرأة المنجبة. (13) المراد بالرمانة ثديها، وهذا دليل على أن المرأة كانت صغيرة السن وأن ولديها كانا يلعبان وهما في حضنها أو جنبها. (14) أي من سراة الناس أي شريفا. (15) فرسا عظيما خيرا، والشرى هو الذي يمضي في السير بلا فتور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وأخذ خطيا (1) وأراح (2) علي نعما ثريا (3) ، وأعطاني من كل رائحة زوجا (4) ، وقال كلي أم زرع وميري (5) أهلك. قالت فلو جمعت كل شي أعطانيه ما بلغ أصغر آنية (6) أبي زرع. قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت لك كأبي زرع لام زرع " (7) . رواه الشيخان والنسائي.   (1) هو الرمح. (2) أي أتى بها إلى المراح وهو موضع مبيت الحاشية، وقيل معناه غزا فغنم فأتى بالنعم الكثيرة. (3) أي كثيرة. (4) المعنى أعطاني من كل شئ يذبح زوجا أي اثنين من كل شئ من الحيوان الذي يرعى. وأرادت كذلك كثرة ما أعطاها. (5) ميري أهلك. أي صليهم واسعي إليهم بالميرة وهي الطعام. (6) أي التي كان يطبخ فيها عند أبي زرع على الدوام والاستمرار من غير نفس ولا قطع. (7) في رواية بزيادة في آخره: إلا أنه طلقها وإني ألا أطلقك. وزاد النسائي في رواية: عائشة يا رسول الله: بل أنت خير من أبي زرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الخطبة قبل الزواج : يستحب أن يقدم العاقد أو غيره بين يدي العقد خطبة. وأقلها: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. 1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء (1) ". رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن غريب. 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله، فهو أقطع ". رواه أبو داود وابن ماجه. أي أن كل أمر معتنى به، ومحتاج إلى أن يلقي صاحبه باله له من الاهتمام به لا يبدأ بحمدالله فهو مقطوع من البركة. وليس المراد خصوص الحمد، بل المقصود ذكر الله عزوجل، ليتفق مع الروايات الاخرى. والافضل أن يخطب خطبة الحاجة. فعن عبد الله بن مسعود قال: " أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الخير وخواتيمه، أوقال فواتح الخير، فعلمنا خطبة الصلاة، وخطبة الحاجة، خطبة الصلاة: التحيات لله والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وخطبة الحاجة: إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلامضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... ثم تصل خطبتك بثلاث آيات من كتاب الله:   (1) اليد التي أصابها الجذام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 1 - " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (1) ". 2 - " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا (2) ". 3 - " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (3) ". رواه أصحاب السنن وهذا لفظ ابن ماجه: ولو لم يأت بالخطبة صح النكاح. فعن رجل بن بني سليم قال: خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي عرضت نفسها عليه ليتزوجها صلى الله عليه وسلم. فقال له: " زوجتكها بما معك من القرآن." ولم يخطب حكمة ذلك: قال في حجة الله البالغة: " كان أهل الجاهلية يخطبون قبل العقد بما يرونه من ذكر فاخر قومهم ونحو ذلك. يتوسلون بذلك إلى ذكر المقصود والتنويه به، وكان جريان الرسم بذلك مصلحة، فإن الخطبة مبناها على التشهير. وجعل الشئ بمسمع ومرأى من الجمهور. والتشهير بما يراد وجوده في النكاح ليتميز من السفاح..وأيضا فالخطبة لا تستعمل إلا في الامور المهمة. والاهتمام بالنكاح وجعله أمرا عظيما بينهم من أعظم المقاصد، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم أصلها، وغير وصفها. وذلك أنه ضم مع هذه المصالح مصلحة أخرى وهي: أنه ينبغي أن يضم في كل ارتفاق ذكر مناسب له، وينوه في كل عمل بشعائر الله، ليكون الدين الحق   (1) سورة آل عمران. آية 102. (2) سورة النساء آية: 1. (3) سورة الاحزاب آية: 71. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 ناشرا أعلامه وراياته، ظاهرا شعاره وأماراته، فسن فيها أنواعا من الذكر كالحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ والتوكل والتشهد وآيات من القرآن. وأشار إلى هذه المصلحة بقوله: " وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الحذماء ". وقوله " كل كلام لا يبدأ فيه بحمدالله فهو أجذم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح " الدعاء بعد العقد يستحب الدعاء لكل واحد من الزوجين بالمأثور: 1 - فعن أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الانسان أي إذا تزوج. قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير ". 2 - وعن عائشة قالت: " تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم، فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الانصار في البيت، فقلن: على الخير، والبركة وعلى خير طائر ". رواه البخاري وأبو داود. 3 - وعن الحسن قال: تزوج عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه امرأة من بني جشم. فقالوا: بالرفاء والبنين. فقال: قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله فيكم، وبارك عليكم " رواه النسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 إعلان الزواج : يستحسن شرعا إعلان الزواج، ليخرج بذلك عن نكاح السر المنهي عنه، وإظهارا للفرح بما أحل الله من الطيبات. وإن ذلك عمل حقيق بأن يشتهر، ليعلمه الخاص والعام، والقريب والبعيد، وليكون دعاية تشجع الذين يؤثرون العزوبة على الزواج، فتروج سوق الزواج. والاعلان يكون بما جرت به العادة، ودرج عليه عرف كل جماعة، بشرط ألا يصحبه محظور نهى الشارع عنه كشرب الخمر، أو اختلاط الرجال بالنساء، ونحو ذلك. 1 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدقوف ". رواه أحمد، والترمذي، وحسنه. وليس من شك في أن جعله في المساجد أبلغ في إعلانه والاذاعة به، إذ أن المساجد هي المجامع العامة للناس، ولا سيما في العصور الاولى التي كانت المساجد فيه بمثابة المنتديات العامة. 2 - وروى الترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه عن يحيى بن سليم قال: قلت لمحمد بن حاطب: تزوجت امرأتين ما كان في واحدة منهما صوت - يعني دفا - فقال محمد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف ". الغناء عند الزواج : ومما أباحه الاسلام وحبب فيه، الغناء عند الزواج، ترويحا للنفوس وتنشيطأ لها باللهو البرئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ويجب أن يخلو من المجون، والخلاعة، والميوعة، وفحش القول وهجره. 1 - فعن عامر بن سعد رضي الله عنه قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود الانصاري في عرس، وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله، ومن أهل بدر - يفعل هذا عندكم!! فقالا: " إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب، قد رخص لنا في اللهو عند العرس ". رواه النسائي والحاكم وصححه. 2 - وزفت السيدة عائشة رضي الله عنها الفارعة بنت أسعد، وسارت معها في زفافها إلى بيت زوجها - نبيط بن جابر الانصاري - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الانصار يعجبهم اللهو " رواه البخاري وأحمد وغيرهما. وفي بعض روايات هذا الحديث أنه قال: " فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف، وتغني؟ ". قالت عائشة: تقول ماذا يا رسول الله؟ قال: تقول: أتيناكم أتيناكم - فحيونا نحييكم ولولا الذهب الاحمر - ما حلت بواديكم ولولا الحنطة السمراء - ما سمنت عذاريكم وعن الربيع بنت معوذ قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم حين بني (1) - بي - فجلس على فراشي، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف. ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر (2) إذ قالت إحداهن: ... وفينا نبي يعلم ما في غد فقال: " دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين (3) ". رواه البخاري وأبو داود والترمذي.   (1) تزوجت. (2) يذكرن صفات الشجاعة والبأس وما تحلوا به من الكرام والمروءة. وكان أبوها معوذ وعماها عوف، ومعاذ قتلوا في بدر. (3) نهاها عن ذلك لانه لا يعلم الغيب إلا الله، وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يعلم ما في غد إلا الله سبحانه " رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وصايا الزوجة : استحباب وصية الزوجة: قال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زفوا امرأة على زوجها، يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه. وصية الاب ابنته عند الزواج: وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال: " إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق ". وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء ". " وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة ". " وأطيب الطيب، الماء ". وصية الزوج زوجته: وقال أبو الدرداء لامرأته: " إذا رأيتني غضبت فرضني. وإذا رأيتك غضبى رضيتك. وإلا لم نصطحب ". وقال أحد الازواج لزوجته " خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ولا تقريني نقرك الدف مرة فإنك لا تدرين كيف المغيب ولا تكثري الشكوى فتذهب بالقوى ويأباك قلبي، والقلوب تقلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فإنى رأيت الحب في القلب والاذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وصية الام ابنتها عند الزواج: خطب عمرو بن حجر ملك كندة، أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، ولما حان زفافها إليه خلت بها أمها أمامة بنت الحارث، فأوصتها وصية، تبين فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها فقالت: أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل. ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها - كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا. واحفظي له خصالا عشرا، يكن لك ذخرا. (أما الاولى والثانية) فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة. (وأما الثالثة والرابعة) فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك ألا أطيب ريح. (وأما الخامسة والسادسة) فالتفقد لوقت منامه وطعامه. فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. (وأما السابعة والثامنة) فالاحتراس بماله والارعاء (1) على حشمه (2) وعياله، وملاك (3) الامر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. (وأما التاسعة والعاشرة) فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره. ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.   (1) الارعاء: الرعاية. (2) حشمه: خدمه. (3) ملاك: عماد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الوليمة : (1) تعريفها: الوليمة مأخوذة من الولم، وهو الجمع، لان الزوجين يجتمعان، وهي الطعام في العرس خاصة. وفي القاموس: الوليمة طعام العرس، أوكل طعام صنع لدعوة وغيرها. وأولم: صنعها. (2) حكمها: ذهب الجمهور من العلماء إلى أنها سنة مؤكدة. 1 - لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: " أولم. ولو بشاة ". 2 - وعن أنس قال: " ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ من نسائه، ما أولم على زينب: أولم بشاة ". رواه البخاري ومسلم. 3 - وعن بريدة قال: لما خطب علي فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لابد للعرس من وليمة ". رواه أحمد بسند لا بأس به كما قال الحافظ. 4 - قال أنس: " ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه، ما أولم على زينب، وجعل يبعثني فأدعو له الناس، فأطعمهم خبزا، ولحما، حتى شبعوا. 5 - وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم " أولم على بعص نسائه بمدين من شعير ". وهذا الاختلاف ليس مرجعه تفضيل بعض نسائه على بعض، وإنما سببه اختلاف حالتي العسر واليسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 (3) وقتها: وقت الوليمة عند العقد أو عقبه، أو عند الدخول أو عقبه. وهذا أمر يتوسع فيه حسب العرف والعادة. وعند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم دعا القوم بعد الدخول بزينب. (4) إجابة الداعي: إجابة الداعي إلى وليمة العرس واجبة على من دعي إليها، لما فيها من إظهار الاهتمام به، وإدخال السرور عليه، وتطييب نفسه: 1 - عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها ". 2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". 3 - وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لو دعيت إلى كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ". روى هذه الاحاديث البخاري. فإذا كانت الدعوة عامة غير معينة لشخص أو جماعة لم تجب الاجابة، ولم تستحب. مثل أن يقول الداعي: أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة دون تعيين، أو ادع من لقيت. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس ": تزوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، فصنعت أمي أم سليم حيسا (1) ، فجعلته في تور (2) ، فقالت: يا أخي اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت به، فقال: ضعه. ثم قال: ادع فلانا، وفلانا، ومن لقيت، فدعوت من سمتى ومن لقيت ". رواه مسلم. وقيل: إن إجابة الداعي فرض كفاية.   (1) الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط: أي كشك. (2) التور: إناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وقيل: إنها مستحبة..والاول أظهر، لان العصيان لا يطلق إلاعلى ترك الواجب. هذا بالنسبة لوليمة العرس. أما الاجابة إلى غير وليمة النكاح، فهي مستحبة غير واجبة عند جمهور العلماء. وذهب بعض الشافعية إلى وجوب الاجابة مطلقا، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، لان في الاحاديث ما يشعر بالاجابة إلى كل دعوة سواء أكانت دعوة زواج، أم غيره. (5) شروط وجوب إجابة الدعوة: قال الحافظ في الفتح: إن شروط وجوبها ما يأتي: 1 - أن يكون الداعي مكلفا حرا رشيدا. 2 - وألا يخص الاغنياء دون الفقراء. 3 - وألا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه، أو لرهبة منه. 4 - وأن يكون الداعي مسلما على الاصح. 5 - وأن يختص باليوم الاول على المشهور. 6 - وألا يسبق، فمن سبق تعينت الاجابة له، دون الثاني. 7 - وألا يكون هناك ما يتأذى بحضوره من منكر وغيره. 8 - وألا يكون له عذر. قال البغوي: ومن كان له عذر، أو كان الطريق بعيدا تلحقه المشقة فلا بأس أن يتخلف. (6) كراهة دعوة الاغنياء دون الفقراء: يكره أن يدعى إلى الوليمة الاغنياء دون الفقراء. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شر طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". رواه مسلم. وروى البخاري أن أبا هريرة قال: شر الطعام طعام الوليمة: يدعى لها الاغنياء، وتترك الفقراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 زواج غير المسلمين : القاعدة العامة في زواج غير المسلمين: " إقرار ما يوافق الشرع منها إذا أسلموا ". إن أنكحة الكفار لم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وقعت، وهل صادفت الشروط المعتبرة في الاسلام فتصح، أم لم تصادفها فتبطل؟. وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج، فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان في الجاهلية وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك. وإن لم يكن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه فلا يلتفت إليه (1) . الرجل يسلم وتحته أختان، يخير في إمساك إحداهما وترك الاخرى: عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: " أسلمت، وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما ". رواه أحمد وأصحاب السنن والشافعي والدارقطني والبيهقي وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان. الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع يختار أربعا منهن: عن ابن عمر قال: " أسلم غيلان الثقفي، وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا ". أخرجه أحمدو الترمذي وابن ماجه والشافعي، وابن حبان والحاكم وصححاه.   (1) هذا خلاصة ماقاله ابن القيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 إسلام أحد الزوجين دون الآخر : إذا تم العقد بين الزوجين قبل الاسلام، ثم أسلم الزوجان فان كان العقد قد انعقد على من يصح العقد عليها في الاسلام، فحكمه واضح فيما سبق. فإن أسلم أحد الزوجين دون الآخر: فإن كان الاسلام من المرأة انفسخ النكاح. وتجب عليها العدة، فإن أسلم هو وهي في عدتها كان أحق بها، لما ثبت أن عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبل زوجها صفوان بن أمية، بنحو شهر، ثم أسلم هو، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجها كافر، مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا، قبل أن تقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها. وكذلك الحكم إذا أسلم بعد انقضاء العدة ولو طالت المدة فهما على نكاحهما الاول إذا اختارا ذلك ما لم تتزوج. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بنكاحها الاول بعد سنتين ولم يحدث شيئا (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن ليس بإسناده بأس وصححه الحاكم وهومن رواية ابن عباس. قال ابن القيم: " ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه، بل متى أسلم الآخر. فالنكاح بحاله ما لم تتزوج. هذه هي سنته المعلومة، قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران، وهي وادي خزاعة، وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الاسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الاسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار إسلام، وأبو سفيان   (1) في بعض الروايات: لم يحدث صداقا وفي بعضها: لم يحدث نكاحا أي عقدا جديدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت بعد انقضاء العدة واستقرا على النكاح الا أن عدتها لم تنقض حتى أسلمت. وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارها دار الاسلام، وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن، وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن، وهي دار حرب، ثم رجع صفوان ألى مكة، ومي دار الاسلام، وشهد حنينا، وهو كافر، ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الاول، وذلك أنه لم تنقض عدتها. وقد حفظ أهل العلم بالمغازي، ان امرأة من الانصار كانت عند زوجها بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة فاستقر على النكاح. انتهى. قال صاحب الروضة الندبة بعد ما نقل هذا الكلام: أقول: إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس بمنزلة الطلاق. إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها مع تجديد العقد، فالحاصل أن المرأة المسلمة إن حاضت؟ الاسلام، ثم طهرت، كان لها أن تتزوج بمن شاءت، فإذا تزوجت لم يبق للاول عليها سبيل إذا أسلم. وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الاول، ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض. هذا ما تقتضيه الادلة وإن خالف أقوال الناس، وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين، فإنه إذا عاد المرتد إلى الاسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الطلاق : (1) تعريفه: الطلاق: مأخوذ من الاطلاق، وهو الارسال والترك. تقول: أطلقت الاسير، إذا حللت قيده وأرسلته. وفي الشرع: حل رابطة الزواج، وإنهاء العلاقة الزوجية. (2) كراهته: إن استقرار الحياة الزوجية غاية من الغايات التي يحرص عليها الاسلام. وعقد الزواج إنما يعقد للدوام والتأبيد إلى أن تنتهي الحياة، ليتسنى للزوجين أن يجعلا من البيت مهدا يأويان إليه، وينعمان في ظلاله الوارفة، وليتمكنا من تنشئة أولادهما تنشئة صالحة. ومن أجل هذا كانت الصلة بين الزوجين من أقدس الصلات وأوثقها. وليس أدل على قدسيتها من أن الله سبحانه سمى العهد بين الزوج وزوجته بالميثاق الغليظ، فقال: " وأخذن منكم ميثاقا غليظا (1) ". وإذا كانت العلاقة بين الزوجين هكذا موثقة مؤكدة، فإنه لا ينبغي الاخلال بها، ولاالتهوين من شأنها. وكل أمر من شأنه أن يوهن من هذه الصلة، ويضعف من شأنها، فهو بغيض إلى الاسلام، لفوات المنافع وذهاب مصالح كل من الزوجين. فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أبغض الحلال إلى الله - عز وجل - الطلاق (2) . " وأي إنسان أراد أن يفسد ما بين الزوجين من علاقة فهو في نظر الاسلام خارج عنه، وليس له شرف الانتساب إليه.   (1) سورة النساء آية 21 (2) رواه أبو داود والحاكم وصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من خبب (1) امرأة على زوجها (2) ". وقد يحدث أن بعض النسوة يحاول أن يستأثر بالزوج ويحل محل زوجته، والاسلام ينهى عن ذلك أشد النهي. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها (3) ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها ". والزوجة التي تطلب الطلاق من غر سبب ولا مقتض، حرام عليها رائحة الجنة. فعن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة (4) ". (3) حكمه: اختلفت آراء الفقهاء في حكم (5) الطلاق، والاصح من هذه الآراء، رأي الذين ذهبوا إلى حظره إلا لحاجة، وهم الاحناف والحنابلة. واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لعن الله كل ذواق، مطلاق ". ولان في الطلاق كفرا لنعمة الله، فإن الزواج نعمة من نعمه، وكفران النعمة حرام. فلا يحل إلا لضرورة. ومن هذه الضرورة التي تبيحه أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته. أو أن يستقر في قلبه عدم اشتهائها، فإن الله مقلب القلوب، فإن لم تكن هناك حاجة تدعو إلى الطلاق يكون حينئذ محض كفران نعمة الله، وسوء أدب من الزوج، فيكون مكروها محظورا. وللحنابلة تفصيل حسن، نجمله فيما يلي:   (1) خبب: أفسد. (2) رواه أبو داود والنسائي. (3) أي لتخلي عصمة أختها من الزواج ولتحظى بزوجها. ولها أن تتزوج زوجا آخر. (4) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي. (5) أي الوصف الشرعي له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 فعندهم قد يكون الطلاق واجبا، وقد يكون محرما، وقد يكون مباحا، وقد يكون مندوبا إليه. فأما الطلاق الواجب: فهو طلاق الحكمين في الشقاق بين الزوجين، إذا رأيا أن الطلاق هو الوسيلة لقطع الشقاق. وكذلك طلاق المولي بعد التربص، مدة أربعة أشهر لقول الله تعالى: " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (1) ". وأما الطلاق المحرم: فهو الطلاق من غير حاجة إليه، وإنما كان حراما، لانه ضرر بنفس الزوج، وضرر بزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه. فكان حراما، مثل إتلاف المال، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار ". وفي رواية أخرى أن هذا النوع من الطلاق مكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق ". وفي لفظ: " ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق " (2) وإنما يكون مبغوضا من غير حاجة إليه - وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حلالا - ولانه مزيل للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، فيكون مكروها. وأما الطلاق المباح: فإنما يكون عند الحاجة إليه، لسوء خلق المرأة، وسوء عشرتها، والتضرر بها، من غير حصول الغرض منها. وأم المندوب إليه: فهو الطلاق يكون عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون غير عفيفة. قال الامام أحمد رضي الله عنه لا ينبغي له إمساكها، وذلك لان فيه نقصأ لدينه، ولا يأمن إفساد هـ لفراشه، وإلحاقها به ولدا ليس هو منه، ولا بأس بالتضييق عليها في هذه الحال، لتفتدي منه، قال الله تعالى: " ولا تعضلوهن   (1) البقرة الآية 125 - 126 (2) رواه أبو داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (1) ". قال ابن قدامه: ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب. قال: ومن المندوب إليه، الطلاق في حال الشقاق. وفي الحال التي تخرج المرأة إلى المخالعة لتزيل عنها الضرر. قال ابن سينا في كتاب الشفاء: " ينبغي أن يكون إلى الفرقة سبيل ما، وألا يسد ذلك من كل وجه، لان حسم أسباب التوصل إلى الفرقة بالكلية يقتضي وجوها من الضرر والخلل. منها: أن من الطبائع ما لا يألف بعض الطبائع، فكلما اجتهد في الجمع بينهما زاد الشر، والنبو (أي الخلاف) وتنغصت المعايش. ومنها: أن من الناس من يمنى (أي يصاب) بزوج غير كفء. ولا حسن المذاهب في العشرة، أو بغيض تعافه الطبيعة، فيصير ذلك داعية إلى الرغبة في غيره، إذ الشهوة طبيعة، ربما أدى ذلك إلى وجوه من الفساد، وربما كان المتزاوجان لا يتعاونان على النسل، فإذا بدلا بزوجين آخرين تعاونا فيه، فيجب أن يكون إلى المفارقة سبيل، ولكنه يجب أن يكون مشددا فيه ". الطلاق عند اليهود (2) : الذي دون في الشريعة عند اليهود وجرى عليه العمل أن الطلاق يباح بغير عذر، كرغبة الرجل بالتزوج بأجمل من امرأته، ولكنه لا يحسن بدون عذر، والاعذار عندهم قسمان: (الاول) عيوب الخلقة، ومنها: العمش، والحول، والبخر، والحدب، والعرج، والعقم. (الثاني) وعيوب الاخلاق. ! وذكروا منها: الوقاحة، والثرثرة، والوساخة، والشكاسة، والعناد، والاسراف، والنهمة، والبطنة، والتأنق في المطاعم، والفخفخة، والزنا أقوى الاعذار عندهم، فيكفي فيه الاشاعة، وإن لم تثبت، إلا أن المسيح عليه السلام لم يقر منها إلا علة الزنا،   (1) النساء الآية 19: أي لا تمسكوهن لتضيقوا عليهن. (2) من كتاب " نداء للجنس اللطيف ". ص 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وأما المرأة فليس لها أن تطلب الطلاق مهما تكن عيوب زوجها، ولو ثبت عليه الزنا ثبوتا. الطلاق في المذاهب المسيحية: ترجع جميع المذاهب المسيحية التي تعنقها أمم الغرب المسيحي إلى ثلاثة مذاهب: 1 - المذهب الكاثوليكي. 2 - " الارثوذكسي. 3 - " البروتوستنتي. فالمذهب الكاثوليكي، يحرم الطلاق تحريما باتا، ولا يبيح فصم الزواج لاي سبب مهما عظم شأنه، وحتى الخيانة الزوجية نفسها لاتعد في نظره مبررا للطلاق، وكل ما يبيحه في حالة الخيانة الزوجية، هو التفرقة الجسمية، بين شخصي الزوجين، مع اعتبار الزوجية قائمة بينهما من الناحية الشرعية، فلا يجوز لواحد منهما في أثناء هذه الفرقة أن يعقد زواجه على شخص آخر، لان ذلك يعتبر تعددا للزوجات، والديانة المسيحية لا تبيح التعدد بحال. وتعتمد الكاثوليكية في مذهبها هذا على ما جاء في إنجيل مرقص على لسان المسيح، إذ يقول: ... " 8 ويكون الاثنان جسدا واحدا، إذن ليسا بعد اثنين، بل جسد واحد، 9 فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان (1) ". والمذهبان المسيحيان الآخران، الارثوذكسي، والبروتوستنتي، يبيحان الطلاق في بعض حالات محدودة، من أهمها الخيانة الزوجية، ولكنهما يحرمان على الرجل والمرأة كليهما أن يتزوجا بعد ذلك، وتعتمد المذاهب المسيحية التي تبيح الطلاق في حالة الخيانة الزوجية على ما ورد في إنجيل متى، على لسان المسيح، إذ يقول: " من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني (2) ".   (1) مرقص إصحاح 10 آيتي 8 و 9 (2) إنجيل متى: الاصحاح الخامس 21 - 22 (3) إنجيل مرقس: الاصحاح العاشر: 11 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وتعتمد المذاهب المسيحية في تحريمها الزواج على المطلق والمطلقة على ما ورد في إنجيل مرقص إذ يقول: (من طلق امرأته، وتزوج بأخرى يزني عليها، وإن طلقت امرأة زوجها، وتزوجت بآخر تزني) . الطلاق في الجاهلية: قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا راجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة، أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة، فأخبرتها، فسكتت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن: " الطلاق مرتان. فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (1) ". قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا، من كان طلق، ومن لم يكن طلق ". رواه الترمذي. الطلاق من حق الرجل وحده : جعل الاسلام الطلاق من حق الرجل وحده (2) ، لانه أحرص على بقاء الزوجية التي أنفق في سبيلها من المال، ما يحتاج إلى انفاق مثله، أو أكثر منه، إذا طلق وأراد عقد زواج آخر. وعليه أن يعطي المطلقة مؤخر المهر، ومتعة الطلاق، وأن ينفق عليها في مدة العدة. ولانه بذلك، وبمقتضى عقله ومزاجه يكون أصبر على ما يكره من المرأة، فلا يسارع إلى الطلاق لكل غضبة يغضبها، أو سيئة منها يشق عليه احتمالها، والمرأة أسرع منه غضبا، وأقل احتمالا، وليس عليها من تبعات الطلاق   (1) سورة البقرة آية 229. (2) من كتاب نداء للجنس اللطيف ص 98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ونفقاته مثل ما عليه، فهي أجدر بالمبادرة إلى حل عقدة الزوجية، لادنى الاسباب، أو لما لا يعد سببا صحيحا إن أعطي لها هذا الحق. والدليل على صحة هذا التعليل الاخير، أن الافرنج لما جعلوا طلب الطلاق حقا للرجال والنساء على السواء، كثر الطلاق عندهم، فصار أضعاف ما عند المسلمين. من يقع منه الطلاق : اتفق العلماء على أن الزوج، العاقل، البالغ، المختار هو الذي يجوز له أن يطلق، وأن طلاقه يقع. فإذا كان مجنونا، أو صبيا أو مكرها، فإن طلاقه يعتبر لغوا لو صدر منه، لان الطلاق تصرف من التصرفات التي لها آثارها ونتائجها في حياة الزوجين، ولابد من أن يكون المطلق كامل الاهلية، حتى تصح تصرفاته. وإنما تكمل الاهلية بالعقل والبلوغ، والاختيار، وفي هذا يروي أصحاب السنن، عن علي كرم الله وجهه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم (1) ، وعن المجنون حتى يعقل ". وعن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " كل طلاق جائز، إلا طلاق المغلوب على عقله ". رواه الترمذي والبخاري موقوفا. وقال ابن عباس رضي الله عنه - فيمن يكرهه اللصوص فيطلق - فليس بشئ، رواه البخاري. وللعلماء آراء مختلفة في المسائل الآتية نجملها فيما يلي: 1 - طلاق المكره. 2 - طلاق السكران. 3 - طلاق الهازل. 4 - طلاق الغضبان. 5 - طلاق الغافل والساهي. 6 - طلاق المدهوش.   (1) يحتلم: يبلغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 (1) طلاق المكره: المكره لا إرادة له ولا اختيار، والارادة والاختيار هي أساس التكليف، فإذا انتفيا، انتفى التكليف، واعتبر المكره غير مسؤول عن تصرفاته، لانه مسلوب الارادة، وهوفي الواقع ينفذ إرادة المكره. فمن أكره على النطق بكلمة الكفر، لا يكفر بذلك لقول الله تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان (1) ". ومن أكره على الاسلام لا يصبح مسلما، ومن أكره على الطلاق لا يقع طلاقه. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أخرجه ابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والطبراني، والحاكم، وحسنه النووي. وإلى هذا ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وداود من فقهاء الامصار، وبه قال عمربن الخطاب، وابنه عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: طلاق المكره واقع، ولا حجة لهم فيما ذهبوا إليه، فضلا عن مخالفتهم لجمهور الصحابة. (2) طلاق السكران: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن طلاق السكران يقع، لانه المتسبب بإدخال الفساد على عقله بإرادته. وقال قوم: لا يقع وإنه لغو لا عبرة به، لانه هو والمجنون سواء، إذ أن كلامنهما فاقد العقل الذي هو مناط التكليف، ولان الله سبحانه يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون (2) ". فجعل سبحانه قول السكران غيرمعتدبه، لانه لا يعلم ما يقول. وثبت عن عثمان أنه كان لا يرى طلاق السكران.   (1) سورة النحل آية: 106. (2) سورة النساء آية 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وذهب بعض أهل العلم أنه لا يخالف عثمان في ذلك احد من الصحابة. وهو مذهب يحيى بن سعيد الانصاري، وحميد بن عبد الرحمن وربيعة، والليث بن سعد، وعبد الله بن الحسين، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والشافعي في أحد فوليه واختاره المزني من الشافعية وهو إحدى الروايات عن أحمد، وهي التي استقر عليها مذهبه، وهو مذهب أهل الظاهر كلهم، واختاره من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي. قال الشوكاني: إن السكران الذي لا يعقل لاحكم لطلاقه لعدم المناط الذي تدور عليه الاحكام، وقد عين الشارع عقوبته فليس لنا أن نجاوزها برأينا، ونقول يقع طلاقه عقوبة له، فيجمع له بين غرمين. وقد جرى العمل أخيرا في المحاكم بهذا المذهب، فقد جاء في المرسوم بقانون برقم 25 / لسنة 1929 في المادة الاولى منه: (لا يقع طلاق السكران والمكره) . (3) طلاق الغضبان: والغضبان الذي لا يتصور ما يقول، ولا يدري ما يصدر عنه، لا يقع طلاقه لانه مسلوب الارادة. روى أحمد وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ". وفسر الاغلاق بالغضب، وفسر بالاكراه، وفسربالجنون. وقال ابن تيمية كما في زاد المعاد: حقيقة الاغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته. قال: ويدخل في ذلك طلاق المكره، والمجنون، ومن زال عقله بسكر أو غضب، وكل ما لاقصد له، ولا معرفة له بما قال، والغضب على ثلاثة أقسام: 1 - ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع. 2 - ما يكون في مبادئه بحيث لايمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 3 - أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية، ولكنه يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زاد، فهذا محل نظر. وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه. (4) طلاق الهازل (1) والمخطئ: يرى جمهور الفقهاء أن طلاق الهازل يقع، كما أن نكاحه يصح، لما رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ". وهذا الحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن حبيب، وهو مختلف فيه، فإنه قد تقوى بأحاديث أخرى. وذهب بعض أهل العلم إلى عدم وقوع طلاق الهازل. منهم: الباقر، والصادق، والناصر. وهو قول في مذهب أحمد ومالك، إذ أن هؤلاء يشترطون لوقوع الطلاق الرضا بالنطق اللساني، والعلم بمعناه، وإرادة مقتضاه، فإذا انتفت النية والقصد، اعتبر اليمين لغوا، لقول الله تعالى: " وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم (2) ". وإنما العزم ما عزم العازم على فعله، ويقتضي ذلك إرادة جازمة بفعل المعزوم عليه، أو تركه ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات ". والطلاق عمل مفتقر إلى النية، والهازل لا عزم له ولانية. وروى البخاري عن ابن عباس: " " إنما الطلاق عن وطر (3) ". أما طلاق المخطئ، وهو من أراد التكلم بغير الطلاق فسبق لسانه إليه.   (1) الهازل: هو الذي يتكلم من غير قصد للحقيقة، بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد، مأخوذ من الجسد. (2) سورة البقرة آية: 27. (3) قال الحافظ: أي أنه لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز. وقال ابن القيم: أي عن غرض من المطلق في وقوعه - رسالة الطلاق: ص 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فقد رأى فقهاء الاحناف: أنه يعامل به قضاء، وأما ديانة فيما بينه وبين ربه فلا يقع عليه طلاقه وزوجته حلال له. (5) طلاق الغافل والساهي: ومثل المخطئ، والهازل، الغافل، والساهي، والفرق بين المخطئ والهازل، أن طلاق الهازل يقع قضاء وديانة، عند من يرى ذلك، وطلاق المخطئ يقع قضاء فقط، وذلك أن الطلاق ليس محلا للهزل ولا للعب. (6) طلاق المدهوش: المدهوش الذي لا يدري ما يقول، بسبب صدمة أصابته فأذهبت عقله وأطاحت بنفكيره، لا يقع طلاقه، كما لا يقع طلاق المجنون، والمعتوه، والمغمى عليه، ومن اختل عقله لكبر أو مرض، أو مصيبة فاجأته. من يقع عليها الطلاق لا يقع الطلاق على المرأة إلا إذا كان محلا له، وإنما تكون محلا له في الصور الآتية: 1 - إذا كانت الزوجية قائمة بينها وبين زوجها حقيقة. 2 - إذا كانت معتدة من طلاق رجعي، أو معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى، لان الزوجية فيها تين الحالتين تعتبر قائمة حكما حتى تنتهي العدة. 3 - إذا كانت المرأة في العدة الحاصلة بالفرقة التي تعتبر طلاقا. كأن تكون الفرقة بسبب إباء الزوج الاسلام إذا أسلمت زوجته. أو كانت بسبب الايلاء فإن الفرقة في هاتين الصورتين تعتبر طلاقا عند الاحناف. 4 - إذا كانت المرأة معتدة من فرقة اعتبرت فسخا لم ينقض العقد من أساسه ولم يزل الحل. كالفرقة بردة الزوجة، لان الفسخ في هذه الحالة إنما لطارئ طرأ يمنع بقاء العقد بعد أن وقع صحيحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 من لا يقع عليها الطلاق قلنا: إن الطلاق لا يقع على المرأة إلا إذا كانت محلا له. فإذا لم تكن محلا له فلا يقع عليها الطلاق. فالمعتدة من فسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة أو لنقص المهر عن مهر المثل، أو لخيار البلوغ، أو لظهور فساد العقد بسبب فقد شرط من شروط صحته، لا يقع عليها الطلاق، لان العقد في هذه الحالات قد نقض من أصله، فلم يبق له وجود في العدة. فلو قال الرجل لامرأته: أنت طالق وهي في هذه الحالة - فقوله لغو لا يترتب عليه أي أثر. وكذلك لا يقع الطلاق على المطلقة قبل الدخول وقبل الخلوة بها خلوة صحيحة، لان العلاقة الزوجية بينهما قد انتهت، وأصبحت أجنبية بمجرد صدور الطلاق، فلا تكون محلا للطلاق بعد ذلك. لانها ليست زوجته ولا معتدته. فلو قال لزوجته غير المدخول بها حقيقة أو حكما: أنت طالق ... أنت طالق ... أنت طالق، وقعت بالاولى فقط طلقة بائنة، لان الزوجية فائمة. أما الثانية، والثالثة، فهما لغو لا يقع بهما شئ، لانهما صادفتاها وهي ليست زوجته ولامعتدته، حيث لا عدة لغير المدخول بها (1) ". وكذلك لا يقع الطلاق على أجنبية لم تربطها بالمطلق زوجية سابقة. فلو قال لامرأة لم يسبق له الزواج بها: " أنت طالق يكون كلامه لغوا لاأثر له، وكذلك الحكم فيمن طلقت وانتهت عدتها، لانها بانتهاء العدة تصبح أجنبية عنه. ومثل ذلك المعتدة من طلاق ثلاث، لانها بعد الطلاق الثلاث تكون قد بانت منه بينونة كبرى، فلا يكون للطلاق معنى   (1) وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي: وقال مالك ... إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاثا. فهي نسق." أي متابعة وراء بعضها " قال يكون ثلاثة تشبيها لتكرار اللفظ بالعد كأنه قال ... " أنت طالق ثلاثا " وقال في بداية المجتهد، فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد أعني بقوله " طلقتك ثلاثا " قال: " يقع الطلاق ثلاثا " ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه. قال " لا يقع " وهذا بخلاف المدخول بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الطلاق قبل الزواج : لا يقع الطلاق إذا علقه على التزوج بأجنبية، كأن يقول: " إن تزوجت فلانة فهي طالق، لما رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لانذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولاطلاق له فيما لا يملك ". قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شئ روي في هذا الباب، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وابن عباس، وجابر بن يزيد، وغير واحد من فقهاء التابعين، وبه يقول الشافعي. وقال أبو حنيفة، في الطلاق المعلق: إنه يقع إذا حصل الشرط، سواء عمم المطلق جميع النساء، أم خصص. وقال مالك وأصحابه: إن عمم جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه. ومثال التعميم أن يقول: إن تزوجت أي أمرأة فهي طالق. ومثال التخصيص: أن يقول: إن تزوجت فلانة - وذكر امرأة بعينها - فهي طالق. ما يقع به الطلاق يقع الطلاق بكل ما يدل على إنهاء العلاقة الزوجية، سواء أكان ذلك باللفظ، أم بالكتابة إلى الزوجة، أم بالاشارة من الاخرس، أو بإرسال رسول. الطلاق باللفظ : واللفظ قد يكون صريحا، وقد يكون كناية، فالصريح: هو الذي يفهم من معنى الكلام عند التلفظ به، مثل: أنت طالق ومطلقة، وكل ما اشتق من لفظ الطلاق. وقال الشافعي رضي الله عنه: ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح، وهي المذكورة في القرآن الكريم. وقال بعض أهل الظاهر: لا يقع الطلاق إلا بهذه الثلاث، لان الشرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 إنما ورد بهذه الالفاظ الثلاثة، وهي عبادة، ومن شروطها اللفظ فوجب الاقتصار على اللفظ الشرعي الوارد فيها (1) . والكناية: ما يحتمل الطلاق وغيره، مثل: أنت بائن، فهو يحتمل البينونة (2) عن الزواج، كما يحتمل البينونة عن الشر. ومثل: أمرك بيدك، فإنها تحتمل تمليكها عصمتها. كما تحتمل تمليكها حرية التصرف. ومثل: أنت علي حرام، فهي تحتمل حرمة المتعة بها، وتحتمل حرمة إيذائها. والصريح: يقع به الطلاق من غير احتياج إلى نية تبين المراد منه، لظهور دلالته ووضوح معناه. ويشترط في وقوع الطلاق الصريح: أن يكون لفظه مضافا إلى الزوجة، كأن يقول: زوجتي طالق، أو أنت طالق. أما الكناية فلا يقع بها الطلاق إلا بالنية، فلو قال الناطق بلفظ الصريح: لم أرد الطلاق ولم أقصده، وإنما أردت معنى آخر، لا يصدق قضاء، ويقع طلاقه. ولو قال الناطق بالكناية: لم أنو الطلاق، بل نويت معنى آخر، يصدق قضاء، ولا يقع طلاقه، لاحتمال اللفظ معنى الطلاق وغيره، والذي يعين المراد هو النية، والقصد، وهذا مذهب مالك، والشافعي، لحديث عائشة رضيا لله عنها، عند البخاري وغيره. " أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: " عذت بعظيم، الحقي بأهلك " وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك لما قيل له: " رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقال: أطلقها أم ماذا أفعل؟! قال: بل اعتزلها. فلا تقربنها، فقال لامرأته: الحقي بأهلك ".   (1) بداية المجتهد ج 2 ص 70. (2) إذ أن البينونة معناها البعد والمفارقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فأفاد الحديثان، أن هذه اللفظة تكون طلاقا مع القصد، ولا تكون طلاقا مع عدمه. وقد جرى عليه العمل الآن، حيث جاء في القانون رقم 25 لسنة 1929 في المادة الرابعة منه: " كنايات الطلاق: وهي ما تحتمل الطلاق أو غيره لا يقع بها الطلاق إلا بالنية ". أما مذهب الاحناف: فإنه يرى أن كنايات الطلاق يقع بها الطلاق بالنية، وأنه يقع بها أيضا الطلاق بدلالة الحال. ولم يأخذ القانون، بمذهب الاحناف في الاكتفاء بدلالة الحال، بل اشترط أن ينوي المطلق بالكناية الطلاق. هل تحريم المرأة يقع طلاقا؟ إذا حرم الرجل امرأته، فإما أن يريد بالتحريم تحريم العين، أو يريد الطلاق بلفظ التحريم غير قاصد لمعنى اللفظ، بل قصد التسريح: ففي الحالة الاولى، لا يقع الطلاق، لما أخرجه الترمذي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، فجعل الحرام (1) حلالا. وجعل في اليمين كفارة) . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (إذا حرم الرجل امرأته، فهي يمين يكفرها. ثم قال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . وأخرج النسائي عنه: " أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما فقال: كذبت، ليست عليك حرام، ثم تلا هذه الآية: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك. تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور   (1) جعل الشئ الذي حرمه حلالا بعد تحريمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم (1) ". عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة ". وفي الحالة الثانية: يقع الطلاق، لان لفظ التحريم كناية كسائر الكنايات. الحلف بأيمان المسلمين من حلف بأيمان المسلمين ثم حنث، فإنه يلزمه كفارة يمين عند الشافعية، ولا يلزمه طلاق ولاغيره. ولم يرد عن مالك فيه شئ وإنما الخلاف فيه للمتأخرين من المالكيه فقيل: يلزمه الاستغفار فقط، والمشهور المفتى به عندهم: أنه يلزمه كل ما اعتيد الحلف به من المسلمين. وقد جرى العرف في مصر أن يكون الحلف المعتاد بالله وبالطلاق، وعليه فيلزم من حلف بأيمان المسلمين ثم حنث كفارة يمين وبت من يملك عصمتها ولا يلزمه مشي إلى مكة ولا صيام، كما كان في العصور الاولى، لعدم من يحلف بذلك الآن، وقال الابهري: يلزمه الاستغفار فقط، وقيل: يلزمه كفارة يمين كما يرى الشافعية. وهذا الخلاف عند المالكية إذا لم ينو طلاقا، فإن نوى طلاقا وحنث لزمه اليمين عندهم. ونحن نرى ترجيح رأي الابهري وأن من حلف بذلك لا يلزمه إلا أن يستغفر الله. الطلاق بالكتابة : والكتابة يقع بها الطلاق، ولو كان الكاتب قادرا على النطق، فكما أن للزوج أن يطلق زوجته باللفظ، فله أن يكتب إليها الطلاق. واشترط الفقهاء: أن تكون الكتابة مستبينة مرسومة. ومعنى كونها مستبينة: أي بينة واضحة بحيث تقرأ في صحيفة ونحوها. ومعنى كونها مرسومة: أي مكتوبة بعنوان الزوجة بأن يكتب إليها: يا فلانة، أنت طالق، فإذا لم يوجه الكتابة إليها بأن كتب على ورقة: أنت   (1) هذه الآية مصرحة بأن التحريم يمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 طالق، أو زوجتي طالق، فلا يقع الطلاق إلا بالنية، لاحتمال أنه كتب هذه العبارة من غير أن يقصد إلى الطلاق. وإنما كتبها لتحسين خطه مثلا. اشارة الاخرس الاشارة بالنسبة للاخرس أداة تفهيم، ولذا تقوم مقام اللفظ في إيقاع الطلاق إذا أشار إشارة تدل على قصده في إنهاء العلاقة الزوجية. واشترط بعض الفقهاء ألا يكون عارفا الكتابة ولاقادرا عليها. فإذا كان عارفا بالكتابة وقادرا عليها، فلا تكفي الاشارة، لان الكتابة أدل على المقصود، فلا يعدل عنها إلى الاشارة إلا لضرورة العجز عنها. ارسال رسول ويصح الطلاق بإرسال رسول ليبلغ الزوجة الغائبة بأنها مطلقة، والرسول يقوم في هذه الحالة مقام المطلق ويمضي طلاقه. الإشهاد على الطلاق : ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الطلاق يقع بدون إشهاد، لان الطلاق من حقوق الرجل (1) ، ولايحتاج إلى بينة كي يباشر، حقه، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولاعن الصحابة، ما يدل على مشروعية الاشهاد.   (1) الطلاق حق من حقوق الزوج، وقد جعله الله بيده ولم يجعل الله لغيره حقا فيه. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ". وقال: " إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ". قال ابن القيم: فجعل الطلاق لمن نكح لان له الامساك وهو الرجعة. وعن ابن عباس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله: سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيي وبينها، قال: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: يا أيها الناس: ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما: إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ". رواه ابن ماجه. وقد تقدمت حكمة ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وخالف في ذلك فقهاء الشيعة الامامية فقالوا: إن الاشهاد شرط في صحة الطلاق، واستدلوا بقول الله سبحانه في سورة الطلاق: " وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله ". فذكر الطبرسي: أن الظاهر أنه أمر بالاشهاد على الطلاق، وأنه مروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق (1) : من ذهب إلى وجوب الاشهاد على الطلاق وعدم وقوعه بدون بينة : وممن ذهب إلى وجوب الاشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير لمؤمنين علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، رضي الله عنهما، ومن التابعين: الامام محمد الباقر، والامام جعفر الصادق، وبنوهما أئمة آل البيت رضوان الله عليهم، وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين رحمهم الله " ففي جواهر الكلام " عن علي رضي الله عنه، أنه قال لمن سأله عن طلاق: " أشهدت رجلين عدلين كما أمر الله عزوجل؟ قال: لا، قال اذهب فليس طلاقك بطلاق ". وروى أبو داود في سننه عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: " طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد ". وقد تقرر في الاصول: أن قول الصحابي، من السنة كذا، في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه ولم على الصحيح، لان مطلق ذلك إنما ينصرف بظاهرة إلى من يجب اتباع سنته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولان مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بسط في موضعه. وأخرج الحافظ السيوطي في الدر المنثور في تفسير آية: " فإذا بلغن أجلهن   (1) تفسير الالوسي سورة الطلاق، ويراجع أصل الشيعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم ". وعن عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين، عن رجل طلق ولم يشهد، وراجع ولم يشهد. قال: بئس ما صنع، طلق لبدعة، وراجع لغير سنة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته، وليستغفر الله. فإنكار ذلك من عمران، رضي الله عنه، والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إياه معصية، ما هو إلا لوجوب الاشهاد عنده، رضي الله عنه كما هو ظاهر. وفي كتاب " الوسائل " عن الامام أبي جعفر الباقر، عليه رضوان الله، قال: الطلاق الذي أمر الله عز وجل به في كتابه، والذي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يخلي الرجل عن المرأة، إذا حاضت وطهرت من محيضها، أشهد رجلين عدلين على تطليقه، وهي طاهر من غير جماع، وهو أحق برجعتها ما لم تنقض ثلاثة قروء، وكل طلاق ما خلا هذا فباطل، ليس بطلاق. وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: من طلق بغير شهود فليس بشئ قال السيد المرتضى في كتاب " الانتصار ": حجة الامامية في القول: بأن شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق، ومتى فقد لم يقع الطلاق. لقوله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ". فأمر تعالى بالاشهاد، وظاهر الامر في عرف الشرع يقتضى الوجوب، وحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل. وأخرج السيوطي في " الدر المنثور " عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء، قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. وروى الامام ابن كثير في تفسيره عن ابن جريج: أن عطاء كان يقول في قوله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ". قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله عز وجل، إلا من عذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فقوله: لا يجوز، صريح في وجوب الاشهاد على الطلاق عنده، رضي الله عنه، لمساواته له بالنكاح، ومعلوم ما اشترط فيه من البينة. إذا تبين لك، أن وجوب الاشهاد على الطلاق، هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين، تعلم أن دعوى الاجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه، مراد بها الاجماع المذهبي لا الاجماع الاصولي الذي حده - كما في " المستصفى " - اتفاق أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، خاصة على أمر من الامور الدينية، لانتقاضه، بخلاف من ذكر من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المجتهدين. وتبين مما نقلناه قبل عن السيوطي وابن كثير: أن وجوب الاشهاد لم ينفرد به علماء آل البيت عليهم السلام، كما نقله السيد مرتضى في كتاب " الانتصار "، بل هو مذهب عطاء وابن سيرين، وابن جريج، كما أسلفنا. التنجيز والتعليق صيغة الطلاق : إما أن تكون منجزة، وإما أن تكون معلقة، وإما أن تكون مضافة إلى مستقبل. فالمنجزة: هي الصيغة التي ليست معلقة على شرط، ولا مضافة إلى زمن مستقبل، بل قصد بها من أصدرها وقوع الطلاق في الحال، كأن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق. وحكم هذا الطلاق، أنه يقع في الحال متى صدر من أهله، وصادف محلا له. وأما المعلق: وهو ما جعل الزوج فيه حصول الطلاق معلقا على شرط، مثل أن يقول الزوج لزوجته: إن ذهبت إلى مكان كذا، فأنت طالق. ويشترط في صحة التعليق، ووقوع الطالق به ثلاثة شروط: (الاول) أن يكون على أمر معدوم، ويمكن أن يوجد بعد، فإن كان على أمر موجود فعلا، حين صدور الصيغة مثل أن يقول: إن طلع النهار فأنت طالق، والواقع أن النهار قد طلع فعلا - كان ذلك تنجيزا وإن جاء في صورة التعليق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فإن كان تعليقا على أمر مستحيل كان لغوا، مثل إن دخل الجمل في سم الخياط فأنت طالق. (الثاني) أن تكون المرأة حين صدور العقد محلا للطلاق بأن تكون في عصمته. (الثالث) أن تكون كذلك حين حصول المعلق عليه. والتعليق قسمان: (القسم الاول) يقصد به ما يقصد من القسم للحمل على الفعل أو الترك أو تأكيد الخبر، ويسمى التعليق القسمي، مثل أن يقول لزوجته: إن خرجت فأنت طالق، مريدا بذلك منعها من الخروج إذا خرجت، لا إيقاع الطلاق. (القسم الثاني) ويكون القصد منه إيقاع الطلاق عند حصول الشرط. ويسمى التعليق الشرطي، مثل أن يقول لزوجته: (إن أبرأتني من مؤخر صداقك فأنت طالق) . وهذا التعليق بنوعيه واقع عند جمهور العلماء. ويرى ابن حزم أنه غير واقع. وفصل ابن تيمية وابن القيم، فقالا: إن الطلاق المعلق الذي فيه معنى اليمين غير واقع. وتجب فيه كفارة اليمين إذا حصل المحلوف عليه. وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وقالا في الطلاق الشرطي: إنه واقع عند حصول المعلق عليه. قال ابن تيمية: والالفاظ التي يتكلم بها الناس في الطلاق ثلاثة أنواع: (الاول) صيغة التنجيز والارسال، كقوله: أنت طالق فهذا يقع به الطلاق، وليس بحلف، ولا كفارة فيه اتفاقا. (الثاني) صيغة تعليق، كقوله: الطلاق يلزمني لافعلن هذا، فهذا يمين باتفاق أهل اللغة، واتفاق طوائف العلماء، واتفاق العامة. (الثالث) صيغة تعليق كقوله: إن فعلت كذا فامرأتي طالق، فهذا إن قصد به اليمين، وهو يكره وقوع الطلاق كما يكره الانتقال عن دينه فهو يمين، حكمه حكم الاول، الذي هو صيغة القسم باتفاق الفقهاء. وإن كان يريد وقوع الجزاء عند الشرط لم يكن حالفا، كقوله: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 أعطيتني ألفا فأنت طالق، وإذا زنيت فأنت طالق، وقصد إيقاع الطلاق عند وقوع الفاحشة، لا مجرد الحلف عليها، فهذا ليس بيمين، ولا كفارة في هذا عند أحد من الفقهاء فيما علمناه، بل يقع به الطلاق. إذا وجد الشرط. وأما ما يقصد به الحض، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، بالتزامه عند المخالفة ما يكره وقوعه، سواء كان بصيغة القسم، أو الجزاء، فهو يمين عند جميع الخق من العرب وغيرهم. وإن كان يمينا فليس لليمين إلا حكمان: إما أن تكون منعقدة فتكفر، وإما أن لا تكون منعقدة، كالحلف بالمخلوقات فلا تكفر، وأما أن تكون يمينا منعقدة محترمة غير مكفرة، فهذا حكم ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوم عليه دليل. ما عليه العمل الان: وما جرى عليه العمل الان في الطلاق المعلق هو ما تضمنته المادة الثانية من القانون رقم 25 لسنة 1929 ونصها: (لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شئ أو تركه لا غير) . وجاء في المذكرة الايضاحية لهذا المادة: " إن المشرع أخذ في إلغاء اليمين بالطلاق برأي بعض علماء الحنفية والمالكية والشافعية، وإنه أخذ في إلغاء المعلق الذي في معنى اليمين برأي علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وشريح القاضي، وداود الظاهري وأصحابه ". وأما الصيغة المضافة إلى مستقبل: فهي ما اقترنت بزمن، بقصد وقوع الطلاق فيه، متى جاء، مثل أن يقول الزوج لزوجته: أنت طالق غدا، أو إلى رأس السنة، فإن الطلاق يقع في الغد أو عند رأس السنة إذا كانت المرأة في مكله عند حلول الوقت الذي أضاف الطلاق إليه. وإذا قال لزوجته: أنت طالق إلى سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 قال أبو حنيفة ومالك: تطلق في الحال. وقال الشافعي، وأحمد: لا يقع الطلاق حتى تنسلخ السنة. وقال ابن حزم: من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق. أو ذكر وقتا فلا تكون طالقا بذلك. لا الان. ولا إذا جاء رأس الشهر. برهان ذلك: أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطارى بذلك، وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها، وفي غير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا. " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ". وأيضا، فإن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه، فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه. الطلاق السني والبدعي : ينقسم الطلاق إلى طلاق سني، وطلاق بدعي. طلاق السنة: فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب إليه الشرع، وهو أن يطلق الزوج المدخول بها طلقة واحدة، في طهر لم يمسسها فيه، لقول الله تعالى: " الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " أي أن الطلاق المشروع يكون مرة يعقبها رجعة، ثم مرة ثانية يعقبها رجعة كذلك، ثم إن المطلق بعد ذلك له الخيار، بين أن يمسكها بمعروف، أو يفارقها بإحسان. ويقول الله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ". أي إذا أردتم تطليق النساء، فطلقوهن مستقبلات العدة، وإنما تستقبل المطلقة العدة إذا طلقها بعد أن تطهر من حيض، أو نفاس، وقبل أن يمسها. وحكمة ذلك أن المرأة إذا طلقت وهي حائض لم تكن في هذا الوقت مستقبلة العدة، فتطول عليها العدة. لان بقية الحيض لا يحسب منها وفيه إضرار بها. وإن طلقت في طهر مسها فيه، فإنها لا تعرف هل حملت أو لم تحمل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 فلا تدري بم تعتد، أتعتد بالاقراء أم بوضع الحمل؟ وعن نافع بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " أنه طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله سبحانه أن تطلق لها النساء ". وفي رواية: أن ابن عمر رضي الله عنه، طلق امرأة له، وهي حائض، تطليقة، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: " مره فليراجعها، ثم ليطلقها إذا طهرت، أو وهي حامل ". أخرجه النسائي ومسلم وابن ماجه وأبو داود. وظاهر هذه الرواية أن الطلاق في الطهر الذي يعقب الحيضة التي وقع فيها الطلاق يكون طلاق سنة، لا بدعة. وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، وأحد الوجهين عن الشافعي، واستدلوا بظاهر الحديث وبأن المنع إنما كان لاجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم. فجاز الطلاق في ذلك الطهر كما يجوز في غيره من الاطهار. ولكن الرواية الاولى التي فيها " ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر " متضمنة لزيادة يجب العمل بها قال صاحب الروضة الندية: " وهي أيضا في الصحيحين ". فكانت أرجح من وجهين. وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه. والشافعي في الوجه الاخر، وأبي يوسف ومحمد. الطلاق البدعي: أما الطلاق البدعي، فهو الطلاق المخالف للمشروع: كأن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة، أو يطلقها ثلاثا متفرقات في مجلس واحد، كأن يقول: أنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 طالق، أنت طالق، أنت طالق. أو يطلقها في حيض أو نفاس، أو في طهر جامعها فيه. وأجمع العلماء على أن الطلاق البدعي حرام، وأن فاعله آثم. وذهب جمهور العلماء إلى أنه يقع، واستدلوا بالادلة الاتية: 1 - أن الطلاق البدعي، مندرج تحت الايات العامة. 2 - تصريح ابن عمر رضي الله عنه، لما طلق امرأته وهي حائض، وأمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بمراجعتها، بأنها حسبت تلك الطلقة. وذهب بعض العلماء (1) إلى أن الطلق البدعي لا يقع (2) . ومنعوا اندراجه تحت العمومات، لانه ليس من الطلاق الذي أذن الله به، بل هو من الطلاق الذي أمر الله بخلافه. فقال: " فطلقوهن لعدتهن ". وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه: " مره فليراجعها " وصح أنه غضب عندما بلغه ذلك، وهو لا يغضب مما أحله الله. وأما قول ابن عمر: إنها حسبت، فلم يبين من الحاسب لها، بل أخرج عند أحمد وأبو داود والنسائي: " أنه طلق امرأته وهي حائض. فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرها شيئا. " وإسناد هذه الرواية صحيح، ولم يأت من تكلم عليها بطائل. وهي مصرحة بأن الذي لم يرها شيئا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يعارضها قول ابن عمر رضي الله عنه. لان الحجة في روايته لا في رأيه. وأما الرواية بلفظ " مره فليراجعها " ويعتد بتطليقة. فهذه لو صحت لكانت حجة ظاهرة ولكنها لم تصح كما جزم به ابن القيم في الهدي. وقد روى في ذلك روايات في أسانيدها مجاهيل وكذابون، لا تثبت الحجة بشئ منها. والحاصل: ان الاتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السنة يقال له: طلاق بدعة. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: " أن كل بدعة ضلالة ".   (1) منهم ابن علية، من السلف. وابن تيمية وابن حزم وابن القيم. (2) هذا ملخص ما قاله صاحب الروضة الندبة ج 7 ص 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 ولا خلاف أيضا، أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه، وبيسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر - وما خالف ما شرعه الله ورسوله، فهو رد، لحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " هو حديث متفق عليه. فمن زعم أن هذه البدعة، يلزم حكمها، وأن هذا الامر الذي ليس من أمره صلى الله عليه وسلم، يقع من فاعله ومقيد به، لا يقبل منه ذلك إلا بدليل. من ذهب إلى أن طلاق البدعة لا يقع: وذهب إلى هذا: 1 - عبد الله بن معمر. 2 - سعيد بن المسيب. 3 - طاووس: من أصحاب ابن عباس. وبه قال خلاس بن عمرو، وأبو قلابة من التابعين. وهو اختيار الامام ابن عقيل من أئمة الحنابلة وأئمة آل البيت. والظاهرية وأحد الوجهين في مذهب الامام أحمد، واختاره ابن تيمية. طلاق الحامل : يجوز طلاق الحامل في أي وقت شاء. لما أخرجه مسلم، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه: أن ابن عمر طلق امرأة له وهي حائض تطليقة، فذكر ذلك عمر للنبي، صلى الله عليه وسلم: فقال: " مره فليراجعها، ثم ليطلقها إذا طهرت، أو وهي حامل ". وإلى هذا ذهب العلماء. إلا أن الاحناف اختلفوا فيها: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجعل بين وقوع التطليقتين شهرا حتى يستوفي الطلقات الثلاث. وقال محمد وزفر: لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها: ثم يوقع سائر التطليقات (1) .   (1) ص 94 مختصر السنن الجزء الثالث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 طلاق الآيسة والصغيرة والمنقطعة الحيض : طلاق هؤلاء إنما يكون للسنة إذا كان طلاق واحدا، ولا يشترط له شرط آخر، غير ذلك. عدد الطلقات وإذا دخل الزوج بزوجته ملك عليها ثلاث طلقات. واتفق العلماء على انه على الزوج أن يطلقها ثلاثا بلفظ واحد. أو بألفاظ متتابعة في طهر واحد. وعللوا ذلك بأنه إذا أوقع الطلقات الثلاث، فقد سد باب التلافي والتدارك عند الندم، وعارض الشارع، لانه جعل الطلاق متعددا لمعنى التدارك عند الندم، وفلا عن ذلك، فإن المطلق ثلاثا قد أضر بالمرأة من حيث أبطل محليتها بطلاقه هذا. وقد روى النسائي من حديث محمود بن لبيد قال: " أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته بثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان. فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله: أفلا أقتلة ". قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: (فجعله لاعبا بكتاب الله) لكونه خالف وجه الطلاق وأراد به غير ما أراد الله به، فإنه تعالى أراد أن يطلق طلاقا يملك فيه رد المرأة إذا شاء، فطلق طلاقا يريد به ألا يملك فيه ردها. وأيضا فإن إيقاع الثلاث دفعة مخالف لقول الله تعالى: (الطلاق مرتان) . والمرتان والمرات في لغة القرآن والسنة، بل ولغة العرب، بل ولغة سائر الامم، لما كان مرة بعد مرة. فإذا جمع المرتين والمرات في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله تعالى، وما دل عليه كتابه. فكيف إذا أراد باللفظ الذي رتب عليه الشارع حكما ضد ما قصده الشارع؟.اهـ. وإذا كانوا قد اتفقوا على الحرمة، فإنهم اختلفوا فيما إذا طلقها ثلاثا بلفظ واحد. هل يقع أم لا؟. وإذا كان يقع فهل يقع واحدة أم ثلاثا؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 فذهب جمهور العلماء إلى أنه يقع (1) . ويرى بعضهم عدم وقوعه، والذين رأوا وقوعه، اختلفوا: فقال بعضهم: إنه يقع ثلاثا. وقال بعضهم: يقع واحدة فقط. وفرق بعضهم فقال: إن كانت المطلقة مدخولا بها وقع الثلاث، وإن لم تكن مدخولا بها فواحدة. استدل القائلون بأنه يقع ثلاثا بالادلة الاتية: 1 - قول الله تعالى: " فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ". 2 - قول الله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة. " 3 - وقول الله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء. " فظواهر هذه الايات تبين صحة إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث. لانها لم تفرق بين إيقاعه واحدة أو ثنتين، أو ثلاثا. 4 - وقول الله تعالى: " الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ". فظاهر هذه الاية جواز إطلاق الثلاث، أو الثنتين دفعة أن مفرقة، ووقوعه. 5 - حديث سهل بن سعد، قال: (لما لا عن أخو بني عجلان امرأته، قال: يا رسول الله ظلمتها إلى أمسكتها: هي الطلاق، هي الطلاق، هي الطلاق) . رواه أحمد. 6 - وعن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر، أنه طلق امرأته تطليقة، وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا ابن عمر:   (1) وإذا قال للمدخول بها: أنت طالق. أنت طالق. أنت طالق، فهي واحدة إن نوى التكرار أو لم ينو شيئا، وهي ثلاث إن نوى الثلاث وأن كل واحدة غير الاخرى، وهذا عند من يرى أنه واقع. وتقدم الخلاف في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 ما هكذا أمرك الله تعالى!.إنك قد أخطأت السنة. والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء. وقال: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراجعتها. ثم قال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك. فقلت يا رسول الله: ارئيت لو طلقتها ثلاثا، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا. كانت تبين منك (وتكون مقصية) . رواه الدارقطني. 7 - وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عبادة بن الصامت، قال: طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي: " ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله. وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم. إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له " وفي رواية: " إن أباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا. بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون، إثم في عنقه ". 8 - وفي حديث ركانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه أنه ما أراد إلا واحدة: وذلك يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقع. وهذا مذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة، وأئمة المذاهب الاربعة. أما الذين قالوا بأنه يقع واحدة: فقد استدلوا بالادلة الاتية: (أولا) ما رواه مسلم: أن أبا الصهباء قال لان عباس: (ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من خلافة عمر؟ قال: نعم) . وروي عنه أيضا قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة (1) . فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم. أي أنهم كانوا يوقعون طلقة بدل إيقاع الناس الان ثلاث تطليقات. (ثانيا) عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد. فحزن عليها حزنا شديدا. فسأله رسول الله صلى   (1) أناة: مهلة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الله عليه وسلم، كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا. فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة. فأرجعها إن شئت. فراجعها) . رواه أحمد وأبو داود. وقال ابن تيمية ج 3 ص 22 فتاوى: وليس في الادلة الشرعية " الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس " ما يوجب لزوم الثلاثة له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه، وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله، ونكاح التحليل لم يكن ظاهرا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل. بل لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له. إلى أن قال: وبالجملة فما شرعة النبي صلى الله عليه وسلم لامته شرعا لازم، لا يمكن تغييره، فإنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله. وقال تلميذه ابن القيم: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الثلاث كانت واحدة في عهده، وعهد أبي بكر رضي الله عنه، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه، وغاية ما يقدر مع بعده أن الصحابة كانوا على ذلك، ولم يبلغه، وهذا وإن كان كالمستحيل، فإنه يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته وحياة الصديق بذلك، وقد أفتى هو صلى الله عليه وسلم. فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أخذ باليد، ولا معارض لذلك. ورأى عمر رضي الله تعالى عنه، أن يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرا لهم - لئلا يرسلوها جملة - وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه. غايته أن يكون سائغا لمصلحة رآها. ولا يجوز ترك ما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته. فإذا ظهرت الحقائق. فليقل أمرؤ ما شاء. وبالله التوفيق. وقال الشوكاني: وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى، ورواية عن علي عليه السلام، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، وجابر، وابن زيد، والهادي، والقاسم، والباقر، وأحمد بن عيسى، وعبد الله بن موسى بن عبد الله، ورواية عن زيد بن علي. وإليه ذهب جماعة من المتأخرين. منهم: ابن تيمية، وابن القيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وجماعة من المحققين، وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح، ونقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما. ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عيسى. كعطاء، وطاووس، وعمر، وابن دينار، وحكاه ابن مغيث أيضا في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه، وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير. وهذا هو المذهب الذي جرى عليه العمل أخيرا في المحاكم. فقد جاء في المادة 3 من القانون رقم 25 لسنة 1929 ما يلي: (الطلاق المقترن بعدد - لفظا، أو إشارة - لا يقع واحدة) . (1) أما حجة القائلين بعدم وقوع الطلاق مطلقا: أنه طلاق بدعي، والطلاق البدعي لا يقع عند هؤلاء، ويعتبر لغوا. وهذا المذهب يحكى عن بعض التابعين. وهو مروي عن ابن علية، وهشام ابن الحكم، وبه قال أبو عبيدة، وبعض أهل الظاهر، وهو مذهب الباقر، والصادق، والناصر، وسائر من يقول بأن الطلاق البدعي لا يقع. لان الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة من جملته. وأما الذين فرقوا بين المطلقة المدخول بها وغير المدخول بها فهم جماعة من أصحاب ابن عباس وإسحاق بن راهويه. طلاق البتة : قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم في طلاق البتة، فروي عن عمر بن الخطاب: أنه جعل ألبتة واحدة. وروي عن علي: أنه جعلها ثلاثا، وقال بعض أهل العلم: فيه نية الرجل. إن نوى واحدة فواحدة، وإن وى ثلاثا فثلاث. وإن نوى   (1) وجاء في المذكرة التفسيرية للمشروع: أن الداعي لاختيار القول بالوقوع واحدة الحرص على سعادة الاسرة، والاخذ بالناس عن مسألة المحلل التي صارت وصمة في جبين الشريعة المطهرة مع أن الدين براء منها. فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، وكذلك الاخذ بهم من طرق الحيل التي يتلمسونها للتخلص من الطلاق الثلاث وما هي بمنطبقة على أصول الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 ثنتين لم تكن إلا واحدة. وهو قول الثوري وأهل الكوفة. وقال مالك بن أنس: في البتة إن كان قد دخل بها فهي ثلاث تطليقات. وقال الشافعي: إن نوى واحدة فواحدة يملك الرجعة. وإن نوى ثنتين فثنتان. وإن نوى ثلاثا فثلاث. الطلاق الرجعي والبائن : الطلاق إما رجعي وإما بائن، والبائن إما أن يكون بائنا بينونة صغرى، أو بينونة كبرى. ولكل أحكام تخصه نذكرها فيما يلي: الطلاق الرجعي: هو الطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته التي دخل بها حقيقة، إيقاعا مجردا عن أن يكون في مقابلة مال، ولم يكن مسبوقا بطلة أصلا، أو كان مسبوقا بطلقة واحدة. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلاق صريحا أو كناية. فإذا لم يكن الزوج دخل بزوجته دخولا حقيقيا، أو طلقها على مال، أو كان الطلاق مكملا للثلاث، كان الطلاق بائنا. جاء في المادة (5) من القانون رقم 25 لسنة 1929. (كل طلاق يقع رجعيا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول. والطلاق على مال، وما نص على كونه بائنا في هذا القانون، والقانون نمرة 24 لسنة 1920 م) . والطلاق الذي نص على أن يكون بائنا في هذين القانونين هو ما كان بسبب العيب في الزوج، أو لغيبته، أو حبسه أو للضرر. والاصل في ذلك قول الله سبحانه: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " (1) .   (1) سورة البقرة آية 229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 أي أن الطلاق الذي شرعه الله يكون مرة بعد مرة. وأنه يجوز للزوج أن يمسك زوجته بعد الطلقة الاولى بالمعروف، كما يجوز له ذلك بعد الطلقة الثانية، والامساك بالمعروف معناه مراجعتها، وردها إلى النكاح ومعاشرتها بالحسنى ولا يكون له هذا الحق إلا إذا كان الطلاق رجعيا. ويقول الله سبحانه. " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر، وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا (1) ". وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر: مره فليراجعها ... متفق عليه. أما استثناء الحالات الثلاث من الطلاق الرجعي فثابت بالقرآن الكريم كما هو مبين فيما يلي: فالطلاق المكمل للثلاث يبين المرأة ويحرمها على الزوج، ولا يحل له مراجعتها حتى تنكح زوجا آخر، نكاحا لا يقصد به التحليل (2) . قال الله تعالى: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ". أي فإن طلقها الطلقة الثالثة بعد طلقتين فلا تحل له من بعد الطلاق المكمل للثلاث حتى تتزوج غيره زواجا صحيحا. والطلاق قبل الدخول يبينها كذلك. لان المطلقة في هذه الحالات لا عدة عليها. والمراجعة إنما تكون في العدة. وحيث انتفت العدة انتفت المراجعة. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها. فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا " (3) . والمطلقة قبل الدخول، وبعد الخلوة، بائنة. ووجوب العدة عليها نوع من الاحتياط لا لاجل المراجعة. والطلاق على مال من أجل أن تفتدي المرأة نفسها وتخلص من الزوج   (1) سورة البقرة آية 227 - أحق بردهن: أي أحق برجعتهن. (2) انظر فصل التحليل في أول هذا المجلد. (3) الاحزاب آية 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 بائن، لانها أعطت المال نظير عوض، وهو خلاص عصمتها، ولايكون الخلاص إلا إذا كان الطلاق بائنا، قال الله تعالى: " فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به (1) ." حكم الطلاق الرجعي: الطلاق الرجعي لايمنع الاستمتاع بالزوجة لانه لا يرفع عقد الزواج، ولا يزيل الملك، ولا يؤثر في الحل، فهو وإن انعقد سببا للفرقة، إلا أنه لا يترتب عليه أثره ما دامت المطلقة في العدة. وإنما يظهر أثره بعد انقضاء العدة دون مراجعة. فإذا انقضت العدة ولم يراجعها، بانت منه، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الطلاق الرجعي لايمنع من الاستمتاع بالزوجة، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر ما دامت العدة لم تنقض وانفقتها واجبة عليه، ويلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه. ولا يحل بالطلاق الرجعي المؤجل من المهر لاحد الاجلين: الموت أو الطلاق. وإنما يحل مؤخر الصداق بانقضاء العدة. والرجعة حق للزوج مدة العدة. وهو حق أثبته الشارع له، ولهذا لا يملك إسقاطه. فلو قال: لا رجعة لي كان له حق الرجوع عنه، وحق مراجعتها، يقول الله تعالى: " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " (2) . وإذا كانت الرجعة حقا له فلا يشترط رضا الزوجة ولاعلمها، ولا تحتاج إلى ولي، فجعل الحق للازواج لقول الله: " وبعولتهن أحق بردهن " كما لا يشترط الاشهاد عليها. وإن كان ذلك مستحبا، خشية إنكار الزوجة فيما بعد، أنه راجعها، لقوله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم ". وتصح المراجعة بالقول. مثل أن يقول: راجعتك، وبالفعل، مثل الجماع، ودواعيه، مثل القبلة، والمباشرة بشهوة. يرى الشافعي أن المراجعة لا تكون إلا بالقول الصريح للقادر عليه، ولا   (1) البقرة آية 229. (2) أي أن أزواجهن أحق بارجاعهن إلى عصمتهن في وقت التربص وانتظار انقضاء العدة " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 تصح بالوطء ودواعيه من القبلة والمباشرة بشهوة. وحجة الشافعي، أن الطلاق يزيل النكاح. وقال ابن حزم رضي الله عنه: فإن وطتها لم يكن بذلك مراجعا لها حتى يلفظ بالرجعة ويشهد، ويعلمها بذلك، قبل تمام عدتها. فإن راجع ولم يشهد. فليس مراجعا لقول الله تعالى: " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم (1) ". فرق عز وجل بين المراجعة. والطلاق، والاشهاد. فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض. وكأن من طلق ولم يشهد بذوي عدل. أو راجع ولم يشهد بذوي عدل متعديا لحدود الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهورد " انتهى. وأخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي، والطبراني عن عمران بن حصين: " أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها، ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة. وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها. وعلى رجعتها. ولا تعد ". حجة الشافعي أن الطلاق يزيل النكاح: قال الشوكاني: والظاهر ما ذهب إليه الاولون، لان العدة مدة خيار، والاختيار يصح بالقول وبالفعل، وأيضا ظاهر قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن ". وقوله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها " أنها تجوز المراجعة بالفعل لانه لم يخص قولا من فعل، ومن ادعى الاختصاص فعليه الدليل (2) . ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية: قال أبو حنيفة: لا بأس أن تتزين المطلقة الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتلبس الحلي وتبدي البنان والكحل ولا يدخل عليها إلا أن تعلم   (1) سورة الطلاق آية 2. (2) نيل الاوطار ص 214 ج 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل. وقال الشافعي: هي محرمة على مطلقها تحريما مبتوتا. وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معها غيرها. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الاكل معها. الطلاق الرجعي ينقص عدد الطلقات: والطلاق الرجعي ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل على زوجته. فإن كانت الطلقة الاولى احتسبت وبقيت له طلقتان. وإن كانت الثانية احتسبت وبقيت له طلقة واحدة، ومراجعتها لا تمحو هذا الاثر، بل لو تركت حتى انقضت عدتها من غير مراجعة، وتزوجت زوجا آخر ثم عادت إلى زوجها الاول عادت إليه بما بقي من عدد الطلقات، ولا يهدم الزوج الثاني ما وقع من الطلاق (1) ، لما روي أن عمر رضي الله عنه سئل عمن طلق امرأته طلقتين وانقضت عدتها فتزوجت غيره وفارقها ثم تزوجها الاول. فقال: هي عنده بما بقي من الطلاق، وهذا مروي عن علي وزيد ومعاذ، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري رضي الله عنهم. الطلاق البائن: تقدم القول بأن الطلاق البائن هو الطلاق المكمل للثلاث والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال. قال ابن رشد في بداية المجتهد: وأما الطلاق البائن فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول - ومن قبل عدد التطليقات - ومن قبل العوض في الخلع، على اختلاف فيما بينهم في الخلع، أهو طلاق أم فسخ، واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات. إذا وقعن مفترقات لقوله تعالى: (الطلاق مرتان: الآية) . واختلفوا إذا وقعت الثلاث في اللفظ دون الفعل بكلمة واحدة (2) . اه.   (1) تراجع مسألة الهدم فيما يأتي ص 278. (2) ص 60 ج 2 بداية المجتهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ويرى ابن حزم: أن الطلاق البائن: هو الطلاق المكمل للثلاث، أو الطلاق قبل الدخول لاغير، قال: وما وجدنا، قط، في دين الاسلام عن الله تعالى ولاعن رسوله صلى الله عليه وسلم طلاقا بائنا لا رجعة فيه إلا الثلاث مجموعة، أو مفرقة، أو التي لم يطأها، ولا مزيد، وأما ما عدا ذلك فآراء لاحجة فيها. اه (1) وأضافت قوانين الاحوال الشخصية، أن مما يلحق الطلاق البائن: الطلاق بسبب عيب الزوج، أو بسبب غيبته، أو حبسه أو للضرر. أقسامه: وهو ينقسم إلى بائن بينونة صغرى: وهو ماكان بما دون الثلاث، وبائن بينونة كبرى: وهوالمكمل للثلاث. حكم البائن بينونة صغرى: الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل قيد الزوجية بمجرد صدوره، وإذا كان مزيلا للرابطة الزوجية فإن المطلقة تصير أجنبية عن زوجها. فلا يحل له الاستمتاع بها، ولا يرث أحدهما الآخر إذا مات قبل انتهاء العدة أو بعدها، ويحل بالطلاق البائن موعد مؤخر الصداق المؤجل إلى أبعد الاجلين الموت أو الطلاق. وللزوج أن يعيد المطلقة طلاقا بائنا بينونة صغرى إلى عصمته بعقد ومهر جديدين، دون أن تتزوج زوجا آخر، وإذا أعادها عادت إليه بما بقي له من الطقات، فإذا كان طلقها واحدة من قبل فإنه يملك عليها طلقتين بعد العودة إلى عصمته، وإذا كان طلقتها طلقتين لا يملك عليها إلا طلقة واحدة. حكم الطلاق البائن بينونة كبرى: الطلاق البائن بينونة كبرى يزيل قيد الزوجية مثل البائن بينونة صغرى، ويأخذ جميع أحكامه، إلا أنه لا يحل للرجل أن يعيد من أبانها بينونة كبرى إلى عصمته إلابعد أن تنكح زوجا آخر نكاحا صحيحا. ويدخل بها دون   (1) المحلى ج 10 ص 216، ص 240 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 إرادة التحليل. يقول الله تعالى: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ". أي فإن طلقها الطلقة الثالثة، فلا تحل لزوجها الاول إلا بعد أن تتزوج آخر. لقول رسول الله لامرأة رفاعة: " لا. حتى تذوقي (1) عسيلته ويذوق عسيلتك " (2) مسألة الهدم: من المتفق عليه أن المبانة بينونة كبرى إذا تزوجت، ثم طلقت وعادت إلى زوجها الاول بعد انقضاء عدتها تعود إليه بحل جديد، ويملك عليها ثلاث طلقات، لان الزوج الثاني أنهى الحل الاول. فإذا عادت بعقد جديد أنشأ هذا العقد حلا جديدا. أما المبانة بينونة صغرى إذا تزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها ثم طلقت منه، ورجعت إلى زوجها الاول، تكون مثل المبانة بينونة كبرى فتعود إليه بحل جديد ويملك عليها ثلاث طلقات. عند أبي حنيفة، وأبو يوسف. وقال محمد (3) تعود إليه بما بقي من عدد الطلقات، فتكون مثل ما إذا طلقها طلاقا رجعيا أو عقد عليها عقدا جديدا بعد أن بانت منه بينونة صغرى. وسميت هذه المسألة بمسألة الهدم: أي هل الزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث من الطلاقات. كما يهدم الثلاث أو لا يهدم؟! طلاق المريض مرض الموت لم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصريحة حكم الطلاق المريض مرض الموت. إلا أنه قد ثبت عن الصحابة أن سيدنا عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته " تماضر " طلاقا مكملا للثلاث في مرضه الذي مات فيه، فحكم لها سيدنا عثمان بميراثها منه، وقال: " ما اتهمته - أي بأنه لم يتهمه بالفرار من   (1) أي لا تعودي إلى زوجك الاول حتى يصيبك فتاوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. (2) رواه البخاري ومسلم. (3) ورأيه مرجوح في المذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 حقها في الميراث - ولكن أردت السنة ". ولهذا ورد أن ابن عوف نفسه قال: " ما طلقتها ضرارا ولا فرارا ". يعني أنه لا ينكر ميراثها منه. وكذلك حدث أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه طلق امرأته " أم البنين " بنت عيينة بن حصن الفزاري وهو محاصر في داره، فلما قتل جاءت إلى سيدنا علي وأخبرته بذلك. فقضى لها بميراثها منه. قال: " تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها! ". وعلى ذلك اختلف الفقهاء في طلاق المريض مرض الموت. فقالت الاحناف: إذا طلق المريض امرأته طلاقا بائنا فمات من هذا المرض ورثته ... وإن مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها. وكذلك الحكم فيما إذا بارز رجلا أو قدم ليقتل في قصاص أو رجم، إن مات في ذلك الوجه أو قتل. وإن طلقها ثلاثا بأمرها أو قال لها: اختاري، فاختارت نفسها، أو اختلعت منه ثم مات وهي في العدة لم ترثه. اه. والفرق بين الصورتين: أن الطلاق في الصورة الاولى صدر من المريض وهو يشعر بأنه إنما طلقها ليمنعها حقها في الميراث فيعامل بنقيض قصده، ويثبت لها حقها الذي أراد أن يمنعها منه. ولهذا يطلق على هذا الطلاق طلاق الفار. وأما الطلاق في الصورة الثانية فلا يتصور فيه الفرار، لانها هي التي أمرت بالطلاق أو اختارته ورضيته، وكذلك الحكم فيمن كان محصورا أو في صف القتال. فطلق امرأته طلاقا بائنا. وقال أحمد وابن أبي ليلى: لها الميراث بعد انقضاء عدتها ما لم تتزوج بغيره. وقال مالك والليث: لها الميراث، سواء أكانت في العدة أم لم تكن، وسواء تزوجت أم لم تتزوج. وقال الشافعي: لا ترث. قال في بداية المجتهد: وسبب الخلاف: اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع، وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ليقطع حظها من الميراث، فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها، ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا. وذلك أن هذه الطائفة تقول: إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه. لانهم قالوا: إنه لا يرثها إن ماتت، وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها. ولابد لخصومهم من أحد الجوابين، لانه يعسر أن يقال: إن في الشرع نوعا من الطلاق، توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية. وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح: لان هذا يكون طلاقا موقوف الحكم، إلى أن يصح أو لا يصح، وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع. ولكن إنما أنس القائلون به: أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة. ولا معنى لقولهم، فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور. وأما من رأى أنها ترث في العدة. فلان العدة عنده من بعض أحكام الزوجية، وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية، وروي هذا القول عن عمر وعن عائشة. وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج، فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين، ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث. قال: واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها الزوج أمرها فطلقت نفسها، فقال أبو حنيفة لا ترث أصلا. وفرق الاوزاعي بين التمليك والطلاق، فقال: ليس لها الميراث في التمليك، ولها في الطلاق. وسوى مالك في ذلك كله حتى قال: إن ماتت لا يرثها، وترثه هو إن مات، وهذا مخالف للاصول جدا. اه (1) . قال ابن حزم: " طلاق المريض كطلاق الصحيح، ولافرق. مات من   (1) بداية المجتهد ج 2 ص 86، 87 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ذلك المرض أو لم يمت. فإن كان طلاق المريض ثلاثا، أو آخر ثلاث، أو قبل أن يطأها، فمات أو ماتت قبل تمام العدة، أو بعدها، أو كان طلاقا رجعيا فلم يرتجعها حتى مات أو ماتت بعد تمام العدة، فلا نرثه في شئ من ذلك كله. ولا يرثها أصلا، وكذلك طلاق الصحيح للمريضة، وطلاق المريض للمريضة، ولافرق، وكذلك طلاق الموقوف للقتل، والحامل المثقلة، وهذا مكان اختلف الناس فيه (1) . التفويض والتوكيل في الطلاق : الطلاق حق من حقوق الزوج، فله أن يطلق زوجته بنفسه، وله أن يفوضها في تطليق نفسها، وله أن يوكل غيره في التطليق. ولك من التفويض والتوكيل لا يسقط حقه ولا يمنعه من استعماله متى شاء، وخالف في ذلك الظاهرية، فقالوا: إنه لا يجوز للزوج أن يفوض زوجته تطليق نفسها، أو يوكل غيره في تطليقها. قال ابن حزم: ومن جعل إلى امرأته أن تطلق نفسها لم يلزمه ذلك ولا تكون طالقا، طلقت نفسها أو لم تطلق، لان الله تعالى جعل الطلاق للرجال لا للنساء. صيغ التفويض: وصيغ التفويض هي: 1 - اختاري نفسك. 2 - أمرك بيدك. 3 - طلقي نفسك إن شئت. وقد اختلف الفقهاء في كل صيغة من هذه الصيغ وذهبوا مذاهب متعددة نجملها فيما يلي: (1) اختاري نفسك: ذهب الفقهاء إلى وقوع الطلاق بهذه الصيغة: لان الشرع جعلها من صيغ الطلاق، وفي ذلك يقول الله تعالى: " يا أيها النبي قل لازواجك إن   (1) المحلى ص 223 ج 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدارالآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " (1) . ولما نزلت هذه الآية دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على عائشة فقال لها: " إني ذاكر لك أمرا من الله على لسان رسوله، فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك "، قالت: وما هذا يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: فيك يا رسول الله أستأمر أبوي؟ ... بل أريد الله ورسوله، والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. إن الله لم يبعثني ... الخ ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت عائشة، فكلهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه. فلم يعد ذلك شيئا ". وفي لفظ لمسلم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه فلم يكن طلاقا ". وفي هذا دلالة على أنهن لو أخترن أنفسهن: كان ذلك طلاقا. وأن هذا اللفظ يستعمل في الطلاق (2) . ولم يختلف في ذلك أحد من الفقهاء. بينما اختلفوا فيما يقع إذا اختارت المرأة نفسها: فقال بعضهم إنه يقع طلقة واحدة رجعية. وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال بعضهم: إذا اختارت نفسها يقع واحدة بائنة، وهو مروي عن   (1) سورة الاحزاب آية 29. (2) أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبه قال الاحناف. وقال مالك بن أنس: إن اختارت نفسها فهي ثلاث، وإن اختارت زوجها يكون واحدة. ويشترط الاحناف في وقوع الطلاق بهذه الصيغة ذكر النفس في كلامه أو في كلامها، فلو قال لها: اختاري، فقالت اخترت، فهو باطل لا يقع بها شئ. (2) أمرك بيدك (1) : إذا قال الرجل لزوجته أمرك بيدك، فطلقت نفسها، فهي طلقة واحدة، عند عمر، وعبد الله بن مسعود. وهو مذهب سفيان، والشافعي، وأحمد. روي أنه جاء بن مسعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بعص ما يكون بين الناس. فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي. لعلمت كيف أصنع. قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك. قالت: فأنت طالق ثلاثا. قال: أراها واحدة وأنت أحق بها مادامت في عدتها. وسألقى أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة. فقال صنع الله بالرجال وفعل. يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم. فيجعلونه بأيدي النساء. بفيها التراب. ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة. وهو أحق بها. قال: وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب (2) . وقال الاحناف: يقع طلقة واحدة بائنة، لان تمليكه أمرها لها يقتضي زوال سلطانه عنها، وإذا قبلت ذلك بالاختيار وجب أن يزول عنها، ولا يحصل ذلك مع بقاء الرجعة. هل المعتبر نية الزوج أم نية الزوجة؟: ذهب الشافعي إلى أن المعتبر هو نية الزوج. فإن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى ثلاثا فثلاث. وله أن يناكرها في الطلاق نفسه، وفي العدد: في الخيار أو التمليك.   (1) أي أمرك الذي بيدي، وهو الطلاق، جعلته بيدك. (2) بداية المجتهد ص 67 ص 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وذهب غيره إلى أنها إن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت، لانها تملك الثلاثة بالتصريح، فتملكها بالكناية كالزوج. فإن طلقت نفسها ثلاثا، وقال الزوج لم أجعل لها إلا واحدة، لم يلتفت إلى قوله. والقضاء ما قضت، وهذا مذهب عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وقال عمر وابن مسعود: تقع طلقة واحدة كما سبق في قصة عبد الله بن مسعود. هل جعل الامر باليد مقيد بالمجلس؟ أم هو على التراخي: قال ابن قدامة في المغني: ومتى جعل أمر امرأته بيدها فهو بيدها أبدا لا يتقيد بذلك المجلس. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، والحكم. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: هو مقصور على المجلس، ولا طلاق لها بعد مفارقته، لانه تخيير لها فكان مقصورا على المجلس كقوله: اختاري. ورجح الرأي الاول لقول علي رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: هو لها حتى تكل. قال: ولا نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا. ولانه نوع توكيل في الطلاق. فكان على التراخي كما لو جعله لاجنبي. رجوع الزوج: قال: فإن رجع الزوج فيما جعل إليها أو قال: فسخت ما جعلت إليك، بطل. وبذلك قال عطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والاوزاعي، وإسحاق. وقال الزهري، والثوري، ومالك، وأصحاب الرأي: ليس له الرجوع لانه ملكها ذلك، فلم يملك الرجوع. قال: وإن وطئها الزوج، كان رجوعا، لانه نوع توكيل. والتصرف فيما وكل فيه يبطل الوكالة. وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 تبطل الوكالة بفسخ التوكيل (1) . (3) طلقي نفسك إن شئت: قالت الاحناف: " من قال لامرأته طلقي نفسك، ولا نية له، أو نوى طلقة واحدة فقالت: طلقت نفسي، فهي واحدة رجعية. وإن طلقت نفسها ثلاثا، وقد أراد الزوج ذلك، وقعن عليها، وإن قال لها طلقي نفسك، فقالت أبنت نفسي، طلقت، وإن قالت قد اخترت نفسي لم تطلق، وإن قال لها: طلقي نفسك متى شئت. فلها أن تطلق نفسها في المجلس وبعده. وإذا قال لرجل: طلق امرأتي، فله أن يطلقها في المجلس وبعده. ولو قال لرجل طلقها إن شئت، فله أن يطلقها في المجلس خاصة. التوكيل: إذا جعل أمر امرأته بيد غيره صح. وحكمه حكم ما لو جعله بيدها، في أنه بيده في المجلس وبعده. ووافق الشافعي على هذا في حق غيرها لانه توكيل، وسواء قال: أمر امرأتي بيدك، أو قال: جعلت لك الخيار في طلاق امرأتي، أو قال طلق امرأتي. وقال أصحاب أبي حنيفة: ذلك مقصور على المجلس لانه نوع تخيير أشبه ما لو قال اختاري. قال صاحب المغني: ولنا أنه توكيل مطلق: فكان على التراخي: كالتوكيل في البيع، وإذا ثبت هذا فإن له أن يطلقها ما لم يفسخ أو يطأها، وله أن يطلق واحدة وثلاثا، كالمرأة، وليس له أن يجعل الامر إلا بيد من يجوز توكيله وهو العاقل. فأما الطفل والمجنون، فلا يصح أن يجعل الامر بأيديهم فإن فعل فطلق واحد منهم لم يقع طلاقه. وقال أصحاب الرأي: يصح (2) .   (1) المغني ص 288 ج 8. (2) المغني: ص 292 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 التعميم (1) والتقييد في هذه الصيغ: هذه الصيغ قد تكون مطلقة، بأن يجعل أمرها بيدها، أو أن تختار نفسها دون تقييد بشئ يزيد على الصيغة. وفي هذه الحالة للزوجة أن تطلق نفسها في مجلس التفويض فقط إن كانت حاضرة فيه، وإن كانت غائبة عنه كان لها ذلك الحق في مجلس علمها به فقط، حتى لو انتهى أو تغير مجلس التفويض أو مجلس العلم، ولم تطلق نفسها لم يكن لها هذا الحق بعد ذلك، لان الصيغة مطلقة، فتنصرف إلى المجلس، فإذا فات فلا تملكه. وهذا الحكم في حالة ما إذا لم تقم قرينة تدل على تعميم التفويض، كأن يكون هذا التفويض حين عقد الزواج، لانه لا يعقل أن يقصد المفوض تمليكها تطليق نفسها في نفس مجلس زوجها، فالصيغة تفيد التعميم بدلالة الحال. وقد صدر من بعض الحاكم الشرعية المصرية الجزئية حكم بني على أن التفويض إذا كان في حين عقد الزواج وبصيغة مطلقة، لا يتقيد بالمجلس، وللزوجة أن تطلق نفسها متى شاءت، وإلا خلا التفويض من الفائدة، وأيد هذا الحكم استئنافيا. وقد تكون هذه الصيغ عامة. كأن يقول لها اختاري نفسك متى شئت، أو أمرك بيدك كلما أردت، وفي هذه الحال لها أن تطلق نفسها في أي وقت، لانه ملكها حق تطليق نفسها ملكا عاما، فلها أن تستعمل هذا الحق فتطلق نفسها في أي وقت. وقد تكون هذه الصيغ مؤقتة بوقت معين، كأن يجعل أمرها بيدها مدة سنة، وفي هذه الحال للزوجة أن تطلق نفسها في الوقت المعين فقط، وأما بعد مضيه فلا حق لها في التطليق. التفويض (2) حين العقد وبعده: ويجوز التفويض حين عقد الزواج أو بعده، إلا أنه يشترط فيه حين عقد   (1، 2) أحكام الاحوال الشخصية في الشريعة الاسلامية ص 152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الزواج عند الاحناف أن يكون البادئ به هو الزوجة، مثل أن تقول المرأة للرجل: زوجت نفسي منك على أن يكون أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد. فيقول لها: قبلت، فبهذا القبول يتم الزواج، ويصح التطليق، ويكون لها الحق في أن تطلق نفسها كلما أرادت، لان قبوله ينصرف إلى الزواج ثم إلى التفويض. أما إذا كان البادئ بالايجاب المقترن بالتفويض هو الزوج كأن يقول رجل لامرأته: تزوجتك على أن تكون عصمتك بيدك تطلقين نفسك كلما أردت. فتقول: قبلت، فبهذا يتم الزواج ولا يصح التفويض، ولا يكون للزوجة الحق في أن تطلق نفسها. والفرق بين الصورتين أنه في الصورة الاولى، قبل الزوج التفويض بعد تمام العقد، فيكون قد ملك التطليق بعد أن ملكه بتمام عقد الزواج. أما في الثانية، فإن ملك التطليق قبل أن يملكه لانه ملكه قبل تمام عقد الزواج إذ لم يصدر إلا الايجاب وحده. الحالات التي يطلق فيها القاضي الحالات التي يطلق فيها القاضي صدر بها قانون سنة 1920 وسنة 1929، وهي مستمدة من اجتهاد الفقهاء، حيث لم يرد بها نص صحيح صريح، وقد روعي فيها التيسير على الناس تجنبا للحرج، وتمشيا مع روح الاسلام السمحة. جاء في القانون رقم 25 لسنة 1920 النص على التطليق لعدم النفقة ، والتطليق للعيب. وجاء في القانون رقم 25 سنة 1929 النص على التطليق للضرر ، والتطليق لغيبة الزوج بلا عذر، والتطليق لحبسه. ونورد فيما يلي حكم كل، مع مواد القانون الخاصة به ما عدا حكم التطليق للعيب، فقد تقدم الكلام عليه في أول هذا المجلد. التطليق لعدم النفقة: ذهب الامام مالك والشافعي وأحمد إلى جواز التفريق لعدم النفقة (1) بحكم   (1) أي المقصود بالنفقة الضرورية من الغذاء والكساء والسكنى في أدنى صورها. والمقصود بعدم النفقة في الحاضر والمستقبل، أما في الماضي فانه لا يقتضي المطالبة بالتفريق ولا تجاب إليه المرأة إذا طلبته بل تكون النفقة دينا في الذمة " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 القاضي إذا طلبته الزوجة (1) ، وليس له مال ظاهر، واستدلوا لمذهبهم هذا بما يأتي: 1 - أن الزوج مكلف بأن يمسك زوجته بالمعروف أو يسرحها ويطلقها بإحسان، لقول الله سبحانه: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ". ولا شك أن عدم النفقة ينافي الامساك بمعروف. 2 - أن الله تعالى يقول: " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ". والرسول: يقول: " لا ضرر ولا ضرار ". وأي إضرار ينزل بالمرأة أكثر من ترك الانفاق عليها. وإن على القاضي أن يزيل هذا الضرر. 3 - وإذا كان من المقرر أن يفرق القاضي من أجل الغيب بالزوج فإن عدم الانفاق يعد أشد إيذاءا للزوجة وظلما لها من وجود عيب بالزوج، فكان التفريق لعدم الانفاق أولى. وذهب الاحناف إلى عدم جواز التفريق لعدم الانفاق سواء أكان السبب مجرد الامتناع ام الاعسار والعجز عنها ودليلهم في هذا: 1 - أن الله سبحانه قال: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرا يسرا " (2) . وقد سئل الامام الزهري عن رجل عاجز عن نفقة زوجته: أيفرق بينهما؟ قال: تستأني به، ولا يفرق بينهما، وتلا الآية السابقة. 2 - أن الصحابة كان منهم الموسر والمعسر، ولم يعرف عن أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأته، بسبب عدم النفقة لفقره وإعساره. 3 - وقد سأل نساء النبي صلى الله عليه وسلم النبي ما ليس عنده، فاعتزلهن   (1) فان كان له مال ظاهر فانه لا يفرق بينه وبين زوجته وينفذ حكم النفقة فيه. (2) سورة الطلاق آية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 شهرا، وكان ذلك عقوبة لهن، وإذا كانت المطالبة بما لا يملك الزوج تستحق العقاب، فأولى أن يكون طلب التفريق عند الاعسار ظلما لا يلتفت إليه 4 - قالوا: وإذا كان الامتناع عن الانفاق مع القدرة عليه ظلما، فإن الوسيلة في رفع هذا الظلم هي بيع ماله للانفاق منه، أو حبسه حتى ينفق عليها، ولا يتعين التفريق لدفع هذا الظلم مادام هناك وسائل أخرى، وإذا كان كذلك فالقاضي لا يفرق بهذا السبب لان التفريق أبغض الحلال إلى الله من الزوج صاحب الحق، فكيف يلجأ القاضي إليه مع أنه غير متعين، وليس هو السبيل الوحيدة لرفع الظلم. هذا إذا كان قادرا على الانفاق، فإن كان معسرا فإنه لم يقع منه ظلم لان الله لا يكلف نفسا إلا ما آتاها. مادة (5) : إذا كان الزوج غائبا غيبة قريبة، فإن كان له مال ظاهر نفذ الحكم عليه بالنفقة في ماله، وإن لم يكن له مال ظاهر أعذر إليه القاضي بالطرق المعروفة، وضرب له أجلا، فإن لم يرسل ما تنفق منه زوجته على نفسها، أو لم يحضر للانفاق عليها، طلق عليه القاضي بعد مضي الاجل. فإذا كان بعيد الغيبة لا يسهل الوصول إليه، أو كان مجهول المحل، أو كان مفقودا، وثبت أنه لا مال له تنفق منه الزوجة، طلق عليه القاضي. وتسري أحكام هذه المادة على المسبحون الذي يعسر بالنفقة. مادة (6) : تطليق القاضي لعدم الانفاق يقع رجعيا، وللزوج أن يراجع زوجته إذا ثبت إيساره واستعد للانفاق في أثناء العدة فإذا لم يثبت إيساره ولم يستعد للانفاق لم تصح الرجعة. التطليق للضرر : ذهب الامام مالك (1) : أن للزوجة أن تطلب من القاضي التفريق إذا ادعت إضرار الزوج بها إضرارا لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالهما، مثل: ضربها، أو سبها، أو إيذائها بأي نوع من أنواع الايذاء الذي لا يطاق،   (1) ومثله مذهب أحمد، وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعي، فلم يذهبا إلى التفريق بسبب الضرر، لامكان إزالته بالتعزير وعدم إجبارها على طاعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 أو إكراهها على منكر من القول أو الفعل. فإذا ثبتت دعواها لدى القاضي ببينة الزوجة، أو اعتراف الزوج، وكان الايذاء مما لا يطاق معه دوام العشرة بين أمثالهما وعجز القاضي عن الاصلاح بينهما طلقها طلقة بائنة. وإذا عجزت عن البينة، أو لم يقر الزوج رفضت دعواها. فإذا تكررت منها الشكوى. وطلبت التفريق، ولم يثبت لدى المحكمة صدق دعواها، عين القاضي حكمين بشرط أن يكونا رجلين عدلين راشدين، لها خبرة بحالهما، وقدرة على الاصلاح بينهما. ويحسن أن يكونا من أهلهما إن أمكن. وإلا فمن غيرهم، ويجب عليهما تعرف أسباب الشقاق بين الزوجين، والاصلاح بينهما بقدر الامكان، فإن عجزا عن الاصلاح وكانت الاساءة من الزوجين، أو من الزوج، أو لم تتبين الحقائق، قررا التفريق بينهما بطلقة بائنة (1) وإن كانت الاساءة من الزوجة فلا يفرق بينهما بالطلاق. وإنما يفرق بينهما بالخلع. وإن لم يتفق الحكمان على رأي أمرهما القاضي بإعادة التحقيق والبحث فإن لم يتفقا على رأي استبدلهما بغيرهما. وعلى الحكمين أن يرفعا إلى القاضي ما يستقر عليه رأيهما. يجب عليه أن ينفذ حكمهما. وأصل ذلك كله قول الله سبحانه: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (2) ، والله تعالى يقول أيضا: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وقد فات الامساك بمعروف، فتعين التسريح بإحسان والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: " لاضرر ولا ضرار ".   (1) ذهب أبو حنيفة وأحمد والشافعي - في أحد قوليه - إلى أنه ليس للحكمين أن يطلقا إلا أن يجعل الزوج ذلك إليهما. وقال مالك والشافعي: إن رأيا الاصلاح بعوض أو بغير عوض جاز، وإن رأيا الخلع جاز، وإن رأى الذي من قبل الزوج الطلاق طلق، ولا يحتاج إلى إذن الزوج في الطلاق، وهذا مبني على أنهما حكمان لا وكيلان. (2) النساء آية 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وجاء في قانون رقم 25 لسنة 1929. (مادة 6) : " إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بها بما لا يستطاع معه دوام العشرة بين أمثالهما، يجوز لها أن تطلب من القاضي التفريق، وحينئذ يطلقها القاضي طلقة بائنة إذا ثبت الضرر وعجز عن الاصلاح بينهما. فإذا رفض الطلب ثم تكررت الشكوى، ولم يثبت الضرر، بعث القاضي حكمين وقضى على الوجه المبين بالمواد " 7، 8، 9، 10، 11 ". مادة (7) : " يشترط في الحكمين أن يكونا رجلين عدلين من أهل الزوجين إن أمكن، وإلا فمن غيرهم، ممن له خبرة بحالهما، وقدرة على الاصلاح بينهما. مادة (8) : على الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين ويبذلا جهدهما في الاصلاح، فإن أمكن على طريقة معينة قرراها. مادة (9) : إذا عجز الحكمان عن الاصلاح وكانت الاساءة من الزوج أو منهما، أو جهل الحال قررا التفريق بطلقة بائنة. مادة (10) : إذا اختلف الحكمان أمرهما القاضي بمعاودة البحث فان استمر الخلاف بينهما حكم غيرهما. على الحكمين أن يرفعا إلى القاضي ما يقررانه، وعلى القاضي أن يحكم بمقتضاه. التطليق لغيبة الزوج : التطليق لغيبة الزوج هو مذهب مالك وأحمد (1) ، دفعا للضرر عن المرأة، فللمرأة أن تطلب التفريق إذا غاب عنها زوجها ولو كان له مال تنفق منه، بشرط: 1 - أن يكون غياب الزوج عن زوجته لغير عذر مقبول. 2 - أن تتضرر بغيابه. 3 - أن تكون الغيبة في بلد غير الذي تقيم فيه. 4 - أن تمر سنة تتضرر فيها الزوجة.   (1) مالك يرى أنه طلاق بائن وأحمد يرى أنه فسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فإن كان غيابه عن زوجته بعذر مقبول: كغيابه لطلب العلم، أو ممارسة التجارة، أو لكونه موظفا خارج البلد، أو مجندا في مكان ناء، فإن ذلك لا يجيز طلب التفريق، وكذلك إذا كانت الغيبة في البلد الذي تقيم فيه. وكذلك لها الحق في أن تطلب التفريق للضرر الواقع عليها لبعد زوجها عنها لا لغيابه. ولابد من مرور سنة يتحقق فيها الضرر بالزوجة وتشعر فيها بالوحشة، ويخشى فيها على نفسها من الوقوع فيما حرم الله. والتقدير بسنة قول عند الامام مالك (1) . وقيل: ثلاث سنين، ويرى أحمد: أن أدنى مدة يجوز أن تطلب التفريق بعدها ستة أشهر، لانها أقصى مدة تستطيع المرأة فيها الصبر عن غياب زوجها كما تقدم ذلك في فصل سابق، واستفتاء عمر وفتوى حفصة رضي الله عنهما. التطليق لحبس الزوج : ومما يدخل في هذا الباب - عند مالك وأحمد - التطليق لحبس الزوج، لان حبسه يوقع بالزوجة الضرر، لبعده عنها. فإذا صدر الحكم بالسجن لمدة ثلاث سنين، أو أكثر، وكان الحكم نهائيا، ونفذ على الزوج، ومضت سنة فأكثر من تاريخ تنفيذه، فللزوجة أن تطلب من القاضي الطلاق لوقوع الضرر بها بسبب بعده عنها. فإذا ثبت ذلك طلقها القاضي طلقة بائنة عند مالك، ويعتبر ذلك فسخا عند أحمد. قال ابن تيمية: وعلى هذا فالقول في امرأة الاسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به، كالقول في امرأته المفقود بالاجماع. وجاء في القانون مادة (12) : " إذا غاب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول، جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي تطليقها بائنا إذا تضررت من بعده عنها، ولو كان له مال تستطيع الانفاق منه ". مادة (13) : " إن أمكن وصول الرسائل إلى الغائب ضرب له القاضي   (1) المراد بالسنة السنة الهلالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 أجلا وأعذر إليه، بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للاقامة معها أو ينقلها إليه أو يطلقها. فإذا انقضى الاجل، ولم يفعل، ولم يبد عذرا مقبولا، فرق القاضي بينهما بتطليقة بائنة، وإن لم يمكن وصول الرسائل إلى الغائب طلقها القاضي عليه بلا إعذار وضرب أجل ". مادة (14) : " لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيا بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنين فأكثر، أن تطلب للقاضي بعد مضي سنة من حبسه التطليق عليه بائنا للضرر ولو كان له مال تستطيع الانفاق منه. أما التفريق للعيب فقد تقدم القول فيه في فصل سابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 الخلع : الحياة الزوجية لا تقوم إلا على السكن، والمودة، والرحمة، وحسن المعاشرة، وأداء كل من الزوجين ما عليه من حقوق. وقد يحدث أن يكره الرجل زوجته، أو تكره هي زوجها. والاسلام في هذه الحال يوصي بالصبر والاحتمال، وينصح بعلاج ما عسى أن يكون من أسباب الكراهية، قال الله تعالى: " وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " (1) . وفي الحديث الصحيح: " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر ". إلا أن البغض قد يتضاعف، ويشتد الشقاق، ويصعب العلاج، وينفد الصبر، ويذهب ما أسس عليه البيت من السكن والمودة، والرحمة، وأداء الحقوق. وتصبح الحياة الزوجية غير قابلة للاصلاح، وحينئذ يرخص الاسلام بالعلاج الوحيد الذي لابد منه. فإن كانت الكراهية من جهة الرجل، فبيده الطلاق، وهو حق من حقوقه، وله أن يستعمله في حدود ما شرع الله. وان كانت الكراهية من جهة المرأة، فقد أباح لها الاسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، بأن تعطي الزوج ما كان أخذ ت منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " (2) . وفي أخذ الزوج الفدية عدل وإنصاف، إذ أنه هو الذي أعطاها المهر   (1) سورة النساء آية 19. (2) سورة البقرة 229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وبذل تكاليف الزواج، والزفاف، وأنفق عليها، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود، وطلبت الفراق، فكان من النصفة أن ترد عليه ما أخذت. وإن كانت الكراهية منهما معا: فإن طلب الزوج التفريق فبيده الطلاق وعليه تبعاته، وإن طلبت الزوجة الفرقة، فبيدها الخلع وعليها تبعاته كذلك. قيل إن الخلع وقع في الجاهلية. ذلك أن عامر بن الظرب زوج ابنته ابن أخيه، عامر بن الحارث، فلما دخلت عليه، نفرت منه، فشكا إلى أبيها، فقال:: لا أجمع عليك فراق أهلك ومالك وقد خلعتها منك بما أعطيتها. تعريفه: والخلع الذي أباحه الاسلام مأخوذ من خلع الثوب إذا أزاله، لان المرأة لباس الرجل، والرجل لباس لها. قال الله تعالى: " هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن " (1) . ويسمى الفداء، لان المرأة تفتدي نفسها بما تبذله لزوجها. وقد عرفه الفقهاء بأنه " فراق الرجل زوجته يبدل يحصل له ". والاصل فيه ما رواه البخاري، والنسائي، عن ابن عباس. قال: " جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولادين (1) ولكني أكره الكفر في الاسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ". ألفاظ الخلع: والفقهاء يرون أنه لابد في الخلع من أن يكون بلفظ الخلع أو بلفظ مشتق منه. أو لفظ يؤدي معناه. مثل المبارأة والفدية. فإذا لم يكن بلفظ الخلع ولا   (1) سورة البقرة آية 187. (2) أي أنها لا تريد مفارقته لسوء خلقه، ولا لنقصان دينه، ولكن كانت تكرهه لدمامته، وهي تكره أن تحملها الكراهية على التقصير فيما يجب له من حق، والمقصود بالكفر كفران العشير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 بلفظ فيه معناه. كأن يقول لها: أنت طالق في مقابل مبلغ كذا، وقبلت، كان طلاقا على مال ولم يكن خلعا. وناقش ابن القيم هذا الرأي فقال: " ومن نظر إلى حقائق العقود ومقاصدها دون ألفاظها: يعد الخلع فسخا بأي لفظ كان، حتى بلفظ الطلاق ". وهذا أحد الوجهين لاصحاب أحمد. وهو إختيار شيخ الاسلام ابن تيمية، ونقل عن ابن عباس. ثم قال ابن تيمية: " ومن اعتبر الالفاظ ووقف معها واعتبرها في أحكام العقود جعله " بلفظ الطلاق طلاقا ". ثم قال ابن القيم مرجحا هذا الرأي. وقواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها، لا صورها وألفاظها. ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر ثابت بن قيس أن يطلق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتد بحيضة وهذا صريح في أنه فسخ، ولو وقع بلفظ الطلاق. وأيضا فإنه سبحانه علق عليه أحكام الفدية بكونه فدية ومعلوم أن الفدية لا تختص بلفظ، ولم يعين الله سبحانه لها لفظا معينا. وطلاق الفداء طلاق مقيد، ولا يدخل تحت أحكام الطلاق المطلق. كما لا يدخل تحتها في ثبوت الرجعة والاعتداد بثلاثة قروء بالسنة الثابتة (1) ". العوض في الخلع: الخلع - كما سبق - إزالة ملك النكاح في مقابل مال. فالعوض جزء أساسي من مفهوم الخلع. فإذا لما يتحقق العوض لا يتحقق الخلع. فإذا قال الزوج لزوجته: خالعتك، وسكت. لم يكن ذلك خلعا، ثم إنه إن نوى الطلاق، كان طلاقا رجعيا. وإن لم ينو شيئا لم يقع به شئ، لانه من ألفاظ الكتابة التي تفتقر إلى النية.   (1) زاد الميعاد ص 27 ج 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 كل ما جاز أن يكون مهرا جاز أن يكون عوضا في الخلع: ذهبت الشافعية إلى أنه لافرق في جواز الخلع، بين أن يخالع على الصداق، أو على بعضه، أو على مال آخر، سواء كان أقل من الصداق أم أكثر. ولافرق بين العين، والدين والمنفعة. وضابطه أن " كل ما جاز أن يكون صداقا جاز أن يكون عوضا في الخلع " لعموم قوله تعالى: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به ". ولانه عقد على بضع فأشبه النكاح. ويشترط في عوض الخلع أن يكون معلوما متمولا، مع سائر شروط الاعواض، كالقدرة على التسليم، استقرار الملك وغير ذلك، لان الخلع عقد معاوضة، فأشبه البيع والصداق، وهذا صحيح في الخلع الصحيح. أما الخلع الفاسد فلا يشترط العلم به، فلو خالعها على مجهول، كثوب غير معين، أو على حمل هذه الدابة، أو خالعها بشرط فاسد. كشرط ألا ينفق عليها وهي حامل، أو لاسكنى لها، أو خالعها بألف إلى أجل مجهول ونحو ذلك - بانت منه بمهر المثل. أما حصول الفرقة، فلان الخلع، إما فسخ أو طلاق، فإن كان فسخا فالنكاح لا يفسد بفساد العوض، فكذا فسخه، إذ الفسوخ تحكي العقود. وإن كان طلاقا، فالطلاق يحصل بلا عوض، وماله حصول بلا عوض فيحسن مع فساد العوض، كالنكاح، بل أولى، ولقوة الطلاق وسرايته. أما الرجوع إلى مهر المثل، فلان قضية فساد العوض ارتداد العوض الآخر. والبضع لا يرتد بعد حصول الفرقة، فوجب رد بدله. ويقاس بما ذكرنا ما يشبهه، لان ما لم يكن ركنا في شئ لا يضر الجهل به كالصداق. ومن صور ذلك ما لو خالعها على ما في كفها، ولم يعلم، فإنها تبين منه بمهر المثل. فإن لم يكن في كفها شئ. ففي الوسيط أنه يقع طلاقا رجعيا، والذي نقله غيره أنه يقع بائنا بمهر المثل. أما المالكية فقالوا: يجوز الخلع بالغرر كجنين ببطن بقرة أو غيره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 فلو نفق (1) الحمل فلا شئ له، وبانت. وجاز بغير موصوف، وبثمرة لم يبد صلاحها، وبإسقاط حضانتها لولده. وينتقل الحق له. وإذا خالعها بشئ حرام. كخمر، أو مسروق علم به، فلا شئ له، وبانت، وأريق الخمر، ورد المسروق لربه، ولا يلزم الزوجة شئ بدل ذلك، حيث كان الزوج عالما بالحرمة، علمت هي أم لا. أما لو علمت هي بالحرمة دونه فلا يلزمه الخلع. الزيادة في الخلع على ما أخذت الزوجة من الزوج: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أخذت منه، لقول الله تعالى: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به (2) ". وهذا عام يتناول القليل والكثير. روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: " كانت أختي تحت رجل من الانصار، فارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتردين حديقته؟ قالت: وأزيد عليها، فردت عليه حديقته وزادته (3) ". ويرى بعض العلماء: أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أخذت منه، لما رواه الدارقطني بإسناد صحيح: " أن أبا الزبير قال: إنه كان أصدقها حديقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته التي أعطاك. قالت: نعم وزيادة. فقال النبي صلى الله وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته. قالت: نعم ". وأصل الخلاف في هذه المسألة الخلاف في تخصيص عموم الكتاب بالاحاديث الآحادية.   (1) نفق: هلك. (2) سورة البقرة آية 229. (3) يرى علماء الحديث أن هذا الحديث ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 فمن رأى أن عموم الكتاب يخصص بأحاديث الآحاد: قال لا تجوز الزيادة، ومن ذهب إلى أن عموم الكتاب لا يخصص بأحاديث الآحاد، رأى جواز الزيادة. وفي " بداية المجتهد " قال: " فمن شبهه بسائر الاعواض في المعاملات، رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا، ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك، فكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق ". الخلع دون مقتض: والخلع إنما يجوز إذا كان هناك سبب يقتضيه. كأن يكون الرجل معيبا في خلقه، أو سيئا في خلقه، أو لايؤدي للزوجة حقها، وأن تخاف المرأة ألا تقيم حدود الله، فيما يجب عليها من حسن الصحبة، وجميل المعاشرة. كما هو ظاهر الآية. فإن لم يكن ثمة سبب يقتضيه فهو محظور، لما رواه أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة: (المختلعات هن المنافقات) . وقد رأى العلماء الكراهة. الخلع بتراضي الزوجين : والخلع يكون بتراضي الزوج والزوجة، فإذا لم يتم التراضي منهما فللقاضي إلزام الزوج بالخلع، لان ثابتا وزوجته رفعا أمرهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وألزمه الرسول بأن يقبل الحديقة، ويطلق. كما تقدم في الحديث. الشقاق من قبل الزوجة كاف في الخلع : قال الشوكاني: وظاهر أحاديث الباب أن مجرد وجود الشقاق من قبل المرأة كاف في جواز الخلع. واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق منهما جميعا، وتمسك بظاهر الآية. وبذلك قال طاووس، والشعبي وجماعة من التابعين..وأجاب عن ذلك جماعة، منهم الطبري: بأن المراد، أنها إذا لم تقم بحقوق الزوج كان ذلك مقتضيا لبغض الزوج لها، فنسبت المخالفة إليها لذلك. ويؤيد عدم اعتبار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ذلك من جهة الزوج أنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا عن كراهته لها عند إعلانها بالكراهة له. حرمة الاساءة إلى الزوجة لتختلع : يحرم على الرجل أن يؤذي زوجته بمنع بعض حقوقها. حتى تضجر وتختلع نفسها. فإن فعل ذلك فالخلع باطل، والبدل مردود، ولو حكم به قضاء. وإنما حرم ذلك حتى لا يجتمع على المرأة فراق الزوج والغرامة المالية، وقال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن (1) لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (2) ". ولقوله سبحانه: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (3) ". ويرى بعض العلماء نفاذ الخلع في هذه الحال مع حرمة العضل. وأما الامام مالك فيرى أن الخلع ينفذ على أنه طلاق، ويجب على الزوج أن يرد البدل الذي أخذه من زوجته جواز الخلع في الطهر والحيض: يجوز الخلع في الطهر والحيض، ولا يتقيد وقوعه بوقت: لان الله سبحانه أطلقه ولم يقيده بزمن دون زمن. قال الله تعالى: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به (4) ". ولان الرسول عليه الصلاة والسلام أطلق الحكم في الخلع بالنسبة لامرأة ثابت بن قيس، من غير بحث، ولااستفصال عن حال الزوجة، وليس الحيض بأمر نادر الوجود بالنسبة للنساء. قال الشافعي: " ترك الاستفصال في قضايا الاحوال مع قيام الاحتمال   العضل: التضييق والمنع. (2) سورة النساء آية 19. (3) سورة النساء آية 20. (4) سورة البقرة آية 229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ينزل منزلة العموم في المقال. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل هي حائض أم لا؟ ولان المنهي عنه الطلاق في الحيض: من أجل ألا تطول عليها العدة. وهي - هنا - التي طلبت الفراق، واختلعت نفسها ورضيت بالتطويل. الخلع بين الزوج وأجنبي : يجوز أن يتفق أحد الاشخاص مع الزوج على أن يخلع الزوج زوجته، ويتعهد هذا الشخص الاجنبي بدفع بدل الخلع للزوج، وتقع الفرقة، ويلتزم الاجنبي بدفع البدل للزوج. ولا يتوقف الخلع في هذه الصورة على رضا الزوجة لان الزوج يملك إيقاع الطلاق من نفسه بغير رضا زوجته، والبدل يجب على من التزم به. وقال أبو ثور: لا يصح لانه سفه، فإنه يبذل عوضا في مقابلة ما لا منفعة له فيه، فإن الملك لا يحصل له. وقيده بعض علماء المالكية، بأن يقصد به تحقيق مصلحة أو درء مفسدة، فإن قصد به الاضرار بالزوجة فلا يصح. ففي " مواهب الجليل ": " ينبغي أن يقيد المذهب بما إذا كان الغرض من التزام الاجنبي ذلك للزوج، حصول مصلحة، أو درء مفسدة ترجع إلى ذلك الاجنبي، مما لا يقصد به إضرار المرأة ". وأما ما يفعله أهل الزمان في بلدنا من التزام أجنبي ذلك وليس قصده إلا إسقاط النفقة الواجبة في العدة للمطلقة على مطلقها - فلا ينبغي أن يختلف في المنع ابتداء. وفي انتفاع المطلق بذلك بعد وقوعه نظر. الخلع يجعل أمر المرأة بيدها : ذهب الجمهور، ومنهم الائمة الاربعة، إلى أن الرجل إذا خالع امرأته ملكت نفسها وكان أمرها إليها، ولا رجعة له عليها، لانها بذلت المال لتتخلص من الزوجية، ولو كان يملك رجعتها لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وحتى لو رد عليها ما أخذ منها، وقبلت - ليس له أن يرتجعها في العدة، لانها قد بانت منه بنفس الخلع. روي عن ابن المسيب والزهري: أنه إن شاء أن يراجعها فليرد عليها ما أخذه منها في العدة، وليشهد على رجعته. جواز تزوجها برضاها : ويجوز للزوج أن يتزوجها برضاها في عدتها، ويعقد عليها عقدا جديدا. خلع الصغيرة المميزة (1) : ذهب الاحناف إلى أنه إذا كانت الزوجة صغيرة مميزة وخالعت زوجها، وقع عليها طلاق رجعي ولا يلزمها المال. أما وقوع الطلاق، فلان عبارة الزوج معناها تعليق الطلاق على قبولها، وقد صح التعليق لصدوره من أهله، ووجد المعلق عليها، وهو القبول ممن هي أهل له، لان الاهلية للقبول تكون بالتمييز - وهي هنا صغيرة مميزة - ومتى وجد المعلق عليه وقع الطلاق المعلق. وأما عدم لزوم المال: فلانها صغيرة ليست أهلا للتبرع، إذ يشترط في الاهلية للتبرع: العقل والبلوغ، وعدم الحجر لسفه أو مرض. وأما كون الطلاق رجعيا: فلانه لما لم يصح التزام المال، كان طلاقا مجردا لا يقابله شئ من المال، فيقع رجعيا. خلع الصغيرة غير المميزة: وأما الصغيرة غير المميزة فلا يقع خلعها طلاقا أصلا، لعدم وجود المعلق عليه، وهو القبول ممن هو أهله. خلع المحجور عليها (2) : قالوا: وإذا كانت الزوجة محجورا عليها لسفه وخالعها زوجها على مال   (1) أحكام الاحوال الشخصية. (2) ص 155 نفس المرجع السابق " الاحوال الشخصية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وقبلت، لا يلزمها المال، ويقع عليها الطلاق الرجعي، مثل الصغيرة المميزة في أنها ليست أهلا للتبرع، ولكنها أهل للقبول. الخلع بين ولي الصغيرة وزوجها: وإذا جرى الخلع بين ولي الصغيرة وزوجها، بأن قال زوج الصغيرة لابيها: خالعت ابنتك على مهرها، أو على مائة جنيه من مالها، ولم يضمن الاب البدل له. وقال: قبلت، طلقت، ولا يلزمها المال ولا يلزم أباها. أما وقوع الطلاق فلان الطلاق المعلق يقع متى وجد المعلق عليه، وهو هنا قبول الاب، وقد وجد. أما عدم لزوجها المال، فلانها ليست أهلا لالتزام التبرعات. وأما عدم لزوم أبيها المال، فلانه لم يلتزمه بالضمان، ولا إلزام بدون التزام. ولهذا إذا ضمنه لزمه. وقيل: لا يقع الطلاق في هذه الحال لان المعلق عليه قبول دفع البدل. وهو لم يتحقق. وهذا القول ظاهر، ولكن العمل بالقول الاول. خلع المريضة: لا خلاف بين العلماء في جواز الخلع من المريضة، مرض الموت. فلها أن تخالع زوجها. كما للصحيحة سواء بسواء. إلا أنهم اختلفوا في القدر الذي يجب أن تبذله للزوج مخافة أن تكون راغبة في محاباة الزوج على حساب الورثة. فقال الامام مالك: يجب أن يكون بقدر ميراثه منها. فإن زاد على إرثه منها تحرم الزيادة ويجب ردها، وينفذ الطلاق. ولا توارث بينهما إذا كان الزوج صحيحا. وعند الحنابلة: مثل ما عند مالك، في أنه إذا خالعت بميراثه منها فما دونه صح ولا رجوع فيه، وإن خالعته بزيادة بطلت هذه الزيادة. وقال الشافعي: لو اختلعت منه بقدر مهر مثلها جاز. وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث وتعتبر تبرعا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أما الاحناف: فقد صححوا خلعها بشرط ألا يزيد عن الثلث مما تملك. وأنها متبرعة، والتبرع في مرض الموت وصية، والوصية لا تنفذ إلا من الثلث للاجنبي، والزوج صار بالخلع أجنبيا. قالوا: وإذا ماتت هذه المخالعة المريضة وهي في العدة. لا يستحق زوجها إلا أقل هذه الامور، بدل الخلع، وثلث تركتها، وميراثه منها. لانه قد تتواطأ الزوجة مع زوجها في مرض موتها وتسمي له بدل خلع باهظا، يزيد عما يستحقه بالميراث. فلاجل الاحتياط لحقوق ورثتها، وردا لقصد المتواطأ عليه. قلنا: إنها إذا ماتت في العدة لا تأخذ إلا أقل الاشياء الثلاثة. فإن برئت من مرضها ولم تمت منه، فله جميع البدل المسمى، لانه تبين أن تصرفها لم يكن في مرض الموت. أما إذا ماتت بعد انقضاء عدتها فله بدل الخلع المتفق عليه، بشرط ألا يزيد عن ثلث تركتها، لانه في حكم الوصية. والذي عليه العمل الان في المحاكم بعد صدور قانون الوصية سنة 1946: أن للزوج الاقل من بدل الخلع، وثلث التركة التي خلفتها زوجته، سواء أكانت وفاتها في العدة أم بعد انتهائها، إذ أن هذا القانون أجاز الوصية للوارث، وغير الوارث - ونص على نفاذها فيما لا يزيد عن الثلث بدون توقف على إجازة أحد. وعلى هذا، فلا يكون هناك حاجة إلى فرض محاباة زوجها بأكثر من نصيبه ومنعها من ذلك. هل الخلع طلاق أم فسخ: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخلع طلاق بائن، لما تقدم في الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذ الحديقة وطلقها تطليقة ". ولان الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق، مما ليس يرجع إلى اختياره. وهذا راجع إلى الاختيار، فليس بفسخ. وذهب بعض العلماء، منهم أحمد، وداود من الفقهاء، وابن عباس، وعثمان، وابن عمر من الصحابة: إلى أنه فسخ. لان الله تعالى ذكر في كتابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الطلاق، فقال: " الطلاق مرتان ". ثم ذكر الافتداء. ثم قال: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (1) . فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زواج، هو الطلاق الرابع. ويجوز هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي، قياسا على فسوخ البيع كما في الاقالة (2) . قال ابن القيم: والذي يدل على أنه ليس بطلاق أنه سبحانه وتعالى رتب الطلاق بعد الدخول الذي لا يستوف عدده ثلاثة أحكام، كلها منتفية عن الخلع: (الاول) أن الزوج أحق بالرجعة فيه. (الثاني) أنه محسوب من الثلاث، فلا تحل بعد استيفاء العدد، إلا بعد دخول زوج وإصابته. (الثالث) أن العدة فيه ثلاثة قروء. وقد ثبت بالنص والاجماع أنه لا رجعة في الخلع، وثبت بالسنة وأقوال الصحابة أن العدة فيه حيضة واحدة (3) ، وثبت بالنص جوازه بعد طلقتين، ووقوع ثالثة بعدها. وهذا ظاهر جدا في كونه ليس بطلاق. وثمرة هذا الخلاف تظهر في الاعتداد بالطلاق. فمن رأى أنه طلاق، احتسبه طلقة بائنة. ومن رأى أنه فسخ لم يحتسبه، فمن طلق امرأته تطليقتين ثم خالعها، ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك، وإن لم تنكح زوجا غيره، لانه ليس له غير تطليقتين. والخلع لغو. ومن جعل الخلع طلاقا قال: لم يجز له أن يرتجعها حتى تنكح زوجا غيره، لانه بالخلع كملت الثلاث. هل يلحق المختلعة طلاق؟: المختلعة لا يلحقها طلاق، سواء قلنا بأن الخلع طلاق أو فسخ، وكلاهما   (1) سورة البقرة آية 230. (2) بداية المجتهد ص 65 ج 2. (3) قال الخطابي: هذا أقوى دليل لمن قال: إن الخلع فسخ وليس بطلاق، إذ لو كان طلاقا لم يكتف بحيضة للعدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 يصير المرأة أجنبية عن زوجها. وإذا صارت أجنبية عنه، فإنه لا يلحقها الطلاق. وقال أبو حنيفة: المختلعة يلحقها الطلاق، ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها. عدة المختلعة: ثبت من السنة أن المختلعة تعتد بحيضة. ففي قصة ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " خذ الذي لها عليك وخل سبيلها. قال: نعم. فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة واحدة وتلحق بأهلها ". رواه النسائي بإسناد رجاله ثقاة. وإلى هذا ذهب عثمان، وابن عباس، وأصح الروايتين عن أحمد، وهو مذهب إسحق بن راهويه، واختاره شيخ الاسلام ابن تيمية وقال: من نظر هذا القول وجده مقتضى قواعد الشريعة: فإن العدة إنما جعلت ثلاث حيض، ليطول زمن الرجعة، ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة، فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود براءة رحمها من الحمل، وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء. وقال ابن القيم: هذا مذهب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله ابن عمر، والربيع بنت معوذ، وعمها وهو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء الاربعة من الصحابة لا يعرف لهم مخالف منهم، كما رواه الليث بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر: أنه سمع الربيع بنت معوذ بن عفراء، وهي تخبر عبد الله بن عمر، أنها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان. فجاء عمها إلى عثمان، فقال له: إن ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم، أفتنتقل؟ فقال عثمان: لتنتقل، ولا ميراث بينهما. ولا عدة عليها. إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضة. خشية أن يكون بها حبل. فقال عبد الله بن عمر: فعثمان خيرنا وأعلمنا. ونقل عن أبي جعفر النحاس في كتاب - الناسخ والمنسوخ - أن هذا إجماع من الصحابة..ومذهب الجمهور من العلماء أن المختلعة عدتها ثلاث حيض إن كانت ممن يحيض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 نشوز الرجل : إذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضة عنها إما لمرضها أو لكبر سنها، أو لدمامة وجهها، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما، ولو كان في الصلح تنازل الزوجة عن بعض حقوقها ترضية لزوجها. لقول الله سبحانه: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير (1) ". وروى البخاري عن عائشة قالت في هذه الرواية: " هي المرأة تكون عند الرجل، لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، ويتزوج عليها، تقول: أمسكني، ولا تطلقني، وتزوج غيري، فأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي ". روى أبو داود عن عائشة أن سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت (2) أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: " يارسول الله يومي لعائشة " فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: في ذلك أنزل الله جل ثناؤه، وفي أشباهها. أراه قال: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ". قال في المغني: ومتى صالحته على ترك شئ من قسمتها أو نفقتها، أو على ذلك كله جاز..فإن رجعت فلها ذلك. قال أحمد في الرجل يغيب عن امرأته فيقول لها: إن رضيت على هذا، وإلا فأنت أعلم، فتقول: قد رضيت، فهو جائز، فإن شاءت رجعت. الشقاق بين الزوجين : إذا وقع الشقاق بين الزوجين واستحكم العداء وخيف من الفرقة وتعرضت   (1) سورة النساء آية 128. (2) فرقت: خافت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 الحياة الزوجية للانهيار بعث الحاكم حكمين لينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة من إبقاء الحياة للزوجية أو إنهائها. يقول الله سبحانه: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ". ويشترط أن يكون الحكمان عاقلين بالغين عدلين مسلمين. ولا يشترط أن يكونا من أهلهما، فإن كانا من غير أهلهما جاز، والامر في الاية للندب، لانهما أرفق من جانب وأدرى بما يحدث، وأعلم بالحال من جانب آخر. وللحكمين أن يفعلا ما فيه المصلحة من الابقاء أو الانهاء دون الحاجة إلى رضا الزوجين أو توكيلهما. وهذا رأي علي، وابن عباس، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، والنخعي، وسعيد بن جبير، ومالك، والاوزاعي، وإسحاق، وابن المنذر. وقد تقدم ذلك في فصل سابق (1)   (1) أما نشوز المرأة فقد سبق الكلام عليه في فصل " تأديب الرجل زوجته ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الظهار : تعريفه: الظهار مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. قال في الفتح: " وإنما خص الظهر بذلك دون سائر الاعضاء، لانه محل الركوب غالبا، ولذلك سمي المركوب ظهرا، فشبهت المرأة بذلك. لانها مركوب الرجل ". والظهار كان طلاقا في الجاهلية، فأبطل الاسلام هذا الحكم، وجعل الظهر محرما للمرأة حتى يكفر زوجها. فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق، كان ظهارا، ولو طلق يريد ظهارا كان طلاقا، فلو قال: " أنت علي كظهر أمي "، وعنى به الطلاق لم يكن طلاقا، وكان ظهارا لا تطلق به المرأة. قال ابن القيم: " وهذا لان الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنسخ، فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضا أن أوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضا فإنه صريح في حكمه، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه، وقضاء الله أحق، وحكم الله أوجب " اه. وقد أجمع العلماء على حرمته، فلا يجوز الاقدام عليه لقول الله تعالى: " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا، وإن الله لعفو غفور " (1) . وأصل ذلك ما ثبت في السنن أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، وهي التي جادلت فيه رسول الله صلى الله عليه   (1) سورة المجادلة: آية 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وسلم واشتكت إلى الله، وسمع الله شكواها من فوق سبع سموات. فقالت: " يا رسول الله؟ إن أوس بن الصامت تزوجني، وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني، ونثرت بطني، جعلني كأمة عنده. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عندي في أمرك شئ ". فقالت: " اللهم إني أشكو إليك ". وروي أنها قالت: " ان لي صبية صغارا، ان ضمهم إليه ضاعوا. وإن ضممتهم إلي جاعوا ": فنزل القرآن..وقالت عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في كسر البيت، يخفي علي بعض كلامها، فأنزل الله عزوجل: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاور كما، إن الله سميع بصير " (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليعتق رقبة. قالت: لا يجد! قال: فيصوم شهرين متتابعين. قالت: يارسول الله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا. قالت: ما عنده من شئ يتصدق به. قال: سأعينه بعرق من تمر! قالت: وأنا أعينه بعرق آخر؟ قال: أحسنت، فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك ". وفي السنن أن سلمة بن صخر البياضي، ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان، تم واقعها ليلة قبل انسلاخه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت بذاك (2) يا سلمة. قال: قلت: أنا بذاك يارسول الله؟ - مرتين - وأنا صابر لامر الله، فاحكم في بما أراك الله. قال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال فصم شهرين   (1) سورة المجادلة آية 1. (2) أي أنت الملم بذاك والمرتكب له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 متتابعين. قلت: فهل أصبت الذي أصبت إلا في الصيام؟..قال: فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا. قلت:: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين (1) ، ما لنا طعام قال: فانطلق إلى صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها. قال: فرحت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم ". هل الظهار مختص بالام؟ ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالام، كما ورد في القرآن، وكما جاء في السنة. فلو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي كان مظاهرا، ولو قال لها: أنت علي كظهر أختي لم يكن ذلك ظهارا. وذهب البعض، منهم الاحناف، والاوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه، وزيد بن علي، إلى أنه يقاس على الام جميع المحارم (2) . فالظهار عندهم هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم بإحدى المحرمات عليه على وجه التأييد بالنسب أو المصاهرة أو الرضاع، إذ العلة هي التحريم المؤبد. ومن قال لامرأته: إنها أختي أو أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهرا. من يكون منه الظهار: والظهار لا يكون إلا من الزوج العاقل البالغ المسلم لزوجة قد انعقد زواجها انعقادا صحيحا نافذا. الظهار المؤقت: الظهار المؤقت هو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة. مثل أن يقول لها: " أنت   (1) أي بتنا مقفرين لا طعام لنا. (2) قال الائمة الثلاثة، ورواية عن أحمد: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي. فانه لا كفارة عليها، وقال أحمد في الرواية الاخرى - وهي أظهرهما - يجب عليها الكفارة إذا وطئها، وهي التي اختارها الخرقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 علي كظهر أمي إلى الليل " ثم أصابها قبل انقضاء تلك المدة. وحكمه أنه ظهار كالمطلق. قال الخطابي: واختلفوا فيه إذا بر فلم يحنث: فقال مالك وابن أبي ليل: إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي إلى الليل " لزمته الكفارة وإن لم يقربها. وقال أكثر أهل العلم: لا شئ عليه إن لم يقربها. قال: وللشافعي في الظهار المؤقت قولان: أحدهما أنه ليس بظهار. أثر الظهار: إذا ظاهر الرجل من امرأته، وصح الظهار ترتب عليه أثران: (الاثر الاول) حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار، لقول الله سبحانه: " من قبل أن يتماسا ". وكما يحرم المسيس، فإنه يحرم كذلك مقدماته، من التقبيل والمعانقة ونحو ذلك، وهذا عند جمهور العلماء. وذهب بعض أهل العلم (1) إلى أن المحرم هو الوطء فقط، لان المسيس كناية عن الجماع. (والاثر الثاني) وجوب الكفارة بالعود. وما هو العود؟، اختلف العلماء في العود. ما هو؟ فقال قتادة، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة، وأصحابه: " إنه إرادة المسيس لما حرم بالظهار " لانه إذا أراد فقد عاد من عزم؟ إلى عزم الفعل، سواء فعل أم لا. وقال الشافعي: بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الطلاق، ولم يطلق إذ تشبيهها بالام يقتضي إبانتها، وإمساكها نقيضه، فإذا أمسكها فقد عاد فيما قال، لان العود للقول مخالفته. وقال مالك وأحمد: بل هو العزم على الوطء فقط، وإن لم يطأ.   (1) هذا رأي الثوري، وأحد قولي الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وقال داود، وشعبة، وأهل الظاهر: بل إعادة لفظ الظهار. فالكفارة لا تجب عندهم إلا بالظهار المعاد، لا المبتدأ. المسيس قبل التكفير: إذا مس الرجل زوجته قبل التكفير فإن ذلك يحرم، كما تقدم بيانه، والكفارة لا تسقط ولا تتضاعف، بل تبقى كما هي، كفارة واحدة. قال الصلت بن دينار: سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل أن يكفر؟ فقالوا: كفارة واحدة. ما هي الكفارة: والكفارة هي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا. لقول الله سبحانه: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (1) ". وقد روعي في كفارة الظهار التشديد، محافظة على العلاقة الزوجية، ومنعا من ظلم المرأة. فإن الرجل إذا رأى أن الكفارة يثقل عليه الوفاء بها، احترم العلاقة الزوجية، وامتنع عن ظلم زوجته.   (1) المجادلة آية 3، 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الفسخ : فسخ العقد: نقضه، وحل الرابطة التي تربط بين الزوجين، وقد يكون الفسخ بسبب خلل وقع في العقد، أو بسبب طارئ عليه يمنع بقاءه. مثال الفسخ بسبب الخلل الواقع في العقد: 1 - إذا تم العقد وتبين أن الزوجة التي عقد عليها أخته من الرضاع، فسخ العقد. 2 - إذا عقد غير الاب والجد للصغير أو الصغيرة، ثم بلغ الصغير أو الصغيرة، فمن حق كل منهما أن يختار البقاء على الزوجية أو إنهاءها، ويسمى هذا خيار البلوغ، فإذا اختار إنهاء الحياة الزوجية كان ذلك فسخا للعقد. مثال الفسخ الطارئ على العقد: 1 - إذا ارتد أحد الزوجين عن الاسلام ولم يعد إليه، فسخ العقد بسبب الردة الطارئة. 2 - إذا أسلم الزوج وأبت زوجته أن تسلم، وكانت مشركة، فإن العقد حينئذ يفسخ. بخلاف ما إذا كانت كتابية فإن العقد يبقى صحيحا كما هو، إذ أنه يصح العقد على الكتابية ابتداء. والفرقة الحاصلة بالفسخ غير الفرقة الحاصلة بالطلاق، إذ أن الطلاق ينقسم إلى طلاق رجعي وطلاق بائن. والرجعي لا ينهي الحياة الزوجية في الحال، والبائن ينهيها في الحال. أما الفسخ، سواء أكان بسبب طارئ على العقد، أم بسبب خلل فيه، فإنه ينهي العلاقة الزوجية في الحال. ومن جهة أخرى. فإن الفرقة بالطلاق تنقص عدد الطلقات، فإذا طلق الرجل زوجته طلقة رجعية، ثم راجعها وهي في عدتها، أو عقد عليها بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 انقضاء العدة عقدا جديدا، فإنه تحسب عليه تلك الطلقة، ولا يملك عليها بعد ذلك إلا طلقتين. وأما الفرقة بسبب الفسخ فلا ينقص بها عدد الطلقات، فلو فسخ العقد بسبب خيار البلوغ، ثم عاد الزوجان وتزوجا ملك عليها ثلاث طلقات. وقد أراد فقهاء الاحناف أن يضعوا ضابطا عاما لتمييز الفرقة التي هي طلاق، من الفرقة التي هي فسخ، فقالوا: إن كل فرقة تكون من الزوج، ولا يتصور أن تكون من الزوجة فهي طلاق. وكل فرقة تكون من الزوجة لا بسبب من الزوج، أو تكون من الزوج ويتصور أن تكون من الزوجة فهي فسخ. الفسخ بقضاء القاضي: من الحالات ما يكون سبب الفسخ فيها جليا لا يحتاج إلى قضاء القاضي، كما إذا تبين للزوجين أنهما أخوان من الرضاع، وحينئذ يجب على الزوجين أن يفسخا العقد من تلقاء أنفسهما. ومن الحالات ما يكون سبب الفسخ خفيا غير جلي، فيحتاج إلى قضاء القاضي، ويتوقف عليه، كالفسخ بإباء الزوجة المشركة الاسلام إذا أسلم زوجها، لانها ربما لا تمتنع فلا يفسخ العقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 اللعان : تعريفه: اللعان مأخوذ من اللعن، لان الملاعن يقول في الخامسة: " أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ". وقيل هو الابعاد. وسمي المتلاعنان بذلك، لما يعقب اللعان من الاثم والابعاد، ولان أحدهما كاذب، فيكون ملعونا. وقيل: لان كل واحد منهما يبعد عن صاحبه بتأييد التحريم. وحقيقته: أن يحلف الرجل - إذا رمى امرأته بالزنا أربع مرات إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وأن تحلف المرأة عند تكذيبه أربع مرات، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن عليها غضب الله إن كان من الصادقين. مشروعيته: إذا رمى الرجل امرأته بالزنا، ولم تقر هي بذلك، ولم يرجع عنه رميه. فقد شرع الله لهما اللعان (1) . روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن هلال (2) بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البينة، أو حد في ظهرك. فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟!. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " البينة، وإلا حد في ظهرك ". فقال: والذي بعثك بالحق إلي لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من   (1) كان ذلك في شهر شعبان سنة 59 هـ وقيل: كان في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) كان أول رجل لا عن في الاسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " (1) . فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يعلم (2) أن أحد كما كاذب. فهل منكما تائب؟ " فشهدت. فلما كانت عند الخامسة وقفوها (3) ، وقالوا إنها الموجبة (4) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع. ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين (5) ، سابغ الاليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء ". فجاءت به كذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا ما مضى (6) من كتاب الله كان لي ولها شأن. " قال صاحب بداية المجتهد: وأما من طريق المعنى. فلما كان الفراش موجبا للحوق النسب، كان للناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده. وتلك الطريق هي اللعان. فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والاجماع. إذ لا خلاف في ذلك عامة.   (1) سورة النور: الايات 6 - 9 (2) هذا دليل على أن الزوج إذا قذف امرأته، وعجز عن إقامة البينة وجب عليه حد القاذف، وإذا وقع اللعان سقط الحد عنه. (3) فيه استحباب تقديم الوعظ للزوجين قبل اللعان لما سيأتي. (4) أشاروا عليها بالوقوف عن تمام اللعان فتلكأت وكادت تعترف ولكنها لم ترض بفضيحة قومها. وفي هذا دليل على أن مجرد التلكؤ لا يعمل به. (5) في هذا دليل على أن المرأة كانت حاملا وقت اللعان، والاكحل الذي أجفانه سوداء كأن فيها كحلا. وسابغ الاليتين: أي عظيمهما، وخدلج: ممتلئ. (6) لولا ما مضى من كتاب الله، أي أن اللعان يرفع الحد عن المرأة. ولولا ذلك لاقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 متى يكون اللعان؟ ويكون اللعان في صورتين: (الصورة الاولى) أن يرمي الرجل امرأته بالزنا، ولم يكن له أربعة شهود يشهدون عليها بما رماها به. (الصورة الثانية) أن ينفي حملها منه. وإنما يجوز في الصورة الاول إذا تحقق من زناها، كأن رآها تزني، أو أقرت هي، ووقع في نفسه صدقها. والاولى في هذه الحال أن يطلقها ولا يلاعنها. فإذا لم يتحقق من زناها، فإنه لا يجوز له أن يرميها به. ويكون نفي الحمل في حالة ما إذا ادعى أنه لم يطأها أصلا من حين العقد عليها، أو ادعى أنها أتت به لاقل من ستة أشهر بعد الوطء، أو لاكثر من سنة من وقت الوطء..الحاكم هو الذي يقضى باللعان: ولا بد من الحاكم عند اللعان. وينبغي له أن يذكر المرأة ويعظها، بمثل ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شئ، ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الاولين والاخرين ". اشتراط العقل والبلوغ: وكما يشترط في اللعان، الحاكم، يشترط العقل والبلوغ في كل من المتلاعنين، وهذا أمر مجمع عليه. اللعان بعد إقامة الشهود: وإذا أقام الزوج الشهود على الزنا فهل له أن يلاعن؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قال أبو حنيفة وداود: لا يلاعن، لان اللعان إنما جعل عوضا عن الشهود، لقوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم (1) ". وقال مالك والشافعي: له أن يلاعن، لان الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش. هل اللعان يمين أم شهادة؟ يرى الامام مالك والشافعي وجمهور العلماء أن اللعان يمين، وإن كان يسمى شهادة فإن أحدا لا يشهد لنفسه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث ابن عباس: " لولا الايمان لكان لي ولها شأن ". وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه شهادة، واستدلوا بقول الله تعالى " فشهادة أحد هم أربع شهادات بالله " وبحديث ابن عباس المتقدم. وفيه: " فجاء هلال فشهد، ثم قامت فشهدت ". والذين رأوا أنه يمين، قالوا: انه يصح اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما، أو عدلين، أو فاسقين، أو أحدهما. والذين ذهبوا إلى أنه شهادة. قالوا: لا يصح إلا بين زوجين يكونان من أهل الشهادة، وذلك بأن يكونا حرين مسلمين. فأما العبدان، أو المحدودان في القذف، فلا يجوم لعانهما. وكذلك إن كان أحدهما من أهل الشهادة والاخر ليس من أهلها. قال ابن القيم: والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار، لاقتضاء الحال تأكيد الامر، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع: (أحدها) ذكر لفظ الشهادة. (الثاني) ذكر القسم أسماء الرب سبحانه، وأجمعها لمعاني أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جل ذكره. (الثالث) تأكيد الجواب بما يؤكد به المقسم عليه من أن واللام،   سورة النور آية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب، دون الفعل الذي هو صدق وكذب. (الرابع) تكرار ذلك أربع مرات. (الخامس) دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين. (السادس) إخباره عند الخامسة أنها الموجبة لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة. (السابع) جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها، وهو إما الحد أو الحبس، وجعل لعانها دارئا للعذاب عنها. (الثامن) أن هذا اللعان يوجب العذاب على أحدهما، إما في الدنيا، وإما في الاخرة. (التاسع) التفريق بين المتلاعنين وخراب بيتهما وكسرهما بالفراق. (العاشر) تأييد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما. فلما كان شأن هذا اللعان هذا الشأن جعل يمينا مقرونا بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن - لقبول قوله - كالشاهد فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحدت وأفادت شهادته. ويمينه شيئين: سقوط الحد عنه ووجوبه عليها، وإن التعنت الممرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها، أفاد لعانه سقوط الحد عنه دون وجوبه عليها، فكان شهادة ويمينا بالنسبة إليها دونها، لانه إن كان يمينا محضة، فهي لا تحد بمجرد حلفه، وإن كان شهادة فلا تحد بمجرد شهادته عليها وحده، فإذا انضم إلى ذلك نكولها قوي جانب الشهادة واليمين في حقه بتأكده ونكولها، فكان دليلا " ظاهرا على صدقه، فأسقط الحد عنه وأوجبه عليها، وهذا أحسن ما يكون من الحكم. " ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (1) وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة، وشهادة فيها معنى اليمين.   (1) سورة المائدة آية 50 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 لعان الاعمى والاخرس: لم يختلف أحد في جواز لعان الاعمى، واختلفوا في الاخرس. فقال مالك والشافعي: يلاعن الاخرس إذا فهم عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يلاعن، لانه ليس من أهل الشهادة. من يبدأ بالملاعنة؟: اتفق العلماء على أن السنة في اللعان تقديم الرجل فيشهد قبل المرأة. فقال الشافعي وغيره: هو واجب، فإذا لاعنت المرأة قبله، فإن لعانها لا يعتد به. وحجتهم أن اللعان يشرع لدفع الحد عن الرجل. فلو بدئ بالمرأة لكان دفعا لامر لم يثبت. وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه لو وقع الابتداء بالمرأة صح واعتد به. وحجتهم أن الله سبحانه عطف في القرآن بالواو، والواو لا تقتضي الترتيب بل هي المطلق الجمع. النكول (1) عن اللعان: النكول عن اللعان، إما أن يكون من الزوج أو من الزوجة، فإن نكل الزوج فعليه حد القذف. لقول الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (2) ". فإذا لم يشهد فهو مثل الاجنبي في القذف، ولما تقدم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " البينة أو حد في ظهرك " وهذا مذهب الائمة الثلاثة. وقال أبو حنيفة: لا حد عليه. ويحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه. فإن كذب نفسه وجب عليه حد القذف. فإذا نكلت الزوجة: أقيم عليها حد الزنا عند مالك والشافعي.   (1) النكول: الامتناع. (2) سورة النور آية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقال أبو حنيفة: لا تحد، وحبست حتى تلاعن أن تقر بالزنا، وإن صدقته أقيم عليها الحد. واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس ". ولان سفك الدماء بالنكول حكم ترده الاصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول. فكان بالاحرى ألا يجب بذلك سفك الدماء. قال ابن رشد: وبالجملة. فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة، بالاعتراف، ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك. فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله. وقد اعترف أبو المعالي في كتابه " البرهان " بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة، وهو شافعي. التفريق بين المتلاعنين: إذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل التأكيد ولا يرتفع التحريم بينهما بحال. فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ". وعن علي وابن مسعود قالا: " مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان ". رواهما الدارقطني. ولانه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة، لان أساس الحياة الزوجية السكن، والمودة، والرحمة، وهؤلاء قد فقدوا هذا الاساس، وكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة. واختلف الفقهاء فيما إذا كذب الرجل نفسه، فقال الجمهور: إنما لا يجتمعان أبدا، وللاحاديث السابقة، وقال أبو حنيفة: إذا كذب نفسه جلد الحد، وجاز له أن يعقد عليها من جديد، واستدل أبو حنيفة بأنه إذا كذب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 نفسه، فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد، كذلك ترد الزوجة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما. مع القطع بأن أحدهما كاذب، وإذا انكشف ارتفع التحريم. متى تقع الفرقة؟ تقع الفرقة إذا فرغ المتلاعنان من اللعان، وهذا عند مالك. وقال الشافعي: تقع بعد أن يكمل الزوج لعانه. وقال أبو حنيفة، وأحمد، والثوري: لا تقع إلا بحكم الحاكم هل الفرقة طلاق أم فسخ؟ يرى جمهور العلماء أن الفرقة الحاصلة باللعان فسخ. ويرى أبو حنيفة أنها طلاق بائن، لان سببها من جانب الرجل، ولا يتصور أو تكون من جانب المرأة، وكل فرقة كانت كذلك تكون طلاقا لا فسخا، فالفرقة هنا مثل فرقة العنين، إذا كانت بحكم الحاكم. وأما الذين ذهبوا إلى الرأي الاول فدليلهم تأبيد التحريم، فأشبه ذات المحرم، وهؤلاء يرون أن الفسخ باللعان يمنع المرأة من استحقاقها النفقة في مدة العدة، وكذلك السكنى، لان النفقة والسكنى إنما يستحقان في عدة الطلاق لا في عدة الفسخ، ويؤيد هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الملاعنة أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى ألا قوت لها ولا سكنى: من أجل أنهما يتصرفان من غير طلاق ولا متوفى عنها ". رواه أحمد وأبو داود. إلحاق الولد بأمه: إذا نفى الرجل ابنه، وتم اللعان بنفيه له. انتفى نسبه من أبيه وسقطت نفقته عنه، وانتفى التوارث بينهما، ولحق بأمه، فهي ترثه وهو يرثها، لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين ". أخرجه أحمد. ويؤيد هذا الحديث الادلة الدالة على أن الولد للفراش. ولا فراش هنا: لنفي الزوج إياه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وأما من رماها به اعتبر قاذفا، وجلد ثمانين جلدة، لان الملاعنة داخلة في المحصنات، ولم يثبت عليها ما يخالف ذلك، فيجب على من رماها بابنها حد القذف، ومن قذف ولدها يجب حده، كمن قذف أمه سواء بسواء. وهذا بالنسبة للاحكام التي تلزمه. أما بالنسبة للاحكام التي شرعها الله للكافة. فإنه يعامل كأنه ابنه من باب الاحتياط فلا يعطيه زكاة ماله، ولو قتله لاقصاص عليه، وتثبت المحرمية بينه وبين أولاده، ولا تجوز شهادة كل منهما للاخر، ولا يعد مجهول النسب، فلا يصح أن يدعيه غيره، وإذا كذب نفسه ثبت نسب الولد منه، ويزول كل أثر للعان بالنسبة للولد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 العدة : (1) تعريفها: العدة: مأخوذة من العد والاحصاء: أي ما تحصيه المرأة وتعده من الايام والاقراء. وهي اسم للمدة التي تنتظر فيها المرأة وتمتنع عن التزويج بعد وفاة زوجها، أو فراقه لها (1) . وكانت العدة معروفة في الجاهلية. وكانوا لا يكادون يتركونها. فلما جاء الاسلام أقرها لما فيها من مصالح. وأجمع العلماء على وجوبها، لقول الله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: " اعتدي في بيت أم مكتوم ". (2) حكمة مشروعيتها: ا - معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الانساب بعضها ببعض. ب - تهيئة فرصة للزوجين لاعادة الحياة الزوجية إن رأيا أن الخير في ذلك. ح - التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لم يكن أمرا ينتظم إلا بجمع الرجال، ولا ينفك إلا بانتظار طويل. ولولا ذلك لكان بمنزلة لعب الصبيان ينظم ثم يفك في الساعة. د - أن مصالح النكاح لا تتم حتى يوطنا أنفسهما على إدامة هذا العقد ظاهرا، فإن حدث حادث يوجب فك النظام لم يكن بد من تحقيق صورة الادامة في الجملة بأن تتربص مدة تجد لتربصها بالا، وتقاسى لها عناء (3) .   (1) احتساب العدة يبدأ من حين وجود سببها، وهو الطلاق أو الوفاة. (2) سورة البقرة 228 (3) من " حجة الله البالغة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 أنواع العدة: 1 - عدة المرأة التي تحيض، وهي ثلاث حيض. 2 - عدة المرأة التي يئست من الحيض وهي ثلاثة أشهر. 3 - عدة المرأة التي مات عنها زوجها، وهي أربعة أشهر وعشرا، ما لم تكن حاملا. 4 - عدة الحامل حتى تضع حملها. وهذا إجمال نفصله فيما يلي: الزوجة إما أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها. عدة غير المدخول بها: والزوجة غير المدخول بها إن طلقت فلا عدة عليها لقول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (1) فما لكم عليهن من عدة تعتدونها (2) ". فإن كانت غير مدخول بها، وقد مات عنها زوجها فعليها العدة، كما لو كان قد دخل بها، لقوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " (3) . وإنما وجبت العدة عليها وإن لم يدخل بها وفاء للزوج المتوفى ومراعاة لحقه. عدة المدخول بها (4) : وأما المدخول بها، فإما أن تكون من ذوات الحيض، أو من غير ذوات الحيض:   (1) المس: الدخول. (2) سورة الاحزاب: آية 49. (3) سورة البقرة: الاية 234، وحكمة التحديد بهذه المدة لانها التي تكمل فيها خلقة الولد وينفخ فيه الروح بعد مضي 120 يوما، وهي زيادة على أربع أشهر لنقصان الاهلة فجبر الكسر إلى العقد على طريق الاحتياط، وذكر العشر مؤنثا لارادة الليالي. والمراد مع أيامها عند الجمهور. فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة. (4) يرى الاحناف والحنابلة والخلفاء الراشدون أن المقصود بالدخول الدخول حقيقة أو حكما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 عدة الحائض : فإن كانت من ذوات الحيض فعدتها ثلاثة قروء، لقول الله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ". والقروء جمع قرء. والقرء: الحيض. ورجح ذلك ابن القيم، فقال: إن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع إلا للحيض. ولم يجئ عنه في موضع واحد استعماله للطهر. فحمله في الاية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى، بل يتعين. فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: " دعي الصلاة أيام إقرائك " وهو صلى الله عليه وسلم المعبر عن الله، وبلغة قومه نزل القرآن. فإذا أورد المشترك في كلامه على أحد معنييه، وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الاخر في شئ من كلامه البتة. ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها، وإن كان له معنى آخر في كلام غيره، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن هذا لغته، فيتعين حمله عليها في كلامه. ويدل على ذلك ما في سياق الاية من قوله تعالى: " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ". وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين. والمخلوق في الرحم إنما هو الحيض الوجودي. وبهذا قال السلف والخلف، ولم يقل أحد إنه الطهر. وأيضا فقد قال سبحانه: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر. واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن (1) ". فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر والحيض. وقال في موضع آخر قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن ". معناه: لاستقبال عدتهن، لا فيها، وإذا كانت العدة التي يطلق لها   أي أن الخلوة الصحيحة تعتبر دخولا تجب بها العدة، وعند الشافعي في المذهب الجديد أن الخلوة لا تجب بها العدة. (1) سورة الطلاق آية 4 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 النساء مستقبلة بعد الطلاق، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض، فإن الطاهر لا تستقبل الطهر، إذ هي فيه، وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها (1) . أقل مدة للاعتداد بالاقراء : قالت الشافعية: وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالاقراء: إثنان وثلاثون يوما وساعة، وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى من الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءا، ثم تحيض يوما، ثم تطهر خمسة عشر يوما، وهو القرء الثاني، ثم تحيض يوما، ثم تطهر خمسة عشر يوما، وهو القرء الثالث. فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها. وأما أبو حنيفة فأقل مدة عنده ستون يوما، وعند صاحبيه تسعة وثلاثون يوما. فهي تبدأ عند الامام أبي حنيفة بالحيض عشرة أيام، وهي أكثر مدته، ثم بالطهر خمسة عشر يوما، ثم بالحيض عشرة والطهر خمسة عشر، ثم بالحيضة الثالثة، ومدتها عشرة أيام، فيكون المجموع ستين يوما، فإذا مضت هذه المدة وادعت أن عدتها انتهت صدقت بيمينها، وصارت حلالا لزوج آخر. أما الصاحبان فيحسبان لكل حيضة ثلاثة أيام، وهي أقل مدته، ويحسبان لكل من الطهرين المتخللين للحيضات الثلاث خمسة عشر يوما، فيكون المجموع 39 يوما (2) . عدة غير الحائض : وإن كانت من غير ذوات الحيض، فعدتها ثلاثة أشهر، ويصدق ذلك على الصغيرة التي لم تبلغ، والكبيرة التي لا تحيض سواء أكان الحيض لم يسبق لها، أو انقطع حيضها بعد وجوده. لقول الله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن (3) ".   (1) زاد المعاد: الجزء الثالث ص 96. (2) " زاد المعاد ج 4 ص 208 ". (3) سورة الطلاق آية 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 روى ابن أبي هاشم في تفسيره عن عمر بن سالم عن أبي بن كعب، قال: قلت: يا رسول الله: إن أناسا بالمدينة يقولون في عدد النساء، ما لم يذكر الله في القرآن، الصغار والكبار وأولات الاحمال، فأنزل الله سبحانه في هذه السورة: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ". فأجل إحداهن أن تضع حملها، فإذا وضعت فقد قضت عدتها. ولفظ جرير، قلت يا رسول الله إن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الاية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدد النساء عدد لم يذكرن في القرآن: الصغار والكبار التي قد انقطع عنها الحيض وذوات الحمل قال: فأنزلت التي في النساء القصرى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ". وعن سعيد بن جبير في قوله " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " يعني الايسة العجوز التي لا تحيض، أو المرأة التي قعدت من الحيضة، فليست هذه من القروء في شئ. وفي قوله " إن ارتبتم " في الاية، يعني إن شككتم، " فعدتهن ثلاثة أشهر "، وعن مجاهد: إن ارتبتم ولم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيض، أو التي لم تحض فعدتهن ثلاثة أشهر. فقوله تعالى " إن ارتبتم " يعني إن سألتم عن حكمهن ولم تعلموا حكمهن وشككتم فيه فقد بينه الله لكم. حكم المرأة الحائض إذا لم تر الحيض: إذا طلقت المرأة وهي من ذوات الاقراء. ثم إنها لم تر الحيض في عادتها، ولم تدر ما سببه، فإنها تعتد سنة: تتربص مدة تسعة أشهر لتعلم براءة رحمها، لان هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها، علم براءة الرحم ظاهرا، ثم تعتد بعد ذلك عدة الايسات ثلاثة أشهر، وهذا ما قضى به عمر رضي الله عنه. قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والانصار، لا ينكره منهم منكر علمناه. سن اليأس : اختلف العلماء في سن اليأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فقال بعضهم: إنها خمسون، وقال آخرون: إنها ستون، والحق أن ذلك يختلف باختلاف النساء. قال شيخ الاسلام ابن تيمية: اليأس مختلف باختلاف النساء، وليس له حد يتفق عليه النساء. والمراد بالاية أن إياس كل امرأة من نفسها، لان اليأس ضد الرجاء. فإذا كانت المرأة قد يئست من المحيض ولم ترجه، فهي آيسة وإن كان لها أربعون أو نحوها، وغيرها لا تيأس منه وإن كان لها خمسون (1) . عدة الحامل : وعدة الحامل تنتهي بوضع الحمل، سواء أكانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها، لقول الله تعالى: " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن (2) " قال في زاد المعاد: ودل قوله سبحانه: " أجلهن أن يضعن حملهن " على أنها إذا كانت حاملا بتو أمين لم تنقض العدة حتى تضعهما جميعا. ودلت على أن من عليها الاستبراء فعدتها وضع الحمل أيضا. ودلت على أن العدة تنقضي بوضعه على أي صفة كان، حيا أو ميتا، تام الخلقة أو ناقصها، نفخ فيه الروح أو لم ينفخ. عن سبيعة الاسلمية أنها كانت تحت سعد بن حواله وهو ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب (3) أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت (4) من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: مالي أراك متجملة، لعلك ترتجين (5) النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني   (1) ص 206 ج 4 زاد المعاد (2) سورة الطلاق آية 4. (3) ننشب: نلبث. (4) طهرت من دمها. (5) تطلبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدالي. وقال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. والعلماء يجعلون قول الله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا (1) " خاصة بعدد الحوائل (2) ، ويجعلون قول الله تعالى في سورة الطلاق: " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " في عدد الحوامل فليست الاية الثانية معارضة للاولى. عدة المتوفى عنها زوجها : والمتوفى عنها زوجها عدتها أربعة أشهر وعشرا، ما لم تكن حاملا، لقول الله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ". وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعد الوفاة، لانه توفي عنها وهي زوجته. عدة المستحاضة: المستحاضة تعتد بالحيض. ثم إن كانت لها عادة فعليها أن تراعي عادتها في الحيض والطهر، فإذا مضت ثلاث حيض انتهت العدة، وإن كانت آيسة انتهت عدتها بثلاثة أشهر. وجوب العدة في غير الزواج الصحيح : من وطئ امرأة بشبهة وجبت عليها العدة، لان وطء الشبهة كالوطء في النكاح في النسب، فكان كالوطء في النكاح في إيجاب العدة. وكذلك تجب العدة في زواج فاسد إذا تحقق الدخول (3) . ومن زنى بامرأة لم تجب عليها   (1) سورة البقرة آية 234. (2) الحوائل: غير الحوامل. (3) قالت الظاهرية: لا تجب العدة في النكاح الفاسد، ولو بعد الدخول، لعدم دليل على إيجابها من الكتاب والسنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 العدة، لان العدة لحفظ النسب، والزاني لايلحقه نسب، وهو رأي الاحناف والشافعية والثوري، وهو رأي أبي بكر وعمر. وقال مالك وأحمد: عليها العدة، وهل عدتها ثلاث حيض أو حيضة تستبرى بها؟ روايتان عن أحمد. تحول العدة من الحيض إلى العدة بالاشهر: إذا طلق الرجل زوجته وهي من ذوات الحيض، ثم مات وهي في العدة، فإن كان الطلاق رجعيا، فإن عليها أن تعتد عدة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشرا، لانها لا تزال زوجة له، ولان الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجة، ولذلك يثبت التوارث بينهما إذا توفي أحدهما وهي في العدة. وإن كان الطلاق بائنا فإنها تكمل عدة الطلاق بالحيض ولا تتحول العدة إلى عدة الوفاة، وذلك لانقطاع الزوجية بين الزوجين من وقت الطلاق، لان الطلاق البائن يزيل الزوجية، فتكون الوفاة حدثت وهو غير زوج، ولذلك لا يرث أحدهما صاحبه إذا توفي أحدهما وهي في العدة إلا إذا اعتبر فارا. طلاق الفار : وطلاق الفار أن يطلق المريض مرض الموت امرأته طلاقا بائنا بغير رضاها، ثم يموت وهي في العدة، فإنه يعتبر في هذه الحال فارا من الميراث، ولهذا قال مالك " ترث ولو مات بعد انقضاء عدتها وبعد نكاح زوج آخر، معاملة له بنقيض قصده. ويرى أبو حنيفة ومحمد أن الحكم في هذه الحال يتغير، فتكون عدتها أطول الاجلين: عدة الطلاق أو عدة الوفاة، فإن كانت عدة الطلاق أطول، اعتدت بها، وإن كانت عدة الوفاة هي الاطول، كانت هي العدة. أي إذا انقضت الحيضات الثلاث في أكثر من أربعة أشهر وعشر اعتدت بها، وإن كانت الاربعة أشهر وعشر أكثر من مدة الحيضات الثلاث اعتدت بها. وذلك كي لا تحرم المرأة من حقها في الميراث الذي أراد الزوج الفرار منه بالطلاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وعند أبي يوسف أن المطلقة في هذه الحال تعتد عدة الطلاق وإن كانت مدتها أقل من أربعة أشهر وعشر. ويرى الشافعي في أظهر قوليه: أنها لا ترث كالمطلقة طلاقا بائنا في الصحة. وحجته أن الزوجية قد انتهت بالطلاق قبل الموت فقد زال السبب في الميراث. ولا عبرة بمظنة الفرار، لان الاحكام الشرعية تناط بالاسباب الظاهرة لا بالنيات الخفية. واتفقوا على أنه إن أبانها في مرضه فماتت المرأة فلا ميراث له. وكذلك تتحول العدة من الحيض إلى الاشهر في حق من حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست من الحيض فإنها حينئذ يجب عليها أن تعتد بثلاثة أشهر، لان إكمال العدة بالحيض غير ممكن، لانقطاعه، ويمكن إكمالها باستئنافها بالشهور والشهور بدل عن الحيض. تحول العدة من الاشهر إلى الحيض: إذا شرعت المرأة في العدة بالشهور لصغرها أو لبلوغها سن الاياس ثم حاضت، لزمها الانتقال إلى الحيض. لان الشهور بدل عن الحيض فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها. وإن انقضت عدتها بالشهور، ثم حاضت، لم يلزمها الاستئناف للعدة بالاقراء، لان هذا حدث بعد انقضاء العدة. وإن شرعت في العدة بالاقراء أو الاشهر، ثم ظهر لها حمل من الزوج، فإن العدة تتحول إلى وضع الحمل، والحمل دليل على براءة الرحم من جهة القطع. إنقضاء العدة : إذا كانت المرأة حاملا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل، وإذا كانت العدة بالاشهر، فإنها تحتسب من وقت (1) الفرقة أو الوفاة حتى تستكمل ثلاثة   (1) مذهب مالك والشافعي أن الطلاق إن وقع في أثناء الشهر اعتدت بقيته، ثم اعتدت شهرين، بالاهلة، ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما. وقال أبو حنيفة: تحتسب بقية الاول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الاول تاما كان أم ناقصا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 أشهر أو أربعة أشهر وعشرا، وإذا كانت بالحيض فإنها تنقضي بثلاث حيضات وذلك يعرف من جهة المرأة نفسها (1) لزوم المعتدة بيت الزوجية : يجب على المعتدة أن تلزم بيت الزوجية حتى تنقضي عدتها، ولا يحل لها أن تخرج منه، ولا يحل لزوجها أن يخرجها منه، ولو وقع الطلاق أن حصلت الفرقة وهي غير موجودة في بيت الزوجية وجب عليها أن تعود إليه بمجرد علمها: يقول الله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة (2) ، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " (3) . وعن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا (4) ، حتى إذا كانوا بطرف القدوم (5) لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولانفقة؟، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قالت: فخرجت حتى إذا كنت في   (1) كانت بعض النساء تكذب وتدعي أن عدتها لم تنقض وأنها لم تر الحيضات الثلاث لتطول العدة ولتتمكن من أخذ النفقة مدة طويلة، وكان ذلك مثارا لشكوى الرجال، فتدارك القانون رقم 25 لسنة 1929 هذه الحال، فجاء في المادة 17 منه ما نصه: " لا تسمع الدعوى لنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق ". وجاء في المذكرة الايضاحية لهذه المادة: " فقطعا لهذه الادعاءات الباطلة، وبناء على ما قرره الاطباء من أن أكثر مدة الحمل سنة وضعت الفقرة الاولى من المادة 17 ومنعت المعتدة من دعواها نفقة العدة لاكثر من سنة من تاريخ الطلاق، فتقرر بذلك مدة استحقاق النفقة، وليس معناه تحديد مدة العدة شرعا، فان مدة العدة ثلاث حيضات ". (2) سورة الطلاق الاية 1. (3) قال ابن عباس: الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها فإذا بذت على الاهل حل إخراجها. (4) هربوا. (5) موضع على ستة أميال من المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمربي فدعيت له فقال: كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فأتبعه وقضى به. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح. وكان عمر يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء ويمنعهن الحج. ويستثنى من ذلك المرأة البدوية إذا توفي عنها زوجها فإنها ترتحل مع أهلها إذ اكان أهلها من أهل الارتحال. وخالف في ذلك عائشة وابن عباس وجابر بن زيد والحسن وعطاء، وروي عن علي وجابر. فقد كانت عائشة تفتي المتوفى عنها زوجها بالخروج في عدتها وخرجت بأختها أم كلثوم، حين قتل عنها طلحة بن عبد الله إلى مكة في عمرة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء عن ابن عباس أنه قال: إنما قال الله عزوجل: تعتد أربعة أشهر وعشرا، ولم يقل تعتد في بيتها، فتعتد حيث شاءت. وروى أبو داود عن ابن عباس أيضا قال: نسخت هذه الاية عدتها عند أهله، وسكتت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى: " فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن (1) " قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت. اختلاف الفقهاء في خروج المرأة في العدة: وقد اختلف الفقهاء في خروج المرأة في العدة. فذهب الاحناف إلى أنه لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروج من بيتها ليلا ولانهارا. وأما المتوفى عنها زوجها فتخرج نهارا وبعض الليل، ولكن لا تبيت إلا في منزلها. قالوا: والفرق بينهما أن المطلقة نفقتها في مال زوجها، فلا يجوز لها   (1) سورة البقرة آية. 24 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها زوجها فإنها لانفقة لها، فلابد أن تخرج بالنهار لاصلاح حالها. قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حال وقوع الفرقة. وقالوا: فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها، أو أخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت، لان هذا عذر، والكون في بيتها عبادة، والعبادة تسقط بالعذر، وعندهم: ان عجزت عن كراء البيت الذي هي فيه لكثرته، فلها أن تنتقل إلى بيت أقل كراء منه. وهذا من كلامهم يدل على أن أجرة المسكن عليها. وإنما تسقط السكنى عنها لعجزها عن أجرته، ولهذا صرحوا بأنها تسكن في نصيبها من التركة إن كفاها. وهذا لانه لاسكنى عندهم للمتوفى عنها زوجها - حاملا كانت أو حائلا - (1) وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي توفي زوجها وهي فيه، ليلا ونهارا. فإن بدله لها الورثة، وإلا كانت الاجرة عليها. ومذهب الحنابلة جواز بالخروج نهارا، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها. قال ابن قدامة: وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا، سواء كانت مطلقة أو متوفي عنها زوجها، قال جابر: طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد (2) نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا " رواه النسائي وأبو داود، وروى مجاهد، قال: استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله، وقلن: يارسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا؟ فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال: " تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ". وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا إلا لضرورة، لان الليل   (1) وعند الحنابلة لاسكنى لها إذا كانت حائلا، وإن كانت حاملا ففي روايتين. وللشافعي قولان. وعند مالك أن لها السكنى. (2) تجذ: تقطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإن فيه قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه. حداد المعتدة : يجب على المرأة أن تحد على زوجها المتوفى مدة العدة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء واختلفوا في المطلقة طلاقا بائنا. فقال الاحناف: يجب عليها الاحداد. وذهب غيرهم إلى أنه لا حداد عليها. وتقدم في المجلد الاول حقيقة الحداد (1) . نفقة المعتدة : اتفق الفقهاء على أن المطلقة طلاقا رجعيا تستحق النفقة والسكنى. واختلفوا في المبتوتة؟ فقال أبو حنيفة: لها النفقة والسكنى مثل المطلقة الرجعية، لانها مكلفة بقضاء مدة العدة في بيت الزوجية، فهي محتبسة لحقه عليها فتجب لها النفقة، وتعتبر هذه النفقة دينا صحيحا من وقت الطلاق، ولا تتوقف على التراضي ولاقضاء القاضي، ولا يسقط هذا الدين إلا بالاداء أو الابراء. وقال أحمد: لا نفقة لها ولاسكنى، لحديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها البتة، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليس لك عليه نفقة ". وقال الشافعي ومالك: لها السكنى بكل حال ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، لان عائشة وابن المسيب أنكرا على فاطمة بنت قيس حديثها، قال مالك: سمعت ابن شهاب يقول: المبتوتة لا تخرج من بيتها حتى تحل، وليست لها نفقة، إلا أن تكون حاملا فينفق عليها حتى تضع حملها، ثم قال: وهذا الامر عندنا.   (1) المجلد الاول صفحة 507 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 الحضانة : معناها: الحضانة مأخوذة من الحيض، وهو ما دون الابط إلى الكشح، وحضنا الشئ جانباه، وحضن الطائر بيضه إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحه، وكذلك المرأة إذا ضمت ولدها. وعرفها الفقهاء: بأنها عبارة عن القيام بحفظ الصغير، أو الصغيرة (1) ، أو المعتوه الذي لا يميز ولا يستقل بأمره، وتعهده بما يصلحه، ووقايته مما يوذيه ويضره، وتربيته جسميا ونفسيا وعقليا، كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسئولياتها. والحضانة بالنسبة للصغير أو للصغيرة واجبة، لان الاهمال فيها يعرض الطفل للهلاك والضياع. الحضانة حق مشترك: الحضانة حق للصغير لاحتياجه إلى من يرعاه، ويحفظه، ويقوم على شئونه، ويتولى تربيته. ولامه الحق في احتضانه كذلك، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ". وإذا كانت الحضانة حقا للصغير فإن الام تجبر عليها إذا تعينت بأن يحتاج الطفل إليها ولم يوجد غيرها، كي لا يضيع حقه في التربية والتأديب.   (1) ولابد من الصغر أو العته في إيجاب الحضانة أما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه، وله الخيار في الاقامة عند من شاء من أبويه، فان كان ذكرا فله الانفراد بنفسه، لاستغنائه عنهما ويستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما، وإن كانت جارته لم يكن لها الانفراد ولابيها منعها منه لانه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها، فإن لم يكن لها أب فلوليها وأهلها منعها من ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فإن لم تتعين الحضانة بأن كان للطفل جدة ورضيت بإمساكه وامتنعت الام فإن حقها في الحضانة يسقط بإسقاطها إياه، لان الحضانة حق لها. وقد جاء في بعض الاحكام التي أصدرها القضاء الشرعي ما يؤيد هذا، فقد أصدرت محكمة جرجا في 23 / 7 / 1933 ما يلي: " إن لكل من الحاضنة والمحضون حقا في الحضانة، إلا أن حق المحضون أقوى من حق الحاضنة، وإن إسقاط الحاضنة حقها لا يسقط حق الصغير ". وجاء في حكم محكمة العياط في 7 أكتوبر سنة 1928: " إن تبرع غير الام بنفقة المحضون الرضيع لا يسقط حقها في حضانة هذا الرضيع، بل يبقى في يدها ولا ينزع منها مادام رضيعا. وذلك حتى لا يضار الصغير بحرمانه من أمه التي هي أشفق الناس عليه وأكثرهم صبرا على خدمته (1) ". الأم أحق بالولد من أبيه : أسمى لون من ألوان التربية هو تربية الطفل في أحضان والديه، إذ ينال من رعايتهما وحسن قيامهما عليه ما يبني جسمه وينمي عقله، ويزكي نفسه ويعده لحياة. فإذا حدث ان افترق الوالدان وبينهما طفل، فالام أحق به من الاب، ما لم يقم بالام مانع يمنع تقديمها (2) ، أو بالولد وصف يقتضي تخييره (3) . وسبب تقديم الام أن لها ولاية الحضانة والرضاع، لانها أعرف بالتربية وأقدر عليها، ولها من الصبر في هذه الناحية ما ليس للرجل، وعندها من الوقت ما ليس عنده، لهذا قدمت الام رعاية لمصلحة الطفل. فعن عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يارسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء (4) ، وحجري له حواء (5) وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: " أنت أحق به ما لم تنكحي ".   (1) أحكام الاحوال الشخصية للدكتور مخمد يوسف موسى. (2) بأن لا تتوفر فيها الشروط التي يجب توفرها في الحاضنة. (3) وهو الاستغناء عن خدمة النساء. (4) الوعاء: الاناء. (5) الحجر: الحضن، وحواء: أي يحويه ويحيط به، والسقاء: وعاء الشرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 اخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه. وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كانت عند عمربن الخطاب امرأة من الانصار، فولدت له عاصم بن عمر، ثم إن عمر فارقها، فجاء عسر قباء - فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد. فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق. فقال عمر: ابني، وقالت المرأة: ابني. فقال أبو بكر: خل بينها وبينه. فما راجعه عمر الكلام (1) . رواه مالك في الموطأ. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مشهور من وجوه منقطعة ومتصلة، تلقاه أهل العلم بالقبول. وفي بعض الروايات أنه قال له: " الام أعطف وألطف وأرحم وأحنى وأخير وأرأف، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج ". وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من كون الام أعطف وألطف هو العلة في أحقية الام بولدها الصغير. ترتيب أصحاب الحقوق في الحضانة: وإذا كانت الحضانة للام ابتداء فقد لاحظ الفقهاء أن قرابة الام تقدم على قرابة الاب، وأن الترتيب بين أصحاب الحق في الحضانة يكون على هذا النحو. الام: فإذا وجد مانع يمنع تقديمها (2) انتقلت الحضانة إلى أم الام، وإن علت. فإن وجد مانع انتقلت إلى أم الاب، ثم إلى الاخت الشقيقة. ثم الاخت لام، ثم الاخت لاب، ثم بنت الاخت الشقيقة فبنت الاخت لام. ثم الخالة الشقيقة، فالخالة لام. فالخالة لاب. ثم بنت الاخت لاب. ثم بنت الاخ الشقيق، فبنت الاخ لام، فبنت الاخ لاب، ثم العمة الشقيقة، فالعمة   (1) وكان مذهب عمر مخالفا لمذهب أبي بكر، ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والامضاء، ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي. ولم يخالف مذهب أبي بكر مادام الصبي لا يميز، ولا مخالف لهما من الصحابة، أفاده ابن القيم. (2) كأن فقدت شرطا من شروط الحضانة التي ستأتي بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 لام فالعمة لاب، ثم خالة الام، فخالة الاب، فعمة الام، فعمة الاب، بتقديم الشقيقة في كل منهن. فإذا لم توجد للصغير قريبات من هذه المحارم، أو وجدت وليست أهلا للحضانة، انتقلت الحضانة إلى العصبات من المحارم، من الرجال على حسب الترتيب في الارث. فينتقل حق الحضانة إلى الاب، ثم أبي أبيه، وإن علا، ثم إلى الاخ الشقيق، ثم إلى الاخ الاب، ثم ابن الاخ الشقيق، ثم ابن الاخ الاب، ثم الغم الشقيق، فالعم لاب، ثم عم أبيه الشقيق، ثم عم أبيه لاب. فإذا لم يوجد من عصبته من الرجال المحارم أحد، أو وجد وليس أهلا للحضانة، انتقل حق الحضانة إلى محارمه من الرجال غير العصبة. فيكون للجد لام، ثم للاخ لام، ثم لابن الاخ لام، ثم للعم لام، ثم للخال الشقيق، فالخال لاب، فالخال لام. فإذا لم يكن للصغير قريب عين القاضي له حاضنة تقوم بتربيته. وإنما كان ترتيب الحضانة على هذا النحو، لان حضانة الطفل أمر لابد منه، وأولى الناس به قرابته، وبعض القرابة أولى من بعض. فيقدم الاولياء لكون ولاية النظر في مصالحه إليهم ابتداءا، فإذا لم يكونوا موجودين، أو كانوا ووجد ما يمنعهم من الحضانة، انتقلت إلى الاقرب فالاقرب. فإن لم يكن ثمة قريب، فإن الحاكم مسئول عن تعيين من يصلح للحضانة. شروط الحضانة : يشترط في الحاضنة التي تتولى تربية الصغير وتقوم على شئونه، الكفاءة والقدرة على الاضطلاع بهذه المهمة، وإنما تتحقق القدرة والكفاءة بتوفر شروط معينة، فإذا لم يتوفر شرط منها سقطت الحضانة، وهذه الشروط هي: 1 - العقل: فلا حضانة لمعتوه، ولا مجنون، وكلاهما لايستطيع القيام بتدبير نفسه، فلا يفوض له أمر تدبير غيره، لان فاقد الشئ لايعطيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 2 - البلوغ: لان الصغير ولو كان مميزا في حاجة إلى من يتولى أمره ويحضنه، فلا يتولى هو أمر غيره. 3 - القدرة على التربية: فلا حضانة لكفيفة، أو ضعيفة البصر، ولا لمريضة مرضا معديا، أو مرضا يعجزها عن القيام بشئونه، ولا لمتقدمة في السن تقدما يحوجها إلى رعاية غيرها لها. ولا لمهملة لشئون بيتها كثيرة المغادرة له، بحيث يخشى من هذا الاهمال ضياع الطفل وإلحاق الضرر به. أو لقاطنة مع مريض مرضا معديا، أو مع من يبغض الطفل، ولو كان قريبا له، حيث لا تتوفر له الرعاية الكافية، ولا الجو الصالح. 4 - الامانة والخلق: لان الفاسقة غير مأمونة على الصغير ولا يوثق بها في أداء واجب الحضانة، وربما نشأ على طريقتها ومتخلقا بأخلاقها، وقد ناقش ابن القيم هذا الشرط فقال: " مع أن الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعا وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي رحمهما الله وغيرهم. واشتراطها في غاية البعد. ولو اشترط في الحاضن العدالة لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الامة، واشتد العنت ولم يزل من حين قام الاسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم، لا يتعرض لهم أحد في الدنيا مع كونهم هم الاكثرين، ومتى وقع في الاسلام انتزاع الطفل من أبويه أو أحدهما بفسقه، وهذا في الحرج والعسر واستمرار العمل المتصل في سائر الامصار والاعصار على خلافة بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائم الوقوع في الامصار والاعصار والقرى والبوادي مع أن أكثر الاولياء الذين يلون ذلك فساق، ولم يزل الفسق في الناس. " ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة فاسقا في تربية ابنه وحضانته له، ولامن تزويجه موليته. والعادة شاهدة بأن الرجل لو كان من الفساق فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها. ويحرص على الخير لها بجهده وإن قدر خلاف ذلك فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد. والشارع يكتفي في ذلك على الباعث الطبيعي. ولو كان الفاسق مسلوب الحضانة وولاية النكاح لكان بيان هذا للامة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 أهم الامور واعتناء الامة بنقله وتوارث العمل به مقدما على كثير مما نقلوه وتوارثوا العمل به. فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العمل بخلافه، ولو كان الفسق ينافي الحضانة، لكان من زنى، أو شرب الخمر، أو أتى كبيرة فرق بينه وبين أولاده الصغار والتمس لهم غيره. والله أعلم. 5 - الاسلام: فلا تثبت الحضانة للحاضنة الكافرة للصغير المسلم، لان الحضانة ولاية، ولم يجعل الله ولاية للكافر، على المؤمن " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (1) "، فهي كولاية الزواج والمال، ولانه يخشى على دينه من الحاضنة لحرصها على تنشئته على دينها، وتربيته على هذا الدين، ويصعب عليه بعد ذلك أن يتحول عنه، وهذا أعظم ضرر يلحق بالطفل ففي الحديث: " كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " وذهب الاحناف وابن القاسم من المالكية وأبو ثور إلى أن الحضانة تثبت للحاضنة مع كفرها وإسلام الولد لان الحضانة لا تتجاوز رضاع الطفل وخدمته، وكلاهما يجوز من الكافرة. وروى أبو داود والنسائي: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي - وهي فطيم. أو شبهه، وقال رافع: ابنتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم أهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها (2) ..والاحناف وإن رأوا جواز حضانة الكافرة، إلا أنهم اشترطوا: أن لا تكون مرتدة، لان المرتدة عندهم تستحق الحبس حتى تتوب وتعود إلى الاسلام أو تموت في الحبس، فلا تتاح لها الفرصة لحضانة الطفل، فإن تابت وعادت عاد لها حق الحضانة (3) .   (1) سورة النساء آية 141. (2) ضعف العلماء هذا الحديث وقال ابن المنذر: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته فكان ذلك خاصا في حقه. (3) وكذلك يعود حق الحضانة إذا سقط لسبب وزال هذا السبب الذي كان علة في سقوطه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 6 - أن لا تكون متزوجة: فإذا تزوجت سقط حقها في الحضانة. لما رواه عبد الله بن عمرو " أن امرأة قالت: يا رسول الله أن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: " أنت أحق به ما لم تنكحي " أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه. وهذا الحكم بالنسبة للمتزوجة بأجنبي فإن تزوجت بقريب محرم من الصغير، مثل عمه، فإن حضانتها لا تسقط، لان العم صاحب حق في الحضانة وله من صلته بالطفل وقرابته منه ما يحمله على الشفقة عليه ورعاية حقه فيتم بينهما التعاون على كفالته. بخلاف الاجنبي. فإنها إذا تزوجته فإنه لا يعطف عليه ولا يمكنها من العناية به. فلا يجد الجو الرحيم ولاالتنفس الطبيعي ولا الظروف التي تنمي ملكاته ومواهبه. ويرى الحسن وابن حزم أن الحضانة لا تسقط بالتزويج بحال. 7 - الحرية: إذ أن المملوك مشغول بحق سيده فلا يتفرغ لحضانة الطفل. قال ابن القيم: وأما اشتراط الحرية فلا ينتهض عليه دليل يركن القلب إليه، وقد اشترط أصحاب الائمة الثلاث. وقال مالك رحمه الله في حر له ولد من أمة: " إن الام أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الاب أحق به " وهذا هو الصحيح. أجرة الحضانة: أجرة الحضانة مثل أجرة الرضاع، لا تستحقها الام مادامت زوجة، أو معتدة، لان لها نفقة الزوجية، أو نفقة العدة، إذا كانت زوجة أو معتدة. قال الله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له (1) رزقهن وكسوتهن بالمعروف ". أما بعد انقضاء العدة فإنها تستحق الاجرة كما تستحق أجرة الرضاع،   (1) سورة البقرة 223 - وفي هذا دلالة على أن الوالدة لا تستحق الاجرة مادامت زوجة أو معتدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 لقول الله سبحانه: " فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، وأتمروا بينكم بمعروف. وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " (1) . وغير الام تستحق أجرة الحضانة، من وقت حضانتها، مثل الظئر التي تستأجر لرضاع الصغير. وكما تجب أجرة الرضاع وأجرة الحضانة على الاب تجب عليه أجرة المسكن أو إعداده إذا لم يكن للام مسكن مملوك لها تحضن فيه الصغير. وكذلك تجب عليه أجرة خادم، أو إحضاره، إذا احتاجت إلى خادم وكان الاب موسرا. وهذا بخلاف نفقات الطفل الخاصة من طعام وكساء وفراش وعالج ونحو ذلك من حاجاته الاولية التي لا يستغني عنها، وهذه الاجرة تجب من حين قيام الحاضنة بها وتكون دينا في ذمة الاب لا يسقط إلا بالاداء أو الابراء. التبرع بالحضانة: إذا كان في أقرباء الطفل من هو أهل للحضانة وتبرع بحضانته وأبت أمه أن تحضنه إلا بأجرة. فإن كان الاب موسرا فإنه يجبر على دفع أجرة للام، ولا يعطى الصغير للمتبرعة، بل يبقى عند أمه، لان حضانة الام أصلح له، والاب قادر على إعطاء الاجرة. ويختلف الحكم في حالة ما إذا كان الاب معسرا فإنه يعطى للمتبرعة لعسره وعجزه عن أداء الاجرة مع وجود المتبرعة ممن هو أهل للحضانة من أقرباء الطفل. هذا إذا كانت النفقة واجبة على الاب. أما إذا كان للصغير مال ينفق منه عليه فإن الطفل يعطى للمتبرعة صيانة لماله من جهة، ولوجوده من يحضنه من أقاربه من جهة أخرى. وإذا كان الاب معسرا والصغير لا مال له، وأبت أمه أن تحضنه إلا   (1) سورة الطلاق آية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 بأجرة، ولا يوجد من محارمه متبرع بحضانته، فإن الام تجبر على حضانته، وتكون الاجرة دينا على الاب لا يسقط إلا بالاداء أو الابراء. انتهاء الحضانة : تنتهي الحضانة إذا استغنى الصغير أو الصغيرة عن خدمة النساء وبلغ سن التمييز والاستقلال، وقدر الواحد منهما على أن يقوم وحده بحاجاته الاولية بأن يأكل وحده، ويلبس وحده، وينظف نفسه وحده. وليس لذلك مدة معينة تنتهي بانتهائها. بل العبرة بالتمييز والاستغناء. فإذا ميز الصبي واستغنى عن خدمة النساء وقام بحاجاته الاولية وحده فإن حضانتها تنتهي. والمفتى به في المذهب الحنفي وغيره: أن مدة الحضانة تنتهي إذا أتم الغلام سبع سنين، وتنتهي كذلك إذا أتمت البنت تسع سنين. وإنما رأوا الزيادة بالنسبة للبنت الصغيرة لتتمكن من اعتياد عادات النساء من حاضنتها. وقد جاء تحديد سن الحضانة في القانون رقم 25 لسنة 1929 مادة 20 ما نصه: (وللقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى تسع. وللصغيرة بعد تسع سنين إلى إحدى عشرة سنة إذا تعين أن مصلحتها تقتضي ذلك) فتقدير مصلحة الصغير أو الصغيرة موكول للقاضي. وأوضحت المذكرة التفسيرية لهذا القانون هذه المادة بما نصه: " جرى العمل إلى الان، على أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ سن الصغير سبع سنين وبلوغ الصغيرة تسعا. وهي سن دلت التجاوب على أنها قد لا يستغني فيها الصغير والصغيرة عن الحضانة، فيكونان في خطر من ضمهما إلى غير النساء، خصوصا إذا كان والدهما متزوجا بغير أمهما. ولذلك كثرت شكوى النساء من انتزاع أولادهن منهن في ذلك الوقت، ولما كان المعول عليه في مذهب الحنفية أن الصغير يسلم إلى أبيه عند الاستغناء عن خدمة النساء، والصغيرة تسلم إليه عند بلوغ حد الشهوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وقد اختلف الفقهاء في تقدير السن التي يكون عندها الاستغناء بالنسبة للصغير. فقدرها بعضهم بسبع سنين، وبعضهم قدرها بتسع، وقدر بعضهم بلوغ حد الشهوة بتسع سنين، وبعضهم قدره بإحدى عشرة. رأت الوزارة أن المصلحة داعية إلى أن يكون للقاضي حرية النظر في تقدير مصلحة الصغير بعد سبع، والصغيرة بعد تسع. فإن رأى مصحلتهما في بقائهما تحت حضانة النساء فقضى بذلك إلى تسع في الصغير وإحدى عشرة في الصغيرة. وإن رأى مصلحتهما في غير ذلك قضى بضمهما إلى غير النساء (المادة 20) (1) في السودان: وقد قرر الاستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أن العمل في المحاكم الشرعية بالسودان كان جاريا على أن الولد تنتهي حضانته ببلوغه سبع سنين، والانثى ببلوغها تسع سنين، إلى أن صدر في السودان منشور شرعي رقم 34 في 12 \ 12 \ 1932 وجاء في المادة الاولى منه: " وللقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى البلوغ، وللصغيرة بعد تسع سنين إلى الدخول. إذا تبين أن مصلحتهما تقتضي ذلك. وللاب وسائر الاولياء تعهد المحضون عند الحاضنة وتأديبه وتعليمه ". ثم نص المنشور نفسه بعد ذلك في المادة الثانية منه على ما يأتي: " لا أجرة للحضانة بعد سبع سنين للصغير، وبعد تسع للصغيرة ".   (1) راجع مشروع قانون الاحوال الشخصية، ففي الفقرة الاولى من المادة 175 تقرر الحكم الذي جاء بالمادة 20 التي نحن بصددها، وفي الفقرة الثانية أن الحضانة تمتد من نفسها إذا كانت الحاضنة أما إلى 11 سنة للصغير و 13 للصغيرة ويجوز للقاضي مدها كذلك إذا كانت أم الام، كما أن له أن يأذن ببقاء الصغيرين مع الام أو أمها إلى سن الخامسة عشرة، ونحن نعتقد أن الخير في الوقوف عندما جاءت به المادة 20 من قانون 25 لسنة 29 وهو القانون المعمول به حتى اليوم. أحكام الاحوال الشخصية ص 416 للدكتور محمد يوسف موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وفي المادة الثالثة: لو زوج الاب المحضونة، قاصدا بتزويجها إسقاط الحضانة، فلا تسقط بالدخول حتى تطيق. وإذا رجعنا إلى النشرة العامة رقم 18 \ 6 \ 1942 الصادرة في الخرطوم في تاريخ 5 \ 12 \ 1942 نجدها شرحت هذه المواد السابقة وخلاصتها ما يأتي: 1 - أن المنشور الشرعي رقم 34 زاد سن حضانة الغلام إلى البلوغ، والبنت إلى الدخول، وهذا على غير ما عرف من مذهب أبي حنيفة، وهذه هي الحالة الخاصة التي خالف فيها المنشور مذهب أبي حنيفة. عملا بمذهب مالك. ويظهر أنها حالة استثنائية يلزم للسير فيها الاتي: 1 - لا يمد القاضي مدة الحضانة إلا إذا طلبت الحاضنة من المحكمة الاذن لها ببقاء المحضون بيدها، لان المصلحة تقتضي ذلك مع بيان المصلحة، أو تمانع في تسليم المحضون للعاصب لهذا السبب نفسه. فإذا لم يوافق العاصب على بقاء المحضون بيده الحاضنة تكلف الحاضنة تقديم أدلتها، أو تتولى المحكمة تحقيق وجه المصلحة للغلام أو البنت، فإذا لم تقدم أدلة، أو قدمت ولم تكن كافية للاثبات ولم يتضح للمحكمة أن المصلحة تقتضي بقاء المحضون بيد الحاضنة، فإن المحكمة تحلف العاصب اليمين بطلب الحاضنة فإن حلف على أن مصلحة المحضون لا تقتضي بقاءه بيد الحاضنة حكمت بتسليمه إليه، وإن نكل رفضت دعواه. 2 - أما إذا لم تعارض الحاضنة في ضم المحضون للعاصب أو لم تحضر أصلا فإنه يجب على المحكمة تطبيق أحكام مذهب الامام أبي حنيفة، ويسلم المحضون الذي جاوز سن الحضانة للعاصب متى كان أهلا لذلك، ولا يطالب بإثبات أن مصلحة المحضون تقتضي بذلك. 3 - إذا كانت الحاضنة غائبة عند طلب تسليم الصغيرة فلها أن تعارض في الحكم وتطلب بقاءه في يدها، وتتخذ المحكمة نفس الاجراءات التي اتبعت مع الحاضنة الحاضرة. 4 - إذا أفتت المحكمة ببقاء المحضون بين النساء لمصلحة تقتضي ذلك، ثم تغير وجه المصلحة، وعرض عليها النزاع مرة أخرى أجاز لها، بعد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 تتحق من أنه لم يبق للمحضون مصلحة تقتضي بقاءه بيد الحاضن إن تقرر نزعه وتسليمه للعاصب (1) . تخيير الصغير والصغيرة بعد انتهاء الحضانة: وإذا بلغ الصغير سبع سنين، أو سن التمييز وانتهت حضانته، فإن اتفق الاب والحاضنة على إقامته عند واحد منهما أمضي هذا الاتفاق. وإن اختلفا أو تنازعا، خير (2) الصغير بينهما، فمن اختاره منهما فهو أولى به، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله: ان زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة (3) ، وقد نفعني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أبوك وهذه أمك. فخذ بيد أيهما شئت ". فأخذ بيد أمه. فانطلقت به. رواه أبو داود. وقضى بذلك عمر وعلي وشريح، وهو مذهب الشافعي والحنابلة، فإن اختارهما، أو لم يختر واحدا منهما، قدم أحدهما بالقرعة. وقال أبو حنيفة: الاب أحق به ... ولا يصح التخيير، لانه لا قول له ولا يعرف حظه. وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته، فيؤدي إلى فساده ولانه دون البلوغ. فلم يخير كمن دون السابعة. وقال مالك: الام أحق به حتى يثغر. وهذا بالنسبة للصغير، أما الصغيرة فأنها تخير مثل الصغير عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: الام أحق بها حتى تزوج أو تبلغ. وقال مالك: الام أحق بها حتى تزوج ويدخل بها الزوج.   (1) الدكتور محمد يوسف موسى أحكام الاحوال الشخصية في الفقه ص 516 وما بعدها. (2) يشترط في تخيير الصغير: 1 - أن يكون المتنازعون فيه من أهل الحضانة. ب - ألا يكون الغلام معتوها. فان كان معتوها كانت الام أحق بكفالته ولو بعد البلوغ، لانه في هذه الحالة كالطفل والام أشفق عليه وأقوم بمصالحه كما في حال الطفولة. (3) بئر بعيدة عن المدينة نحو ميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وعند الحنابلة: الاب أحق بها من غير تخيير إذا بلغت تسعا، والام أحق بها إلى تسع سنين. والشرع ليس فيه نص عام في تقديم أحد الابوين مطقا، ولا تخيير الولد بين الابوين مطلقا..والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا. بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البار العادل المحسن. والمعتبر في ذلك القدرة على الحفظ والصيانة. فإن كان الاب مهملا لذلك، أو عاجزا عنه، أو غير مرض والام بخلافه فهي أحق بالحضانة، كما أفاده ابن القيم. قال: " فمن قدمناه بتخيير، أو قرعة، أو بنفسه، فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد ". ولو كانت الام أصون من الاب وأغير منه قدمت عليه ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار للصبي في هذه الحالة، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار من يساعده على ذلك لم يلتفت إلى اختياره، وكان عند من هو أنفع له وأخير، ولا تحتمل الشريعة غير هذا. والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ". والله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة (1) ". وقال الحسن: " علموهم. وأدبوهم، وفقهوهم ". فإذا كانت الام تتركه في المكتب وتعلمه القرآن، والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك. فإنها أحق به بلا تخيير ولا قرعة. وكذلك العكس. ومتى أخل أحد الابوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله، والآخر مراع له، فهو أحق وأولى به. قال: وسمعت شيخنا (2) رحمه الله يقول:   (1) سورة التحريم آية 6 (2) أي ابن تيمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 " تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام، فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: اسأله لاي شئ يختار أباه، فسأله. فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب، والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للام. قال: أنت أحق به. قال: قال شيخنا: وإذا ترك أحد الابوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله تعالى عليه، فهو عاص ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له. بل إما أن يرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب. إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الامكان. انتهى. الطفل بين أبيه وأمه : قال الشافعية: فإن كان ابنا فاختار الام كان عندها بالليل ويأخذه الاب بالنهار في مكتب أو صنعة، لان القصد حظ الولد، وحظ الولد فيما ذكرناه، وإن اختار الاب كان عنده بالليل والنهار، ولا يمنعه من زيارة أمه، لان المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم، فإن مرض كانت الام أحق بتمريضه، لانه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره، فكانت الام أحق به، وإن كانت جارية فاختارت أحدهما كانت عنده بالليل والنهار، ولا يمنع الآخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط، لان الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما في دار الاخر، وإن مرضت كانت الام أحق بتمريضها في بيتها، وإن مرض أحد الابوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته، وحضوره عند موته لما ذكرناه، وإن اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الاخر حول إليه، وإن عاد فاختار الاول أعيد إليه لان الاختيار إلى شهوته، وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت، وعند الاخر في وقت، فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب. الانتقال بالطفل: قال ابن القيم: فإن كان سفر أحدهما لحاجة ثم يعود والآخر مقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فهو أحق، لان السفر بالولد الطفل - ولا سيما إذا كان رضيعا إضرار به وتضييع له، هكذا أطلقوه ولم يستثنوا سفر الحج من غيره. وإن كان أحدهما منتقلا عن بلد لاخر للاقامة والبلد وطريقه مخوفان أو أحدهما، فالمقيم أحق. وإن كان هو وطريقه آمنين، ففيه قولان: وهما روايتان عن أحمد رحمه الله. (إحداهما) أن الحضانة للاب ليتمكن من تربية الولد وتأديبه وتعليمه، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله، وقضى به شريح. (والثانية) أن الام أحق. وفيها قول ثالث: إن كان المنتقل هو الاب فالام أحق به وإن كان الام فإن انتقلت إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق به. وان انتقلت إلى غيره فالاب أحق. وهذا قول أبي حنيفة. وحكوا عن أبي حنيفة رحمه الله، رواية أخرى: أن نقلها إن كان من بلد إلى قرية فالاب أحق، وإن كان من بلد إلى بلد فهي أحق، وهذه أقوال كلها كما ترى لا يقوم عليها دليل يسكن القلب إليه. فالصواب النظر والاحتياط للطفل في الاصلح له، والانفع الاقامة أو النقلة. فأيهما كان أنفع له وأصون وأحفظ روعي. ولا تأثير لاقامة ولا نقلة. هذا كله ما لم يرد أحدهما بالنقلة مضارة الاخر، وانتزاع الولد منه، فإن أراد ذلك لم يجب إليه. والله الموفق. أحكام القضاء (1) : وللقضاء الشرعي أحكام يعسر إحصاؤها في القضايا الخاصة ومشاكلها، وللكثير من هذه الاحكام دلالات وقواعد صدرت عنها ومبادئ قررتها، ونكتفي هنا بأن نشير إلى هذه الاحكام. الحكم الاول: وقد صدر من محكمة كرموز الجزئية بتاريخ 10 إبريل 1932 وتأيد من محكمة الاسكندرية الابتدائية في 29. مايو سنة 1932 وهو   (1) من كتاب الاحوال الشخصية للدكتور محمد يوسف موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 يقضي برفض دعوى أب طلب ضم ابنته الصغيرة إليه، لاقامة أمها وهي زوجته في بلد بعيد عن البلد الذي كان محل إقامتهما، وفيه عقد زواجها، وهذا يسقط حقها شرعا في الحضانة. وقد استندت المحكمة في حكمها إلى أن الثابت فقها أن الام أحق بالحضانة قبل الفرقة وبعدها. وأن نشوز الزوجة لا يسقط حقها في الحضانة، وعلى الاب إذا أراد ضم الصغير إليه أن يطلب دخول أمه في طاعته مادامت الزوجية قائمة، فإن لم يفعل وطلب ضم الصغير وحده كان ظالما ولا يجاب إلى طلبه، لان ذلك يفوت على الام حضانته وحق رويته. وهكذا قرر هذا الحكم هذه القاعدة: " إذا انتقلت أم الصغير بولدها ولو إلى مكان بعيد فليس للاب حق نزعه منها مادامت الزوجية قائمة. لان له عليها سلطان الزوجية وإدخالها في طاعته، فيضمه بضمها إليه. وكذلك المعتدة لوجوب إسكانها بمسكن العدة ". الحكم الثاني: وقد صدر من محكمة ببا الجزئية في 25 مايو سنة 1931 وتأيد استئنافيا من محكمة بني سويف الكلية في 20 يوليو سنة 1931 وقد قرر هذه القاعدة: " يرفض طلب الاب ضم ابنه الصغير إليه، لعدم تمكنه من الحضور من بلده إلى بلد أمه وحاضنته لرؤيته والعودة قبل الليل، مادامت الام مقيمة في بلد هو وطنها، ولم يكن بينه وبين بلد الاب التي ابتعد هو عنها تفاوت كبير يمنعه من الذهاب لرؤية ولده والعودة إلى بلده قبل الليل، سواء أكان ابتعاده عن ذلك البلد بإرداته أم بغير إرادته ". لانه لا ذنب للحاضنة في هذا على كل حال. ويؤخذ من وقائع هذه الدعوى. أن المدعي كان قد تزوج المدعي عليها في بلدها بني مزار، ثم رزقت منه حال قيام الزوجية ببنت وطلقت منه في البلد المذكور وانتهت عدتها بوضع الحمل، ثم أقامت المدعي عليها دعوى بمدينة نبا وأخذت عليه حكما من محكمتها بحضانة الصغيرة بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1930 حين كان المدعي مقيما ببني مزار، وانتهى الامر باقامته بأسيوط بحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وظيفته حيث رفع هذه الدعوى طالبا ضم ابنته إليه وهي لا تزيد سنها عن سنتين وثمانية أشهر (1) . الحكم الثالث: وقد صدر من محكمة دمنهور في 25 اكتوبر سنة 1927 ولم يستأنف وهو يقرر في حيثياته أن المنصوص عليه شرعا أن غير الام من الحاضنات ليس لها نقل الصغير من بلد أبيه إلا بإذنه. ولكن بعض الفقهاء حمل المنع على المكانين المتفاوتين، بحيث لو خرج الاب لرؤية ولده لا يمكنه الرجوع إلى منزله قبل الليل لا المتقاربين، حيث لم يفرق بين الام وغيرها في ذلك (2) . وهكذا نرى أنه من الضروري الوقوف على أحكام القضاء التي تعتبر تطبيقا عمليا للنصوص الفقهية، ففيها تعالج مشاكل الحياة العملية وينظر القاضي لهذه النصوص على ضوء الواقع في الحياة نفسها.   (1) المحاماة س 3 ص 165. (2) مجلة القضاء الشرعي س 3 ص 366 وراجع مثل هذا في حكم محكمة الجمالية بتاريخ 15 أبريل 1931، المحاماة س 3 ص 163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 الحدود : تعريفها: الحدود جمع حد، والحد في الاصل: الشئ الحاجز بين شيئين. ويقال: ما ميز الشئ عن غيره. ومنه: حدود الدار، وحدود الارض. وهو في اللغة بمعنى المنع. وسميت عقوبات المعاصي حدودا، لانها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لاجلها. ويطلق الحد على نفس المعصية ومنه: " تلك حدود الله فلا تقربوها " (1) . والحد في الشرع عقوبة مقررة لاجل حق الله (2) . فيخرج التعزير لعدم تقديره إذ أن تقديره مفوض لرأي الحاكم. ويخرج القصاص لانه حق الادمي. جرائم الحدود : وقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة تسمى " جرائم الحدود " وهذه الجرائم هي: " الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والمحاربة، والردة، والبغي ". فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشارع. فعقوبة جريمة الزنا، الجلد للبكر. والرجم للثيب. يقول الله سبحانه: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة   (1) سورة البقرة: آية 187. (2) معنى أن العقوبة مقررة لحق الله: أي أنها مقررة لصالح الجماعة وحماية النظام العام، لان هذا هو الغاية من دين الله. وإذا كانت حقا لله فهي لا تقبل الاسقاط، لا من الافراد ولا من الجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ". (1) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم ". وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة. يقول الله سبحانه: " والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون " (2) وعقوبة جريمة السرقة، قطع اليد. يقول الله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم ". وعقوبة جريمة الفساد في الارض: القتل، أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف، يقول الله سبحانه: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض. ذلك لهم خزي في الدنيا. ولهم في الاخرة عذاب عظيم " (3) . وعقوبة جريمة السكر، ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلا في موضعه. وعقوبة الردة القتل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه ". وعقوبة جريمة البغي: القتل. لقول الله سبحانه: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الاخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر   (1) سورة النساء: آية 15. (2) سورة النور: آية 4. (3) سورة المائدة: آية 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " (1) . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ستكون بعدي هنات وهنات. فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ". عدالة هذه العقوبات : وهذه العقوبات - بجانب كونها محققة للمصالح العامة وحافظة للامن العام فهي عقوبات عادلة غاية العدل. إذ أن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها. وعدوان على الخلق والشرف والكرامة. ومقوض لنظام الاسر والبيوت. ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الافراد والجماعات، وتذهب بكيان الامة، ومع ذلك فقد احتاط الاسلام في اثبات هذه الجريمة، فاشترط شروطا يكاد يكون من المستحيل توفرها. فعقوبة الزنا عقوبة قصد بها الزجر والردع والارهاب أكثر مما قصد بها التنفيذ والفعل. وقذف المحصنين والمحصنات من الجرائم التي تحل روابط الاسرة وتفرق بين الرجل وزوجه، وتهدم أركان البيت، والبيت هو الخلية الاولى في بنية المجتمع، فبصلاحها يصلح، وبفسادها يفسد. فتقرير جلد مقترف هذه الجريمة ثمانين جلدة بعد عجزه عن الاتيان بأربعة شهداء يؤيدونه فيما يقذف به، غاية في الحكمة وفي رعاية المصلحة، كيلا تخدش كرامة إنسان أو يجرح في سمعته. والسرقة ما هي إلا اعتداء على أموال الناس وعبث بها. والاموال أحب الاشياء إلى النفوس. فتقرير عقوبة القطع لمرتكب هذه الجريمة حتى يكف غيره عن اقتراف جريمة السرقة، فيأمن كل فرد على ماله، ويطمئن على أحب الاشياء لديه وأعزها على نفسه، مما يعد من مفاخر هذه الشريعة.   (1) سورة الحجرات: آية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وقد ظهر أثر الاخذ بهذا التشريع في البلاد التي تطبقه واضحا في استتباب الامن وحماية الاموال وصيانتها من أيدي العابثين، والخارجين على الشريعة والقانون. وقد اضطر الاتحاد السوفيتي أخيرا إلى تشديد عقوبة السرقة بعد أن تبين له أن عقوبة السجن لم تخفف من كثرة ارتكاب هذه الجريمة، فقرر إعدام السارق رميا بالرصاص وهي أقسى عقوبة ممكنة (1) . والمحاربون الساعون في الارض بالفساد المضربون لنيران الفتن، المزعجون للامن، المثيرون للاضطرابات، العاملون على قلب النظم القائمة، لا أقل من أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض. والخمر تفقد الشارف عقله ورشده، وإذا فقد الانسان رشده وعقله ارتكب كل حماقة وفحش، فإذا جلد كان جلده مانعا له من المعاودة من جانب، ورادعا لغيره من اقتراف مثل جريرته من جانب آخر. وجوب إقامة الحدود: إقامة الحدود فيها نفع للناس، لانها تمنع الجرائم، وتردع؟؟ اة، وتكف من تحدثه نفسه بانتهاك الحرمات، وتحقق الامن لكل فرد، على نفسه، وعرضه وماله، وسمعته، وحريته، وكرامته، وقد روى النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حد يعمل به في الارض خير لاهل الارض من أن يمطروا أربعين صباحا (2) ". وكل عمل من شأنه أن يعطل إقامة. الحدود فهو تعطيل لاحكام الله، ومحاربة له، لان ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر.   (1) جاء في حريدة الاهرام - 14 \ 8 \ 1963: " إن الاتحاد السوفيتي أعدم ثلاثة أشخاص رميا بالرصاص لاتهامهم بالسرقة، ولا يكاد يمر يوم دون أن ينشر من مثل هذا الكثير ". (2) في الحديث جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو ضعيف منكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 روى أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره ". وقد يحدث أن يغفل المرء عن الجناية التي يرتكبها الجاني وينظر إلى العقوبة الواقعة عليه، فيرق قلبه له ويعطف عليه، فيقرر القرآن أن ذلك مما يتنافى مع الايمان، لان الايمان يقتضي الطهر والتنزه عن الجرائم والسمو بالفرد والجماعة إلى الادب العالي والخلق المتين. يقول الله سبحانه: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (1) . إن الرحمة بالمجتمع أهم بكثير من الرحمة بالفرد. فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم الشفاعة في الحدود: يحرم أن يشفع أحد أو يعمل على أن يعطل حدا من حدود الله، لان في ذلك تفويتا لمصلحة محققة، وإغراء بارتكاب الجنايات، ورضا بإفلات المجرم من تبعات جرمه. وهذا بعد أن يصل الامر إلى الحاكم، لان الشفاعة حينئذ تصرف الحاكم عن وظيفته الاولى، وتفتح الباب لتعطيل الحدود (2) . أما قبل الوصول إلى الحاكم، فلا بأس من التستر على الجاني، والشفاعة عنده. أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب ".   (1) سورة النساء: آية 2. (2) ادعى ابن عبد البر الاجماع على أنه يجب على السلطان إقامة الحد إذا بلغه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وأخرج أحمد، وأهل السنن، وصححه الحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: " هلا كان قبل أن تأتيني به "؟! وعن عائشة قالت: " كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه. فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل ". ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا. فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوا. والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. " فقطع يد المخزومية، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. سقوط الحدود بالشبهات : الحد عقوبة من العقوبات التي توقع ضررا في جسد الجاني وسمعته، ولا يحل استباحة حرمة أحد، أو إيلامه إلا بالحق، ولا يثبت هذا الحق إلا بالدليل الذي لا يتطرق إليه الشك، فإذا تطرق إليه الشك كان ذلك مانعا من اليقين الذي تنبني عليه الاحكام. ومن أجل هذا كانت التهم والشكوك لا عبرة لها ولا اعتداد بها، لانها مظنة الخطأ. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا ". رواه ابن ماجه. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الامام لان يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة ". رواه الترمذي، وذكر أنه قد روي موقوفا، وأن الوقف أصح، قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا مثل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الشبهات وأقسامها (1) : تحدت الاحناف والشافعية عن الشبهات، ولكل منهما رأي نجمله فيما يأتي: رأي الشافعية: يرى الشافعية أن الشبهة تنقسم أقساما ثلاثة: 1 - شبهة في المحل: أي محل الفعل - مثل: وطء الزوج الزوجة الحائض أو الصائمة، أو إتيان الزوجة في دبرها، فالشبهة هنا قائمة في محل الفعل المحرم. إذ أن المحل مملوك للزوج، ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهي حائض أو صائمة أو أن يأتيها في الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة. وقيام هذه الشبهة يقتضي درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته، لان أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن، وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعا عليه. 2 - شبهة في الفاعل: كمن يطأ امرأة زفت إليه على أنها زوجته، ثم تبين له أنها ليست زوجته. وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتي الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتي محرما، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درأ الحد - أما إذا أتى الفاعل الفعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة. 3 - شبهة في الجبهة: ويقصد من هذا الاشتباه في حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة الزواج بلا ولي ويجيزه مالك بلا شهود، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذا الزواج، ونتيجة هذا الزواج أنه لا حد على الوطء في هذا الزواج المختلف في صحته، لان الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد، ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل، لان هذا الاعتقاد في ذاته ليس له أثر ما دام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة. رأي الاحناف: أما الاحناف فإنهم يرون أن الشبهة تنقسم قسمين:   (1) التشريع الجنائي الاسلامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 1 - شبهة في الفعل: وهي شبهة في حق من اشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه. وتثبت هذه الشبهة في حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمت دليل سمعي يفيد الحل، بل ظن غير الدليل دليلا، كمن يطء زوجته المطلقة ثلاثا أو بائنا على مال في عدتها، وتعليل ذلك، أن النكاح إذا كان قد زال في حق الحل أصلا لوجود المعطل لحل المحلية، وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقي في حق الفراش، والحرمة على الازواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام، فهو زنا يوجب الحد - إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل - لانه بنى ظنه على نوع دليل، وهو بقاء النكاح في حق الفراش وحرمة الازواج، فظن أنه بقي في حق الحل أيضا - وهذا وإن لم يصلح دليلا على الحقيقة، لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه درءا لما يندرئ بالشبهات. ويشترط - لقيام الشبهة في الفعل - ألا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجاني الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا، فلا شبهة أصلا. وإذا ثبت أن الجاني كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد. 2 - الشبهة في المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك: وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة - وهي تتحقق بقيام دليل شرعي ينفي الحرمة - ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوي أن يعتقد الفاعل الحل، أو يعلم الحرمة، لان الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعي، لا بالعلم وعدمه. من يقيم الحدود؟: اتفق الفقهاء على أن الحاكم أو من ينيبه عنه هو الذي يقيم الحدود. وأنه ليس للافراد أن يتولوا هذا العمل من تلقاء أنفسهم. روى الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول: " الزكاة، والحدود، والفئ، والجمعة إلى السلطان ". قال الطحاوي: لا نعلم له مخالفا من الصحابة (1) .   (1) تعقبه ابن حزم، فقال: إنه خالفه اثنا عشر صحابيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وروى البيهقي عن خارجة بن زيد، عن أبيه، وأخرجه أيضا عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: " لا ينبغي لاحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده أو أمته ". وذهب جماعة من السلف، منهم الشافعي، إلى أن السيد يقيم الحد على مملوكه، واستدلوا بما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن خادمة النبي صلى الله عليه وسلم أحدثت، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقيم عليها الحد، فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته، فقال: " إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ". رواه أحمد وأبو داود، ومسلم، والبيهقي، والحاكم. وقال أبو حنيفة يرفعه المولى للسلطان. ولا يقيمه هو بنفسه. مشروعية التستر في الحدود : قد يكون ستر العصاة علاجا ناجعا للذين تورطوا في الجرائم واقترفوا المآثم، وقد ينهضون بعد ارتكابها فيتوبون توبة نصوحا، ويستأنفون حياة نظيفة. لهذا شرع الاسلام التستر على المتورطين في الاثام، وعدم التعجيل بكشف أمرهم. عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له هزال، وقد جاء يشكو رجلا بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) . " يا - هزال - لو سترته بردائك كان خيرا لك ".   (1) سورة النور آية: 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 قال يحيى بن سعيد: فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الاسلمي، فقال يزيد: " هزال جدي، هذا الحديث حق ". وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته ". وإذا كان الستر مندوبا، ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الاولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه، لانها في رتبة الندب في جانب الفعل، وكراهة التنزيه في جانب الترك، وهذا يجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به. أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به، فيجب كون الشهادة به أولى من تركها، لان مطلوب الشارع إخلاء الارض من المعاصي والفواحش وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين، وبالزجر لهم، فإذا ظهر حال الشره في الزنا وعدم المبالاة به وإشاعته، فإخلاء الارض المطلوب حينئذ بالتوبة، احتمال يقابله ظهور عدمها، فمن اتصف بذلك فيجب تحقيق السبب الاخر للاخلاء، وهو الحدود، بخلاف من زنا مرة أو مرارا، مستترا متخوفا متندما عليه فإنه محل استحباب ستر الشاهد (1) ". ستر المسلم نفسه : بل على المسلم أن يستر نفسه ولا يفضحها بالحديث عما يصدر عنه، من إثم أو إقرار أمام الحاكم لينفذ فيه العقوبة. روى الامام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ... من أصاب شيئا من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله ".   (1) انظر ص 164 ج 3 حاشية الشلبي على الزيلعي من كتاب الحدود لمبهنسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 الحدود كفارة للآثام : يرى أكثر العلماء أن الحدود إذا أقيمت كانت مكفرة لما اقترف من آثام، وأنه لا يعذب في الاخر. لما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الضامت قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: " تبايعوني على أن تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له (1) . ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ". وإقامة الحد وإن كانت مكفرة للاثام، فإنها مع ذلك زاجرة عن اقترافها. فهي جوابر وزواجر معا. إقامة الحدود في دار الحرب : ذهب فريق من العلماء إلى أن الحدود تقام في أرض الحرب كما تقام في دار الاسلام دون تفرقة بينهما، لان الامر بإقامتهما عام لم يخص دارا دون دار. وممن ذهب إلى هذا مالك والليث بن سعد. وقال أبو حنيفة وغيره: إذا غزا أمير أرض الحرب، فإنه لا يقيم الحد على أحد من جنوده في عسكره، إلا أن يكون أمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبه ذلك، فيقيم الحدود في عسكره. وحجة هؤلاء أن إقامة الحدود في دار الحرب قد تحمل المحدود على الالتحاق بالكفر. وهذا هو للراجح. وذلك أن هذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو شر منه. وقد نص أحمد وإسحق بن راهويه، والاوزاعي، وغيرهم من علماء السلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وعليه إجماع الصحابة وكان أبو محجن الثقفي رضي الله عنه لا يستطيع صبرا عن شرب الخمر ، فشربها في واقعة القادسية،   (1) وهذا فيما عدا الشرك (إن الله لا: فغفرن يشرك به) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فحبسه أمير الجيش سعد بن أبي وقاص، وأمر بتقييده، فلما التقى الجمعان قال أبو محجن: كفا حزنا أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا ثم قال لامرأة سعد، أطلقيني، ولك علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت فقد استرحتم مني، فحلته، فوثب على فرس لسعد يقال لها " البلقاء " ثم أخذ رمحا وخرج للقتال، فأتى بما بهر سعدا وجيش المسلمين حتى ظنوه ملكا من الملائكة جاء لنصرتهم، فلما هزم العدو رجع ووضع رجليه في القيد، فأخبرت سعدا امرأته بما كان من أمره، فخلى سعد سبيله، وأقسم ألا يقيم عليه الحد من أجل بلائه في القتال حتى قوي جيش المسلمين به، فتاب أبو محجن بعد ذلك عن شرب الخمر. فتأخر الحد أو إسقاطه كان لمصلحة راجحة، هي خير للمسلمين وله من إقامة الحد عليه. النهي عن إقامة الحدود في المساجد صيانة لها عن التلوث: روى أبو داود عن حكيم بن حزام رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الاشعار، وأن تقام فيه الحدود. هل للقاضي أن يحكم بعلمه: يرى الظاهرية أنه فرض على القاضي أن يقضي بعلمه في الدماء والقصاص والاموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه، لانه يقين الحق. ثم بالاقرار، ثم بالبينة، لان الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله (1) " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ... "   (1) سورة النساء الاية: 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 " فصح أن القاضي عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره. وصح أن فرضا على القاضي أن يغير كل منكر علمه بيده، وأن يعطي كل ذي حق حقه، وإلا فهو ظالم. وأما جمهور الفقهاء، فإنهم يرون أنه ليس للقاضي أن يقضى بعلمه. قال أبو بكر رضي الله عنه: " لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ". ولان القاضي كغيره من الافراد، لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة. ولو رمى القاضي زانيا بما شهده منه وهو لا يملك على قول البينة الكاملة لكان قاذفا يلزمه حد القذف. وإذا كان قد حرم على القاضي النطق بما يعلم، فأولى أن يحرم عليه العمل به. وأصل هذا الرأي قول الله سبحانه: " فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ". (1)   (1) سورة النور: آية 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 الخمر : التدرج في تحريمها: وقد كان الناس يشربون الخمر حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فكثر سؤال المسلمين عنها وعن لعب الميسر، لما كانوا يرونه من شرورهما ومفاسدهما، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (1) ". أي أن في تعاطيهما ذنبا كبيرا، لما فيهما من الاضرار والمفاسد المادية والدينية. وأن فيهما كذلك منافع للناس. وهذه المنافع مادية. وهي الربح بالاتجار في الخمر، وكسب المال دون عناء في الميسر. ومع ذلك فإن الاثم أرجح من المنافع فيهما، وفي هذا ترجيح لجانب التحريم، وليس تحريما قاطعا. ثم نزل بعد ذلك التحريم أثناء الصلاة تدرجا مع الناس الذين ألفوها وعدوها جزءا من حياتهم: قال الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ... " (2) وكان سبب نزول هذه الاية أن رجلا صلى وهو سكران فقرأ: " قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون " إلى آخر السورة - بدون ذكر النفي - وكان ذلك تمهيدا لتحريمها نهائيا، ثم نزل حكم الله بتحريمها نهائيا. قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم   (1) سورة البقرة الاية: 219. (2) سورة النساء: آية 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ " (1) . وظاهر من هذا أن الله سبحانه عطف على الخمر، الميسر والانصاب والازلام. وحكم على هذه الاشياء كلها بأنها: 1 - رجس: أي خبيث مستقذر عند أولي الالباب. 2 - ومن عمل الشيطان وتزيينه ووسوسته. 3 - وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الواجب اجتنابها والبعد عنها، ليكون الانسان معدا ومهيئا للفوز والفلاح. 4 - وإن إرادة الشيطان بتزيينه تناول الخمر ولعب الميسر في إيقاع العداوة والبغضاء بسبب هذا التعاطي، وهذه مفسدة دنيوية. 5 - وإن إرادته كذلك في الصد عن ذكر الله، والالهاء عن الصلاة، وهذه مفسدة أخرى دينية. 6 - وأن ذلك كله يوجب الانتهاء عن تعاطي شئ من ذلك. وهذه الاية آخر ما نزل في حكم الخمر، وهي قاضية بتحريمها تحريما قاطعا. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل من تحريم الخمر: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما. " (2) . فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها، وقال آخرون: لا خير في شئ فيه إثم. ثم نزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (3) . فقال بعض الناس نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون: لا خير في شئ يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين. فنزلت:   (1) سورة المائدة: آية 91. (2) سورة البقرة: آية 219. (3) سورة النساء: الاية 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون " (1) فنهاهم فانتهوا. وكان هذا التحريم بعد غزوة الاحزاب. وعن قتادة أن الله حرم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الاحزاب، وكانت غزوة الاحزاب سنة أربع أو خمس هجرية. وذكر إبن اسحاق أن التحريم كان في غزوة بني النضير وكانت سنة أربع هجرية على الراجح. وقال الدمياطي في سيرته: كان تحريمها عام الحديبية سنة ست هجرية. تشديد الإسلام في تحريم الخمر : وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الاسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك في أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها، ولا سيما العقل، يقول أحد الشعراء: شربت الخمر حتى ضل عقلي كذاك الخمر تفعل بالعقول وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير، وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له، فالقتل، والعدوان، والفحش، وإفشاء الاسرار، وخيانة الاوطان من آثاره. وهذا الشر يصل إلى نفس الانسان، وإلى أصدقائه وجيرانه، وإلى كل من يسوقه حظه التعس إلى الاقتراب منه. فعن علي كرم الله وجهه: أنه كان مع عمه حمزة وكان له شارفان " أي ناقتان مسنتان " أراد أن يجمع عليهما الاذخر، وهو نبات طيب الرائحة، مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين،   (1) " فهل أنتم منتهون ". لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى (انتهوا) ، قال: انتهينا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة: ألا إن الخمر ققد حرمت. فكسرت الدنان وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة رضي الله عنها - عند إرادة البناء بها - وكان عمه حمزه يشرب الخمر مع بعض الانصار، ومعه قينة تغنيه، فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين، وأخذ أطايبهما ليأكل منها، فثار حمزة وجب (1) أسنمتهما وأخذ من أكبادهما. فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه، وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فدخل النبي على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة فتغيظ عليه وطفق يلومه - وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه. فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه: وهل أنتم إلا عبيد لابي. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، نكص على عقبيه القهقرى، وخرج هو ومن معه. هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها وتفقده وعيه، ولهذا أطلق عليها الشرع أم الخبائث. فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخمر أم الخبائث. وعن عبد الله بن عمرو قال: " الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته ". رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا من حديث ابن عباس بلفظ " من شربها وقع على أمه ". وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها، ولعن متعاطيها وكل من له بها صلة، واعتبره خارجا عن الايمان. فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له ". رواه ابن ماجه والترمذي. وقال: حديث غريب. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزني   (1) جب: قطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (1) . رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. وجعل جزاء من يتناولها في الدنيا أن يرحم منها في الاخرة لانه استعجل شيئا فجوزي بالحرمان منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب، لم يشربها في الاخرة، وإن دخل الجنة ". تحريم الخمر في المسيحية : وكما أن الخمر محرمة في الاسلام فهي محرمة في المسيحية كذلك. وقد استفتت جماعة منع المسكرات رؤساء الديانة المسيحية بالوجه القبلى بالجمهورية العربية المتحدة () فأفتوا بما خلاصته: " أن الكتب الالهية جميعها قضت على الانسان أن يبتعد عن المسكرات " كذلك استدل رئيس كنيسة السوريين الاورثوذكس على تحريم المسكرات بنصوص الكتاب المقدس. ثم قال: " وخلاصة القول: إن المسكرات إجمالا محرمة في كل كتاب، سواء كانت من العنب أم من سائر المواد كالشعير، والتمر، والعسل، والتفاح، وغيرها. ومن شواهد العهد الجديد في ذلك: قول بولس في رسالته إلى أهل إفسس (5: 8) : " ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة ". ونهيه عن مخالطة السكير (إكوه: 11) وجزمه بأن السكيرين لا   (1) أي أن مرتكب ذلك لا يكون حال ارتكابه متصفا بالايمان الاذعاني لحمرة ذلك - وكونه من أسباب سخط الله وعقوبته لان هذا الايمان يستلزم اجتناب المعاصي. وقيل: إن الايمان يفارق مرتكب أمثال هذه لكبائر مدة ملابسته لها، وقد يعود إليه بعدها. وقيل: النافي لكمال الايمان. والرأي الاول أصح، كما حققه الاما الغزالي في الاحياء في كتاب " التوبة " (2) منهم نيافة مطران كرسي أسيوط، ونيافة مطران كرسي البلينا، ونيافة مطران قنا. بتاريخ 26 / 9 / 1922 م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 لا يرقون ملكوت السموات (غلاه: 21 - إكو 6: 9: 10) . أضرار الخمر : وقد لخصت مجلة التمدين الاسلامي " بقلم الدكتور عبد الوهاب خليل " ما في الخمر من اضرار نفسية وبدنية وخلقية وما يترتب عليها من آثار سيئة في الفرد والجماعة فقالت: وإذا سألنا جميع العلماء سواء علماء الدين، أو الطب، أو الاخلاق، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، وأخذنا رأيهم في تعاطي المسكرات لكان جواب الكل واحدا: وهو منع تعاطيها منعا باتا، لانها مضرة ضررا فادحا. فعلماء الدين يقولون: أنها محرمة، وما حرمت إلا لانها أم الخبائب. وعلماء الطب يقولون: إنها من أعظم الاخطار التي تهدد نوع البشر، لا بما تورثه مباشرة من الاضرار السامة فحسب، بل بعواقبها الوخيمة أيضا، إذ أنها تمهد السبيل لخطر لا يقل ضررا عنها، ألا وهو السل..والخمر توهن البدن وتجعله أقل مقاومة وجلدا في كثير من الامراض مطلقا، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية. لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الاسباب الموجبة لكثير من الامراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والاجرام، لا لمستعملها وحده، بل وفي أعقابه من بعده. فهي إذن علة الشقاء والعوز والبؤس، وهي جرثومة الافلاس والمسكنة والذل، وما نزلت بقوم إلا أودت بهم: مادة ومعنى، بدنها وروحا، جسما وعقلا. وعلماء الاخلاق يقولون: لكي يكون الانسان محافظا على الرزانة والعفة والشرف والنخوة والمروءة، يلزم عدم تناوله شيئا يضيع به هذه الصفات الحميذة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وعلماء الاجتماع يقولون: لكي يكون المجتمع الانساني على غاية من النظام والترتيب يلزم عدم تعكيره بأعمال تخل بهذا النظام، وعندنا تصبح الفوضى سائدة - والفوضى تخلق التفرقة - والتفرقة تفيد الاعداء. وعلماء الاقتصاد يقولون: إن كل درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن. وكل درهم نصرفه لمضرتنا، فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها. وتؤخرنا ماليا وتذهب بمروءتنا ونخوتنا؟!. فعلى هذه الاساس نرى أن العقل يأمرنا بعدم تعاطي الخمر، وإذا أرادت الحكومة أخذ رأى العلماء الخبيرين في هذا المضمار فقد كفيناها مؤنة التعب في هذه السبيل، وأتيناها بالجواب بدون أن تتكبد مشقة أو تصرف فلسا واحدا، إذ جميع العلماء متفقون على ضررها، والحكومة من الشعب، والشعب يريد من حكومته رفع الضرر والاذى، وهي مسئولة عن رعيتها. وبمنع المسكرات يغدو أفراد الامة أقوياء البنية صحيحي الجسم، أقوياء العزيمة ذوي عقل ناضج، وهذه من أهم الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الصحي في البلاد، وكذلك هي الدعامة الاولى لرفع المستوى الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي. إذ تخفف العناء عن كثير من الوزارات، وخاصة وزارة العدل - فيصبح رواد القصور العدلية والسجون قليلين، وبعدها تصبح السجود خالية تتحول إلى دور يستفاد منها بشتى الاصلاحات الاجتماعية. هذه هي الحضارة والمدنية، وهذه هي النهضة. وهذا هو الرقي والوعي. وهذا هو المعيار والميزان لرقي الامم. هذه هي الاشتراكية والتعاونية بعينها وحقيقتها. أي نشترك ونتعاون على رفع الضرر والاذى. وباب العمل الجدي المنتج واسع: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " اه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 هذه الاضرار الانفة ثبتت ثبوتا لا مجال فيه لشك أو ارتياب، مما حمل كثرا من الدول الواعية على محاربة تعاطي الخمر وغيرها من المسكرات. وكان في مقدمة من حاول منع تعاطيها من الدول: أمريكا. فقد نشر في كتاب تنقيحات للسيد أبو الاعلى المودودي ما يأتي: منعت حكومة أمريكا الخمر، وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة كالمجلات، والمحاضرات، والصور، والسينما لتهجين شربها، وبيان مضارها ومفاسدها. ويقدرون ما أنفقت الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيها، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن 335، 532 نفس، وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيها، وصادرت من الاملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيها، ولكن كل ذلك لم يزد الامة الامريكية إلا غراما بالخمر وعنادا في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة. إنتهى. إن أمريكا قد عجزت عجزا تاما عن تحريم الخمر بالرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها، ولكن الاسلام الذي ربى الامة على أساس من الدين، وغرس في نفوس أفرادها غراس الايمان الحق، وأحيا ضميرها بالتعاليم الصالحة والاسوة الحسنة لم يصنعا شيئا من ذلك، ولم يتكلف مثل هذا الجهد، ولكنها كلمة صدرت من الله استجابت لها النفوس استجابة مطلقة. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ. إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في بيتنا، إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟. فقلنا: لا، فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال: يا أنس، أرق هذه القلال. قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل. وهكذا يصنع الايمان بأهله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 ما هي الخمر: الخمر هي تلك السوائل المعروفة المعدة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، وتحول النشا أو السكر الذي تحتويه إلى غول (1) بواسطة بعض كائنات حية لها قدرة على إفراز مواد خاصة يعد وجودها ضروريا في عملية التخمر. وقد سميت خمرا لانها تخمر العقل وتستره: أي تغطيه وتفسد إدراكه. هذا هو تعريف الطب للخمر. وكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الانواع فهو خمر شرعا، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الاشياء، إذ أن ذلك كله خمر محرم، لضرره الخاص والعام، ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ولايقاعه العداوة والبغضاء بين الناس. والشارع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يفرق بين شراب مسكر، وشراب آخر مسكر فيبيح القليل من صنف ويحرم القليل من صنف آخر، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما فإنه كذلك قد حرم القليل من الآخر، وقد جاءت النصوص صريحة صحيحة، لا تحتمل التأويل ولا التشكيك: 1 - روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". 2 - وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما بعد، أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل ".   (1) الغول: الكحول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 هذا الذي قاله أمير المؤمنين وهو القول الفصل، لانه أعرف باللغة وأعلم بالشرع، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه فيما ذهب إليه. 3 - وروى مسلم عن جابر، أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له " المزر " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسكر هو؟ " قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام ... ان على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخيال قالوا يا رسول الله: وما طينة الخيال؟ قال: " عرق أهل النار " أو قال: " عصارة أهل النار ". 4 - وفي السنن عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا " 5 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق (1) منه فملء الكف منه حرام ". 6 - وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال، قلت يا رسول الله: أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن " البتع " وهو من العسل حين يشتد (2) " والمزر " وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، قال: " كل مسكر حرام ". 7 - وعن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم على الجعة " وهي نبيذ الشعير " " أي البيرة ". رواه أبو داود والنسائي. هذا هو رأي جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين. وفقهاء الامصار، ومذهب أهل الفتول، ومذهب محمد من أصحاب أبي حنيفة، وعليه الفتوي. ولم يخالف في ذلك أحد سوى فقهاء العراق، وإبراهيم النخعي، وسفيان   (1) الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا. (2) يشتد: يغلي ويتخمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين، وأبي حنيفة، فإنهم قالوا: بتحريم القليل والكثير من الخمر التي هي من عصير العنب. أما ما كان من الانبذة من غير العنب، فإنه يحرم الكثير المسكر منه، أما القليل الذي لا يسكر، فإنه حلال. وهذا الرأي مخالف تمام المخالفة لما سبق من الادلة. ومن الامانة العلمية أن نذكر حجج هؤلاء الفقهاء ملخصين ما قاله ابن رشد في بداية المجتهد. قال: قال جمهور فقهاء الحجاز (1) وجمهور المحدثين: قليل الانبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون، وإبراهيم النخعي من التابعين، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة وأبو حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الانبذة المسكرة هو السكر نفسه، لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والاقيسة في هذا الباب. فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: (الطريقة الاولى) الآثار الواردة في ذلك. (الطريقة الثانية) تسمية الانبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه البخاري، وقال يحيى بن معين هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر. ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". فهذان حديثان صحيحان:   (1) بداية المجتهد ج 1 ص 434 - 437. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أما الاول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الانبذة كلها تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الاسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق، فإنهم قالوا: إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل. وهذه الطريقة من إثبات الاسماء فيها اختلاف بين الاصوليين وهي غير مرضية عند الخرسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا: إنه وإن لم يسلم لنا بأن الانبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا. واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ". وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا ... وأنا أنها كم عن كل مسكر ". فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الانبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا. " (1)   (1) سورة النحل آية 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وباثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي. أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين، لما سماه الله رزقا حسنا. وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: " حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها ". قالوا: وهذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز، لان بعض رواته روى " والمسكر من غيرها ". ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني كنت نهيتكم عن الشراب في الاوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا "، خرجها الطحاوي. وروي عن ابن مسعود أنه قال: " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم ". وروي عن أبي موسى أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا يا رسول الله: إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له: المزر. والآخر يقال له: البتع. فما نشرب؟. فقال عليه الصلاة والسلام: " اشربا ولا تسكرا ". خرجه الطحاوي أيضا ... إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما احتجاجهم من جهة النظر. فإنهم قالوا: قد نص القرآن على أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ... " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وهذه العلة تود في القدر المسكر، لافيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو احرام، إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها. قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص. وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الاثر على القياس، أو تغليب القياس على الاثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها. لكن الحق أن الاثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل، فهنا يتردد النظر: هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ؟ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الالفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها. ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي، كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون. وربما كان الذوقان على التساوي ... ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع، حتى قال كثير من الناس: " كل مجتهد مصيب ". قال القاضي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن قوله عليه الصلاة والسلام " كل مسكر حرام " وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر، لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير. وقد ثبت من حال الشرع بالاجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 هذا، وإن لم يسلموا لنا بصحة قوله عليه الصلاة والسلام: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " فإنهم إن سلموا لم يجدوا عنه انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف. ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس. وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة فقال تعالى: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ". وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها. فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر، ومنع القليل منها والكثير. وجب أن يكون الامر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي. واتفقوا على أن الانتباذ حلال، ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: " فانتبذوا، وكل مسكر حرام ". ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث. واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما في الاواني التي ينتبذ فيها. والثانية في انتباذ شيئين مثل: البسر والرطب، والتمر والزبيب. انتهى. أهم أنواع الخمور: توجد الخمور في الاسواق بأسماء مختلفة، وقد تقسم إلى أقسام خاصة باعتبار ما تحويه من النسب المئوية من الكحول. فهناك مثلا: البراندي، والوسكي، والروم، والليكير، وغيرها، وتبلغ نسبة الكحول فيها من 40 / إلى 60 /. وتبلغ النسبة في الجن، والهولاندي، والجنيفا، من 33 / إلى 40 /. وتحتوي بعض الاصناف الاخرى، مثل: البورت، والشري، والماديرا، على 15 / - 25 /. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وتحتوي الخمور الخفيفة مثل: الكلارت، والهوك، والشمبانيا، والبرجاندي على 10 / - 15 /. وأنواع البيرة الخفيفة تحتوي على 2 / - 9 / مثل: الايل، والبورتر، والاستوت، والميونخ وغيرها. وهنالك أصناف أخرى تحتوي على نفس النسب الاخيرة. مثل البوظة، والقصب المتخمر وغيرهما. شرب العصير والنبيذ قبل التخمير: يجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه (1) . لحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه. قال: " علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش (2) فقال: " إضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ". وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير قال: " اشربه ما لم يأخذه شيطانه " قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: " في ثلاث ". وأخرج مسلم وغيره من حديثا بن عباس " أنه كان ينقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، إلى مساء الثالثة. ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق ". قال أبو داود: ومعنى يسقى الخادم يبادر به الفساد ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام. وقد أخرج مسلم وغيره من حديث عائشة " أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان العشي فتعشى، شرب على عشائه، وإن فضل شئ صبته أو أفرغته ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه. قالت تغسل السقاء غدوة وعشية ". وهو لا ينافي حديث ابن عباس المتقدم أنه كان يشرب اليوم والغد وبعد   (1) الغليان: الاختمار. (2) ينش: يغلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الغد إلى مساء الثالثة، لان الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في الصحيح (1) . هذا ومن المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يشرب الخمر قط، لاقبل البعثة ولابعدها. وإنما كان شرابه من هذا النبيذ الذي لم يتخمر بعد، كما هو مصرح به في هذه الاحاديث. الخمر إذا تخللت : قال في بداية المجتهد: وأجمعوا " أي العلماء " على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها أجاز أكلها " تناولها ". واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: 1 - التحريم. 2 - ومكراهية. 3 - والاباحة (2) . وسبب اختلافهم معارضة القياس للاثر، واختلافهم في مفهوم الاثر. وذلك أن أبا داود (3) أخرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: " أهرقها ". قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: " لا ". (4) فمن فهم من المنع سد الذريعة حمل ذلك على الكراهية. ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم.   (1) الروضة الندية ص 202 ج 1. (2) القائلون به: عمر بن الخطاب، والشافعي، وأحمد، وسفيان، وابن المبارك وعطاء ابن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة. (3) وأخرجه أيضا مسلم والترمذي. (4) قال الخطابي: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلا غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الاموال به لما يجب من حفظه وتثميره، وقد كان نهي رسول اللهعن إضاعة المال وفي إراقته إضاعته فعلم بذلك إن معالجته لا تطهره ولاترده إلى المالية بحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 ويخرج على هذا ألا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي عنه. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم، أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الاحكام المختلفة، إنما هي للذوات المختلفة، وأن ذات الخمر غير ذات الخل، والخل بالاجماع حلال. فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل، وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل (1) . المخدرات : هذا هو حكم الله في الخمر، أما ما يزيل العقل من غير الاشربة، مثل: البنج، والحشيش وغيرهما من المخدرات، فإنه حرام، لانه مسكر. ففي حديث مسلم الذي تقدم ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". وقد سئل مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم، رحمه الله، عن حكم الشرع في المواد المخدرة، واشتمل السؤال على المسائل الآتية: 1 - تعاطي المواد المخدرة. 2 - الاتجار بالمواد المخدرة، واتخاذها وسيلة للربح التجاري. 3 - زراعة الخشخاش والحشيش بقصد البيع أو استخراج المادة المخدرة منهما، للتعاطي أو للتجارة. 4 - الربح الناجم من هذا السبيل، أهو ربح حلال أم حرام؟ وقد أجاب فضيلته بما يأتي: (1) تعاطي المواد المخدرة: إنه لا يشك شاك، ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لانها تؤدي إلى مضار جسيمة، ومفاسد كثيرة، فهي تفسد العقل، وتفتك   (1) ج 1 ص 438 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد. فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررا. ولذلك قال بعض علماء الحنفية: " إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع ". وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها، ولانه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل ويغطيه، ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الخمر والمسكر. قال شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته: " إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل. تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا أو معنى قال أبو موسى الاشعري رضي الله عنه: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: " البتع " وهو العسل ينبذ حتى يشتدو " المزر " وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه فقال: " كل مسكر حرام ". رواه البخاري ومسلم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا. وأنا أنهى عن كل مسكر ". رواه أبو داوود وغيره. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر. وكل مسكر حرام ". وفي رواية: " كل مسكر خمر. وكل خمر حرام ". رواهما مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق (1) منه فملء الكف منه حرام ". قال الترمذي حديث حسن. وروى ابن السني عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وصححه الحفاظ. وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر. قال: " أمسكر هو؟ " قال: نعم. فقال: " كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ". قالوا يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: " عرق أهل النار " أو قال: " عصارة أهل النار ". رواه مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. " كل مخمر وكل مسكر حرام (2) ". رواه أبو داود. والاحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة. جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا. على أن الخمر قد يصطبغ بها: أي تجعل إداما، وهذه الحشيشة قد تذاب بالماء وتشرب، فالخمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب، وكل ذلك حرام، وحدوثها بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم والائمة لا يمنع من دخولها في عموم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسكر. فقد حدثت شربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع أمن الكتاب والسنة ". انتهت خلاصة كلام ابن تيمية. وقد تكلم رحمه الله عنها أيضا غير مرة في فتاواه. فقال ما خلاصته: " هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط   (1) تقدم معنى الفرق. والمعنى: ما أسكر كثيره فقليله حرام. ((2) المخمر: ما يغطي العقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين. المعرضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه. وتفسد الامزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر. ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر. فهي بالتحريم أولى. وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام. ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين. وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر " اه. وقد تبعه تلميذ الامام المحقق ابن القيم رحمه الله، فقال في زاد المعاد ما خلاصته: " إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعا كان أو جامدا، عصيرا أو مطبوخا. فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لان هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: " ... كل مسكر خمر ... ". وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الامة بخطابه ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل. على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الاصل والفرع من كل وجهة، حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه " اه. وقال صاحب سبل السلام شرح بلوغ المرام: " إنه يحرم ما أسكر من أي شئ، وإن لم يكن مشروبا، كالحشبشة ". ونقل عن الحافظ ابن حجر: " ان من قال: إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدر، مكابر، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة ". ونقل عن ابن البيطار - من الاطباء - أن الحشيشة التي توجد في مصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 مسكرة جدا، إذا تناول الانسان منها قدر درهم أو درهمين. وقبائح خصالها كثيرة. وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. وقبائح خصالها موجودة في الافيون. وفيه زيادة مضار " اه. وما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس. وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش، فهي تتناول أيضا الافيون، الذي بين العلماء أنه أكثر ضررا. ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على مفاسد الحشيش كما سبق عن ابن البيطار. وتتناول أيضا سائر المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قبل، إذ هي كالخمر من العنب مثلا في أنها تخامر العقل وتغطيه. وفيها ما في الخمر من مفاسد ومضار وتزيد عليها بمفاسد أخرى كما في الحشيش، بل أفظع وأعظم، كما هو مشاهد ومعلوم ضرورة. ولا يمكن أن تبيح الشريعة الاسلامية شيئا من هذه المخدرات، ومن قال بحل شئ منها فهو من الذين يفترون على الله الكذب، أو يقولون على الله ما لا يعلمون. وقد سبق أن قلنا: إن بعض علماء الحنفية قال: " إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع ". وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقا مبتدعا فالقائل بحل شئ من هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضررا وأكبر فسادا زنديق مبتدع أيضا، بل أولى بأن يكون كذلك. وكيف تبيح الشريعة الاسلامية شيئا من هذه المخدرات التي يلمس ضررها البليغ بالامة أفرادا وجماعات، ماديا، وصحيا، وأدبيا، كما جاء في السؤال. مع أن مبنى الشريعة الاسلامية على جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد والمضار كذلك. وكيف يحرم الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلا: كثيرها وقليلها، لما فيها من المفسدة، ولان قليلها داع إلى كثيرها وذريعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 إليه. ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة، ويزيد عليها بما هو أعظم منها وأكثر ضررا للبدن والعقل والدين والخلق والمزاج؟ هذا لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الاسلامي، أو زنديق مبتدع كما سبق القول. فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه التعاطي من أكل أو شرب أو شم أو احتقان حرام، والامر في ذلك ظاهر جلي. (2) الاتجار بالمواد المخدرة، واتخاذها وسيلة للربح التجاري: إنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تحريم الخمر، منها ما روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والاصنام ". وورد عنه أيضا أحاديث كثيرة مؤداها أن ما حرم الله الانتفاع به يحرم بيعه وأكل ثمنه. وقد علم من الجواب عن السؤال الاول أن اسم الخمر يتناول هذه المخدرات شرعا، فيكون النهي عن بيع الخمر متناولا لتحريم بيع هذه المخدرات. كما أن ما ورد من تحريم بيع كل ما حرمه الله، يدل أيضا على تحريم بيع هذه المخدرات. وحينئذ يتبين جليا حرمة الاتجار في هذه المخدرات واتخاذها حرفة تدر الربح، فضلا عما في ذلك من الاعانة على المعصية التي لاشبهة في حرمتها، لدلالة القرآن على تحريمها بقوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ". ولاجل ذلك كان الحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تحريم بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرا، وبطلان هذا البيع لانه إعانة على المعصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 (3) زراعة الخشخاش والحشيش بقصد البيع واستخراج المادة المخدرة منهما للتعاطي أو للتجارة: إن زراعة الحشيش والافيون لاستخراج المادة المخدرة منهما لتعاطيها أو الاتجار فيها حرام بلا شك، لوجوه: (أولا) ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار ". فإن هذا يدل على حرمة زراعة الحشيش والافيون للغرض المذكور، بدلالة النص. (ثانيا) إن ذلك إعانة على المعصية. وهي تعاطي هذه المخدرات أو الاتجار فيها. وقد بينا فيما سبق أن الاعانة على المعصية معصية. (ثالثا) إن زراعتها لهذا الغرض رضا من الزارع بتعاطي الناس لها، واتجارهم فيها، والرضا بالمعصية معصية. وذلك لان إنكار المنكر بالقلب الذي هو عبارة عن كراهة القلب وبغضه للمنكر، فرض على كل مسلم في كل حال، بل ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من لم ينكر المنكر بقلبه - بالمعنى الذي أسلفنا - ليس عنده من الايمان حبة خردل ". على أن زراعة الحشيش والافيون معصية من جهة أخرى، بعد نهي ولي الامر عنها بالقوانين التي وضعت لذلك، لوجوب طاعة ولي الامر فيما ليس بمعصية لله ولرسوله بإجماع المسلمين، كما ذكر ذلك الامام النووي في شرح مسلم في باب طاعة الامراء. وكذا يقال هذا الوجه الاخير في حرمة تعاطي المخدرات والاتجار فيها. (4) الربح الناجم من هذا السبيل: قد علم مما سبق أن بيع هذه المخدرات حرام فيكون الثمن حراما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 (أولا) لقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ". أي لا يأخذ ولا يتناول بعضكم مال بعض بالباطل. وأخذ المال بالباطل على وجهين: 1 - أخذه على وجه الظلم، والسرقة، والخيانة، والغصب، وما جرى مجرى ذلك. 2 - أخذه من جهة محظورة كأخذه بالقمار، أو بطريق العقود المحرمة، كما في الربا، وبيع ما حرم الله الانتفاع به، كالخمر المتناولة للمخدرات المذكورة كما بينا آنفا. فإن هذا كله حرام وإن كان بطيبة نفس من مالكه. (ثانيا) للاحاديث الواردة في تحريم ثمن ما حرم الله الانتفاع به. كقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ". رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس. وقد جاء في زاد المعاد ما نصه: قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه، بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله. وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه. وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات. وكذلك ثياب الحرير: إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها، حرم أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يجل له لبسها " اه وإذا كانت الاعيان التي يحل الانتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية الله - على رأي جمهور الفقهاء، وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الادلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الانتفاع بها - كالمخدرات - حراما من باب أولى. وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراما، كان خبيثا، وكان إنفاقه في القربات - كالصدقات والحج - غير مقبول: أي لا يثاب المنفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر بما أمر به المرسلين. فقال تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا " الآية. وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون " (1) . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء..يا رب..يا رب..ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ ". وقد جاء في الحديث الذي رواه الامام أحمد في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه: ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده في النار، إن الله لا يمحو السئ بالسئ، ولكن يمحو السئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ". وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم، لابن رجب، أحاديث كثيرة وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الموضوع. منها ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كسب ما لا حراما فتصدق به لم يكن له أجر، وكان إصره - يعني إثمه وعقوبته - عليه ". ومنها ما في مراسيل القاسم بن مخيمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدقه به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم ".   (1) سورة البقرة الآية 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وجاء في شرح " ملا علي القاري " للاربعين النووية عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه إذا خرج الحاج بالنفقه الخبيثة، فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال لبيك، ناداه ملك من السماء: لالبيك ولاسعديك، وحجك مردود عليك ". فهذه الاحاديث التي يشد بعضها بعضا، تدل على أنه لا يقبل الله صدقة، ولا حجة، ولا قربة أخرى من القرب من مال خبيث حرام. ومن أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الانفاق على الحج من المال الحرام حرام. وخلاصة ما قلناه: (أولا) تحريم تعاطي الحشيش والافيون والكوكايين ونحوهما من المخدر. (ثانيا) تحريم الاتجار فيها، واتخاذها حرفة تدر الربح. (ثالثا) حرمة زراعة الافيون والحشيش، لاستخلاص المادة المخدرة لتعاطيها أو الاتجار فيها. (رابعا) ان الربح الناتج من الاتجار في هذه المواد حرام خبيث، وأن إنفاقه في القربات غير مقبول، وحرام. قد أطلت القول إطالة قد تؤدي إلى شئ من الملل. ولكني آثرتها تبيانا للحق، وكشفا للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين وأضاليل الضالين المضلين. وقد اعتمدت فيما قلت أو اخترت على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أقوال الفقهاء التي تنفق مع أصول الشريعة الغراء ومبادئها القويمة. انتهت والحمد لله رب العالمين وهو الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 حد شارب الخمر : الفقهاء متفقون على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد. ولكنهم مختلفون في مقداره: فذهب الاحناف ومالك: إلى أنه ثمانون جلدة. وذهب الشافعي: إلى أنه أربعون. وعن الامام أحمد روايتان: قال في المغني: وفيه روايتان. (إحداهما) : أنه ثمانون. وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، ومن تبعهم، لاجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن ابن عوف: " اجعله - كأخف الحدود - ثمانين ". فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام. وروي أن عليا رضي الله عنه قال في المشورة: " إذا سكر: هذى (1) ، وإذا هذى: افترى (2) ، فحدوده حد المفترى ". روى ذلك الجوزجاني، والدارقطني وغيرهم. (والرواية الثانية) أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر (3) ، ومذهب الشافعي، لان عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين. ثم قال: " جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة وهذا أحب إلي ". رواه مسلم. وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين. ثم أتي به أبو بكر، فصنع مثل ذلك. ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود. فقال ابن عوف:   (1) هذى: تكلم بالهذيان: أي تكلم بما لاحقيقة له من الكلام. (2) افترى: كذب واختلق. (3) أحد علماء الحنابلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 " أقل بالحدود ثمانون (1) ". فضربه عمر (2) . وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعله إذا رآه الامام (3) . ويرجح هذا أن عمر كان يجلد الرجل القوي المنهمك في الشراب ثمانين، ويجلد الرجل الضعيف الذي وقعت منه الزلة أربعين. وأما الامر بقتل الشارب إذا تكرر ذلك منه فهو منسوخ: فعن قبيص بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه - في الثالثة أو الرابعة - " فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به، فجلده، ثم أتي به، فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة. بم يثبت الحد ؟ ويثبت هذا الحد بأحد أمرين: 1 - الاقرار: أي اعتراف الشارب بأنه شرب الخمر. 2 - شهادة شاهدين عدلين. واختلف الفقهاء في ثبوته بالرائحة: فذهبت المالكية إلى أنه يجب الحد إذا شهد بالرائحة عند الحاكم شاهدان عدلان، لانها تدل على الشرب، كدلالة الصوت والخط. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يثبت الحد بالرائحة، لوجود الشبهة والروائح تتشابه، والحدود تدرا بالشبهات. ولاحتمال كونه مخلوطا أو مكرها على شربه، ولان غير الخمر يشاركها في رائحتها.   (1) يشير إلى حد القذف، فإنه أقل حد. (2) رواه البخاري ومسلم. (3) وهذا هو الاولى، وأن الحد أربعون، والزيادة تجوز إذا كان ثمة مصلحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 والاصل براءة الشخص من العقوبة، والشارع متشوف إلى درء الحدود. شروط إقامة الحد : يشترط في إقامة حد الخمر الشروط الآتية: 1 - العقل: لانه مناط التكليف، فلا يحد المجنون بشرب الخمر، ويلحق به المعتوه. 2 - البلوغ: فإذا شرب الصبي، فإنه لايقام عليه الحد، لانه غير مكلف. 3 - الاختيار: فإن شربها مكرها فلاحد عليه، سواء أكان هذا الاكراه بالتهديد بالقتل، أو بالضرب المبرح، أو بإتلاف المال كله، لان الاكراه رفع عنه الاثم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ". وإذا كان الاثم مرفوعا فلاحد عليه، لان الحد من أجل الاثم والمعصية. ويدخل في دائرة الاكراه الاضطرار فمن لم يجد ماء وعطش عطشا شديدا يخشى عليه منه التلف، ووجد خمرا، فله أن يشربها. وكذلك من أصابه الجوع الشديد الذي يخشى عليه منه الهلاك، لان الخمر حينئذ ضرورة يتوقف عليها الحياة، والضرورات تبيح المحظورات. يقول الله تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد إثم عليه. إن الله غفور رحيم ". وفي المغني: " أن عبد الله بن حذافة أسره الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكل الخنزير، ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، ثم أخرجوه خشية موته، فقال: والله لقد كان الله أحله لي، فإني مضطر. ولكن لم أكن لاشمتكم بدين الاسلام ". 4 - العلم بأن ما يتناوله مسكر. فلو تناول خمرا مع جهله بأنها خمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فإنه يعذر بجهله، ولا يقام عليه الحد. فلو لفت نظره أحد من الناس، فتمادى في شربه، فإنه لا يكون معذورا حينئذ، لارتفاع الجهالة عنه، وإصراره على ارتكاب المعصية بعد معرفته، فيستوجب العقاب ويقام عليه الحد. وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمرا بين الفقهاء، فإنه لايقام عليه الحد: لان الاختلاف شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. وكذلك لايقام الحد على من تناول النئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالربد، الذي أجمع الفقهاء على تحريمه إذا كان جاهلا بالتحريم، لكونه بدار الحرب أو قريب عهد بالاسلام، لان جهله يعتبر عذرا من الاعذار المسقطة للحد، بخلاف من كان مقيما بدار الاسلام، وليس قريب عهد بالدخول في الاسلام، فإنه يقام عليه الحد، ولا يعذر بجهله، لان هذا مما علم من الدين بالضرورة. عدم اشتراط الحرية والاسلام في إقامة الحد: والحرية والاسلام ليسا شرطا في إقامة الحد، فالعبد إذا شرب الخمر فإنه يعاقب، لانه مخاطب بالتكاليف التي أمر الله بها ونهى عنها. إلا في بعض التكاليف التي يشق عليه القيام بها لانشغاله بأمره سيده، مثل صلاة الجمعة والجماعة. والله سبحانه أمر باجتناب الخمر، وهذا الامر موجه إلى الحر والعبد، ولا يشق عليه اجتنابها، ويلحقه من ضررها ما يلحق الحر. وليس ثمة من فرق بينهما إلا في العقوبة، فإن عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر، فيكون حده عشرين جلدة أو أربعين: " حسب الخلاف في تقدير العقوبة ". وكما لا تشترط الحرية في إقامة الحد، فإنه لا يشترط الاسلام كذلك، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مواطنون (1) ، مثل الاقباط في مصر، وكذلك الكتابيون الذين يقيمون   (1) يسمى هؤلاء بالمذميين بالتعبير الفقهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 مع المسلمين بعقد أمان إقامة موقوتة (1) مثل الاجانب، هؤلاء يقام عليهم الحد إذا شربوا الخمر في دار الاسلام، لان لهم ما لنا وعليهم ما علينا. ولان الخمر محرمة في دينهم، كما سبقت الاشارة إلى ذلك، ولآثارها السيئة وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة. والاسلام يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الاسلام، ويحتفظ به نظيفا قويا متماسكا، لا يتطرق إليه الضعف من أي جانب، لامن ناحية المسلمين، ولا من ناحية غير المسلمين. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه. ولكن الاحناف - رضي الله عنهم - رأوا أن الخمر، وإن كانت غير مال عند المسلمين لتحريم الاسلام لها، إلا أنها مال له قيمة عند أهل الكتاب، وأن من أهرقها من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها، وإن شربها مباح عندهم. وإننا أمرنا بتركهم وما يدينون. وعلى هذا فلا عقوبة على من يشربها من الكتابيين. وعلى فرض تحريمها في كتبهم، فإننا نتركهم، لانهم لا يدينون بهذا التحريم، ومعاملتنا لهم تكون بمقتضى ما يعتقدون، لا بمقتضي الحق من حيث هو. التداوي بالخمر : كان الناس في الجاهلية قبل الاسلام يتناولون الخمر للعلاج، فلما جاء الاسلام نهاهم عن التداوي بها وحرمه. فقد روى الامام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن طارق ابن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: " إنما أصنعها للدواء "، فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ". وروى أبو داود، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكم داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام ".   (1) يسمى هؤلاء بالمستأمنين بالتعبير الفقهي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وكانوا يتعاطون الخمر في بعض الاحيان قبل الاسلام إتقاء لبرودة الجو، فنهاهم الاسلام عن ذلك أيضا. فقد روى أبو داود أن ديلم الحميري سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا رسول الله، إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا؟ قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم. قال: فاجتنبوه. قال: إن الناس غير تاركيه. قال: " فإن لم يتركوه فقاتلوهم ". وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وأن لا يقصد المتداوي به اللذة، والنشوة، ولا يتجاوز مقدار ما يحدده الطبيب، كما أجازوا تناول الخمر في حال الاضطرار. ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر. أو من أشرف على الهلاك من البرد، ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من خمر. أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت، فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين بن الخمر. فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 حد الزنا : 1 - دعا الاسلام إلى الزواج وحبب فيه، لانه هو أسلم طريقة لتصريف الغريزة الجنسية، وهو الوسيلة المثلى لاخراج سلالة يقوم على تربيتها الزوجان ويتعهدانها بالرعاية، وغرس عواطف الحب والود، والطيبة، والرحمة، والنزاهة والشرف، والاباء، وعزة النفس. ولكي تستطيع هذه السلالة أن تنهض بتبعاتها، وتسهم بجهودها في ترقية الحياة وإعلائها. 2 - وكما وضع الطريقة المثلى لتصريف الغريزة منع من أي تصرف في غير الطريق المشروع، وحظر إثارة الغريزة بأي وسيلة من الوسائل، حتى لا تنحرف عن المنهج المرسوم. فنهى عن الاختلاط، والرقص، والصور المثيرة، والغناء الفاحش، النظر المريب، وكل ما من شأنه أن يثير الغريزة أو يدعو إلى الفحش حتى لا تتسرب عوامل الضعف في البيت، والانحلال في الاسرة. 3 - واعتبر الزنا جريمة فانونية تستحق أقصى العقوبة لانه وخيم العاقبة، ومفض إلى الكثير من الشرور والجرائم. فالعلاقات الخليعة والاتصال الجنسي غير المشروع، مما يهدد المجتمع بالفناء والانقراض، فضلا عن كونه من الرذائل المحقرة. " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ". (1) 4 - لانه سبب مباشر في انتشار الامراض الخطيرة التي تفتك بالابدان، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الابناء، وأبناء الابناء، كالزهري، والسيلان، والقرحة. 5 - وهو أحد أسباب جريمة القتل، إذ أن الغيرة طبيعية في الانسان، وقلما   (1) أي لا تفعلوا ما يقرب إلى الزنا، كالنظرة الفاحشة، واللمس، والقبلة، فالآية تنهي عن مقدمات الزنا، إذا كانت مقدماته محرمة فهو من باب أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 يرضى الرجل الكريم، أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي، بل إن الرجل لا يجد وسيلة يغسل بها العار الذي يلحقه ويلحق أهله إلا الدم. 6 - والزنا يفسد نظام البيت، ويهز كيان الاسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الاولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه: التشرد، والانحراف والجريمة. 7 - وفي الزنا ضياع النسب، وتمليك الاموال لغير أربابها عند التوارث. 8 - وفيه تغرير بالزوج: إذ أن الزنا قد ينتج عنه الحمل، فيقوم الرجل بتربية غير ابنه. 9 - إن الزنا علاقة مؤقتة لاتبعة وراءها، فهو عملية حيوانية بحتة ينأى عنها الانسان الشريف. وجملة القول أنه قد ثبت عمليا ثبوتا لا مجال للشك فيه عظم ضرر الزنا، وأنه من أكبر الاسباب الموجبة للفساد وانحطاط الآداب، ومورث لاقتل الادواء، ومروج للعزوبة واتخاذ الخدينات، ومن ثم كان أكبر باعث على الترف والسرف والعهر والفجور. لهذا كله وغيره جعل الاسلام عقوبة الزنا أقسى عقوبة. وإذا كانت هذه العقوبة تبدو قاسية، فإن آثار الجريمة المترتبة عليها أشد ضررا على المجتمع. والاسلام يوازن بين الضرر الواقع على المذنب، والضرر الواقع على المجتمع، ويقضي بارتكاب أخف الضررين، وهذه هي العدالة. ولا شك أن ضرر عقوبة الزاني لا توزن بالضرر الواقع على المجتمع من إفشاء الزنا، ورواج المنكر، وإشاعة الفحش والفجور. إن عقوبة الزنا إذا كان يضار، بها المجرم نفه، فإن في تنفيذها حفظ النفوس، وصيانة الاعراض، وحماية الاسر، التي هي اللبنات الاولى في بناء المجتمع، وبصلاحها يصلح وبفسادها بفسد. إن الامم بأخلاقها الفاضلة، وبآدابها العالية، ونظافتها من الرجس، والتلوث، وطهارتها من التدلي والتسفل. على أن الاسلام - من جانب آخر - كما أباح الزواج أباح التعدد حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 يكون في الحلال مندوحة عن الحرام، ولكي لا يبقي عذر لمتقرف هذه الجريمة. وقد احتاط في تنفيذ هذه العقوبة بقدر ما أخاف الزناة وأرهبهم: 1 - فمن الاحتياط أنه درأ الحدود بالشبهات، فلا يقام حد إلا بعد التيقن من وقوع الجريمة. 2 - وانه لابد في إثبات هذه الجريمة من أربعة شهود عدل من الرجال، فلا تقبل فيها شهادة النساء، ولا شهادة الفسقة. 3 - وأن يكون الشهود جميعا رأوا عملية الزنا نفسها كالميل في المكحلة، والرشاء (1) في البئر، وهذا مما يصعب ثبوته. 4 - ولو فرض أن ثلاثة منهم شهدوا بهذه الشهادة وشهد الرابع بخلاف شهادتهم، أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم عليهم حد القذف. فهذا الاحتياط الذي وضعه الاسلام في إثبات هذه الجريمة، مما يدفع ثبوتها قطعا. فهذه العقوبة هي إلى الارهاب والتخويف أقرب منها إلى التحقيق والتنفيذ. وقد يقول قائل: إذا كان الحد مما يندر إقامته، لتعذر ثبوت الادلة، فلماذا إذن شرعه الاسلام؟ والجواب كما قلنا: أن الاسلام إذا لاحظ قسوة الجريمة وضراوتها فإنه يعمل لها ألف حساب وحساب قبل أن تقترف. فهذا نوع من الزجر بالنسبة لهذه الجريمة التي تجد من الحوافز والبواعث ما يدفع إليها، ولا سيما وأن الغريزة الجنسية من أعنف الغرائز، إن لم تكن أعنفها على الاطلاق، ومن المناسب أن يواجه عنف الغريزة عنف العقوبة، فإن ذلك من عوامل الحد من ثورتها.   (1) الرشاء: الحبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 التدرج في تحريم الزنا : يرى كثير من الفقهاء أن تقرير عقوبة الزنا كانت متدرجة كما حدث في تحريم الخمر، وكما حصل في تشريع الصيام. فكانت عقوبة الزنا في أول الامر الايذاء بالتوبيخ والتعنيف. يقول الله سبحانه: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (1) . ثم تدرج الحكم من ذلك إلى الحبس في البيوت. يقول الله تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أن يجعل الله لهن سبيلا (2) ". ثم استقر الامر، وجعل الله السبيل، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة ورجم الثيب حتى يموت. وكان هذا التدرج ليرتقي بالمجتمع، ويأخذ به في رفق وهوادة إلى العفاف والطهر، وحتى لا يشق على الناس هذا الانتقال، فلا يكون عليهم في الدين حرج، واستدلوا لهذا بحديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي. ونرى أن الظاهر أن آيتي النساء المتقدمتين تتحدثان عن حكم السحاق واللواط، وحكمهما يختلف عن حكم الزنا المقرر في سورة النور. فالآية الاولى في السحاق:   (1، 2) سورة النساء الآية 16. (2) سورة النساء الآية 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 " واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ". والثانية في اللواط: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (1) . 1 - أي والنساء اللاتي يأتين الفاحشة وهي السحاق: الذي تفعله المرأة مع المرأة فاستشهدوا عليهن أربعة من رجالكم، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت بأن توضع المرأة وحدها بعيدة عمن كانت تساحقها، حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا إلى الخروج بالتوبة أو الزواج المغني عن المساحقة. 2 - والرجلان اللذان يأتيان الفاحشة - وهي اللواط - فآذوهما بعد ثبوت ذلك بالشهادة أيضا، فإن تابا قبل إيذائهما بإقامة الحد عليهما، فإن ندما وأصلحا كل أعمالهما وطهرا نفسيهما فأعرضوا عنهما بالكف عن إقامة الحد عليهما. الزنا الموجب للحد : إن كل اتصال جنسي قائم على أساس غير شرعي، يعتبر زنا تترتب عليه العقوبة المقررة من حيث إنه جريمة من الجرائم التي حددت عقوباتها. ويتحقق الزنا الموجب للحد بتغييب الحشفة (2) - أو قدرها من مقطوعها - في فرج محرم (3) ، مشتهى بالطبع (4) ، من غير شبهة نكاح (5) ، ولو لم يكن معه إنزال. فإذا كان الاستمتاع بالمرأة الاجنبية فيما دون الفرج، فإن ذلك لا يوجب   (1) سورة النساء الآية 16. (2) الحشفة: رأس الذكر. (3) بخلاف فرج الزوجة فإنه حلال. (4) فتخرج فروج الحيوانات. (5) فالجماع الذي يحدث بسبب النكاح الذي فيه شبهة لاحد فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الحد المقرر لعقوبة الزنا، وإن اقتضى التعزير. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها، دون أن أمسها، فأنا هذا، فأقم علي ما شئت. فقال عمر: سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فدعاه، فتلا عليه: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل. إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ". فقال له رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة، أم للناس عامة؟..فقال: للناس عامة. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. أقسام الزناة : الزاني: إما أن يكون بكرا، أو محصنا - ولكن منهما حكم يخصه. حد البكر: اتفق الفقهاء على أن البكر الحر إذا زنا فإنه يجلد مائة جلدة، سواء في ذلك الرجال والنساء، لقول الله سبحانه في سورة النور (1) : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة (2) في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (3) ".   (1) الآية: 2 (2) في هذا نهي عن تعطيل الحدود، وقيل: هو نهي عن تخفيف الضرب بحيث لا يحصل وجع معتد به. (2) قيل: يجب حضور ثلاثة فأكثر، وقيل أربعة بعد شهود الزنا. وقال أبو حنيفة: الامام والشهودإن ثبت الحد بالشهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 الجمع بين الجلد والتغريب : والفقهاء، وإن اتفقوا على وجوب الجلد (1) ، فإنهم قد اختلفوا في إضافة التغريب إليه: 1 - قال الشافعي وأحمد: يجمع إلى الجلد التغريب مدة عام، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلا من الاعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل. قال إن ابني كان عسيفا (2) على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة. فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله - الوليدة والغنم رد عليك. وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام - واغد يا أنيس (رجل من أسلم) إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها. قال: فعدا عليه فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه. وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) .   (1) الجلد مأخوذ من جلد الانسان، وهو الضرب الذي يصل إلى جلده. (2) عسيفا: أجيرا. (3) قال الخطابي: " واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام، ووجه ترتيبه على الآية، وهل هو ناسخ للآية أو مبين لها؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وقد أخذ بالتغريب الخلفاء الراشدون - ولم ينكره أحد - فالصديق رضي الله عنه غرب إلى فدك - والفاروق عمر رضي الله عنه إلى الشام - وعثمان رضي الله عنه إلى مصر - وعلي رضي الله عنه إلى البصرة. ووالشافعية يرون انه لا ترتيب بين الجلد والتغريب فيقدم ما شاء منهما، واشترط في التغريب أن يكون إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، لان المقصود به الايحاش عن أهله ووطنه، وما دون مسافة القصر في حكم الحضر، فإن رأى الحاكم تغريبه إلى أكثر من ذلك، فعل. وإذا غربت المرأة، فإنها لاتغرب إلا بمحرم أو زوج فلو لم يخرج إلا بأجرة لزمت، وتكون من مالها. 2 - وقال مالك والاوزاعي: يجب تغريب البكر الحر الزاني، دون المرأة البكر الحرة الزانية، فإنها لاتغرب، لان المرأة عورة. 3 - وقال أبو حنيفة: لا يضم إلى الجلد التغريب إلا أن يرى الحاكم ذلك مصلحة، فيغربهما على قدر ما يرى. حد المحصن: وأما المحصن الثيب فقد اتفق الفقهاء على وجوب رجمه (1) إذا زنا حتى يموت، رجلا كان أو امرأة. واستدلوا بما يأتي: 1 - عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوفي المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه.   فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة. وقال آخرون: بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية، فكأنه قال عقوبتهن إلى أن يجعل الله لهن سبيلا، فوقع الامر بحبسهن إلى غاية. فلما انتهت مدة الحبس، وحان وقت مجئ السبيل " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني ... خذوا عني " إلى آخره تفسيرا للسبيل وبيانه، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هربيان أمر كان ذكر السبيل منطويا عليه، فابان المبهم منه، وفصل المجمل من لفظه، فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة. وهو أصوب القولين، والله أعلم. (1) الرجم: أصله الرمي بالحجارة، وهي الحجارة الضخام وكل رجم في القرآن معناه القتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ردد عليه أربع مرات. فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أبك جنون "؟ قال: لا. قال: " فهل أحصنت "؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا فارجموه ". قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى. فلما أزلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة، فرجمناه، متفق عليه، وهو دليل على أن الاحصان يثبت بالاقرار مرة، وأن الجواب ينعم إقرار. 2 - وعن ابن عباس قال: خطب عمر فقال: " إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، وإني خشيت إن طال زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا، إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها ". رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا. وفي نيل الاوطار: أما الرجم فهو مجمع عليه، وحكي في البحر عن الخوارج أنه غير واجب، وكذلك حكاه عنهم أيضا ابن العربي. وحكاه أيضا عن بعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ولامستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن، وهذا باطل. فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها. وهو أيضا ثابت بنص القرآن. لحديث عمر عند الجماعة أنه قال: كان مما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمناه بعده. ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم، كما أخرج أبو داود من حديث ابن عباس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وقد أخرج أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء: أن فيما أنزل الله من القرآن: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة ". وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي بن كعب بلفظ: كانت سورة الاحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها آية " الشيخ والشيخة " إلخ الحديث. شروط الإحصان : يشترط في المحصن الشروط الآتية: 1 - التكليف: أي أن يكون الواطئ عاقلا بالغا. فلو كان مجنونا أو صغيرا فإنه لا يحد. ولكن يعزر. 2 - الحرية: فلو كان عبدا أو أمة فلارجم عليهما لقول الله سبحانه في حد الاماء: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " والرجم لا يتجزأ. 3 - الوطء في نكاح صحيح: أي أن يكون الواطئ قد سبق له أن تزوج زواجا صحيحا ووطء فيه ولو لم ينزل. ولو كان في حيض أو إحرام يكفي، فإن كان الوطء في نكاح فاسد فإنه لا يحصل به الاحصان ولا يلزم بقاء الزواج لبقاء صفة الاحصان، فلو تزوج مرة زواجا صحيحا، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة الزوجية. ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم. وكذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة وترجم.   (1) الاحصان يأتي في القرآن بمعنى الحرية: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " " سورة النساء " أي الحرائر، ويأتي بمعنى العفة. " والذين يرمون المحصنات " " سورة النور " أي العفيفات. ويأتي بمعنى التزوج " والمحصنات من النساء " " سورة النساء " أي المتزوجات ويأتي بمعنى الوطء " محصنين غير مسافين ". والاصل فيه في اللغة: المنع، ومنه: " لنحصنكم من بأسكم " وأخذ منه الحصن. وورد في الشرع بمعنى: " الاسلام، بمعنى: البلوغ، وبمعنى: العقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 المسلم والكافر سواء : وكما يجب الحد على المسلم إذا ثبت منه الزنا فإنه يجب على الذمي والمرتد، لان الزمي قد التزم الاحكام التي تجري على المسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا وكانا محصنين. وأما المرتد فإن جريان أحكام الاسلام تشمله، ولا يخرجه الارتداد عن تنفيذها عليه. عن ابن عمر: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قدزنيا. فقال: " ما تجدون في كتابكم؟ " فقال: تسخم وجوههما ويخزيان. " قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ". وجاء وابقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح. فقال - أو قالوا - يا محمد: " إن فيها الرجم، ولكنا كنانتكاتمه بيننا " فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه ". رواه البخاري ومسلم وفي رواية أحمد: " بقارلهم أعور يقال له ابن صوريا ". وعن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه رجلا من أسلم ورجلا من اليهود (1) رواه أحمد ومسلم. وعن البراء بن عازب قال: " مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم. فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم. ؟ قال: لا. ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم. ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه   (1) فإن قيل كيف رجم اليهوديان، هل رجما بالبينة أو الاقرار قال النووي - الظاهر أنه بالاقرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 الحد. فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه ". فأمر به فرجم. فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأقواههم ولم تؤمن قلوبهم " إلى قوله: " إن أوتيتم هذا فخذوه ". يقولون: " ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ". فأنزل الله تبارك وتعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ". " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ". " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ". قال: " هي في الكفار كلها ". رواه أحمد ومسلم وأبو داود (1) . رأي الفقهاء: حكى صاحب البحر الاجماع على أنه يجلد الحربي. وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن   (1) نص خاص بحكم الرجم في التوراة. جاء في سفر التثنية: " إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان. الرجل المضطجع مع المرأة، والمرأة، فينزع الشر من إسرائيل. وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل بالمدينة، فاضطجع معها، فأخرجوهما كليهما من المدينة وارجموهما بالحجارة، حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فينزع الشر من المدينة ". هذا هو نص التوراة، ولم يأت في الانجيل ما يعارضها وهي واجبة على النصارى بحكم أن ما في العهد القديم - وهو التوراة - حجة على النصارى إذا لم يكن في العهد الجديد - وهو الانجيل - ما يخالفها. من كتاب فلسفة العقوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 من الكفار إذا كان بالغا، عاقلا، حرا، وكان أصاب نكاحا صحيحا في اعتقاده. وذهب أبو حنيفة، ومحمد، وزيد بن علي، والناصر، والامام يحيى: إلى أنه يجلد ولا يرجم، لان الاسلام شرط في الاحصان عندهم. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهوديين إنما كان بحكم التوراة التي يدين بها اليهود. وقال الامام يحيى: والذمي كالحربي في الخلاف. وقال مالك: لاحد عليه. وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد: إلى أنه لا يحد. وقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الاحصان الموجب للرجم هو الاسلام. وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك. ومن جملة من قال بأن الاسلام شرط: ربيعة - شيخ مالك - وبعض الشافعية (1) . الجمع بين الجلد والرجم: ذهب ابن حزم وإسحاق ببن راهواية ومن التابعين الحسن البصري: إلى أن المحصن يجلد مائة جلدة، ثم يرجم حتى يموت. فيجمع له بين الجلد والرجم. واستدلوا بما رواه عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي. وعن علي كرم الله وجهه: أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. فقال: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) نيل الاوطار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجتمع الجلد والرجم عليهما وإنما الواجب الرجم خاصة. وعن أحمد، روايتان: إحداهما يجمع بينهما. وهو أظهر الروايتين واختارها الخرقي. والاخرى: لا يجمع بينهما، لمذهب الجمهور - واختارها ابن حامد. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ما عزا والغامدية واليهوديين - ولم يجلد واحدا منهما. وقال لانيس الاسلمي " فإن اعترفت فارجمها "، ولم يأمر بالجلد، وهذا آخر الامرين، لان أبا هريرة قد رواه - وهو متأخر في الاسلام - فيكون ناسخا لما سبق من الحدين - الجلد والرجم - ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الجلد والرجم. ويرى الشيخ الدهلوي عدم التعارض، وأنه لا ناسخ ولا منسوخ، وإنما الامر يفوض إلى الحاكم قال: الظاهر عندي أنه يجوز للامام " الحاكم " أن يجمع بين الجلد والرجم، ويستحب له أن يقتصر على الرجم، لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم. والحكمة في ذلك، أن الرجم عقوبة تأتي على النفس، فأصل الزجر المطلوب حاصل به، والجلد زيادة عقوبة مرخص في تركها، فهذا هو وجه الاقتصار على الرجم عندي. شروط الحد : يشترط في إقامة حد الزنا ما يلي: 1 - العقل. 2 - البلوغ. 3 - الاختيار. 3 - العلم بالتحريم. فلا حد على صغير (1) ولا على مجنون، ولا مكره: لما روته عائشة رضي   (1) ويؤدب تأديبا زاجرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث (1) : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم (2) وعن المجنون حتى يعقل ". رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين وحسنه الترمذي. وأما العلم بالتحريم فلان الحد يتبع اقتراف الحرام، وهو غير مقترف له، وراجع النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا، فقال له: هل تدري ما الزنا؟ وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل: إنها زنت، فخفقها بالدرة خفقات وقال: " أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش (3) بدرهمين. فقال عمر: ما ترون؟ وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف. فقال علي رضي الله عنه: أرى أن ترجمها. وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك. فقال عثمان: أراها تستسهل (4) بالذي صنعت، لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عزوجل. فقال صدقت. بم يثبت الحد : يثبت الحد بأحد أمرين: الاقرار، أو الشهود. ثبوته بالاقرار: أما الاقرار فهو كما يقولون " سيد الادلة "، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ما عز والغامدية، ولم يختلف في ذلك أحد من الائمة، وإن كانوا قد اختلفوا في عدد مرات الاقرار الذي يلزم به الحد. فقال مالك، والشافعي، وداود، والطبري، وأبو ثور: يكفي في   (1) رفع القلم: كناية عن عدم التكليف. (2) يحتلم يبلغ. (3) اسم الرجل الذي زنا بها، والدرهمان: ما أخذ منه. (4) أي: أظنها ترى هذا الامر سهلا لا بأس به في نظرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 لزوم الحد اعترافه به مرة واحدة. لما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ". فاعترفت، فرجمها، ولم يذكر عددا. وعند الاحناف: أنه لابد من أقارير أربعة مرة بعد مرة في مجالس متفرقة. ومذهب أحمد وإسحاق مثل الاحناف، إلا أنهم لا يشترطون المجالس المتفرقة، والمذهب الاول هو الارجح. الرجوع عن الاقرار يسقط الحد: ذهبت الشافعية، والحنفية، وأحمد (1) إلى أن الرجوع عن الاقرار يسقط الحد لما رواه أبو هريرة عند أحمد والترمذي: " أن ما عزا لما وجد مس الحجارة يشتد فر حتى مر برجل معه لحي (2) جمل، فضربه به، وضربه الناس حتى مات. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هلا تركتموه!؟ ". قال الترمذي إنه حديث حسن. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. انتهى. وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه، وزاد " إنه لما وجد مس الحجارة صرخ: يا قومن ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي. فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به!!؟ ". من أقر بزنا امرأة فجحدت : إذا أقر الرجل بزنا امرأة معينة، فجحدت فإنه يقام عليه الحد وحده،   (1) وقال مالك: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه، وإن رجع إلى غير شبهة فقيل. يقبل، وهي الرواية المشهورة عنه، والثانية أنه لا يقبل جوعه. (2) اللحى: عظم الحنك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ولاتحد هي. لما رواه أحمد وأبو داود عن سهل بن سعد: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنا بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحده وتركها ". وهذا الحد هو حد الزنا الذي أقر به، لاحد قذف المرأة كما ذهب إليه مالك والشافعي. وقال الاوزاعي وأبو حنيفة: يحد للقذف فقط، لان إنكارها شبهة، واعترض على هذا الرأي بأن إنكارها لا يبطل إقراره. وذهبت الهادوية، ومحمد، ويروى عن الشافعي، أنه يحد للزنا والقذف، لما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس: " أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنا بامرأة أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرا - ثم سأله البينة على المرأة. فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حد الفرية ثمانين (1) ". ثبوته بالشهود: الاتهام بالزناسئ الاثر في سقوط الرجل والمرأة، وضياع كرامتهما، وإلحاق العار بهما وبأسرتيهما وذريتهما. ولهذا شدد الاسلام في إثبا ت هذه الجريمة حتى يسد السبيل على الذين يتهمون الابرياء - جزافا أو لادنى حزازة - بعار الدهر وفضيحة الابد، فاشترط في الشهادة على الزنا الشروط الآتية: (أولا) أن يكون الشهود أربعة - بخلاف الشهادة على سائر الحقوق - قال الله تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " (2) ولقوله: " والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (3) فإن كانوا أقل من أربعة لم تقبل.   (1) قال النسائي هذا حديث منكر، وقال ابن حبان بطل الاحتجاج به. (2) سورة النساء: الآية 15. (3) سورة النور: الآية 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وهل يحدون إذا شهدوا؟: قال الاحناف، ومالك، والراجح من مذهب الشافعي، وأحمد: نعم. الان عمر حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة. وهم: أبو بكرة ونافع وشبل ابن معبد. وقيل لا يحدون حد القذف، لان قصدهم أداء الشهادة لاقذف المشهود عليه. وهو المرجوح عندالشافعية والحنفية ومذهب الظاهرية. (ثانيا) البلوغ: لقول الله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ". (1) فإن لم يكن بالغا فلا تقبل شهادته، لانه ليس من الرجال، ولا ممن ترضى شهادته، ولو كانت حاله تمكنه من أداء الشهادة على وجهها، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق ". لصبي ليس أهلا لان يتولى حفظ ماله، فلا يتولى الشهادة على غيره، لان الشهادة من باب الولاية. (ثالثا) العقل: فلا تقبل شهادة مجنون ولامعتوه للحديث السابق، وإذا كانت شهادة الصبي لاتقبل لنقصان عقله فأولى ألا تقبل شهادة المجنون والمعتوه. (رابعا) العدالة: لقول الله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " (2) وقوله: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (3) .   (1) سورة البقرة الآية: 282. (2) سورة الطلاق الآية: 2 (3) سورة الحجرات الآية: 6 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 (خامسا) الاسلام: سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم، وهذا متفق عليه بين الائمة. (سادسا) المعاينة: أي أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها كالميل في المكحلة والرشا في البئر لان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لما عز: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت "؟ فقال: لا يا رسول الله. فسأله صلوات الله وسلامه عليه باللفظ الصريح لا يكني. قال: نعم. قال: " كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر "؟ قال: نعم. وإنما أبيح النظر في هذه الحالة للحاجة إلى الشهادة، كما أبيح للطبيب، والقابلة ونحوهما. (سابعا) التصريح: وأن يكون التصريح بالايلاج لا بالكناية كما تقدم في الحديث السابق. (ثامنا) اتحاد المجلس: ويرى جمهور الفقهاء أن من شرط هذه الشهادة اتحاد المجلس بأن لا يختلف في الزمان ولا في المكان، فإن جاءوا متفرقين لا تقبل شهادتهم. ويرى الشافعية، والظاهرية، والزيدية، عدم اشتراط هذا الشرط. فإن شهدوا مجتمعين أو متفرقين في مجلس واحد أو في مجالس متفرقة، فإن شهادتهم تقبل، لان الله تعالى ذكر الشهود ولم يذكر المجالس، ولان كل شهادة مقبولة تقبل إن اتفقت، ولو تفرقت في مجالس، كسائر الشهادات. (تاسعا) الذكورة: ويشترط في شهود الزنا أن يكونوا جميعا من الرجال ولاتقبل شهادة النساء في هذا الباب. ويرى ابن حزم أنه يجوز أن يقبل في الزنا شهادة امرأتين مسلمتين عدل مكان كل رجل، فيكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين - أو رجلين وأربع نسوة - أو رجلا واحدا وست نسوة - أو ثمان نسوة لارجال معهم. (عاشرا) عدم التقادم: لقول عمر رضي الله عنه: أيما قوم شهدوا على حد، لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم. فإذا شهد الشهود على حادث الزنا بعد أن تقادم فإن شهادتهم لا تقبل عند الاحناف، ويحتجون لهذا بأن الشاهد إذا شهد الحادث مخير بين أداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الشهادة حسبة، وبين التستر على الجاني، فإذا سكت عن الحادث حتى قدم عليه العهد دل بذلك على اختيار جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فهو دليل على أن الضغينة هي التي حملته على الشهادة. ومثل هذا لاتقبل شهادته، للتهمة والضغينة، كما قال عمر، ولم ينقل أن أحدا أنكر عليه هذا القول، فيكون إجماعا. وهذا ما لم يكن هناك عذر يمنع الشاهد من تأخير الشهادة، فإن كان هناك عذر ظاهر في تأخير الشهادة، كبعد المسافة عن محل التقاضي، وكمرض الشاهد أو نحو ذلك من الموانع، فإن الشهادة تقبل حينئذ ولا تبطل بالتقادم. والاحناف الذين قالوا بهذا الشرط لم يقدروا له أمدا، بل فوضوا الامر للقاضي يقدره تبعا لظروف كل حالة لتعذر التوقيت، نظرا لاختلاف الاعذار. وبعض الاحناف قدر التقادم بشهر، وبعضهم قدره بستة أشهر. أما جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والظاهرية، والشيعة الزيدية فإن التقادم عندهم لايمنع من قبول الشهادة مهما كانت متأخرة. وللحنابلة رأيان: رأي مثل أبي حنيفة، ورأي مثل الجمهور. هل للقاضي أن يحكم بعلمه؟: يرى الظاهرية أنه فرض على القاضي أن يقضي بعلمه في الدماء، والقصاص والاموال، والفروج، والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه، لانه يقين الحق، ثم بالاقرار، ثم بالبينة، لان الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " (1) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ". فصح أن القاضي عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم   (1) سورة النساء الآية: 135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضا على القاضي أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه، وإلا فهو ظالم. وأما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه ليس للقاضي أن يقضي بعلمه. قال أبو بكر رضي الله عنه: " لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي "، ولان القاضي كغيره من الافراد لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة. ولو رمى القاضي زانيا بما شهده منه، وهو لا يملك على ما يقول البينه الكاملة لكان قاذفا يلزمه حد القذف، وإذا كان قد حرم على القاضي النطق بما يعلم، فأولى أن يحرم عليه العمل به، وأصل هذا الرأي قول الله سبحانه: " فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " (1) هل يثبت الحد بالحبل؟: ذهب الجمهور إلى أن مجرد الحبل لا يثبت به الحد، بل لابد من الاعتراف أو البينة. واستدلوا على هذا بالاحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات. وعن علي رضي الله عنه أنه قال لامرأة حبلى: " استكرهت؟ " قالت: لا. قال: " فلعل رجلا أتاك في نومك ". قالوا: وروى الاثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة ادعت أنها ثقيلة النوم وأن رجلا طرقها ولم تدر من هو بعد. وأما مالك وأصحابه فقالوا: إذا حملت المرأة ولم يعلم لها زوج ولم يعلم أنها أكرهت فإنها تحد: قالوا: فإن ادعت الاكراه فلابد من الاتيان بأمارة تدل على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمي، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه. وكذلك إذا ادعت الزوجية، فإن دعواها لاتقبل إلا أن تقيم على ذلك البينة   (1) سورة النور الآية: 13 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 واستدلوا لمذهبهم بقول عمر: " الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنا: إذا كانت بينة، أو الحمل، أو الاعتراف ". وقال علي. " يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سروزنا علانية. فزنا السر أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي. وزنا العلانية أن يظهر الحبل، والاعتراف ". قالوا: هذا قول الصحابة، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعا. سقوط الحد بظهور ما يقطع بالبراءة: إذا ظهر بالمرأة أو بالرجل ما يقطع بأنه لم يقع من أحد منهما زنا، كأن تكون المرأة عذراء لم تفض بكارتها أو رتقاء مسدودة الفرج، أو يكون الرجل مجبوبا أو عنينا سقط الحد. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا لقتل رجل كان يدخل على إحدى النساء، فذهب فوجده يغتسل في ماء، فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله، فرآه مجبوبا، فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك. الولد يأتي لستة أشهر: إذا تزوجت المرأة وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجت فلا حد عليها. قال مالك: بلغني أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها. إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". (1)   (1) سورة الاحقاف الآية: 15 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وقال: " الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة ". (1) فالحمل يكون ستة أشهر، فلارجم عليها، فبعث عثمان في أثرها، فوجدها قد رجمت. وقت إقامة الحد : قال في بداية المجتهد (2) : وأما الوقت فإن الجمهور على أنه لايقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض. وقال قوم: يقام - وبه قال أحمد وإسحاق - واحتجا بحديثي عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض. قال: وسبب الخلاف معارضة الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أنه حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود. فمن نظر إلى الامر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال يحد المريض. ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الامر في شدة الحر والبرد. قال الشوكاني: وقد حكي في البحر الاجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، والمرض المرجو برؤه، فإن كان ميؤوسا، فقاال الهادي وأصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول (3) إن احتمله. وقال الناصر والمؤيد بالله: لا يحد في مرضه وإن كان ميئوسا - والظاهر الاول، لحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الآتي: وأما المرجوم إذا كان مريضا أو نحوه فذهبت العترة، والشافعية والحنفية ومالك: إلى أنه لا يمهل لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه.   (1) سورة البقرة الآية: 233. (2) ج 2 ص 410. (3) العثكول: العذق من اعذاق النخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وقال المروزي: يؤخر لشدة الحر أو البرد أو المرض، سواء ثبت بإقراره أو بالبينة. وقال الاسفراييني: يؤخر للمرض فقط، وفي الحر والبرد: يرجم في الحال أو حيث يثبت بالبينة لا الاقرار أو العكس. والحبلى لاترجم حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه. وعن علي قال: " إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت ان أجلدها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت. اتركها حتى تماثل ". رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وصححه. الحفر للمرجوم: اختلفت الاحاديث الواردة في الحفر للمرجوم فبعضها مصرح فيه بالحفر له، وبعضها لم يصرح به. قال الامام أحمد: أكثر الاحاديث على أنه لاحفر. ولاختلاف ما ورد من أحاديث، اختلف الفقهاء. فقال مالك وأبوحنيفة: لا يحفر للمرجوم. وقال أبو ثور: يحفر له. وروي عن علي رضي الله عنه: أنه حين أمر برجم شراحة الهمدانية أخرجها، فحفر لها، فأدخلت فيها، وأحدق الناس بها يرمونها. وأما الشافعي فخير في ذلك. وروي عنه أنه يحفر للمرأة خاصة. وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة، ويستحب جمع ثيابها عليه وشدها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها وتكرار اضطرابها إذا لم يحفر لها. واتفق العلماء على أنه لاترجم إلا قاعدة، وأما الرجل فجمهورهم على أنه يرجم قائما. وقال مالك: قاعدا، وقال غيره: يخير الامام بينهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 حضور الإمام والشهود والرجم : (1) قال في نيل الاوطار: " حكى صاحب البحر عن العترة، والشافعي، أنه لا يلزم الامام حضور الرجم، وهو الحق، لعدم دليل يدل على الوجوب، ولما تقدم في حديث ماعزأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز ولم يخرج معهم. والزنا منه ثبت بإقراره كما سلف، وكذلك لم يحضر في رجم الغامدية كما زعم البعض. قال في التلخيص: لم يقع في طرق الحديثين أنه حضر، بل في بعض الطرق ما يدل على أنه لم يحضر. وقد جزم بذلك الشافعي، فقال: وأما الغامدية ففي سنن داود وغيره ما يدل على ذلك. وإذا تقرر هذا تبين عدم الوجوب على الشهود ولا على الامام. وأم الاستحباب، فقد حكى ابن دقيق العيد أن الفقهاء استحبوا أن يبدأ الامام بالرجم إذا ثبت الزنا بالاقرار، وتبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة. شهود طائفة من المؤمنين الحد : قال الله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (2) . استدل العلماء بهذه الآية على أنه يستحب أن يشهد إقامة الحد طائفة من المؤمنين، واختلفوا في عدد هذه الطائفة، فقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل اثنان. وقيل: سبعة فأكثر. الضرب في حد الجلد : ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يضرب سائر الاعضاء ما عدا الفرج   (1) ذهب أبو حنيفة إلى أن الشاهد يجب أن يكون أول من يرمي الزاني المحصن إذا ثبت الحد بالشهادة - وأن الامام يجبره على ذلك، لما فيه من الزجر عن التساهل والترغيب في التثبيت - فإذا كان الثبوت بالاقرار وجب على الامام أو نائبه أن يبدأ بالرجم. (2) سورة النور الآية: 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 والوجه وما عدا الرأس كذلك عند أبي حنيفة. وقال مالك: يجرد الرجل في ضرب الحدود كلها، وكذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، ما عدا القذف. ويضرب قاعدا لا قائما (1) . قال النووي: قال أصحابنا: وإذا ضربه بالسوط يكون سوطا معتدلا في الحجم، بين القضيب والعصا. فإن ضربه بجريدة، فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، ويضربه، ضربا بين ضربين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، بل يرفع ذراعه رفعا معتدلا. إمهال البكر: تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، وكذلك المرجو الشفاء. فإن كان ميئوسا من شفائه. فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله. روى أبو داود وغيره عن رجل من الانصار: أنه اشتكى (2) رجل منهم حتى أضى (3) فعاد جلده على عظم. فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهش لها فوقع عليها (4) . فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحدمن الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه به ضربة واحد.   (1) بداية المجتهد ج 2 ص 410 (2) اشتكى: مرض. (3) الضنى: شدة الاجهاد من المرض. (4) وقع عليها: زنا بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 هل للمجلود دية إذا مات ؟ إذا مات المجلود فلادية له. قال النووي في شرح مسلم: " أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد فجلده الامام أو جلاده الحد الشرعي فمات فلادية فيه ولا كفارة، لاعلى الامام " الحاكم " ولا على جلاده، ولا في بيت المال ". كان ما تقدم هو حكم جريمة الزنا، وبقي أن نذكر بعض الجرائم وأحكامها فيما يلي: (1) عمل قوم لوط : إن جريمة اللواط من أكبر الجرائم، وهي من الفواحش المفسدة للخلق وللفطرة وللدين والدنيا، بل وللحياة نفسها، وقد عاقب الله عليها بأقسى عقوبة. فخسف الارض بقوم لوط، وأمطر عليهما حجارة من سجيل جزاء فعلتهم القذرة. وجعل ذلك قرآنا يتلى ليكون درسا. قال الله سبحانه: " ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين. إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون. وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين: " (1) وقال تعالى: " ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا، وقال: هذا يوم عصيب. وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر   (1) سورة الاعراف. الآيات: 80، 81، 82، 83، 84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟ قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ قالوا: يا لوط إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!؟ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود. مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد ". (1) وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل فاعله ولعنه. روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". ولفظ النسائي: " لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط ". قال الشوكاني: " وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارفي هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين. فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون من الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم ". وإنما شدد الاسلام في عقوبة هذه الجريمة لآثارها السيئة وأضرارها في الفرد والجماعة. وهذه الاضرار نذكرها ملخصة من كتاب: " الاسلام والطب " فيما يلي (1) :   (1) سورة هود الآيات: 77، 78، 79، 80، 81، 82، 83 (1) كتاب " الاسلام والطب " للدكتور محمد وصفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 الرغبة عن المرأة: من شأن اللواطة أن تصرف الرجل عن المرأة، وقد يبلغ به الامر إلى حد العجز عن مباشرتها، وبذلك تتعطل أهم وظيفة من وظائف الزواج، وهي إيجاد النسل. ولو قدر لمثل هذا الرجل أن يتزوج، فإن زوجته تكون ضحية من الضحايا، فلا تظفر بالسكن (1) ، ولا بالمودة، ولا بالرحمة التي هي دستور الحياة الزوجية، فتقضي حياتها معذبة معلقة، لاهي متزوجة ولا مطلقة. التأثير في الأعصاب: وإن هذه العادة تغزو النفس، وتؤثر في الاعصاب تأثيرا خاصا، أحد نتائجه الاصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده بأنه ما خلق ليكون رجلا، وينقلب الشعور إلى شذوذ، به ينعكس شعور اللائط انعكاسا غريبا، فيشعر بميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية. ومن هذا تستطيع أن تتبين العلة الحقيقية في إسراف بعض الشبان الساقطين في التزين وتقليدهم النساء في وضع المساحيق المختلفة على وجوههم، ومحاولتهم الظهور بمظهر الجمال بتحمير أصداغهم، وتزجيج حواجبهم، وتثنيهم في مشيتهم، إلى غيرذلك مما نشاهده جميعا في كل مكان. وتقع عليه أبصارنا في كثير من الاحيان. ولقد أثبتت كتب الطب كثيرا من الوقائع الغريبة التي تتعلق بهذا الشذوذ أضرب صفحا عن ذكرها. ولا يقتصر الامر على إصابة اللائط بالانعكاس النفسي، بل هنالك ما تسببه هذه الفاحشة من إضعاف القوى النفسية الطبيعية في الشخص كذلك، وما تحدثه من جعله عرضة للاصابة بأمراض عصبية شاذة وعلل نفسية شائنة، تفقده لذة الحياة، وتسلبه صفة الانسانية والرجولة، فتحيي فيه لوثات وراثية   (1) السكن: السكينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 خاصة، وتظهر عليه آفات عصبية كامنة تبديها هذه الفاحشة، وتدعو إلى تسلطها عليه. ومثل هذه الآفات العصبية النفسية: الامراض السادية، والماسوشية، والفيتشزم وغيرها. التأثير على المخ: واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالا كبيرا في توازن عقل المرء، وارتباكا عاما في تفكيره، وركودا غريبا في تصوراته، وبلاهة واضحة في عقله، وضعفا شديدا في إرادته. وإن ذلك ليرجع إلى قلة الافرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد فوق الكلى، وغيرها مما يتأثر باللواط تأثرا مباشرا، فيضطرب عملها وتختل وظائفها. وإنك لتجد هنالك علاقة وثيقة بين (النيورستانيا) واللواط، وارتباطا غريبا بينهما، فيصاب اللائط بالبله والعبط وشرود الفكر وضياع العقل والرشاد. السويداء: واللواط إما أن يكون سببا في ظهور مرض السويداء أو يغدو عاملا قويا على إظهاره وبعثه. ولقد وجد أن هذه الفاحشة وسيلة شديدة التأثير على هذا الداء من حيث مضاعفتها له وزيادة تعقيدها لاعراضه ويرجع ذلك للشذوذ الوظيفي لهذه الفاحشة المنكرة وسوء تأثيرها على أعصاب الجسم. عدم كفاية اللواط: واللواط علة شاذة، وطريقة غير كافية لاشباع العاطفة الجنسية وذلك لانها بعيدة الاصل عن الملامسة الطبيعية، لا تقوم بإرضاء المجموع العصبي، شديدة الوطأة على الجهاز العضلي، سيئة التأتير على سائر أجزاء البدن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وإذا نظرنا إلى فسيولوجيا الجماع والوظيفة الطبيعية التي تؤديها الاعضاء التناسلية وقت المباشرة، ثم قارنا ذلك بما يحدث في اللواط، وجدنا الفرق بعيدا والبون بين الحالتين شاسعا، ناهيك بعدم صلاحية الموضع وفقد ملاءمته للوضع الشاذ. ارتخاء عضلات المستقيم وتمزقه: وإنك إذا نظرت إلى اللواط من ناحية أخرى وجدته سببا في تمزق المستقيم وهتك أنسجته وارتخاء عضلاته وسقوط بعض أجزائه، وفقد السيطرة على المواد البرازية وعدم استطاعة القبض عليها، ولذلك تجد الفاسقين دائمي التلوث بهذه المواد المتعفنة بحيث تخرج منهم بغير إرادة أو شعور. علاقة اللواط بالأخلاق: واللواط لوثة أخلاقية ومرض نفسي خطير، فتجد جميع من يتصفون به سيئي الخلق فاسدي الطباع، لا يكادون يميزون بين الفضائل والرذائل. ضعيفي الارادة ليس لهم وجدان يؤنبهم ولا ضمير يردعهم، لا يتحرج أحدهم، ولا يردعه رادع نفسي، عن السطو على الاطفال والصغار واستعمال العنف والشدة لاشباع عاطفته الفاسدة والتجرؤ على ارتكاب الجرائم التي نسمع عنها كثيرا ونطالع أخبارها في الجرائد السيارة وفي غيرها، ونجد تفاصيل حوادثها في المحاكم وفي كتب الطب. اللواط وعلاقته بالصحة العامة: واللواط فوق ما ذكرت يصيب مقترفيه بضيق الصدر ويرزؤهم بخفقان القلب. ويتركهم بحال من الضعف العام يعرضهم للاصابة بشتى الامراض ويجعلهم نهبة لمختلف العلل والاوصاب. التأثير على أعضاء التناسل: ويضعف اللواط كذلك مراكز الانزال الرئيسية في الجسم ويعمل على القضاء على الحيوية المنوية فيه، ويؤثر على تركيب مواد المني ثم ينتهي الامر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 بعد قليل من الزمن بعدم القدرة على إيجاد النسل، والاصابة بالعقم مما يحكم على اللائطين بالانقراض والزوال. التيفود والدوسنطاريا: ونستطيع أن نقول: إن اللواط يسبب بجانب ذلك العدوى بالحمى التيفودية والدوسنطاريا وغيرهما من الامراض الخبيثة التي تنتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزودة بمختلف الجراثيم، المملوءة بشتى أسباب العلل والامراض. أمراض الزنا: ولا يخفى أن الامراض التي تنتشر بالزنا يمكن أن تنتشر كذلك بطريق اللواط، وتصيب أصحابه فتفتك بهم فتكا ذريعا، فتبلي أجسامهم، وتحصد أرواحهم. مما تقدم نتبين حكمة التشريع الاسلامي في تحريم اللواط، وتظهر دقة أحكامه في التنكيل بمقترفيه، والامر بالقضاء عليهم وتخليص العالم من شرورهم. رأي الفقهاء في حكم اللواط: ومع إجماع العلماء على حرمة هذه الجريمة، وعلى وجوب أخذ مقترفيها بالشدة، إلا أنهم اختلفوا في تقدير العقوبة المقررة لها مذاهب ثلاثة: 1 - مذهب القائلين بالقتل مطلقا. 2 - ومذهب القائلين بأن حده حد الزاني: فيجلد البكرويرجم المحصن. 3 - ومذهب القائلين بالتعزير. (المذهب الاول) : يرى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والناصر، والقاسم بن إبراهيم، والشافعي في قول: أن حده القتل ولو كان بكرا، سواء كان فاعلا أو مفعولا به. واستدلوا بما يأتي: 1 - عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". رواه الخمسة إلا النسائي..قال في " النيل ": وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي. وقال الحافظ: رجاله موثوقون إلا أن فيه اختلافا. 2 - وعن علي أنه رجم من عمل هذا العمل. أخرجه البيهقي. قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصنا كان أو غير محصن. 3 - وعن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء. فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: " هذا ذنب لم تعص به أمة من الامم، إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار ". فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار. أخرجه البيهقي وفي إسناده إرسال. وأفاد الشوكاني بأن هذه الاحاديث تنهض بمجموعها للاحتجاج بها. وهؤلاء اختلفوا في كيفية قتل مرتكب هذا العمل. فروي عن أبي بكر وعلي: أنه يقتل بالسيف، ثم يحرق، لعظم المعصية. وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط. وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد. وحكى البغوي عن الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، أنه يرجم. وحكي ذلك الترمذي عن مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وروي عن النخعي أنه لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم من يعمل عمل قوم لوط. وقال المنذري: حرق من يعمل هذا العمل أبو بكر وعلي، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك. (المذهب الثاني) : وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 والحسن، وقتادة، والنخعي، والثوري، والاوزاعي، وأبو طالب، والامام يحيى، والشافعي في قول إلى أن حده حد الزاني، فيجلد البكر ويغرب، ويرجم المحصن. واستدلوا بما يأتي: 1 - ان هذا الفعل نوع من أنواع الزنا، لانه إيلاج فرج في فرج، فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الادلة الواردة في الزاني المحصن والبكر، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ". 2 - انه على فرض عدم شمول الادلة الواردة في عقوبة الزنا لهما، فهما لاحقان بالزاني بطريق القياس. (المذهب الثالث) : وذهب أبو حنيفة، والمؤيد بالله، والمرتضى، والشافعي في قول إلى تعزير مرتكب هذه الفاحشة، لان الفعل ليس بزنا فلا يأخذ حكمه. وقد رجح الشوكاني مذهب القائلين بالقتل، وضعف المذهب الاخير لمخالفته للادلة، وناقش المذهب الثاني فقال: " إن الادلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقا مخصصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها المرتكب جريمة قوم لوط، ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول، لانه يصير فاسد الاعتبار، كما تقرر في الاصول (1) . (2) الاستمناء : استمناء الرجل بيده مما يتنافى مع ما ينبغي أن يكون عليه الانسان من الادب وحسن الخلق، وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فمنهم من رأى أنه حرام مطلقا. ومنهم من رأى أنه حرام في بعض الحالات، وواجب في بعضها الآخر.   (1) لانه لا قياس مع النص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 ومنهم من ذهب إلى القول بكراهته. أما الذين ذهبوا إلى تحريمه فهم المالكية والشافعية، والزيدية. وحجتهم في التحريم أن الله سبحانه أمر بحفظ الفروج في كل الحالات، إلا بالنسبة للزوجة، وملك اليمين. فإذا تجاوز المرء هاتين الحالتين واستمنى، كان من العادين المتجاوزين ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم. يقول الله سبحانه: " والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ". (1) وأما الذين ذهبوا الى التحريم في بعض الحالات، والوجوب في بعضها الآخر، فهم الاحناف فقد قالوا: إنه يجب الاستمناء إذا خيف الوقوع في الزنا بدونه، جريا على قاعدة: ارتكاب أخف الضررين. وقالوا: إنه يحرم إذا كان لاستجلاب الشهوة وإثارتها. وقالوا: إنه لا بأس به إذا غلبت الشهوة، ولم يكن عنده زوجة أو أمة واستمنى بقصد تسكينها. وأما الحنابلة فقالوا: إنه حرام، إلا إذا استمنى خوفا على نفسه من الزنا، أو خوفا على صحته، ولم تكن له زوجة أو أمة، ولم يقدر على الزواج، فإنه لاحرج عليه. وأما ابن حزم فيرى أن الاستمناء مكروه ولا إثم فيه، لان مس الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الامة كلها. وإذا كان مباحا فليس هنالك زيادة على المباح إلا التعمد لنزول المني، فليس ذلك حراما أصلا، لقول الله تعالى: " وقد فصل الله لكم ما حرم عليكم " (2) . وليس هذا ما فصل لنا تحريمه، فهو حلال لقوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا ". قال: وإنما كره الاستمناء لانه ليس من مكارم الاخلاق ولا من الفضائل:   (1) سورة المؤمنون. الايات: 5، 6، 7. (2) سورة الانعام. الاية: 119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وروي لنا أن الناس تكلموا في الاستمناء فكرهته طائفة وأباحته أخرى. وممن كرهه ابن عمر، وعطاء. وممن أباحه ابن عباس، والحسن، وبعض كبار التابعين. وقال الحسن: كانوا يفعلونه في المغازي. وقال مجاهد: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك، وحكم المرأة مثل حكم الرجل فيه. (3) السحاق : السحاق محرم باتفاق العلماء، لما رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ". والسحاق مباشرة دون إيلاج، ففيه التعزير دون الحد كما لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج. (4) إتيان البهيمة : أجمع العلماء على تحريم إتيان البهيمة. واختلفوا في عقوبة من فعل ذلك: فروي عن جابر بن زيد أنه قال: من أتى بهيمة أقيم عليه الحد. وروي عن علي أنه قال: إن كان محصنا رجم. وروي عن الحسن: أنه بمنزلة الزاني: وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قول له، والمؤيد بالله، والناصر، والامام يحيى إلى وجوب التعزير فقط، إذ أنه ليس بزنا. وذهب الشافعي في قول آخر: إلى أنه يقتل، لما رواه عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) السحاق إتيان المرأة المرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 " من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو. وروى الترمذي وأبو داود من حديث عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس أنه قال: " من أتى بهيمة فلا حد عليه " وذكر أنه أصح. وروى ابن ماجه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقع على ذات محرم فاقتلوه، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ". قال الشوكاني: " وفي الحديث دليل على أنه تقتل البهيمة - والعلة في ذلك ما رواه أبو داود والنسائي أنه قيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك، إلا أنه يكره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل. وقد تقدم أن العلة أن يقال: هذه التي فعل بها كذا وكذا. وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها. وإلى إنها تذبح علي عليه السلام والشافعي في قول له. وذهبت القاسمية، والشافعية في قول، وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط. قال في البحر أنها تذبح البهيمة ولو كانت غير مأكولة، لئلا تأتي بولد مشوه، كما روى أن راعيا أتى بهيمة فأتت بمولود مشوه. انتهى. قال: وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لاكله، فهو عام مخصص بحديث الباب " انتهى (1) (5) الوطء بالاكراه : إذا أكرهت المرأة على الزنا فإنه لا حد عليها، لان الله تعالى يقول:   (1) نيل الاوطار: ج 7 ص 900. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ". والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ". وقد استكرهت امرأة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فدرأ عنها الحد. وجاءت امرأة إلى عمر فذكرت له أنها استسقت راعيا فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها - ففعلت - فقال: " علي: ما ترى فيها؟ " قال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئا وتركها. ويستوي في ذلك الاكراه بالالجاء - بمعنى أن يغلبها على نفسها - والاكراه بالتهديد، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها. فذهب مالك والشافعي، إلى وجوبه. روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضي في امرأة أصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها. وقال أبو حنيفة: لا صداق لها. قال في بداية المجتهد: " وسبب الخلاف: هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة فمن قال: هو عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والمحرمية ومن قال إنه نحلة خص الله به الاوزاج لم يوجبه. ورأي أبي حنيفة أصح. (6) الخطأ في الوطء : إذا زفت إلى رجل امرأة غير زوجته، وقيل له هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه باتفاق. وكذلك الحكم إذا لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئها، أو دعا زوجته فجاء غيرها، فظنها المدعوة فوطئها، لا حد عليه في كل ذلك.   (1) سورة البقرة. الاية: 173. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وهكذا الحكم في كل خطأ في وطء مباح، أما الخطأ في الوطء المحرم، فإنه يوجب الحد، فمن دعا امرأة محرمة عليه فأجابته غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعليه الحد، فإن دعا محرمة عليه، فأجابته زوجته فوطئها يظنها الاجنبية التي دعاها، فلا حد عليه، وإن أثم باعتبار ظنه. بقاء البكارة: وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة في حق المشهود عليها بالزنا، عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والشيعة الزيدية. فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء فلاحد عليها للشبهة ولا حد على الشهود. (7) الوطء في نكاح مختلف فيه : ولا يجب الحد في نكاح مختلف في صحته، مثل زواج المتعة، والشغار، وزواج التحليل، والزواج بلا ولي أو شهود، وزواج الاخت في عدة أختها البائن، وزواج الخامسة، في عدة الرابعة البائن، لان الاختلاف بين الفقهاء على صحة هذا الزواج يعتبر شبهة في الوطء، والحدود تدرأ بالشبهات خلافا للظاهرية، إذ أنهم يرون الحد في كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد. (8) الوطء في نكاح باطل : وكل زواج مجمع على بطلانه، كنكاح خامسة زيادة على الاربع، أو متزوجة، أو معتدة الغير، أو نكاح المطلقة ثلاثا قبل أن تتزوج زوجا آخر، إذا وطئ فيه فهو زنا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له. حد القذف : (1) تعريفه: أصل القذف الرمي بالحجارة وغيرها. ومنه قول الله تعالى لام موسى عليه السلام: " أن اقذ فيه في التابوت، فاقذ فيه في اليم " (1)   (1) سورة طه. الاية: 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 والقذف بالزنا مأخوذ من هذا المعنى، والمقصود به هنا المعنى الشرعي، وهو الرمي بالزنا. (2) حرمته: يستهدف الاسلام حماية أعراض الناس، والمحافظة على سمعتهم، وصيانة كرامتهم، وهو لهذا يقطع ألسنة السوء ويسد الباب على الذين يلتمسون للبرآء العيب، فيمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس ويغلوا في أعراضهم، ويحظر أشد الحظر إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا حتى تتطهر الحياة من سريان هذا الشر فيها. فهو يحرم القذف تحريما قاطعا، ويجعله كبيرة من كبائر الاثم والفواحش، ويوجب على القاذف ثمانين جلدة - رجلا كان أو امرأة - ويمنع من قبول شهادته، ويحكم عليه بالفسق واللعن والطرد من رحمة الله، واستحقاق العذاب الاليم في الدنيا والاخرة، اللهم إلا إذا ثبت صحة قوله بالادلة التي لا يتطرق إليها الشك، وهي شهادة أربع شهداء بأن المقذوف تورط في الفاحشة يقول الله سبحانه: " والذين يرمون (1) المحصنات (2) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة. ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (3) . ويقول: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، لعنوا في الدنيا والاخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (4) .   (1) يرمون: يقذفون ويسبون. (2) المحصنات: أي الانفس العفيفة ليدخل فيها الذكور والاناث خلافا لبعض فرق الخوارج الذين يرون أن حد القذف خاص برمي النساء دون الرجال وقوفا عند ظاهر الاية. (3) سورة النور. الاية 4: 5. (4) سورة النور. الايات: 23، 24، 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ويقول: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة ". وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات (1) . قالوا وما هن يارسول الله؟. قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف (2) ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". وكان هذا التحريم الذي نزلت به الايات بسبب حادث الافك الذي وقع لام المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري، قام النبي على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل عن المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وهم حسان ومسطح، وحمنة. رواه أبو داود. ما يشترط في القذف: للقذف شروط لابد من توافرها حتى يصبح جريمة تستحق عقوبة الجلد. وهذه الشروط منها ما يجب توافره في القاذف، ومنها ما يجب توافره في المقذوف، ومنها ما يجب توفره في الشئ المقذوف به. شروط القاذف : والشروط التي يجب توفرها في القاذف هي: 1 - العقل. 2 - البلوغ. 3 - الاختيار. لان ذلك أصل التكليف، ولا تكليف بدون هذه الاشياء. فإذا قذف المجنون أو الصبي أو المكره فلا حد على واحد منهم، لقول رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم:   (1) الموبقات: المهلكات. (2) التولي يوم الزحف: الفرار من القتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق ". ويقول: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ". فإذا كان الصبي مراهقا بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيرا مناسبا. شروط المقذوف : وشروط المقذوف هي: 1 - العقل: لان الحد إنما شرع للزجر عن الاذية بالضرر الواقع على المقذوف، ولا مضرة على من فقد العقل فلا يحد قاذفه. 2 - البلوغ: وكذلك يشترط في المقذوف البلوغ، فلا يحد قاذف الصغير والصغيرة، فإذا رمى صبية يمكن وطئها قبل البلوغ بالزنا، فقد قال جمهور العلماء: إن هذا ليس بقذف، لانه ليس بزنا، إذ لا حد عليها. ويعزر القاذف. وقال مالك: ان ذلك قذف يحد فاعله. وقال ابن العربي: " والمسألة محتملة الشك. لكن مالك غلب عرض المقذوف وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لان القاذف كشف ستره بطرف لسانه، فلزم الحد ". وقال ابن المنذر: " وقال أحمد في الجارية بنت تسع يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ ضرب قاذفه ". وقال إسحاق: إذا قذف غلام يطأ مثله فعليه الحد. والجارية إذا جاوزت تسعة مثل ذلك. وقال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ، لان ذلك كذب. ويعزر على الاذى. 3 - الاسلام: والاسلام شرط في المقذوف، فلو كان المقذوف من غير المسلمين لم يقر الحد على قاذفه عند جمهور العلماء، وإذا كان العكس فقذف النصراني أو اليهودي المسلم الحر فعليه ما على المسلم: ثمانون جلدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 4 - الحرية: فلا يحد العبد بقذف الحر له، سواء أكان العبد ملكا للقاذف أم لغيره: لان مرتبته تختلف عن مرتبة الحر، وإن كان قذف الحر للعبد محرما لما رواه البخاري ومسلم. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال ". قال العلماء: وإنما كان ذلك في الاخرة لارتفاع الملك، واستواء الشريف والوضيع، والحر والعبد، ولم يكن لاحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة واقتص من كل واحد لصاحبه، إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم. وإنما لم يتكافأوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم (1) فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير. ومن قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد، وهو اختيار ابن المنذر، وقال الحسن البصري لا حد عليه. وأما ابن حزم فإنه رأى غير ما رآه جمهور الفقهاء، فرأى أن قاذف العبد يقام عليه الحد. وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية. قال: " وأما قولهم لا حرمة للعبد ولا للامة فكلام سخيف. والمؤمن له حرمة عظيمة ". ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى. ورأي ابن حزم هذا رأي وجيه وحق، لو لم يصطدم بالنص المتقدم. 5 - العفة: وهي العفة عن الفاحشة التي رمي بها سواء أكان عفيفا عن غيرها أم لا، حتى أن من زنا في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف، فإنه لا حد عليه. وإن كان هذا القذف يستوجب التعزير لانه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه. ما يجب توفره في المقذوف به: أما ما يجب توفره في المقذوف به، فهو التصريح بالزنا أو التعريض   (1) أي لئلا تفسد العلاقة بين السادة والعبيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 الظاهر، ويستوي في ذلك القول والكتابة. ومثال التصريح أن يقول موجه الخطاب إلى غيره: " يا زاني " أو يقول عبارة تجري مجرى هذا التصريح، كنفي نسبه عنه. ومثال التعريض كأن يقول في مقام التنازع: " لست بزان ولا أمي بزانية ". وقد اختلف العلماء في التعريض..فقال مالك: إن التعريض الظاهر ملحق بالتصريح، لان الكفاية قد تقوم - بعرف العادة والاستعمال - مقام النص الصريح. وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه، وقد أخذ عمر رضي الله عنه بهذا الرأي. روى مالك عن عمرة بنت عبد الرحمن: " أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما للاخر: " والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية ". فاستشار عمر في ذلك. فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون: قد كان لابيه وأمه مدح غير هذا. نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين ". وذهب ابن مسعود، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن حزم، والشيعة، ورواية عن أحمد: إلى أنه لا حد في التعريض، لان التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة. والحدود تدرأ بالشبهات. إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان تعزير من يفعل ذلك. قال صاحب الروضة الندية: كاشفا وجه الصواب في هذا: " التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل - لغة أو شرعا أو عرفا - على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الاحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة. وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالا مرجوحا، وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا، فلا شئ عليه، لانه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال ". بم يثبت حد القذف : الحد يثبت بأحد أمرين: 1 - إقرار القاذف نفسه. 2 - أو بشهادة رجلين عدلين. عقوبة القاذف الدنيوية: يجب على القاذف - إذا لم يقم البينة على صحة ما قال - عقوبة مادية، وهي ثمانون جلدة. وعقوبة أدبية، وهي رد شهادته وعدم قبولها أبدا والحكم بفسقه لانه يصبح غير عدل عند الله وعند الناس. وهاتان العقوبتان هما المقررتان في قول الله سبحانه وتعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم ". وهذا متفق عليه بين العلماء إذا لم يتب القاذف. بقي هنا مسألتان اختلف فيهما العلماء: (المسألة الاولى) هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر أو لا؟ (المسألة الثانية) إذا تاب القاذف، هل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أولا؟. أما المسألة الاولى فهي أنه إذا قذف العبد الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟. لم يثبت حكم ذلك في السنة، ولهذا اختلفت أنظار الفقهاء، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن العبد إذا ثبتت عليه جريمة القذف، فعقوبته أربعون جلدة، لانه حد يتنصف بالرق، مثل حد الزنا. يقول الله سبحانه: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (1)   (1) سورة النساء. الاية: 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 قال مالك: " قال أبو الزناد سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك. فقال: أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء، وهلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين ". وروي عن ابن مسعود، والزهري، وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب، والاوزاعي، وابن حزم، أنه يجلد ثمانين جلدة. لانه حد وجب، حقا للادميين، إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية. قال ابن المنذر: والذي عليه الامصار القول الاول، وبه أقول. وقال في المسوى: " وعليه أهل العلم ". وقد ناقش صاحب الروضة الندية الرأي الاول، وقال مرجحا الرأي الثاني: الاية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة. ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ". ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف. فإلحاق أحد الحدين بالاخر فيه إشكال، لا سيما مع اختلاف العلة وكون أحدهم حقا لله محضا، والاخر مشوبا بحق آدمي. أما المسألة الثانية: فقد اتفق الفقهاء على أن القاذف لا تقبل شهادته ما دام لم يتب، لانه ارتكب ما يستوجب الفسق، والفسق يذهب بالعدالة، والعدالة شرط في قبول الشهادة، وأنه لم يتب من فسقه هذا، والجلد، وإن كان مكفرا للاثم الذي ارتكبه ومخلصا له من عقاب الاخرة، إلا أنه لا يزيل عنه وصف الفسق الموجب لرد الشهادة. ولكن إذا تاب وحسنت توبته، فهل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أم لا؟. اختلف الفقهاء في ذلك إلى رأيين: (الرأي الاول) يرى قبول شهادة المحدود في قذف إذا تاب توبة نصرحا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وهذا هو رأي مالك، والشافعي، وأحمد، والليث، وعطاء، وسفيان بن عيينة، والشعبي، والقاسم، وسالم، والزهري. وقال عمر لبعض من حدهم في قذف: إن تبت قبلت شهادتك! أما (الرأي الثاني) فإنه يرى عدم قبولها، وممن ذهب إلى هذا: الاحناف، والاوزاعي، والثوري، والحسن، وسعيد بن المسيب، وشريح، وابراهيم النخعي، وسعيد بن جبير. وأصل هذا الخلاف هو الاختلاف في تفسير قول الله تعالى: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا ". فهل الاستثناء في الاية راجع إلى الامرين معا: أي عدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق، أو راجع إلى الامر الاخير، وهو الحكم بالفسق؟. فمن قال ان الاستثناء راجع إلى الامرين معا، قال بجواز قبول الشهادة بعد التوبة. ومن قال إنه راجع إلى الحكم بالفسق، قال بعدم قبولها مهما كانت توبته. كيفية التوبة : قال عمر رضي الله عنه: توبة القاذف لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي لا حد فيه. وقال الذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما يستقبل. ومن لم يفعل لم أجز شهادته. فأكذب الشبل بن معبد، ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته. وهذا مذهب الشعبي، ومحكي عن أهل المدينة، وقالت طائفة من العلماء: توبته أن يصلح ويحسن حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إليه. وهذا مذهب مالك، وابن جرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 هل يحد بقذف أصله ؟ قال أبو ثور وابن المنذر: " إذا قذف القاذف ابنه فإنه يحد لظاهر القرآن الكريم فإنه لم يفرق بين قاذف ومقذوف. وقالت الحنفية والشافعية: لا يحد، لانه يشترط في القاذف أن لا يكون أصلا كالاب والام، لانه إذا لم يقتل الاصل به فعدم حده بقذفه أولى، وإن قالوا بتعزيره، لان القذف أذى. تكرار القذف لشخص واحد: إذا قذف القاذف شخصا واحدا أكثر من مرة، فعليه حد واحد إذا لم يكن قد حد لواحد منها، فإن كان قد حد لواحد منها ثم عاد إلى القذف، حد مرة ثانية، فإن عاد مرة ثالثة وهكذا يحد لكل قذف. قذف الجماعة: إذا قذف القاذف جماعة ورماهم بالزنا، فقد اختلفت أنظار الفقهاء في في حكمه إلى ثلاثة مذاهب: (المذهب الاول) مذهب القائلين بأنه يحد حدا واحدا. وهم أبو حنيفة، ومالك، وأحمد والثوري. (والمذهب الثاني) مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حدا، وهم الشافعي والليث. (والمذهب الثالث) مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم: يا زناة. أو يقول: لكل واحد: يا زاني، ففي الصورة الاولى يحد حدا واحدا، وفي الثانية حد لكل واحد منهم. قال ابن رشد: فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سمحاء، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلاعن بينهما ولم يحد شريكا، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل. وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد. وأما من فرق بين من قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات، أو في مجلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 واحد أو في مجالس، فلانه رأى أنه وجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لانه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف، كان أوجب أن يتعدد الحد. هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق الله، ويترتب على كونه حقا من حقوق الله، أنه إذا بلغ الحاكم، وجب عليه إقامته، وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ولا يسقط بعفوه، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنا. وذهب الشافعي إلى أنه حق من حقوق الآدميين، ويترتب عليه أن الامام لا يقيمه إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ويورث عنه ويسقط بعفو وارثه، ولا تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف. سقوط الحد : ويسقط حد القذف بمجئ القاذف بأربعة شهداء، لان الشهداء ينفون عنه صفة القذف الموجبة للحد، ويثبتون صدور الزنا بشهادتهم. فيقام حد الزنا على المقذوف، لانه زان. وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنا واعترف بما رماه به القاذف. وإذا قذفت المرأة زوجها فإنه يقام عليها الحد، إذا توفرت شروطه بخلاف ما إذا قذفها هو ولم يقم عليها البينة، فإنه لا يقام عليه الحد، وإنما يتلاعنان، وقد تقدم ذلك في باب اللعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 الردة : تعريفها: الردة: هي الرجوع في الطريق الذي جاء منه، وهي مثل الارتداد، إلا أنها تختص بالكفر. والمقصود بها هنا: رجوع المسلم، العاقل، البالغ، عن الاسلام إلى الكفر باختياره دون إكراه من أحد - سواء في ذلك الذكور والإناث - فلا عبرة بارتداد المجنون ولا الصبي (1) لانهما غير مكلفين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ". رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. والاكراه على التلفظ بكلمة الكفر لا يخرج المسلم عن دينه ما دام القلب مطمئنا بالايمان. وقد أكره عمار بن ياسر على التلفظ بكلمة الكفر فنطق بها، وأنزل الله سبحانه في ذلك: " من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم ". (2) قال ابن عباس: أخذه المشركون، وأخذوا أباه وأمه سمية، وصهيبا وبلالا، وخبابا، وسالما، فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين، وجئ قبلها بحربة، وقيل لها:   (1) وإن كان إسلام الصبي يصح وعبادته تقبل منه (2) سورة النحل. الآية: 106 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الاسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها - فشكا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " كيف تجد قلبك؟ " قال مطمئن بالايمان. فقال الرسول: " إن عادوا فعد ". هل انتقال الكافر من دين إلى دين كفري آخرى يعتبر ردة؟: قلنا: إن المسلم إذا خرج عن الاسلام كان مرتدا، وجرى عليه حكم الله في المرتدين، ولكن هل الردة قاصرة على المسلمين الخارجين عن الاسلام، أو أنها تتناول غير المسلمين إذا تركوا دينهم إلى غيره من الاديان الكافرة؟. الظاهر أن الكافر إذا انتقل من دينه إلى دين آخر من أديان الكفر فإنه يقر على دينه الذي انتقل إليه ولا يتعرض له لانه انتقل من دين باطل إلى دين يماثله في البطلان، والكفر كله ملة واحدة، بخلاف ما إذا انتقل من الاسلام إلى غيره من الاديان، فإنه انتقال من الهدى ودين الحق إلى الضلال والكفر. والله يقول (1) : " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ". (2) وفي بعض طرق الحديث: " من خالف دينه دين الاسلام فاضربوا عنقه ". أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا. وللشافعي قولان: (أحدهما) لا يقبل منه بعد انتقاله إلا الاسلام أو القتل. وهذا يوافق إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الاخرى تقول. إنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أقر، وإن انتقل إلى أنقص من دينه لم يقر. فإذا انتقل اليهودي إلى النصرانية أقر، لان اليهودية مثل النصرانية   (1) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة. (2) سورة آل عمران. الآية: 85 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 من حيث كونهما دينين سماويين في الاصل، دخلهما التحريف ونسخهما الاسلام. وكذلك يقر المجوسي إذا انتقل إلى اليهودية أو النصرانية لانه انتقال إلى ما هو أعلى. وإذا جاز الانتقال إلى الدين المماثل، فالانتقال إلى ما هو أعلى أحق وأولى. وإذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى المجوسية لم يقر، لانه انتقال إلى ما هو أنقص. لا يكفر مسلم بالوزر: الاسلام عقيدة وشريعة. والعقيدة تنتظم الايمان: 1 - بالالهيات. 2 - والنبوات. 3 - والبعث، والجزاء. والشريعة تنتظم: 1 - العبادات من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج 2 - والآداب والاخلاق من: صدق، ووفاء، وأمانة. 3 - والمعاملات المدنية من: بيع، وشراء ... الخ. 4 - والروابط الاسرية من: زواج وطلاق. 5 - والعقوبات الجنائية: قصاص، وحدود. 6 - والعلاقات الدولية من: معاهدات، واتفاقات. وهكذا نجد أن الاسلام، منهج عام، ينتظم شئون الحياة جميعا. وهذا هو المفهوم العام للاسلام كما قرره الكتاب والسنة وكما فهمه المسلمون على العهد الاول، وطبقوه في كل مجال من المجالات العامة والخاصة، وكان كل فرد يدين بالولاء لهذا الدين يعتبر عضوا في الجماعة المسلمة، ويصبح فردا من أفراد الامة الاسلامية تجري عليه أحكام الاسلام وتطبق عليه تعاليمه. إلا أن من الناس الذكي والغبي، والضعيف والقوي، والقادر والعاجز، والعامل والعاطل، والمجد والمقصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 فهم يختلفون اختلافا بينا في قواهم البدنية ومواهبهم النفسية والعقلية والروحية وتبعا لهذا الاختلاف فمنهم من يقترب من الاسلام، ومنهم من يبتعد عنه حسب حال كل فرد وظروفه وبيئته. يقول الله سبحانه: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " (1) ، إلا أن هذا الابتعاد عنه لا يخرج المقصر عن دائرته ما دام يدين بالولاء لهذا الدين، فإذا صدر من المسلم لفظ يدل على الكفر لم يقصد إلى معناه، أو فعل ظاهره مكفر لم يرد به فاعله تغيير إسلامه، لم يحكم عليه بالكفر. ومهما تورط المسلم في المآثم واقترف من جرائم، فهو مسلم لا يجوز اتهامه بالردة. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم ". وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن يقذف بعضهم بعضا بالكفر، لعظم خطر هذه الجناية، فقال فيما رواه مسلم عن ابن عمر: " إذا كفر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما ". متى يكون المسلم مرتدا: إن المسلم لا يعتبر خارجا عن الاسلام، ولا يحكم عليه بالردة إلا إذا انشرح صدره بالكفر، واطمأن قلبه به، ودخل فيه بالفعل، لقول الله تعالى: " ولكن من شرح بالكفر صدرا ". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "، ولما كان ما في القلب غيبا من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله، كان لابد من صدور ما يدل على كفره دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، حتى نسب إلى الامام مالك أنه قال:   (1) سورة فاطر الآية: 32 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 " من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الايمان من وجه، حمل أمره على الايمان ". ومن الامثلة الدالة على الكفر: 1 - إنكار ما علم من الدين بالضرورة. مثل إنكار وحدة الله وخلقه للعالم وإنكار وجود الملائكة، وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي من الله، وإنكار البعث والجزاء، وإنكار فرضية الصلاة والزكاة، والصيام والحج. 2 - استباحة محرم أجمع المسلمون على تحريمه، كاستباحة الخمر، والزنا، والربا، وأكل الخنزير، واستحلال دماء المعصومين وأموالهم (1) . 3 - تحريم ما أجمع المسلمون على حله " كتحريم الطيبات ". 4 - سب النبي أو الاستهزاء فيه، وكذا سب أي نبي من أنبياء الله. 5 - سب الدين، والطعن في الكتاب والسنة، وترك الحكم بهما، وتفضيل القوانين الوضعية عليهما. 6 - ادعاء فردمن الافراد أن الوحي ينزل عليه. 7 - إلقاء المصحف في القاذورات، وكذا كتب الحديث، استهانة بها واستخفافا بما جاء فيها. 8 - الاستخفاف باسم من أسماء الله، أو أمر من أوامره، أو نهي من نواهيه، أو وعد من وعوده، إلا أن يكون حديث عهد بالاسلام، ولا يعرف أحكامه، ولا يعلم حدوده، فإنه إن أنكر منها جهلا به لم يكفر. وفيه مسائل أجمع المسلمون عليها، ولكن لا يعلمها إلا الخاصة، فإن منكرها لا يكفر، بل يكون معذورا بجهله بها، لعدم استفاضة علمها في العامة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث، وأن للجدة السدس، ونحو ذلك. ولا يدخل في هذا الوساوس التي تساور النفس فإنها مما لا يؤاخذ الله بها. فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) إلا إذا كان ذلك بتأويل - مثل تأويل الخوارج - فإنهم استحلوا دماء الصحابة وأموالهم - ومثل تأويل قدامة بن مظعون شرب الخمر، ومع ذلك - فجمهور الفقهاء على أنهم غير كافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 " إن الله عز وجل تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو يتكلم به " وروى مسلم عن أبي هريرة قال: " جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا: انا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الايمان (1) ". وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: (هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟) فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله ". عقوبة المرتد: الارتداد جريمة من الجرائم التي تحبط ما كان من عمل صالح قبل الردة، وتستوجب العذاب الشديد في الآخرة. يقول الله سبحانه: " ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (2) . ومعنى الآية: أن من يرجع عن الاسلام إلى الكفر ويستمر عليه حتى يموت كافرا، فقد بطل كل ما عمله من خير، وحرم ثمرته في الدنيا، فلا يكون له ما للمسلمين من حقوق، وحرم من نعيم الآخرة، وهو خالد في العذاب الاليم، وقد قرر الاسلام عقوبة معجلة في الدنيا للمرتد، فضلا عما توعده به من عذاب ينتظره في الآخرة، وهذه العقوبة هي القتل (3) . روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من بدل دينه فاقتلوه ". وروي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:   (1) أي استعظام الكلام به خوفا من النطق به، فضلا عن اعتقاده دليل على كمال الايمان. (2) سورة البقرة. الآية: 217 (3) لو قتله مسلم من المسلمين لا يعتبر مرتكبا جريمة القتل، ولكن يعزر لافتياته على الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس ". وعن جابر رضي الله عنه: " أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الاسلام: فإن تابت، وإلا قتلت. فأبت أن تسلم، فقتلت ". أخرجه الدارقطني والبيهقي (1) . وثبت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدين من العرب حتى رجعوا إلى الاسلام. ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب قتل المرتد. وإنما اختلفوا في المرأة إذا ارتدت. فقال أبو حنيفة: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، ولكن تحبس، وتخرج كل يوم فتستتاب، ويعرض عليها الاسلام، وهكذا حتى تعود إلى الاسلام، أو تموت، لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء. وخالف ذلك جمهور الفقهاء فقالوا: إن عقوبة المرأة المرتدة كعقوبة الرجل المرتد، سواء بسواء، لان آثار الردة وأضرارها من المرأة كآثارها وأضرارها من الرجل، ولحديث معاذ الذي حسنه الحافظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أرسله إلى اليمن: " أيما رجل ارتد عن الاسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الاسلام فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها ". وهذا نص في محل النزاع. وأخرج البيهقي، والدارقطني، أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها " أم قرفة " كفرت بعد إسلامها، فلم تتب، فقتلها. وأما حديث النهي عن قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب، لاجل ضعفهن وعدم مشاركتهن في القتال. ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة، فقال: " ما كانت هذه لتقاتل ". ثم نهى عن قتلهن. والمرأة تشارك الرجل في الحدود كلها دون استثناء. فكما يقام عليها حد الرجم إذا كانت محصنة، فكذلك يقام عليها حد الردة، ولافرق.   (1) والاسناد ضعيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 حكمة قتل المرتد : الاسلام منهج كامل للحياة فهو: دين ودولة، وعبادة، وقيادة، ومصحف وسيف، وروح ومادة، ودنيا وآخرة، وهو مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الانسان أو يقف حائلا دون الوصول إلى كماله المادي والادبي - ومن دخل فيه عرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومتنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم، والفطرة المستقيمة. والانسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الانسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه - لان حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الاسلام كمنهج عام للحياة، ونظام شامل للسلوك الانساني، لاغنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه، فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه، ويزعزع بنيانه، ولاشئ أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لان الخروج عليه يهدد كيانه ويعرضه للسقوط والتداعي. إن الخروج على الاسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية، فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة. إن أي انسان سواء كان في الدول الشيوعية، أم الدول الرأسمالية - إذ اخرج على نظام الدولة فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده، والخيانة العظمى جزاؤها الاعدام. فالاسلام في تقرير عقوبة الاعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم. استتابة المرتد: كثيرا ما تكون الردة نتيجة الشكوك والشبهات التي تساور النفس وتزاحم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 الايمان، ولابد أن تتهيأ فرصة للتخلص من هذه الشبهات والشكوك، وأن تقدم الادلة والبراهين التي تعبد الايمان إلى القلب، واليقين إلى النفس، وتريح ما علق بالوجدان من ريب وشكوك. ومن ثم كان من الواجب أن يستتاب المرتد ولو تكررت ردته، ويمهل فترة زمنية يراجع فيها نفسه، وتفند فيها وساوسه وتناقش فيها أفكاره، فإن عدل عن موقفه بعد كشف شبهاته، ورجع إلى الاسلام وأقر بالشهادتين واعترف بما كان ينكره، وبرئ من كل دين يخالف دين الاسلام، قبلت توبته، وإلا أقيم عليه الحد. وقد قدر بعض العلماء هذه الفترة بثلاثة أيام، وترك بعضهم تقدير ذلك وإنما يكرر له التوجيه ويعاد معه النقاش حتى يغلب على الظن أنه لن يعود إلى الاسلام، وحينئذ يقام عليه الحد (1) والذين رأوا تقدير ذلك بالايام الثلاثة اعتمدوا على ما روي: " أن رجلا قدم إلى عمر رضي الله عنه من الشام، فقال " هل من مغربة (2) خبر ". قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه. فقال عمر: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه قال: هلا حبستموه في بيت ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني: اللهم إني أبرأ إليك من دمه ". رواه الشافعي. والذين ذهبوا إلى القول الثاني استندوا إلى ما رواه أبو داود: أن معاذا قدم اليمن على أبي موسى الاشعري. وقد وجد عنده رجلا موثقا. فقال: ماهذا؟ قال: رجل كان يهوديا فأسلم، ثم رجع إلى دينه " دين اليهود " فتهود. فقال: لا أجلس حتى يقتل. ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتكرر ذلك ثلاث مرات فأمر به فقتل، وكان أبو موسى قد استتابه   (1) هذا رأي الجمهور. وقيل يجب قتله في الحال وهو مذهب الحسن وطاووس، وأهل الظاهر، لحديث معاذ، ولانه مثل الحربي الذي بلغته، الدعوة. وعن ابن عباس: إن كان أصله مسلما لم يستتب والا استتيب. (2) أي: عندكم خبر من بلاد بعيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 قبل قدوم معاذ عشرين ليلة، أو قريبا منها. ومن طريق عبد الرازق: أنهم أرادوه على الاسلام شهرين. قال الشوكاني: واختلف القائلون بالاستتابة. هل يكتفي بالمرة؟ أو لابد من ثلاث، وهل الثلاث في مجلس واحد أو في ثلاثة أيام، ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا أحكام المرتد: إذا ارتد المسلم ورجع عن الاسلام تغيرت الحالة التي كان عليها. وتغيرت تبعا لذلك المعاملة التي كان يعامل بها كمسلم، وثبتت بالنسبة له أحكام نجملها فيما يأتي: (1) العلاقة الزوجية: إذا ارتد الزوج أو الزوجة انقطعت علاقة كل منهما بالآخر لان ردة أي واحد منهما موجبة للفرقة بينهما، وهذه الفرقة تعتبر فسخا، فإذا تاب المرتد منهما وعاد إلى الاسلام، كان لابد من عقد ومهر جديدين، إذا أرادا استئناف الحياة الزوجية (1) . ولايجوز له أن يعقد عقد زواج على زوجة أخرى من أهل الدين الذي انتقل إليه، لانه مستحق القتل. (2) ميراثه: والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات، لان المرتد لادين له، وإذا كان لادين له فلا يرث قريبه المسلم، فإن قتل هو أو مات ولم يرجع إلى الاسلام، انتقل ما له هو إلى ورثته من المسلمين لانه في حكم الميت من وقت الردة. وقد أتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم، ثم ارتد عن الاسلام. فقال له علي:   (1) يرى الفقهاء الاحناف أن ردة الزوج تعتبر طلاقا بائنا ينقص من عدد الطلقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 " لعلك إنما ارتددت لان تصيب ميراثا. ثم ترجع إلى الاسلام؟ قال: لا. قال: فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها، فأردت أن تتزوجها ثم تعود إلى الاسلام؟ قال: لا. قال: فارجع إلى الاسلام. قال: لا. حتى ألقى المسيح. فأمر به فضربت عنقه فدفع ميراثه إلى ولده من المسلمين ". قال ابن حزم: وعن ابن مسعود بمثله. وقالت طائفة بهذا، منهم: الليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه. وهذا مذهب أبي يوسف، ومحمد، وإحدى الروايات عن أحمد. (3) فقد أهليته للولاية على غيره: وليس للمرتد ولاية على غيره، فلا يجوز له أن يتولى عقد تزويج بناته ولا أبنائه الصغار، وتعتبر عقوده بالنسبة لهم باطلة، لسلب ولايته لهم بالردة. مال المرتد : الردة لا تقضي على أهلية المرتد للتملك، ولا تسلبه حقه في ماله، ولا تزيل يده عنه، ويكون مثله في ماله مثل الكافر الاصلي، وله أن يتصرف في ماله كما يشاء. وتصير تصرفاته نافذة لاستكمال أهليته، وكونه مستحق القتل لا يسلبه حقه في التملك والتصرف، لان الشارع لم يجعل للمرتد عقوبة سوى عقوبة القتل حدا، ويكون في ذلك كمن حكم عليه بالقصاص أو بالرجم. فإن قتله قصاصا أو رجما لا يسلبه حقه في الملكية، ولا يزيل يده عن ماله. لحوقه بدار الحرب : وكذلك يبقى ماله مملوكا له إذ الحق بدار الحرب، ويوضع تحت يد أمين، لان لحوقه بدار الحرب لا يسلبه حقه في الملكية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 = 1601 ء = ردة الزنديق: قال أبو حاتم السجستاني وغيره: " الزنديق " فارسي معرب أصله: " زنده كرو " أي يقول بدوام الدهر، ثم قال: قال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق، وإنما يقال: زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا: ملحد ودهري. أي يقول بدوام الدهر. وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية. وقال الحافظ ابن حجر: التحقيق ما ذكره من صنف في الملل والنحل: ان أصل الزندقة أتباع ديصان، ثم ماني، ثم مزدك (1) . وقال النووي: الزنديق الذي لا ينتحل دينا. وقال في المسوى ملخصا: إن المخالف للدين الحق ان لم يعترف به ولم يذعن له ظاهرا ولاباطنا، فهو الكافر. وإن اعترف بلسانه، وقلبه على الكفر فهو المنافق. وإن اعترف به ظاهرا وباطنا لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون، وأجمعت عليه الامة فهو الزنديق، كما إذا اعترف بأن القرآن حق، وما فيه من ذكر الجنة والنار حق، لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة، والمراد بالنار، هي الذامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار، فهو الزنديق. وقوله صلى الله عليه وسلم:   (1) وملخص مذهبهم أن النور والظلمة قديمان، وأنهما امتزجا فعدت العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب أن يسعى في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس. وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الاسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك وأظهر جماعة منهم الاسلام خشية القتل. فهذا أصل الزندقة. وأطلق جماعة من الشافعية الزندقة على من يظهر الاسلام ويخفي الكفر مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 " أولئك الذين نهاني الله عنهم، هو في المنافقين دون الزنادقة ". ثم قال: وإن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد ليكون مزجرة للمرتدين، وذبا عن الملة التي ارتضاها، فكذلك نصب القتل جزاء للزندقة، ليكون مزجرة للزنا دقة، وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به. قال: ثم التأويل تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الامة. وتأويل يصادم ما ثبت بقاطع، فذلك الزندقة. فكل من أنكر الشفاعة، أو أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر، وسؤال المنكر والنكير، أو أنكر الصراط والحساب، سواء قال: لا أثق بهؤلاء الرواة. أو قال: أثق بهم، لكن الحديث مؤول، ثم ذكر تأويلا فاسدا لم يسمع من قبله، فهو الزنديق. وكذلك من قال في الشيخين " أبي بكر وعمر " مثلا: ليسا من أهل الجنة، مع تواتر الحديث في بشارتهما، أو قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة، ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي. وأما معنى النبوة وهو كون إنسان مبعوثا من الله تعالى إلى الخلق مفترض الطاعة، معصوما من الذنوب، ومن البقاء على الخطأ فيما يرى، فهو موجود في الائمة بعده (1) ، فذلك هو الزنديق، وقد اتفق جمهور المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى، والله أعلم. اه. هل يقتل الساحر : يتفق العلماء على أن للسحر أثرا، وعلى كفر من يعتقد حله، ويختلفون في أن له حقيقة، أو أنه تخيل، كما يختلفون في السحر: هل هو كفر أو ليس بكفر؟ وتبع ذلك اختلافهم في الساحر. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يقتل الساحر بتعلم السحر، وبفعله، لكفره، دون استتابة.   (1) كما يعتقد بعض القديانية في غلام أحمد مدعي النبوة الكذاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وقال الشافعية والظاهرية: إن كان الفعل أو الكلام الذي يسحر به كفرا، فالساحر مرتد، ويجري عليه حكم الردة، إلا أن يتوب. وإن كان ليس كفرا فلا يقتل، لانه ليس كافرا، وإنما هو عاص فقط. والظاهر أن السحر معصية من كبائر الاثم، وأن الساحر لا يقتل بسحره، إلا إذا اعتقد حله، فيكون مرتدا، لا بسحره، ولكن باستحلال ما حرم الله. روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات "، فقيل: يارسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل ما اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات ". قال ابن حزم، بعد أن ناقش أدلة القائلين بكفره، ووجوب قتله: " وصح أن السحر ليس كفرا، وإذا لم يكن كفرا، فلا يحل قتل فاعله، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، ونفس بنفس ". فالساحر ليس كافرا كما بينا ولا قاتلا، ولا زانيا محصنا، ولا جاء في قتله نص صحيح، فيضاف إلى هذه الثلاث، كما جاء في المحارب. ثم قال: فصح تحريم دمه بيقين لا شك فيه، ورأى الشيعة أن الساحر مرتد وحكمه حكم المرتد. الكاهن والعراف (1) : يرى الامام أبو حنيفة أن الكاهن والعراف يستحقان القتل؟ لقول عمر: " اقتلوا كل ساحر وكاهن ". وفي رواية عنه: " انهما إن تابا لم يقتلا ". ويرى متقدم والاحناف أن الكاهن أو العراف إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر. وإن اعتقد أنه تخيل لا حقيقة له، لم يكفر.   (1) الكاهن: هو الذي يتخذ من الجن من يأتيه بالاخبار. والعراف: هو الذي يتحدث بالحدس والظن، مدعيا أنه يعلم الغيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الحرابة: تعريفها: الحرابة - وتسمى أيضا قطع الطريق - هي خروج طائفة مسلحة في دار الاسلام، لاحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الاموال، وهتك الاعراض، وإهلاك الحرث والنسل (1) ، متحدية بذلك الدين والاخلاق والنظام والقانون. ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو الحربيين، مادام ذلك في دار الاسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل الحرابة من المسلمين والذميين. وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات، فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الافراد. فلو كان لفرد من الافراد فضل جبروت وبطش، ومزيد قوة وقدرة يغلب بها الجماعة على النفس والمال، والعرض، فهو محارب وقاطع طريق. ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الاطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت، والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الامن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب. وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب، لان هذه الطائفة الخارجة على النظام تعتبر محاربة للجماعة من جانب ومحاربة للتعاليم الاسلامية التي جاءت لتحقق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر. فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يعتبر محاربة، ومن ذلك أخذت كلمة   (1) أي: قطع الشجر، وإتلاف الزرع، وقتل الدواب والانعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الحرابة، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإنه يسمى أيضا قطع طريق، لان الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرون فيه، خشية أن تسفك دماؤهم، أو تسلب أموالهم، أو تهتك أعراضهم أو يتعرضون لما لا قدرة لهم على مواجهته، ويسميها بعض الفقهاء ب " السرقة الكبرى (1) ". الحرابة جريمة كبرى: والحرابة - أو قطع الطريق - تعتبر من كبريات الجرائم، ومن ثم أطلق القرآن الكريم على المتورطين في ارتكابها أقصى عبارة فجعلهم محاربين لله ورسوله، وساعين في الارض بالفساد وغلظ عقوبتهم تغليظا لم يجعله لجريمة أخرى. يقول الله سبحانه: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب عظيم. " (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن من يرتكب هذه الجناية ليس له شرف الانتساب إلى الاسلام، فيقول: " من حمل علينا السلاح فليس منا " (3) . رواه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر. وإذا لم يكن له هذا الشرف وهو حي، فليس له هذا الشرف بعد الوفاة، فإن الناس يموتون على ما عاشوا عليه، كما يبعثون على ما ماتوا عليه.   (1) سميت بهذه التسمية، لان ضررها عام على المسلمين بانقطاع الطريق، بخلاف السرقة العادية، فإنها تسمى بالسرقة الصغرى، لان ضررها يخص المسروق منه وحده. (2) سورة المائدة الاية: 33. (3) من حمل علينا السلاح: أي حمله لقتال المسلمين بغير حق. كنى بحمله عن المقاتلة إذ القتل لازم لحمل السلاح. ليس منا: ليس على طريقتنا وهدينا، فإن طريقته نصر المسلم والقتال دونه، لا ترويعه وإخافته وقتاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية (1) ". أخرجه مسلم. شروط الحرابة : ولا بد من توافر شروط معينة في المحاربين حتى يستحقوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة: وجملة هذه الشروط هي: 1 - التكليف. 2 - وجود السلاح. 3 - البعد عن العمران. 4 - المجاهرة. ولم يتفق الفقهاء على هذه الشروط، وإنما لهم فيها مناقشات نجملها فيما يلي: (1) شرط التكليف: يشترط في المحاربين: العقل، والبلوغ، لانهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود. فالصبي والمجنون لا يعتبر الواحد منهما محاربا، مهما اشترك في أعمال المحاربة، لعدم تكليف واحد منهما شرعا، ولم يختلف في ذلك الفقهاء، ولكن اختلفوا فيما إذا اشترك في الحرابة صبيان أو مجانين. فهل يسقط الحد عمن اشتركوا فيها بسقوطه عن هؤلاء الصبيان أو المجانين؟ قالت الاحناف: نعم يسقط الحد، لانه إذا سقط عن البعض، فإن هذا   (1) خرج على الطاعة: أي طاعة الحاكم الذي وقع الاجتماع عليه في قطر من الاقطار. فارق الجماعة: التي اتفقت على طاعة إمام، وانتظم به شملهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم من عدوهم. ميتة جاهلية: منسوبة إلى الجهل، وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة لمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 السقوط يسري إلى الكل باعتبار أنهم جميعا متضامنون في المسؤولية، وإذا سقط حد الحرابة نظر في الاعمال التي ارتكبت على أنها جرائم عادية يعاقب عليها بالعقوبات المقررة لها. فإن كانت الجريمة قتلا رجع الامر إلى ولي الدم، فله أن يعفو، وله أن يقتص. وهكذا في بقية الجرائم. ومقتضى المذهب المالكي، والمذهب الظاهري وغيرهما إنه إذا سقط حد الحرابة عن الصبيان والمجانين، فإنه لا يسقط عن غيرهم ممن اشتركوا في الاثم والعدوان، لان هذا الحد هو حق لله تعالى، وهذا الحق لا ينظر فيه إلى الافراد. ولا تشترط الذكورة ولا الحرية، لانه ليس للانوثة ولا للرق تأثير على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة (1) والعبد من القوة مثل ما لغيرهما، من التدبير وحمل السلاح والمشاركة في التمرد والعصيان، فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة. (2) شرط حمل السلاح: ويشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح، لان قوتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة: إنما هي قوة السلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين، لانهم لا يمنعون من يقصدهم، وإذا تسلحوا بالعصي والحجارة، فهل يعتبرون محاربين؟ اختلف الفقهاء في ذلك. فقال الشافعي، ومالك، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن حزم: وإنهم يعتبرون محاربين لانه لا عبرة بنوع السلاح، ولا بكثرته، وإنما العبرة بقطع الطريق. وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين.   (1) يرى أبو حنيفة اشتراط الذكورة في الحرابة، وذلك لقرة قلوب النساء، وضعف بنيتهن، ولسن من أهل الحرب وهذه رواية ظاهر الرواية. وروى الطحاوي عنه: أن هذا ليس بشرط وأن النساء والرجال سواء في الحرابة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 (3) شرط الصحراء والبعد عن العمران: واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين، ولان الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولان في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه. وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأكثر فقهاء الشيعة. وقول الخرقي من الحنابلة، وجزم به في الوجيز. وذهب فريق آخر إلى أن حكمهم في المصر والصحراء واحد، لان الاية بعمومها تتناول كل محارب. ولانه في المصر أعظم ضررا، فكان أولى. ويدخل في هذا العصابات التي تتفق على العمل الجنائي من السلب، والنهب، والقتل. وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، وأبي ثور. وبه قال الاوزاعي والليث والمالكية، والظاهرية. والظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الامصار. فمن راعى شرط الصحراء نظر إلى الحال الغالبة، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل ذلك في مصره، وعلى العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط. ولذا يقول الشافعي: إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة. وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده. (4) شرط المجاهرة: ومن شروط الحرابة المجاهرة بأن يأخذوا المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون، لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئا، لانه لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طريق. وهذا مذهب الاحناف والشافعية والحنابلة. وخالف في ذلك المالكية والظاهرية. قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعضا في المصر يقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد من ذلك لا بأيسره. فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل. وقال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي أمر قوم خرجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة - مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه - فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا وجئ بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لان الحرابة إنما تكون في الاموال لا في الفروج. فقلت لهم: " إنا لله وإنا إليه راجعون " ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الاموال، وإن الناس ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء. وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح، ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر، فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا، وقريب من هذا القول رأي ابن حزم حيث يقول: إن المحارب هو المكابر، المخيف لاهل الطريق، المفسد في سبل الارض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا. سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة، أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا ". ومن ثم يتبين أن مذهب ابن حزم وأسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 في ذلك المالكية، لان كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور، يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة. عقوبة الحرابة: أنزل الله سبحانه في جريمة الحرابة قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب عظيم - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم ". (1) فهذه الاية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الارض بالفساد، لقوله سبحانه: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ". وقد أجمع العلماء على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا فإن الاسلام يعصم دماءهم وأموالهم وإن كانوا قد ارتكبوا من المعاصي قبل الاسلام ما يستوجب العقوبة: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ". (2) فدل ذلك على أن الاية نزلت في أهل الاسلام، ومعنى يحاربون الله ورسوله، أي يحاربون المسلمين بما يحدثونه من اضطراب، وفوضى وخوف وقلق، ويحاربون الاسلام بخروجهم عن تعاليمه وعصيانهم لها. فإضافة الحرب إلى الله ورسوله إيذان بأن حرب المسلمين كأنها حرب الله تعالى ولرسوله، كقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا ". (3) فالمحاربة هنا مجازية. قال القرطبي: يحاربون الله ورسوله، إستعارة، ومجاز، إذ الله سبحانه   (1) سورة المائدة. الايتان: 33، 34. (2) سورة الانفال. الاية: 38. (3) سورة البقرة. الاية: 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد. والمعنى يحاربون أولياء الله. فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذيتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " (1) . حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة: " استطعمتك فلم تطعمني " اه. سبب نزول هذه الاية: قال الجمهور في سبب نزول هذه الاية: " إن العرنيين (2) قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها (3) ، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح (4) ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام وساقوا الابل. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل (5) أعينهم، وتركهم في الحرة (6) يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ". قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله عزوجل: " إنما الذين يحاربون الله ورسوله " الاية. العقوبات التي قررتها الاية الكريمة: والعقوبة التي قررتها هذه الاية للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في   (1) سورة البقرة الاية: 245. (2) جماعة من إحدى القبائل العربية المعروفة. (3) أصابهم المرض والوخم. لعدم موافقة هوائها لهم. (4) لقاح جمع لقحة وهي الناقة الحلوب. (5) تسمل: تفقا. وفعل بهم ذلك لانهم كانوا فعلوا ذلك بالراعي فكان قصاصا. وجزاء سيئة سيئة مثلها. (6) الحرة: أرض خارج المدينة ذات حجارة سوداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 الارض فسادا هي إحدى عقوبات أربع: 1 - القتل. 2 - أو الصلب. 3 - أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف. 4 - أو النفي من الارض. وهذه العقوبات جاءت في الاية معطوفة بحرف " أو "، فقال بعض العلماء: " إن العطف بها يفيد التخيير، ومعنى هذا ان للحاكم أن يتخير عقوبة من هذه العقوبات، حسب ما يراه من المصلحة، بصرف النظر عن الجريمة التي ارتكبها المحاربون ". وقال أكثر العلماء: إن " أو " لنا للتنويع لا للتخيير ومقتضاه أن تتنوع العقوبة حسب الجريمة، وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير. حجة القائلين بأن " أو " للتخيير: قال الفريق الاول: إن هذا ما تقتضيه اللغة، ويتمشى مع نظم الاية، ولم يثبت من السنة ما يصرف ما دلت عليه من هذا المعنى. فكل من حارب الله ورسوله وسعى في الارض بالفساد، فإن عقوبته إما القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي من الارض حسب ما يكون من المصلحة التي يراها الحاكم في تنفيذ إحدى هذه العقوبات، سواء قتلوا أم لم يقتاوا، وسواء أخذوا المال أم لم يأخذوا، وسواء ارتكبوا جريمة واحدة أم أكثر. وليس في الاية ما يدل على أن للحاكم أن يجمع أكثر من عقوبة واحدة أو يترك المحاربين دون عقاب. قال القرطبي: " قال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الاية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 أوجبها الله تعالى من: القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الاية ". قال ابن عباس: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار. وهذا قول أشعر بظاهر الاية. قال ابن كثير: إن ظاهر - أو - للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله تعالى في جزاء الصيد: " فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم، هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما ". (1) وكقوله في كفارة الفدية: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ". (2) وكقوله في كفارة اليمين: " فإطعام عشرة مساكين، من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ". (3) هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الاية. حجة القائلين بأن " أو " للتنويع: أما الفريق الثاني فقد استدل بما روي عن ابن عباس، وهو من أعلم الناس باللغة وأفقههم في القرآن الكريم، فقد روى الشافعي في مسنده عنه رضي الله عنه قال: " إذا قتلوا وأخذوا الاموال صلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الارض. "   (1) سورة المائدة. الاية: 95. (2) سورة البقرة الاية: 196. (3) سورة المائدة الاية: 89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 قال ابن كثير ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن سنده - قال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الاية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة (1) ، قال أنس: فارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الابل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: " من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل اقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه ". وقالوا: إن الذي يرجح أن الاية لتفصيل العقوبات، لا للتخيير هو أن الله جعل لهذا الافساد درجات من العقاب لان إفسادهم متفاوت، منه القتل، ومنه السلب والنهب، ومنه هتك العرض، ومنه إهلاك الحرث والنسل. ومن قطاع الطرق من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه، فليس الحاكم مخيرا في عقاب من شاء منهم بما شاء، بل عليه أن يعاقب كلا منهم بقدر جرمه ودرجة إفساده، وهذا هو العدل: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ". (2) وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه، وقول أبي حنيفة على تفصيل في ذلك - وقد ناقش الكاساني في البدائع (3) رأي القائلين بأن " أو " للتخيير نقاشا علميا، فقال: " إن التخيير الوارد في الاحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير، إنما يجري ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحد، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد. أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه، كما في قوله تعالى:   (1) قبيلة تسمى بهذا الاسم. (2) سورة الشورى الاية: 40. (3) ج 7 ص 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ". (1) إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين، بل لبيان الحكم لكل في نفسه، لاختلاف سبب الوجوب. وتأويله: إما أن تعذب من ظلم، أو تتخذ الحسن فيمن آمن وعمل صالحا. ألا ترى إلى قوله تعالى: " قال أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا - وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ". (2) وقطع الطريق متنوع في نفسه وإن كان متحدا من حيث الاصل، فقد يكون بأخذ المال وحده، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الامرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع، أو يحتمل هذا ويحتمل ما ذكر فلا يكون حجة مع الاحتمال. وإذا لم يمكن صرف الاية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب. فإما أن يحمل على الترتيب ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق، كأنه سبحانه وتعالى قال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " إن قتلوا، أو يصلبوا، إن أخذوا المال وقتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن أخذوا المال لا غير، أو ينفوا من الارض، إن أخافوا، هكذا ذكر جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة الاسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاؤوا يريدون الاسلام. فقد قال عليه السلام: " إن من قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الاسلام ما كان قبله من الشرك ".   (1) سورة الكهف الاية: 86. (2) سورة الكهف الاية: 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 بسط رأي القائلين بتنوع العقوبة إذا اختلفت الجريمة: قلنا إن جمهور الفقهاء يرى أن العقوبة تتنوع حسب نوع الجريمة، وإن ذلك ينقسم إلى أقسام: 1 - أن تكون الحرابة مقصورة على إخافة المارة وقطع الطريق، ولم يرتكب المحاربون شيئا وراء ذلك، فهؤلاء ينفون من الارض، والنفي من الارض معناه إخراج المحاربين من البلد الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الاسلام. إلا إذا كانوا كفارا فيجوز إخراجهم إلى بلاد الكفر. وحكمة ذلك أن يذوق هؤلاء وبال أمرهم بالابتعاد والنفي، وأن تطهر المنطقة التي عاثوا فيها فسادا من شرورهم ومفاسدهم، وأن ينسى الناس ما كان منهم من أثر سئ وذكرى أليمة. وروي عن مالك أن النفي معناه الاخراج إلى بلد آخر، ليسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم، واختاره ابن جرير. ويرى الاحناف أن النفي هو الجسن ويبقون في السجن حتى يظهر صلاحم لان السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقتها، فصار من سجن كأنه نفي من الارض إلا من موضع سجنه، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الاموات فيها ولا الاحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا! 2 - أن تكون الحرابة بأخذ المال من غير قتل، وعقوبة ذلك قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لان هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وما يقطع منهما يحسم في الحال، بكي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت المغلي أو بأية طريقة أخرى، حتى لا يستنزف دمه فيموت. وإنما كان القطع من خلاف حتى لا تفوت جنس المنفعة فتبقى له يد يسرى ورجل يمنى ينتفع بهما، فإن عاد هذا المقطوع إلى قطع الطريق مرة أخرى قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يكون مبلغ المال المسروق نصابا، وأن يكون من حرز، لان السرقة جريمة لها عقوبة مقررة، فإذا وقعت الجريمة تعبها جزاؤها، سواء أكان مرتكبها فردا أم جماعة. فإن لم يبلغ المال نصابا ولم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 من حرز فلا قطع، فإن كانوا جماعة، فهل يشترط أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا أو لا؟ أجاب عن ذلك ابن قدامة فقال: " وإذا أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا، قياسا على قولنا في السرقة. وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا. ويشترط ألا تكون لهم شبهة. ولم يوافق مالك ولا الظاهرية على هذا الرأي، فلم يشترطوا في المال المسروق بلوغ النصاب ولا كونه محرزا، لان الحرابة نفسها جريمة تستوجب العقوبة بقطع النظر عن النصاب والحرز. فجريمة الحرابة غير جريمة السرقة، وعقوبة كل منهما مختلفة، لان الله تعالى قدر للسرقة نصابا، ولم يقدر في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة. وإذا كان في الجناة من هو ذو رحم محرم ممن سرقت أموالهم فإنه لاقطع عليه، ويقطع الباقون الذين شاركوه من الجناة عند الحنابلة وأحد قولي الشافعي. وقال الاحناف: لا يقطع واحد منهم لوجود الشبهة بالنسبة للقريب، والجناة متضامنون فإذا سقط الحد عن القريب سقط عن الجميع. ورجح ابن قدامة رأي الشافعية والحنابلة فقال: " إنها شبهة اختص بها واحد، فلا يسقط الحد عن الباقين " ومعنى هذا أن شبهة الاسقاط لا تتجاوز ذا الرحم، فلا يقاوم عليه الحد وحده، لان الشبهة لا تتجاوزه. اه. 3 - أن تكون الحرابة بالقتل دون أخذ للمال، وهذا يستوجب القتل متى قدر الحاكم عليهم، ويقتل جميع المحاربين وإن كان القاتل واحدا، كما يقتل الردء - وهو الطليعة - لانهم شركاء في المحاربة والافساد في الارض. ولاعبرة بعفو ولي الدم أو رضاه بالدية، لان عفو ولي الدم أو رضاه بالدية في القصاص لافي الحرابة. 4 - أن تكون الحرابة بالقتل وأخذ المال. وفي هذا القتل والصلب. أي أن عقوبتهم أن يصلبوا أحياء ليموتوا، فيربط الشخص على خشبة أو عمود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 أو نحوهما منتصب القامة. ممدود اليدين، ثم يطعن حتى يموت. ومن الفقهاء من قال: إنه يقتل أولا ثم يصلب للعبرة والعظة. ومنهم من قال: إنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام. وكل ما تقدم فإنه اجتهاد من الائمة. وهوفي نطاق تفسير الآية الكريمة، وكل إمام له وجهة نظر صحيحة، فمن رأى تخيير الحاكم في اختيار إحدى العقوبات المقررة فوجهته ما دل عليه العطف بحرف - أو - وأن الامر متروك للحاكم يختار منها ما تدرأ به المفسدة وتتحقق به المصلحة. وأن من رأى أن لكل جريمة عقوبة محددة في الآية، فوجهه تحقيق العدالة مع رعاية ما تندرئ به المفاسد وتقوم بهالمصالح، فالكل مجمع على تحقيق غاية الشريعة من درء المفاسد وتحقيق المصالح. وهذا الاجتهاد يسهل على أولياء الامور فهم النصوص وييسر طريق الاجتهاد، ويعين طالب العلم على الوصول إلى الحقيقة. ولا شك أن أعمالا كثيرة تحدث من المحاربين المفسدين غير هذه الاعمال التي أشار إليها الفقهاء. ويمكن استنباط أحكام لها مناسبة في ضوء ما استنبطه الفقهاء من الآية الكريمة من أحكام جزئية. رد اعتراض ودفع إشكال: قال في المنار: روى عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا: الزنا، والسرقة، وقتل النساء، وإهلاك الحرث والنسل، وكل هذه الاعمال من الفساد في الارض. واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد: بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل، حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده ". وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الامر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين، والزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا. وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله، سبحانه " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (1) ، وقال: " الزانية   (1) سورة المائدة. الآية: 28 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (1) وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا. وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين، لان الوصفين متلازمان " انتهى واجب الحاكم والامة حيال الحرابة: والحاكم والامة معا مسئولون عن حماية النظام وإقرار الامن وصيانة حقوق الافراد في المحافظة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا شذت طائفة، فأخلوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب. وجب على الحاكم قتال هؤلاء، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العرنيين، وكما فعل خلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أن يتعاونوا مع الحاكم على استئصال شأفتهم وقطع دابرهم، حتى ينعم الناس بالامن والطمأنينة، ويحسوا بلذة السلام والاستقرار وينصرف كل إلى عمله مجاهدا في سبيل الخير لنفسه، ولاسرته، ولامته، فإن انهزم هؤلاء في ميدان القتال، وتفرقوا هنا وهناك، وانكسرت شوكتهم، لم يتبع مدبرهم، ولم يجهز على جريحهم إلا إذا كانوا قد ارتكبوا جناية القتل، وأخذوا المال، فإنهم يطاردون حتى يظفروا بهم ويقام عليهم حد الحرابة. توبة المحاربين قبل القدرة عليهم: إذا تاب المحاربون المفسدون في الارض قبل القدرة عليهم، وتمكن الحاكم من القبض عليهم، فإن الله يغفر لهم ما سلف، ويرفع عنهم العقوبة الخاصة بالحرابة لقول الله سبحانه: " ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ". وإنما كان ذلك كذلك، لان التوبة قبل القدرة عليهم والتمكن منهم   (1) سورة النور الآية: 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 دليل على يقظة الضمير والعزم على استئناف حياة نظيفة بعيدة عن الافساد والمحاربة لله ولرسوله، ولهذا شملهم عفو الله وأسقط عنهم كل حق من حقوقه إن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة، أما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإنما تكون من باب القصاص. والامر في ذلك يرجع إلى المجني عليهم لا إلى الحاكم، فإن كانوا قد قتلوا سقط عنهم تحتم القتل، ولولي الدم العفو أو القصاص، وإن كانوا قد قتلوا وأخذوا المال، سقط الصلب وتحتم القتل وبقي القصاص وضمان المال. وإن كانوا قد أخذوا المال سقط القطع وأخذت الاموال منهم إن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا، لان ذلك غصب. فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يجعله الحاكم عنده حتى يعلم صاحبه لان توبتهم لا تصح إلا إذا أعادوا الاموال المسلوبة إلى أربابها. فإذا أرى أولو الامر إسقاط حق مالي عن المفسدين من أجل المصلحة العامة، وجب أن يضمنوه من بيت المال. ولقد لخص ابن رشد في بداية المجتهد أقوال العلماء في هذه المسألة فقال: " وأما ما تسقطه عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال: 1 - أحدها أن التوبة إنما تسقط حد الحرابة فقط، ويؤخذ، بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين " وهو قول مالك. 2 - والقول الثاني أنها تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنا، والشراب، والقطع في السرقة، ولا تسقط حقوق الناس من الاموال، والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول (1) . 3 - والقول الثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ في الدماء وفي الاموال بما وجد بعينه. 4 - والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الآدميين من مال، ودم، إلا ما كان من الاموال قائما بعينه. شروط التوبة: للتوبة ظاهر وباطن، ونظر الفقه إلى الظاهر دون الباطن الذي لا يعلمه   (1) هذا هو أعدل الاقوال الذي اخترناه ونبهنا عليه من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 إلا الله، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه، قبلت توبته وترتبت عليها آثارها، واشترط بعض العلماء - في التائب - أن يستأمن الحاكم فيؤمنه، وقيل: لا يشترط ذلك، ويجب على الامام أن يقبل كل تائب. وقيل: يكتفي بإلقاء السلاح والبعد عن مواطن الجريمة وتأمين الناس بدون حاجة إلى الرجوع إلى الامام. ذكر ابن جرير. قال: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم. قال: " قال الليث وكذلك حدثني موسي المدني - وهو الامير عندنا - أن عليا الاسدي حارب، وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الائمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا. وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ". (1) فوقف عليه فقال يا عبد الله: أعد قراءتها. فأعادها عليه فغمد سيفه، ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر. فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله. قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم فقرنوا سفينة إلى سفينة من سفنهم فاقتحم علي الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم، فغرقوا جميعا. سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم : تقدم أن حد الحرابة يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم لقول الله سبحانه:   (1) سورة الزمر الآية: 54 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ". (1) وليس هذا الحكم مقصورا على حد الحرابة، بل هو حكم عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحد ثم تاب منها قبل أن يرفع إلى الامام سقط عنه الحد، لانه إذا سقط الحد عن هؤلاء فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهم أخف جرما منهم، وقد رجح ذلك ابن تيمية فقال: " ومن تاب من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر قبل أن يرفع إلى الامام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه. كما يسقط عن المحاربين إجماعا إذا تابوا قبل القدرة عليهم ". وقال القرطبي " فأما الشراب، والزناة، والسراق، إذا تابوا وأصلحوا. وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام، فلا ينبغي أن يحدوا. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ". وفصل الخلاف في ذلك ابن قدامة فقال: وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان: (إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (2) . وذكر حد السارق ثم قال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم " (3) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " التائب من الذنب كمن لاذنب له " ومن لا ذنب له لاحد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه " هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه "؟! ولانه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب. (ثانيتهما) لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله سبحانه: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ".   (1) سورة المائدة الآية: 34 (2) سورة النساء الآية: 39 (3) سورة المائدة الآية: 16 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وهذا عام في التائبين وغيرهم. وقال تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم ". وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني، فأقام الرسول الحد عليه. ولان الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولانه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: (أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لانها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه. (وثانيهما) يعتبر إصلاح العمل لقوله سبحانه: " فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وقال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم ". فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته. وليست مقدرة بمدة معلومة. وقال بعض أصحاب الشافعي: مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيت فلا يجوز. دفاع الانسان عن نفسه وعن غيره: إذا اعتدى على الانسان معتد يريد قتله، أو أخذ ماله أو هتك عرض حريمه، فمن حقه أن يقاتل هذا المعتدي دفاعا عن نفسه وماله وعرضه ويدفع بالاسهل فالاسهل، فيبدأ بالكلام أو الصياح أو الاستعانة بالناس إن أمكن دفع الظالم بذلك فإن لم يندفع إلا بالضرب فليضربه فإن لم يندفع إلا بقتله فليقتله ولا قصاص على القاتل ولا كفارة عليه، ولادية للمقتول لانه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدم لا يجب ضمانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فإن قتل المعتدى عليه وهوفي حالة دفاعه عن نفسه وماله وعرضه فهو شهيد. 1 - يقول الله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ". (1) 2 - وعن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار ". 3 - وروى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد. ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ". 4 - وروي: أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل يراودها عن نفسها، فرمته بفهر (2) فقتلته، فرفع ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: " قتيل الله، والله لا يؤدى هذا أبدا ". وكما يجب أن يدافع الانسان عن نفسه وماله وعرضه يجب عليه كذلك الدفاع عن غيره إذا تعرض للقتل أو أخذ المال، أو هتك العرض، ولكن بشرط أن يأمن على نفسه من الهلاك. لان الدفاع عن الغير من باب تغيير المنكر والمحافظة على الحقوق، يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ". وهذا من باب تغيير المنكر.   (1) سورة الشورى الآية: 41 (2) الفهر: الحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 حد السرقة : إن الاسلام قد احترم المال، من حيث انه عصب الحياة، واحترم ملكية الافراد له (1) ، وجعل حقهم فيه حقا مقدسا، لا يحل لاحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه، ولهذا حرم الاسلام: السرقة، والغصب، والاختلاس، والخيانة، والربا، والغش، والتلاعب بالكيل والوزن، والرشوة، واعتبر كل مال أخذ بغير سبب مشروع أكلا للمال بالباطل. وشدد في السرقة، فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة، إذ أن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول. كما أن في قطع يد السارق عبرة لمن تحدثه نفسه بالسطو على أموال الناس، فلا يجرؤ أن يمد يده إليها، وبهذا الاموال وتصان. يقول الله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالا من الله، والله عزيز حكيم ". (2) حكمة التشديد في العقوبة: والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الاموال هي ما جاء في شرح مسلم للنووي: قال القاضي عياض رضي الله عنه: " صان الله الاموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس، والانتهاب، والغصب، لان ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولانه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الامور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنها تندر إقامة البينة عليها (3) فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها ".   (1) احترام الاسلام للملكية لان ذلك فطرة أولا، وحافز على النشاط ثانيا، وعدالة ثالثا. (2) سورة المائدة الآية: 38 (3) سيأتي بعد مزيد لابن القيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 أنواع السرقة : والسرقة أنواع: 1 - نوع منها يوجب التعزير. 2 - ونوع منها يوجب الحد. والسرقة التي توجب التعزير، هي السرقة التي لم تتوفر فيها شروط إقامة الحد. وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم، بمضاعفة الغرم على من سرق ما لاقطع فيه: قضى بذلك في سارق الثمار المعلقة، وسارق الشاة من المرتع. ففي الصورة الاولى، أسقط القطع عن سارق الثمر والكثر (1) ، وحكم أن من أصاب شيئا منه بفمه وهو محتاج إليه فلاشئ عليه، ومن خرج منه بشئ فعليه غرامة مثليه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئا في جرينه (2) فعليه القطع إذا بلغت قيمة المسروق النصاب الذي يقطع فيه. وفي الصورة الثانية، قضى في الشاة التي تؤخذ من مرتعها بثمنها مضاعفا وضرب نكال (3) وقضى فيما يؤخذ من عطنه بالقطع، إذا بلغ النصاب الذي يقطع فيه سارقه. رواه أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه. والسرقة التي عقوبتها الحد نوعان: (الاول) سرقة صغرى: وهي التي يجب فيها قطع اليد. (الثاني) سرقة كبرى: وهي أخذ المال على سبيل المغالبة. ويسمى الحرابة. وقد سبق الكلام عليها قبل هذا الباب. وكلامنا الآن منحصر في السرقة الصغرى. تعريف السرقة: السرقة: هي أخذ الشئ في خفية. يقال: استرق السمع، أي سمع مستخفيا. ويقال: هو يسارق النظر إليه، إذا اهتبل غفلته لينظر إليه.   (1) الكثر: هو جمار النخل. (2) جرينه: ما يسمى عند العامة بالجرن. (3) نكال: أي ضربا يكون فيه عبرة لغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ". (1) فسمى الاستماع في خفاء استراقا. وفي القاموس: السرقة، والاستراق، المجئ مستترا لاخذ مال الغير من حرز. وقال ابن عرفة: " السارق عند العرب، هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ". ويفهم مما ذكره صاحب القاموس وابن عرفه، أن السرقة تنتظم أمورا ثلاثة: 1 - أخذ مال الغير. 2 - أن يكون هذا الاخذ على جهة الاختفاء والاستتار. 3 - أن يكون المال محرزا. فلو لم يكن المال مملوكا للغير، أو كان الاخذ مجاهرة، أو كان المال غير محرز، فإن السرقة الموجبة لحد القطع لاتتحقق. المختلس والمنتهب والخائن غير السارق: ولهذا لا يعتبر الخائن، ولا المنتهب، ولا المختلس، سارقا، ولا يجب على واحد منهم القطع، وإن وجب التعزير، فعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على خائن (2) ، ولا منتهب (3) ، ولا مختلس (4) قطع ". رواه أصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن حبان. وعن محمد بن شهاب الزهري قال: " إن مروان بن الحكم أتي بإنسان قد اختلس متاعا فأراد قطع يده، فأرسل إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك،   (1) سورة الحجر الآية: 18 (2) الخائن: هومن يأخذ المال ويظهر النصح للمالك. (3) المنتهب: هو الذي يأخذ المال غصبا مع المجاهرة والاعتماد على القوة. (4) والمختلس: هو من يخطف المال جهرا ويهرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 فقال زيد: ليس في الخلسة قطع ". رواه مالك في الموطأ. قال ابن القيم: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب، والغاصب، فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه. وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا، فهو كالمنتهب، وأما الغاصب فالامر منه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال. جحد العارية : ومما هو متردد بين أن يكون سرقة أو لا يكون جحد العارية، ومن ثم فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فقال الجمهور: لا يقطع من جحدها، لان القرآن والسنة أوجبا القطع على السارق، والجاحد للعارية ليس بسارق. وذهب أحمد وإسحاق، وزفر، والخوارج، وأهل الظاهر، إلى أنه يقطع، لما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. فأتى أهلها أسامة بن زيد رضي الله عنه فكلموه. فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 " يا أسامة، لاأراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل ". ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ". فقطع يد المخزومية. وقد نَاصرَ ابن القيم هذا الرأي، واعتبر الجاحد للعارية سارقا بمقتضى الشرع. قال في " زاد المعاد ": فإدخاله صلى الله عليه وسلم جاحد العارية في اسم السارق كإدخاله سائر أنواع المنكرات في الخمر، وذلك تعريف للامة بمراد الله من كلامه. وفي الروضة الندية: ان الجاحد للعارية إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا، والشرع مقدم على اللغة. قال ابن القيم في أعلام الموقعين: والحكمة والمصلحة ظاهرة جدا، فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولاغنى لهم عنها، وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا، ولا يمكن الغير كل وقت أن يشهد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا، ولافرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها، وهذا بخلاف جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه. ا لنباش : ومما يجري هذا المجرى من الخلاف: الخلاف في حكم النباش الذي يسرق أكفان الموتى، فذهب الجمهور إلى أن عقوبته قطع يده، لانه سارق حقيقة، والقبر حرز. وذهب أبو حنيفة، ومحمد، والاوزاعي، والثوري، إلى أن عقوبته التعزير، لانه نباش، وليس سارقا، فلا يأخذ حكم السارق، ولانه أخذ مالا غير مملوك لاحد، لان الميت لا يملك، ولانه أخذ من غير حرز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الصفات التي يجب اعتبارها في السرقة تبين من التعريف السابق أنه لابد من اعتبار صفات معينة في السارق. والشئ المسروق، والموضع المسروق منه، حتى تتحقق السرقة التي يجب فيها الحد. وفيما يلي بيان كل: الصفات التي يجب اعتبارها في السارق: أما الصفات التي يجب اعتبارها في السارق حتى يسمى سارقا، ويستوجب حد السرقة، فنذكرها فيما يلي: 1 - التكليف: بأن يكون السارق بالغا عاقلا، فلاحد على مجنون ولا صغير، إذا سرق، لانهما غير مكلفين، ولكن يؤدب الصغير إذا سرق. ولا يشترط فيه الاسلام، فإذا سرق الذمي أو المرتد، فإنه يقطع (1) كما أن المسلم يقطع إذا سرق من الذمي. 2 - الاختيار: بأن يكون السارق مختارا في سرقته، فلو أكره على السرقة فلا يعد سارقا، لان الاكراه يسلبه الاختيار، وسلب الاختيار يسقط التكليف. 3 - ألا يكون للسارق في الشئ المسروق شبهة، فإن كانت له فيه شبهة فإنه لا يقطع، ولهذا لا يقطع الاب ولا الام بسرقة مال ابنهما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لابيك ". وكذلك لا يقطع الابن بسرقة مالهما، أو مال أحدهما، لان الابن يتبسط في مال أبيه وأمه عادة، والجد لا يقطع لانه أب سواء أكان من قبل الاب أو الام، ولا يقطع أحد من عمود النسب الاعلى والاسفل - أعني الآباء والاجداد - والابناء وأبناء الابناء. وأما ذوو الارحام، فقد قال أبو حنيفة والثوري، لاقطع على أحد من ذوي الرحم المحرم، مثل العمة والخالة، والاخت، والعم، والخال، والاخ،   (1) أما المعاهد والمستأمن: فإنهما لا يقطعان لو سرقا في أصح قولي الشافعية وعند أبي حنيفة وقال مالك وأحمد يقطعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 لان القطع يفضي إلى قطيعة الرحم التي أمر الله بها أن توصل، ولان لهم الحق في دخول المنزل، وهو إذن من صاحبه يختل الحرز به (1) . وقال مالك والشافعي، وأحمد وإسحق، رضي الله عنهم، يقطع من سرق من هؤلاء، لانتفاء الشبهة في المال. ولا قطع على أحد الزوجين إذا سرق أحدهما الاخر، لشبهة الاختلاط وشبهة المال، فالاختلاط بينهما يمنع أن يكون الحذر كاملا، ويوجب الشبهة في المال. وإذا لم يكن الحرز كاملا، وكانت الشبهة في المال يسقط القطع، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما في أحد قوليه وإحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه. وقال مالك والثوري رضي الله عنهما، ورواية عن أحمد رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه: إذا كان كل واحد منهما ينفرد ببيت فيه متاعه، فانه يقطع من سرق من مال صاحبه لوجود الحرز من جهة ولاستقلال كل واحد منهما من جهة أخرى. ولا يقطع الخادم الذي يخدم سيده بنفسه (2) ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه بغلام له. فقال له: اقطع يده فإنه سرق مرآة لامرأتي. فقال عمر رضي الله عنه: " لا قطع عليه، وهو خادمكم أخذ متاعكم ". وهذا مذهب عمر، وابن مسعود. ولا مخالف لهما من الصحابة. ولا يقطع من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، لما روي، أن عاملا لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من بيت المال فقال: " لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق ". وروى الشعبي: أن رجلا سرق من بيت المال، فبلغ عليا فقال كرم الله وجهه: إن له فيه سهما، ولم يقطعه. فقول عمر وقول علي فيهما بيان   (1) فيكون مثله مثل الضعيف الذي أذن له بالدخول فإنه لا يقطع إذا سرق. (2) اشترط هذا الشرط مالك، وأما الشافعي فمرة اشترطه. ومرة لم يشترطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 سبب عدم القطع على من سرق من بيت المال، لان ذلك يورث شبهة تمنع إقامة الحد. قال ابن قدامة: كما لو سرق من مال له شركة فيه. ومن سرق من الغنيمة من له فيها حق (1) ، أو لولده أو لسيده، وهذا مذهب جمهور العلماء (2) وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبدا من رقيق الخمس (3) سرق من الخمس فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه. وقال: " مال الله سرق بعضه بعضا ". ولا يقطع من سرق من المدين الماطل في السداد، أو الجاحد للدين، لان ذلك استرداد لدينه، إلا إذا كان المدين مقرا بالدين وقادرا على السداد، فإن الدائن يقطع إذا سرق من المدين لانه لا شبهة له في سرقته، ولا قطع في سرقة العارية من يد المستعير لان يد المستعير يد أمانه، وليست يد مالك. ومن غصب مالا وسرقه وأحرزه فسرقه منه سارق، فقال الشافعي وأحمد: لا يقطع، لانه حرز لم يرضه مالكه، وقال مالك: يقطع، لانه سرق مالا شبهة له فيه من حرز مثله. وإذا وقعت أزمة بالناس، وسرق أحد الافراد طعاما فإن كان الطعام موجودا قطع، لانه غير محتاج إلى سرقته، وإن كان معدوما لم يقطع، لان له الحق في أخذه لحاجته إليه، وقد قال عمر رضي الله عنه: " لا قطع في عام المجاعة "، وروى مالك في الموطأ " أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها. فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم. ثم قال: والله لاغر منك غرما يشق عليك. ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم. فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم.   (1) فإذا لم يكن له فيها حق فإنه يقطع باتفاق العلماء. (2) وذهب مالك إلى القطع عملا بظاهر الاية. وهو عام غير مخصص. (3) رقيق الخمس: أي الرقيق المأخوذ من الغنائم. سرق من الخمس أي خمس الغنائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 ويروي ابن وهب أن عمر بن الخطاب، بعد أن أمر كثير بن الصلت بقطع أيدي الذين سرقوا، أرسل وراءه من يأتيه بهم، فجاء بهم، فقال لعبد الرحمن بن حاطب: " أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لاكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذ تركتهم لاغر منك غرامة توجعك ". الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق: وأما الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق فهي: (أولا) أن يكون مما يتمول ويملك ويحل بيعه وأخذ العوض عنه، فلا قطع على من سرق الخمر والخنزير حتى لو كان المالك لهما ذميا لان الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما بالنسبة للمسلم والذمي على السواء (1) . وكذلك لا قطع على سارق أدوات اللهو مثل: العود، والكمنج، والمزمار، لانها آلات لا يجوز استعمالها عند كثير من أهل العلم، فهي ليست مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وأما الذين يبيحون استعمالها فيهم يتفقون مع من يحرمها في عدم قطع يد سارقها لوجود شبهة، والشبهات مسقطة للحدود. واختلف العلماء في سرقة الحر الصغير غير المميز. فقال أبو حنيفة والشافعي: لا قطع على من سرقه لانه ليس بمال ويعزر وإن كان عليه حلي أو ثياب فلا يقطع أيضا، لان ما عليه من الحلي تبع له وليست مقصودة بالاخذ (2) . وقال مالك: في سرقته القطع، لانه من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد. وسارق العبد الصغير غير المميز يقطع، لانه مال متقوم، وأما المميز فإنه لا يحد سارقه، لانه وإن كان مالا يباع ويشترى فإن له سلطانا على نفسه فلا يعد محرزا.   (1) يرى أبو حنيفة أنه يباح للذمي الخمر والخنزير وأن على متلفهما ضمان القيمة، ولكنه يتفق مع الفقهاء في عدم قطع من سرقهما لعدم كمال المالية الذي هو شرط الحد. (2) قال أبو يوسف: يقطع إذا كان الحلي قدر النصاب لانه إذا سرق الحلي وحده أو الثياب وحدها فإنه يقطع فيهما فكذا لو سرقها مع غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وأما ما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه، كالكلب المأذون في بيعه، ولحوم الضحايا، فقال أشهب، من المالكية: يقطع سارق الكلب المأذون باتخاذه (1) ، ولا يقطع في كلب غير مأذون باتخاذه. وقال أصبغ من المالكية في لحوم الضحايا: إن سرق الاضحية قبل الذبح قطع، وإن سرقها بعد الذبح فلا قطع. وأما سرقة الماء، والثلج، والكلا، والملح، والتراب، فقد قال صاحب المغني. " وإن سرق ماء فلا قطع فيه. قاله أبو بكر وأبو إسحاق لانه مما لا يتمول عادة ولا أعلم في هذا خلافا. وإن سرق كلا أو ملحا، فقال أبو بكر: لا قطع فيه لانه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه، فأشبه الماء. وقال أبو إسحاق بن شاملا: فيه القطع، لانه يتمول عادة فأشبه التين والشعير. وأما الثلج فقال القاضي: هو كالماء لانه ماء جامد فأشبه الجليد، والاشبه أنه كالملح لانه يتحول عادة فهو كالملح المنعقد من الماء. وأما التراب فإن كان مما تقل الرغبات فيه كالذي يعد للتطيين والبناء فلا قطع فيه، لانه لا يتمول، وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الارمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسيل به، أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين: 1 - أحدهما لا قطع فيه لانه من جنس مالا يتمول فأشبه الماء. 2 - فيه القطع، لانه يتمول عادة، ويحمل إلى البلدان للتجارة فأشبه العود الهندي (2) . وأما سرقة المباح الاصل كالاسماك والطيور (3) . فإنه لا قطع على من سرقها ما لم تحرز فإذا أحرزت فقد اختلف فيها الفقهاء. فمذهب المالكية، والشافعية يرى قطع سارقها لانه سرق مالا متقوما من حرز.   (1) الكلب المأذون باتخاذه هو كلب الحراسة والزراعة وكلب الصيد. (2) ج 10 ص 247 " المغني ". (3) الاسماك بكل أنواعها ولو كانت مملحة، والطير بكل أنواعه، ويدخل فيه الدجاج والحمام والبط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وذهب الاحناف والحنابلة إلى عدم القطع لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصيد لمن أخذه ". فهذا الحديث يورث شبهة يندرئ بها الحد. وقال عبد الله بن يسار: أتي عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة، فأراد أن يقطعه، فقال له سالم بن عبد الرحمن: " قال عثمان رضي الله عنه: لا قطع في الطير " وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز استفتى السائب بن يزيد فقال: ما رأيت أحدا قطع في الطير، وما عليه في ذلك قطع، فتركه عمر. وقال بعض الفقهاء: الطير المعتبر مباحا هو الذي يكون صيدا سوى الدجاج والبط فيجب في سرقتها القطع لانه بمعنى الاهلي. وقال أبو حنيفة: لا يقطع في سرقة الطعام الرطب كاللبن واللحم والفواكه الرطبة ولا في سرقة الحشيش والحطب، ولا فيما يسرع إليه الفساد، وإن بلغت قيمة المسروق منه نصاب السرقة، لان هذه الاشياء غير مرغوب فيها، ولا يشح مالكها عادة فلا حاجة إلى الزجر بالنسبة لها، والحرز فيها ناقص، ولقوله صلى الله عليه وسلم " لا قطع في تمر ولا كثر " ولان فيه شبهة المالكية، لوجود الشركة العامة، لقول الرسول: " الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلا، والنار " ومما اختلف الفقهاء فيه سرقة المصحف، فقال أبو حنيفة لا يقطع من سرقة. لانه ليس بمال، ولان لكل واحد فيه حقا. وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة وابن المنذر: يقطع سارق المصحف إذا بلغت قيمته النصاب الذي تقطع فيه اليد. (ثانيا) والشرط الثاني الذي يجب توافره في المال المسروق أن يبلغ الشئ المسروق نصابا، لانه لا بد من شئ يجعل ضابطا لاقامة الحد، ولا بد وأن يكون له قيمة يلحق الناس ضرر بفقدها، فإن من عادتهم التسامح في الشئ الحقير من الاموال، ولهذا لم يكن السلف يقطعون في الشئ التافه. وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا النصاب، فذهب جمهور العلماء إلى أن القطع لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 إلا في سرقة ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وفي التقدير بهذا حكمة ظاهرة، فإن فيها كفاية المقتصد في يوم، له ولمن يمونه غالبا، وقوت الرجل وأهله مدة يوم، له خطره عند غالب الناس لما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم " كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " وفي رواية مرفوعا " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا: " لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن (1) ". قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وفي رواية: " قيمته ثلاثة دراهم ". ومذهب الاحناف أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم ولا قطع في أقل منها. واستدلوا بما رواه البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم. وذهب الحسن البصري وداود الظاهري، إلى أنه يثبت القطع بالقليل والكثير عملا بإطلاق الاية، ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده " وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن الاعمش راوي هذا الحديث فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب، وهي كالمجن، وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه (2) . والجمل كانوا يرون أن منه ما يساوي دراهم. وربع الدينار كان يصرف بثلاثة دراهم وفي الروضة الندية قال الشافعي:   (1) المجن: الترس يتقى به في الحرب. (2) وقيل: هو إخبار بالواقع: أي أنه يسرق هذا فيكون سببا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 " وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم " وذلك أن الصرف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اثنى عشر درهما بدينار. وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار. ومن الفضة باثنى عشر ألف درهم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن النصاب الموجب للقطع هو عشرة دراهم أو دينار، أو قيمة أحدهما من العروض. ولا قطع فيما هو أقل من ذلك، لان ثمن المجن كان يقوم على عهد الرسول بعشرة دراهم، كما رواه عمرو بن شعيب عن ابنه عن جده. وروي عن ابن عباس وغيره هذا التقدير. قالوا: وتقدير ثمن المجن تبعا لهذا التقدير أحوط. والحدود تدفع بالشبهات. والاخذ به كأنه شبهة في العمل بما دونها. والحق أن اعتبار ثمن المجن عشرة دراهم معارض بما هو أصح منه كما تقدم في الروايات الاخرى الصحيحة. وقال مالك وأحمد في أظهر الروايات عنه: نصاب السرقة ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ثلاثة دراهم من العروض. والتقويم بالدراهم خاصة. والاثمان أصول لا يقوم بعضها ببعض. وقد اعترض على القطع اليد في ربع دينار مع أن ديتها خمسمائة دينار، فقال أحد الشعراء: يد بخمس مئين عسجد وديت - ما بالها قطعت في ربع دينار؟ تناقض مالنا إلا السكوت له - ونستجير بمولانا من العار وهذا المعترض قد خانه التوفيق فإنه الاسلام قد قطعها في هذا القدر حفظا للمال، وجعل ديتها خمسمائة حفظا لها. فقد كانت ثمينة حين كانت أمينة فلما خانت هانت ولهذا قيل: يد بخمس مئين عسجد وديت - لكنها قطعت في ربع دينار حماية الدم أغلاها، وأرخصها - خيانة المال فانظر حكمة الباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 متى يقدر المسروق : وتعتبر قيمة المسروق وتقديره يوم السرقة عند مالك. والشافعية، والحنابلة. وقال أبو حنيفة: يقدر المسروق يوم الحكم عليه بالقطع. سرقة الجماعة : إذا سرقت الجماعة قدرا من المال بحيث لو قسم بينهم لكان نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه القطع فإنهم يقطعون جميعا باتفاق الفقهاء. أما إذا كان هذا القدر من المال يبلغ نصابا، ولكنه لو قسم بين السارقين لا يبلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه القطع فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال جمهور الفقهاء: يجب أن يقطعوا جميعا. وقال أبو حنيفة: لا قطع حتى يكون ما يأخذه كل واحد منهم نصابا. قال ابن رشد: فمن قطع الجميع رأي العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال، ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشارع فيه القطع. ما يعتبر في الموضع المسروق منه: وأما الموضع المسروق منه فإنه يعتبر فيه الحرز. والحرز هو الموضع المعد لحفظ الشئ، مثل الدار والد كان والاصطبل والمراح، والجرين، ونحو ذلك. ولم يرد فيه ضابط من جهة الشرع ولا من جهة اللغة وإنما يرجع فيه إلى العرف، واعتبر الشرع للحرز لانه دليل على عناية صاحب المال به وصيانته له والمحافظة عليه من التعرض للضياع، ودليل ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة (1) التي توجد في مراتعها، قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطنه (2) ففيه القطع إذا   (1) الحريسة: هي التي ترعى في الحقل وعليها حرس. (2) العطن: الحظيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن (1) قال: يارسول الله فالثوب وما أخذ منها في أكمامها قال: " من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة (2) فليس عليه شئ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ". رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا قطع في تمر معلق ولا في حريسة الجبل، فإذا أواه المراح أو الجرين (3) . فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ". ففي هذين الحديثين اعتبار الحرز. قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين. وعند أبي حنيفة رحمه الله أن هذا لنقصان ماليته لاسراع الفساد إليه، وجعل هذا أصلا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه إليه وقول الجمهور أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال: حالة لا شئ فيها، وهي ما إذا أكل منه بفيه وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع، وهي ما إذا أخرجه من شجره وأخذه، وحالة يقطع فيها، وهو ما إذا سرقه من بيدره، سواء كان انتهى جفافه أم لم ينته، فالعبرة بالمكان والحرز لا بيبسه ورطوبته، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرز. انتهى. وإلى اعتبار الحرز ذهب جمهور الفقهاء. وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء ولم يشترطوا الحرز في القطع منهم: أحمد وإسحاق وزفر، والظاهرية، لان آية " والسارق والسارقة " عامة وأحاديث عمرو بن شعيب لا يصلح لتخصيصها للاختلاف الواقع فيها.   (1) أوجب القطع على من سرق الشاة من عطنها، وهو حرزها، وأسقطه عمن سرقها من مرعاها. وفي هذا دليل على اعتبار الحرز. (2) أي لم يأخذ شيئا من المسروق في طرف ثوبه. (3) الجرين: موضع تحفيظ الثمار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 ورد ذلك ابن عبد البر فقال: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات. اختلاف الحرز باختلاف الاموال: والحرز مختلف باختلاف الاموال، ومرجع ذلك إلى العرف فقد يكون الشئ حرزا في وقت دون وقت. فالدار حرز لما فيها من أثاث، والجرين حرز للثمار، والاصطبل حرز للدواب، والمراح للغنم، وهكذا. الانسان حرز لنفسه: والانسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه سواء كان في المسجد أم في خارجه. فمن جلس في الطريق ومعه متاعه فإنه يكون محرزا به، سواء أكان مستيقظا أم نائما. فمن سرق من إنسان نقوده أو متاعه قطع بمجرد الاخذ لزوال يد المالك عنه. واشترط الفقهاء في النائم أن يكون المسروق تحت جنبه أو تحت رأسه واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجاه والنسائي والحاكم عن صفوان ابن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقلت: يارسول الله أفي خميصة، ثمن ثلاثين درهما. أنا أهبها له؟. قال: " فهلا كان قبل أن تأتيني ". " أي فهلا عفوت عنه ووهبت له قبل أن تأتيني ". وفي هذا الحديث دليل على أن المطالبة بالمسروق شرط في القطع (1) ، فلو وهبه المسروق منه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الحاكم سقط عن السارق. كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " هلا كان قبل أن تأتيني به!؟ ".   (1) سيأتي مزيد بيان لهذه المسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الطرار : واختلفوا في الطرار (1) . فقالت طائفة: يقطع مطلقا سواء أوضع يده داخل الكم وأخرج المال أو شق الكم فسقط المال فأخذه. وهو قول مالك، والاوزاعي وأبي ثور، ويعقوب، والحسن، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وإسحق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع. المسجد حرز : والمسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه من البسط والحصر والقناديل والنجف. وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا سرق ترسا كان في صفة النساء في المسجد ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وكذلك إذا سرق باب المسجد أو ما يزين به مما له قيمة، لانه مال محرز لا شبهة فيه. وخالف الشافعية في قناديل المسجد وحصرها، فمن سرقها لا يقطع، لان ذلك جعل لمنفعة المسلمين، وللسارق فيها حق. اللهم إلا إذا كان السارق ذميا فإنه يقطع، لانه لا حق له فيها. السرقة من الدار : اتفق الفقهاء على أن الدار لا تكون حرزا إلا إذا كان بابها مغلقا. كما اتفقوا على أن من سرق من دار غير مشتركة في السكنى لا يقطع حتى يخرج من الدار. واختلفوا في مسائل من ذلك ذكرها صاحب كتاب الافصاح عن معاني الصحاح فقال:   (1) الطرار هو الذي يشق كم الرجل ويأخذ ما فيه. مأخوذ من الطر وهو الشقي (وهو ما بسمى بالنشال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 واختلفوا فيما إذا اشترك اثنان في نقب دار فدخل أحدهما فأخذ المتاع وناوله الاخر وهو خارج الحرز وهكذا إذا رمى به إليه فأخذه. فقال مالك والشافعي وأحمد: القطع على الداخل دون الخارج. وقال أبو حنيفة: لا يقطع منهما أحد. واختلفوا فيما إذا اشترك جماعة في نقب ودخلوا الحرز وأخرج بعضهم نصابا ولم يخرج الباقون شيئا ولم يكن منهم معاونة في إخراجه. فقال أبو حنيفة وأحمد: يجب القطع على جماعتهم. وقال مالك والشافعي: لا يقطع إلا الذين أخرجوا المتاع واختلفوا فيما إذا قرب الداخل المتاع إلى النقب وتركه فأدخل الخارج يده فأخرجه من الحرز. فقال أبو حنيفة: لا قطع عليهما. وقال مالك: يقطع الذي أخرجه قولا واحدا وفي الداخل الذي قربه خلاف بين أصحابه على قولين. وقال الشافعي: القطع على الذي أخرجه خاصة. وقال أحمد: عليهما القطع جميعا. وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب قال: " وإن نقب رجلان حرزا فأخذ أحدهما المال ووضعه على بعض النقب وأخذه الاخر ففيه قولان: أحدهما أنه يجب عليهما القطع لانا لو لم نوجب عليهما القطع صار هذا طريقا إلى إسقاط القطع، والثاني: أنه لا يقطع واحد منهما كقول أبي حنيفة وهو الصحيح، لان كل واحد منهما لم يخرج المال من الحرز. وإن نقب أحدهما الحرز ودخل الاخر وأخرج المال ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: فيه قولان كالمسألة قبلها ومنهم من قال: لا يجب القطع قولا واحدا لان أحدهما نقب ولم يخرج المال والاخر أخرج من غير حرز ". بم يثبت الحد؟ وهل يتوقف على طلب المسروق منه؟: لا يقام الحد إلا إذا طالب المسروق منه بإقامته (1) لان مخاصمته المجني عليه   (1) هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في أظهر روايتيه وأصحاب الشافعي وقال مالك: لا يفتقر إلى المطالبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ومطالبته بالمسروق شرط ويثبت الحد بشهادة عدلين أو بالاقرار ويكفي فيه مرة واحدة عند مالك والشافعية والاحناف لان النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق المجن وسارق رداء صفوان، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الاقرار. وما وقع من التكرار في بعض الحالات فهو من باب التثبت. ويرى أحمد وإسحاق وابن أبي ليلى أنه لا بد من تكراره مرتين. دعوى السارق الملكية: وإذا ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه بعد قيام البينة عليه بأنه سرق من الحرز نصابا فقال مالك: يجب عليه القطع بكل حال ولا يقبل دعواه وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقطع وسماه الشافعي: " السارق الظريف " تلقين السارق ما يسقط الحد: ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط الحد، لما رواه أبو أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف، ولم يوجد معه متاع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت (1) ؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، ورجاله ثقات. وقال عطاء: كان من قضى (2) يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا. وسمى (3) أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وعن أبي الدرداء. أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا. فقالت: لا. فخلى سبيلها. وعن عمر أنه أتي برجل سرق فسأله " أسرقت؟ قل: لا. فقال: لا " فتركه. عقوبة السرقة : إذا ثبتت جريمة السرقة وجب إقامة الحد على السارق فتقطع يده اليمنى   (1) إخالك: أي أظنك. (2) من قضى: أي من تولى القضاء. (3) أي ذكر أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك حينما توليا القضاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 من مفصل الكف وهو الكوع (1) لقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ولا يجوز العفو عنها من أحد لا من المجني عليه ولا من الحاكم، كما لا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها أو تأخير تنفيذها أو تعطيلها، خلافا للشيعة الذين يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجني عليه في السرقة وكذلك يرون أن للامام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط العقوبة عن بعض الناس لمصلحة، وله تأخيرها عن بعضهم لمصلحة، وهذا مخالف لجماعة أهل السنة الذين يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " تجافوا العقوبة بينكم، فإذا انتهي بها إلى الامام فلا عفا الله عنه إن عفا ". فإذا سرق ثانيا تقطع رجله، ثم إن الفقهاء اختلفوا فيما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله. فقال أبو حنيفة: يعزر ويحبس. وقال الشافعي وغيره: تقطع يده اليسرى، ثم إذا عاد إلى السرقة تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق يعزر ويحبس. حسم يد السارق إذا قطعت: وتحسم يد السارق بعد القطع، فتكوى بالنار، أو تتخذ أي طريقة من الطرق حتى ينقطع الدم فلا يتعرض المقطوع للتلف والهلاك. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا: يارسول الله، إن هذا قد سرق: فقال رسول الله صلى الله عليه   (1) كان القطع معمولا به في الجاهلية فأقره الاسلام مع زيادة شروط أخرى: ويقال إن أول من قطع الايدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده قال القرطبي: وقد قطع السارق في الجاهلية وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأمر الله بقطعه في الاسلام، وكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام من الرجال الخيار ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف ومن النساء مرة بنت سمعان بن عبد الاسد من بني مخزوم وقطع أبو بكر اليمني الذي سرق العقد وهو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل وقد كان سرق عقدا لاسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقطع يده اليسرى. وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وسلم: " ما أخاله سرق (1) "، فقال السارق: بلى يارسول الله. فقال: " اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه (2) ، ثم ائتوني به "، فقطع فأتي به. فقال: تب إلى الله. قال: قد تبت إلى الله. فقال: " تاب الله عليك ". رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن القطان. تعليق يد السارق في عنقه: ومن التنكيل بالسارق والزجر لغيره، أمر الشارع بتعليق يد السارق المقطوعة في عنقه. روى أبو داود والنسائي والترمذي: وقال " حسن (3) غريب، عن عبد الله بن محيريز قال: سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه: أمن السنة هو؟ فقال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه. اجتماع الضمان والحد: إذا كان المسروق قائما رد إلى صاحبه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. فإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله، وقطع ولا يمنع أحدهما الاخر، لان الضمان الحق الادمي، والقطع يجب لله تعالى، فلا يمنع أحدهما الاخر كالدية والكفارة. وقال أبو حنيفة: إذا تلف المسروق فلا يغرم السارق لانه لا يجتمع الغرم مع القطع بحال لان الله ذكر القطع ولم يذكر الغرم. وقال مالك وأصحابه: إن تلف، فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا لم يكن عليه شئ.   (1) في هذا إيحاء للسارق بعدم الاقرار وبالرجوع عنه. (2) في هذا دليل على أن نفقة الحسم ومؤنته ليست على السارق وإنما هي في بيت المال. (3) في إسناده الحجاج بن أرطأة قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 الجنايات : الجنايات جمع جناية، مأخوذة من جني يجني بمعنى أخذ، يقال، جنى الثمر إذا أخذه من الشجر. ويقال أيضا جنى على قومه جناية، أي أذنب ذنبا يؤاخذ به. والمراد بالجناية في عرف الشرع: كل فعل محرم. والفعل المحرم: كل فعل حظره الشارع ومنع منه، لما فيه من ضرر واقع على الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال. وقد اصطلح الفقهاء على تقسيم هذه الجرائم إلى قسمين. (القسم الاول) ويسمى بجرائم الحدود. (والقسم الثاني) ويسمى بجرائم القصاص. وهي الجنايات التي تقع على النفس أو على ما دونها من جرح أو قطع عضو، وهذه هي أصول المصالح الضرورية التي يجب المحافظة عليها صيانة للناس وحفاظا على حياتهم الاجتماعية. وقد تقدم الكلام على جرائم الحدود وعقوباتها وبقي أن نتكلم على جرائم القصاص. ونبدأ بتمهيد في وجهة الاسلام في المحافظة على الاسلام متبعين ذلك بالكلام عن القصاص بين الجاهلية والاسلام، ثم الكلام عن القصاص في النفس والقصاص فيما دونها. وأما الجنايات في القانون فهي أخطر الجرائم، وقد حددتها المادة 10 من قانون العقوبات بأنها الجرائم المعاقب عليها بالاعدام، أو الاشغال الشاقة المؤبدة، أو الاشغال الشاقة المؤقتة، أو السجن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 المحافظة على النفس كرامة الانسان : ان الله سبحانه كرم الانسان: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الارض جميعا منه، وجعله خليفة عنه، وزوده بالقوى والمواهب ليسود الارض، وليصل إلى أقصى ما قدر له من كمال مادي واترقاء روحي. ولا يمكن أن يحقق الانسان أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا توفرت له جميع عناصر النمو، وأخذ حقوقه كاملة. وفي طليعة هذه الحقوق التي ضمنها الاسلام: حق الحياة، وحق التملك، وحق صيانة العرض، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق التعلم. قال الله تعالى: وهذه الحقوق، واجبة للانسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن لونه، أو دينه، أو جنسه، أو وطنه، أو مركزه الاجتماعي. " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " (1) . وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: " أيها الناس، ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله، وعرضه ". حق الحياة: وأول هذه الحقوق وأولاها بالعناية حق الحياة، وهو حق مقدس لا يحل انتهاك حرمته ولا استباحة حماه. يقول الله سبحانه: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " (2)   (1) سورة الاسراء: آية 70. (2) سورة الاسراء: الاية 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 والحق الذي تزهق به النفوس. هو ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله عن ابن مسعود رضي الله عنه: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب (1) الزاني، والنفس بالنفس (2) ، والتارك لدينه المفارق للجماعة (3) ". رواه البخاري ومسلم. ويقول الله سبحانه وتعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطأ كبيرا ". (4) ويقول سبحانه: " وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت " (5) . والله سبحانه جعل عذاب من سن القتل عذابا لم يجعله لاحد من خلقه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: " ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها، لانه كان أول من سن القتل " (6) . رواه البخاري ومسلم. ومن حرص الاسلام على حماية النفوس أنه هدد من يستحلها بأشد عقوبة. فيقول الله تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه، ولعنه وأعد له عذابا عظيما " (7) . فبهذه الآية تقرر أن عقوبة القاتل في الآخرة العذاب الاليم، والخلود المقيم   (1) الثيب الزاني: المتزوج. (2) النفس بالنفس: أي فقتل النفس التي قتلت نفسا عمدا بغير حق بقتل النفس. (3) التارك لدينه المفارق للجماعة: أي المرتد عن دين الاسلام. (4) سورة الاسراء، الآية: 31. (5) سورة التكوير: الآيتان 8، 9. (6) هو قابيل الذي قتل هابيل. والكفل: النصيب. قال النووي: هذا الحديث من قواعد الاسلام، وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل، مثل عمله يوم القيامة. (7) سورة النساء: الآية 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 في جهنم، والغضب واللعنة والعذاب العظيم. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا توبة لقاتل مؤمن عمدا ". لانها آخر ما نزل، ولم ينسخها شئ، وإن كان الجمهور على خلافه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ". رواه ابن ماجه بسند حسن عن البراء. وروى الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أهل السماء وأهل الارض اشتركوا في دم مؤمن، لاكبهم الله في النار ". وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله ". ذلك أن القتل هدم لبناء أراده الله، وسلب لحياة المجني عليه، واعتداء على عصبته الذين يعتزون بوجوده، وينتفعون به، ويحرمون بفقده العون، ويستوي في التحريم قتل المسلم والذمي وقاتل نفسه. ففي قتل الذمي جاءت الاحاديث مصرحة بوجوب النار لمن قتله. روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل معاهدا (1) ، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها بوجد من مسيرة أربعين عاما " (2) . وأما قاتل نفسه فالله سبحانه وتعالى يحذر من ذلك فيقول:   (1) المعاهد: من له عهد مع المسلمين - إما بأمان من مسلم - أو هدنة من حاكم - أو عقد جزية. (2) وعدم وجدان رائحتها يستلزم عدم دخولها. قال الحافظ في الفتح: إن المراد بهذا النفي - وإن كان عاما - التخصيص بزمان ما، لتعاضد الادلة الفعلية والنقلية: أي من مات مسلما، وكان من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار، ومآله الجنة ولو عذب قبل ذلك. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " (1) . ويقول: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " (2) . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من تردى (3) من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ (4) بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ". وروى البخاري عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار. والذي يقتحم (5) يقتحم في النار ". وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات (6) قال الله تعالى: " بادرني عبدي بنفسه: حرمت عليه الجنة ". رواه البخاري. وثبت في الحديث " من قتل نفسه بشئ عذب به يوم القيامة ". ومن أبلغ ما يتصور في التشنيع على القتلة بالاضافة إلى ما سبق أن الاسلام اعتبر القاتل لفرد من الافراد كالقاتل للافراد جميعا، وهذا أبلغ ما يتصور من التشنيع على ارتكاب هذه الجريمة النكراء. يقول سبحانه: " أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس   (1) سورة البقرة: الآية 195. (2) سورة النساء: الآية 29. (3) التردي: السقوط. أي أسقط نفسه متعمدا مثلا. (4) يتوجأ: يضرب بها نفسه. (5) يقتحم: يرمي نفسه. (6) أي ما انقطع حتى مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " (1) . ولعظم أمر الدماء وشدة خطورتها، كانت هي أول ما يقضى فيها بين الناس يوم القيامة (2) كما رواه مسلم. وقد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل انتقاما منه، وزجرا لغيره، وتطهيرا للمجتمع من الجرائم التي يضطرب فيها النظام العام، ويختل معها الامن. فقال: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب، لعلكم تتقون " (3) . وهذه العقوبة مقررة في جميع الشرائع الالهية المتقدمة. ففي الشريعة الموسوية جاء بالفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج: " أن من ضرب إنسانا فمات فليقتل قتلا، وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالا فمن قدام مذبحي تأخذه ليقتل، ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا، وإن حصلت أذية فأعط نفسا بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وجرحا بجرح، ورضا برض " وفي الشريعة المسيحية يرى البعض أن قتل القاتل لم يكن من مبادئها مستدلين على ذلك بما ورد بالاصحاح الخامس من إنجيل متى من قول عيسى عليه السلام: " لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له خدك الآخر أيضا. ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين. ويرى البعض الآخر أن الشريعة المسيحية عرفت عقوبة الاعدام مستدلا على ذلك بما قاله عيسى عليه السلام: " ما جئت لانقض الناموس، وإنما جئت لاتمم ". وقد تأيد هذا النظر بما ورد في القرآن الكريم:   (1) سورة المائدة: الآية 32. (2) وهذا فيما بين العباد، وأما حديث: أول ما يحاسب به العبد الصلاة فهو فيما بين العبد وبين الله. (3) سورة البقرة: الآية 179. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 " ومصدقا لما بين يدي من التوراة ". وإلى هذا تشير الآية الكريمة: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والانف بالانف، والاذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص " (1) ولم تفرق الشريعة بين نفس ونفس، فالقصاص حق، سواء أكان المقتول كبيرا أم صغيرا، رجلا أم امرأة. فلكل حق الحياة، ولا يحل التعرض لحياته بما يفسدها بأي وجه من الوجوه، وحتى في قتل الخطأ، لم يعف الله تعالى القاتل من المسئولية، وأوجب فيه: العتق، والدية، فقال سبحانه: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا " (2) . وهذه العقوبة المالية إنما أوجبها الاسلام في القتل الخطأ احتراما للنفس حتى لا يتسرب إلى ذهن أحد هوانها، وليحتاط الناس فيما يتصل بالنفوس والدماء، ولتسد ذرائع الفساد، حتى لا يقتل أحد أحدا ويزعم أن القتل كان خطأ. ومن شدة عناية الاسلام بحماية الانفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدب الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سبب حقيقي يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت، ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة. القصاص بين الجاهلية والإسلام : قام نظام القصاص في العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسئولة عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة. ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في هذه المطالبة توسعا ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه.   (1) سورة المائدة: الآية 45. (2) سورة النساء: الآية 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني عليه شريفا أو سيدا في قومه. على أن بعض القبائل كثيرا ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي بأنفس الكثير من الابرياء. فلما جاء الاسلام وضع حدا لهذا النظام الجائر، وأعلن أن الجاني وحده هو المسئول عن جنايته، وهو الذي يؤخذ بجريرته فقال: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى (1) الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى، فمن عفي له من أخيه شئ، فاتباع بالمعروف (2) وأداء إليه بإحسان. ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يأولي الالباب لعلكم تتقون ". (3) إذا اختاروا القصاص دون العفو: قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: " كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لاحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالانثى، فلما جاء الاسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وأمرهم أن يتبارأوا " انتهى. والآية تشير إلى ما يأتي: 1 - أن الله سبحانه أبطل النظام الجاهلي، وفرض المماثلة والمساواة في القتلى. فإذا اختاروا القصاص دون العفو، فأرادوا إنفاذه، فإن الحر يقتل إذا قتل حرا، والعبد يقتل إذا قتل عبدا مثله، والمرأة تقتل إذا قتلت امرأة.   (1) التقلى: جمع قتيل. (2) فاتباع بالمعروف: مأخوذ من اقتصاص الاثر: أي تتبعه، لان المجني عليه يتبع الجناية، فيأخذ مثلها. (3) سورة البقرة: الآية 178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 قال القرطبي: " وهذه الآية جاءت مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه فبيتت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والانثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الآخر. فالآية محكمة، وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " إلى آخر الآية. وبينه النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل اليهودي بالمرأة. قاله مجاهد. 2 - فإذا عفا ولي الدم عن الجاني فله أن يطالبه بالدية على أن تكون المطالبة بالمعروف، لا يخالطها عنف ولا غلظة، وعلى القاتل أداء الدية إلى العافي بلا مماطلة ولابخس. 3 - وهذا الحكم الذي شرعه الله من جواز القصاص والعفو عنه إلى الدية تيسير من الله ورحمة حيث وسع الامر في ذلك، فلم يحتم واحدا منهما. 4 - فمن اعتدى على الجاني فقتله بعد العفو عنه، فله عذاب أليم، إما بقتله في الدنيا أو عذابه بالنار في الآخرة. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال: " كان في بني اسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الامة: " كتب عليكم القصاص في القتلى ... " الآية " فمن عفي له من أخيه شئ " قال: " فالعفو " أن يقبل في العمد الدية، و " الاتباع بالمعروف " أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان. " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " فيما كتب على من كان قبلكم. 5 - وقد شرع الله القصاص لان فيه الحياة العظيمة، والبقاء للناس، فإن القاتل إذا علم أنه سيقتل ارتدع، فأحيا نفسه من جهة، وأحياء من كان يريد قتله من جهة أخرى. 6 - وقد أبقى الاسلام جعل الولاية في طلب القصاص لولي المقتول على على ما كان عليه عند العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 يقول الله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا، فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ". والمقصود بالولي هو من له القيام بالدم، وهو الوارث للمقتول (1) ، فهو الذي له حق المطالبة دون السلطة الحاكمة، فلو لم يطالب هو بالقصاص فإنه لا يقتص من الجاني. والسلطان: التسلط على القاتل، وإنما كان ذلك كذلك مخافة أن يصدر العفو من غير رضا منه، وهوالذي اكتوى بنار الجريمة فتثور نفسه ويعمد إلى الاخذ بالثأر، ويتكرر القتل والاجرام. 7 - قال صاحب المنار معلقا على هذه الآية: فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لان من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع. " فإن من الناس من يبذل المال الكثير لاجل الايقاع بعدوه. " وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة. ويوطن النفس على قبول حكم المساواة، إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم " القصاص في النفس ليس كل اعتداء على النفس بموجب للقصاص، فقد يكون الاعتداء عمدا، وقد يكون شبه عمد، وقد يكون خطأ، وقد يكون غيرذلك. ومن ثم وجب أن نبين أنواع القتل، ونبين النوع الذي يجب القصاص بمقتضاه.   (1) هذا رأي الجمهور، وقال مالك: هم العصبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 أنواع القتل : القتل أنواع ثلاثة: 1 - عمد. 2 - شبه عمد. 3 - خطأ. القتل العمد: فالقتل العمد هو: أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم (1) بما يغلب على الظن أنه يقتل به. ويفهم من هذا التعريف أن جريمة القتل العمد لاتتحقق إلا إذا توفرت فيها الاركان الآتية: 1 - أن يكون القاتل عاقلا، بالغا، قاصدا القتل. أما اعتبار العقل والبلوغ، فلحديث علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم ". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وأما اعتبار العمد، فلما رواه أبو هريرة رضي الله عنه. قال: " قتل رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردت قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولي: " أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار " فخلاه الرجل، وكان مكتوفا بنسعة (2) فخرج يجر نسعته. قال: فكان يسمى (ذا النسعة) ". رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، والترمذي وصححه. وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العمد قود، إلا أن يعفو ولي المقتول ". وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال:   (1) أي لا يستحق القتل شرعا. (2) النسعة: سير من الجلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 " من قتل عامدا فهو قود، ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والنا س أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولاعدلا ". 2 - أن يكون المقتول آدميا، ومعصوم الدم: أي أن دمه غير مباح 3 - أن تكون الاداة التي استعملت في القتل مما يقتل بها غالبا. فإذا لم تتوفر هذه الاركان. فإن القتل لا يعتبر قتلا عمدا. أداة القتل : ولا يشترط في الاداة التي يقتل بها سوى أنها مما تقتل غالبا، سواء أكانت محددة أم متلفة لتماثلهما في إزهاق الروح. وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رض (1) رأس يهودي بين حجرين، وكان فعل ذلك بجارية من الجواري. وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة، والشعبي، والنخعي، الذين يقولون بأنه لا قصاص في القتل بالمثقل. ومن هذا القبيل القتل بالاحراق بالنار، والاغراق بالماء، والالقاء من شاهق، وإلقاء حائط عليه، وخنق الانفاس، رحبس الانسان، ومنع الطعام والشراب عنه حتى يموت جوعا، وتقديمه لحيوان مفترس. ومنه ما إذا شهد الشهود على إنسان معصوم الدم بما يوجب قتله، ثم بعد قتله يرجعون عن الشهادة، ويقولون: تعمدنا قتله، فهذه كلها من الادوات التي غالبا ما تقتل. ومن قدم طعاما مسموما لغيره، وهو يعلم أنه مسموم، دون آكله، فمات به، اقتص منه. روى البخاري ومسلم: " أن يهودية سمت النبي صلى الله عليه وسلم في شاة، فأكل منها لقمة، ثم لفظها، وأكل معه بشر بن البراء، فعفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ". أي أنه عفا عنها قبل أن تحدث الوفاة لواحه ممن أكل " فلما مات بشر بن البراء قتلها به ". لما رواه أبو داود: " أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها "   (1) رض: كسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 القتل شبه العمد: والقتل شبه العمد: هو أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بما لا يقتل عادة، كأن يضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير، أو لكزه بيده، أو سوط ونحو ذلك. فإن كان الضرب بعصا خفيفة أو حجر صغير " ضربة أو ضربتين " فمات من ذلك الضرب، فهو قتل شبه عمد (1) . فإن كان الضرب في مقتل أو كان المضروب صغيرا أو كان مريضا يموت من مثل هذا الضرب غالبا، أو كان قويا، غير أن الضارب والى الضرب حتى مات فإنه يكون عمدا. وسمي يشبه العمد، لان القتل متردد بين العمد والخطأ، إذ أن الضرب مقصود، والقتل غير مقصود. ولهذا أطلق عليه شبه العمد، فهو ليس عمدا محضا، ولاخطأ محضا. ولما لم يكن عمدا محضا سقط القود، لان الاصل صيانة الدماء فلا تستباح، إلا بأمر بين. ولما لم يكن خطأ محضا، لان الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية مغلظة. روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط، فهو دية مغلظة في أسنان الابل ". وأخرج أحمد وأبو داود عن عمرو بين شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل شبه العمد مغلظ، كعقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فتكون الدماء في غير ضغينة ولاحمل سلاح ".   (1) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وجماهير الفقهاء، وخالف في ذلك: مالك والليث، والهادوية: فذهبوا إلى أن القتل إذا كان بآلة لا يقصد بمثلها القتل غالبا، كالعصا والسوط واللطمة ونحو ذلك، فإنه يعتبر عمدا وفيه القصئاص، إذ الاصل عندهم عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح. فكل ما أزهق الروح أوجب القصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: " ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر ". القتل الخطأ: والقتل الخطأ هو: أن يفعل المكلف ما يباح له فعله، كأن يرمي صيدا، أو يقصد غرضا، فيصيب إنسانا معصوم الدم فيقتله، وكأن يحفر بئرا، فيتردى فيها إنسان، أو ينصب شبكة - حيث لا يجوز - فيعلق بها رجل فيقتل، ويلحق بالخطأ القتل العمد الصادر من غير مكلف، كالصبي والمجنون. الآثار المترتبة على القتل قلنا إن القتل: عمد، وشبه عمد، وخطأ. ولكل نوع من هذ الانواع الثلاثة آثار تترتب عليه. وفيما يلي نذكر أثر كل نوع. موجب القتل الخطأ: إن القتل الخطأ يوجب أمرين: (أحدهما) الدية المخففة على العاقلة، مؤجلة في ثلاث سنين. وسيأتي ذلك حين الكلام على الدية. (ثانيهما) الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل والكسب، فان لم يجد صام شهرين متتابعين (1) . وأصل ذلك قول الله تعالى: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ. ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن، فتحرير   (1) يرى الشافعية أن كفارة القتل يجوز فيها الاطعام إن عجز المكفر عن الصيام لكبر سن أو مرض أو لحقه مشقة شديدة، فيطعم ستين مسكينا، يعطي كل واحد مدا من طعام. وخالفهم الفقهاء في ذلك لعدم ورود ما يدل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله، وكان الله عليما حكيما ". (1) وإذا قتل جماعة رجلا خطأ. فقال جمهور العلماء: على كل واحد منهم الكفارة. وقال جماعة: عليهم كلهم كفارة واحدة. الحكمة في الكفارة: قال القرطبي: " واختلفوا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل. وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق، وهو التنعم بالحياة، والتصرف فيما أحل له تصرف الاحياء، وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من اسم العبودية - صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو ذميا - ما يتميز به عن البهائم والدواب. ويرتجى - مع ذلك - أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة. وأى واحد من هذين المعنيين كان ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ، فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه ". اه ووسيأتي بيان هذا. موجب القتل شبه العمد: والقتل شبه العمد يوجب أمرين: 1 - الاثم، لانه قتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق. 2 - الدية المغلظة على العاقلة - على ما سيأتي.   (1) سورة النساء: الآية 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 أما القتل العمد، فإنه يوجب أمورا أربعة: 1 - الاثم. 2 - الحرمان من الميراث والوصية. 3 - الكفارة. 4 - القود أو العفو. (1) فلا يرث القاتل من ميراث المقتول شيئا، لامن ماله ولا من ديته إذا كان من ورثته سواء أكان القتل عمدا أم كان خطأ. وقاعدة الفقهاء في ذلك: " من استعجل الشئ قبل أو انه عوقب بحرمانه ". (2) وروى البيهقي عن خلاس أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها، فقال له إخوته: لاحق لك، فارتفعوا إلى علي كرم الله وجهه فقال له علي رضي الله عنه: " حقك من ميراثها الحجر، فأغرمه الدية. ولم يعطه من ميراثها شيئا ". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس للقاتل من الميراث شئ ". والحديث معلول وقد اختلف في رفعه ووقفه، وله شواهد تقويه. وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس للقاتل شئ، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئا " (1) . وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. وكذلك الاحناف والشافعية، وذهبت الهادوية والامام مالك إلى أن القتل إن كان خطأ ورث من المال دون الدية،   (1) " أي أن بعض الورثة إذا قتل المورث حرم من ميراثه، وورثه من لم يرتكب هذه الجريمة، فإن لم يكن له وارث إلا القاتل حرم من الميراث وقسمت تركته على أقرب الناس منه بعد القاتل. مثل: الرجل يقتله ابنه وليس له وارث غير ابنه، وللقاتل ابن، فإن ميراث المقتول يدفع إلى ابن القاتل ويحرمه القاتل ". (من معالم السنن للخطابي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وقال الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما: لا يحرم القاتل من الميراث. وكذلك تبطل الوصية إذا قتل له الموصى له الموصي. قال في البدائع: القتل بغير حق جناية عظيمة تستدعي الزجر بأبلغ الوجوه، وحرمان الوصية يصلح زاجرا كحرمان الميراث فيثبت. وسواء أكان القتل عمدا أم خطأ لان القتل الخطأ قتل وأنه جاز المؤاخذة عليه عقلا، وسواء أوصى له بعد الجناية أو قبلها. (3) الكفارة في حالة ما إذا عفا ولي الدم أو رضي بالدية: أما إذا اقتص من القاتل فلا تجب عليه كفارة. روى الامام أحمد عن وائلة بن الاصقع. قال: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم. فقالوا: " إن صاحبا لنا قد أوجب. قال: فليعتق رقبة يفد الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ". ورواه أيضا بسند آخر عنه قال: " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب قال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار ". وهذا رواه أبو داود والنسائي. ولفظ أبي داود قد أوجب " يعني النار " بالقتل. قال الشوكاني في نيل الاوطار: " في حديث وائلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد. وهذا إذا عفا عن القاتل، أو رضي الوارث بالدية. وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة المذكور في الباب ولما أخرجه أبو نعيم في " المعرفة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القتل كفارة ". وهو من حديث خزيمة بن ثابت. وفي إسناده ابن لهيعة. قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه، فيكون حسنا. ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 (4) القود (1) أو العفو: القود أو العفو إما على الدية، أو الصلح على غير الدية، ولو بالزيادة عليها. كما أن لولي الجناية العفو مجانا. وهو أفضل. " وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولا تنسوا الفضل بينكم " (2) . وإذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإنه لا يبقى حق للحاكم بعد في تعزيره. وقال مالك والليث: يعزر بالسجن عاماو مائة جلدة (3) . وأصل وجوب القود أو العفو قول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى، فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ". (4) وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل له قتيل فهو يخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل (5) " فالامر في العفو أو القصاص إلى أولياء الدم. وهم الورثة، فإن شاءوا طلبوا القود، وإن شاءوا عفوا، حتى لو عفا أحد الورثة سقط القصاص، لانه لا يتجزأ. روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا عنه بعض الاولياء، فأمر   (1) القود: سمي قودا لان الجاني يقاد إلى أولياء المقتول، فيقتلونه به إن شاءوا. وقيل: معناه المماثلة. (2) سورة البقرة: الآية 238. (3) قال الفقهاء: إن الجاني إذا كان معروفا بالشر، أو ظهر للحاكم أن المصلحة تقتضي عقابه فله أن يعزره بما يراه محققا للمصلحة، إما بالحبس أو السجن أو القتل. (4) سورة البقرة: الآية 178. (5) في هذا الحديث دليل على أن ولي المقتول بالخيار، إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل: وقيل: ليس له إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل. والاول أصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 بقتله، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كانت النفس لهم جميعا، فلما عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أخذ حقه - يعني الذي لم يعف - حتى يأخذ حق غيره. قال فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية في ماله، وترفع عنه حصة الذي عفا. قال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك. قال محمد: وأنا أرى ذلك. وهو قول أبي حنيفة. وإن كان في الورثة صغير فإنه ينتظر بلوغه، ليكون له الخيار، إذ أن القصاص حق لجميع الورثة. ولا اختيار للصبي قبل بلوغه. وإذا عفا الورثة جميعا أو أحدهم على الدية وجب على القاتل دية مغلظة، حالة في حاله كما سيأتي ذلك مفصلا في باب الديات. شروط وجوب القصاص : ولا يجب القصاص إلا إذا توفرت الشروط الآتية: 1 - أن يكون المقتول معصوم الدم. فلو كان حربيا، أو زانيا محصنا، أو مرتدا، فإنه لا ضمان على القاتل، لا بقصاص ولابدية، لان هؤلاء جميعا مهدور والدم. روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم: يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ". 2 - أن يكون القاتل بالغا. 3 - أن يكون عاقلا. فلا قصاص على صغير، ولا مجنون، ولا معتوه، لانهم غير مكلفين، وليس لهم قصد صحيح أو إرادة حرة. فإذا كان المجنون يفيق أحيانا، فقتل وقت إفاقته، اقتص منه. وكذلك من زال عقله بسكر وهو متعد في شربه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فعن مالك أنه بلغه " أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان، يذكر أنه أتي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية: أن اقتله به ". فإن كان شرب شيئا ظنه غير مسكر، فزال عقله فقتل في هذه الحال، فلا قصاص عليه. وفي الحديث يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ ". وقال مالك: " الامر المجمع عليه عندنا: أن لاقود بين الصبيان، وأن قتلهم خطأ ما لم تجب الحدود، ويبلغوا الحلم، وان قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ". 4 - أن يكون القاتل مختارا، فإن الاكراه يسلبه الارادة، ولا مسئولية على من فقد إرادته، فإذا أكره صاحب سلطان (1) غيره على القتل، فقتل آدميا بغير حق، فإنه يقتل الآمر دون المأمور. ويعاقب المأمور. وبهذا أخذ أبو حنيفة، وداود، وهو أحد قولي الشافعي. وقال الاحناف: وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك، ولصاحب المال أن يضمن المكره. وإن أكرهه بقتل على قتل غيره، لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما. والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا. وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر. وهو القول الآخر للشافعي. وقال قوم: منهم مالك والحنابلة: يقتلان جميعا، إن لم يعف ولي الدم، فإن عفا ولي الدم وجبت الدية، لان القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكره تسبب في القتل بما يفضي إليه غالبا. وإذا أمر مكلف غير مكلف بأن يقتل غيره: مثل الصغير والمجنون. فالقصاص على الآمر، لان المباشر للقتل آلة في يده، فلا يجب القصاص عليه، وإنما يجب على المتسبب.   (1) عند الحنابلة: أن قول القادر: أقتل وإلا قتلتك، إكراه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وإذا أمر الحاكم بالقتل ظلما، فإما أن يكون المأمور عالما بأنه ظلم، أو لا يكون له علم به. فإن كان عالما بأنه ظلم ونفذ أمره، وجب عليه القصاص، إلا أن يعفو الولي، فتجب الدية عليه، لانه مباشر للقتل مع علمه بأنه ظلم، فلا يعذر ولا يقال إنه مأمور من الحاكم، لان قاعدة الاسلام: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وإن لم يكن عالما بعدم استحقاقه القتل، فقتله، فالقصاص - إن لم يعف الولي، أو الدية - على الآمر بالقتل، دون المباشر، لانه معذور لوجوب طاعة الحاكم في غير معصية الله. ومن دفع إلى غير مكلف آلة قتل، ولم يأمره به، فقتل، لم يلزم الدافع شئ. 5 - ألا يكون القاتل أصلا للمقتول، فلا يقتص من والد بقتل ولده، وولد ولده وإن سفل إذا قتله، بأي وجه من أوجه العمد، بخلاف ما إذا قتل الابن أحد أبويه فإنه يقتل اتفاقا، لان الوالد سبب في حياة ولده، فلا يكون ولده سببا في قتله وسلبه الحياة، بخلاف ما إذا قتل الولد أحد والديه فإنه يقتص منه لهما. أخرج الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقتل الوالد بالولد ". قال ابن عبد البر: " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، وهو عمل أهل المدينة، ومروي عن عمر ". وروى يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة " حدف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له. فقال له عمر: " اعدد على " ماء قديد " عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر، أخذ من تلك الابل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة. ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 أين أخو المقتول؟ فقال هأنذا. قال خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس لقاتل شئ ". وخالف في ذلك الامام مالك، فرأى أنه يقاد الولد بالوالد، إذا أضجعه وذبحه، لان ذلك عمد حقيقة، لا يحتمل غيره، فإن الظاهر في استعمال الجارح في القتل هو العمد. والعمدية أمر خفي، لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الاحوال، وأما إذا كان على غير هذه الصفة، فيما يحتمل عدم إزهاق الروح، بل قصد التأديب من الاب. وإن كان في حق غيره، يحكم فيه بالعمد. وإنما فرق بين الاب وغيره، لما للاب من الشفقة على ولده، وعليه قصد التأديب عند فعله ما يغضب الاب، فيحمل على عدم قصد القتل، لقوة المحبة التي بين الاب والابن. 6 - أن يكون المقتول مكافئا للقاتل حال جنايته، بأن يساويه في الدين، والحرية، فلا قصاص على مسلم قتل كافرا. أو حر قتل عبدا، لانه لا تكافؤ بين القاتل والمقتول، بخلاف ما إذا قتل الكافر المسلم، أو قتل العبد الحر، فإنه يقتص منهما. والاسلام وإن كان قد ألغى الفوارق بين المسلمين في هذا الباب، فلم يفرق بين شريف ووضيع، ولابين جميل ودميم، ولابين غني وفقير، ولا بين طويل وقصير، ولابين قوي وضعيف، ولابين سليم ومريض، ولابين كامل الجسم وناقصه، ولابين صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثى (1) إلا أنه اعتبر الفارق بين المسلم والكافر، والحر والعبد، فلم يجعلهما متكافئين في الدم. فلو قتل مسلم كافر أو قتل حر عبدا فلا قصاص على واحد منهما. وأصل ذلك حديث علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرجل إذا قتل امرأة فإنه قتل بها. وحكى ابن المنذر الاجماع على ذلك، وحكى أبو الوليد الباجي والخطابي عن الحسن البصري: أنه لا يقتل الرجل بالانثى، وهو قول شاذ مردود. ففي كتاب عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول: ان الذكر يقتل بالانثى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 " ألا لا يقتل مؤمن بكافر ". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم. وصححه. وروى البخاري عن علي كرم الله وجهه أيضا أن أبا جحيفة قال له: " هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن. قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم (1) ، وفكاك الاسير، وألا يقتل مسلم بكافر. وهذا مجمع عليه بالنسبة للكافر الحربي: فإن المسلم إذا قتله، فإنه لا يقتل به إجماعا. وأما بالنسبة للذمي والمعاهد، فقد اختلفت فيهما أنظار الفقهاء. فذهب الجمهور منهم إلى أن المسلم لا يقتل بهما لصحة الاحاديث في ذلك، ولم يأت ما يخالفها. وقالت الاحناف وابن أبي ليلى: لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر الحربي، كما قال الجمهور. وخالفوهم في الذمي، والمعاهد. فقالوا: " إن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد بغير حق، فإنه يقتل بهما، لان الله تعالى يقول: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ". وأخرج البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل مسلما بمعاهد. وقال: " أنا أكرم من وفى بذمته ". وقالوا أيضا: ان المسلمين أجمعوا على أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي. فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه. رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل ذميا كافرا، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة فألفاها إليه. فإذا فيها:   (1) تتكافأ: تتساوى في الدية والقصاص. (2) ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به الحجة، وحديثه هذا مرسل. قال أبو عبد القاسم بن سلام: هذا الحديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله إماما تسفك به الدماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 يا قاتل المسلم بالكافر - جرت، وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأطرافها - من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا على دينكم - واصطبروا، فالاجر للصابر جار على الدين أبو يوسف - بقتله المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة. فقال الرشيد: " تدارك هذا الامر لئلا تكون فتنة ". فخرج أبو يوسف، وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود. وقال مالك والليث: " لا يقتل المسلم بالذمي، إلا أن يقتله غيلة. وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه، وبخاصة على ماله ". هذا بالنسبة للكافر، وأما العبد، فإن الحر لا يقتل به إذا قتله، بخلاف ما إذا قتل العبد الحر، فإنه يقتل به. لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رجلا قتل عبده صبرا (1) متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه سنة، ومحاسهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة ". ولان الله تعالى يقول: " الحر بالحر ". وهذا التعبير يفيد الحصر، فيكون معناه: أنه لا يقتل الحر بغير الحر. وإذا كان لا يقتل به فإنه يلزمه قيمته، بالغة ما بلغت، وإن جاوزت دية الحر. هذا إذا قتل عبد غيره. أما إذا كان السيد هو الذي قتل عبده فعقوبته ما ذكر في الحديث. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، منهم مالك والشافعي، وأحمد، والهادوية. وقال أبو حنيفة: " يقتل الحر إذا قتل العبد، إلا إذا كان سيده ". وذلك أن الآية الكريمة تقول:   (1) صبرا: أي حبسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ". وهذا عام في كل الحالات، إلا إذا خصص، وقد خصصته السنة بحديث البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقاد مملوك من مالكه. ولا ولد من والده ". ولو صح هذا لكان قويا، إلا أن الحديث من رواية عمر بن عيسى، وقد ذكر البخاري أنه منكر الحديث. وقال النخعي: يقتل الحر بالعبد مطلقا، أخذا بعموم قوله تعالى: " أن النفس بالنفس ". 7 - ألا يشارك القاتل غيره في القتل، ممن لا يجب عليه القصاص، فإن شاركه غيره ممن لا يجب عليه القصاص كأن اشترك في القتل، عامد ومخطئ، أو مكلف وسبع، أو مكلف وغير مكلف: مثل الصبي والمجنون، فإنه لاقصاص على واحد منهما، وعليهما الدية، لوجود الشبهة التي تندرئ بها الحدود، فإن القتل لا يتجزأ، ويمكن أن يكون حدوثه من فعل الذي لا قصاص عليه - كما يمكن أن يكون ممن يجب عليه القصاص - وهذه الشبهة تسقط القود. وإذا سقط وجب بدله، وهو الدية. وخالف في ذلك مالك والشافعي رضي الله عنهما. فقالا: على المكلف القصاص، وعلى غير المكلف نصف الدية. ومالك يجعلها على العاقلة، والشافعية يجعلونها في ماله. قتل الغيلة: وقتل الغيلة عند مالك أن يخدع الانسان غيره، فيدخل بيته ونحوه، فيقتل أو يأخذ المال. قال مالك: " الامر عندنا أن يقتل به، وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان ". وقال غيره من الفقهاء: لافرق بين قتل الغيلة وغيره، فهما سواء في القصاص والعفو، وأمرهما راجع إلى ولي الدم. وإذا قتلته جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 من شاء وهو مروي عن ابن عباس، وبه يقول سعيد بن المسيب، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، وقتادة. وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. " فقد قتلت امرأة هي وخليلها ابن زوجها فكتب يعلى بن أمية إلى عمر ابن الخطاب - وكان يعلى عاملا له - يسأله رأيه في هذه القضية؟ فتوقف رضي الله عنه في القضية، وكان أن قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " يا أمير المؤمنين: أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا، وهذا عضوا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم. قال: وذلك ". وكان أن كتب أمير المؤمنين إلى يعلى بن أمية عامله: " أن اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل ضنعاء كلهم لقتلتهم ". وذهب الشافعي إلى أن لولي المقتول أن يقتل الجميع به، وأن يقتل أيهم أراد، ويأخذ من الآخرين حصتهم من الدية. فإن كانوا اثنين وأقاد من واحد، فله أخذ نصف الدية من الثاني. وإن كانوا ثلاثة، فأقاد من اثنين، فله من الآخر ثلث الدية ". الجماعة تقتل بالواحد : إذا اجتمع جماعة على قتل واحد فإنهم يقتلون به جميعا، سواء أكانت الجماعة كثيرة أم قليلة، ولو لم يباشر القتل كل واحد منهم، لما رواه مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب، قتل نفر (1) برجل واحد، قتلوه قتل غيلة (2) . وقال: " لو تمالا (3) عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ". واشترطت الشافعية والحنابلة أن يكون فعل كل واحد من المشتركين في القتل بحيث لو انفرد كان قاتلا، فإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص.   (1) نفرا: قيل عددهم خمسة، وقيل سبعة. (2) قتل الغيلة: هو أن يخدعه حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه ثم يقتله. (3) تمالؤوا: اجتمعوا وتعاونوا، وتطلق الجماعة على اثنين فأكثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وقال مالك: " الامر عندنا: أنه يقتل في العمد الرجال الاحرار بالرجل الحر الواحد، والنساء بالمرأة كذلك، والعبيد بالعبد كذلك أيضا. " وفي المسوى قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد، يقتلون به قصاصا. وقد رأى هؤلاء الفقهاء أن ذلك هو المصلحة، لان القصاص شرع لحياة الانفس، فلو لم تقتل الجماعة بالواحد، لكان كل من أراد أن يقتل غيره استعان بشركاء له حتى لا يقاد منه. وبذلك تبطل الحكمة من شرعية القصاص. وذهب ابن الزبير، والزهري، وداود، وأهل الظاهر إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لان الله تعالى يقول: " أن النفس بالنفس ". إذا أمسك رجل رجلا وقتله آخر: وإذا أمسك رجل رجلا فقتله رجل آخر، وكان القاتل لا يمكنه قتله إلا بالامساك، وكان المقتول لا يقدر على الهرب بعد الامساك: فإنهما يقتلان، لانهما شريكان. وهذا مذهب الليث، ومالك، والنخعي. وخالف في ذلك الشافعية والاحناف. فقالوا: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت جزاء إمساكه للمقتول. لما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك ". وصححه ابن القطان. وقال الحافظ بن حجر: ورجاله ثقات. وأخرج الشافعي عن علي أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر. قال: " يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت ". ثبوت القصاص : يثبت القصاص بما يأتي: (أولا) بالاقرار، لان الاقرار كما يقولون: " سيد الادلة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 وعن وائل بن حجر. قال: " إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة، فقال يا رسول الله: هذا قتل أخي. فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ فقال: نعم قتلته. إلى آخر الحديث. رواه مسلم والنسائي. (ثانيا) يثبت بشهادة رجلين عدلين. فعن رافع بن خديج قال: " أصبح رجل من الانصار بخيبر مقتولا. فانطلق أولياؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له. فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ إلى آخر الحديث. رواه أبو داود. قال ابن قدامة في المغني: " ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين، ولا شاهد ويمين الطالب، لا نعلم في هذا - بين أهل العلم - خلافا. وذلك، لان القصاص إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين، كالحدود، وسواء كان القصاص يجب على مسلم، أو كافر، أو حر، أو عبد لان العقوبة يحتاط لدرئها. استيفاء القصاص (1) : يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط: 1 - أن يكون المستحق له عاقلا، بالغا. فإن كان مستحقه صبيا أو مجنونا لم ينب عنهما أحد في استيفائه: لا أب، ولا وصي، ولا حاكم، وإنما يحبس الجاني حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، فقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. 2 - أن يتفق أولياء الدم جميعا على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به، فإن كان بعضهم غائبا، أو صغيرا، أو مجنونا، وجب انتظار الغائب حتى   (1) أي توقيع العقوبة على الجاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 يرجع، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، قبل أن يختار، لان من كان له الخيار في أمر لم يجز الافتيات عليه لان في ذلك إبطال خياره. وقال أبو حنيفة: للكبار استيفاء حقوقهم في القود، ولا ينتظر لهم بلوغ الصغار. فإن عفا أحد الاولياء سقط القصاص لانه لا يتجزأ. 3 - أن لا يتعدى الجاني إلى غيره، فإذا كان القصاص قد وجب على امرأة حامل، لا تقتل حتى تضع حملها وتسقيه اللبأ. لان قتلها يتعدى إلى الجنين، وقتلها قبل سقيه اللبأ يضربه، ثم بعد سقيه اللبأ إن وجد من يرضعه أعطي له الولد، واقتص منها، لان غيرها يقوم على حضانته، وإن لم يوجد من يرضعه ويقوم على حضانته، تركت حتى تفطمه مدة حولين. روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها. وإذا زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها. " وكذلك لايقتص من الحامل في الجناية على الاعضاء حتى تضع، وإن لم تسقه اللبأ (1) . متى يكون القصاص؟ يكون القصاص متى حضر أولياء الدم، وكانوا بالغين، وطالبوا به، فإنه ينفذ فورا متى ثبت بأي وجه من وجوه الاثبات، إلا أن يكون القاتل امرأة حاملا، فإنها تؤخر حتى تضع حملها، كما سبق. بم يكون القصاص : الاصل في القصاص أن يقتل القاتل بالطريقة التي قتل بها، لان ذلك مقتضى المماثلة والمساواة، إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح، ولان الله تعالى يقول:   (1) والحد مثل القصاص، إذا كان حدها الرجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (1) . ويقول: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (2) . وأخرج البيهقي من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من غرض غرضنا له (3) ، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه ". وقد رضخ الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي بحجر كما رضخ هو رأس المرأة بحجر. وقد قيد العلماء هذا بما إذا كان السبب الذي قتل به يجوز فعله، فإذا كان لا يجوز فعله - كمن قتل بالسحر - فإنه لا يقتل به، لانه محرم. قال بعض الشافعية: إذا قتل بإبجار الخمر، فإنه يؤجر بالخل. وقيل يسقط اعتبار المماثلة. ورأى الاحناف والهادوية: أن القصاص لا يكون إلا بالسيف. لما أخرجه البزار وابن عدي عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لاقود إلا بالسيف ". ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وقال: " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ". وأجيب على حديث أبي بكرة بأن طرقه كلها ضعيفة. وأما النهي عن المثلة فهو مخصص بقوله تعالى: " وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ". وقوله: " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". هل يقتل القاتل في الحرم ؟ اتفق العلماء على أن من قتل في الحرم فإنه قتله فيه. فإذا كان قد   (1) سورة البقرة: الآية 194. (2) سورة النحل: الآية 126. (3) أي اتخذ المقتول عرضا للسهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 قتل خارجه ثم لجأ إليه، أو وجب عليه القتل بسبب من الاسباب، كالردة، ثم لجأ إلى الحرم..فقال مالك: " يقتل فيه ". وقال أحمد وأبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، ولكن يضيق عليه، فلا يباع له ولا يشترى منه، حتى يخرج منه، فيقتل خارجه. سقوط القصاص: ويسقط القصاص بعد وجوبه بأحد الاسباب الآتية: 1 - عفو جميع الاولياء أو أحدهم، بشرط أن يكون العافي عاقلا مميزا، لانه من التصرفات المحضة التي لا يملكها الصبي ولا المجنون (1) . 2 - موت الجاني أو فوات الطرف الذي جنى به، فإذا مات من عليه القصاص، أو فقد العضو الذي جنى به سقط القصاص، لتعذر استيفائه. وإذا سقط القصاص وجبت الدية في تركته للاولياء عند الحنابلة وفي قول للشافعي. وقال مالك والاحناف: لا تجب الدية، لان حقوقهم كانت في الرقبة، وقد فاتت، فلاسبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم. وحجة الاولين: أن حقوقهم معلقة في الرقبة، أو في الذمة، وهم مخيرون بينهما، فمتى فات أحدهما وجب الآخر. 3 - إذا تم الصلح بين الجاني والمجني عليه أو أوليائه. القصاص من حق الحاكم: إن المطالبة بالقصاص حق لولي الدم كما تقدم، وتمكين ولي الدم من الاستيفاء حق للحاكم. قال القرطبي: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر، فرض عليهم النهوض بالقصاص، وإقامة الحدود، وغير ذلك، لان الله سبحانه طالب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على   (1) إذا عفا الاولياء فليس للحاكم أن يتدخل بالمنع عن العفو. كما أنه ليس له أن يستقل به إذا طلبوا القصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وعلة ذلك ما ذكره الصاوي - في حاشيته على الجلالين - قال: " فحيث ثبت القتل عمدا عدوانا، وجب على الحاكم الشرعي أن يمكن ولي المقتول من القاتل، فيفعل فيه الحاكم ما يختاره الولي من: القتل، أو العفو، أو الدية، ولا يجوز للولي التسلط على القاتل من غير إذن الحاكم (1) ، لان فيه فسادا وتخريبا ". فإذا قتله قبل إذن الحاكم عزر. وعلى الحاكم أن يتفقد آلة القتل التي يقتص بها مخافة الزيادة في التعذيب وأن يوكل التنفيذ إلى من يحسنه. وأجرة التنفيذ على بيت المال. الافتيات على ولي الدم: قال ابن قدامة: " وإذا قتل القاتل غير ولي الدم فعلى قاتله القصاص، ولورثته الاول الدية ". وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه. وقال الحسن، ومالك: يقتل قاتله، ويبطل دم الاول، لانه فات محله. وروى عن قتادة، وأبي هاشم أنه لاقود على الثاني، لانه مباح الدم، فلا يجب قصاص بقتله. وحجة الجمهور في وجوب القصاص على القاتل، أنه محل لم يتحتم قتله، ولم يبح قتله لغير ولي الدم، فوجب بقتله القصاص. القصاص بين الابقاء والالغاء: لقد ثار الجدل فعلا حول عقوبة الاعدام، وتعرضت لها أقلام الكتاب، من الفلاسفة، ورجال القانون. أمثال: " روسو، وبنتام، وبكاريا " وغيرهم.   (1) فإذالم يكن للقتيل وارث فالامر فيه إلى الحاكم يفعل ما فيه مصلحة المسلمين، فإن شاء اقتص، وإن شاء عفا على مال، وليس له أن يعفو على غير مال، لان ذلك ليس له، وإنما هو ملك للمسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ومنهم من أيدها، ومنهم من عارضها ونادى بإلغائها. واستند القائلون بإلغائها إلى الحجج الآتية: (أولا) أن العقاب حق تملكه الدولة باسم المجتمع الذي تذود عنه، وتقتضيه ضرورة المحافظة عليه وحمايته. والمجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى يمكنه أن يحكم بمصادرتها. (ثانيا) ولان الظروف وسوء الحظ قد يحيطان ببرئ، فيقضى خطأ بإعدامه، وعند ذلك لا يمكن إصلاح هذا الخطأ، إذ لاسبيل إلى ارجاع حياة المحكوم عليه إليه. (ثالثا) ولان هذه العقوبة قاسية وغير عادلة. (رابعا) ولانها أخيرا غير لازمة، فلم يقم دليل على أن بقاءها يقلل من الجرائم التي تستوجب الحكم بها، ورد القائلون ببقاء عقوبة الاعدام على هذه الحجج: فقالوا عن الحجة الاولى: " وهي أن المجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى يصادر حياته " بأن المجتمع أيضا لم يهب الناس الحرية، ومع ذلك فإنه يحكم بمصادرتها في العقوبات الاخرى المقيدة للحرية. والاخذ بالحجة على إطلاقها يستتبع حتما القول بعدم مشروعية كل عقوبة مقيدة للحرية. على أن الامر ليس وقفا على التكفير عن خطأ الجاني، ولكنه أيضا للدفاع عن حق المجتمع في البقاء، ببتر كل عضو يهدد كيانه ونظمه، الامر الذي يتحتم معه القول بأن عقوبة الاعدام ضرورة تقتضيها عصمة النفس، والمحافظة على كيان المجتمع. وقالوا عن الحجة الثانية، وهي: " أن العقوبة تحدث ضررا جسيما لا سبيل لاصلاحه ولا إيقافه - إذا حكم القضاء بها ظلما - " بأن احتمال الخطأ موجود في العقوبات الاخرى، ولا سبيل إلى تدارك ما تم تنفيذه خطأ. على أن حالات الاعدام خطأ تكاد تكون منعدمة، إذ أن القضاة يتحرجون عادة من الحكم بتلك العقوبة، ما لم تكن أدلة الاتهام صارخة. وردوا على القول ب " أنها غير عادلة " بأن الجزاء من جنس العمل. وأما القول بأنها غير لازمة، فمردود عليه بأن وظيفة العقوبة - في الرأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الراجح في علم العقاب - وظيفة نفعية: أي من مقتضاها حماية المجتمع من شرور الجريمة. وهذا يقتضي أن تكون العقوبة متناسبة مع درجة جسامة الجريمة، ذلك أن الجريمة تحقق هوى في نفس المجرم، يقابله خوفه من العقاب، وكلما كان العقاب متناسبا مع الجريمة أحجم الجاني عن الاقدام عليها، لانه سيوازن بين الامرين " بين الجريمة التي سيقدم على ارتكابها، وبين العقوبة المقررة لها، فيدفعه الخوف من العقاب إلى الاحجام عن الجريمة متى كانت العقوبة رادعة. وفي ظل هذين الرأيين أقرت غالبية القوانين عقوبة الاعدام، ومنها قانون العقوبات المصري، في حالات معينة، واستجابت بعض الدول لآراء من ثاروا عليها فألغتها من قوانينها. القصاص فيما دون النفس : وكما يثبت القصاص في النفس، فإنه يثبت كذلك فيما دونها. وهو نوعان: 1 - الاطراف. 2 - الجروح. وقد أخبر القرآن الكريم عن نظام التوراة في القصاص في ذلك كله. فقال: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " (1) أي أن الله كتب على اليهود في التوراة أن النفس تقتل بالنفس إذا قتلتها، " والعين تفقأ بالعين من غير فرق بين عين صغيرة وعين كبيرة " ولا بين عين شيخ وعين طفل. والانف يجدع بالانف. والاذن تقطع بالاذن.   (1) سورة المائدة: الآية 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 والسن تقلع بالسن. ولو كانت سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر. والجروح يقتص فيها متى أمكن ذلك. فمن تصدق بالقصاص، بأن مكن من نفسه، فهو كفارة لما ارتكبه. وهذا الحكم، وإن كان كتب على من قبلنا، فهو شرع لنا، لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم له، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية، ففرضوا عليهم الارش، فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر، فقال: يارسول الله تكسر ثنية الربيع، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس " كتاب الله القصاص ". قال: فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره ". وهذا كله العمد. أما الخطأ ففيه الدية. شروط القصاص فيما دون النفس : ويشترط في القصاص فيما دون النفس الشروط الآتية: 1 - العقل. 2 - البلوغ (1) . 3 - تعمد الجناية. 4 - وأن يكون دم المجني عليه مكافئا لدم الجاني. وإنما يؤثر في التكافؤ: العبودية، والكفر، فلا يقتص من حر جرح عبدا أو قطع طرفه. ولا يقتص من مسلم جرح ذميا أو قطع طرفه كذلك، لعدم تكافؤ دمهما، لنقصان دم العبد عن دم الحر، ودم الذمي عن دم المسلم. وإذا لم يجب القصاص فإنه يجب بدله وهو الدية. وإذا كان الجرح من العبد أو الذمي وقع على حر أو مسلم اقتص منهما. ويرى الاحناف أنه يجب القصاص في الاطراف بين المسلم والكافر. وقالوا أيضا: لاقصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس.   (1) البلوغ يكون بالاحتلام أو السن، وأقصى السن 18 سنة وأقله 15 سنة، لحديث ابن عمر، واختلف في الاثبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 القصاص في الأطراف: وضابط ما فيه القصاص من الاطراف، وما لاقصاص فيه: أن كل طرف له مفصل معلوم، كالمرفق، والكوع، ففيه القصاص، وما لا مفصل له فلا قصاص فيه، لانه يمكن المماثلة في الاول دون الثاني، فيقتص ممن قطع الاصبع من أصلها، أو قطع اليد من الكوع أو المرفق، أو قطع الرجل من المفصل، أو فقأ العين، أو جذع الانف، أو قطع الاذن، أو قلع السن، أو جب الذكر، أو قطع الانثيين. شروط القصاص في الاطراف: ويشترط في القصاص في الاطراف ثلاثة شروط: 1 - الامن من الحيف بأن يكون القطع من مفصل، أو يكون له حد ينتهي إليه، كما تقدمت أمثلة ذلك، فلا قصاص في كسر عظم غير السن، ولا جائفة، ولا بعض الساعد، لانه لا يؤمن الحيف في القصاص في هذه الاشياء. 2 - المماثلة في الاسم والموضع، فلا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر ببنصر، ولاعكس، لعدم المساواة في الاسم، ولا يؤخذ أصلي بزائد - ولو تراضيا - لعدم المساواة في الموضع والمنفعة. ويؤخذ الزائد بمثله موضعا وخلقة. 3 - استواء طرفي الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال، فلا يؤخذ عضو صحيح بعضو أشل، ولايد صحيحة بيد ناقصة الاصابع، ويجوز العكس، فتؤخذ اليد الشلاء باليد الصحيحة. القصاص من جراح العمد: وأما جراح العمد، فلا يجب فيها القصاص إلا إذا كان ذلك ممكنا، بحيث يكون مساويا لجراح المجني عليه من غير زيادة ولا نقص. فإذا كانت المماثلة والمساواة لا يتحققان إلا بمجاوزة القدر، أو بمخاطرة، أو إضرار، فإنه لا يجب القصاص، وتجب الدية، لان الرسول صلى الله عليه وسلم رفع القود في المأمومة، والمنقلة، والجائفة، وهذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف: مثل كسر عظم الرقبة، والصلب، والفخذ، وما أشبه ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 والشجاج: وهي الجراحات التي تقع بالرأس والوجه لاقصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا. وسيأتي الكلام على بقية الشجاج في باب الديات. ولا قصاص في اللسان، ولا في كسر عظم، إلا في السن، لانه لا يمكن الاستيفاء من غير ظلم. ومن جرح رجلا " جائفة " فبرئ منها، أو قطع يده من نصف الساعد، فلا قصاص عليه، وليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة لنصف الساعد، ولو كسر عظم رجل سوى السن، كضلع، أو قطع يدا شلاء أو قدما لا أصابع فيها، أو لسانا أخرس، أو قلع عينا عمياء، أو قطع إصبعا زائدة، ففي ذلك كله حكومة عدل. اشتراك الجماعة في القطع أو الجرح: ذهبت الحنابلة إلى أنه إذا اشترك جماعة في قطع عضو، أو جرح يوجب القصاص، فإن لم نتميز أفعالهم، فعليهم جميعا القصاص، لما روى عن علي كرم الله وجهه: انه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة، فقطع يده. ثم جاء آخر، فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الاول، فرد شهادتهما على الثاني، وغر مهما دية الاول، وقال: " لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما " وإن تفرقت أفعالهم، أو قطع كل واحد من جانب، فلا قود عليهم. وقال مالك والشافعي: يقتص منهم متى أمكن ذلك، فتقطع أعضاؤهم، ويقتص منهم بالجراحة. كما إذا اشترك جماعة في قتل نفس، فإنهم يقتلون بها. وذهب الاحناف والظاهرية: إلى أنه لا تقطع يدان في يد، فإذا قطع رجلان يد رجل، فلا قصاص على واحد منهما، وعليهما نصف الدية. القصاص في اللطمة والضربة والسب: يجوز للانسان أن يقتص ممن لطمه، أو لكزه، أو ضربه، أو سبه، لقول الله سبحانه: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 عليكم، واتقوا الله ". (1) وقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ". (2) وعلى هذا مضت السنة بالقصاص في ذلك. ويشترط أن يكون، اللطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السب، الصادر من المجني عليه مساويا للطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السلب الصادر من الجاني، لان ذلك هو مقتضى العدل الذي من أجله شرع القصاص. كما يشترط في القصاص في اللطمة ألا تقع في العين أو في موضع يخشى منه التلف. ويشترط في القصاص في السب خاصة، ألا يكون محرم الجنس، فليس له أن يكفر من كفره، أو يكذب على من كذب عليه، أو يلعن أب من لعن أباه، أو يسب أم من سب أمه، لان تكفير المسلم أو الكذب عليه مما هو محرم في الاسلام ابتداء، ولان أباه لم يلعنه حتى يلعنه. وكذلك أمه لم تشتمه فيسبها، له أن يلعن من لعنه، ويقبح من قبحه، ويقول الكلمة النابية، ويردها على وقائلها قصاصا. قال القرطبي: " فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه، ولا ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية. فلو قال لك مثلا: يا كافر. جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب، يا شاهد زور. ولو قلت له: يا زان كنت كاذبا، وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني - دون عذر - فقل: يا ظالم. يا آكل أموال الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " (3) .   (1) سورة البقرة: الآية 194. (2) سورة الشورى: الآية 40. (3) اللي: المطل. والواجد: القادر على قضاء الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 " أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه " (1) . انتهى. والقصاص في اللطمة، والضرب، والسب، ثابت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين. ذكر البخاري عن أبي بكر، وعلي، وابن الزبير، وسويد بن مفرن أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها. قال ابن المنذر: " وما أصيب به من سوط، أو عصا، أو حجر، فكان دون النفس، فهو عمد، وفيه القود ". وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث. وفي البخاري: " وأقاد عمر رضي الله عنه من ضربة بالدرة. وأقاد علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش ". وخالف في ذلك كثير من فقهاء الامصار، فقالوا: بعدم مشروعية القصاص في شئ من هذا، لان المساواة متعذرة في ذلك غالبا. وإذا كان لا يجب فيها القصاص فالواجب فيها التعزير. وقد رجح شيخ الاسلام ابن تيمية الرأي الاول، فقال: " وأما قول القائل: إن المماثلة في ذلك متعذرة، فيقال له: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص، وإما تعزير. فإذا جوز أن يكون تعزيرا غير مضبوط الجنس والقدر، فلان يعاقب بما هو أقرب إلى الضبط من ذلك أولى وأحرى. والعدل في القصاص معتبر بحسب الامكان. ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب مثل ضربته أو قريبا منها، كان هذا أقرب إلى العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط. فالذي يمنع القصاص في ذلك - خوفا من الظلم - يبيح ما هو أعظم ظلما مما فر منه، فيعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل " انتهى. القصاص في إتلاف المال: إذا أتلف إنسان مال غيره، كن يقطع شجره، أو يفسد زرعه، أو   (1) قرطبي، ج 2، ص 360. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 يهدم داره، أو يحرق ثوبه، فهل له أن يقتص منه فيفعل به مثل ما فعل؟ للعلماء في ذلك رأيان: 1 - رأي يرى أن القصاص في ذلك غير مشروع، لانه إفساد من جهة، ولان العقار والثياب غير متماثلة من جهة أخرى. 2 - ورأي يرى شرعية ذلك، لان القصاص في الانفس والاطراف جائز، ولاشك أن الانفس والاطراف أعظم قدرا من الاموال. وإذا كان القصاص جائزا فيها، فالاموال - وهي دونها - من باب أولى. ولهذا جاز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمر. وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة. ورجح ابن القم هذا الرأي، فقال: " إتلاف المال، فإن كان مما له حرمة، كالحيوان والعبيد، فليس له أن يتلف ماله كما أتلف ماله، وإن لم تكن له حرمة، كالثوب يشقه، والاناء يكسره، فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظير ما أتلفه بل له القيمة أو المثل. والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه، كما فعله الجاني به، فيشق ثوبه كما شق ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه، إذا كانا متساويين، وهذا من العدل، وليس مع من منعه نص، ولاقياس، ولا إجماع، فإن هذا ليس بحرام لحق الله، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والاطراف، فإذا مكنه الشارع أن يتلف طرفه بطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى. وإن حكمة القصاص من التشفي، ودرك الغيظ، لا تحصل إلا بذلك. ولانه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه، ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك عليه، لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك، ويبقى المجني عليه بغبنه وغيظه، فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه، ودرك ثأره، وبرد قلبه، وإذاقة الجاني من الاذى ما ذاقه هو. فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة، وقياسها معا يأبى ذلك. وقوله تعالى: " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ". وقوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ". يقتضي جوازا ذلك. وقد صرح الفقهاء بجواز إحراق زرع الكفار، وقطع أشجارهم، إذا كانوا يفعلون ذلك بنا. وهذا عين المسألة. وقد أقر الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود، لما فيه من خزيهم، وهذا يدل على أنه سبحانه يحب خزي الجاني الظالم، ويشرعه. وإذا جاز تحريق متاع الغال، لكونه تعدى على المسلمين في خيانتهم في شئ من الغنيمة، فلان يحرق ماله إذا حرق مال المسلم المعصوم، أولى وأحرى. وإذا شرعت العقوبة المالية في حق الله، الذي مسامحته به أكثر من استيفائه، فلان تشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى. ولان الله سبحانه، شرع القصاص زجرا للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل وأصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس وللاطراف وإلا فمن كان في نفسه من الآخر - من قتله أو قطع طرفه - قتله أو قطع طرفه وأعطى ديته والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك. وهذا بعينه موجود في العدوان على المال. فإن قيل: هذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه. قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه، فهذا هو محض القياس، وبه قال الاحمدان: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية. قال في رواية موسى بن سعيد: " وصاحب الشئ يخير: إن شاء شق الثوب، وإن شاء أخذ مثله " انتهى. ضمان المثل: اتفق العلماء على أن من استهلك، أو أفسد شيئا من المطعوم، أو المشروب أو الموزون، فإنه يضمن مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 قالت عائشة رضي الله عنها: " ما رأيت صانع طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فبعثت به، فأخذني أفكل (1) ، فكسرت الاناء، فقلت: يا رسول الله. ما كفارة ما صنعت؟ فقال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام ". رواه أبو داود. واختلفوا فيما إذا كان ما استهلك، أو أفسد، مما لا يكال ولا يوزن. فذهبت الاحناف والشافعية: إلى أن على من استهلكه أو أفسده، ضمان المثل، ولا يعدل عنه إلى القيمة إلا عند عدم المثل لقول الله تعالى: " فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". وهذا عام في الاشياء جميعها، ويؤيده حديث عائشة المتقدم. وذهبت المالكية إلى أنه يضمن القيمة، لا المثل (2) الاعتداء بالجرح أو أخذ المال إذا تعدى إنسان على آخر بالجرح، أو بأخذ المال، فهل للمعتدى عليه، أن يأخذ حقه بنفسه إذا ظفر به؟ للعلماء في هذه المسألة أكثر من رأي، وقد رجح القرطبي الجواز فقال: " والصحيح جواز ذلك، كيفما توصل إلى أخذ حقه، ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ". وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني،   (1) أفكل، على وزن أفعل: وهو الرعدة، أي أنها ارتعدت من شدة الغيرة. (2) قرطبي، ج 2، ص 259. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف ". فأباح لها الاخذ، وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " قاطع في موضع الخلاف. قال: واختلفوا إذا ظفر بمال له من غير جنس ماله. فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان: أصحهما الاخذ قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني: لا يأخذ، لانه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ماله عليه، ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما بيناه بالدليل " انتهى. الاقتصاص من الحاكم إن الحاكم فرد من أفراد الامة، لا يتميز عن غيره إلا كما يتميزا الوصي أو الوكيل، ويحري عليه ما يجري على سائر الافراد. فإذا تعدى على فرد من أفراد الامة اقتص منه، لانه لا فرق بينه وبين غيره في أحكام الله، فأحكام الله عامة، تتناول المسلمين جميعا، فعن أبي نضرة عن أبي فراس، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أيها الناس: " إني والله ما أرسل عمالا ليضربوا أبشاركم، ولاليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شئ سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لاقصنه منه. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: " لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ " قال: إي والذي نفسي بيده. إذن لاقصنه منه، وكيف لا أقصه منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه " رواه أبو داود، والنساتي. وروى النسائي وأبو داود من حديث أبي سعيد بن جبير فقال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا بيننا، إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله بعرجون كان معه. فصاح الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعالى فاستقد، فقال الرجل: بل عفوت يا رسول الله " وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه: أن عاملا قطع يده: " لئن كنت صادقا لاقيدنك منه ". وقال الشافعي في رواية الربيع: وروى من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي " هل يقاد الزوج إذا أصاب امرأته بشئ: قال ابن شهاب: مضت السنة أن الرجل إذا أصاب امرأته بجرح، أن عليه عقل ذلك الجرح، ولا يقاد منه. وفسر ذلك مالك، فقال: إذا عمد الرجل إلى امرأته ففقأ عينها، أو كسر يدها، أو قطع أصبعها، أو أشباه ذلك، متعمدا لذلك، فإنها تقاد منه. وأما الرجل: يضرب امرأته بالحبل أو السوط، فيصيبها من ضربه ما لم يرده ولم يتعمده، فإنه يعقل ما أصاب منها على هذا الوجه، ولا تقاد منه. قال في المسوى: أهل العلم على هذا التأويل. لا قصاص من الجراحات حتى يتم البرء: لايقتص من الجاني في الجراحات، ولا تطلب منه دية حتى يتم برء المجني عليه من الجراحة التي أصيب بها، وتؤمن السراية، فإذا سرت الجناية إلى أجزاء أخرى من البدن ضمنها الجاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 ولا يقاد في البرد الشديد، ولا الحر الشديد، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه. فإن اقتص منه في حر أو برد، أو بآلة كالة، أو مسمومة، لزمت بقية الدية إن حدث التلف. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني. فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال أقدني، فأقاده. ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله: عرجت. فقال صلى الله عليه وسلم: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك. " ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. رواه أحمد، والدارقطني. وفهم الشافعي من هذا أن الانتظار مندوب إليه، لان الرسول صلى الله عليه وسلم كان متمكنا من الاقتصاص قبل الاندمال. وذهب غيره من الائمة: إلى أن الانتظار واجب، وإذنه بالاقتصاص كان قبل علمه بما يئول إليه من المفسدة. وإذا قطع الجاني إصبعا عمدا، فعفا المجروح عنه، ثم سرت الجناية إلى الكف أو النفس، فالسراية هدر إن كان العفو على غير شئ، وإن كان العفو على مال، فللمجروح دية ما سرت إليه، بأن يسقط من دية ما سرت إليه الجناية أرش ما عفا عنه، ويجب الباقي. موت المقتص منه : إذا مات المقتص منه بسبب الجرح الذي أصابه من أجل القصاص فقد اختلفت فيه أنظار العلماء. فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا شئ على المقتص، لعدم التعدي، ولان السارق إذا مات من قطع يده، فإنه لاشئ على الذي قطع يده بالاجماع. وهذا مثل ذلك. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: " إذا مات وجب على عائلة المقتص الدية، لانه قتل خطأ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 الدية : تعريفها: الدية هي المال الذي يجب بسبب الجناية، وتؤدى إلى المجني عليه، أو وليه. يقال: وديت القتيل: أي أعطيت ديته. وهي تنتظم ما فيه القصاص، وما لا قصاص فيه. وتسمى الدية، ب " العقل " وأصل ذلك: أن القاتل كان إذا قتل قتيلا، جمع الدية من الابل. فعقلها بفناء أولياء المقتول: أي شدها بعقالها ليسلمها إليهم. يقال: عقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته. وقد كان النظام الدية معمولا به عند العرب، فأبقاه الاسلام. وأصل ذلك قول الله سبحانه: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ. ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله، وكان الله عليما حكيما " (1) . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: " كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانماية دينار، أو ثمانية آلاف درهم. ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.   (1) سورة النساء: الآية 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 قال: فكان ذلك كذلك. حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبا فقال: ألا إن الابل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب (1) ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألفا. وعلى أهل البقر مائتي بقرة. وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة (2) . قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفعه من الدية. قال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولامن أهل الورق إلا قيمة الابل بالغة ما بلغت. والمرجح أنه لم يثبت بطريق لا شك فيه تقدير الرسول الدية بغير الابل، فيكون عمر قد زاد في أجناسها، وذلك لعلة جدت واستوجبت ذلك. حكمتها: والمقصود منها: الزجر، والردع، وحماية الانفس. ولهذا يجب أن تكون بحيث يقاسي من أدائها المكلفون بها، ويجدون منها حرجا وألما ومشقة، ولا يجدون هذا الالم ويشعرون به، إلا إذا كان مالا كثيرا ينقص من أموالهم، ويضيقون بأدائه ودفعه إلى المجني عليه أو ورثته، فهي جزاء يجمع بين العقوبة والتعويض. (3) قدرها: الدية فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدرها فجعل دية الرجل الحر المسلم: مائة من الابل على أهل الابل (4) ، ومائتي بقرة على أهل   (1) أهل الذهب هم: أهل الشام، وأهل مصر. وأهل الورق هم: أهل العراق، كما في الموطأ ج 2. (2) الحلل: إزار ورداء، أو قميص وسروال. ولا تكون حلة حتى تكون ثوبين. (3) تاريخ الفقه، صفحة 82. (4) قال أبو حنيفة، وأحمد رضي الله عنهما في إحدى الرو ايتين عنه: " دية العمد أرباع ": " خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقاق وخمس وعشرون جذاع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 البقر، وألفي شاة على أهل الشاء، وألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الفضة، ومائتي حلة على أهل الحلل. فأيها أحضر من تلزمه الدية لزم الولي قبولها، سواء أكان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أو لم يكن، لانه أتى بالاصل في الواجب عليه. القتل الذي تجب فيه: ومن المتفق عليه بين العلماء أنها تجب في القتل الخطأ وفي شبه العمد، وفي العمد الذي وقع ممن فقد شرطا من شروط التكليف، مثل الصغير (1) والمجنون. وفي العمد الذي تكون فيه حرمة المقتول ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر إذا قتل العبد. كما تجب على النائم الذي انقلب في نومه على آخر فقتله. وعلى من سقط على غيره فقتله، كما تجب على من حفر حفرة فتردى فيها شخص فمات، وعلى من قتل بسبب الزحام. وجاء في ذلك عن حنش بن المعتمر، عن علي رضي الله عنه قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنو زبية للاسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الاسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحهم كلهم، فقام أولياء الاول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي رضي الله عنه على تفئة ذلك، فقال: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي. إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتم به فهو القضاء، وإلا حجر بعضكم   وهي كذلك عندهما في شبه العمد. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية الاخرى عنه: هي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، في بطونها أولادها. " وأما دية الخطأ " فقد اتفقوا على أنها أخماس: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنات لبون، وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت مخاض. وجعل مالك، والشافعي، رضي الله عنهما، مكان ابن مخاض ابن لبون. (1) " الجناية إذا كانت من صغير أو مجنون تجب ديتها على العاقلة عند أبي حنيفة ومالك ". " وقال الشافعي رضي الله عنه: عمد الصغير في ماله ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 على بعض حتى تأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الذي يقضي بينكم فمن عدا ذلك فلا حق له. أجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر: ربع الدية. وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة. فللاول: ربع الدية، لانه هلك من فوق ثلاثة. وللثاني: ثلث الدية. وللثالث: نصف الدية. وللرابع: الدية كاملة. فأبوا إلا أن يمضوا، وأتو النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم ". رواه أحمد، ورواه بلفظ آخر نحو هذا، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا. وعن علي بن رباح اللخمي أن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر ابن الخطاب، وهو يقول: يا أيها الناس لقيت منكرا - هل يعقل الاعمى الصحيح المبصرا جرا معا كلاهما تكسرا وذلك أن أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر. فوقع الاعمى على البصير فمات البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى. رواه الدارقطني. وفي الحديث " أن رجلا أتى أهل أبيات فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم عمر رضي الله عنه الدية ". حكاه أحمد في رواية ابن منصور، وقال: أقول به. ومن صاح على آخر فجأة، فمات من صيحته تجب ديته. ولو غير صورتهوخوف صبيا فجن الصبي فإنه يضمن. الدية مغلظة ومخففة: والدية تكون مغلظة ومخففة، فالمخففة تجب في قتل الخطأ، والمغلظة تجب في قتل شبه العمد. وأمادية قتل العمد إذا عفا ولي الدم فإن الشافعي والحنابلة يرون أنه يجب في هذه الحال دية مغلظة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وأما أبو حنيفة فإنه يرى أنه لادية في العمد، وإنما الواجب فيه ما اصطلح الطرفان عليه. وما اصطلحوا عليه حال، غير مؤجل. والدية المغلظة مائة من الابل في بطون أربعين منها أولادها. لما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن قبة بن أوس، عن رجل من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا إن قتل خطأ العمد بالسوط، والعصا، والحجر فيه دية مغلظة: مائة من الابل، منها أربعون من ثنية (1) إلى بازل عامها، كلهن خلفة ". والتغليظ لا يعتبر إلا في الابل خاصة دون غيرها، لان الشارع ورد بذلك، وهذا سبيله التوقيف والسماع الذي لا مدخل للرأي فيه، لانه من بات المقدرات. تغليظ الدية في الشهر الحرام والبلد الحرام وفي الجناية على القريب: ويرى الشافعي وغيره: أن الدية تغلظ في النفس والجراح بالجناية في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وفي الجناية على ذي الرحم المحرم، لان الشرع عظم هذه الحرمات، فتعظم الدية بعظم الجناية. وروي عن عمر، والقاسم بن محمد، وابن شهاب: أن يزاد في الدية مثل ثلثها. وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أن الدية لا تغلظ لهذه الاسباب، لانه لا دليل على التغليظ، إذ أن الديات يتوقف فيها على الشارع، والتغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصول الشرع. على من تجب : الدية الواجبة على القاتل نوعان: 1 - نوع يجب على الجاني في ماله (2) ، وهو القتل العمد، إذا سقط القصاص.   (1) الثنية من الابل: مادخل في السنة السادسة من عمره، والبازل: الذي دخل في التاسعة واكتمل قوته، ويقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين. والخلفة: الحامل من النوق. (2) سواء كان رجلا أم امرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 يقول ابن عباس: " لاتحمل العاقلة عمدا، ولا اعترافا، ولا صلحا في عمد ". ولا مخالف له من الصحابة. وروى مالك عن ابن شهاب قال: " مضت السنة في العمد حين يعفوا أولياء المقتول أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة، إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس منها. وإنما لا تعقل العاقلة واحدا من هذه الثلاثة: أي لا يعقل العمد، ولا الاقرار، ولا الصلح، لان العمد يوجب العقوبة، فلا يستحق التخفيف عنه بتحمل العاقلة عنه شيئا من الدية، ولا تعقل الاقرار لان الدية وجبت بالاقرار بالقتل لا بالقتل نفسه، والاقرار حجة قاصرة: أي أنه حجة في حق المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة. ولا تعقل العاقلة الاقرار بالصلح، لان بدل الصلح لم يجب بالقتل، بل وجب بعقد الصلح، ولان الجاني يتحمل مسئولية جنايته، وبدل المتلف يجب على متلفه. 2 - ونوع يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إذا كانت له عاقلة بطريق التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل الخطأ (1) . والقاتل كأحد أفراد العاقلة، لانه هو القاتل، فلا معنى لاخراجه. وقال الشافعي: لا يحب على القاتل شئ من الدية لانه معذور. والعاقلة: مأخوذ من العقل، لانها تعقل الدماء: أي تمسكها من أن تسفك: يقال عقل البعير عقلا: أي شده بالعقال. ومنه العقل، لانه يمنع من التورط في القبائح. والعاقلة هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال عقلت القتيل: أي أعطيت ديته، وعقلت عن القاتل. أديت ما لزمه من الدية. والعاقلة هم عصبة الرجل: أي قرابته الذكور البالغون - من قبل الاب - (2) (1) وكذلك عمد الصغير والمجنون على عاقلتهما، وقال قتادة، وأبو ثور، وابن ابي دليلى، وابن شبرمة: دية شبه العمد في مال الجاني. وهذا القول ضعيف. (2) ويدخل فيهم الاب والابن عند مالك وأبي حنيفة وأظهر الروايتين عند أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 الموسرون العقلاء، ويدخل فيهم: الاعمى، والزمن، والهرم، إن كانوا أغنياء لا يدخل في العاقلة: أنثى، ولا فقير، ولا صغير، ولا مجنون، ولا مخالف لدين الجاني، لان مبنى هذا الامر على النصرة، وهؤلاء ليسوا من أهلها. وأصل وجوب الدية على العاقلة: ما ثبت من أن امرأتين من هزيل إقتتلتا، فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وكانت العاقلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة الجاني، وبقيت كذلك حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه، فلما نظم الجيوش، ودون الدواوين جعل العاقلة هم أهل الديوان، خلافا لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب السرخسي عن هذا الذي وضعه عمر. فقال: " إن قيل: كيف يظن بالصحابة الاجماع على خلاف ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: هذا اجتماع على وفاق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار النصرة، وكانت قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته. ثم لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين صارت القوة والنصرة للديوان، فقد كان المرء يقاتل قبيلته عن ديوانه " اه. وإذا كان الاحناف قد ارتضوا هذا، فإن المالكية والشافعية قد رفضوه، لانه لانسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من حق أحد أن يغير ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والدية التي تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين (1) باتفاق العلماء   (1) كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة، تأليفا للقلوب وإصلاحا لذات البين، فلما تمهد الاسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام. فإذا رأى الامام المصلحة في التعجيل كان له ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وأما التي تجب على القاتل في ماله، فإنها تكون حالة عند الشافعي رضي الله عنه، لان التأجيل للتخفيف عن العاقلة، فلا يلتحق به العمد المحض. ويرى الاحناف أنها مؤجلة في ثلاث سنين، مثل دية قتل الخطأ. وإيجاب دية قتل شبه العمد، والخطأ على العاقلة استثناء من القاعدة العامة في الاسلام. وهي: أن الانسان مسؤول عن نفسه ومحاسب على تصرفاته، لقول الله عزوجل: " لاتزر وازرة وزر أخرى ". ولقول الرسول الكريم: " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه ". رواه النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه. وإنما جعل الاسلام اشتراك العاقلة في تحمل الدية في هذه الحالة، من أجل مواساة الجاني، ومعاونته في جناية صدرت عنه من غير قصد منه. وكان ذلك إقرارا لنظام عربي، اقتضاه ما كان بين القبائل من التعاون والتآزر والتناصر. وفي ذلك حكمة بينة، وهي أن القبيلة إذا علمت أنها ستشارك في تحمل الدية، فإنها تعمل من جانبها على كف المنتسبين إليها عن ارتكاب الجرائم، وتوجههم إلى السلوك القويم الذي يجنبهم الوقوع في الخطأ. ويرى جمهور الفقهاء أن العاقلة لاتحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني (1) . ويرى مالك وأحمد رضي الله عنهما، أنه لا يجب على واحد من العصبة قدر معين من الدية، ويجتهد الحاكم في تحميل كل واحد منهم ما يسهل عليه، ويبدأ بالاقرب فالاقرب. أما الشافعي رضي الله عنه، فيرى أنه يجب على الغني دينار، وعلى الفقير نصف دينار. والدية عنده مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالاقرب من بني أبيه ثم بني جده، ثم من بني بني أبيه، قال: فإن لم يكن للقاتل عصبة نسبا   (1) وقال الشافعي رضي الله عنه: عقل الخطأ على العاقلة، قلت الجناية أو كثرت، لان من غرم الاكثر غرم الاقل، كما أن عقل العمد في مال الجاني: قل أو كثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 ولا ولاء، فالدية في بيت المال. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا ولي من لا ولي له ". وكذلك إذا كان فقيرا وعاقلته فقيرة، لا تستطيع تحمل الدية، فإن بيت المال هو الذي يتحملها. وإذا قتل المسلمون رجلا في المعركة - ظنا أنه كافر - ثم تبين أنه مسلم فإن ديته في بيت المال. فقد روى الشافعي رضي الله عنه، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بدية اليمان - والد حذيفة - وكان قد قتله المسلمون يوم أحد، ولا يعرفونه، وكذلك من مات من الزحام تجب ديته في بيت المال، لانه مسلم مات بفعل قوم مسلمين، فتجب ديته في بيت المال. روى مسدد: أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي كرم الله وجهه، من بيت مال المسلمين. والمفهوم من كلام الاحناف أن الدية في هذه الازمان في مال الجاني، ففي كتاب " الدرر المختار ": " إن التناصر أصل هذا الباب، فمتى وجد وجدت العاقلة، وإلا فلا ". وحيث لاقبيلة، ولا تناصر، فالدية في بيت المال فإن عدم بيت المال أو لم يكن منتظما فالدية في مال الجاني. وقال ابن تيمية: " وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء ". دية الاعضاء يوجد في الانسان من الاعضاء ما منه عضو واحد: كالانف، واللسان، والذكر. ويوجد فيه ما منه عضوان: كالعينين، والاذنين، والشفتين، واللحيين واليدين، والرجلين، والخصيتين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل (1) ، والاليتين، وشفري المرأة.   (1) مثنى ثندوة، وهما للرجل كالثديين للمرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ويوجد ما هو أكثر من ذلك. فإذا أتلف إنسان من إنسان آخر هذا العضو الواحد أو هذين العضوين، وجبت الدية كاملة، وإذا أتلف أحد العضوين وجب نصف الدية. فتجب الدية كاملة في الانف، لان منفعته في تجميع الروائح في قصبته، وارتفاعها إلى الدماغ، وذلك يفوت بقطع المارن. وكذلك تجب الدية في قطع اللسان، لفوات النطق، الذي يتميز به الآدمي عن الحيوان الاعجم. والنطق منفعة مقصودة يقوت بفواتها مصالح الانسان، من إفهام غيره أغراضه، والابانة عن مقاصده. وكذلك تجب الدية بقطع بعضه، إذا عجز عن الكلام جملة لفوات المنفعة نفسها التي تفوت بقطعه كله. فإذا عجز عن النطق ببعض الحروف، وقدر على بعض منها، فإن الدية تقسم على عدد الحروف. وقد روي عن علي، كرم الله وجهه: أنه قسم الدية على الحروف، فما قدر عليه من الحروف أسقط بحسابه من الدية. وما لم يقدر عليه ألزمه بحسابه منها. وتجب الدية في قطع الذكر، ولو كان المقطوع منه الحشفة فقط، لان فيه منفعة الوطء، واستمساك البول. وكذلك تجب الدية إذا ضرب الصلب فعجز عن المشي، وتجب الدية كاملة في العينين، وفي العين الواحدة نصفها، وفي الجفنين كما لها، وفي جفني إحدى العينين نصفها وفي واحدة منها ربعها، وفي الاذنين كمال الدية، وفي الواحدة نصفها، وفي الشفتين كمال الدية، وفي الواحدة نصفها، يستوي فيهما العليا والسفلى. وفي اليدين كمال الدية، وفي اليد الواحدة نصفها، وفي الرجلين كمال الدية، وفي الرجل الواحدة نصفها، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة، وفي كل أصبع عشر من الابل، والاصابع سواء، لا فرق بين خنصر وإبهام، وفي كل أنملة من أصابع اليدين أو الرجلين ثلث عشر الدية، في كل أصبع ثلاث مفاصل، والابهام فيه مفصلان، وفي كل مفصل منهما نصف عشر الدية، وفي الخصيتين كمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الدية، وفي إحداهما نصفها، ومثل ذلك في الاليتين، وشفري المرأة وثدييها وثندوني الرجل ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصفها. وفي الاسنان كمال الدية، وفي كل سن خمس من الابل، والاسنان سواء من غير ضرس وثنية. وإذا أصيبت السن ففيها ديتها، وكذلك إن طرحت بعد أن تسود. دية منافع الاعضاء وتجب الدية كاملة إذا ضرب إنسان إنسانا فذهب عقله، لان العقل هو الذي يميز الانسان عن الحيوان، وكذلك إذا ذهبت حاسة من حواسه: ك " سمعه، أو بصره، أوشمه، أو ذوقه، أو كلامه بجميع حروفه " لان في كل حاسة من هذه الحواس منفعة مقصودة، بها جماله وكمال حياته، وقد قضى عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلا، فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله، بأربع ديات والرجل حي. وإذا ذهب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الاذنين، ففيه نصف الدية، سواء كانت الاخرى صحيحة أم غير صحيحة. وفي حلمتي ثديي المرأة ديتها، وفي إحداهما نصفها. وفي شفريها ديتها، وفي أحدهما نصفها. وإذا فقئت عين الاعور الصحيحة، يجب فيها كمال الدية، قضى بذلك عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر. ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، لان ذهاب عين الاعور ذهاب البصر كله، إذ أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين. وفي كل واحد من الشعور الاربعة كمال الدية. وهي: 1 - شعر الرأس. 2 - شعر اللحية. 3 - شعر الحاجبين. 4 - أهداب العينين وفي الحاجب نصف الدية. وفي الهدب ربعها. وفي الشارب يترك فيه الامر لتقدير القاضي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 دية الشجاج الشجاج: هو الاصابات التي تقع بالرأس والوجه. وأنواعه عشرة، وهي كلها لا قصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا، لانه لا يمكن مراعاة المماثلة فيها والشجاج بيانه كما يأتي: 1 - الخارصة: وهي التي تشق الجلد قليلا. 2 - الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد. 3 - الدامية أو الدامغة: وهي التي تنزل الدم. 4 - المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم. 5 - السمحاق: وهي التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة. 6 - الموضحة: وهي التي تكشف عن العظم. 7 - الهاشمة: وهي التي تكسر العظم وتهشمه. 8 - المنقلة: وهي التي توضح وتهشم العظم حتى ينتقل منها العظام. 9 - المأمومة، أو الآمة: وهي التي تصل إلى جلدة الرأس. 10 - الجائفة: وهي التي تصل الجوف. ويجب فيما دون الموضحة حكومة عدل، وقيل أجرة الطبيب، وأما الموضحة، ففيها القصاص إذا كانت عمدا كما قلنا، ونصف عشر الدية إذا كانت خطأ، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وهي خمس من الابل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم. ولو كانت مواضح متفرقة، يجب في كل واحدة منها خمس من الابل. والموضحة في غير الوجه والرأس توجب حكومة. وفي الهاشمة عشر الدية، وهي عشر من الابل، وهو مروي عن زيد ابن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة. وفي المنقلة عشر الدية، ونصف العشر: أي خمسة عشر من الابل. وفي الآمة: ثلث الدية بالاجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وفي الجائفة: ثلث الدية بالاجماع، فإن نفذت فهما جائفتان، ففيهما ثلثا الدية. دية المرأة : ودية المرأة إذا قتلت خطأ: نصف دية الرجل، وكذلك دية أطرافها، وجراحاتها على النصف من دية الرجل وجراحاته، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. فقد روي عن عمر رضي الله عنه، وعلي كرم الله وجهه، وابن مسعود رضي الله عنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين: أنهم قالوا في دية المرأة: إنها على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد، فيكون إجماعا، ولان المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل. وقيل: يستوي الرجل والمرأة في العقل إلى الثلث، ثم النصف فيما بقي. فقد أخرج النسائي، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته ". وأخرج مالك في الموطأ، والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال: " سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الابل، قلت: فكم في الاصبعين؟ قال: عشرون من الابل. قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون من الابل. قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الابل. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها! فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: " هي السنة يا ابن أخي ". وقد ناقش الامام الشافعي هذا الرأي، وبين أن المقصود من السنة، هو سنة زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي قال بهذا الرأي، لاسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الشافعي رضي الله عنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 " السنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن كبار الصحابة - رضي الله عنهم - أفتوا بخلافه، ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خالفوه. وقوله: سنة، محمول على أنه سنة زيد (1) ، لانه لم يرو إلا عنه موقوفا، ولان هذا يؤدي إلى المحال، وهو ما إذا كان ألمها أشد، ومصابها أكثر أن يقل أرشها، وحكمة الشارع تنشأ من ذلك. ولايجوز نسبته إليه، لان من المحال أن تكون الجناية لا توجب شيئا شرعا. وأقبح أن تسقط ما وجب بغيره. دية أهل الكتاب ودية أهل الكتاب (2) إذا قتلوا خطأ نصف دية المسلم، فدية الذكر منهم نصف دية المسلم، ودية المرأة من نسائهم نصف دية المرأة المسلمة. لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلم ". رواه أحمد رضي الله عنه. وكما تكون دية النفس على النصف من دية المسلم، تكون دية الجراح كذلك على النصف. وإلى هذا ذهب مالك، وعمر بن عبد العزيز. وذهب أبو حنيفة، والثوري، وهو المروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، إلى أن ديتهم مثل دية المسلمين، لقول الله تعالى: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة ". قال الزهري: " دية اليهودي، والنصراني، وكل ذمي مثل دية المسلم ". قال: وكانت كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر،   (1) سنة زيد بن ثابت. (2) سواء كانوا ذميين أو معاهدين مستأمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى المقتول نصفها. ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية، وألغى الذي جعله معاوية لبيت المال. قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز، فأخبره أن الدية كانت تامة لاهل الذمة. وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن دبتهم: ثلث دية المسلم، ودية الوثني والمجوسي المعاهد أو المستأمن: ثلثا عشر دية المسلم. وحجتهم أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة ألا بيقين، أو حجة. وهو بحساب ثمانماية درهم من اثني عشر الفا. وروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود: ونساؤهم على النصف. وهل تجب الكفارة مع الدية في قتل الذمي والمعاهد؟ قاله ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي واختاره الطبري. دية الجنين إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه عمدا أو خطأ، ولم تمت أمه، وجب فيه غرة (1) سواء انفصل عن أمه وخرج ميتا، أم مات في بطنها. وسواء أكان ذكرا أم أنثى. فأما إذا خرج حيا، ثم مات، ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكرا وجبت مائة بعير. وإن كان أنثى: خمسون. وتعرف الحياة بالعطاس، أو التنفس، أو البكاء، أو الصياح، أو الحركة، ونحو ذلك. واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه، أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى فيه الروح. وفسره ب " ما ظهر فيه صورة الآدمي: من يد، وأصبع ".   (1) الغرة من كل شئ: أنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وأما مالك، فإنه لم يشترط هذا الشرط، وقال: " كل ما طرحته المرأة من مضغة، أو علقة، مما يعلم أنه ولد ففيه لغرة ". ويرجح رأي الشافعي، بأن الاصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة، فإذالم يعلم تخلقه، فإنه لا يجب شئ (1) . قدر الغرة: والغرة: خمسماية درهم، كما قال الشعبي والاحناف، أو ماية شاة، كما في حديث أبي يريدة عند أبي داود، والنسائي. وقيل: خمس من الابل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قضى أن دية الجنين غرة: عبد أو وليدة ". وروى مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه: ب " غرة: عبد، أو وليدة ". فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لاشرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل (2) . فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن هذا من إخوان الكهان ". هذا بالنسبة لجنين المسلمة، أما جنين الذمية، فقد قال صاحب بداية المجتهد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله، في أن دية الذمي دية المسلم. والشافعي على أصله، في أن دية الذمي ثلث دية المسلم. ومالك على أصله، في أن دية الذمي نصف دية المسلم. على من تجب: قال مالك وأصحابه، والحسن البصري والبصريون: تجب في مال الجاني.   (1) وقد أجمع العلماء على أن الام إذا ماتت، وهو في جوفها، ولم تلقه ولم يخرج، فلاشئ فيه. واختلفوا فيما إذا ماتت من ضرب بطنها، ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها، فقال جمهور الفقهاء: لاشئ فيه، وقال الليث بن سعد وداود: فيه غرة، لان المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لاغير. (2) يهدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وذهبت الحنفية والشافعية، والكوفيون، إلى أنها تجب على العاقلة لانها جناية خطأ (1) فوجبت على العاقلة. وروي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة الضارب: وبدأ بزوجها وولدها. وأما مالك، والحسن: فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا. والاول أصح. لمن تجب : ذهبت المالكية، والشافعية، وغيرهم: إلى أن دية الجنين تجب لورثته على مواريثهم الشرعية، وحكمها حكم الدية في كونها موروثة، وقيل: هي للام، لان الجنين كعضو من أعضائها، فتكون ديته لها خاصة. وجوب الكفارة: اتفق العلماء على أن الجنين إذا خرج حيا ثم مات، ففيه الكفارة مع الدية. وهل تجب الكفارة مع الغرة إذا خرج ميتا أو لا تجب؟ قال الشافعي وغيره: تجب، لان الكفارة عنده تجب في الخطأ والعمد. وقال أبو حنيفة: لا تجب، لانه غلب عليهحكم العمد. والكفارة لا تجب فيه عنده. واستحبها مالك، لانه متردد بين الخطأ والعمد. لادية الا بعد البرء قال مالك: إن الامر المجمع عليه عندنا في الخطأ، أنه لا يعقل حتى يبرأ المجروح ويصح، وأنه إن كسر عظما من الانسان: يدا أو رجلا، وغير ذلك من الجسد خطأ، فبرأ، وصح، وعاد لهيئته، فليس فيه عقل (2) ، فإن   (1) سقوط الجنين ليس عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه، خطأ فيه. (2) وهو مذهب أبي حنيفة، لانه لم يحدث شئ للمجني عليه سوى الالم، ولا قيمة لمجرد الالم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 نقص، أو كان فيه عثل (نقص) ، ففيه من عقله بحساب ما نقص. قال: فإن كان ذلك العظم مما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، عقل مسمى، فبحساب ما فرض فيه النبي صلى الله عليه وسلم، عقل. وما كان مما لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل مسمى، ولم تمض فيه سنة، ولاعقل مسمى، فإنه يجتهد فيه. وجود قتيل بين قوم متشاجرين : إذا تشاجر قوم، فوجد بينهم قتيل، لا يدرى من قاتله، ويعمى أمره فلا يبين - ففيه الدية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: " من قتل في عميا (1) في رميا، يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا، فهو خطأ، وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولاعدل " (2) واختلف العلماء فيمن تلزمه الدية. فقال أبو حنيفة: هي على عاقلة القبيلة التي وجد فيها إذا لم يدع أولياء القتيل على غيرهم. وقال مالك: ديته على الذين نازعوهم. وقال الشافعي: هي قسامة، إن ادعوه على رجل بعينه، أو طائفة بعينها وإلا فلا عقل ولا قود. وقال أحمد: هي على عواقل الآخرين، إلا أن يدعوا على رجل بعينه، فيكون قسامة. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: ديته على الفريقين الذين اقتتلا معا.   فهو نظير من شتم إنسانا شتما يؤلم قلبه فإنه لا يضمن شيئا. وإن كان لا يخلى الشاتم من مسؤولية الشتم فإنه يعاقب تعزيرا، أو يقتص منه، على خلاف في ذلك كما هو مبين في موضعه من هذا الكتاب، وقال أبو يوسف، على الجاني أرش الالم وهي حكومة عدل، وقال محمد عليه أجر الطبيب وثمن الدواء. (1) عميا: من العمى، رميا: من الرمي. (2) الصرف: التطوع، والعدل: الفريضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 وقال الاوزاعي: ديته على الفريقين جميعا، إلا أن تقوم بينة من غير الفريقين: أن فلانا قتله، فعليه القصاص والدية. القتل بعد أخذ الدية : وإذا أخذ ولي الدم الدية، فلا يحل له بعد أن يقتل القاتل. وروى أبو داود، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " لا أعفى (1) من قتل بعد أخذ الدية ". وروى الدارقطني، عن أبي شريح الخزاعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أصيب بدم أو خبل (2) ، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: بين أن يقتص، أو يعفو، أو يأخذ العقل، فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ". فإذا قتله، فمن العلماء من قال: هو كمن قتل ابتداءا، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة. ومنهم من قال: يقتل ولا بد، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقيل: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى. اصطدام الفارسين : ذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه إذا اصطدم فارسان فمات كل واحد منهما، فعلى كل منهما دية الآخر، وتتحملها العاقلة. وقال الشافعي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لان كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. ضمان صاحب الدابة : إذا أصابت الدابة بيدها، أو رجلها، أو فمها شيئا، ضمن صاحبها،   (1) أي: لاكثر ماله، ولا استغنى. فهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم. (2) الخبل: العرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 عند الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمه. وقال مالك، والليث، والاوزاعي: لا يضمن إذا لم يكن من جهة راكبها، أو قائدها، أو سائقها، بسبب من همز، أو ضرب، فلو كان ثمة سبب، كأن حملها أحدهم على شئ فأتلفته، لزمه حكم المتلف. فإن كان جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدا، كان فيه القصاص، لان الدابة في هذه الحال كالآلة. وإن كان الحمل من غير قصد، كانت فيه الدية على العاقلة، وإن كان المتلف مالا كانت الغرامة في مال الجاني. وقال أبو حنيفة: إذا رمحت (1) دابة إنسان - وهو راكبها - إنسانا آخر، فإن كان الرمح برجلها فهو هدر، وإن كانت نفحته بيدها، فهو ضامن، لانه يملك تصريفها من الامام، ولا يملك منها ما ورائها. وقال: وإذا ساق دابة، فوقع السرج أو اللجام أو أي شئ مما يحمل عليها، فأصاب إنسانا، ضمن السائق ما أصاب من ذلك. ولو انفلتت دابة فأصابت مالا، أو آدميا، ليلا أو نهارا، فإنه لا ضمان على صاحبها، لانه غير متعمد. ومن ركب دابة فضربها رجل أو نخسها، فنفحت إنسانا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته ضمن الناخس دون الراكب. وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا، لانه هو المتسبب. فإن ألقت الراكب فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس. وإذا بالت الدابة أو راثت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن، وكذا إذا أوقفها لذلك. ضمان القائد والراكب والسائق : إذا كان للدابة قائد، أو راكب، أو سائق، فأصابت شيئا، وأوقعت به ضررا، فإنه يضمن ما أصابته من ذلك. فقد قضى عمر، رضي الله عنه، بالدية على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر.   (1) رمحت: رفست. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ويرى أهل الظاهر أنه لا ضمان على واحد من هؤلاء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ". وما استدل به الظاهرية محمول على ما إذا لم يكن للدابة راكب، ولا سائق، ولا قائد " فإنه لا ضمان على ما أتلفته في هذه الحال بالاجماع ". الدابة الموقوفة : وأما الدابة الموقوفة إذا أصابت شيئا، فعند أبي حنيفة: يضمن ما أصابته ولا يعفيه من الضمان أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه. فعن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن ". رواه الدارقطني. وقال الشافعي: إن أوقفها بحيث ينبغي له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يوقفها بحيث ينبغي له أن يوقفها ضمن. ضمان ما أتلفته المواشي من الزروع والثمار وغيرها ذهب جمهور العلماء - منهم: مالك، والشافعي، وأكبر فقهاء الحجاز - إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من: نفس، أو مال، للغير، فلاضمان على صاحبها، لان في عرف الناس، أن أصحاب الحوائط، والبساتين، يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار، ويردونهما بالليل إلى المراح، فمن خالف هذه العادة، كان خارجا عن رسوم الحفظ إلى التضييع. هذا إذا لم يكن معها مالكها، وإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته، سواء كان راكبها أو سائقها، أو قائدها، أو كانت واقفة عنده، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 واستدلوا لمذهبهم هذا، بما رواه مالك، عن ابن شهاب عن حرام بن سعيد بن المحيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط (1) رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2) . قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور، أرسله الائمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به. وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث. ويرى سحنون - من المالكية - أن هذا الحديث، إنما جاز في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة. وأما البلاد التي هي زروع متصلة، غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار. وذهبت الاحناف: إلى أنه إذا لم يكن معها مالكها فلا ضمان عليه، ليلا كان أو نهارا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " جرح العجماء جبار ". فالاحناف يقيسون جميع أعمالها على جرحها. وإن كان معها مالكها: فإن كان يسوقها فعليه ضمان ما أتلفت بكل حال، وإن كان قائدها أو راكبها فعليه ضمان ما أتلفت بفمها أو يدها، ولا يجب ضمان ما أتلفت برجلها. وأجاب الجمهور، بأن الحديث الذي استدل به الاحناف عام، خصصه حديث البراء، هذا فيما يتصل بالزروع والثمار، أما غيرها فقد قال ابن قدامة في المغني: " وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، لم يضمن مالكها ما أتلفته، ليلا كان أو نهارا، ما لم تكن يده عليها ". وحكي عن شريح: أنه قضى - في شاة وقعت في غزل حائط ليلا - بالضمان على صاحبها.   (1) الحائط: البستان. (2) ضامن: مضمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وقرأ شريح: " إذ نفشت فيه غنم القوم (1) ". قال: والنفش لا يكون إلا بالليل. وعن الثوري: " يضمن وإن كان نهارا، لانه مفرط بإرسالها ". ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العجماء جرحها جبار " متفق عليه، أي هدر. وأما الآية فإن النفش هو الرعي ليلا، وكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعا بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره، فلا يصح قياس غيره عليه. انتهى. ضمان ما أتلفته الطيور : يرى بعض العلماء: أن النحل، والحمام، والاوز، والدجاج والطيور كالماشية، وأنه إذا اقتناها وأرسلها نهارا فلقطت حبا، لم يضمن، لان العادة إرسالها. ويرى البعض الآخر: أن فيها الضمان، فمن أطلقها، فأتلفت شيئا، ضمنه. وكذلك، إن كان له طير جارح، كالصقر، والبازي، فأفسد طيور الناس وحيواناتهم، ضمن. وهذا الرأي هو الصحيح. ضمان ما أصابه الكلب أو الهر : في المغني: " ومن اقتنى كلبا عقورا، فأطلقه، فعقر إنسانا، أو دابة، ليلا أو نهارا، أو خرق ثوب إنسان، فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه، لانه مفرط باقتنائه. إلا أن يدخل إنسان داره بغير إذنه، فلاضمان فيه، لانه متعد بالدخول متسبب بعدوانه، إلى عقر الكلب له، وإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه، لانه تسبب في إتلافه، وإن أتلف الكلب بغير العقر، مثل: أو ولغ.   (1) سورة الانبياء: الآية 78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 في إناء إنسان، أو بال، لم يضمنه مقتنيه: لان هذا لا يختص به الكلب العقور. قال القاضي: " وإن اقتنى سنورا، يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه، كما يضمن ما يتلفه الكلب العقور، ولافرق بين الليل والنهار، وإن لم يكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته، كالكلب إذا لم يكن عقورا. ولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند إنسان من غير اقتنائه ولا اختياره، فأفسد لم يضمنه، لانه يحصل الاتلاف بسببه. ما يقتل من الحيوان وما لا يقتل : ولا يقتل من الحيوان إلا ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله. وهو: " الغراب، والحدأة، والفأرة، والحية، والعقرب، والكلب العقور، والوزغ " (1) . ويلحق بها ما أشبهها في الضرر، مثل: الزنبور المؤذي، والنمر، والفهد والاسد، فإنها تقتل ولو لم يصل واحد منها. قالت عائشة رضي الله عنها: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمسة فواسق في الحل والحرم: " الغراب، والحدأة والعقرب، والفأر، والكلب العقور ". رواه البخاري ومسلم. وفي الصحيحين من حديث أم شريك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الاوزاغ وسماه " فويسقة ". وإذا قتلت فإنه لا ضمان في قتلها، ولاقتل غيرها من السباع والحشرات، وإن تأهلت بالاجماع، إلا الهر فتضمن قيمته، إلا إذا وقع منه اعتداء. ولا يقتل الهدهد، ولا النملة، ولا النحلة، ولا الخطاف، ولا الصرد، ولا الضفدع، إذ لا ضرر فيها. وقد روي النسائي، عن ابن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:   (1) الوزغ: ضرب من الزحافات - (ج) وزغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 " ما من إنسان يقتل عصفورا، فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله يوم القيامة عنها، قيل يا رسول الله: وما حقها؟ قال: يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويرمي بها ". وإذا قتلها فعليه أن يتوب إلى الله، ولا ضمان عليه. وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: " النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد ". ما لا ضمان فيه : إذا كانت الجناية بسبب من الظالم المعتدي، فهي هدر: أي لا قصاص فيها، ولادية لها. ومن أمثلة ذلك: (1) سقوط أسنان العاض: فإذا عض الانسان غيره، فانتزع المعضوض ما عض منه من فم العاض، فسقطت أسنانه، أو انفكت لحيته، فإنه لا مسؤولية على الجاني، لانه غير متعد. روى البخاري ومسلم، عن عمران بن حصين، أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فمه فسقطت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل (1) ..لادية لك ". وقال مالك: يضمن، والحديث حجة عليه. (2) النظر في بيت غيره بدون إذنه: ومن نظر في بيت إنسان، من ثقب أو شق باب، أو نحو ذلك، فإن لم يتعمد النظر فلا حرج عليه.   (1) الفحل: الذكر من الابل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة؟ فقال: " اصرف بصرك ". وروى أبو داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: " لاتتبع النظرة النظرة، فإن لك الاولى، وليست لك الثانية ". فإن تعمد النظر بدون إذن من صاحب البيت فلصاحب البيت أن يفقأ عينه، ولاضمان عليه. روى أحمد والنسائي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقأوا عينه فلادية له، ولا قصاص ". وروى البخاري ومسلم عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (1) بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جناح ". وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله مدرى يرجل بها رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعلم أنك تنظر، لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاذن من أجل النظر ". وبهذا أخذت الشافعية والحنابلة. وخالف فيه الاحناف والمالكية، فقالوا: من نظر بدون إذن من صاحب البيت، فرماه بحصاة، أو طعنه بخشبة، فأصاب منه، فهو ضامن، لان الرجل إذا دخل البيت ونظر فيه وباشر امرأة صاحبه فيما دون الفرج فإنه لا يجوز أن يفقأ عينه، أو يحدث به عاهة، لان ارتكاب مثل هذا الذنب لا يقابل بمثل هذه العقوبة، وهذا مخالف للاحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها. وقد رجح الرأي الاول ابن قيم الجوزية فقال:   (1) الخذف، بالخاء: الرمي بالحصاة، وبالحاء: الرمي بالعصى، لا بالحصى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 " فردت هذه السنن بأنها خلاف الاصول، فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع، ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن تقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الاصول، فما خالفها فهو خلاف الاصول وقولكم: " إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين، فهذا حق في القصاص، وأما العضو الجاني المتعدي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه، فإن الآية لا تتناوله نفيا ولا إثباتا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن، لا مخالفا لما حكم به القرآن. وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالاسهل فالاسهل، إذ المقصود دفع ضرر حياله، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف، وأما هذا المتعدي بالنظر إلى المحرم، الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل. فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه، ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء، وعدم مشاهدة غير الناظر إليه، فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه، ولو أمر بدفعه بالاسهل فالاسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى جريمه هدرا. " والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لناوللجاني، ما جاءت به السنة التي لا معارض لها، ولا دافع لصحتها من خذف ما هنال ك، وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هناك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه، فهو الذي عرضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف ليس بظالم له. والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة، فحكم الله بما شرعه على رسوله، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " اه. (3) القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض: ومن قتل شخصا، أو حيوانا، دفاعا عن نفسه، أو عن نفس غيره، أو عن ماله، أو مال غيره، أو عن العرض، فإنه لاشئ عليه، لان دفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 الضرر عن النفس، والمال واجب، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله، ولاشئ على القاتل. روى مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: " فلا تعطه مالك ". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتله ". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: " فأنت شهيد ". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: " هو في النار ". قال ابن حزم: " فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص أو غيره، فإن تيسر له طرده منه ومنعه، فلا يحل له قتله، فإن قتله حينئذ فعليه القود، وإن توقع أقل توقع أن بعاجله اللص فليقتله، ولاشئ عليه، لانه مدافع عن نفسه ". ادعاء القتل دفاعا إذا ادعى القاتل أنه قتل المجني عليه، دفاعا عن نفسه، أو عرضه، أو ماله، فإن أقام بينة على دعواه قبل قوله وسقط عنه القصاص والدية، وإن لم يقم البينة على دعواه، لم يقبل قوله، وأمره إلى ولي الدم: إن شاء عفا عنه وإن شاء اقتص منه، لان الاصل البراءة حتى تثبت الادانة. وقد سئل الامام علي، رضي الله عنه، عمن وجد مع امرأته رجلا فقتلهما؟ فقال: " إن لم يأت بأربعة شهداء (1) فليعط برمته ".   (1) وقيل: يكفى شاهدان. " برمته " أي مسلم إلى أولياء المقتول ليقعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 فإن لم يقم القاتل البينة، واعترف ولي الدم بأن القتل كان دفاعا، انتفت عنه المسؤولية، وسقط عنه القصاص والدية. روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه: " أنه كان يوما يتغذى، إذ جاءه رجل يعدو، وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون. فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا. فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي، فإن كان بينهما أحد فقد قتلته. فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل، وفخذي المرأة. فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه وقال: إن عادوا فعد ". وروي عن الزبير: " أنه كان يوما قد تخلف عن الجيش، ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئا. فألقى اليهما طعاما كان معه. فقالا: خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ". قال ابن تيمية: فإن ادعى القاتل أنه صال عليه، وأنكر أولياء المقتول: فإن كان المقتول معروفا بالبر، وقتله في محل لاريبة فيه، لم يقبل قول القاتل. وإن كان معروفا بالفجور والقاتل معروفا بالبر، فالقول قول القاتل مع يمينه. لا سيما إذا كان معروفا بالتعرض له قبل ذلك. ضمان ما أتلفته النار : من أوقد نارا في داره كالمعتاد، فهبت الريح فأطارت شرارة، أحرقت نفسا أو مالا، فلاضمان عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 ذكر وكيع، عن عبد العزيز بن حصين، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: أوقد رجل نارا لنفسه، فخرجت شرارة من نار، حتى أحرقت شيئا لجاره، قال: فكتب فيه إلى عبد العزيز بن حصين، فكتب إليه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العجماء جبار " وأرى أن النار جبار. إفساد زرع الغير : ولو سقى أرضه سقيا زائدا على المعتاد، فأفسد زرع غيره، ضمن، فإذا انصب الماء من موضع لا علم له به، لم يضمن، حيث لم يحدث منه تعد. غرق السفينة : من كان له سفينة يعبر بها الناس ودوابهم، فغرقت بدون سبب مباشر منه، فلا ضمان عليه فيما تلف بها. فإن كان غرقها بسبب منه ضمن. ضمن الطبيب : لم يختلف العلماء في أن الانسان إذا لم تكن له دراية بالطب، فعالج مريضا فأصابته من ذلك العلاج عاهة، فإنه يكون مسؤولا عن جنايته، وضامنا بقدر ما أحدث من ضرر، لانه يعتبر بعمله هذا متعديا، ويكون الضمان في ماله. لما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب، فهو ضامن " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت (1) فهو ضامن ". رواه أبو داود.   (1) أضر بالمريض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أما إذا أخطأ الطبيب، وهو عالم بالطب، فرأي الفقهاء أنه تلزمه الدية، وتكون على عاقلته عند أكثرهم (1) . وقيل: هي في ماله. وفي تقرير الضمان الحفاظ على الارواح، وتنبيه الاطباء إلى واجبهم، واتخاذ الحيطة اللازمة في أعمالهم المتعلقة بحياة الناس. ويروى عن مالك: أنه لا شئ عليه. الرجل يفضي زوجته : وإذا وطئ الرجل زوجته فأفضاها، فإن كانت كبيرة بحيث يوطأ مثلها، فإنه لا يضمن (2) ، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فعليه الدية. والافضاء مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الواسع، ويكون بمعنى الجماع ومنه قول الله سبحانه: " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". ويكون بمعنى اللمس، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، فليتوضأ ". والمراد به هنا: إزالة الحاجز الذي بين الفرج والدبر. الحائط يقع على شخص فيقتله : إذا مال حائط إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، ثم وقع على شخص فقتله، فإن كان قد سبق أن طولب صاحبه بنقضه، ولم ينقضه مع التمكن منه، ضمن ما تلف بسببه، وإلا فلا يضمن (3) . ورواية أشهب عن مالك: أنه إذا بلغ من شدة الخوف إلى ما لا يؤمن   (1) وإذا مات لا يجب عليه القود، وتجب الدية، لان العلاج كان بإذن المريض. (2) هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد. وقال الشافعي، ورواية عن مالك: عليه الدية. والمشهور عن مالك: أن فيه حكومة. (3) هذا مذهب الاحناف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 معه الاتلاف، ضمن ما تلف به، سواء تقدم إليه في نقضه، أم لم يتقدم، أو أشهد عليه، أم لم يشهد عليه. وأشهر الروايات عن أحمد، وأظهر الوجوه عند الشافعية أنه لا يضمن. ضمان حافر البئر إذا حفر إنسان بئرا، فوقع فيه إنسان، فإن حفر في أرض يملكها، أو في أرض لا يملكها، واستأذن المالك فلا ضمان عليه، وإن حفر فيما لا يملك، وبلا إذن صاحب الارض، ضمن، ولا ضمان إذا كان في ملكه أو إذن المالك، أو كان في موات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البئر جبار "، أي أن من تردى فيه في هذه الحالة فهلك، فهدر لا دية له. وقال مالك: " إن حفر في موضع جرت العادة بالحفر في مثله، لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن ". ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا، أو أن يصعد شجرة ففعل، فهلك بنزوله البئر، أو صعوده الشجرة، لم يضمنه الامر لعدم إكراهه له. ومثل ذلك الحاكم إذا استأجر شخصا لذلك فهلك، فلا ضمان، لعدم الجناية والتعدي منه. ولو سلم إنسان نفسه أو ولده، إلى سابح يحسن السباحة فغرق، فلا ضمان عليه. الإذن في أخذ الطعام وغيره : ذهب جمهور العلماء: إلى أنه لا يجوز لاحد أن يحلب ماشية غيره إلا بإذنه، فإن اضطر في مخمصة، ومالكها غير حاضر، فله أن يحلبها، ويشرب لبنها، ويضمن لمالكها. وكذلك سائر الاطعمة والثمار المعلقة في الشجر، لان الاضطرار لا يبطل حق الغير. روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وسلم قال: " لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته (1) فتكسر خزانته، فينتقل منها طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ". وقال الشافعي: لا يضمن، لان المسؤولية تسقط بالاضطرار، لوجود الاذن من الشارع، ولا يجتمع إذن وضمان. القسامة : القسامة: تستعمل بمعنى الحسن والجمال. والمقصود بها هنا: الايمان، مأخوذة من: أقسم، يقسم، إقساما، وقسامة. فهي مصدر مشتق من القسم، كاشتقاق الجماعة من الجمع. وصورتها: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله، فتجري القسامة على الجماعة التي يمكن أن يكون القاتل محصورا فيهم، بشرط أن يكون عليهم لوث (2) ظاهر، بأن يوجد القتيل بين قوم من الاعداء، ولا يخالطهم غيرهم، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء، وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية، وهناك رجل مختضب بدمه. فإذا كان القتيل في بلدة، أو في طريق من طرقها، أو قريبا منها أجريت القسامة على أهل البلدة. وإن وجدت جثته بين بلدين، أجريت القسامة على أقربها مسافة من مكان جثته. وكيفية القسامة، هي: أن يختار ولي المقتول خمسين رجلا من هذه البلدة ليحلفوا بالله أنهم ما قتلوه، ولا علموا له قاتلا.   (1) المشربة: كالغرفة يوضع فيها المتاع، فقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم ضروع المواشي في حفظ اللبن بالغرفة التي يحفظ فيها الانسان متاعه، وفي الحديث إثبات القياس ورد الشئ إلى نظيره. (2) اللوث: العلامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 فإن حلفوا سقطت عنهم الدية، وإن أبوا، وجبت ديته على أهل البلدة جميعا. وإن التبس الامر كانت ديته من بيت المال. النظام العربي الذي أقره الاسلام وكانت القسامة معمولا بها في الجاهلية، فأقرها الاسلام على ما كانت عليه. وحكمة إقرار الاسلام لها، أنها مظهر من مظاهر حماية الانفس، وحتى لا يذهب دم القتيل هدرا. " أخرج البخاري، والنسائي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن أول قسامة كانت في الجاهلية: " كان رجل من بني هاشم، استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، لا تنفر الابل، فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الابل إلا بعيرا واحدا، فقال الذي استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الابل؟ قال: ليس له عقال. قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمن. فقال له: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده، وربما شهدته. قال: هل أنت مبلغ عني رسالة، مرة من الدهر؟ قال: نعم. قال: فإذا شهدت، فناد: يا قريش، فإذا أجابوك. فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل: عن أبي طالب، وأخبره أن فلانا قتلني في عقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب. فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه. قال: قد كان أهل ذاك منك. فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه، أن يبلغ عنه، وافى الموسم. فقال: يا قريش. قالوا: هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم. قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب. قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلانا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب، فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الابل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت، حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فأتى قومه فأخبرهم. فقالوا: نحلف. فأتته امرأة من بني هاشم، كانت تحت رجل منهم، كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب. أحب أن يجبر إبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الايمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الابل، فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني، حيث تصبر الايمان، فقبلهما. وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 قال ابن عباس رضي الله عنهما. " فوالذي نفسي بيده ما حال الحول، ومن الثمانية والاربعين عين تطرف "! الاختلاف في الحكم بالقسامة: اختلف العلماء في وجوب الحكم بالقسامة. فقال جمهور الفقهاء: بوجوب الحكم بها. وقالت طائفة من العلماء: لا يجوز الحكم بها. قال ابن رشد في بداية المجتهد: " وأما وجوب الحكم بها على الجملة، فقال به جمهور فقهاء الامصار: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وسفيان، وداود، وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الامصار. وقالت طائفة من العلماء: سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، وعمر بن عبد العزيز، وابن علية: لا يجوز الحكم بها. عمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، من حديث حويصة ومحيصة، وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه. وعمدة الفريق الثاني لعدم جواز الحكم بها: أن القسامة مخالفة لاصول الشرع المجمع على صحتها، فمنها: ان الاصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا، أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم، وهم لم يشاهدوا القتيل، بل قد يكونون في بلد، والقتل في بلد آخر. ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة: " أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم، وقالوا: نقول: إن القسامة القود بها حق، قد أقاد بها الخلفاء. فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب، ورؤساء الاجناد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل، أنه زنا بدمشق، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه سرق بحمص، ولم يروه، أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا، وهم عندك، أقدت بشهادتهم. قال: فكتب عمر بن عبد العزيز، في القسامة، أنهم إن أقاموا شاهدي عدل: أن فلانا قتله، فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا ". قالوا: " ومنها: أن من الاصول، أن الايمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء ". ومنها: " أن من الاصول: ان البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر ". ومن حجتهم: " أنهم لم يرو في تلك الاحاديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها، على أصول الاسلام، ولذلك قال لهم: " أتحلفون خمسين يمينا " - أعني لولاة الدم، وهم الانصار -؟ قالوا: كيف نحلف، ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود. قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة. قال: إذا كانت هذه الاثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها، فصرفها بالتأويل إلى الاصول أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وأما القائلون بها، وبخاصة " مالك "، فرأى أن سنة القسامة، سنة منفردة بنفسها، مخصصة للاصول، كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر، وكان يقل قيام الشهادة عليه، لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات، جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق، والسراق، وذلك ان السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق. فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين، مع مخالفة ذلك للاصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم " انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 التعزير : (1) تعريفه: يأتي التعزير بمعنى " التعظيم والنصرة "، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه ". أي تعظموه وتنصروه (1) . ويأتي بمعنى الاهانة: يقال عزر فلان فلانا، إذا أهانه زجرا وتأديبا له على ذنب وقع منه. والمقصود به في الشرع: التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة. أي أنه عقوبة تأديبية يفرضها الحاكم (2) على جناية (3) أو معصية لم يعين الشرع لها عقوبة، أو حدد لها عقوبة ولكن لم تتوفر فيها شروط التنفيذ مثل المباشرة في غير الفرج، وسرقة مالا قطع فيه، وجناية لا قصاص فيها، وإتيان المرأة المرأة، والقذف بغير الزنى. ذلك أن المعاصي ثلاثة أقسام: 1 - نوع فيه حد، ولا كفارة فيه: وهي الحدود التي تقدم ذكرها. 2 - ونوع فيه كفارة، ولا حد فيه. مثل: الجماع في نهار رمضان، والجماع في الاحرام. 3 - ونوع لا كفارة فيه ولا حد، كالمعاصي التي تقدم ذكرها، فيجب فيها التعزير. (2) مشروعيته: والاصل في مشروعيته ما رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي،   (1) سورة الفتح: الاية 9. (2) الحاكم: هو الذي ينفذ الاحكام الاسلام ويقيم حدوده ويتقيد بتعاليمه. (3) الجناية في العرف القانوني: " هي الجريمة التي تكون عقوبتها الاعدام أو الاشغال الشاقة أو السجن ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 والبيهقي، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " ان النبي صلى الله عليه وسلم، حبس في التهمة " صححه الحاكم. وإنما كان هذا الحبس حبسا احتياطيا حتى تظهر الحقيقة. وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، عن هانئ بن نيار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تجلدوا فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى ". وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعزر ويؤدب، بحلق الرأس والنفي والضرب، كما كان يحرق حوانيت الخمارين، والقرية التي يباع فيها الخمر. وحرق قصر سعد بن أبي وقاص بالكوفة، لما احتجب فيه عن الرعية. وقد اتخذ درة يضرب بها من يستحق الضرب، واتخذ دارأ للسجن، وضرب النائحة حتى بدا شعرها (1) . وقال الائمة الثلاثة: إنه واجب (2) . وقال الشافعي: ليس بواجب. (3) حكمة مشروعيته والفرق بينه وبين الحدود: وقد شرعه الاسلام لتأديب العصاة والخارجين على النظام، فالحكمة فيه هي الحكمة من شرعية الحدود التي سبق ذكرها في مواضعها. إلا أنه يختلف عن الحدود من ثلاثة أوجه. 1 - أن الحدود يتساوى الناس فيها جميعا، بينما التعزير يختلف باختلافهم. فإذا زل رجل كريم، فإنه يجوز العفو عن زلته. وإذا عوقب عليها فإنه ينبغي أن تكون عقوبته أخف من عقوبة من ارتكب مثل زلته، ممن هو دونه في الشرف والمنزلة. روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي، أن رسول الله صلى الله   (1) ويراجع في ذلك إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية. (2) أي أن التعزير فيما شرع فيه التعزير واجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 عليه وسلم، قال: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود ". أي إذا زل رجل ممن لا يعرف بالشر زلة، أو ارتكب صغيرة من الصغائر، أو كان طائعا وكانت هذه أولى خطاياه، فلا تؤاخذوه. وإذا كان لا بد من المؤاخذة، فلتكن مؤاخذة خفيفة. 2 - أن الحدود لا تجوز فيها الشفاعة بعد أن ترفع إلى الحاكم. بينما التعازير يجوز فيها الشفاعة. 3 - أن من مات بالتعزير، فإن فيه الضمان، فقد أرهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة، فأخمصت بطنها، فألقت جنينا ميتا، فحمل دية جنينها (1) . وقال أبو حنيفة، ومالك: لا ضمان، ولا شئ، لان التعزير والحد في ذلك سواء. (4) صفة التعزير: والتعزير يكون بالقول: مثل التوبيخ، والزجر، والوعظ، ويكون بالفعل، حسب ما يقتضيه الحال، كما يكون بالضرب، والحبس، والقيد، والنفي، والعزل والرفت. روى أبو داود، أنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء. فقال صلى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ فقالوا: يتشبه بالنساء. فأمر به فنفي إلى البقيع. فقالوا: يا رسول الله، نقتله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إني نهيت عن قتل المصلين ". ولا يجوز التعزير بحلق اللحية، ولا بتخريب الدور، وقلع البساتين، والزروع، والثمار، والشجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 كما لا يجوز بجدع الانف، ولا بقطع الاذن أو الشفة أو الانامل، لان ذلك لم يعهد عن أحد من الصحابة. (5) الزيادة في التعزير على عشرة أسواط: تقدم حديث هانئ بن نيار، النهي في التعزير عن الزيادة على عشرة أسواط. وقد أخذ بهذا، أحمد، والليث، وإسحق، وجماعة من الشافعية، فقالوا: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط التي قررها الشارع. وذهب مالك، والشافعي، وزيد بن علي، وآخرون، إلى جواز الزيادة على العشرة، ولكن لا يبلغ أدنى الحدود. وقالت طائفة: لا يبلغ بالتعزير في المعصية قدر الحد فيها. فلا يبلغ بالتعزير على النظر والمباشرة حد الزنى، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع، ولا على السب من غير قذف حد القذف. وقيل: يجتهد ولي الامر، ويقدر العقوبة حسب المصلحة وبقدر الجريمة. (6) التعزير بالقتل: والتعزير بالقتل أجازه بعض العلماء، ومنعه بعض آخر. وقد جاء في ابن عابدين نقلا عن الحافظ بن تيمية: " إن من أصول الحنفية، أن مالا قتل فيه عندهم، مثل القتل بالمثقل، وفاحشة الرجال، إذا تكررت، فللامام أن يقتل فاعله، وكذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك ". (7) التعزير بأخذ المال: ويجوز التعزير بأخذ المال، وهو مذهب أبي يوسف، وبه قال مالك. قال صاحب معين الحكام: " ومن قال: إن العقوبة المالية منسوخة، فقد غلط على مذاهب الائمة، نقلا واستدلالا، وليس يسهل دعوى نسخها، والمدعون للنسخ ليس معهم سنة ولا إجماع، يصحح دعواهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 إلا أن يقولوا: مذهب أصحابنا لا يجوز. وقال ابن القيم: إن النبي صلى الله عليه وسلم، عزر بحرمان النصيب المستحق من السلب، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله. فقال صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه أحمد، وأبو داود، والنسائي: " من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا ". (8) التعزير من حق الحاكم: والتعزير يتولاه الحاكم، لان له الولاية العامة على المسلمين. وفي سبل السلام: وليس التعزير لغير الامام، إلا لثلاثة: 1 - الاول الاب، فإن له تعزير ولده الصغير للتعليم، والزجر عن سيئ الاخلاق، والظاهر أن الام في مسألة زمن الصبا، في كفالته، لها ذلك، والامر بالصلاة، والضرب عليها، وليس للاب تعزير البالغ، وإن كان سفيها. 2 - والثاني السيد، يعزر رقيقه في حق نفسه، وفي حق الله تعالى، على الاصح. 3 - والثالث الزوج، له تعزير زوجته في أمر النشوز، كما صرح به القرآن، وهل له ضربها على ترك الصلاة ونحوها؟ الظاهر أن له ذلك إن لم يكف فيها الزجر، لانه من باب إنكار المنكر، والزوج من جملة من يكلف بالانكار باليد، أو اللسان، أو الجنان، والمراد هنا الاولان. اه وكذلك يجوز للمعلم تأديب الصبيان. (9) الضمان في التعزير: ولا ضمان على الاب إذا أدب ولده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 ولا على الزوج إذا أدب زوجته. ولا على الحاكم إذا أدب المحكوم بشرط ألا يسرف واحد منهم، ويزيد على ما يحصل به المقصود. فإذا أسرف واحد منهم في التأديب كان متعديا، وضمن بسبب تعديه ما أتلفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 السلام في الإسلام : إن السلام مبدأ من المبادئ التي عمق الاسلام جذورها في نفوس المسلمين، فأصبحت جزءا من كيانهم، وعقيدة من عقائدهم. لقد صاح الاسلام - منذ طلع فجره، وأشرق نوره - صيحته المدوية في آفاق الدنيا، يدعو إلى السلام، ويضع الخطة الرشيدة التي تبلغ بالانسانية إليه. إن الاسلام يحب الحياة، ويقدسها، ويحبب الناس فيها، وهو لذلك يحررهم من الخوف، ويرسم الطريقة المثلى لتعيش الانسانية متجهة إلى غاياتها من الرقي والتقدم، وهي مظللة بظلال الامن الوارفة. ولفظ الاسلام - الذي هو عنوان هذا الدين - مأخوذ من مادة السلام، لان السلام والاسلام، يلتقيان في توفير الطمأنينة، والامن، والسكينة. ورب هذا الدين من أسمائة " السلام "، لانه يؤمن الناس بما شرع من مبادئ، وبما رسم من خطط ومناهج. وحامل هذه الرسالة هو حامل راية السلام، لانه يحمل إلى البشرية الهدى، والنور، والخير، والرشاد. وهو يحدث عن نفسه، فيقول: " إنما أنا رحمة مهداة ". ويحدث القرآن عن رسالته، فيقول: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ". وتحية المسلمين التي تؤلف القلوب وتقوي الصلات وتربط الانسان بأخيه الانسان، هي السلام. وأولى الناس بالله وأقربهم إليه من بدأهم بالسلام. وبذل السلام للعالم، وإفشاؤه جزء من الايمان. وقد جعل الله تحية المسلمين بهذا اللفظ، للاشعار بأن دينهم دين السلام والامان، وهم أهل السلم ومحبو السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله جعل السلام تحية لامتنا، وأمانا لاهل ذمتنا ". وما ينبغي للانسان أن يتكلم مع إنسان قبل أن يبدأه بكلمة السلام. يقول رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم: " السلام قبل الكلام ". وسبب ذلك: أن السلام أمان، ولا كلام إلا بعد الامان. والمسلم مكلف وهو يناجي ربه بأن يسلم على نبيه، وعلى نفسه، وعلى عباد الله الصالحين، فإذا فرغ من مناجاته لله وأقبل على الدنيا، أقبل عليها من جانب السلام، والرحمة، والبركة. وفي ميدان الحرب والقتال، إذا أجرى المقاتل كلمة السلام على لسانه، وجب الكف عن قتاله. يقول الله تعالى: " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ". وتحية الله للمؤمنين تحية سلام: " تحيتهم يوم يلقونه سلام ". وتحية الملائكة للبشر في الاخرة سلام: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ". ومستقر الصالحين دار الامن والسلام. " والله يدعو إلى دار السلام ". " لهم دار السلام عند ربهم ". وأهل الجنة لا يسمعون من القول ولا يتحدثون بلغة غير لغة السلام: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما سلاما ". وكثرة تكرار هذا اللفظ - السلام - على هذا النحو، مع إحاطته بالجو الديني النفسي، من شأنه أن يوقظ الحواس جميعها، ويوجه الافكار والانظار إلى هذا المبدأ السامي العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 اتجاه الاسلام نحو المثالية بل إن الاسلام يوجب العدل ويحرم الظلم، ويجعل من تعاليمه السامية وقيمه الرفيعة من المودة، والرحمة، والتعاون، والايثار، والتضحية، وإنكار الذات، ما يلطف الحياة ويعطف القلوب، ويؤاخي بين الانسان وأخيه الانسان. وهو بعد ذلك كله يحترم العقل الانساني، ويقدر الفكر البشري، ويجعل العقل والفكر وسيلتين من وسائل التفاهم والاقناع. فهو لا يرغم أحدا على عقيدة معينة، ولا يكره إنسانا على نظرية خاصة بالكون أو الطبيعة أو الانسان، وحتى في قضايا الدين يقرر أنه " لا إكراه في الدين "، وأن وسيلته هي استعمال العقل والفكر والنظر فيما خلق الله من أشياء. يقول الله تعالى: " لا إكراه في الدين - قد تبين الرشد من الغي ". ويقول تعالى: " ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ". " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ". " قل انظروا ماذا في السموات والارض، وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون ". ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن وظيفته إلا أنه مبلغ عن الله وداعية إليه. يقول الله تعالى: " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ". العلاقات الانسانية الاسلام لا يقف عند حد الاشادة بهذا المبدأ فحسب، وإنما يجعل العلاقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 بين الافراد، وبين الجماعات، وبين الدول، علاقة سلام وأمان، يستوي في ذلك علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وعلاقة المسلمين بغيرهم. وفيما يلي بيان ذلك: علاقة المسلمين بعضهم ببعض: 1 - جاء الاسلام ليجمع القلب إلى القلب، ويضم الصف إلى الصف، مستهدفا إقامة كيان موحد، ومتقيا عوامل الفرقة والضعف، وأسباب الفشل والهزيمة، ليكون لهذا الكيان الموحد القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، والاهداف الصالحة التي جاءت بها رسالته العظمى: من عبادة الله، وإعلاء كلمته، وإقامة الحق، وفعل الخير، والجهاد من أجل استقرار المبادئ التي يعيش الناس في ظلها آمنين. فهو لهذا كله يكون روابط وصلات بين أفراد المجتمع، لتخلق هذا الكيان وتدعمه. وهذه الروابط تتميز بأنها روابط أدبية، قابلة للنماء والبقاء، وليست كغيرها من الروابط المادية التي تنتهي بانتهاء دواعيها، وتنقضي بانقضاء الحاجة إليها. إنها روابط أقوى من روابط: الدم، واللون، واللغة، والوطن والمصالح المادية، وغير ذلك مما يربط بين الناس. وهذه الروابط من شأنها أن تجعل بين المسلمين تماسكا قويا، وتقيم منهم كيانا يستعصي على الفرقة وينأى عن الحل. وأول رباط من الروابط الادبية هو رباط الايمان، فهو المحور الذي تلتقي عنده الجماعة المؤمنة. فالايمان يجعل من المؤمنين إخاء أقوى من إخاء النسب. " إنما المؤمنون إخوة ". " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ". " المسلم أخو المسلم ". وطبيعة الايمان تجمع ولا تفرق، وتوحد ولا تشتت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 " المؤمن ألف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ". والمؤمن قوة لاخيه. " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ". وهو يحس بإحساسه، ويشعر بشعوره، فيفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويرى أنه جزء منه. " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". والاسلام يدعم هذا الرباط ويقوي هذه العلاقة بالدعوة إلى الاندماج في الجماعة والانتظام في سلكها. وينهى عن كل ما من شأنه أن يوهن من قوته أو يضعف من شدته، فالجماعة دائما في رعاية الله وتحت يده. " يد الله مع الجماعة، ومن شذ، شذ في النار ". وهي المتنفس الطبيعي للانسان، ومن ثم كانت رحمة. " الجماعة رحمة، والفرقة عذاب ". والجماعة مهما صغرت فهي على أي حال خير من الوحدة، وكلما كثر عددها، كانت أفضل وأبر. " الاثنان خير من واحد، والثلاثة خير من الاثنين، والاربعة خير من الثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله لن يجمع أمي إلا على الهدى ". وعبادات الاسلام كلها لا تؤدى إلا جماعة. فالصلاة تسن فيها الجماعة، وهي تفضل صلاة الفذ (1) بسبع وعشرين درجة. والزكاة معاملة بين الاغنياء والفقراء. والصيام مشاركة جماعية، ومساواة في الجوع في فترة معينة من الوقت. والحج ملتقى عام للمسلمين جميعا كل عام، يجتمعون من أطراف الارض على أقدس غاية. " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرأون القرآن ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الرحمة، وذكرهم الله في ملا عنده ".   (1) الفذ: الفرد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 ولقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام، يحرص على أن يجتمع المسلمون حتى في المظهر الشكلي: فقد رآهم يوما وقد جلسوا متفرقين، فقال لهم: " اجتمعوا " فاجتمعوا، فلو بسط عليهم ثوبه لوسعهم. وإذا كانت الجماعة هي القوة التي تحمي دين الله، وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي التي تقضي على الدين والدنيا معا. ولقد نهى عنها الاسلام أشد النهي، إذ أنها الطريق المفتوح للهزيمة، ولم يؤت الاسلام من جهة كما أتي من جهة الفرقة التي ذهبت بقوة المسلمين، والتي تخلف عنها: الضر، والفشل، والذل، وسائر ما يعانون منه. " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ". " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ". " واعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا ". " ولا تكونوا من المشركين - من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ". " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ ". " لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ". ولن تصل الجماعة إلى تماسكها إلا إذا بذل لها كل فرد من ذات نفسه، وذات يده، وكان عونا لها في كل أمر من الامور التي تهمها. سواء أكانت هذه المعاونة معاونة مادية أو أدبية، وسواء أكانت معاونة ب: المال، أو العلم، أو الرأي، أو المشورة. فالناس عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. " خير الناس أنفعهم للناس ". " إن الله يحب إغاثة اللهفان ". " اشفعوا تؤجروا ". المؤمن مرآة المؤمن، يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه. " إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى منه أذى فليحطه عنه ". وهكذا يعمل الاسلام على تحقيق هذه الروابط حتى يخلق مجتمعا متماسكا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وكيانا قويا، يستطيع مواجهة الاحداث، ورد عدوان المعتدين. وما أحوج المسلمين في هذه الاونة إلى هذا التجمع. إنهم بذلك يقيمون فريضة إسلامية، ويحرزون كسبا سياسيا، ويحققون قوة عسكرية، تحمي وجودهم، ووحدة اقتصادية توفر لهم كل ما يحتاجون إليه من ثروات. لقد ترك الاستعمار آثارا سيئة، من: ضعف في التدين، وانحطاط في الخلق، وتخلف في العلم، ولا يمكن القضاء على هذه الافات الاجتماعية الخطيرة، إلا إذا عادت الامة موحدة الهدف، متراصة البنيان، مجتمعة الكلمة، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا. قتال البغاة هذا هو الاصل في العلاقات والروابط التي تربط بين المسلمين، فإذا حدث أن تقطعت بينهم هذه العلاقات، وانفصلت عرى الاخاء، وبغى بعضهم على بعض، وجب قتال الباغي حتى يرجع إلى العدل، وإلى الانتظام في سلك الجماعة. يقول الله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " (1) . فالاية تقرر أن المؤمنين إذا تقاتلوا وجب على جماعة من ذوي الرأي أن تتدخل فورا، وتصلح بين المتقاتلين، فإن بغت طائفة على الاخرى، ولم ترضخ للصلح، ولم تستجب له، وجب على المسلمين جميعا أن يتجمعوا لقتال هذه الطائفة الباغية. وقد قاتل الامام علي الفئة الباغية، كما قاتل أبو بكر الصديق مانعي الزكاة، وقد اتفق الفقهاء على أن هذه الفئة الباغية لا تخرج عن الاسلام ببغيها لان القرآن الكريم وصفها بالايمان، مع مقاتلتها، فقال:   (1) سورة الحجرات: الاية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ". ولهذا فإن مد برهم لا يقتل، وكذلك جريحهم، وأن أموالهم لا تغنم، وأن نسائهم وذراريهم لا تسبى، ولا يضمنون ما أتلفوا حال الحرب، من نفس ومن مال. وأن من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه. أما من قتل من الطائفة العادلة، فإنه يكون شهيدا، فلا يغسل ولا يصلى عليه، لانه قتل في قتال أمر الله به، فهو مثل الشهيد في معركة الكفار. هذا إذا كان الخروج على إمام المسلمين الذي اجتمعت عليه الجماعة في قطر من الاقطار، وكان هذا الخروج مصحوبا بامتناع عن أداء الحقوق المقررة بمصلحة الجماعة أو مصلحة فراد، بأن يكون القصد منه عزل الامام. وجملة القول انه لا بد من صفات خاصة يتميز بها الخارجون حتى ينطبق عليهم وصف " البغاة ". وجملة هذه الصفات هي: 1 - الخروج عن طاعة الحاكم العادل التي أوجبها الله على المسلمين لاولياء أمورهم. 2 - أن يكون الخروج من جماعة قوية، لها شوكة وقوة، بحيث يحتاج لحاكم في ردهم إلى الطاعة، إلى إعداد رجال ومال وقتال. فإن لم تكن لهم قوة، فإن كانوا أفرادا، أو لم يكن لهم من العتاد ما يدفعون به عن أنفسهم، فليسوا ببغاة، لانه يسهل ضبطهم وإعادتهم إلى الطاعة. 3 - أن يكون لهم تأويل سائغ يدعوهم إلى الخروج على حكم الامام، فإن لم يكن لهم تأويل سائغ كانوا محاربين، لا بغاة. 4 - أن يكون لهم رئيس مطاع يكون مصدرا لقوتهم، لانه لا قوة لجماعة لا قيادة لها. هـ ذا هو شأن البغاة وحكم الله فيه. أما إذا كان القتال لاجل الدنيا، وللحصول على الرئاسة ومنازعة أولي الامر، فهذا الخروج يعتبر محاربة ويكون للمحاربين حكم آخر يخالف حكم الباغين، وهذا الحكم هو الذي ذكره الله في قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الارض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم " (1) . فهؤلاء المحاربون جزاؤهم القتل أو الصلب أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف، أو الحبس والنفي من الارض: حسب رأي الحاكم فيهم، وجرائمهم التي ارتكبوها، ومن قتل منهم فهو في النار، ومن قتل من مقاتليهم فهو شهيد. فإذا كان القتال صادرا من الطائفتين، لعصبية، أو طلب رئاسة، كان كل من الطائفتين باغيا، ويأخذ حكم الباغي. العلاقة بين المسلمين وغيرهم علاقة المسلمين بغيرهم علاقة تعارف، وتعاون، وبر، وعدل. يقول الله سبحانه في التعارف المفضي إلى التعاون: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " (2) . ويقول في الوصاة بالبر والعدل: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين " (3) . ومن مقتضيات هذه العلاقة تبادل المصالح، واطراد المنافع، وتقوية الصلات الانسانية. وهذا المعنى لا يدخل في نطاق النهي عن موالاة الكافرين، إذ أن النهي   (1) سورة المائدة: الايتان 33، 34. (2) سورة الحجرات الاية: 13. (3) سورة الممتحنة: الاية 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 عن موالاة الكافرين يقصد به النهي عن محالفتهم ومناصرتهم ضد المسلمين، كما يقصد به النهي عن الرضى بما هم فيه من كفر، إذ أن مناصرة الكافرين على المسلمين فيه ضرر بالغ بالكيان الاسلامي، وإضعاف لقوة الجماعة المؤمنة، كما أن الرضى بالكفر كفر يحظره الاسلام ويمنعه. أما الموالاة بمعنى المسالمة، والمعاشرة الجميلة، والمعاملة بالحسنى، وتبادل المصالح، والتعاون على البر والتقوى، فهذا مما دعا إليه الاسلام. كفالة الحرية الدينية لغير المسلمين : ولهذا قرر الاسلام المساواة بين الذميين والمسلمين، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم الدينية. وتتمثل حريتهم الدينية فيما يأتي: (أولا) عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة. يقول الله سبحانه وتعالى: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " (1) . (ثانيا) من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم، فلا تهدم لهم كنيسة، ولا يكسر لهم صليب. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: " اتركوهم وما يدينون ". بل من حق زوجة المسلم " اليهودية والنصرانية " أن تذهب إلى الكنيسة أو إلى المعبد، ولا حق لزوجها في منعها من ذلك. (ثالثا) أباح لهم الاسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، فلا يقتل لهم خنزير، ولا تراق لهم خمر، مادام ذلك جائزا عندهم، وهو بهذا وسع عليهم أكثر من توسعته على المسلمين الذين حرم عليهم الخمر والخنزير. (رابعا) لهم الحرية في قضايا الزواج، والطلاق، والنفقة، ولهم أن يتصرفوا كما يشاءون فيها، دون أن توضع لهم قيود أو حدود. (خامسا) حمى الاسلام وكرامتهم، وصان حقوقهم، وجعل لهم   (1) سورة البقرة: الاية 256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 الحرية في الجدل والمناقشة في حدود العقل والمنطق، مع التزام الادب والبعد عن الخشونة والعنف. يقول الله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون " (1) . (سادسا) سوى بينهم وبين المسلمين في العقوبات، في رأي بعض المذاهب. وفي الميراث سوى في الحرمان بين الذمي والمسلم، فلا يرث الذمي قريبه المسلم، ولا يرث المسلم قريبه الذمي. (سابعا) أحل الاسلام طعامهم، والاكل من ذبائحهم، والتزوج بنسائهم. يقول الله سبحانه: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان، ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين " (2) . (ثامنا) أباح الاسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا لهم، ومبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات، فمن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دين له عليه، وكان بعض الصحابة إذا ذبح شاة يقول لخادمه ابدأ بجارنا اليهودي. قال صاحب البدائع: " ويسكنون في أمصار المسلمين، يبيعون ويشترون، لان عقد الذمة شرع ليكون وسيلة إلى اسلامهم، وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ في هذا المقصود، وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع والشراء.   (1) سورة العنكبوت: الاية 46. (2) سورة المائدة: الاية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 الموالاة المنهي عنها هذا هو الاصل في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا تتبدل هذه العلاقة إلا إذا عمل غير المسلمين - من جانبهم - على تقويض هذه العلاقة وتمزيقها بعداوتهم للمسلمين، وإعلانهم الحرب عليهم. فتكون المقاطعة أمرا دينيا وواجبا إسلاميا، فضلا عن أنها عمل سياسي عادل، فهي معاملة بالمثل. والقرآن يوجه أنظار أتباعه إلى هذه الحقيقة، ويحكم فيها الحكم الفصل، فيقول: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " (1) . وقد تضمنت الاية المعاني الاتية: (أولا) التحذير من الموالاة والمناصرة للاعداء، لما فيها من التعرض للخطر. (ثانيا) أن من يفعل ذلك فهو مقطوع عن الله، لا يربطه به رابط. (ثالثا) أنه في حالة الضعف والخوف من أذاهم تجوز الموالاة ظاهرا ريثما يعدون أنفسهم لمواجهة الذي يتهددهم. وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول: " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما - الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا - الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " (2) .   (1) سورة آل عمران: الاية 28. (2) سورة النساء: الايات 139، 140، 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 وقد تضمنت هذه الايات ما يأتي: (أولا) أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء، يوالونهم بالمودة، وينصرونهم في السر، متجاوزين ولاية المؤمنين ومعرضين عنها. (ثانيا) أنهم بعملهم هذا يطلبون عند الكافرين العزة والقوة، وهم بذلك مخطئون، لان العزة والقوة كلها لله وللمؤمنين: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " (1) . (ثالثا) أن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحل بالمؤمنين، فإن كان لهم فتح من الله ونصر، قالوا: نحن معكم في الدين والجهاد، وإن كان للكافرين نصيب من النصر، قال هؤلاء المنافقون للكافرين: ألم نحافظ عليكم ونمنعكم من إيذاء المؤمنين لكم بتخذيلهم وإطلاعكم على أسرارهم حتى انتصرتم، فأعطونا مما كسبتم. (رابعا) ان الله سبحانه لن يجعل للكافرين على المؤمنين المخلصين في إيمانهم القائمين على حدود الله، طريقا إلى النصر عليهم، أي لا يمكنهم من أن يغلبوهم. وقد كان رجال من المسلمين يوالون رجالا من الكفار لما كان بينهم من قرابة أو جوار أو مخالفة، وكانت هذه الموالاة خطرا على سلامة المسلمين، فأنزل الله عز وجل محذرا من هذه الولاية الضارة، فقال: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون " (2) . ففي هذه الاية النهي عن اتخاذ غير المؤمنين بطانة وأصدقاء، أي خاصة تطلعونهم على أسراركم، لان هذه البطانة لا تقصر في إفساد أمركم، وأنهم يحبون ويتمنون إبقاع الضرر بكم. وقد ظهرت علامات بغضهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها عندهم   (1) سورة المنافقون: الاية 8. (2) سورة آل عمران: الاية 118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 يصعب عليهم إخفاؤها، وما تخفيه صدورهم من البغض لكم أقوى وأشد مما يفلت من ألسنتهم. وطبيعة الايمان تأبى على المؤمن أن يوالي عدوه الذي يتربص به الدوائر، ولو كان أقرب الناس إليه. يقول القرآن الكريم: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " (1) . فالاية تبين أنه لا يصح أن يوجد بين المؤمنين من يصادقون أعداءهم، ولو كان هؤلاء الاعداء آباء المؤمنين، أو أبنائهم، أو إخوانهم الاقربين. إن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بين واضح، وإن ذلك خيانة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولائمة المسلمين وعامتهم، وأنهم لم يراعوا حق الاسلام، ولا حق التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر حق المنطقة ولا حق مستقبلها. وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا، قد باعوا أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم الخزي والعار: خزي الدهر وعار الابد.   (1) سورة المجادلة: الاية 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 الإعتراف بحق الفرد : والاسلام - بعد أن أشاد بمبدأ السلام وجعل العلاقة بين الناس علاقة أمن وسلام - احترم الانسان وكرمه من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن جنسه، ولونه، ودينه، ولغته، ووطنه، وقوميته، ومركزه الاجتماعي. يقول الله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ". (1) . ومن مظاهر هذا التكريم أن الله خلق الانسان بيده، ونفخ فيه من وحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الارض جميعا منه، وجعله سيدا على هذا الكوكب الارضي، واستخلفه فيه ليقوم بعمارته وإصلاحه. ومن أجل أن يكون هذا التكريم حقيقة واقعة وأسلوبا في الحياة، كفل الاسلام جميع حقوق الانسان، وأوجب حمايتها وصيانتها، سواء أكانت حقوقا دينية، أو مدنية، أو سياسية. ومن هذه الحقوق: (1) حق الحياة: لكل فرد حق صيانة نفسه، وحماية ذاته. فلا يحل الاعتداء عليها إلا إذا قتل، أو أفسد في الارض فسادا يستوجب القتل. يقول الله تعالى: " من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " (2) . وفي الحديث الصحيح: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:   (1) سورة الاسراء: الاية 70. (2) سورة المائدة: الاية 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 " النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة ". (2) حق صيانة المال: فكما أن النفس معصومة، فكذلك المال، فلا يحل أخذ المال بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة. يقول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: " من أخذ مال أخيه بيمينه، أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة ". فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟. فقال: " وإن كان عودا من أراك ". والاراك هو الشجر الذي يؤخذ منه السواك. (3) حق العرض: ولا يحل انتهاك العرض حتى ولا بكلمة نابية. يقول الله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة ". (2) (4) حق الحرية: ولم يكتف الاسلام بتقرير صيانة الانفس، وحماية الاعراض والاموال، بل أقر حرية العبادة، وحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة التي يمارسها الانسان لكسب عيشه، وحرية الاستفادة من جميع مؤسسات الدولة. وأوجب الاسلام على الدولة المحافظة على هذه الحقوق جميعها، وإن حقوق الانسان لا تنتهي عند هذا الحد، بل هناك حقوق أخرى، منها: (1) حق المأوى: فالانسان له الحق في أن يأوي إلى أي مكان، وأن يسكن في أي جهة، وأن ينتقل في الارض دون حجر عليه أو وضع عقبات في طريقه، ولا يجوز نفي أي فرد أو إبعاده أو سجنه إلا في حالة ما إذا اعتدى على حق غيره، ورأى القانون أن يعاقبه بالطرد أو الحبس. ويكون ذلك في حالة الاعتداء على الغير، والاخلال بالامن، وإرهاب الابرياء.   (1) سورة النساء: الاية 29. (2) سورة الهمزة: الاية 1. والويل: هو العذاب الشديد، والهمزة: الذي يعيب الناس، وينشر ما يبدو له بطريق الاشارة المعبرة، واللمزة: هو الذي يتحدث عن العيوب، ويذيعها بين الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وفي ذلك يقول الله تعالى: " إنما جزاء اللذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ". (1) (2) حق التعلم وإبداء الرأي: ومن الحقوق كذلك حق التعلم: فمن حق كل فرد أن يأخذ من التعليم ما ينير عقله، ويرقي وجوده، ويرفع من مستواه. ومن حق الانسان كذلك، أن يبين عن رأيه ويدلي بحجته ويجهر بالحق ويصدع به. والاسلام يمنع من مصادرة الرأي ومحاربة الفكر الحر، إلا إذا كان ذلك ضارا بالمجتمع. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على أن يجهروا بالحق، وإن كان مرا، وعلى ألا يخافوا في الله لومة لائم، ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن: " الساكت عن الحق شيطان أخرس ". وفي ذلك يقول القرآن الكريم: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله. ويلعنهم اللاعنون - إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ". (2) وأخيرا، وليس آخرا: يقرر الاسلام أن من حق الجائع أن يطعم، ومن حق العاري أن يكسى، والمريض أن يداوى، والخائف أن يؤمن، دون تفرقة بين لون ولون، أو دين ودين، فالكل في هذه الحقوق سواء. هذه هي تعاليم الاسلام في تقرير بعض حقوق الانسان، وهي تعاليم فيها الصلاح والخير لهذه الدنيا جميعها.   (1) سورة المائدة: الاية 33. (2) سورة البقرة: الايتان: 159، 160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وأعظم ما فيها أنها سبقت جميع المذاهب التي تحدثت عن حقوق الانسان، وأن الاسلام جعل هذه التعاليم دينا يتقرب به إلى الله. كما يتقرب بالصلاة وغيرها من العبادات. جريمة إهدار الحقوق : إن هده الحقوق هي التي تمنح الانسان الانطلاق إلى الافاق الواسعة ليبلغ كماله، ويحصل على ارتقائه المقدر له، سواء أكان ماديا أم أدبيا. ومن ثم، فإن أي تفويت أو تنقيص لحق من حقوق الانسان يعتبر جريمة من الجرائم، وهذا نفسه هو السبب الحقيقي في منع الاسلام للحرب أيا كان نوعها، لان الحرب بجانب كونها اعتداء على الحياة - وهي حق مقدس - فهي تدمير لما تصلح به الحياة. وقد منع حرب التوسع، وبسط النفوذ، وسيادة القوي، فقال: " تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا، والعاقبة للمتقين ". (1) ومنع حرب الانتقام والعدوان، فقال: " ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) " ومنع حرب التخريب والتدمير فقال: " ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها (3) ".   (1) سورة القصص: الاية 83. (2) سورة المائدة: الاية 2. (3) سورة الاعراف: الاية 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 متى تشرع الحرب وإذا كانت القاعدة هي السلام، والحرب هي الاستثناء فلا مسوغ لهذه الحرب - في نظر الاسلام - مهما كانت الظروف، إلا في إحدى حالتين: (الحالة الاولى) حالة الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن عند الاعتداء. يقول الله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ". (1) وعن سعد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد ". رواه أبو داود والترمذي والنسائي. ويقول الله سبحانه: " ومالنا ألا تقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". (2) (الحالة الثانية) حالة الدفاع عن الدعوة إلى الله إذا وقف أحد في سبيلها. بتعذيب من آمن بها، أو بصد من أراد الدخول فيها، أو بمنع الداعي من تبليغها، ودليل ذلك: (أولا) أن الله سبحانه يقول: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين - فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم - وقاتلوهم حتى   (1) سورة البقرة: الاية 190. (2) سورة البقرة: الاية 246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " (1) وقد تضمنت هذه الايات ما يأتي: 1 - الامر بقتال الذين يبدءون بالعدوان ومقاتلة المعتدين، لكف عدوانهم. والمقاتلة دفاعا عن النفس أمر مشروع في كل الشرائع، وفي جميع المذاهب، وهذا واضح من قوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " 2 - أما الذين لا يبدءون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم ابتداء، لان الله نهى عن الاعتداء، وحرم البغي والظلم في قوله: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ". 3 - وتعليل النهي عن العدوان بأن الله لا يحب المعتدين دليل على أن هذا النهي محكم غير قابل للنسخ، لان هذا إخبار بعدم محبة الله للاعتداء والاخبار لا يدخله النسخ لان الاعتداء هو الظلم، والله لا يحب الظلم أبدا. 4 - أن لهذه الحرب المشروعة غاية تنتهي إليها، وهي منع فتنة المؤمنين والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حرياتهم ليمارسوا عبادة الله ويقيموا دينه، وهم آمنون على أنفسهم من كل عدوان. (ثانيا) يقول الله سبحانه: " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ". (2) وقد بينت هذه الاية سببين من أسباب القتال: (أولهما) القتال في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. (وثانيهما) القتال في سبيل المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا الهجرة، فعذبتهم قريش وفتنتهم حتى طلبوا من الله الخلاص،   (1) سورة البقرة: الايات 190، 191، 192، 193. (2) سورة النساء: الاية 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 فهؤلاء لا غنى لهم عن الحماية التي تدفع عنهم أذى الظالمين، وتمكنهم من الحرية، فيما يدينون ويعتقدون. (ثالثا) يقول الله سبحانه: " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ". (1) فهؤلاء القوم الذين لم يقاتلوا قومهم، ولم يقاتلوا المسلمين واعتزلوا محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالا حقيقيا يريدون به السلام، فهؤلاء لا سبيل للمؤمنين عليهم. (رابعا) أن الله تعالى يقول: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - وإن يريدوا أن يخدعوكم فإن حسبك الله ". (2) ففي هذه الآية الامر بالجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليها، حتى ولو كان جنوحه خداعا ومكرا. (خامسا) أن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلها دفاعا، ليس فيها شئ من العدوان. وقتال المشركين من العرب، ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جاريا على هذه القاعدة. وهذا بين في قوله تعالى: " ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين - قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء الله عليم حكيم (3) ". ولما تجمعوا جميعا ورموا المسلمين عن قوس واحدة، أمر الله بقتالهم جميعا يقول الله سبحانه: " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم   (1) سورة النساء: الآية 90. (2) سورة الانفال: الآيتان 61، 62. (3) سورة التوبة: الآيات 13، 14، 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 كافة، واعلموا أن الله مع المتقين ". (1) وأما قتال اليهود، فإنهم كانوا قد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، ثم لم يلبثوا أن نقضوا العهد وانضموا إلى المشركين والمنافقين ضد المسلمين، ووقفوا محاربين لهم في غزوة الاحزاب، فأنزل الله سبحانه: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ". (2) وقال أيضا: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين " (3) (سادسا) أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة، فقال: " ما كانت هذه لتقاتل ". فعلم من هذا أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل مع المقاتلين، فكانت مقاتلتهم لنا هي سبب مقاتلتنا لهم، ولم يكن الكفر هو السبب. (سابعا) أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الرهبان والصبيان، لنفس السبب الذي نهى من أجله عن قتل المرأة. (ثامنا) أن الاسلام لم يجعل الاكراه وسيلة من وسائل الدخول في الدين، بل جعل وسيلة ذلك استعمال العقل وإعمال الفكر، والنظر في ملكوت السموات والارض. يقول الله سبحانه: " ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون - قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ". (4) وقال: " لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ". (5)   (1) سورة التوبة: الآية 36. (2) سورة التوبة: الآية 29. (3) سورة التوبة: الآية 123. (4) سورة يونس: الآيات 99، 100، 101. (5) سورة البقرة: الآية 256. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأسر الاسرى، ولم يعرف أنه أكره أحدا منهم على الاسلام. وكذلك كان أصحابه يفعلون. روى أحمد عن أبي هريرة " أن ثمامة الحنفي أسر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو عليه فيقول: " ما عندك يا ثمامة؟..". فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حسن إسلام أخيكم ". أما النصارى وغيرهم فلم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم. حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الاسلام، فأرسل إلى قيصر، وإلى كسرى، وإلى المقوقس، وإلى النجاشي وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الاسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم. فالنصارى حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما. فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل الرسول سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم أمر عبد الله بن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى - بمؤتة من أرض الشام - واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الامراء رضي الله عنهم، وأخذ الراية خالد بن الوليد. ومما تقدم يتبين بجلاء، أن الاسلام لم يأذن بالحرب إلا دفعا للعدوان، وحماية للدعوة، ومنعا للاضطهاد، وكفاية لحرية التدين، فإنها حينئذ تكون فريضة من فرائض الدين، وواجبا من واجباته المقدسة ويطلق عليها اسم " الجهاد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 الجهاد : الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، يقال: جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة، إذا استفرغ وسعه، وبذل طاقته، وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته، وهوما يعبر عنه بالحرب في العرف الحديث، والحرب هي القتال المسلح بين دولتين فأكثر، وهي أمر طبيعي في البشر، لاتكاد تخلو منه أمة ولا جيل وقد أقرته الشرائع الالهية السابقة. ففي أسفار التوراة التي يتداولها اليهود، تقرير شريعة الحرب والقتال في أبشع صورة من صور التخريب والتدمير والاهلاك والسبي. فقد جاء في سفر التثنية في الاصحاح العشرين عدد 10 ومابعده، ما يأتي نصه: " حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء، والاطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما - الحثيين والاموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليوسيين، كما أمرك الرب إلهك ". وفي إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين، في الاصحاح العاشر عدد 24 وما بعده يقول: " لا تظنوا أني جئت لالقي سلاما على الارض، ما جئت لالقي سلاما، بل سيفا، فإنني جئت لافرق الانسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 حماتها، وأعداء الانسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني، فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني، فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني، فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ". والقانون الدولي أقر الظروف والاحوال التي تشرع فيها الحرب، ووضع لها القواعد، والمبادئ، والنظم، التي تخفف من شرورها وويلاتها، وإن كان لم يتم شئ من ذلك عند التطبيق. تشريع الجهاد في الاسلام أرسل الله رسوله إلى الناس جميعا، وأمره أن يدعو إلى الهدى ودين الحق ولبث في مكة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وكان لابد من أن يلقى مناوأة من قومه الذين رأوا أن الدعوة الجديدة خطر على كيانهم المادي والادبي. فكان توجيه الله له أن يلقى هذه المناوأة بالصبر، والعفو، والصفح الجميل. " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ". (1) " فاصفح عنهم، وقل سلام، فسوف يعلمون ". (2) " فاصفح الصفح الجميل ". (3) " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ". (4) ولم يأذن الله بأن يقابل السيئة بالسيئة، أو يواجه الاذى بالاذى، أو يحارب الذين حاربوا الدعوة، أن يقاتل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. " ادفع بالتي هي أحسن السيئة، نحن أعلم بما يصفون ". (5)   (1) سورة الطور: الآية 48. (2) سورة الزخرف: الآية 89. (3) سورة الحجر: الآية 85. (4) سورة الجاثية: الآية 14. (5) سورة المؤمنون: الآية 96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وكل ما أمر به جهادا في هذه الفترة أن يجاهد بالقرآن، والحجة، والبرهان. " وجاهدهم جهادا كبيرا ". (1) ولما اشتد الاذى، وتتابع الاضطهاد حتى وصل قمته بتدبير مؤامرة لاغتيال الرسول الكريم، اضطر أن يهاجر من مكة إلى المدينة، ويأمر أصحاب بالهجرة إليها بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة. " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ". (2) " إلا تنصروه، فقد نصره الله ". (3) وفي المدينة - عاصمة الاسلام الجديدة - تقرر الاذن بالقتال حين أطبق عليهم الاعداء، واضطروا إلى امتشاق الحسام، دفاعا عن النفس، وتأمينا للدعوة. وكان أول آية نزلت قول الله سبحانه: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور ". (4) وفي هذه الآيات تعليل للاذن بالقتال بأمور ثلاثة: 1 - انهم ظلموا بالاعتداء عليهم، وإخراجهم من ديارهم بغير حق إلا أن يدينوا دين الحق، ويقولوا: ربنا الله. 2 - انه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع، لهدمت جميع المعابد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا، بسبب ظلم الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.   (1) سورة الفرقان: الآية 53. (2) سورة الانفال: الآية 30. (3) سورة التوبة: الآية 40. (4) سورة الحج: الآية 39، 40، 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 3 - ان غاية النصر، والتمكين في الارض، والحكم: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ايجابه وفي السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال، وأوجبه بقوله تعالى: " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". (1) الجهاد فرض كفاية (2) : والجهاد ليس فرضا على كل فرد من المسلمين، وإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض، واندفع به العدو، وحصل به الغناء، سقط عن الباقين. (2) من الفرائض ما يجب على كل فرد أن يقوم به ولا يسقط بإقامة البعض له، مثل: الايمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. فهذه فرائض عينية، يلزم كل فرد أداؤها، ولا يحل له أن يقصر فيها. ومن الفرائض ما يجب على بعض الناس دون البعض الآخر، وتسمى هذه الفرائض بفروض الكفاية وهي أنواع: 1 - النوع الاول ديني، مثل: العلم، والتعلم، وحكم الشبهات، والرد على الشكوك التي تثار حول الاسلام، وصلاة الجنازة، وإقامة الجماعة، والآذان، ونحو ذلك. 2 - والنوع الثاني ما يتصل بإصلاح النظام المعيشي، مثل: الزراعة، والصناعة، والطب، ونحو ذلك من الحرف التي يضر تعطيلها أمر الدين والدنيا. 3 - والنوع الثالث من الفروض الكفائية ما يشترط فيه الحاكم، مثل: الجهاد، وإقامة الحدود فإن هذه من حق الحاكم وحده، وليس لاي فرد أن يقيم الحد على غيره. 4 - والنوع الرابع ما لا يشترط فيه الحاكم، مثل: الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الفضائل، ومطاردة الرذائل. فهذه الفروض الكفائية لا تجب على كل فرد، وإنما الواجب أن ينهض بها بعض الافراد، فإذا قاموا بها، وحصلت بهم الكفاية، سقط الوجوب عن الافراد جميعا. وإذا لم يقوموا بها، أثموا جميعا.   (1) سورة البقرة: الآية 216. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 يقول الله تعالى: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. " (1) وقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ". (2) وفي البخاري " ويذكر عن ابن عباس " انفروا ثبات ": سرايا متفرقين. وقال سبحانه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة كلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ". (3) وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بعثا إلى بني لحيان - من هذيل - فقال: " لينبعث من كل رجلين أحدهما، والاجر بينهما ". ولانه لو وجب على الكل لفسدت مصالح الناس الدنيوية، فوجب أن لا يقوم به إلا البعض. متى يكون الجهاد فرض عين؟ ولايكون الجهاد فرض عين إلا في الصور الآتية: 1 - أن يحضر المكلف صف القتال، فإن الجهاد يتعين في هذه الحال. يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ". (4)   (1) سورة التوبة: الآية 122. (2) سورة النساء: الآية 71. والنفير: الخروج لقتال الكفار. (3) سورة النساء: الآية 95. (4) سورة الانفال: الآية 45 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ويقول الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ". (1) 2 - إذا حضر العدو المكان أو البلد الذي يقيم به المسلمون، فإنه يجب على أهل البلد جميعا أن يخرجوا لقتاله، ولا يحل لاحد أن يتخلى عن القيام بواجبه نحو مقاتلته إذا كان لا يمكن دفعه إلا بتكتلهم عامة، ومناجزتهم إياه. يقول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ". (2) 3 - إذا استنفر الحاكم أحدا من المكلفين، فإنه لا يسعه أن يتخلى عن الاستجابة إليه. لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهادونية، وإذا استنفرتم فانفروا " (3) رواه البخاري. أي إذا طلب منكم الخروج إلى الحرب فاخرجوا. يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ". (4) على من يجب؟ يجب الجهاد على المسلم، الذكر، العاقل، البالغ، الصحيح، الذي يجد من المال ما يكفيه ويكفي أهله حتى يفرغ من الجهاد. فلا يجب على غير المسلم، ولا على المرأة، ولا على الصبي، ولا على المجنون، ولا على المريض، فلا حرج على واحد من هؤلاء في التخلف عن   (1) سورة الانفال: الآية 15. (2) سورة التوبة: الآية 123. (3) أي لاهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، وكانت هذه الهجرة فرضا في أول الاسلام فنسخت بهذا الحديث. أما الهجرة من دار الحرب إلى الاسلام فهي لم تنسخ، بل هي مفروضة على من لا يأمن فيها على دينه. (4) سورة التوبة: الآية 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 الجهاد، لان ضعفهم يحول بينهم وبين الكفاح، وليس لهم غناء يعتد به في الميدان. وربما كان وجودهم أكثر ضررا، مع قلة نفعه. وفي هذا يقول الله سبحانه: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ". (1) ويقول الله تبارك وتعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولاعلى المريض حرج ". (2) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ". رواه: البخاري ومسلم. ولانه عبادة، فلا يجب إلا على بالغ. روى أحمد، والبخاري، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: " قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟..قال: جهاد لاقتال فيه: الحج والعمرة ". وفي رواية: لكن أفضل الجهاد حج مبرور. وروى الواحدي، والسيوطي، في " الدر المنثور " عن مجاهد، قال: " قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟! ". فأنزل الله تعالى: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما ". (3) ورويا عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد، فقلن:   (1) سورة التوبة: الآية 91. (2) سورة الفتح: الآية 17. (3) سورة النساء: الآية 32، أي أنه للرجال عمل خاص بهم، كلفوا به، وللنساء عمل خاص بهن، كلفن به، فلا يصح أن يتمنى كل من الفريقين عمل الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 " وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الاجر ما يصيب الرجال "، فنزلت الآية. وهذا لايمنع من خروجهن للتمريض ونحوه. عن أنس رضي الله عنه قال: " لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكرو أم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما (1) تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفر غانها في أفواه القوم ". رواه الشيخان. وعنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الانصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى ". رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي. اذن الوالدين الجهاد الواجب لا يعتبر فيه إذن الوالدين. أما جهاد التطوع، فإنه لابد فيه من إذن الوالدين المسلمين الحرين، أو إذن أحدهما. قال ابن مسعود: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي: قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ". رواه البخاري، ومسلم. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد. فقال: أحي والداك؟ قال: نعم؟ قال: ففيهما فجاهد ". رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه. وفي كتاب شرعة الاسلام: " ولا يخرج إلى الجهاد إلامن كان فارغا عن الاهل والاطفال وعن خدمة الوالدين، فإن ذلك مقدم على الجهاد، بل هو أفضل الجهاد ".   (1) أي الخلاخل في سوقهما، وسمي الخلخال خدمة بفتحتين، لانه ربما كان من سيور مركب فيها ذهب وفضة، والخدمة في الاصل السير، والخدم موضع الخلخال من الساق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 اذن الدائن وكذلك لا يتطوع به مدين لا وفاء له إلا مع إذن، أو وهن محرز، أو كفيل ملئ. فعند أحمد، ومسلم، من حديث أبي قتادة: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك ". الاستعانة بالفجرة والكفرة على الغزو يجوز الاستعانة بالمنافقين، والفسقة، على قتال الكفرة، وقد كان عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقصة أبي محجن الثقفي - الذي كان يدمن شرب الخمر - وبلاؤه في حرب فارس مشهورة. وأما قتال الكفرة مع المسلمين فاختلفت فيها آراء الفقهاء: فقال مالك وأحمد: " لا يجوز أن يستعان بهم، ولا أن يعاونوا على الاطلاق ". قال مالك: " إلا أن يكونوا خداما للمسلمين، فيجوز ". وقال أبو حنيفة: " يستعان بهم، ويعاونون على الاطلاق، الاسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره ". وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين: (أحدهما) أن يكون بالمسلمين قلة ويكون بالمشركين كثرة. (والثاني) أن يعلم من المشركين حسن رأي في الاسلام وميل إليه. ومتى استعان بهم رضخ لهم ولم يسهم: أي أعطاهم مكافأة ولم يشركهم في سهام المسلمين من الغنيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 الاستنصار بالضعفاء : 1 - عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: رأى أبي أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟! ". رواه البخاري، والنسائي. ولفظ النسائي: " إنما ينصر الله هذه الامة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم ". 2 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " ابغوني في الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ". رواه أصحاب السنن. 3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رب أشعث، مدفوع بالباب، لو أقسم على الله لابره " (1) .   (1) أي أن الرجل قد يبدو في هيئة لا تسترعي الانظار، ولكنه قوي الايمان، صادق اليقين، فلودعا ربه لاستجاب له بمجرد دعائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فضل الجهاد : الجهاد أفضل نوع من أنواع التطوع: الجهاد: إعلاء لكلمة الله، وتمكين لهدايته في الارض، وتركيز للدين الحق، ومن ثم كان أفضل من تطوع الحج، والعمرة، وأفضل من تطوع الصلاة، والصوم. وهومع ذلك ينتظم كل لون من ألوان العبادات، سواء منها ما كان من عبادات الظاهر أو الباطن، فإن فيه من عبادات الباطن الزهد في الدنيا، ومفارقة الوطن، وهجرة الرغبات، حتى سماه الاسلام " الرهبنة ". فقد جاء في الحديث: " رهبانية أمتي: الجهاد في سبيل الله ". وفيه من التضحيه بالنفس، والمال، وبيعهما لله، ما هو ثمرة من ثمرات الحب، والايمان، واليقين، والتوكل. " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ". (1) وقد عظم الاسلام أمره، ونوه به في عامة السور المدنية وذم التاركين له، والمعرضين عنه، ووصفهم بالنفاق ومرض القلب. المجاهد خير الناس المجاهد خير الناس عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله.   (1) سورة التوبة: الآية 111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ألا أخبركم بالذي يتلوه: رجل معتزل في غنيمة له يؤدي حق الله فيها. ألا أخبركم بشر الناس: رجل يسأل باللهولا يعطي به ". وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الناس أفضل؟ قال: " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ". قالوا: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره ". فقوله صلى الله عليه وسلم: " ثم مؤمن في شعب بن الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره " فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة عن الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور. فمذهب الشافعي، وأكثر العلماء، أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن. ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص. وقد كانت الانبياء صلوات الله عليهم، وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط، كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك. وأما الشعب، فهو: ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصا، بل المراد: الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا، لانه خال من الناس غالبا. وهذا الحديث نحو الحديث الآخر، حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة، فقال: " أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ". الجنة للمجاهد روى الترمذي: أن رجلا مالت نفسه إلى العزلة، فسأل النبي صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 الله عليه وسلم عنها، فقال: " لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة: اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ". المجاهد يرتفع مائة درجة في الجنة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا وجبت له الجنة ". فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل. ثم قال: " وأخرى يرفع بها العبد مائة درحة في الجنة ما بين كل درجتين، كما بين السماء والارض ". قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، مابين الدرجتين كما بين السماء والارض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ". الجهاد لا يعد له شئ : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله عزوجل؟ قال: " لا تستطيعونه ". فأعاد عليه مرتين، أو ثلاثا، كل ذلك يقول " لا يستطيعونه ". وقال في الثالثة: " مثل المجاهد في سيبل الله كمثل الصائم القائم القانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 بآيات الله، لايفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ". رواه الخمسة. فضل الشهادة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكلم أحد في سيبل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيل الله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ". قال محمد بن إبراهيم: أملى علي عبد الله بن المبارك حين ودعته للخروج هذه الابيات، وأرسلها معي إلى الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أنصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خذه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الاطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق ... لا يكذب لا يستوي غبار أهل الله في أنف امرئ ودخان نار، لا يكذب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت، لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 أأنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم. قال: فاكتب هذا الحديث، أجر حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا. وأملى علي الفضيل بن عياض: " حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله. فقال: " هل تستطيع أن تصلي فلاتفتر، وتصوم فلا تفطر؟ " فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله. أو ما علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من نمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: " أنا أبلغهم عنكم ". وأنزل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون - يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ". (1) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت ". وقال صلى الله عليه وسلم: " الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة ". (2)   (1) سورة آل عمران: الآيات 169، 170، 171. (2) القرصة: اللسعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد أن يعقر (1) جوادك، ويراق (2) دمك ". عن جابر بن عتيك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشهادة سبع - سوى القتل في سبيل الله -: المطعون (3) شهيد، والغرق (4) شهيد، وصاحب ذات الجنب (5) شهيد، والمبطون (6) شهيد، وصاحب الحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع (7) شهيدة ". روه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما تعدون الشهيد فيكم "؟ قالوا: يا رسول الله: من قتل في سبيل الله، فهو شهيد. قال: " إن شهداء أمتي إذن لقليل ". قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من قتل في سبيل الله، فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله (8) ، فهو شهيد، ومن مات في الطاعون، فهو شهيد، ومن مات في البطن، فهو شهيد، والغريق شهيد ". رواه مسلم. وعن سعيد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد ". رواه أحمد، والترمذي، وصححه. قال العلماء: " المراد بشهادة هؤلاء كلهم، غير المقتول في سبيل الله،   (1) يعقر: يجرح. (2) يراق: يصب. (3) المطعون: من مات بالطاعون. (4) الغرق: الغريق. (5) ذات الجنب: القروح تصيب الانسان داخل جنبه وتنشأ عنها الحمى والسعال. (6) المبطون: من مات بمرض البطن. (7) بجمع: أي التي تموت عند الولادة. (8) في سيبل الله: أي في طاعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا، فيغسلون، ويصلى عليهم. " وبيان هذا، أن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل من الغنيمة (1) أو قتل مدبرا ". وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب، إلا الدين ". ويلحق بالدين مظالم العباد، مثل: القتل، وأكل أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك. الجهاد لاعلاء كلمة الله : إن الجهاد لا يسمى جهادا حقيقيا إلا أذا قصد به وجه الله، وأريد به إعلاء كلمته، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله، فإذا أريد به شئ دون ذلك من حظوظ الدنيا، فإنه لا يسمى جهادا على الحقيقة. فمن قاتل ليحظى بمنصب، أو يظفر بمغنم، أو يظهر شجاعة، أو ينال شهرة، فإنه لانصيب له في الاجر، ولاحظ له في الثواب. فعن أبي موسى، قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم (2) والرجل يقاتل للذكر (3) ، والرجل يقاتل ليرى مكانه (4) ، فمن في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله ".   (1) راجع الجزء الرابع (المجلد الاول) من فقه السنة. (2) أي لاجل الغنيمة. (3) ليذكر بين الناس. (4) يرى مكانه: يشتهر بالشجاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وروى أبو داود، والنسائي: أن رجلا قال: يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الاجر والذكر، ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لاشئ له ". فأعادها عليه ثلاث مرات: فقال: " لاشئ له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه ". إن النية: هي روح العمل، فإذا تجرد العمل منها، كان عملا ميتا، لاوزن له عند الله. روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". وإن الاخلاص هو الذي يعطي الاعمال قيمتها الحقيقية، ومن ثم فإن المرء قد يبلغ بالاخلاص درجة الشهداء، ولو لم يستشهد. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداءوإن مات على فراشه ". ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ". وإذا لم يكن الاخلاص هو الباعث على الجهاد، بل كان الباعث شيئا آخر من أشياء الدنيا وأعراضها لم يحرم المجاهد الثواب والاجر فقط، بل إنه بذلك يعرض نفسه للعذاب يوم القيامة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد. فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 لان يقال: جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها. قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم. وقرأت القرآن ليقال هو قارئ. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال. فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيهالك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار ". رواه مسلم أجر الاجير ومهما كان المجاهد مخلصا، وأخذ من الغنيمة، فإن ذلك ينقص من أجره. فعن عبد الله بن عمرو. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من غازية، أو سرية تغزو، فتغنم، وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ". " وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب، إلا تم أجورهم ". رواه مسلم. قال النووي: " وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره. أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم. وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم، فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الاجر. وهذا موافق للاحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: " منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا. ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها: أي يجتنيها ". فهذا الذي ذكرنا هو الصواب. وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 صريح صحيح يخالف هذا. فتعين حمله على ذكرنا. وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه ". وروى أبو داود عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستفتح عليكم الامصار، وستكونون جنودا مجندة، يقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل منكم البعث فيها، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، يقول: من أكفه بعث كذا، وذلك الاجير، إلى آخر قطرة من دمه ". فضل الرباط في سبيل الله توجد ثغور يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الاسلام ومن الواجب أن تحصن هذه الثغور تحصينا منيعا، كي لا تكون جانب ضعف يستغله العدو ويجعله منطلقا له. وقد رغب الاسلام في حماية هذه الثغور، بإعداد الجنود ليكونوا قوة للمسلمين. وأطلق على لزوم هذه الثغور، لاجل الجهاد في سبيل الله لفظ الرباط (1) ، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يوما، وأفضله ما كان بأشد الثغور خوفا. وقد اتفق العلماء على أنه أفضل من المقام بمكة. وقد جاء في فضله من الاحاديث ما يلي: روى مسلم عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله (2) الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه (3) ، وأمن الفتان ". قال: " كان ميت يختم (4) على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله،   (1) الرباط: معناه الاقامة في الثغر بإزاء العدو. (2) هذه فضيلة خاصة بالمرابطة. (3) هذا كقوله تعالى: " أحياء عند ربهم يرزقون ". (4) يختم على عمله: ينقطع عمله عنه ولا يصل ثوابه إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 فإنه ينمى (1) عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر ". فضل الرمي بنية الجهاد : رغب الاسلام في تعلم الرمي والمناضلة بنية الجهاد في سبيل الله، وحبب في التدريب على ذلك ورياضة الاعضاء بممارسة الرمي والمناضلة. 1 - عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ". " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". رواه مسلم. 2 - وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستفتخ عليكم أرضون، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه، إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة نفر: صانعه (2) والممد به (3) والرامي به في سبيل الله. " وقد شدد الاسلام تشديدا عظيما في نسيان الرمي بعد تعلمه، وأنه مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر. 3 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو " قد عصى ". رواه مسلم. 4 - وقال صلى الله عليه وسلم: " كل شئ يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق ". قال القرطبي: " ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل، مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة، فهو باطل والاعراض عنه أولى. وهذه الامور الثلاثة، فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها   (1) ينمي: يزداد وينمو. (2) يحتسب في صنعه الخير. (3) المناول له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس، وتأديب الفزس جميعا من تعاون القتال، وملاعبة الاهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا بني إسماعيل، أرموا فإن أباكم كان راميا ". وتعلم الفروسية واستعمال الاسلحة فرض كفاية " وقد يتعين ". الحرب في البحر أفضل من الحرب في البر : لما كان القتال في البحر أعظم خطرا كان أكثر أجرا. 1 - " روى أبو داود عن أو حرام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المائد (1) في البحر له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين ". 2 - وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجبتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الارواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم. ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ". صفات القائد : وقد عد الفخري الصفات التي يجب أن تتوفر في قائد الجيش، فقال: قال بعض حكماء الترك: " ينبغي أن يكون في قائد الجيش عشر خصال من أخلاق الحيوان: جرأة الاسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح. وغارة الذئب، وحراسة الكركي، وسخاء الديك. وشفقة الديك على الفراريج، وحذر الغراب. وسمن " تعرو "، وهي دابة تكون بخراسان تسمن على السفر والكد ".   (1) المائد: الذي يصيبه القئ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 الجهاد مع البر والفاجر: لا يشترط في الجهاد أن يكون الحاكم عادلا، أو القائد بارا، بل الجهاد واجب على كل حال، وقد يكون للرجل الفاجر في ميدان الجهاد من البلاء ما ليس لغيره ". الواجب على قائد الجيش : يجب على القائد بالنسبة للجنود ما يأتي: 1 - مشاورتهم وأخذ رأيهم، وعدم الاستبداد بالامر دونهم، لقول الله سبحانه: " وشاورهم في الامر ". (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أحمد والشافعي رضي الله عنهما. 2 - الرفق بهم، ولين الجانب لهم، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به ". أخرجه مسلم. وروى عن معقل بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم، إلالم يدخل الجنة ". وروى أبو داود، عن جابر رضي الله عنه. قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف عن المسير، فيزجي الضعيف ويردف، ويدلهم ". 3 - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يتورطوا في المعاصي. 4 - تفقد الجيش حينا بعد حين، ليكون على علم بجنوده، يمنع من لا يصلح للحرب من رجال وأدوات، مثل المخدل وهو الذي يزهد الناس في القتال، والمرجف الذي يطلق الشائعات، فيقول: ليس لهم مدد، ولا طاقة..   (1) سورة آل عمران: الآية 159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 وكذلك من ينقل أخبار الجيش وتحركاته، أو يثير الفتن. 5 - تعريف العرفاء. 6 - عقد الالوية والرايات. 7 - تخير المنازل الصالحة، وحفظ مكانها. 8 - بث العيون ليعرف حال العدو. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها (1) وكان يبث العيون ليأتوه بخبر الاعداء، وكان يرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والالوية. قال ابن عباس: وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض. رواه أبو داود. وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى قواده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: " بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا " (2) . وعنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن، فقال: يسروا ولاتعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وتطاوعا، ولا تختلفا " (3) . رواهما الشيخان. عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا   (1) أي ذكر غيرها وأرادها هي، حتى لا يعرف العدو ما يريده عليه الصلاة والسلام. (2) في بعض أمره: أي في أمر من أعمال الولاية والادارة. قال: بشروا، أي من قرب إسلامه ومن تاب من العصاة، بسعة رحمه الله وعظم ثوابه لمن آمن وعمل صالحا. ولا تنفروا بذكر أنواع التخويف والوعيد، ويسروا على الناس، ولا تشدوا عليهم، فإن هذا أدعى لمحبة الدين. (3) أتركا الخلاف واعملا على الوفاق فهذا أدعى للنصر والنجاح، وصدر الحديث موجه باعتبار الجماءة، وعجزه باعتبار المثنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 فانيا (1) ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة (2) ، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا (3) إن الله يحب المحسنين ". رواه أبو داود. وصية عمر رضي الله عنه : وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهما، ومن معه من الاجناد، أما بعد: " فإني آمرك ومن معك من الاجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لان عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا أن عدونا شرمنا، فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا، أسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم. " وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عند منزل يرفق بهم يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الانفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة، حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها   (1) إلا إذا كان مقاتلا أو ذارأي فقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل زيد بن الصمة الذي كان في جيش هوازن للرأي فقط وعمره يربو على مائة وعشرين سنة. (2) إلا إذا كانت مقاتلة أو والية عليهم أو لها رأي فيهم. (3) بسند صالح: نسأل الله صلاح الحال. في الحال والمال. آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 من أصحابك إلامن تثق بدينه، ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فنولوهم خيرا، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. " وإذا وطئت أرض العدو، فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب، أو من أهل الارض من تمطئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك، وليس عينا لك. " وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا بهوى، فتضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غلبة أو صنيعة ونكاية. " فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك، وطلائعك، وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الارض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنعه بك. " ثم أذك على عسكرك، وتيقظ من البيات جهدك، ولا تمر بأسير له عقد إلا ضربت عنقه، لترهب به عدو الله وعدوك. " والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان " اه. واجب الجنود : وواجب الجنود بالنسبة لقائدهم: الطاعة في غير معصية. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الامير فقد أطاعني، ومن يعص الامير فقد عصاني. " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وأما الطاعة في المعصية، فإنه منهي عنها، لانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه، قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الانصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ فقالوا: بلى. قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار. فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لو دخلوها، ما خرجوا منها أبدا، وقال: لاطاعة في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف." وجوب الدعوة قبل القتال : وجوب الدعوة قبل القتال يجب أن يبدأ المسلمون بالدعوة قبل القتال، أخرج مسلم عن بريدة، رضي الله عنه، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية (1) أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا (2) ، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (3) ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (4) ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الاسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم   (1) السرية: قطعة من الجيش. (2) أوصاء بتقوى الله، وأوصاه بالمسلمين خيرا. (3) لا تغلوا: أي لا تخونوا في الغنيمة، ولا تغدروا: لا تنقضوا عهدا، ولا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتل بقطع الانوف والآذان ونحوها، ولا تقتلوا وليدا: أي صبيا، وكذا الشيخ الكبير والمرأة لانهم لا يقاتلون. (4) هي الاسلام والهجرة وإلا فالجزية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا (1) ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين (2) . ولا يكون لهم في الغنيمة والفئ شئ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فسلهم الجزية (3) ، فإن هم أجابوك فاقبل وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذلك (4) ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله (5) ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تقبل منهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا (6) ". رواه الخمسة إلا البخاري. وحاصر أحد جيوش المسلمين قصرا من قصور فارس، وكان الامير سلمان الفارسي فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم (7) . قال: دعوني أدعهم، كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فأتاهم، فقال لهم: إنما أنا رجل منكم، فارسي، والعرب يطيعونني، فإن اسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم إلا دينكم، تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.   (1) عن ديارهم ويجاهدوا. (2) من الاعراب أهل البادية، وحكم الله فيهم أنه ليس لهم في الغنيمة والفئ شئ إلا إذا جاهدوا. (3) فإن أبوا: أي عن الاسلام، فسلهم الجزية، لعل هذا قبل تخصيصها بأهل الكتاب الوارد في سورة التوبة. (4) فأرادوك: أي طلبوا منك. (5) الذمة: العهد، والاخفار: نقض العهد. (6) والمراد عن عهد الله وحكمه احتراما لهما. (7) تأمر الجيش بالزحف عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 قال: ورطن إليهم بالفارسية: وأنتم غير محمودين (1) ، وإن أبيتم، نابذناكم على سواء (2) . قالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم. قالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم. قال: فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا (3) ، ثم قال: انهدوا إليهم، قال: فنهدنا إليهم ففتحنا ذلك القصر ". رواه الترمذي. قال أبو يوسف: لم يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط، فيما بلغنا، حتى يدعوهم إلى الله ورسوله. وقال صاحب الاحكام السلطانية: ومن لم تبلغهم دعوة الاسلام، يحرم علينا الاقدام على قتالهم غرة وبياتا بالقتل والتحريق. ويحرم أن نبدأهم بالقتال، قبل إظهار دعوة الاسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة ومن ساطع الحجة بما يقودهم إلى الاجابة. ويرى السرخسي من أئمة المذهب الحنفي: أنه يحسن أن لا يقاتلهم فور الدعوة، بل يتركهم يبيتون ليلة يتفكرون فيها ويتدبرون ما فيه مصلحتهم. ويرى الفقهاء أن أمير الجيش إذا بدأ بالقتال قبل الانذار بالحجة والدعاء إلى إحدى الامور الثلاثة، وقتل من الاعداء غرة وبياتا ضمن ديات نفوسهم. ذكر البلاذري في فتوح البلدان: " أن أهل سمرقند، قالوا لعاملهم " سليمان بن أبي السرى " إن قتيبة بن مسلم الباهلي غدر بنا وظلمنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والانصاف، فأذن لنا، فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما إلى " عمر بن عبد العزيز " رضي الله عنه، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: إن أهل سمرقند، قد شكوا إلى ظلما أصابهم، وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن   (1) قال هذه الكلمة لهم بالفارسية. (2) أعلمناكم به، وقاتلناكم. (3) فيه طلب الدعوة ثلاثة أيام، رحمة بهم لعلهم يسلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 قضي لهم، فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم، قبل أن ظهر (1) عليهم قتيبة. فأجلس لهم سليمان " جميع بن حاضر " القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة. فقال أهل السند، بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا، لان ذوي رأيهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم، وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن عدنا إلى الحرب، لا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا، كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الامر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا بعد أن عجبوا من عدالة الاسلام والمسلمين وأكبروها، وكان ذلك سببا في دخولها الاسلام مختارين. وهذا عمل لم نعلم أن أحدا وصل في العدل إليه. الدعاء عند القتال : ومن آداب القتال أن يستغيث المجاهدون بالرب سبحانه، ويستنصرونه، فإن النصر بيد الله. وقد كان هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده. 1 - فعن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلحم بعضهم بعضا ". 2 - قال الله عز وجل: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " (2) 3 - روى الثلاثة عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها للعدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال:   (1) أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الغزو. (2) سورة الانفال: الآية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 " أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ". تم قال: " اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الاحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ". 4 - وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم، إذا غزا: " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول (1) وبك أصول (2) ، وبك أقاتل ". رواه أصحاب السنن. 5 - وروى البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاحزاب فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الاحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ". القتال الاسلام يهتم بدعوة العالم الانساني إلى الدخول في هدايته، لينعم بهذه الهداية ويستظل بظلها الظليل. وإن الامة الاسلامية هي الامة المنتدبة من قبل الله لاعلاء دينه، وتبليغ وحيه، وهي منتدبة كذلك لتحرير الامم والشعوب. وهي بهذا الاعتبار كانت خير الامم، وكانت مكانتها من غيرها مكانة الاستاذ من التلاميذ. وما دام أمرها كذلك، فيجب عليها أن تحافظ على كيانها الداخلي، وتكافح لتأخذ حقها بيدها، وتجاهد لتتبوأ مكانتها التي وضعها الله فيها. وكل تقصير في ذلك يعتبر من الجرائم الكبرى، التي يجازي الله عليها بالذل والانحلال، أو الفناء والزوال. وقد نهى الاسلام عن الوهن، والدعوة إلى السلم، طالما لم تصل الامة   (1) أحول: حتال في مكر كيد العدو. (2) أصول: أحمل على العدو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 إلى غايتها ولم تحقق هدفها، واعتبر السلم في هذه الحالة لا معنى له إلا الجبن، والرضا بالدون من العيش. وفي هذا يقول الله سبحانه: " فلاتهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم " (1) . أي الاعلون: عقيدة، وعبادة، وخلقا، وأدبا وعلما، وعملا. إن السلم في الاسلام لا يكون إلا عن قوة واقتدار، ولذلك لم يجعله الله مطلقا، بل قيده بشرط أن يكف العدو عن العدوان، وبشرط ألا يبقى ظلم في الارض، وألا يفتن أحد في دينه. فإذا وجد أحد هذه الاسباب، فقد أذن الله بالقتال. وهذا القتال هو القتال الذي تسترخص فيه الانفس، ويضحى فيه بالمهج والارواح. إنه لا يوجد دين من الاديان دفع بأهله إلى خوض غمرات الحروب. وقذف بهم إلى ساحات القتال، في سبيل الله والحق، وفي سبيل المستضعفين. ومن أجل الحياة الكريمة، غير السلام. ومن استعرض الآيات القرآنية، والسيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، يرى ذلك واضحا جليا، فالله سبحانه ينتدب هذه الامة إلى بذل أقصى ما في وسعها، فيقول: " وجاهدوا في الله حق جهاده ". (1) وبين أن هذا الجهاد هو الايمان العملي، الذي لا يكمل الدين إلا به، فيقول: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " (3) . ويوضح أن هذه سنة الله مع المؤمنين، وأنه ليس للنصر ولا للجنة سبيل غيره. فيقول: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول   (1) سورة محمد: الآية 35. (2) سورة الحج: الآية 78. (3) سورة العنكبوت: الآية 2، 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " (1) . ويوجب إعداد العدة، وأخذ الاهبة. فيقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " (2) والاعداد يتطور بحسب الظروف والاحوال، ولفظ القوة يتناول كل وسيلة من شأنها أن تدحر العدو. وقد جاء في الحديث الصحيح: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". ومن الاعداد الحيطة والتجنيد لكل قادر عليه. " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا " (3) وأخذ الحذر لايتم إلا بالاعداد البري، والبحري، والجوي. ويأمر بالخروج لملاقاة العدو في العسر واليسر، والمنشط والمكره. فيقول: " انفروا خفافا وثقالا ". (4) والاسلام يعتمد على الروح المعنوية أكثر مما يعتمد على القوة المادية، ولهذا يستثير الهمم والعزائم، فيقول: " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما. ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا. واجعل لنا من لدنك نصيرا " (5) ويصبر المؤمنين بأنهم إن كانوا يألمون فإن عدوهم يألم كذلك مع الاختلاف البعيد بين هدف كل منهم فيقول: " ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما   (1) سورة البقرة: الآية 214. (2) سورة الانفال: الآية 60. (3) سورة النساء: الآية 71. (4) سورة التوبة: الآية 41. (5) سورة النساء: الآية 74، 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " (1) . ويقول: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا " (2) . أي أن المؤمنين لهم هدف سام، ولهم رسالة يجاهدون من أجلها، وهي رسالة الحق والخير وإعلاء كلمة الله. ويوجب الثبات عند اللقاء فيقول: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرقا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " (3) . ويرشد إلى القوة المعنوية، فيقول: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون - وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " (4) . ويكشف عن نفسية المؤمنين، وأن من شأنها الاستماتة في الدفاع، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما قاتلين، وإما مقتولين، فيقول: " ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظم " (6) . وفي الحالة الاولى لهم النصر، وفي الثانية لهم الشهادة: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنييين " (2) . وإن القتل في سبيل الله ليس موتا أبديا، وإنما هو انتقال إلى ما هو أرقي   (1) سورة النساء: الآية 76. (2) سورة النساء: الآية 140. (3) سورة الانفال: الآيتان 15، 16. (4) سورة الانفال: الآيتان 45، 46. (5) سورة التوبة: الآية 111. (6) سورة التوبة: الآية 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وأبقى، وإن الفناء في سبيل الله هو عين البقاء. " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون - يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " (1) والله مع المجاهدين لا يتخلى عنهم أبدا: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان " (2) . ثم هو سبحانه يعدهم على ذلك ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فيقول: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم - تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم - وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ". (1) وبهذا الاسلوب ربي القرآن الكريم المسلمين الاوائل، وأوجد في نفوسهم الايمان الذي كان فيصلا بين الحق والباطل، ونهض بهم إلى حيث النصر، والفتح والتمكين في الارض. " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (4) ". " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قلبهم، وليمكنن لهم دينهم إلى ارتضى لهم وليبد لنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا (5) ".   (1) سورة آل عمران: الآيات 169، 170، 171. (2) سورة الانفال: الآية 12. (3) سورة الصف: الآيات 10، 11، 12، 13. (4) سورة محمد: الآية 7. (5) سورة النور: الآية 55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وجوب الثبات أثناء الزحف : يجب الثبات عند لقاء العدو، ويحرم الفرار. يقول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (1) ". ويقول عز من قائل: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " (2) والآية توجب الثبات وتحرم الفرار إلا في إحدى حالتين، فإنه يجوز فيهما الانصراف عن العدو. (الحالة الاولى) أن ينحرف للقتال، أي أن ينصرف من جهة إلى جهة إخرى حسب ما يقتضيه الحال، فله أن ينتقل من مكان ضيق إلى مكان أرحب منه، أو من موضع مكشوف إلى موضع آخر يستره، أو من جهة سفلى إلى جهة عليا وهكذا، مما هو أصلح له في ميدان الحرب والقتال. (الحالة الثانية) أن يتحيز إلى فئة، أي ينحاز إلى جماعة من المسلمين، إما مقاتلا معهم، أو مستنجدا بهم. وسواء أكانت هذه الفئة قريبة أم بعيدة. روى سعيد بن منصور: أن عمر رضي الله عنه، قال: لو أن أبا عبيدة تحيز إلي لكنت له فئة. وأبو عبيدة كان بالعراق، وعمر كان بالمدينة! وقال عمر أيضا: " أنا فئة كل مسلم ". وروى ابن عمر رضي الله عنهما - أنهم أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما خرج من بيته قبل صلاة الفجر، وكانوا قد فروامن عدوهم، فقالوا: " نحن الفرارون " فقال صلى الله عليه وسلم: " بل أنتم العكارون (3) ، أنافئة كل مسلم ".   (1) سورة الانفال: الآية 16. (2) سورة الانفال: الآية 16. (3) عكارون: جمع عكار، وهو العطاف الذي يعطف إلى الحرب بعد الحياد عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 ففي هاتين الحالتين المتقدمتين، يجوز للمقاتل أن يفر من العدو وهو - وإن كان فرارا ظاهرا - فهو في الواقع محاولة لاتخاذ موقف أصلح لمواجهة العدو. وفي غير هاتين الصورتين يكون الفرار كبيرة من كبائر الاثم وموبقة توجب العذاب الاليم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات (1) " قالوا: وما هن يا رسول الله؟. قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف (2) ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". الكذب والخداع عند الحرب : يجوز في الحرب الخداع والكذب لتضليل العدو ما دام ذلك لم يشتمل على نقض عهد أو إخلال بأمان. ومن الخداع أن يخادع القائد الاعداء بأن يوهمهم بأن عدد جنوده كثرة كاثرة وعتاده قوة لا تقهر. وفي الحديث الذي رواه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحرب خدعة ". وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، قالت: " لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شئ من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب، والاصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها " الفرار من المثلين تقدم انه يحرم الفرار أثناء الزحف إلا في إحدى الحالتين: " التحرف للقتال، أو التحيز إلى فئة ".   (1) الموبقات: المهلكات. (2) التولي يوم الزحف: الفرار من الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 وبقي أن نقول: إنه يجوز الفرار أثناء الحرب إذا كان العدو يزيد على المثلين، فإن كان مثلين فما دونهما فإنه يحرم الفرار، يقول الله عزوجل: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " (1) . قال في المهذب: " إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار. لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالافضل الثبات. وإن ظنوا الهلاك، فوجهان: (الاول) يلزم الانصراف، لقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". (الثاني) فيستحب ولا يجب، لانهم ان قتلوا فازوا بالشهادة. وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار، وإن ظنوا فوجهان: يجوز لقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". ولايجوز، وصححوه، لظاهر الآية. وقال الحاكم: " إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت، إذا لم يقصد الاقلاع عن الجهاد ". وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك إلى: أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنهيجوز أن يفر الواحد عن واحد إذا كان أعتق جوادا منه، وأجود سلاحا، وأشد قوة وهذا هو الاظهر. الرحمة في الحرب إذا كان الاسلام أباح الحرب كضرورة من الضرورات، فإنه يجعلها مقدرة بقدرها، فلا يقتل إلا من يقاتل في المعركة، وأما من تجنب الحرب فلا يحل قتله أو التعرض له بحال.   (1) سورة الانفال: الآية 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 وحرم الاسلام كذلك قتل النساء، والاطفال، والمرضى، والشيوخ، والرهبان، والعباد، والاجراء. وحرم المثلة، بل حرم قتل الحيوان، وإفساد الزروع، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت. وحرم الاجهاز على الجريح، وتتبع الفار، وذلك أن الحرب كعملية جراحية، لا يجب أن تتجاوز موضع المرض بمكان. وفي ذلك روى سليمان بن بريدة عن أبيه: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم. كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " أغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولاتغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ". وحدث نافع عن عبد الله بن عمر ان امرأة وجدت في بعض مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. رواه مسلم. وروى رباح بن ربيع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة في بعض الغزوات ولعلها هي المرأة في الحديث المذكور قبل هذا. فوقف عليها، ثم قال: " ما كانت هذه لتقاتل " ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لاحدهم: " الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلن ذرية، ولاعسيفا أي أجيرا ولا امرأة ". وعن عبد الله بن زيد قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة ". رواه البخاري. وقال عمران بن الحصين: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة " (1) . وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه لاسامة حين بعثه إلى الشام: " لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا   (1) المثلة: هي تشويه القتيل بأي صورة من الصو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 تقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع " يريد الرهبان "، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ". وكذلك كان يفعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في كتاب له: " لاتغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، واتقوا الله في الفلاحين " وكان من وصاياه لامراء الجنود: " ولا تقتلوا هرما، ولا امرأة، ولا وليدا. وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات ". الغارة على الأعداء ليلا : ويجوز الاغارة على الاعداء ليلا (1) . قال الترمذي: " وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل، وكرهه بعضهم ". وقال أحمد وإسحاق: " لا بأس أن يبيت العدو ليلا ". وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال: " هم منهم ". رواه البخاري ومسلم من حديث الصعب بن جثام. قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم، انما هو في حال التمييز والتفرد. وأما البيات، فيجوز، وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم. انتهاء الحرب : تنتهي الحرب بأحد الامور الآتية: 1 - إسلام المحاربين، أو إسلام بعضهم ودخولهم في دين الله، وفي هذه الحال يصبحون مسلمين، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم من الحقوق والواجبات.   (1) الاغارة ليلا، هي: التي يطلق عليها لفظ " البيات ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 2 - طلبهم إيقاف القتال مدة معينة، وحينئذ يجب الاستجابة إلى ما طلبوا، كما فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية. 3 - رغبتهم في أن يبقوا على دينهم مع دفع الجزية، ويتم بمقتضى هذا عقد الذمة بينهم وبين المسلمين. 4 - هزيمتهم، وظفرنا بهم، وانتصارنا عليهم، وبهذا يكونون غنيمة للمسلمين. 5 - وقد يحدث أن يطلب بعض المحاربين من الاعداء الامان، فيجاب إلى ما طلب، وكذلك إذا طلب الدخول في دار الاسلام، ومن ثم فإنا نتحدث بإجمال فيما يلي عن هذه الامور: 1 - عقد الهدنة والموادعة. 2 - عقد الذمة. 3 - الغنائم. 4 - عقد الامان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 الهدنة : متى تجب الموادعة والهدنة: عقد الهدنة والموادعة هو الانفاق على ترك القتال فترة من الفترات الزمنية قد تنتهي إلى صلح، وتجب في حالين: (الحالة الاولى) إذا طلبها العدو، فإنه يجاب إلى طلبه ولو كان العدو يريد الخديعة، مع وجوب الحذر والاستعداد. يقول الله تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله " (1) . وفي غزوة الحديبية هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، ووادعهم مدة عشر سنين، وكان ذلك حقنا للدماء، ورغبة في السلم. عن البراء رضي الله عنه قال: " لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت (2) صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وجرابه (3) ، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه. قال (4) لعلي أكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم (5) : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ". فقال له المشركون: " لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.   (1) سورة الانفال: الآيتان 60 و 61. (2) لما منعه الكفار من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا يريدون العمرة اصطلحوا بالحديبية. (3) بيان لجلبان السلاح. (4) الرسول صلى الله عليه وسلم. (5) وفي رواية: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 فأمر عليا أن يمحوها (1) فقال: " لا والله لاأمحوها ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها، وكتب " ابن عبد الله ". فأقام بها ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الثالث، قالوا لعلي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج. فأخبره بذلك، فقال: نعم، فخرج ". وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال (2) . رواه البخاري ومسلم وأبو داود. (الحالة الثانية) التي تجب فيها المهادنة: الاشهر الحرم، فإنه لا يحل فيها البدء بالقتال، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال، فإنه يجب القتال حينئذ دفعا للاعتداء، وكذلك يباح فيها القتال إذا كانت الحرب قائمة ودخلت هذه الاشهر ولم يستجب العدو لقبول الموادعة فيها (3) . يقول الله تعالى: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ". (4) وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع فقال: " أيها الناس: إنما النسئ زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا،   (1) كلمة: رسول الله. (2) العيبة: وعاء الثياب، ومكفوفة: مربوطة محكمة، ولا إسلال ولا إغلال: أي لاسرقة ولا خيانة، بل ولا كلام فيما مضى، ولكن قلوب صافية، وأمن وسلام تام. (3) وحاصل الشروط أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون هذا العام، وأن يعودوا للعمرة العام القابل، ولا يحملوا إلا جلبان السلاح، ولا يأخذوا من تبعهم من أهل مكة، ولا يأخذوا من تأخر من المسلمين، ولا يمكثوا بمكة إلا ثلاثة أيام، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا. (4) سورة التوبة: الآية 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 يحلونه عاما ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر في كتاب الله، يوم خلق الله السموات والارض، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فهو الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد ". وما ورد من أن ذلك منسوخ، فهو ضعيف، لانه ليس فيه ما يدل على النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 عقد الذمة : الذمة هي العهد والامان: وعقد الذمة هو أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب - أو غيرهم - من الكفار على كفرهم بشرطين: (الشرط الاول) أن يلتزموا أحكام الاسلام في الجملة. (والشرط الثاني) أن يبذلوا الجزية. ويسري هذا العقد على الشخص الذي عقده، مادام حيا وعلى ذريته من بعده. والاصل في هذا العقد قول الله سبحانه: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) . وروى البخاري: أن المغيرة قال - يوم نهاوند -: أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. وهذا العقد دائم غير محدود بوقت ما دام لم يوجد ما ينقضه. موجب هذا العقد: وإذا تم عقد الذمة ترتب عليه حرمة قتالهم. والحفاظ على أموالهم، وصيانة أعراضهم، وكفالة حرياتهم، والكف عن أذاهم، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا ". والقاعدة العامة التي رآها الفقهاء: " أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا ".   (1) سورة التوبة: الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 الأحكام التي تجري على أهل الذمة : وتجرى أحكام الاسلام على أهل الذمة في ناحيتين: (الناحية الاولى) المعاملات المالية، فلا يجوز لهم أن يتصرفوا تصرفا لا يتفق مع تعاليم الاسلام، كعقد الربا، وغيره من العقود المحرمة. (الناحية الثانية) العقوبات المقررة: فيقتص منهم، وتقام الحدود عليهم متى فعلواما يوجب ذلك. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما. أما ما يتصل بالشعائر الدينية من عقائد وعبادات وما يتصل بالاسرى من زواج وطلاق، فلهم فيها الحرية المطلقة، تبعا للقاعدة الفقهية المقررة: " اتركوهم وما يدينون ". وإن تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم لهم بمقتضى الاسلام، أو نرفض ذلك. يقول الله تعالى: " ... فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (1) . هذا ما يتعلق بالشرط الاول، وأما شرط الجزية فنذكره فيما يلي.   (1) سورة المائدة: الآية 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 الجزية : تعريفها: الجزية مشتقة من الجزاء، وهي: " مبلغ من المال يوضع على من دخل في ذمة المسلمين وعهدهم من أهل الكتاب ". الاصل في مشروعيتها: والاصل في مشروعيتها قول الله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) روى البخاري والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف. أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر (2) . وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس البحرين، وأخذها عمر رضي الله عنه من فارس، وأخذها عثمان من الفرس أو البربر. حكمة مشروعيتها: وقد فرض الاسلام الجزية على الذميين في مقابل فرض الزكاة على المسلمين، حتى يتساوى الفريقان، لان المسلمين والذميين يستظلون براية واحدة، ويتمتعون بجميع الحقوق وينتفعون بمرافق الدولة بنسبة واحدة، ولذلك أوجب الله الجزية للمسلمين نظير قيامهم بالدفاع عن الذميين وحمايتهم في البلاد الاسلامية التي يقيمون فيها: ولهذا تجب - بعد دفعها - حمايتهم والمحافظة عليهم، ودفع من قصدهم بأذى.   (1) سورة التوبة: الآية 29. (2) هجر: بلد في جزيرة العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 من تؤخذ منهم: وتؤخذ الجزية من كل الامم، سواء أكانوا كتابيين أم مجوسا أم غيرهم، وسواء أكانوا عربا أم عجما (1) وقد ثبت بالقرآن الكريم أنها تؤخذ من الكتابيين كما ثبت بالسنة أنها تؤخذ من المجوس، ومن عداهم يلحق بهم. قال ابن القيم: " لان المجوس أهل شرك لاكتاب لهم. فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الاوثان من العرب، لانهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها إنما نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها له بالاسلام. ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه، لانها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الاوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والاوثان والنيران. ولافرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر عبدة الاوثان ليس أغلظ من كفر المجوس، وأي فرق بين عبدة الاوثان والنيران، بل كفر المجوس أغلظ، وعباد الاوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لاخالق إلا الله، وأنهم انما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى. ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم، أحدهما خالق للخير. والآخر للشر، كما تقول المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الامهات والبنات والاخوات. وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأما المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلا، ولادانوا بدين أحد من الانبياء، لافي عقائدهم، ولا في شرائعهم. والاثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع   (1) وهذا مذهب مالك والاوزاعي وفقهاء الشام. وقال الشافعي رضي الله عنه: تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أم عجما ويلحق بهم المجوس ولاتقبل من عبدة الاوثان على الاطلاق. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يقبل من العرب إلا الاسلام أو السيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 ملكهم على ابنته، لا يصح ألبتة، ولو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شئ منها. ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغيير عبدة الاوثان لدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صح، فإنه لايعرف عنهم التمسك بشئ من شرائع الانبياء عليهم الصلاة والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينهم أقبح الاديان، أحسن حالا من مشركي العرب؟ وهذا القول أصح في الدليل كما ترى. " شروط أخذها: وقد روعي في أخذها: الحرية والعدل والرحمة. ولهذا اشترط فيمن تؤخذ منهم: 1 - الذكورة. 2 - التكليف. 3 - الحرية. لقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا دينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) . أي عن قدرة وغنى، فلاتجب على امرأة، ولاصبي، ولاعبد، ولا مجنون. كما أنها لا تجب على مسكين يتصدق عليه، ولا على من لا قدرة له على العمل، ولا على الاعمى، أو المقعد، وغيرهم من ذوي العاهات، ولا على المترهبين في الاديرة إلا إذا كان غنيا من الاغنياء. قال مالك رضي الله عنه: " قضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلامن الرجال الذين قد بلغوا الحلم ". وروى أسلم: أن عمر رضي الله عنه، كتب إلى امراء الاجناد: " لا   (1) سورة التوبة: الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولاتضربوها إلاعلى من جرت عليه المواسي " (1) . والمجنون حكمه حكم الصبي. قدرها: روى أصحاب السنن عن معاذ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافرة (2) . ثم زاد فيها عمر رضي الله عنه، فجعلها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعين درهما على أهل الورق في كل سنة (3) . فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم بضعف أهل اليمن، وعمر رضي الله عنه، علم بغنى أهل الشام وقوتهم. وروى البخاري أنه قيل لمجاهد: " ما شأن الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار ". وبهذا أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه، ورواية عن أحمد، فقال: " إن على الموسر ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير اثني عشر درهما، فجعلها مقدرة الاقل والاكثر ". وذهب الشافعي، ورواية عن أحمد: إلى أنها مقدرة الاقل فقط، وهو دينار، وأما الاكثر فغير مقدر، وهو موكول إلى اجتهاد الولاة. وقال مالك، وإحدى الروايات عن أحمد، وهذا هو الراجح: " إنه لا حد لاقلها ولالاكثرها، والامر فيها موكول إلى اجتهاد ولاة الامر، ليقدروا على كل شخص ما يناسب حاله ". " ولا ينبغي أن يكلف أحد فوق طاقته ". الزيادة على الجزية: ويجوز اشتراط الزيادة على الجزية ضيافة من يمر بهم للمسلمين.   (1) وهذا كناية على أنها لا تجب إلاعلى الرجل، وذلك إذا نبت شعره. (2) المعافرة: ثياب باليمن وهي مأخوذة من معافرة، وهو حي من همدان. (3) الورق: الفضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 فقد روى الاحنف بن قيس: أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة " ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته. رواه أحمد. وروى أسلم، أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر رضي الله عنه، فقالوا: " إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم. فقال رضي الله عنه: " أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك ". عدم أخذ ما يشق على أهل الكتاب وغيرهم: وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بأهل الكتاب وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: " احفظوني في ذمتي ". وجاء في الحديث: " من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه ". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في أموال أهل الذمة إلا العفو ". سقوطها عمن أسلم: وتسقط الجزية عمن أسلم لحديث ابن عباس مرفوعا: " ليس على المسلم جزية ". رواه أحمد وأبو داود. وروى أبو عبيدة: أي يهوديا أسلم فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا. قال: " إن في الاسلام معاذا ". فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال: " إن في الاسلام معاذا ". وكتب ألا تؤخذ منه الجزية. عقد الذمة للمواطنين وللمستقلين : وكما يجوز هذا العقد لمن يريد أن يعيش مع المسلمين وتحت ظلال الاسلام فإنه يجوز للمستقلين في أماكنهم، بعيد عن المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 فقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران عقدا، مع بقائهم في أماكنهم، وإقامتهم في ديارهم، دون أن يكون معهم أحد من لمسلمين. وقد تضمن هذا العهد: حمايتهم، والحفاظ على حريتهم الشخصية، والدينية، وإقامة العدل بينهم، والانتصاف من الظالم. وقام الخلفاء من بعده على تنفيذه حتى عهد هارون الرشيد، فأراد أن ينقضه، فمنعه محمد بن الحسن صاحب الامام أبي حنيفة، وهذا هو نص العقد: " لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته، اولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية، أي لا يعامل معاملة الضعيف، ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف، غير ظالمين ولامظلومين، ومن أكل ربا (1) من ذي قبل، أي في المستقبل، فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله، وذمة محمد النبي الامي رسول الله أبدا، حتى يأتي الله بأمره " فإذا أراد أحد الرؤساء استغلال المعاهدة لحسابه، وظلم شعبه، منع من ذلك. جاء في المبسوط للسرخسي: " وإذا طلب ملك الذمة أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء، من: قتل، أو صلب، أو غيره مما لا يصح في دار الاسلام، لم يجب إلى ذلك، لان التقرير على الظلم مع إمكان المنع حرام، ولان الذمي ممن يلتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، فشرطه بخلاف موجب عقد الذمة باطل، فإن أعطى الصلح والذمة على هذا بطل من شروطه مالا يصح في الاسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله باطل ".   (1) قال ابن القيم: في هذا دليل على انتقاض عهد الذمة بإحداث الحدث وأكل الربا إذا كان مشروطا عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 بم ينقض العهد؟ وينقض عهد الذمة بالامتناع عن الجزية، أو إباء التزام حكم الاسلام، إذا حكم حاكم به، أو تعدى على مسلم بقتل، أو بفتنته عن دينه، أو زنا بمسلمة، أو أصابها بزواج، أو عمل عمل قوم لوط، أو قطع الطريق، أو تجسس، أو آوى الجساوس، أو ذكر الله أو رسوله، أو كتابه، أو دينه بسوء، فإن هذا ضرريعم المسلمين في أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأخلاقهم، ودينهم. قيل لابن عمر رضي الله عنه: " إن راهبا يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطه الامان على هذا ". وكذا إذا لحق بدار الحرب، بخلاف ما إذا أظهر منكرا، أو قذف مسلما، فإن عهده لا ينتقض. وإذا انتقض عهده، فإن عهد نسائه وأولاده لا ينتقض، لان النقض حدث منه فيختص به. موجب النقض : وإذا انتقض عهده كان حكمه حكم الاسير، فإن أسلم حرم قتله، لان الاسلام يجب ما قبله. دخول غير المسلمين المساجد وبلاد الاسلام اختلف الفقهاء في دخول غير المسلمين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الاسلام. وجملة بلاد الاسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: (القسم الاول) الحرم، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر قول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (1) . وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك.   (1) سورة التوبة: الآية 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 فلو جاء رسول من دار الكفر والامام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم، بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم. وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم (1) . ويقيم فيه مقام المسافر ولا يستوطنه. ويجوز عنده دخول الواحد منهم الكعبة أيضا. (القسم الثاني) من بلاد الاسلام: الحجاز، وحده ما بين اليمامة، واليمن، ونجد، والمدينة الشريفة، قيل نصفها تهامي، ونصفها حجازي، وقيل كلها حجازي (2) . وقال الكلبي: حد الحجاز: ما بين جبلي طئ وطريق العراق، سمي حجازألانه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لانه حجز بين نجد والسراة، وقيل لانه حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي: وتبوك من الحجاز، فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالاذن، ولكن لا يقيمون بها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام. وقال أبو حنيفة: لا يمنعون من استيطانها والاقامة بها. وحجة الجمهور ماروى مسلم، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما ". زاد في رواية لغير مسلم: وأوصى فقال: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ". فلم يتفرغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عم في خلافته، وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا. وعن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ". أخرجه مالك في الموطأ مرسلا.   (1) يعني بإذن الامام أن الخليفة أو نائبه في الحكم. (2) وهو الصحيح في عرف الاسلام، وأما الخلاف فهو في شكل البلاد الذي سمي الحجاز لاجله حجازا ونجد نجدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 وروى مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ". قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق، إلى البحر. وقال غيره: حد جزيرة العرب من أقصى (عدن أبين) إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا. (القسم الثالث) سائر بلاد الاسلام، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأما وذمة، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز دخولها لهم من غير إذن. وقال مالك وأحمد: لا يجوز لهم الدخول بحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 الغنائم : تعريفها: الغنائم: جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الانسان بسعي، يقول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى - رضيت من الغنيمة بالاياب وفي الشرع: هي المال المأخوذ من أعداء الاسلام عن طريق الحرب والقتال، وتشمل الانواع الآتية: 1 - الاموال المنقولة. 2 - الاسرى. 3 - الارض. وتسمى الانفال - جمع نفل - لانها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الاسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض أخذت الغنيمة ووزعتها على المحاربين، وجعلت منها نصيبا كبيرا للرئيس: أشار إليه أحد الشعراء فقال: لك المرباع (1) منها والصفايا (2) وحكمك والنشيطة (3) والفضول (4) إحلالها لهذه الامة دون غيرها: وقد أحل الله الغنائم لهذه الامة: فيرشد الله سبحانه إلى حل أخذ هذه الاموال بقوله: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور ريحم " (5) .   (1) المرباع: ربع الغنيمة. (2) الصفايا: ما يستحسنه الرئيس ويصطفيه لنفسه. (3) النشيطة: ما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة. (4) الفضول: ما يفضل بعد القسمة. (5) سورة الانفال: الآية 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 ويشير الحديث الصحيح إلى أن هذا خاص بالامة المسلمة، فإن الامم السابقة لم يكن يحل لها شئ من ذلك. روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لاحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وبعثت إلى الناس عامة ". وسبب ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا. ذلك لان الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ". أي أحلها لنا. مصرفها: كان أول صدام مسلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من الهجرة في بدر، وقد انتهى هذا الصدام بالنصر المؤزر والفوز العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولاول مرة منذ البعثة يشعر المسلمون بحلاوة النصر، ويمكنهم الله من أعدائهم الذين اضطهدوهم طيلة خمسة عشر عاما، والذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: " ربنا الله ". وقد ترك المشركون المنهزمون وراءهم أموالا طائلة فجمعها المنتصرون من المسلمين، ثم اختلفوا بينهم، فيمن تكون له هذه الاموال؟ أتكون للذين خرجوا في إثر العدو؟ أو تكون للذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه من العدو؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 فأرشد القرآن الكريم إلى أن حكمها يرجع إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. ففي الآية الاولى من سورة الانفال يقول الله سبحانه وتعالى: " يسألونك عن الانفال، قل الانفال لله والرسول ". كيفية تقسيم الغنائم: وقد بين الله سبحانه وتعالى كيفية تقسيم الغنائم، فقال: " واعلموا أنما غنمتم (1) من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (2) إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير " (3) . فالآية الكريمة نصت على الخمس يصرف على المصارف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وذكر الله هنا تبركا. فسهم الله ورسوله مصرفه مصرف الفئ، فينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة. روى أبو داود، والنسائي، عن عمرو بن عبسة قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: " لا يحل لي من غنائكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ". أي ينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد.   (1) غنمتم: أي أخذتموه من الكفار بواسطة الحرب وهو ليس على عمومه وإنما دخله التخصيص لان سلم المقتول لقاتله - والحاكم مخير في الاسارى والارض. ويكون المعنى إنما غنمتم من الذهب والفضة وغيرها من الامتعة والسبي. (2) المساكين: الفقراء. وابن السبيل: المسافر المنقطع عن بلده. (3) سورة الانفال: الآية 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 أما نفقات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مما أفاء الله عليه من أموال بني النضير. روى مسلم عن عمر، قال: " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولاركاب. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع (1) والسلاح عدة في سبيل الله. وسهم ذي القربى: أي أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصروه، دون أقربائه الذين خذلوه وعاندوه. روى البخاري وأحمد عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم خيبر، قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب. فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام. وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ". وشبك بين أصابعه " ويأخذ منهم الغني (2) والفقير والقريب والبعيد، والذكر والانثى " للذكر مثل حظ الانثيين (3) ". وهذا مذهب الشافعي، وأحمد. وروي عن ابن عباس، وزين العابدين، والباقر: أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، لان اسم القرابة يشملهم، ولانهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة، ولان الله جعل ذلك لهم، وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على البعض.   (1) الكراع: الخيل. (2) قال أبو حنيفة: يعطون لفقرهم إذا كانوا فقراء، وقال الشافعي: يعطون لقرابتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم. (3) سورة النساء: الآية 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة فأشبه الميراث. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمه العباس وهو غني - ويعطي عمته صفية. وأما سهم اليتامى، وهم أطفال المسلمين، فقيل: يختص به الفقراء وقيل: يعم الاغنياء والفقراء، لانهم ضعفاء وإن كانوا أغنياء. روى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرسا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ قال: " لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش. " قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: " لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم. " وفي الحديث: " وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم ". وأما الاربعة الاخماس الباقية، فتعطى للجيش. ويختص بها: الذكور، الاحرار، البالغون، العقلاء. أما النساء، والعبيد، والصغار، والمجانين، فإنه لا يسهم لهم. لان الذكورة، والحرية، والبلوغ، والعقل، شرط في الاسهام. ويستوي في العطاء القوي، والضعيف، ومن قاتل، ومن لم يقاتل. روى أحمد، عن سعد بن مالك، قال: " قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ". وفي كتاب حجة الله البالغة: " ومن بعثه الامير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس. يسهم له وإن لم يحضر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر، فقد تغيب عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل مرض زوجته، رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ". رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما. وتقسم الغنيمة على أساس أن يكون للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: وقد جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل (1) سهما. وإنما كان ذلك كذلك لزيادة مئونة الفرس واحتياجه إلى سايس " وقد يكون تأثير الفارس بالفرس (2) في الحرب ثلاثة أصعاف تأثير الراجل (3) . ولا يسهم لغير الخيل، لانه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل، وكان معه سبعون بعيرا يوم بدر، ولم تخل غزوة من غزواته من الابل وهي غالب دوابهم، ولو أسهم لها لنقل الينا، وكذلك أصحابه من بعده لم يسهموا للابل. ولا يسهم لاكثر من فرس واحد، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه ولا عن أصحابه أنهم أسهموا لاكثر من فرس، ولان العدو لا يقاتل إلا على فرس واحد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: " يسهم لاكثر من فرس واحد، لانه أكثر غناء وأعظم منفعة. ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب وسهمه لصاحبه. النفل من الغنيمة: يجوز للامام أن يزيد بعض المقاتلين عن نصيبه بمقدار الثلث، أو الربع.   (1) للراجل: المجاهد على رجليه. (2) الفارس بالفرس يرى أبو حنيفة رضي الله عنه: ان للفارس سهمين وللراجل سهما، وهذا مخالف للسنة الصحيحة. (3) يرى بعض العلماء التسوية بين الفرس العربي والهجين. ويسمى البرذون والاكديش. ويرى البعض الاخر أنه لا يسوى بينهما. فإذا لم يكن الفرس عربيا، فإنه لا يسهم له، وأنه في هذه الحال يكون مثل الجمل في عدم الاسهام له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وأن تكون هذه الزيادة من الغنيمة نفسها، إذا أظهر من النكاية في العدو ما يستحق به هذه الزيادة، وهذا مذهب أحمد وأبو عبيد (1) . وحجة ذلك، حديث حبيب بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة، وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة ". رواه أبو داود، والترمذي. وجمع لسلمة بن الاكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم عنائه في تلك الغزوة. السلب للقاتل: السلب هو ما وجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وكذلك ما يتزين به للحرب. أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها، فليس من السلب، وإنما هو غنيمة. وأحيانا يرغب القائد في القتال، فيغري المقاتلين بأخذ سلب المقتولين، وإيثارهم به دون بقية الجيش. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبل للقاتل، ولم يخمسه. رواه أبو داود عن عوف بن مالك الاشجعي. وخالد بن الوليد. وروى ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك: أن البراء بن مالك مر على مرزبان يوم الدارة، فطعنه طعنة على قربوص سرجه فقتله، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لابي طلحة: " إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا. ولا أراني إلا خمسته ". قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك: إنه أول سلب خمس في الاسلام.   (1) يرى مالك: أن النفل يكون من الخمس الواجب لبيت المال. وقال الشافعي: يكون من خمس الخمس، وهو نصيب الامام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 عن سلمة بن الاكوع. قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين (1) من المشركين، وهو في سفر، فجلس مع أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه، فاقتلوه "، قال: فقتلته، فنفلني سلبه. من لا سهم له في الغنيمة : تقدم أن شرط الاسهام في الغنيمة: البلوغ، والعقل، والذكورة، والحرية. فمن لم يكن مستوفيا لهذه الشروط فلا سهم له في الغنيمة، وإن كان له أن يأخذ منها دون السهم. قال سعيد بن المسيب: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الامة. وروى أبو داود، عن عمير قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبر أني مملوك، فأمر بي من خرثى المتاع: أي أردأه. وفي حديث ابن عباس: أنه سئل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ فأجاب: انه لم يكن لهما سهم معلوم، إلا أنه يحذيا (2) من غنائم القوم. وعن أم عطية، قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنداوي الجرحى، ونمرض المرضى: وكان يرضخ لنا من الغنيمة. وأخرج الترمذي عن الاوزاعي مرسلا، قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم الصبيان بخيبر. والمقصود بالاسهام هنا الرضخ. وعن يزيد بن هرمز: أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما، يسأله عن خمس خلال أما بعد: فأخبرني: " هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟   (1) جاسوس. (2) يحذيا: يعطيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ " فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه. ثم كتب إليه، فقال: " كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين (1) من الغنيمة، وأما يسهم، فلا. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل الصبيان، وأنت لاتقتلهم. وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري، إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الاخذ لنفسه، ضعيف الوكاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم. وكتبت تسألني: عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك ". رواه الخمسة إلا البخاري. الأجراء وغير المسلمين لا يسهم لهم : وكذلك لا حق للاجراء الذين يصحبون الجيش للمعاش في الغنيمة، وإن قاتلوا، لانهم لم يقصدوا قتالا، ولا خرجوا مجاهدين، ويدخل فيهم الجيوش الحديثة، فإنها صناعة وحرفة. وأما غير المسلمين من الذميين، فقد اختلفت فيهم أنظار الفقهاء فيما إذا استعين بهم في الحرب، وقاتلوا مع المسلمين. فقالت الاحناف، وهو مروي عن الشافعي رضي الله عنه: يرضخ (2) لهم، ولا يسهم لهم.   (1) يحذين: يعطين، والحذوة: العطية. (2) يرضخ لهم: يعطون عطاء قليلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 ومروي عن الشافعي أيضا: يستأجرهم الامام من مال لا مالك له بعينه، فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الثوري والاوزاعي: يسهم لهم. الغلول : تحريم الغلول: يحرم الغلول، وهو السرقة من الغنيمة، إذ أن الغلول يكسر قلوب المسلمين، ويسبب اختلاف كلمتهم، ويشغلهم بالانتهاب عن القتال، وكل ذلك يفضي إلى الهزيمة، ولهذا كان الغلول من كبائر الاثم بإجماع المسلمين. يقول الله تعالى: " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ". (1) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة الغال وحرق متاعه وضربه، زجرا للناس وكبحا لهم أن يفعلوا مثل ذلك. فقد روى أبو داود، والترمذي، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه ". قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، حرقوا متاع الغال وضربوه. وقد رويت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأمر بحرق متاع الغال، ولا ضربه، ففهم من هذا ان للحاكم أن يتصرف حسب ما يرى من المصلحة، فإن كانت المصلحة تقتضي التحريق والضرب حرق   (1) سورة آل عمران: الاية 161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وضرب، وإن كانت المصلحة غير ذلك فعل ما فيه المصلحة. وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل (1) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو في النار "، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها. وروى أبو داود: " أن رجلا مات يوم خيبر من الاصحاب، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله "، ففتشوا متاعه، فوجدوا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين. الانتفاع بالطعام قبل قسمة الغنائم: ويستثنى من ذلك الطعام، وعلف الدواب، فإنه يباح للمقاتلين أن ينتفعوا بها ماداموا في أرض العدو، ولو لم تقسم عليهم. 1 - روى البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسم. 2 - وأخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقي، عن ابن أبي أوفى قال: " أصبنا طعام يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق. 3 - وروى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه. وفي بعض رواية الحديث عند أبي داود: فلم يؤخذ منهما الخمس. قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم. وقال: أنا أرى الابل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون الطعام.   (1) ثقل: متاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش. قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر بعد ذلك شيئا يرجع به إلى أهله. المسلم يجد ماله عند العدو يكون له: إذا استرد المقاتلون أموالا للمسلمين كانت بأيدي الاعداء، فأربابها أحق بها، وليس للمقاتلين منها شئ، لانها ليست من الغنائم. 1 - عن ابن عمر أنه غار له فرس، فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - وعن عمران بن حصين قال: " أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة، قامت المرأة، وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا، فركبتها، ثم توجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: " بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية ". وكذلك إذا أسلم الحربي وبيده مال مسلم، فإنه يرد إلى صاحبه. الحربي يسلم : إذا أسلم الحربي وهاجر إلى دار الاسلام وترك بدار الحرب ولده وزوجته وماله، فإن هذه تأخذ حرمة ذرية المسلم، وحرمة ماله، فإذا غلب المسلمون عليها لم تدخل في نطاق الغنائم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأمولهم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 أسرى الحرب : أسرى الحرب، وهم من جملة الغنائم، وهم على قسمين: (الاول) النساء والصبيان. (الثاني) الرجال البالغون المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بهم أحياء. وقد جعل الاسلام الحق للحاكم في أن يفعل بالرجال المقاتلين إذا ظفر بهم ووقعوا أسرى، ما هو الانفع والاصلح من المن، أو الفداء، أو القتل. والمن: هو إطلاق سراحهم مجانا. والفداء: قد يكون بالمال، وقد يكون بأسرى المسلمين، ففي غزوة بدر كان الفداء بالمال، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل. رواه أحمد والترمذي وصححه. يقول الله سبحانه وتعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم (1) فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها " (2) . وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم. وفي هذا نزل قول الله سبحانه وتعالى: " وهو الذي كف أيديم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " (3) .   (1) الاثخان: المبالغة في قتل العدو. (2) سورة محمد: الاية 4. (3) سورة الفتح: الاية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وقال صلى الله عليه وسلم لاهل مكة يوم الفتح: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ". على أنه يجوز للامام، مع ذلك، أن يقتل الاسير إذا كانت المصلحة تقتضي قتله، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قتل النضر ابن الحارث، وعقبة بن معيط، يوم بدر، وقتل أبا عزة الجمحي يوم أحد. وفي هذا يقول الله سبحانه: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " (1) . وممن ذهب إلى هذا جمهور العلماء، فقالوا: " للامام الحق في أحد الامور الثلاثة المتقدمة ". وقال الحسن وعطاء: لا يقتل الاسير، بل يمن عليه أو يفادى به. وقال الزهري ومجاهد وطائفة من العلماء: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا. وقال مالك: لا يجوز المن بغير فداء. وقال الاحناف: لا يجوز المن أصلا، لا بفداء ولا بغيره. معاملة الأسرى : عامل الاسلام الاسرى معاملة إنسانية رحيمة، فهو يدعو إلى إكرامهم والاحسان إليهم، ويمدح الذين يبرونهم، ويثني عليهم الثناء الجميل. يقول الله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا - إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " (2) . ويروي أبو موسى الاشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:   (1) سورة الانفال: الاية 17. (2) سورة الدهر: الاية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 " فكوا العاني (1) ، وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض ". وتقدم أن ثماقة بن أثال وقع أسيرا في أيدي المسلمين، فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أحسنوا إساره ". وقال: " اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه ". فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة (2) الرسول صلى الله عليه وسلم غدوا ورواحا. ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام، فأبى، وقال له: إن أردت الفداء، فاسأل ما شئت ما المال. فمن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه بدون فداء، فكان ذلك من أسباب دخوله في الاسلام. وقد جاء في الصحاح في شأن أسرى غزوة بني المصطلق - وكان من بينهم جويرية بنت الحارث - أن أباها الحارث بن أبي ضرار، حضر إلى المدينة ومعه كثير من الابل ليفتدي بها ابنته، وفي وادي العقيق، قبل المدينة بأميال، أخفى اثنين من الجمال أعجباه في شعب بالجبل، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها. فقال عليه الصلاة والسلام: " فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا "؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما أطلعك على ذلك إلا الله. وأسلم الحارث وابنان له، وأسلمت ابنته أيضا، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها وتزوجها، فقال الناس: لقد أصبح هؤلاء الاسرى الذين بأيدينا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنوا عليهم بغير فداء. وتقول عائشة رضي الله عنها: " فما أعلم أن امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، إذ بتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أعتق مائة من أهل بيت بني المصطلق ". ولمثل هذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من جويرية، لا لشهوة يقضيها، بل لمصلحة شرعية يبتغيها، ولو كان يبغي الشهوة لاخذها أسيرة حرب بملك اليمين.   (1) العاني: الاسير. (2) اللقحة: الناقة الحلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 الاسترقاق : إن القرآن الكريم لم يرد فيه نص يبيح الرق، وإنما جاء فيه الدعوة إلى العتق. ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الرق على أسير من الاسارى، بل أطلق أرقاء مكة، وأرقاء بني المصطلق، وأرقاء حنين. وثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم أعتق ما كان عنده من رقيق في الجاهلية. وأعتق كذلك ما أهدي إليه منهم. على أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ثبت عنهم أنهم استرقوا بعض الاسرى على قاعدة المعاملة بالمثل. فهم لم يبيحوا الرق في كل صورة من صوره، كما كان عليه العمل في الشرائع الالهية والوضعية، وإنما حصروره في الحرب المشروعة المعلنة من المسلمين ضد عدوهم الكافر، وألغوا كل الصور الاخرى، واعتبروها محرمة شرعا لا تحل بحال. ومع أن الاسلام ضيق مصادره وحصرها هذا الحصر، فإنه من جانب آخر عامل الارقاء معاملة كريمة، وفتح لهم أبواب التحرر على مصاريعها كما يتجلى ذلك فيما يلي: معاملة الرقيق : لقد كرم الاسلام الرقيق، وأحسن إليهم، وبسط لهم يد الحنان، ولم يجعلهم موضع إهانة ولا ازدراء، ويبدو ذلك واضحا فيما يلي: 1 - أوصى بهم فقال: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم " (1) .   (1) سورة النساء: الاية 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ". 2 - نهى أن ينادى بما يدل على تحقيره واستعباده، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي ". 3 - أمر أن يأكل ويلبس مما يأكل المالك، فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " خولكم (1) إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم ". 4 - نهى عن ظلمهم وأذاهم، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه ". وعن أبي مسعود الانصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ". فقلت: هو حر لوجه الله، فقال: " لو لم تفعل لمستك النار ". وجعل للقاضي حق الحكم بالعتق إذا ثبت أنه يعامله معاملة قاسية. 5 - دعا إلى تعليمهم وتأديبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له جارية فعلمها، وأحسن إليها وتزوجها، كان له أجران في الحياة وفي الاخرى. أجر بالنكاح والتعليم، وأجر بالعتق ". طريق التحرير : وقد فتح الاسلام أبواب التحرير، وبين سبل الحلاص، واتخذ وسائل شتى لانقاذ هؤلاء من الرق:   (1) الخول: الخدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 1 - فهو طريق إلى رحمة الله وجنته يقول الله سبحانه: " فلا اقتحم العقبة - وما أدراك ما العقبة - فك رقبة " (1) وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: " عتق النسمة، وفك الرقبة ". فقال: يارسول الله: أو ليسا واحدا؟ قال: " لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ". 2 - والعتق كفارة للقتل الخطأ. يقول الله عزوجل: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (2) 3 - وهو كفارة للحنث في اليمين لقوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون هليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " (3) . 4 - والعتق كفارة في حالة الظهار، يقول الله سبحانه: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ". (4) 5 - جعل الاسلام من مصارف الزكاة شراء الارقاء وعتقهم، يقول أالله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب " (5) . 6 - أمر بمكاتبة العبد على قدر من المال، حيث قال تعالى: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ". (6)   (1) سورة البلد: الايات 11، 12، 13. (2) سورة النساء: الاية 92. (3) سورة المائدة: الاية 89. (4) سورة المجادلة: الاية 3. (5) سورة التوبة: الاية 6. (6) سورة النور: الاية 33. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 7 - من نذر أن يحرر رقبة وجب عليه الوفاء بالنذر متى تحقق له مقصوده. وبهذا يتبين أن الاسلام ضيق مصادره الرق. وعامل الارقاء معاملة كريمة، وفتح أبواب التحرير، تمهيدا لخلاصهم نهائيا من نير الذل والاستعباد، فأسدى بذلك لهم يدا لا تنسى على مدى الايام. أرض المحاربين المغنومة : الارض التي تؤخذ عنوة: إذا غنم المسلمون أرضا، بأن فتحوها عنوة بواسطة الحرب والقتال، وأجلوا أهلها عنها، فالحاكم مخير بين أمرين. 1 - إما أن يقسمها على الغانمين (1) . 2 - وإما أن يقفها على المسلمين. وإذا وقفها على المسلمين ضرب عليها خراجا (2) مستمرا، يؤخذ ممن هي في يده، سواء أكان مسلما أم ذميا، ويكون هذا الخراج أجرة الارض يؤخذ كل عام. وأصل الخراج هو فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، في الارض التي فتحها، كأرض الشام، ومصر، والعراق. الارض التي جلا أهلها عنها خوفا أو صلحا: وكما تجب قسمة الارض المفتوحة على الغانمين، أو وقفها على المسلمين، يجب ذلك في الارض التي تركها أهلها خوفا منا، أو التي صالحناهم على أنها لنا، ونقرهم عليها نظير الخراج. أما التي صالحناهم على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، فهي كالجزية تسقط بإسلامهم. وإذا كان الخراج أجرة فإن تقديره يرجع إلى الحاكم فيضعه بحسب اجتهاده. إذ أن ذلك يختلف باختلاف الامكنة والازمنة، ولا يلزم الرجوع   (1) قال مالك رضي الله عنه: تكون وقفا على المسلمين ولا تجوز قسمتها على الفاتحين. (2) الخراج: يكون الخراج على أرض لها ماء تسقى به ولو لم تزرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه. وما وضعه عمر وغيره من الائمة يبقى على ما هو عليه، فليس لاحد أن يغيره ما لم يتغير السبب، لان تقديره حكم. العجز عن عمارة الارض الخراجية : ومن كان تحت يده أرض خراجية فعجز عن عمارتها أجبر على أحد أمرين: 1 - إما أن يؤجرها. 2 - أو يرفع يده عنها. لان الارض هي في الواقع للمسلمين، ولا يجوز تعطيلها عليهم. ميراث الأرض المغنومة : وهذه الارض يجري فيها الميراث، فينتقل ميراثها إلى وارث من كانت بيده على الوجه الذي كانت عليه في يد موروثه. الفيء : تعريفه: الفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع، وهو المال الذي أخذه المسلمون من أعدائهم دون قتال. وهو الذي ذكره الله سبحانه في قوله: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم (1) عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على على شئ قدير - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه   (1) أوجفتم: أصل الايجاف سرعة السير. والركاب: الابل التي يسافر عليها لا واحد لها من لفظها، أي ما سقتم ولا حركتم خيلا ولا إبلا أي لم يعدوا في تحصيله خيلا ولا إبلا بل حصل بلا قتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب - للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون - والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون - والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " (1) . فذكر الله المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة، ممن دخل في الاسلام قبل الفتح. وذكر الانصار - وهم أهل المدينة - الذين آووا المهاجرين، وذكر من جاء من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة. تقسيمه: قال القرطبي: قال مالك: " هو موكول إلى نظر الامام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الاربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ". فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الاية من ذكر على وجه التنبيه عليهم، لانهم أهم من يدفع إليه. قال: الزجاج محتجا لمالك: قال الله عزوجل: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين والتيامى والمساكين وابن السبيل " (2) .   (1) سورة الحشر: الايات 6، 7، 8، 9، 10. (2) سورة البقرة: الاية 215. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 والرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الاصناف إذا رأي ذلك. وذكر النسائي عن عطاء. قال: خمس الله وخمس رسوله واحد - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء. وفي حجة الله البالغة: واختلفت السنن في كيفية قسمة الفئ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفئ قسمه في يومه، فأعطى الاهل حظين وأعطى الاعزب حظا. وكان أبو بكر رضي الله عنه، يقسم للحر والعبد، يتوخى كفاية الحاجة. ووضع عمر رضي الله عنه الديوان على السوابق والحاجات، فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته. والاصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه يفعل ذلك على الاجتهاد. فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته. عقد الأمان : إذا طلب الامان أي فرد من الاعداء المحاربين قبل منه، وصار بذلك آمنا، لا يجوز الاعتداء عليه بأي وجه من الوجوه. يقول الله سبحانه: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " (1) . من له هذا الحق: وهذا الحق ثابت للرجال والنساء، والاحرار والعبيد، فمن حق أي فرد من هؤلاء أن يؤمن أي فرد من الاعداء يطلب الامان، ولا يمنع من هذا الحق أحد من المسلمين إلا الصبيان والمجانين، فإذا أمن صبي أو مجنون أحدا من   (1) سورة التوبة: الاية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 الاعداء فإنه لا يصح أمان واحد منهما. روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، عن علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم ". وروى البخاري، وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها قالت: " قلت يارسول الله. زعم ابن أم علي. أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان (ابن هبيرة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا (1) من أجرت يا أم هانئ ". نتيجة الأمان : ومهما تقرر الامان بالعبارة أو الاشارة، فإنه لا يجوز الاعتداء على المؤمن، لانه بإعطاء الامان له عصم نفسه من أن تزهق ورقبته من أن تسترق. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: " لا تخف، ثم قتله " فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: " إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج. حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، يقول له: " لا تخف " فإذا أدركه قتله! وإني والذي نفسي بيده. لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه. وروى البخاري في التاريخ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أمن رجلا على دمه فقتله، فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافرا " وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ". متى يتقرر هذا الحق : ويتقرر حق الامان بمجرد إعطائه، ويعتبر نافذا من وقت صدوره إلا أنه   (1) أجرنا: أمنا من أمنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 لا يقر نهائيا إلا بإقرار الحاكم، أو قائد الجيش. وإذا تقرر الامان، وأقر من الحاكم أو الجيش، صار المؤمن من أهل الذمة، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ولا يجوز إلغاء أمانه إلا إذا ثبت أنه أراد أن يستغل هذا الحق في إيقاع الضرر بالمسلمين، كأن يكون جاسوسا لقومه، وعينا على المسلمين. عقد الأمان لجهة ما : " إنما يصح الامان من آحاد المسلمين إذا أمن واحدا أو اثنين فأما عقد الامان لاهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الامام على سبيل الاجتهاد، وتحري المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لاحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد " (1) الرسول حكمه حكم المؤمن والرسول مثل المؤمن، سواء أكان يحمل الرسائل أو يمشي بين الفريقين المتقاتلين بالصلخ، أو يحاول وقف القتال لفترة يتيسر فيها نقل الجرحى والقتلى. يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ". أخرجه أحمد، وأبود داود من حديث نعيم بن مسعود (2) . وأوفدت قريش أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع الايمان في قلبه، فقال: يارسول الله لا أرجع إليهم، وأبقى معكم مسلما. فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد فارجع إليهم آمنا، فإن وجدت بعد ذلك في قلبك ما فيه الان، فارجع إلينا ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان وصححه.   (1) الروضة الندية ص 408. (2) وكان الرسول قرأ كتاب مسيلمة، وقال لهما: ما تقولان أنتما. قالا: نقول كما قال: أي أنهما يقولان بنبوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 وفي كتاب الخراج لابي يوسف والسير الكبير لمحمد: أنه إن اشترط للرسول شروط وجب على المسلمين أن يوفوا بها، ولا يصح لهم أن يغدروا برسل العدو، حتى ولو قتل الكفار رهائن المسلمين عندهم، فلا نقتل رسلهم لقول نبينا: " وفاء بغدر خير من غدر بغدر ". المستأمن : تعريفه: المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الاسلام بأمان (1) دون نية الاستيطان بها والاقامة فيها بصفة مستمرة، بل يكون قصده إقامة مدة معلومة، لا تزيد على سنة، فإن تجاوزها، وقصد الاقامة بصفة دائمة، فإنه يتحول إلى ذمي ويكون له حكم الذمي في تبعيته للدولة الاسلامية، ويتبع المستأمن في الامان، ويلحق به زوجته وأبناؤه الذكور القاصرون، والبنات جميعا، والام، والجدات، والخدم، ماداموا عائشين مع الحربي الذي أعطي الامان. وأصل هذا قول الله سبحانه وتعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنة " (2) . حقوقه: وإذا دخل الحربي دار الاسلام بأمان، كان له حق المحافظة على نفسه وماله وسائر حقوقه ومصالحه، مادام مستمسكا بعقد الامان، ولم ينحرف عنه. ولا يحل تقييد حريته، ولا القبض عليه مطلقا، سواء قصد به الاسر، أو قصد به الاعتقال، لمجرد أنهم رعايا الاعداء أو لمجرد قيام حالة الحرب بيننا وبينهم. قال السرخسي: " أموالهم صارت مضمونة بحكم الامان، فلا يمكن أخذها بحكم الاباحة ".   (1) إذا دخل التبليغ رسالة ونحوها أو لسماع كلام الله، فهو آمن دون حاجة إلى عقد، أما إذا دخل للتجارة وأعطي الاذن ممن يملكه فهو مستأمن. (2) سورة التوبة: الاية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 وحتى إذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الامان بالنسبة لنفسه، ويبقى بالنسبة لماله. قال في المغني: " إذا دخل حربي دار الاسلام بأمان، فأودع ماله مسلما أو ذميا، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا، فإن دخل تاجرا، أو رسولا، أو متنزها، أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الاسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله، لانه لم يخرج بذلك عن نية الاقامة في دار الاسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنا، بطل الامان في نفسه، وبقي في ماله، لانه بدخوله دار الاسلام بأمان، ثبت الامان لماله، فإذا بطل الامان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه، فيختص البطلان فيه. الواجب عليه: وعليه المحافظة على الامن والنظام العام، وعدم الخروج عليهما، بأن يكون عينا، أو جاسوسا، فإن تجسس على المسلمين لحساب الاعداء حل قتله إذ ذاك. تطبيق حكم الاسلام عليه: تطبق على المستأمن القوانين الاسلامية بالنسبة للمعاملات المالية، فيعقد عقد البيع وغيره من العقود حسب النظام الاسلامي، ويمنع من التعامل بالربا، لان ذلك محرم في الاسلام. وأما بالنسبة للعقوبات، فإنه يعاقب بمقتضى الشريعة الاسلامية إذا اعتدى على حق مسلم. وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمي، أو مستأمن مثله لان إنصاف المظلوم من الظالم وإقامة العدل من الواجبات التي لا يحل التساهل فيها. وإذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله مثل اقتراف جريمة الزنا فإنه يعاقب كما يعاقب المسلم، لان هذه جريمة من الجرائم التي تفسد المجتمع الاسلامي (1) .   (1) خالف في ذلك أبو حنيفة فقال: إن العقوبات التي تكون حقا لله أو يكون فيه حق الله غالبا فانه لا يقام فيها الحد على المستأمن، وهذا رأي مرجوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 مصادرة ماله: ومال المستأمن لا يصادر إلا إذا حارب المسلمين، فأسر واسترق وصار عبدا، فإنه في هذه الحال تزول عنه ملكية ماله، لانه صار غير أهل للملكية. ولا يستحق الورثة، ولو كانوا في دار الاسلام شيئا، لان استحقاقهم يكون بالخلافة عنه، وهي لا تكون إلا بعد موته، وهو لم يمت، وماله في هذه الحال يئول إلى بيت مال المسلمين، على أنه من الغنائم. وإذا كان له دين على بعض المسلمين أو الذميين، يسقط عن المدين لعدم وجود من يطالب به. ميراثه: إذا مات المستأمن في دار الاسلام، أو في دار الحرب فإن ملكيته لماله لا تذهب عنه، وتنتقل إلى ورثته عند الجمهور، خلافا للشافعي. وعلى الدولة الاسلامية أن تنقل ماله إلى ورثته، وترسله إليهم، فإن لم يكن له ورثة، كان ذلك المال فيئا للمسلمين. العهود والمواثيق : احترام العهود: ان احترام العهود والمواثيق واجب إسلامي، لما له من أثر طيب، ودور كبير في المحافظة على السلام، وأهمية كبرى في فض المشكلات وحل المنازعات وتسوية العلاقات. وجاء في كلام العرب: " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته. وظهرت عدالته، ووجبت أخوته ". وهذا حق، فإن حسن معاملة الناس، والوفاء لهم، والصدق معهم دليل كمال المروءة، ومظهر من مظاهر العدالة، وذلك يستوجب الاخوة والصداقة. والله سبحانه يأمر بالوفاء بجميع العهود والالتزامات، سواء أكانت عهودا مع الله، أم مع الناس، فيقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ". (1) وأي تقصير في الوفاء بهذا الامر يعتبر إثما كبيرا، يستوجب المقت والغضب: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون - كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون " (2) . وكل ما يقطعه الانسان على نفسه من عهد، فهو مسئول عنه ومحاسب عليه: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " (3) . وحق العهد مقدم على حق الدين: " والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " (4) والوفاء جزء من الايمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن حسن العهد من الايمان " (5) . وليس للوفاء جزاء إلا الجنة: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم على صلواتهم يحافظون - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ". (6) ولقد كان الوفاء خلق الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا " (7) . وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم المثل الاعلى في هذا الخلق: قال عبد الله بن أبي الحمساء: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيع قبل أن   (1) سورة المائدة: الاية 1. (2) سورة المنافقون: الاية 1. (3) سورة الاسرار: الاية 34. (4) سورة الانفال: الاية 72. (5) قال الحاكم: إنه صحيح، وأقره الذهبي. (6) سورة المؤمنون: الاية 11. (7) سورة مريم: الاية 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 يبعث، وبقيت له بقية (1) فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: " يافتى لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاث (2) أنتظرك " وقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة اليهود عهدا، أقرهم فيه على دينهم، وأمنهم على أموالهم، بشرط ألا يعينوا عليه المشركين، فنقضوا العهد، ثم اعتذروا، ثم رجعوا فنقضوه مرة أخرى، فأنزل الله عزوجل: " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون " (3) وعاهد ثعلبة ربه على أن يعطي كل ذي حق حقه إذا وسع الله عليه في الرزق، وأغناه من فضله. فلما بسط الله له من رزقه، وأكثر له من المال والثروة، نقض العهد وبخل على عباد الله، فأنزل الله في حقه: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين - فلما آتاهم من فضله بخلوا من وتولوا وهم معرضون - فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " (4) ولما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر، قال: " إنه خطب إلي ابنتي رجل من قريش. وقد كان مني إليه شبه الوعد. فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي ". وهو يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " (5) .   (1) بقيت له بقية: أي بقية من ثمن البيع. (2) منذ ثلاث: أي ثلاث ليال. أي انه انتظره هذه المدة وفاء بالوعد. (3) سورة الانفال: الايتان 55، 56. (4) سورة التوبة: الايات من 75 - 77. (5) رواه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 وفي التشنيع على الناقضين للعهود، يقول الله عزوجل: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون - ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة - إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون " (1) . شروط العهود : ويشترط في العهود التي يجب احترامها والوفاء بها، الشروط الاتية: 1 - ألا تخالف حكما من الاحكام الشرعية المتفق عليها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله (2) فهو باطل، وإن كان مائة شرط ". 2 - أن تكون عن رضا واختيار، فإن الاكراء يسلب الارادة، ولا احترام لعقد لم تتوفر فيه حريتها. 3 - أن تكون بينة واضحة، لا لبس فيها ولا غموض حتى لا تؤول تأويلا يكون مثارا للاختلاف عند التطبيق. نقض العهود : ولا تنقض العهود إلا في إحدي الحالات الاتية: 1 - إذا كانت مؤقتة بوقت، أو محددة بظرف معين، وانتهت مدتها، وانتهى ظرفها. روى أبو داود والترمذي عن عمر بن عبسة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يجلن عهدا، ولا يشدنه، حتى   (1) سورة النحل: الايتان 92، 93. (2) كتاب الله: أي حكم الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء. ويقول القرآن الكريم: " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين " (1) . 2 - إذا أخل العدو بالعهد: " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين " (2) " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " (3) . 3 - إذا ظهرت بوادر الغدر ودلائل الخيانة. " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين " (4) الاعلام بالنقض تحرزا عن الغدر إذا علم الحاكم الخيانة ممن كان بينهم وبين المسلمين عهد فإنه لا تحل محاربتهم إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وبلوغ خبره إلى القريب والبعيد حتى لا يؤخذوا على غرة. يقول الله سبحانه في سورة الانفال: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين " (5) .   (1) سورة التوبة: الاية 4. (2) سورة التوبة: الاية 7. (3) سورة التوبة: الاية 13، 14. (4) سورة الانفال: الاية 58. (5) سورة الانفال: الاية 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 وقاعدة الاسلام: " وفاء بغدر خير من غدر بغدر ". قال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: " لو بعث أمير المسلمين إلى ملك الاعداء من يخبره بنبذ العهد عند تحقق سببه، فلا ينبغي للمسلمين أن يغيروا عليهم وعلى أطراف مملكتهم، إلا بعد مضي الوقت الكافي لان يبعث الملك إلى تلك الاطراف خبر النبذ حتى لا نأخذهم على غرة، ومع ذلك إذا علم المسلمون يقينا أن القوم لم يأتهم خبر من قبل ملكهم فالمستحب لهم أن لا يغيروا عليهم حتى يعلموهم بالنبذ، لان هذا شبيه الخديعة..وكما على المسلمين أن يتحرزوا من الخديعة، عليهم أن يتحرزوا من شبه الخديعة ". وحدث ان أهل قبرص أحدثوا حدثا عظيما في ولاية عبد الملك بن مروان فأراد نبذ عهدهم ونقض صلحهم، فاستشار الفقهاء في عصره، منهم: الليث بن سعد ومالك وأنس، فكتب الليث بن سعد: " إن أهل قبرص لا يزالون متهمين بغش أهل الاسلام ومناصحة أهل الاعداء " الروم " وقد قال الله تعالى: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ". وإني أرى أن تنبذ إليهم وإن تنظر هم سنة ". أما مالك بن أنس فكتب في الفتيا يقول: " إن أمان أهل قبرص وعهدهم كان قديما متظاهرا من الولاة لهم، ولم أجد أحدا من الولاة نقض صحلهم، ولا أخرجهم من ديارهم، وأنا أرى أن لا تعجل بمنابذتهم حتى تتجه الحجة عليهم فإن الله يقول: " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ". فإن لم يستقيموا بعد ذلك ويدعوا غشهم ورأيت الغدر ثابتا فيهم، أوقعت بهم بعد النبذ والاعذار فرزقت النصر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 من معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم : 1 - ولقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم بني ضمرة من قبائل العرب، وهذا نص ذلك العهد: " هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، إلا أن يحاربوا في دين الله، مابل بحر صوفة، وإن النبي " صلى الله عليه وسلم " إذا دعاهم إلى النصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة رسوله، ولهم النصر من برمنهم واتقى ". 2 - كما عاهد اليهود على حسن الجوار أول ما استقر به المقام بالمدينة، وفيما يلي نصها العهد: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون (2) بينهم، وهم يفدون عانيهم (3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.   (1) أمرهم الذي كانوا عليه. (2) يأخذون ديات القتل ويعطونها. وأصله من العقل وهو ربط إبل الدية لدفعها لاهل القتيل. (3) عانيهم: أسيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عمر بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الاوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وألا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (2) ظلم، أو إثما، أو عدوانا، أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن. وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والاسوة (3) غير مظلومين ولا متناصر عليهم.   (1) هو من أثقله الدين والغرم فأزال فرحه. (2) الدسع: الدفع، والمعنى: طلب دفعا على سبيل الظلم أو ابتغى عطية على سبيل الظلم. (3) في هذا ما يفيد أن النصر والمساواة لمن تبع اليهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم (1) . وأن كل غازية غزت معنا يعقب (2) بعضها بعضا. وأن المؤمنين يبئ (3) بعضهم على بعض. بمال نال دماءهم في سبيل الله. وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن. وأنه من اعتبط (4) مؤمنا قتلا عن بيئة فإنه قود به (5) ، إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الاخر، أن ينصر محدثا أو يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل (6) . وأنكم مهما اختلفتم فيه من شئ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين (7) . وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوتغ (8) إلا نفسه وأهل بيته (9) وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.   (1) يؤخذ من هذا أن إعلان الحرب على جماعة مسلمة إعلان لها على الامة الاسلامية كلها. (2) أي يكون الغزو بينهم نوبا يعقب بعضهم بعضا فيه. (3) يبئ: من أبأت القاتل بالقتيل إذا قتلته به. (4) اعتبطه: قتله بلا جناية أو جريرة توجب قتله. (5) فإن القاتل يقاد به ويقتل. (6) فيه منع نصرة المجرم. (7) فيه استقلال كل أمة المسلمين واليهود كما أنها تضمنت مخالفة عسكرية بمقتضاها تتعاون الامتان في كل حرب وعلى كل منهما نفقة جيشها خاصة. (8) يوتغ: يهلك ويفسد. (9) في هذا تقرير الحرية الدينية والاقتصادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني الاوس مثل ما ليهود بني عوف. وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. وأن جفنة - بطن من ثعلبة - كأنفسهم. وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الاثم. وأن موالي ثعلبة كأنفسهم. وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد ألا بإذن محمد. وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته، إلا من ظلم، وأن له على أبر هذا. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح، والنصيحة، والبر دون الاثم (1) . وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم (2) . وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وأن يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة. وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.   (1) في هذا إلزام الطرفين التشاور والتناصح قبل دخول الحرب. (2) لا بد من أن تكون الحرب مشروعة حتى يمكن للمسلمين المشاركة فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.   (1) في هذا إلزام الطرفين التشاور والتناصح قبل دخول الحرب. (2) لا بد من أن تكون الحرب مشروعة حتى يمكن للمسلمين المشاركة فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. وأنه لا تجار قريش، ولا من نصرها. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين. على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. وأن يهود الاوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الاثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " (1)   (1) نقلا عن كتاب " الرسالة الخالدة " عن كتاب الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، للدكتور محمد حميد الله الحيدر أبادي، أستاذ الحقوق الدولية بالجامعة العثمانية بحيد أباد \ دكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 بسم الله الرحمن الرحيم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قرآن كريم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الاولين والاخرين، سيدنا (محمد) وعلى آله ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا هو الجزء الثاني عشر من كتاب (فقه السنة) نقدمه للقراء الكرام، سائلين الله سبحانه أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. السيد سابق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم الأيمان تعريفها: الايمان: جمع يمين، وهو اليد المقابلة لليد اليسرى، وسمي بها الحلف لانهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل: لانها تحفظ الشئ كما تحفظه اليمين. ومعنى اليمين في الشرع: تحقيق الامر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. أو هو عقد يقوي به الحالف عزمه على الفعل أو الترك. واليمين والحلف والابلاء والقسم بمعنى واحد. اليمين لا تكون إلا بذكر الله أو صفة من صفاته: ولا يكون الحلف إلا بذكر اسم الله أو صفة من صفاته سواء أكانت صفات ذات أم صفات أفعال، كقوله: والله وعزة الله وعظمته وكبريائه وقدرته وإرادته وعلمه ... وكذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 الحلف بالمصحف أو القرآن أو سورة أو آية منه : وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه: (وفي السماء رزقكم وما توعدون. فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) (1) . ويقول: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين) (2) . وعن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ومقلب القلوب) . وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: (كان رسول الله، صلى الله صلى الله عليه وسلم، إذا اجتهد (3) في الدعاء قال: (والذي نفس أبي القاسم بيده) رواه أبو داود. (أيم الله وعمر الله وأقسمت عليك) قسم: (أيم الله يمين، لانها بمعنى: والله - أو: وحق الله.   (1) سورة الذاريات آية رقم 22، 23. (2) سورة المعارج آية رقم 40، 41. (3) اجتهد: بالغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 ويمين الله، يمين عند الاحناف والمالكية، لان معناها: أحلف بالله. وقالت الشافعية: لا تكون يمينا إلا بالنية، فإن نوى الحالف اليمين انعقدت، وإن لم ينو لم تنعقد. وعند أحمد: روايتان، أصحهما أنها تنعقد. وعمر الله يمين عند الاحناف والمالكية، لانها بمعنى: وحياة الله وبقائه. وقال الشافعي، رضي الله عنه وأحمد وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية. وكلمة أقسمت عليك - وأقسمت بالله، يرى بعض العلماء أنه يكون يمينا مطلقا، ويرى أكثرهم أنه لا يكون يمينا إلا بالنية. وذهبت الشافعية إلى أن ما ذكر فيه اسم الله يكون يمينا. وأن ما لم يذكر فيه اسم الله لا يكون يمينا، وإن نوى اليمين. وقال مالك، رضي الله عنه: إن قال الحالف: أقسمت بالله كان يمينا، وإن قال: أقسمت أو أقسمت عليك، فإنه في هذه الصورة لا يكون يمينا إلا بالنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الحلف بأيمان المسلمين : سبق أن قلنا في الجزء الثامن من فقه السنة إن الحلف بأيمان المسلمين لا يلزم به شئ، ومن حلف فقال: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله الحرام. أو قال: إن فعلت كذا فالحلال علي حرام. أو قال: إن فعلت كذا فكل ما أملكه صدقة. فهذا وأمثاله فيه كفارة يمين متى حنث، وهو أظهر أقوال العلماء - وقيل: لا شئ فيه. وقيل: إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به. الحلف بأنه غير مسلم - أو الحلف بالبراءة من الاسلام: من حلف أنه يهودي أو نصراني أو أنه برئ من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم إن فعل كذا ففعله. فقال جماعة من العلماء منهم الشافعي: ليس هذا بيمين ولا كفارة عليه، لان النصوص اقتصرت على التهديد والزجر الشديد. وروى أبو داود والنسائي عن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال: إني برئ من الاسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال (1) . وإن كان صادقا   (1) أي هو كما قال عقوبة له على كذبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 فلن يرجع إلى الاسلام سالما) (1) . وعن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير ملة الاسلام فهو كما قال) . وذهب الاحناف وأحمد وإسحاق وسفيان والاوزاعي: إلى أنه يمين، وعليه الكفارة إن حنث. الحلف بغير الله محظور : وإذا كانت اليمين لا تكون إذا بذكر اسم الله أو ذكر صفة من صفاته، فإنه يحرم الحلف بغير ذلك، لان الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والله وحده هو المختص بالتعظيم. فمن حلف بغير الله فأقسم بالنبي أو الولي أو الأب أو الكعبة أو ما شابه ذلك، فإن يمينه لا تنعقد، ولا كفارة عليه إذا حنث. وأثم بتعظيمه غير الله. 1 - عن ابن عمر، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر رضي الله عنه في ركب وهو يحلف   (1) إن قصد بذلك إبعاد نفسه لم يكفر. وليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستغفر الله ويتوب إليه. وإن أراد الكفر إذا فعل المحلوف عليه كفر والعياذ بالله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 بأبيه، فناداهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. ذاكرا ولا آثرا) (1) . 2 - وسمع ابن عمر، رضي الله عنهما رجلا يحلف: لا، والكعبة، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) . 3 - وعن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى: فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق) (2) . 4 - وعند أبي داود (من حلف بالامانة فليس منا) أي ليس على طريقتنا.   (1) أي لم يحلف بأبيه من قبل نفسه ولا حاكيا عن غيره. (2) اللات والعزى: صنمان لاهل مكة كانوا يحلفون بهما في الجاهلية، فمن حلف بهما، فليكفر بقوله: لا إله إلا الله. كما يتصدق إذا طلب لعب القمار من صاحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 - وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالانداد - أي الاصنام - ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة. الحلف بغير الله دون تعظيم المحلوف به : جاء النهي عن الحلف بغير الله إذا كان يقصد بذكره التعظيم، كالحالف بالله يقصد بذكره تعظيمه. أما إذا لم يقصد التعظيم، بل قصد تأكيد الكلام فهو مكروه من أجل المشابهة، ولانه يشعر بتعظيم غير الله. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم للاعرابي: (أفلح وأبيه) . قال البيهقي: إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد. وأيد النووي هذا الرأي وقال: إنه هو الجواب المرضي. قسم الله بالمخلوقات : كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم فيلقون إليه السمع مصغين، لانهم يرون أن قسم المتكلم دليل على عظم الاهتمام بما يريد أن يتكلم به، وأنه أقسم ليؤكد كلامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وعلى هذا جاء القرآن يقسم بأشياء كثيرة، منها القرآن، كقوله تعالى: (والقرآن المجيد) . ومنها بعض المخلوقات مثل: (والشمس وضحاها) (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى) . وإنما كان ذلك لحكم كثيرة في المقسم به والمقسم عليه. من هذه الحكم: لفت النظر إلى مواضع العبرة في هذه الاشياء بالقسم بها، والحث على تأملها، حتى يصلوا إلى وجه الصواب فيها. فقد أقسم سبحانه وتعالى بالقرآن لبيان أنه كلام الله حقا وبه كل أسباب السعادة. وأقسم بالملائكة لبيان أنهم عباد الله خاضعون له، وليسوا بآلهة يعبدون. وأقسم بالشمس والقمر والنجوم لما فيها من الفوائد والمنافع، وأن تغيرها من حال إلى حال يدل على حدوثها، وأن لها خالقا وصانعا حكيما، فلا يصح الغفلة عن شكره والتوجه إليه. وأقسم بالريح. والطور. والقلم. والسماء ذات البروج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 إذ أن ذلك كله من آيات الله التي يجب التوجه إليها بالفكر والنظر. أما المقسم عليه فأهمه: وحدانية الله، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث الاجساد مرة أخرى، ويوم القيامة. لان هذه هي أسس الدين التي يجب أن تعمق جذورها في النفس. والقسم بالمخلوقات مما اختص الله به. أما نحن البشر فلا يصح لنا أن نقسم إلا بالله أو بصفة من صفاته على النحو المتقدم ذكره. شرط اليمين وركنها : ويشترط في اليمين: العقل. والبلوغ. والاسلام. وإمكان البر. والاختيار. فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه. وركنها: اللفظ المستعمل فيها. حكم اليمين : وحكم اليمين أن يفعل الحالف المحلوف به فيكون بارا. أو لا يفعله فيحنث، وتجب الكفارة. أقسام اليمين : تنقسم الايمان أقساما ثلاثة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 1 - اليمين اللغو. 2 - اليمين المنعقدة. 3 - اليمين الغموس. اليمين اللغو وحكمها : ويمين اللغو: هي الحلف من غير قصد اليمين، كان يقول المرء: والله لتأكلن، أو لتشربن، أو لتحضرن. ونحو ذلك. لا يريد به يمينا ولا يقصد به قسما، فهو من سقط القول. فعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: أنزلت هذه الاية: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) . في قول الرجل: لا والله. وبلى والله. وكلا والله. رواه البخاري مسلم وغيرهما. وقال مالك، رضي الله عنه، والاحناف، والليث، والاوزاعي: لغو اليمين أن يحلف على شئ يظن صدقه، فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ. وعند أحمد، رضي الله عنه روايتان كالمذهبين. وحكم هذا اليمين: أنه لا كفارة فيه، ولا مؤاخذة عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 اليمين المنعقدة وحكمها : واليمين المنعقدة هي اليمين التي يقصدها الحالف ويصمم عليها، فهي يمين متعمدة مقصودة، وليست لغوا يجري على اللسان بمقتضى العرف والعادة. وقيل: اليمين المنعقدة هي أن يحلف على أمر من المستقبل أن يفعله أو لا يفعله. وحكمها: وجوب الكفارة فيها عند الحنث. يقول الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) (1) . ويقول: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) . (2)   (1) سورة البقرة آية رقم 225. (2) سورة المائدة آية رقم 89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 اليمين الغموس وحكمها : واليمين الغموس وتسمى أيضا: الصابرة - وهي اليمين الكاذبة التي تهضم بها الحقوق، أو التي يقصد بها الغش والخيانة. وهي كبيرة من كبائر الاثم - ولا كفارة فيها (1) - لانها أعظم من أن تكفر، وسميت غموسا لانها تغمس صاحبها في نار جهنم. وتجب التوبة منها. ورد الحقوق إلى أصحابها إذا ترتب عليها ضياع هذه الحقوق. يقول الله سبحانه: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم. فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) (2) . 1 - وروى أحمد، رضي الله عنه وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، ويمين صابرة يقطع بها مالا   (1) وقال الشافعي ورواية عن أحمد رضي الله عنهما - فيها الكفارة. (2) سورة النحل آية رقم 94. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 بغير حق) . 2 - وروى البخاري عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) . 3 - وروى أبو داود عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين مصبورة (1) كاذبا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار) .   (1) مصبورة: أي ألزم بها وحبس عليها - وكانت لازمة من جهة الحكم. مبنى الايمان على العرف والنية: أمر الايمان مبني على العرف الذي درج عليه الناس لا على دلالات اللغة ولا على اصطلاحات الشرع، فمن حلف أن لا يأكل لحما، فأكل سمكا فإنه لا يحنث وإن كان الله سماه لحما، إلا إذا نواه، أو كان يدخل في عموم اللحم في عرف قومه. ومن حلف على شئ وورى بغيره فالعبرة بنيته لا بلفظه، إلا إذا حلفه غيره على شئ، فالعبرة بنية المحلف لا الحالف، وإلا لم يكن للايمان فائدة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 التقاضي. قال النووي: إن اليمين على نية الحالف في كل الاحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فهي على نية القاضي أو نائبه، ولا تصح التورية هنا وتصح في كل حال، ولا يحنث بها وإن كانت للباطل حراما. والدليل على أن العبرة بنية الحالف إلا إذا حلفه غيره، ما رواه أبو داود وابن ماجه عن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل ابن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي. قال: (صدقت، المسلم أخو المسلم) . والدليل على أن العبرة بنية المستحلف إذا استحلف على شئ، ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المستحلف) . وفي رواية: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) . والصاحب هو المستحلف، وهما طالبا اليمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 لا حنث مع النسيان أو الخطأ: من حلف أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو خطأ فإنه لا يحنث لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: - (إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . والله يقول: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) (1) . يمين المكره غير لازمة : لا يلزم الوفاء باليمين التي يكره المرء عليها، ولا يأثم إذا حنث (2) فيها للحديث المتقدم، ولان المكره مسلوب الارادة، وسلب الارادة يسقط التكليف. ولهذا ذهب الائمة الثلاثة إلى أن يمين المكره لا تنعقد، خلافا لابي حنيفة. الاستثناء في اليمين : من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه. فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله. فلا حنث عليه) .   (1) سورة الاحزاب آية رقم 5. (2) الحنث في اليمين يكون بفعل ما حلف على تركه أو ترك ما حلف على فعله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 رواه أحمد وغيره، وصححه ابن حبان. تكرار اليمين : إذا كرر اليمين على شئ واحد أو على أشياء وحنث فقال أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد: يلزم بكل يمين كفارة. وعند الحنابلة، أن من لزمته أيمان قبل التكفير موجبها واحد فعليه كفارة واحدة، لانها كفارات من جنس واحد. وإن اختلف موجب الايمان، وهو الكفارة، كظهار ويمين بالله لزمته الكفارتان ولم تتداخلا. كفارة اليمين : تعريف الكفارة: الكفارة صيغة مبالغة من الكفر، وهو الستر، والمقصود بها هنا الاعمال التي تكفر بعض الذنوب وتسترها حتى لا يكون لها أثر يؤاخذ به في الدنيا ولا في الاخرة. والذي يكفر اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف: 1 - الاطعام 2 - الكسوة 3 - العتق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 على التخيير. فمن لم يستطع فليصم ثلاثة أيام. وهذه الثلاثة مرتبة ترتيبا تصاعديا - أي تبدأ من الادنى للاعلى، فالاطعام أدناها، و الكسوة أوسطها، والعتق أعلاها. يقول الله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) (1) حكمة الكفارة: الحنث خلف وعدم وفاء، فتجب الكفارة جبرا لهذا. الإطعام : لم يرد نص شرعي في مقدار الطعام ونوعه، وكل ما كان كذلك يرجع فيه إلى التقدير بالعرف، فيكون الطعام مقدرا بقدر ما يطعم منه الانسان أهل بيته غالبا - لا من الاعلى الذي يتوسع به في المواسم والمناسبات، ولا من الادنى الذي يطعمه في بعض الاحيان.   (1) سورة المائدة آية رقم 89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 فلو كانت عادة الانسان الغالبة في بيته أكل اللحم والخضروات وخبز البر فلا يجزئ ما دونه، وإنما يجزئ ما كان مثله وأعلى منه، لان المثل وسط، والاعلى فيه الوسط وزيادة. وهذا مما يختلف باختلاف الافراد والبلاد. وقد كان الامام مالك، رضي الله عنه، يرى أن المد يجزئ في المدينة، قال: وأما البلدان فلهم عيش غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم، لقوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) . وهذا مذهب داود وأصحابه. واشترط الفقهاء أن يكون العشرة المساكين من المسلمين إلا أبا حنيفة، فإنه جوز دفعها إلى فقراء أهل الذمة. ولو أطعم مسكينا عشرة أيام، فإنه يجزئ عن عشرة مساكين عند أبي حنيفة. وقال غيره: يجزئ عن مسكين واحد. وإنما تجب كفارة الاطعام على المستطيع، وهو من يجد ذلك فاضلا عن نفقته ونفقة من يعول. وقدر بعض العلماء الاستطاعة بوجود خمسين درهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 عنده كما قال قتادة، أو عشرين كما قاله النخعي. الكسوة : وهي اللباس. ويجزئ منها ما يسمى كسوة. وأقل ذلك ما يلبسه المساكين عادة - لان الاية لم تقيدها بالاوسط، أو بما يلبسه الاهل، فيكفي القميص السابغ (جلابية) مع السراويل. كما تكفي العباءة أو الازار والرداء. ولا يجزئ فيها القلنسوة أو العمامة أو الحذاء أو المنديل أو المنشفة. وعن الحسن وابن سيرين: أن الواجب ثوبان، ثوبان. وعن سعيد بن المسيب: عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. وعن عطاء، وطاووس، والنخعي: ثوب جامع كالملحفة والرداء. وعن ابن عباس، رضي الله عنه: عباءة لكل مسكين أو شملة. وقال مالك وأحمد، رضي الله عنهما: يدفع لكل مسكين ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا أو امرأة، كل بحسبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 تحرير الرقبة : أي إعتاق الرقيق وتحريره من العبودية، ولو كان كافرا، عملا بإطلاق الاية عند أبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر. واشترط الجمهور الايمان، حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل والظهار، إذ تقول الاية: (فتحرير رقبة مؤمنة) (1) . الصيام عند عدم الاستطاعة : فمن لم يستطع واحدة من هذه الثلاث، وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام. فإن لم يستطع لمرض أو نحوه - ينوي الصيام عند الاستطاعة، فإن لم يقدر، فإن عفو الله يسعه. ولا يشترط التتابع في الصوم. فيجوز صيامها متتابعة، كما يجوز صيامها متفرقة. وما ذكره الحنفية، والحنابلة - من اشتراط التتابع - غير صحيح. فقد استدلوا بقراءة جاء فيها كلمة (متتابعات) وهي قراءة شاذة ولا يستدل بالقراءة الشاذة، لانها ليست قرآنا - ولم تصح هنا حديثا حتى تكون تفسيرا من النبي   (1) سورة النساء آية رقم 92. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 صلى الله عليه وسلم، للاية. إخراج القيمة : اتفق الائمة الثلاثة على أن كفارة اليمين لا يجزئ فيها إخراج القيمة عن الاطعام والكسوة. وأجاز ذلك أبو حنيفة، رضي الله عنه. الكفارة قبل الحنث وبعده : اتفق العلماء على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، واختلفوا في جواز تقديمها عليه. فجمهور الفقهاء يرى أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث، وتأخيرها عنه، ففي الحديث عند مسلم وأبي داود والترمذي: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل) . (1) ففي هذا الحديث جواز تقديم الكفارة على الحنث. وإذا تقدمت الكفارة على الحنث كان الشروع في الحنث غير شروع في الاثم، إذ تقديم الكفارة يجعل الشئ المحلوف عليه مباحا. وعند مسلم أيضا ما يفيد جواز تأخير الكفارة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى   (1) أي يفعل ما فيه الخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 غيرها خيرا منها فليأتها، وليكفر عن يمينه) . قال هؤلاء: ومن قدم الحنث كان شارعا في معصية، وقد يموت قبل أن يتمكن من الكفارة، ولعل هذه هي حكمة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقديم الكفارة. ويرى أبو حنيفة أن الكفارة لا تصح إلا بعد الحنث، لتحقق موجبها حينئذ. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير) . معناه عنده: فليقصد أداء الكفارة، كقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ) (1) أي إذا أردت. والاول أرجح. جواز الحنث للمصلحة : الاصل أن يفي الحالف باليمين. ويجوز له العدول عن الوفاء، إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة. يقول الله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا   (1) سورة النجل آية رقم 98. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وتصلحوا بين الناس) (1) . أي لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من البر والتقوى والاصلاح. ويقول عزوجل: (قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم) (2) . أي شرع الله لكم تحليل الايمان بعمل الكفارة. روى أحمد والبخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك) . أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه : وعلى هذا يمكن تقسيم اليمين باعتبار المحلوف عليه إلى الاقسام الاتية: 1 - أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه، لانه تأكيد لما كلفه الله به من عبادة. 2 - أن يحلف على ترك واجب أو فعل محرم. فهذا   (1) سورة البقرة آية رقم 224. (2) سورة التحريم آية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 يجب الحنث فيه لانه حلف على معصية، كما تجب الكفارة. 3 - أن يحلف على فعل مباح، أو تركه. فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر. 4 - أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه. فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه. وتجب الكفارة. 5 - أن يحلف على فعل مندوب. أو ترك مكروه، فهذا طاعة لله. فيندب له الوفاء، ويكره الحنث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 النذر معناه: النذر هو التزام قربة غير لازمة في أصل الشرع بلفظ يشعر بذلك، مثل أن يقول المرء: لله علي أن أتصدق بمبلغ كذا، أو إن شفى الله مريضي فعلي صيام ثلاثة أيام ونحو ذلك. ولا يصح إلا من بالغ عاقل مختار ولو كان كافرا. النذر عبادة قديمة : ذكر الله سبحانه عن أم مريم أنها نذرت ما في بطنها لله فقال: - (إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) (1) .   (1) سورة آل عمران آية 35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وأمر الله مريم به فقال: (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) (1) . النذر في الجاهلية: وذكر الله عن أهل الجاهلية ما كانوا يتقربون به إلى آلهتهم من نذور، طلبا لشفاعتهم عند الله، وليقربوهم إليه زلفى فقال: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون) (2) . مشروعيته في الإسلام : وهو مشروع بالكتاب والسنة، ففي الكتاب يقول الله سبحانه: (وما أنفقتم مننفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) (3) .   (1) سورة مريم آية رقم 26. (2) سورة الانعام آية رقم 136. (3) سورة البقرة آية رقم 270. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ويقول: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) (1) . ويقول: (يوفون (2) بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (3) وفي السنة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) . رواه البخاري ومسلم عن عائشة. والاسلام وإن كان قد شرعه إلا أنه لا يستحبه، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. رواه البخاري ومسلم. متى يصح ومتى لا يصح : يصح النذر وينعقد إذا كان قربة يتقرب بها إلى الله   (1) سورة الحج آية رقم 29. (2) سورة الدهر آية رقم 7. (3) عن قتادة في هذه الاية: قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا. أخرجه الطبراني بسند صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 سبحانه ويجب الوفاء به. ولا يصح إلا نذر أن يعصي الله، ولا ينعقد. كالنذر على القبور وعلى أهل المعاصي، وكأن ينذر أن يشرب الخمر أو يقتل أو يترك الصلاة أو يؤذي والديه. فإن نذر ذلك لا يحب الوفاء به بل يحرم عليه أن يفعل شيئا من ذلك ولا كفارة عليه (1) لان النذر لم ينعقد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية) (2) وقيل: (3) تجب الكفارة زجرا له وتغليظا عليه. النذر المباح : سبق أن ذكرنا أنه يصح النذر إذا كان قربة، ولا يصح إذا كان معصية. وأما النذر مباح مثل أن يقول: لله علي أن أركب هذا القطار أو ألبس هذا الثوب، فقد قال جمهور العلماء: ليس هذا بنذر ولا يلزم به شئ. روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر وهو يخطب إلى أعرابي قائم في الشمس فقال: ما شأنك؟ قال: نذرت أن لا أزال في الشمس   (1) هذا مذهب الاحناف وأحمد. (2) رواه مسلم من حديث عمران بن حصين. (3) جمهور الفقهاء ومنهم المالكية والشافعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 حتى يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطبة. فقال الرسول: (ليس هذا بنذر، إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله) . وقال أحمد: ينعقد، والناذر يخير بين الوفاء وبين تركه، وتلزمه الكفارة إذا تركه. ورجح هذا صاحب الروضة الندية فقال: النذر المباح يصدق عليه مسمى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للامر بالوفاء به، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود: (أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: أوفي بنذرك) وضرب الدف إذا لم يكن مباحا فهو إما مكروه أو أشد من المكروه، ولا يكون قربة أبدا. فإن كان مباحا فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروها فالاذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالاولى. النذر المشروط وغير المشروط : والنذر قد يكون مشروطا، وقد يكون غير مشروط. فالاول: هو التزام قربة عند حدوث نعمة أو دفع نقمة. مثل: إن شفى الله مريضي فعلي إطعام ثلاثة مساكين، أو: إن حقق الله أملي في كذا فعلي كذا. فهذا يلزم الوفاء به عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 حصول المطلوب. والثاني: النذر المطلق، وهو أن يلتزم ابتداء بدون تعليق على شئ، مثل: لله علي أن أصلي ركعتين. فهذا يلزم الوفاء به، لدخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) . النذر للاموات: وفي كتب الاحناف: أن النذر الذي يقع للاموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الاولياء الكرام تقربا إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان، إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا، فهو بالاجماع باطل وحرام لوجوه، منها: 1 - أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لانه عبادة، وهي لا تكون إلا لله. 2 - أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. 3 - أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الامور دون الله تعالى فاعتقاده ذلك كفر والعياذ بالله. اللهم إلا أن يقول: يا ألله، إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 الذين بباب الولي الفلاني، أو أشتري حصرا لمسجد أو زيتا لوقوده أو دارهم لمن يقوم بشعائره ... إلى غير ذلك مما فيه نفع للفقراء والنذر لله عزوجل. وذكر الولي إنما هو محل لصرف النذر لمستحقيه القاطنين برباطه أو مسجده. فيجوز بهذا الاعتبار. ولا يجوز أن يصرف ذلك لغني ولا لشريف ولا لذي منصب أو ذي نسب أو علم ما لم يكن فقيرا. ولم يثبت في الشرع جواز الصرف للاغنياء. نذر العبادة بمكان معين : ولو نذر صلاة أو صياما أو قراءة أو اعتكافا في مكان بعينه، فإن كان للمكان المتعين مزية في الشرع كالصلاة في المساجد الثلاثة: لزم الوفاء به، وإلا لم يتعين بالنذر الذي أمر الله بالوفاء به. وهذا مذهب الشافعية، قالوا: وإذا نذر إنسان التصدق بشئ على أهل بلد معين لزمه ذلك وفاء بالتزامه، ولو نذر صوما في بلد لزمه الصوم لانه قربة ولم يتعين مكان الصوم في ذلك البلد، فله الصوم في غيره. ولو نذر صلاة في بلدة لم يتعين لها ويصلي في غيرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 لانها لا تختلف باختلاف الامكنة إلا المسجد الحرام أي الحرم كله ومسجد المدينة ومسجد الاقصى، إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد، فيتعين لعظم فضلها، إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد، فيتعين لعظم فضلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الاقصى) . واستدلوا بدليل نقلي على تعيين مكان التصدق بالنذر. وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أذبح كذا وكذا، لمكان يذبح فيه أهل الجاهلية. قال: لصنم؟ قالت: لا. قال: لوثن؟ قالت: لا. قال: أوفي بنذرك) . وقال الاحناف: من قال: (لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا أو أتصدق على فقراء بلد كذا) يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أبي حنيفة وصاحبيه، لان المقصود من النذر هو التقرب إلى الله عزوجل، وليس لذات المكان دخل في القرية. وإن نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام فأداها في مكان أقل منه شرفا أو فيما لا شرف له أجزأه عندهم، لان المقصود هو القربة إلى الله تعالى، وذلك يتحقق في أي مكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 النذر لشيخ معين : ومن نذر لشيخ معين فإن كان حيا وقصد الناذر الصدقة عليه لفقره وحاجته أثناء حياته كان ذلك النذر صحيحا، وهذا من باب الاحسان الذي حبب فيه الاسلام. ولو كان ميتا وقصد الناذر الاستغاثة به وطلب قضاء الحاجات منه، فإن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به. من نذر صوما وعجز عنه: من نذر صوما مشروعا وعجز عن الوفاء به لكبر سن أو لوجود مرض لا يرجى برؤه ... كان له أن يفطر ويكفر كفارة يمين أو يطعم عن كل يوم مسكينا. وقيل: يجمع بينهما احتياطا. الحلف بالصدقة بالمال : من حلف بأن يتصدق بماله كله أو قال: مالي في سبيل الله. فهو من نذر اللجاج وفيه كفارة يمين، وعليه الشافعي، وقال مالك: يخرج ثلث ماله. وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما تجب فيه الزكاة من عينه من المال، دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 كفارة النذر : إذا حنث الناذر أو رجع عن نذره لزمته كفارة يمين. روى عقبة بن عامر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين) . رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح غريب. من مات وعليه نذر صيام : روى ابن ماجه أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي توفيت وعليها نذر صيام، فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال: (ليصم عنها الولي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 البيع التبكير في طلب الرزق : روي الترمذي عن صخر الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لامتي في بكورها) (1) . قال: (وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا، وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار، فأثرى وكثر ماله) . الكسب الحلال : عن علي، كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يحب أن يرى عبده. يعني في طلب الحلال) ، رواه الطبراني والديلمي. وعن مالك بن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله   (1) البكور: السعي مبكرا أول النهار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 صلى الله عليه وسلم قال: (طلب الحلال واجب على كل مسلم) . رواه الطبراني. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. وعن رافع بن خديج أنه قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ (1) قال: (عمل المرء بيده، وكل بيع مبرور) (2) . رواه أحمد والبزاز. ورواه الطبراني عن ابن عمر بسند رواته ثقات. وجوب العلم بأحكام البيع والشراء : يجب على كل من تصدى للكسب أن يكون عالما بما يصححه ويفسده لتقع معاملته صحيحة، وتصرفاته بعيدة عن الفساد. فقد روي أن عمر، رضي الله عنه، كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة، ويقول: (لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى) . وقد أهمل كثير من المسلمين الان تعلم المعاملة وأغفلوا   (1) أي: أحل وأبرك. (2) ماخلا من الحرام والغش: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة. وأطيبها ما كان بعمل اليد، وما يكتسب من الغنائم التي تغنم بالجهاد، وقيل: التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 هذه الناحية وأصبحوا لا يبالون بأكل الحرام مهما زاد الربح وتضاعف الكسب. وهذا خطأ كبير يجب أن يسعى في درئه كل من يزاول التجارة، ليتميز له المباح من المحظور، ويطيب له كسبه ويبعد عن الشبهات بقدر الامكان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) . فليتنبه لهذا من يريد أن يأكل حلالا ويكسب طيبا ويفوز بثقة الناس ورضي الله. عن النعمان بن بشير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الحلال بين (1) والحرام بين (2) وبينهما أمور مشتبهة (3) ، فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله. من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه) .   (1) الحلال البين: هو ما طلب الشارع فعله. (2) الحرام البين: هو ما طلب الشارع تركه طلبا جازما. (3) الامور المشتبهة: هي ما تعارضت فيها الادلة واختلف فيه العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 رواه البخاري ومسلم. معنى البيع : البيع معناه لغة: مطلق المبادلة. ولفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الاخر، فهما من الالفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. ويراد بالبيع شرعا مبادلة مال بمال (1) على سبيل التراضي أو نقل ملك (2) بعوض (3) على الوجه المأذون (4) فيه. مشروعيته: البيع مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الامة. أما الكتاب فيقول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (5) . وأما السنة: فلقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) (6)   (1) المال: كل ما يملك وينتفع به، وسمي مالا لميل الطبع إليه. (2) احتراز عن ما لا يملك. (3) احتراز عن الهبات وما لا يجوز أن يكون عوضا. (4) احتراز عن البيوع المنهي عنها. (5) سورة البقرة آية رقم 275. (6) البيع المبرور: هو الذي لا غش فيه ولا خيانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقد أجمعت الامة على جواز البيع والتعامل به من عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا. حكمته: شرع الله البيع توسعة منه على عباده، فإن لكل فرد من أفراد النوع الانساني ضرورات من الغذاء والكساء وغيرها مما لا غنى للانسان عنه ما دام حيا، وهو لا يستطيع وحده أو يوفرها لنفسه لانه مضطر إلى جلبها من غيره. وليس ثمة طريقة أكمل من المبادلة، فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه. أثره: إذا تم عقد (1) البيع واستوفى أركانه وشروطه ترتب عليه نقل ملكية البائع للسلعة إلى المشتري، ونقل ملكية المشتري للثمن إلى البائع، وحل لكل منهما التصرف فيما انتقل ملكه إليه بكل نوع من أنواع التصرف المشروع. أركانه وينعقد بالايجاب (2) والقبول، ويستثنى من ذلك   (1) العقد معناه: الربط والاتفاق. (2) البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمور مبنية على الرضى النفسي: وهذا لا يعلم لخفائه فأقام الشارع القول المعبر عما في النفس من رضى مقامه، وناط به الاحكام. والايجاب ما صدر أولا من أحد الطرفين. والقبول ما صدر ثانيا. ولا فرق بين أن يكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري أو يكون الامر بالعكس. فيكون الموجب هو المشتري والقابل هو البائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 الشئ الحقير، فلا يلزم فيه إيجاب وقبول، وإنما يكتفى فيه بالمعاطاة، ويرجع في ذلك إلى العرف وما جرت به عادات الناس غالبا. ولا يلزم في الايجاب والقبول ألفاظ معينة، لان العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالالفاظ والمباني. والعبرة في ذلك بالرضى (1) بالمبادلة، والدلالة على الاخذ والاعطاء، أو أي قرينة دالة على الرضى ومنبئة عن معنى التملك والتمليك، كقول البائع: بعت أو أعطيت أو ملكت، أو هو لك، أو هات الثمن. وكقول المشتري: اشتريت أو أخذت أو قبلت أو رضيت أو، خذ الثمن. شروط الصيغة : ويشترط في الايجاب والقبول، وهما صيغة العقد: أولا: أن يتصل كل منهما بالاخر في المجلس دون أن يحدث بينهما مضر.   (1) سيأتي حكم لبيع المكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ثانيا: وأن يتوافق الايجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن، فلو اختلفا لم ينعقد البيع. فلو قال البائع: بعتك هذا الثوب بخمسة جنيهات، فقال المشتري: قبلته بأربعة، فإن البيع لا ينعقد بينهما لاختلاف الايجاب عن القبول. ثالثا: وأن يكون بلفظ الماضي مثل أن يقول البائع: بعت، ويقول المشتري: قبلت. أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال، مثل: أبيع وأشتري، مع إرادة الحال. فإذا أراد به المستقبل أو دخل عليه ما يمحضه للمستقبل كالسين وسوف ونحوهما كان ذلك وعدا بالعقد. والوعد بالعقد لا يعتبر عقدا شرعيا. ولهذا لا يصح العقد. العقد بالكتابة : وكما ينعقد البيع بالايجاب والقبول ينعقد بالكتابة بشرط أن يكون كل من المتعاقدين بعيدا عن الاخر، أو يكون العاقد بالكتابة أخرس لا يستطيع الكلام، فإن كانا في مجلس واحد، وليس هناك عذر يمنع من الكلام فلا ينعقد بالكتابة، لانه لا يعدل عنا لكلام، وهو أظهر أنواع الدلالات، إلى غيره إلا حينما يوجد سبب حقيقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 يقتضي العدول عن الالفاظ إلى غيرها. ويشترط لتمام العقد أن يقبل من كتب إليه في مجلس قراءة الخطاب. عقد بواسطة رسول : وكما ينعقد العقد بالالفاظ والكتابة ينعقد بواسطة رسول من أحد المتعاقدين إلى الاخر بشرط أن يقبل المرسل إليه عقب الاخبار. ومتى حصل القبول في هاتين الصورتين تم العقد، ولا يتوقف على علم الموجب بالقبول. عقد الاخرس : وكذلك ينعقد بالاشارة المعروفة من الاخرس، لان إشارته المعبرة عما في نفسه كالنطق باللسان سواء بسواء. ويجوز للاخرس أن يعقد بالكتابة بدلا عن الاشارة إذا كان يعرف الكتابة. وما اشترطه بعض الفقهاء من التزام ألفاظ معينة لم يجئ بما قالوا فيه كتاب ولا سنة. شروط البيع : لابد من أن يتوافر في البيع شروط حتى يقع صحيحا، وهذه الشروط: منها ما يتصل بالعاقد، ومنها ما يتصل بالمعقود عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 أو محل التعاقد، أي المال المقصود نقله من أحد العاقدين إلى الاخر، ثمنا أو مثمنا، أي مبيعا (1) . شروط العاقد : أما العاقد فيشترط فيه العقل والتمييز فلا يصح عقد المجنون ولا السكران ولا الصبي غير المميز. فإذا كان المجنون يفيق أحيانا ويجن أحيانا كان ما عقده عند الافاقة صحيحا وما عقده حال الجنون غير صحيح. والصبي المميز عقده صحيح، ويتوقف على إذن الولي، فإن أجازه كان معتدا به شرعا. شروط المعقود عليه: وأما المعقود عليه فيشترط في ستة شروط: 1 - طهارة العين. 2 - الانتفاع به. 3 - ملكية العاقد له. 4 - القدرة على تسليمه. 5 - العلم به. 6 - كون المبيع مقبوضا.   (1) الثمن: ما لا يبطل العقد بتلفه ويصح إبداله والتصرف فيه قبل القبض وهو المتصل بالباء في الغالب. المبيع: هو ما لا يبطل العقد بتلفه واستحقاقه ويفسخ معيبه ولا يبدل إذ يصير بيع ما ليس عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وتفصيل ذلك فيما يأتي: 1 - الاول: أن يكون طاهر العين، لحديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام. فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويتصبح بها الناس. فقال: لا، هو حرام. والضمير يعود إلى البيع، بدليل أن البيع هو الذي نعاه الرسول على اليهودي في الحديث نفسه. وعلى هذا يجوز الانتفاع بشحم الميتة بغير البيع فيدهن بها الجلود ويستضاء بها وغير ذلك مما لا يكون أكلا أو يدخل في بدن الادمي. قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (في قوله صلى الله عليه وسلم (حرام) قولان: أحدهما: أن هذه الافعال حرام. والثاني: أن البيع حرام. وإن كان المشتري يشتريه لذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 والقولان مبنيان على أن السؤال: هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع المذكور، أو عن الانتفاع المذكور؟ والاول اختاره شيخنا. وهو الاظهر. لانه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبيعونه لهذا الانتفاع فلم يرخص لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين عدم جواز البيع وحل المنفعة) اه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه (1) ثم باعوه وأكلوا ثمنه) . والعلة في تحريم بيع الثلاثة الاولى، هي النجاسة عند جمهور العلماء، (2) فيتعدى ذلك إلى كل نجس. والظاهر أن تحريم بيعها لانها تسلب الانسان أعظم مواهب الله له وهو العقل فضلا عن أضرارها الاخرى التي أشرنا إليها في الجزء التاسع. وأما الخنزير فمع كونه نجسا إلا أن به ميكروبات ضارة لا تموت بالغلي وهو يحمل الدودة الشريطية التي تمتص الغذاء النافع من جسم الانسان. وأما تحريم بيع الميتة فلانها غالبا ما يكون موتها نتيجة أمراض فيكون تعاطيها مضرا بالصحة، فضلا عن كونها مما تعافه النفوس. وما يموت فجأة من الحيوانات فإن الفساد يتسارع إليه لاحتباس الدم فيه. والدم أصلح بيئة لنمو الميكروبات التي قد لا تموت بالغلي. ولذلك حرم الدم المسفوح أكله وبيعه لنفس الاسباب.   (1) جملوه، أي: أذابوه. (2) يراجع التحقيق في نجاسة الخمر في الجزء الاول من فقه السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 واستثنى الاحناف والظاهرية كل ما فيه منفعة تحل شرعا فجوزوا بيعه، فقالوا: يجوز بيع الارواث والازبال النجسة التي تدعو الضرورة إلى استعمالها في البساتين، وينتفع بها وقودا وسمادا. وكذلك يجوز بيع كل نجس ينتفع به في غير الاكل والشرب كالزيت النجس يستصبح به ويطلى به. والصبغ يتنجس فيباع ليصبغ به ونحو ذلك، مادام الانتفاع به في غير الاكل. روى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر سئل عن زيت وقعت فيه فأرة فقال: (استصبحوا به وادهنوا به وأدمكم) . ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة ليمونهة فوجدها ميتة ملقاة فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه وانتفعتم به. فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة. فقال: إنما حرم أكلها. ومعنى هذا أنه يجوز الانتفاع في غير الاكل. وما دام الانتفاع بها جائزا فإنه يجوز بيعها مادام القصد بالبيع المنفعة المباحة (1) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 2 - الثاني: أن يكون منتفعا به، فلا يجوز بيع الحشرات ولا الحية والفأرة إلا إذا كان ينتفع بها. ويجوز بيع الهرة والنحل وبيع الفهد والاسد وما يصلح للصيد أو ينتفع بجلده، ويجوز بيع الفيل للحمل ويجوز بيع الببغاء والطاووس والطيور المليحة الصورة، وإن كانت لا تؤكل، فإن التفرج بأصواتها والنظر إليها غرض مقصود مباح، وإنما لا يجوز بيع الكلب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا في غير الكلب المعلم وما يجوز اقتناؤه ككلب الحراسة وككلب الزرع، فقد قال أبو حنيفة بجواز بيعه، وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. رواه النسائي عن جابر. قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات. وهل تجب القيمة على متلفه؟ قال الشوكاني: فمن قال بتحريم بيعه قال بعدم الوجوب. ومن قال بجوازه قال بالوجوب. ومن فصل في البيع فصل في لزوم القيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وروي عن مالك أنه لا يجوز بيعه وتجب القيمة. وروي عنه أن بيعه مكروه فقط. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويضمن متلفه. بيع آلات الغناء: ويدخل في هذا الباب بيع آلات الغناء. فإن الغناء في مواضعه جائز والذي يقصد به فائذة مباحة حلال، وسماعه مباح، وبهذا يكون منفعة شرعية يجوز بيع آلته وشراؤها لانها متقومه. ومثال الغناء الحلال: 1 - تغني النساء لاطفالهن وتسليتهن. 2 - تغني أصحاب الاعمال وأرباب المهن أثناء العمل للتخفيف عن متاعبهم والتعاون بينهم. 3 - والتغني في الفرح إشهارا له. 4 - والتغني في الاعياد إظهارا للسرور. 5 - والتغني للتنشيط للجهاد. وهكذا في كل عمل طاعة حتى تنشط النفس وتنهض بحملها. والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحلال كأن يهيج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الشهوة أو يدعو إلى فسق أو ينبه إلى الشر أو اتخذ ملهاة عن الطاعات، كان غير حلال. فهو حلال في ذاته وإنما عرض ما يخرجه عن دائرة الحلال. وعلى هذا تحمل أحاديث النهي عنه. والدليل على حله: 1 - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة، رضي الله عنها، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) . 2 - ما رواه الامام أحمد والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فلما انصرف جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى. قال: (إن كنت نذرت فاضربي) .فجعلت تضرب. 3 - ما صح عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يسمعون الغناء والضرب على المعازف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فمن الصحابة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر وغيرهما. ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وشريح القاضي، وعبد العزيز بن مسلمة، مفتي المدينة وغيرهم. 3 - الثالث: أن يكون المتصرف فيه مملوكا للتعاقد، أو مأذونا فيه من جهة المالك، فإن وقع البيع أو الشراء قبل إذنه فإن هذا يعتبر من تصرفات الفضولي. بيع الفضولي : والفضولي هو الذي يعقد لغيره دون إذنه، كأن يبيع الزوج ما تملكه الزوجة دون إذنها، أو يشتري لها ملكا دون إذنها له بالشراء. ومثل أن يبيع إنسان ملكا لغيره وهو غائب، أو يشتري - دون إذن منه - كما يحدث عادة. وعقد الفضولي يعتبر عقدا صحيحا، إلا أن لزومه يتوقف على إجازة المالك أو وليه (1) ، فإن أجازه نفذ وإن لم يجزه بطل.   (1) هذا مذهب المالكية وإسحاق بن راهويه وإحدى الروايتين عند الشافعية والحنابلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 ودليل ذلك ما رواه البخاري عن عروة البازقي أنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار لاشتري له به شاة، فاشتريت له به شاتين. بعت إحداهما بدينار وجئته بدينار وشاة، فقال لي: (بارك الله في صفقة يمينك) . وروى أبو داود والترمذي، عن حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشتري أضحية فأربح فيها دينارا فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة أخرى مكانها بدينار، وجاء بها وبالدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (بارك الله لك في صفقتك) . ففي الحديث الاول أن عروة اشترى الشاة الثانية وباعها دون إذن مالكها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليه وأخبره أقره ودعا له، فدل ذلك على صحة شراء الشاة الثانية وبيعه إياها. وهذا دليل على صحة بيع الانسان ملك غيره وشرائه له دون إذن. وإنما يتوقف على الاذن مخافة أن يلحقه من هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 التصرف ضرر. وفي الحديث الثاني أن حكيما باع الشاة بعدما اشتراها وأصبحت مملوكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اشترى له الشاة الثانية ولم يستأذنه، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على تصرفه وأمره أن يضحي بالشاة التي أتاه بها ودعا له، فدل ذلك على أن بيعة الشاة الاولى وشراءه الثانية صحيح. ولو لم يكن صحيحا لا نكره عليه وأمره برد صفقته. 4 - الرابع: أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه شرعا وحسا، فما لا يقدر على تسليمه حسا لا يصح بيعه كالسمك في الماء. وقد روى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر) . وقد روي عن عمران بن الحصين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي النهي عن ضربة الغائض. والمراد به أن يقول من يعتاد الغوص في البحر لغيره: ما أخرجته في هذه الغوصة فهو لك بكذا من الثمن. ومثله الجنين في بطن أمه. ويدخل في هذا بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 إلى محله، فإن اعتاد الطائر رجوعه إلى محله، ولو كيلا، لم يصح أيضا عند أكثر العلماء إلا النحل (1) ، لان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الانسان ما ليس عنده. ويصح عند الاحناف لانه مقدور على تسليمه إلا النحل. ويدخل في هذا الباب عسب الفحل، وهو ماؤه، والفحل الذكر من كل حيوان: فرسا، أو جملا أو ت يسا، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. كما رواه البخاري وغيره، لانه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه. وقد ذهب الجمهور إلى تحريمه بيعا وإجازة، ولا بأس بالكرامة، وهي ما يعطى على عسب الفحل من غير اشتراط شئ عليه. وقيل: يجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة وبه قال: الحسن وابن سيرين، وهو مروي عن مالك، ووجه للشافعية والحنابلة.   (1) يرى الائمة الثلاثة جواز بيع دود القز والنحل منفردة عن الخلية إذا كانت محبوسة في بيوتها ورآها المتبايعان، خلافا لابي حنيفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وكذلك بيع اللبن في الضرع - أي قبل انفصاله - لما فيه من الغرر والجهالة. قال الشوكاني: إلا أن يبيع منه كيلا، نحو أن يقول: بعت منك صاعا من حليب بقرتي. فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة. ويستثنى أيضا لبن الظئر فيجوز بيعه لموضع الحاجة. وكذا لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير المبيع بالمبيع. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع تمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر (1) أو لبن في ضرع، أو سمن في اللبن. رواه الدارقطني: والمعجوز عن تسليمه شرعا كالمرهون والموقوف، فلا ينعقد بيعهما. ويلحق بهذا التفريق بالبيع بين البهيمة وولدها لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان. ويرى بعض العلماء جواز ذلك قياسا على الذبح   (1) أما بيع الصوف على الظهر بشرط الجز، فقد أجازه الحنابلة في رواية عندهم لانه معلوم ويمكن تسليمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وهو الاولى. وأما بيع الدين: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيع الدين ممن عليه الدين - أي المدين. وأما بيعه إلى غير المدين، فقد ذهب الاحناف والحنابلة والظاهرية إلى عدم صحته لان البائع لا يقدر على التسليم. ولو شرط التسليم على المدين فإنه لا يصح أيضا لانه شرط التسليم على غير البائع، فيكون شرطا فاسدا يفسد به البيع. 5 - الخامس: أن يكون كل من المبيع والثمن معلوما. فإذا كانا مجهولين أو كان أحدهما مجهولا فإن البيع لا يصح لما فيه من غرر، والعلم بالمبيع يكتفى فيه بالمشاهدة في المعين ولو لم يعلم قدره كما في بيع الجزاف. أما ما كان في الذمة فلا بد من معرفة قدره وصفته بالنسبة للمتعاقدين. والثمن يجب أن يكون معلوم الصفة والقدر والاجل. أما بيع ما غاب عن مجلس العقد، وبيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر، وبيع الجزاف، فلكل واحد من هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 البيوع : أحكام نذكرها فيما يلي: بيع ما غاب عن مجلس العقد بشرط أن يوصف وصفا يؤدي إلى العلم به، ثم إن ظهر موافقا للوصف لزم البيع وإن ظهر مخالفا ثبت لمن لم يره من المتعاقدين الخيار في إمضاء العقد أو رده، يستوي في ذلك البائع والمشتري. روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه) . أخرجه الدارقطني والبيهقي (1) بيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر : وكذا يجوز بيع المغيبات إذا وصفت أو علمت أوصافها بالعادة والعرف. وذلك كالاطعمة المحفوظة والادوية المعبأة في القوارير وأنابيب الاكسوجين وصفائح البنزين والغاز ونحو ذلك مما لا يفتتح إلا عند الاستعمال لما يترتب على فتحه من   (1) وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكروي وهو ضعيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ضرر أو مشقة. ويدخل في هذا الباب ما غيبت ثمارة في باطن الارض مثل الجزر واللفت والبطاطس والقلقاس والبصل، وما كان من هذا القبيل. فإن هذه لا يمكن بيعها بإخراج المبيع دفعة واحدة لما في ذلك من المشقة على أربابها، ولا يمكن بيعها شيئا فشيئا لما في ذلك من الحرج والعسر، وربما أدى ذلك إلى فساد الاموال أو تعطيها. وإنما تباع عادة بواسطة التعاقد على الحقول الواسعة التي لا يمكن بيع ما فيها من الزروع المغيبة إلا على حالها. وإذا ظهر أن المبيع يختلف عن أمثاله اختلافا فاحشا يوقع الضرر بأحد المتعاقدين ثبت الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، كما في صورة ما إذا اشترى بيضا فوجده فاسدا فله الخيار في إمساكه أو رده دفعا للضرر عنه (1) . بيع الجزاف : الجزاف: هو الذي لا يعلم قدره على التفصيل. وهذا النوع من البيع كان متعارفا عليه بين الصحابة   (1) مذهب الجمهور بطلان البيع في هذه الصورة لما فيها من الغرر والجهالة المنهي عنها والاحناف جوزوا البيع وأثبتوا الخيار عند الرؤية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المتبايعان يعقدان العقد على سلعة مشاهدة لا يعلم مقدارها إلا بالحرز والتخمين من الخبراء وأهل المعرفة الذين يعهد فيهم صحة التقدير، فقلما يخطئون فيه، ولو قدر أن ثمة غررا فإنه يكون يسيرا يتسامح فيه عادة لقلته. قال ابن عمر رضي الله عنه: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. فالرسول أقرهم على بيع الجزاف، ونهى عن البيع قبل النقل فقط. قال ابن قدامة: يجوز بيع الصيرة جزافا، لا نعلم فيه خلافا، إذا جهل البائع والمشتري قدرها. 6 - السادس: أن يكون المبيع مقبوضا إن كان قد استفاده بمعاوضة وفي هذا تفصيل نذكره فيما يلي: يجوز بيع الميراث والوصية والوديعة وما لم يكن الملك حاصلا فيه بمعاوضة قبل القبض وبعده. وكذلك يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه أو يهبه أو يتصرف فيه التصرفات المشروعة بعد قبضه. أما إذا لم يكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 قبضه فإنه يصح له التصرف فيه بكل نوع من أنواع التصرفات المشروعة، ما عدا التصرف بالبيع. أما صحة التصرف فيما عدا البيع فلان المشتري ملك المبيع بمجرد العقد، ومن حقه أن يتصرف في ملكه كما يشاء. قال ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري. رواه البخاري. أما التصرف بالبيع قبل القبض فإنه لا يجوز، إذ يحتمل أن يكون هلك عند البائع الاول فيكون بيع غرر، وبيع الغرر غير صحيح سواء أكان عقارا (1) أم منقولا وسواء أكان مقدرا أم جزافا. لما رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه) . وروى البخاري ومسلم: أن الناس كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يؤدوه إلى رحالهم.   (1) مثل الارض والمنازل والحدائق والشجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ويستثنى من هذه القاعدة جواز بيع أحد النقدين بالاخر قبل القبض. فقد سأل ابن عمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الابل بالدنانير وأخذ الدراهم بدلا منها فأذن له. معنى القبض : والقبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل ملكه إليه على وجه يتمكن معه من الانتفاع به فيما يقصد منه، كزرع الارض وسكنى المنزل والاستظلال بالشجر أو جني ثماره ونحو ذلك. والقبض فيما يمكن نقله كالطعام والثياب والحيوان ونحو ذلك يكون على النحو الاتي: أولا: باستيفاء القدر كيلا أو وزنا إن كان مقدرا. ثانيا: بنقله من مكانه إلى كان جزافا. ثالثا: يرجع إلى العرف فيما عدا ذلك. والدليل على أن القبض في المنقول يكون باستيفاء القدر ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (إذا سميت الكيل فكل) . فهذا دليل على وجوب الاكتيال عند اشتراط التقدير بالكيل. ومثله الوزن لاشتراكهما في أن كلا منهما معيار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 لتقدير الاشياء، فوجب أن يكون كل شئ يملك مقدرا يجري القبض فيه باستيفاء قدره سواء أكان طعاما أم كان غير طعام. ودليل وجوب النقل من مكانه من رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه) . وليس هذا خاصا بالطعام بل يشمل الطعام وغيره كالقطن والكتان وأمثالهما إذا بيعت جزافا، لانه لا فرق بينهما. أما ما عدا هذا مما لم يرد فيه نص فيرجع فيه إلى عرف الناس وما جرى عليه التعامل بينهم، وبهذا نكون قد أخذنا بالنص ورجعنا إلى العرف فيما لا نص فيه. حكمته: وحكمة النهي عن بيع السلع قبل قبضها زيادة على ما تقدم: أن البائع إذا باعها ولم يقبضها المشتري فإنها تبقى في ضمانه، فإذا هلكت كانت خسارتها عليه دون المشتري. فإذا باعها المشتري في هذه الحال وربح فيها كان رابحا لشئ لم يتحمل فيه تبعة الخسارة، وفي هذا يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 بيع ربح ما لم يضمن. وأن المشتري الذي باع ما اشتراه قبل قبضه يماثل من دفع مبلغا من المال إلى آخر ليأخذ في نظيره مبلغا أكثر منه، إلا أن هذا أراد أن يحتال على تحقيق قصده بإدخال السلعة بين العقدين، فيكون ذلك أشبه بالربا. وقد فطن إلى هذا ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد سئل عن سبب النهي عن بيع ما لم يقبض، فقال: (ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) . الإشهاد على عقد البيع : أمر الله بالاشهاد على عقد البيع فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد) (1) . والامر بالاشهاد للندب والارشاد إلى ما فيه المصلحة والخير. وليس للوجوب كما ذهب إليه البعض (2) . قال الجصاص في كتاب أحكام القرآن: (ولا خلاف بين فقهاء الامصار أن الامر بالكتابة   (1) سورة البقرة آية رقم 282. (2) ممن ذهب إلى أن الاشهاد واجب في كل شئ ولو كان شيئا تافها: عطاء، والنخعي، ورجحه أبو جعفر الطبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 والاشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الاية، ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب) . وقد نقلت الامة خلفا عن سلف عقود المداينات والاشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الاشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وف ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواتر مستفيضا، ولانكرت على فاعله ترك الاشهاد. فلما لم ينقل عنهم الاشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة، ثبت بذلك أن الكتاب والاشهاد في الديوان والبياعات غير واجبين. اه. البيع على البيع : يحرم البيع على البيع لما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بيع أحدكم على بيع أخيه) . رواه أحمد والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) . وعند أحمد والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنه: أن من باع من رجلين فهو للاول منهما) . وصورته كما قال النووي: - أن يبيع أحد الناس سلعة من السلع بشرط الخيار للمشتري، فيجئ آخر يعرض على هذا أن يفسخ العقد ليبيعه مثل ما اشتراه بثمن أقل. وصورة الشراء على شراء الاخر أن يكون الخيار للبائع، فيعرض عليه بعض الناس فسخ العقد على أن يشتري منه ما باعه بثمن أعلى. وهذا الصنيع في حالة البيع أو الشراء، صنيع آثم، منهي عنه. ولكن لو أقدم عليه بعض الناس وباع أو اشترى ينعقد البيع والشراء عند الشافعية وأبي حنيفة وآخرين من الفقهاء. ولا ينعقد عند داود بن علي، شيخ أهل الظاهر، وروي عن مالك في ذلك روايتان) اه. وهذا بخلاف المزايدة في البيع فإنها جائزة، لان العقد لم يستقر بعد، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بعض السلع، وكان يقول: من يزيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 من باع من رجلين فهو للاول منهما من باع شيئا من رجل ثم باعه من آخر لم يكن للبيع الاخر حكم بل هو باطل لانه باع غير ما يملك إذ قد صار في ملك المشتري الاول، ولا فرق بين أن يكون البيع الثاني وقع في مدة الخيار أو بعد انقضائها لان المبيع قد خرج من ملكه بمجرد البيع. فعن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما. وأيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للاول منهما. زيادة الثمن نظير زيادة الأجل : يجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون بعضه معجلا وبعضه مؤخرا، متى كان ثمة تراض بين المتبايعين. وإذا كان الثمن مؤجلا وزاد البائع فيه من أجل التأجيل جاز، لان للاجل حصة من الثمن. وإلى هذا ذهب الاحناف والشافعية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور الفقهاء، لعموم الادلة القاضية بجوازه. ورجحه الشوكاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 جواز السمسرة : قال الامام البخاري: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسا (1) . وقال ابن عباس: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) . رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة. وذكره البخاري تعليقا. بيع المكره : اشترط جمهور الفقهاء أن يكون العاقد مختارا في بيع متاعه، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقول الله سبحانه: (إلا أن تكون تجارة (2) عن تراض منكم) . والتجارة كل عقد يقصد به الربح مثل عقد البيع وعقد الاجارة وعقد الهبة بشرط العوض، لان المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الاعواض لا غير، وعلى هذا فالتجارة أعم من البيع.   (1) السمسار: هو الذي يتوسط بين البائع والمشتري لتسهيل عملية البيع. (2) سورة النساء آية رقم 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) . وقوله: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه. رواه ابن ماجه ابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم. وقد اختلف في حسنه وضعفه. أما إذا أكره على بيع ماله بحق فإن البيع يقع صحيحا. كما إذا أجبر على بيع الدار لتوسعة الطريق أو المسجد أو المقبرة. أو أجبر على بيع سلعة ليفي ما عليه من دين (1) أو لنفقة الزوجة أو الابوين. ففي هذه الحالات وأمثالها يصح البيع إقامة لرضا الشرع مقام رضاه. قال عبد الرحمن بن كعب: كان معاذ بن جبل شابا سخيا. وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، حتى قام معاذ بغير شئ.   (1) من غير تفرقة بين دين ودين ولا بين مال ومال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 بيع المضطر : قد يضطر الانسان لبيع ما في يده لدين عليه، أو لضرورة من الضرورات المعاشية، فيبيع ما يملكه بأقل من قيمته من أجل الضرورة، فيكون البيع على هذا النحو جائزا مع الكراهة ولا يفسخ. والذي يشرع في مثل هذه الحال أن يعان المضطر ويقرض حتى يتحرر من الضيق الذي ألم به. وقد روي في ذلك حديث رجل مجهول. فعند أبي داود عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: (سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك. قال الله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) (1) ، ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك) بيع التلجئة : إذا خاف إنسان اعتداء ظالم على ماله فتظاهر ببيعه   (1) سورة البقرة آية رقم 237. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 فرارا من هذا الظالم وعقد عقد البيع مستوفيا شروطه وأركانه فإن هذا العقد لا يصح، لان العاقدين لم يقصدوا البيع فهما كالهازلين. وقيل: هو عقد صحيح، لانه استوفى أركانه وشروطه. قال ابن قدامة: بيع التلجئة باطل. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو صحيح لان البيع تم بأركانه وشروطه خاليا من مفسد فصح به، كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع بلا شرط، ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح كالهازلين) اه. البيع مع استثناء شئ معلوم : يجوز أن يبيع المرء سلعة ويستثني منها شيئا معلوما، كأن يبيع الشجر ويستثني منها واحدة، أو يبيع أكثر من منزل ويستثني منزلا، أؤ قطعة من الارض ويستثني منها جزءا معلوما. فعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا (1) إلا أن تعلم.   (1) الثنيا: الاستثناء في البيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 فإن استثنى شيئا مجهولا غير معلوم لم يصح البيع، لما يتضمنه من الجهالة والغرر. ايفاء الكيل والميزان يأمر الله، سبحانه، بإيفاء الكيل والميزان فيقول: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) (1) . ويقول: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير وأحسن تأويلا) (2) . وينهى عن التلاعب بالكيل والوزن وتطفيفهما فيقول: (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) (3) . ويندب ترجيح الميزان : عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله   (1) سورة الانعام آية رقم 152. (2) سورة الاسراء آية رقم 35. (3) سورة المطففين آيات رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالاجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زن وأرجح) . أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي حسن صحيح. السماحة في البيع والشراء : روى البخاري والترمذي عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلا سمحا (1) إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) (2) . بيع الغرر : بيع الغرر (3) هو كل بيع احتوى جهالة أو تضمن مخاطرة أو قمارا، وقد نهى عنه الشارع ومنع منه، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا.   (1) سمحا: سهلا. (2) اقتضى: طلب حقه. (3) الغرر: أي الغرور وهو الخداع الذي هو مظنة عدم الرضا به عند تحققه، فيكون من باب أكل أموال الناس بالباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما يدخل في المبيع تبعا، بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، كبيع أساس البناء تبعا للبناء واللبن في الضرع تبعا للدابة. والثاني: ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالاجر مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطنا. وقد أفاض الشارع في المواضع التي يكون فيها. وإليك بعضها حسب ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية. 1 - النهي عن بيع الحصاة : فقد كان أهل الجاهلية يعقدون على الارض التي لا تتعين مساحتها ثم يقذفون الحصاة حتى إذا استقرت كان ما وصلت إليه هو منتهى مساحة البيع. أو يبتاعون الشئ لا يعلم عينه، ثم يقذفون بالحصاة فما وقعت عليه كان هو المبيع. ويسمى هذا بيع الحصاة. 2 - النهي عن ضربة الغواص : فقد كانوا يبتاعون من الغواص ما قد يعثر عليه من لقطات البحر حين غوصه، ويلزمون المتبايعين بالعقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 فيدفع المشتري الثمن ولو لم يحصل على شئ، ويدفع البائع ما عثر عليه ولو أبلغ أضعاف ما أخذ من الثمن. ويسمى هذا ضربة الغواص. 3 - بيع النتاج : وهو العقد على نتاج الماشية قبل أن تنتج، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن. 4 - بيع الملامسة : وهو أن يلمس كل منهما ثوب صاحبه أو سلعته فيجب البيع بذلك دون علم بحاله أو تراض عنها. 5 - بيع المنابذة : وهو أن ينبذ كل من المتعاقدين ما معه، ويجعلان ذلك موجبا للبيع دون تراض منهما. 6 - ومنه بيع المحاقلة : والمحاقلة بيع الزرع بكيل من الطعام معلوم. 7 - ومنه بيع المزابنة : والمزابنة بيع ثمر النخل بأوساق من التمر. 8 - ومنع بيع المخاضرة : والمخاضرة بيع الثمرة الخضراء قبل بدو صلاحها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 9 - ومنه بيع الصوف في الظهر 10 - ومنه بيع السمن في اللبن. 11 - ومنع بيع حبل الحبلة: ففي الصحيحين: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فهذه البيوع وأمثالها نهى عنها الشارع لما فيها من غرور وجهالة بالمعقود عليه. حرمة شراء المغصوب والمسروق : يحرم على المسلم أن يشتري شيئا وهو يعلم أنه أخذ من صاحبه بغير حق، لان أخذه بغير حق ينقل الملكية من يد مالكه، فيكون شراؤه له شراء ممن لا يملك، مع ما فيه من التعاون على الاثم والعدوان. روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشتري سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) . بيع العنب لمن يتخذه خمرا وبيع السلاح في الفتنة لا يجوز بيع العنب لمن يتخذه خمرا، ولا السلاح في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الفتنة ولا لاهل الحرب، ولا ما يقصد به الحرام. وإذا وقع العقد فإنه يقع باطلا (1) : لان المقصود من العقد هو انتفاع كل واحد من المتبايعين بالبدل، فينتفع البائع بالثمن وينتفع المشتري بالسلعة. وهنا لا يحصل المقصود من الانتفاع لما يترتب عليه من ارتكاب المحظور، ولما فيه من التعاون على الاثم والعدوان المنهي عنهما شرعا، قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (2) . عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أبام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا، فقد تقحم النار على بصيرة) . وعن عمر بن الحصين قال:   (1) يرى أبو حنيفة والشافعي صحة العقد لتحقق ركنه وتوفر شروطه، لان الغرض غير المباح أمر مستتر ويترك فيه الامر لله يعاقب عليه. (2) سورة المائدة آية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة) أخرجه البيهقي. قال ابن قدامة: (إن بيع العصير لمن يعتقد أن يتخذه خمرا محرم، إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله وإما بقرائن مختصة به. فإن كان محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخمر والخل معا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز. وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لاهل الحرب، أو لقطاع الطريق أو في الفتنة ... أو إجارة داره لبيع الخمر فيها وأشباه ذلك. فهذا حرام، والعقد باطل. اه. بيع ما اختلط بمحرم : إذا اشتملت الصفقة على مباح ومحرم. فقيل: يصح العقد في المباح، ويبطل في المحظور. وهو أظهر القولين للشافعي، ومذهب مالك. وقيل: يبطل العقد فيهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 النهي عن كثرة الحلف : 1 - نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف فقال: (الحلف منفقة للسلعة (1) ، ممحقة للبركة) . رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة. لما يترتب على ذلك من قلة التعظيم لله، وقد يكون سببا من أسباب التغرير. 2 - وعند مسلم: (إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق (2) ثم يمحق) . 3 - وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن التجارهم الفجار، فقيل: يا رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون) . رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح. 4 - عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) السلعة: المبيع. ينفق: يروج وزنا ومعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 (من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان) . قال: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عزوجل: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (1) . متفق عليه. 5 - روى البخاري أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الاشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قال: وما اليمين الغموس؟ قال: الذ يقتطع مال امرئ مسلم، يعني بيمين هو فيها كاذب. وسميت غموسا لانها تغمس صاحبها في نار جهنم، ولا كفارة لها عند بعض الفقهاء، لانها لشدة فحشها وكبر إثمها لا يمكن تداركها بالكفارة. 6 - وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) سورة آل عمران آية رقم 77. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك) . رواه مسلم. البيع والشراء في المسجد : أجاز أبو حنيفة البيع في المسجد، وكره إحضار السلع وقت البيع في المسجد تنزيها له. وأجاز مالك والشافعي مع الكراهة. ومنع صحة جوازه أحمد وحرمه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) . البيع عند أذان الجمعة : البيع عند ضيق وقت المكتوبة وعند أذان الجمعة حرام، ولا يصح عند أحمد (1) لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم   (1) وجوزه غيره مع الكراهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 إن كنتم تعلمون) (1) . والنهي يقتضي الفساد بالنسبة للجمعة، ويقاس عليها غيرها من سائر الصلوات. جواز التولية والمرابحة والوضيعة : تجوز التولية والمرابحة والوضيعة. ويشترط أن يعرف كل من البائع والمشتري الثمن الذي اشتريت به السلعة. والتولية، هي البيع برأس المال دون زيادة أو نقص. والمرابحة، هي البيع بالثمن الذي اشتريت به السلعة مع ربح معلوم. والوضيعة، هي البيع بأقل من الثمن الاول. بيع المصحف وشراؤه : اتفق الفقهاء على جواز شراء المصحف واختلفوا في بيعه. فأباحه الائمة الثلاثة، وحرمته الحنابلة، وقال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة. بيع بيوت مكة وإجارتها : أجاز كثير من الفقهاء، منهم الاوزاعي والثوري ومالك والشافعي. وقول لابي حنيفة.   (1) سورة الجمعة آية رقم 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 بيع الماء : مياه البحار والانهار وما يشابهها مباحة للناس جميعا لا يختص بها أحد دون أحد، ولا يجوز بيعها ما دامت في مقارها. وفي الحديث: يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (الناس شركاء في الماء والكلا والنار) فإذا أحرزها إنسان أو حفر بئرا في ملكه أو وضع آلة يستخرج بها الماء أصبحت ملكا له ويجوز له حينئذ بيع الماء، ويكون في هذه الحال مثل الحطب المباح أخذه، الذي يحل بيعه بعد إحرازه. وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة من حطب فيبيعها خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه) . وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وفيها بئر تسمى بئر رومة، يملكها يهودي ويبيع الماء منها للناس، فأقره على بيعه وأقر المسلمين على شرائهم منه، واستمر الامر على هذا حتى اشتراها عثمان رضي الله عنه وحبسها على المسلمين. وبيع الماء يجري حسب ما يجري عليه العرف، إلا إذا كان هناك مثل العداد فإنه يحتسب به القدر المبيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 بيع الوفاء : بيع الوفاء هو أن يبيع المحتاج إلى النقد عقارا على أنه متى وفى الثمن استرد العقار ... وحكمه حكم الرهن في أرجح الاقوال عندنا. بيع الاستصناع : والاستصناع هو شراء ما يصنع وفقا للطلب، وهو معروف قبل الاسلام. وقد أجمعت الامة على مشروعيته. وركنه الايجاب والقبول. وهو جائز في كل ما جرى التعامل باستصناعه. وحكمه: إفادة الملك في الثمن والمبيع. وشروط صحته: بيان جنس المستصنع ونوعه وصفته وقدره بيانا تنتفي معه الجهالة ويرتفع النزاع. والمشتري عند رؤية المبيع مخير بين أن يأخذه بكل الثمن وبين أن يفسخ العقد بخيار الرؤية، سواء وجده على الحالة التي وصفها أم لا، عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما. وقال أبو يوسف: إن وجده على ما وصف فلا خيار له دفعا للضرر عن الصانع، إذ قد لا يشتري غيره المصنوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 بما يشتريه به هو. بيع الثمار والزروع : بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبيع الزرع قبل اشتداد الحب لا يصح، مخافة التلف وحدوث العاهة قبل أخذها. 1 - روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، (نهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها: نهى البائع والمبتاع) . 2 - وروى مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشتري) . 3 - وروى البخاري عن أنس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) . فإن بيعت الثمار قبل بدو الصلاح، والزروع قبل اشتداد الحب بشرط القطع في الحال، صح إن كان يمكن الانتفاع بها ولم تكن مشاعة، لانه لا خوف في هذه الحال من التلف ولا خوف من حدوث العاهة. فإن بيعت بشرط القطع ثم تركها المشتري حتى بدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 صلاحها، قيل إن البيع يبطل، وقيل لا يبطل ويشتركان في الزيادة. بيعها لمالك الاصل أو لمالك الارض: هذا هو الحكم بالنسبة لغير مالك الاصل ولغير مالك الارض، فإن بيعت الثمار قبل بدو صلاحها لمالك الاصل صح البيع، كما لو بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح مع الاصل. وكذلك يصح بيع الزروع قبل بدو الصلاح لمالك الارض، لحصول التسليم بالنسبة للمشتري على وجه الكمال. بم يعرف الصلاح ؟ ويعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار. أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم،: (نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو) . قيل لانس: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار. ويعرف صلاح العنب بظهور الماء الحلو واللين والاصفرار (1) .   (1) وما ورد من النهي عن بيع العنب حتى يسود فإنه بالنسبة للعنب الاسود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 ويعرف صلاح سائر الفواكه بطيب الاكل وظهور النضج. روى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب) . ويعرف صلاح الحبوب والزروع بالاشتداد (1) . بيع الثمار التي تظهر بالتدريج : إذا بدأ صلاح بعض الثمر أو الزرع جاز بيعه جميعا صفقة واحدة، ما بدا صلاحه وما لم يبد منه، متى كان العقد واردا على بطن واحدة. وكذلك يجوز البيع إذا كان العقد على أكثر من بطن وأريد بيعه بعد ظهور الصلاح في البطن الاول. ويتصور هذا في حالة ما إذا كان الشجر مما ينتج بطونا متعددة كالموز من الفواكه، والقثاء من الخضروات، والورد من الازهار، ونحو ذلك مما تتلاحق بطونها، وإلى هذا ذهب فقهاء المالكية وبعض فقهاء الحنفية والحنابلة، واستدلوا على هذا بما يأتي: 1 - أنه ثبت عن الشارع جواز بيع الثمر إذا بدا   (1) وعند الاحناف أن بدو الصلاح يكون بأن تؤمن العاهة والفساد، أي أن المعتبر ظهور الثمرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 صلاح بعضه فيكون ما لم يبد صلاحه تابعا لما بدا منه، فكذلك ما هنا: يقع العقد فيه على الموجود ويكون المعدوم تبعا له (1) . 2 - أن عدم جواز هذا البيع يؤدي إلى محظورين: (أ) وقوع التنازع. (ب) وتعطيل الاموال. أما وقوع التنازع، فإن العقد كثيرا ما يقع على المزاع الواسعة، ولا يتمكن المشتري من قبض البطن الاول من ثمارها إلا في وقت قد يطول ويتسع لظهور شئ من البطن الثاني، ولا يمكن تميزه من البطن الاول، فيقع النزاع بين المتعاقدين ويأكل أحدهما مال الاخر. أما المحظور الثاني، فإن البائع قلما يتيسر له في كل وقت من يشتري منه ما يظهر من ثمره أولا فأول، فيؤدي ذلك إلى ضياع ماله. وإذا كان ذلك كذلك فإنه يجوز البيع في هذه الصورة، والقول بعدم الجواز يوقع في الحرج والمشقة، وهما مرفوعان بقوله تعالى (2) :   (1) هذا إذا اشترى جميع الثمار، أما إذا اشترى بعضها فلكل شجرة حكم بنفسها. (2) سورة الحج آية رقم 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (1) . وقد رجح ابن عابدين هذا القول، وأخذت به مجلة الاحكام الشرعية. بيع الحنطة في سنبلها : يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره والارز والسمسم والجوز واللوز، لانه حب منتفع به، فيجوز بيعه في سنبله كالشعير، والنبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، ولان الضرورة تدعو إليه فيغتفر ما فيه من غ رر، وهذا مذهب الاحناف والمالكية. وضع الجوائح : الجوائح جمع جائحة، وهي الافة التي تصيب الزروع أو الثمار فتهلكها دون أن يكون لادمي صنع فيها، مثل القحط والبرد والعطش. وللجوائح حكم يختص بها. فإذا بيعت الثمرة بعد ظهور صلاحها وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت بالجائحة قبل أوان الجذاذ،   (1) يرى جمهور الفقهاء عدم جواز العقد في هذه الصورة وقالوا: يجب أن يباع كل بطن على حدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 فهي من ضمان البائع وليس على المشتري أن يدفع ثمنها، لان الرسول صلى الله عليه وسلم (أمر بوضع الجوائح) . رواه مسلم عن جابر. وفي لفظ قال: (إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) . وهذا الحكم في حالة ما إذا لم يبعها البائع مع أصلها أو لم يبعها لمالك أصلها أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته، ففي هذه الحالات تكون من ضمان المشتري. فإن لم يكن التلف بسبب الجائحة بل كان من عمل الادمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن على البائع وبين الامساك ومطالبة المتلف بالقيمة. وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أصحاب الحديث. ورجحه ابن القيم قال في تهذيب سنن أبي داود: وذهب جمهور العلماء إلى أن الامر بوضع الجوائح أمر ندب واستحباب، عن طريق المعروف والاحسان، لا على سبيل الوجوب والالزام. وقال مالك بوضع الثلث فصاعدا، ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 قال أصحابه: ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشتري، وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع. واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الايجاب: بأنه أمر حدث بعد استقرار ملك المشتري عليها، فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربح ما لم يضمن. فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه. وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائة. اه الشروط في البيع : الشروط في البيع قسمان: القسم الاول: صحيح لازم. القسم الثاني: مبطل للعقد. فالاول: ما وافق مقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 1 - شرط يقتضيه البيع، كشرط التقابض وحلول الثمن. 2 - شرط ما كان من مصلحة العقد، مثل شرط تأجيل الثمن، أو تأجيل بعضه، أو شرط صفة معينة في المبيع، كأن تكون الدابة لبونا أو حاملا، وكأن يكون البازي صيودا فإذا وجد الشرط لزم البيع. وإن لم يوجد الشرط كان للمشتري فسخ العقد لفوات الشرط. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (المسلمون على شروطهم) . وكان له أيضا أن ينقص من قيمة السلعة بقدر فقد الصفة المشروطة. 3 - شرط ما فيه نفع معلوم للبائع أو المشتري، كما لو باع دارا واشترى منفعتها مدة معلومة كأن يسكنها شهرا أو شهرين. وكذلك لو باع دابة واشترط أن تحمله إلى موضع معين. لما رواه البخاري ومسلم، أن جابرا باع النبي، صلى الله عليه وسلم، جملا، واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه. وكذلك يصح أن يشترط المشتري على البائع نفعا معلو ما، كحمل ما باعه إلى موضع معلوم (1) أو تكسيره   (1) فإن لم يكن معلوما لم يصح الشرط: فلو شرط الحمل إلى منزله، والبائع لا يعرفه لم يصح الشرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أو خياطته أؤ تفصيله. وقد اشترى محمد بن مسلمة حزمة حطب من نبطي وشارطه على حملها، واشتهر ذلك فلم ينكر. وهذا مذهب أحمد والاوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر. وذهب الشافعي والاحناف إلى عدم صحة هذا البيع، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وشرط. ولكن هذا النهي لم يصح. وإنما نهى عن شرطين في بيع. القسم الثاني من الشروط: الشرط الفاسد، وهو أنواع: 1 - ما يبطل العقد من أصله، كأن يشترط على صاحبه عقدا آخر، مثل قول البائع للمشتري: أبيعك هذا على أن تبيعني كذا أو تقرضني. ودليل ذلك قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ". رواه الترمذي وصححه. قال أحمد: وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي، فهذا كله لا يصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وجمهور الفقهاء. وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا، قال: ولا ألتفت الى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا. 2 - ما يصح معه البيع ويبطل الشرط، وهو الشرط المنافي لمقتضى العقد، مثل اشتراط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ". متفق عليه. وإلى هذا ذهب أحمد والحسن والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع فاسد. 3 - ما لا ينعقد معه بيع، مثل: بعتك إن رضي فلان، أو إن جئتني بكذا. وكذلك كل بيع علق على شرط مستقبل. بيع العربون : صفة بيع العربون أن يشتري شيئا ويدفع جزءا من ثمنه إلى البائع. فإن نفذ البيع احتسب من الثمن، وإن لم ينفذ أخذه البائع على أنه هبة له من المشتري. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحة هذا البيع، لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع العربون. وضعف الامام أحمد هذا الحديث، وأجاز بيع العربون لما رواه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر كان البيع نافذا، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة درهم. وقال ابن سيرين وابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وأجازه أيضا ابن عمر. البيع بشرط البراءة من العيوب : ومن باع شيئا بشرط البراءة من كل عيب مجهول، لم يبرأ البائع - ومتى وجد المشتري عيبا بالمبيع فله الخيار لانه إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط قبله. فإن سمي العيب أو أبرأه المشتري بعد العقد برئ. وقد ثبت أن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب به زيد عيبا، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب. فقال: لا. فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 ذكره الامام أحمد وغيره. قال ابن القيم: وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة. الإختلاف بين البائع والمشتري : إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن وليس بينهما بينة فالقول قول البائع مع يمينه، والمشتري مخير بين أن يأخذ السلعة بالثمن الذي قال به البائع وبين أن يحلف بأنه ما اشتراها بثمن أقل. فإن حلف برئ منها، وردت السلعة على البائع، وسواء أكانت السلعة قائمة أم تالفة. وأصل ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن قيس ابن الاشعث عن أبيه عن جده قال: اشترى الاشعث رقيقا من رقيق الخمس من عبد الله بعشرين ألفا، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم. فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف. فقال عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وبينك. قال الاشعث: أنت بيني وبين نفسك. قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 رب السلعة أو يتتاركان " (1) . وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول. وقال بعمومه الامام الشافعي، وأن البائع والمشتري كما يتحالفان إذا اختلفا في الثمن فإنهما يتحالفان إذا اختلفا في الاجل أو في خيار الشرط أو في الرهن أو في الضمين. حكم البيع الفاسد : البيع الصحيح ما وافق أمر الشارع باستيفاء أركانه وشروطه، فحل به ملك المبيع والثمن والانتفاع بهما. فإذا خالف أمر الشارع لم يكن صحيحا بل يقع فاسدا باطلا. فالبيع الفاسد هو البيع الذي لم يشرعه الاسلام، وهو لهذا ينعقد ولا يفيد حكما شرعيا ولا يترتب عليه الملك ولو قبض المشتري المبيع، لان المحظور لا يكون طريقا إلى الملك. قال القرطبي: " كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها، فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له قيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض) .   (1) يفسخان العقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الربح في البيع الفاسد : ذهب الاحناف إلى أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبض البائع الثمن وتصرفه فيه فربح فعليه فسخ البيع ورد الثمن للمشتري والتصدق بالربح لحصوله له من وجه منهي عنه ومحظور عليه بنص الكتاب. التسعير : معناه: التسعير معناه وضع ثمن محدد للسلع التي يراد بيعها بحيث لا يظلم المالك ولا يرهق المشتري. النهي عنه: روى أصحاب السنن بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله: " إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق. وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني مظلمة في دم ولا مال. وقد استنبط العلماء من هذا الحديث حرمة تدخل الحاكم في تحديد سعر السلع لان ذلك مظنة الظلم، والناس أحرار في التصرفات المالية، والحجر عليهم مناف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 لهذه الحرية. ومراعاة مصلحة المشتري ليست أولى من مراعاة مصلحة البائع. فإذا تقابل الامران وجب تمكين الطرفين من الاجتهاد في مصلحتهما. قال الشوكاني: " إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والامام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الامران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لانفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1) . اه. ثم إن التسعير يؤدي إلى اختفاء السلع، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الاسعار، وارتفاع الاسعار يضر بالفقراء، فلا يستطيعون شراءها، بينما يقوى الاغنياء على شرائها من السوق الخفية بغبن فاحش، فيقع كل منهما في الضيق والحرج ولا تتحقق لهما مصلحة.   (1) سورة النساء آية رقم 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الترخيص فيه عند الحاجة إليه: على أن التجار إذ ظلموا وتعدوا تعديا فاحشا يضر بالسوق وجب على الحاكم أن يتدخل ويحدد السعر صيانة لحقوق الناس، ومنعا للاحتكار، ودفعا للظلم الواقع عليهم من جشع التجار. ولذلك يرى الامام مالك جواز التسعير، كما يرى بعض الشافعية جوازه أيضا في حالة الغلاء. كما ذهب إلى إجازته أيضا في السلع جماعة من أئمة الزيدية ومنهم: سعيد بن المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعد الانصاري، كلهم يرون جواز التسعير إذا دعت مصلحة الجماعة لذلك ... قال صاحب الهداية: (ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر) . الإحتكار : تعريفه: الاحتكار هو شراء الشئ وحبسه ليقل بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 الناس فيغلو سعره (1) ويصيبهم بسبب ذلك الضرر. حكمه: والاحتكار حرمه الشارع ونهى عنه لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق والتضييق على الناس. 1 - روى أبو داود والترمذي ومسلم عن معمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احتكر فهو خاطئ) . 2 - وروى أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه ". 3 - وذكر رزين في جامعه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " بئس العبد المحتكر: إن سمع برخص ساءه، وإن سمع بغلاء فرح ". 4 - وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) بعض العلماء ضيق المواد التي يكون فيهها الاحتكار: فيرى الشافعي وأحمد أن الاحتكار لا يكون إلا في طعام لانه قوت الناس، ومنهم من وسعها. فيرى أن الاحتكار في أي شئ حرام لضرره حيث لا يكون الثمن متعادلا مع السلعة المحتكرة، ويرى بعضهم أنه إذا احتكر زرعه أو صنعة يده فلا بأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 " الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون ". والجالب هو الذي يجلب السلع ويبيعها بربح يسير. 5 - وروى أحمد والطبراني عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده " بعظم من النار يوم القيامة ". متى يحرم الاحتكار : ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الاحتكار المحرم هو الاحتكار الذي توفر فيه شروط ثلاثة: 1 - أن يكون الشئ المحتكر فاضلا عن حاجته وحاجة من يعولهم سنة كاملة، لانه يجوز أن يدخر الانسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة، كما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم. 2 - أن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ليبيع بالثمن الفاحش لشدة الحاجة إليه. 3 - أن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى المواد المحتكرة من الطعام والثياب ونحوها. فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار - ولكن لا يحتاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 الناس إليها - فإن ذلك لا يعد احتكارا، حيث لا ضرر يقع بالناس. الخيار : هو طلب خير الامرين من الامضاء أو الالغاء، وهو أقسام نذكرها فيما يلي: خيار المجلس إذا حصل الايجاب والقبول من البائع والمشتري وتم العقد فلكل واحد منهما حق إبقاء العقد أو إلغائه ماداما في المجلس (أي محل العقد) ، ما لم يتبايعا على أنه لا خيار. فقد يحدث أن يتسرع أحد المتعاقدين في الايجاب أو القبول، ثم يبدو له أن مصلحته تقتضي عدم إنفاذ العقد، فجعل له الشارع هذا الحق لتدارك ما عسى أن يكون قد فاته بالتسرع. روى البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 أي أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو إلغائه ماداما لم يتفرقا بالابدان، والتفرق يقدر في كل حالة بحسبها، ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث، فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق. والراجح أن التفرق موكول إلى العرف، فما اعتبر في العرف تفرقا حكم به وما لا فلا. روى البيهقي عن عبد الله ابن عمر قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه مالا بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يردني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. وإلى هذا ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وأخذ به الشافعي وأحمد من الائمة وقالا: إن خيار المجلس ثابت في البيع والصلح والحوالة والاجارة وفي كل عقود المعاوضات اللازمة التي يقصد منها المال (1) . أما العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض مثل عقد   (1) خالف ذلك أبو حنيفة ومالك وقالا: إن خيار المجلس باطل. والعقد بالقول كاف لازم، وإذا وجب البيع فليس لاحدهما الخيار وإن كانا في المجلس. وحملا التفرق في الحديث على التفرق في الاقوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 الزواج والخلع فإنه لا يثبت فيها خيار المجلس. وكذلك العقود غير اللازمة كالمضاربة والشركة والوكالة. متى يسقط: ويسقط خيار الشرط بإسقاطهما له بعد العقد وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الاخر. وينقطع بموت أحدهما. خيار الشرط: خيار الشرط هو أن يشتري أحد المتبايعين شيئا على أن له الخيار مدة معلومة وإن طالت (1) إن شاء أنفذ البيع في هذه المدة وإن شاء ألغاه، ويجوز هذا الشرط للمتعاقدين معا ولاحدهما إذا اشترطه. والاصل في مشروعيته: 1 - ما جاء عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار ". أي لا يلزم البيع بينهما حتى يتفرقا، إلا إذا اشترط أحدهما أو كلاهما شرط الخيار مدة معلومة.   (1) هذا مذهب أحمد: وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن مدة الخيار ثلاثة أيام فما دونها. وقال مالك: المدة مقدرة بقدر الحاجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 2 - وعنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخبر أحدهما الاخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ". رواه الثلاثة. ومتى انقضت المدة المعلومة ولم يفسخ العقد لزم البيع. ويسقط الخيار بالقول كما يسقط بتصرف المشتري في السلعة التي اشتراها بوقف أو هبة أو سوم لان ذلك دليل رضاه. ومتى كان الخيار له فقد نفذ تصرفه. خيار العيب : حرمه كتمان العيب عند البيع: يحرم على الانسان أن يبيع سلعة بها عيب دون بيانه للمشتري. 1 - فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه ". رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 2 - وقال العداء بن خالد: كتب لي النبي، صلى الله عليه وسلم،: هذا ما اشتراه العداء بن خالد بن هوذه من محمد رسول الله اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم من المسلم ". 3 - ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا ". حكم البيع مع وجود العيب: ومتى تم العقد وقد كان المشتري عالما بالعيب فإن العقد يكون لازما ولا خيار له لانه رضي به. أما إذا لم يكن المشتري عالما به ثم علمه بعد العقد فإن العقد يقع صحيحا، ولكن لا يكون لازما، وله الخيار بين أن يرد المبيع ويأخذ الثمن الذي دفعه إلى البائع وبين أن يمسكه ويأخذ من البائع من الثمن بقدر ما يقابل النقص الحاصل بسبب العيب، إلا إذا رضي به أو وجد منه ما يدل على رضاه، كأن يعرض ما اشتراه للبيع أو يستغله أو يتصرف فيه. قال ابن المنذر: إن الحسن وشريحا وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري وأصحاب الرأي يقولون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 " إذا اشترى سعلة فعرضها للبيع بعد علمه بالعيب بطل خياره ". وهذا قول الشافعي. الإختلاف بين المتبايعين : إذا اختلف المتبايعان فيمن حدث عنده العيب مع الاحتمال ولا بينة لاحدهما فالقول قول البائع مع يمينه، وقد قضى به عثمان. وقيل: القول قول المشتري مع يمينه ويرده على البائع. شراء البيض الفاسد : من اشترى بيض الدجاج فكسره فوجده فاسدا رجع بكل الثمن على البائع إذا شاء، لان العقد في هذه الحال يكون فاسدا لعدم مالية المبيع، وليس عليه أن يرده إلى البائع لعدم الفائدة فيه. الخراج بالضمان : وإذا انفسخ العقد وقد كان للمبيع فائدة حدثت في المدة التي بقي فيها عند المشتري فإن هذه الفائدة يستحقها. فعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 " الخراج بالضمان ". رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي. أي أن المنفعة التي تأتي من المبيع تكون من حق المشتري بسبب ضمانه له لو تلف عنده. فلو اشترى بهيمة واستغلها أياما ثم ظهر بها عيب سابق على البيع بقول أهل الخبرة فله حق الفسخ، وله الحق في هذا الاستغلال دون أن يرجع عليه البائع بشئ. وجاء في بعض الروايات: أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده بالعيب. فقال البائع: غلة عبدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الغلة بالضمان ". رواه أبو داود وقال فيه: هذا إسناد ليس بذاك. خيار التدليس في البيع : إذا دلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن حرم عليه ذلك. وللمشتري خيار الرد ثلاثة أيام، وقيل إن الخيار يثبت له على الفور. أما الحرمة فللغش والتغرير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 " من غشنا فليس منا ". وأما ثبوت خيار الرد فلقوله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه عنه أبو هريرة: " لا تصروا الابل والغنم (1) فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر " (2) رواه البخاري ومسلم. قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في أنه (أي التدليس) لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية وثبوت الخيار بها. فإذا كان التدليس من البائع بدون قصد انتفت الحرمة مع ثبوت الخيار للمشتري دفعا للضرر عنه. خيار الغبن (3) في البيع والشراء : الغبن قد يكون بالنسبة للبائع، كأن يبيع ما يساوي خمسة بثلاثة.   (1) أي لا تتركوا لبنها في ضرعها أياما حتى يعظم فتشتد الرغبة فيها. (2) أي يرد معها صاعا من تمر أو شيئا من غالب قوتهم بدلا من اللبن الزائد عن نفقتها إذا كانت تعلف، أو ما يرتضيه المتعاقدان من قوت وغيره. (3) ويسمى بالمسترسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وقد يكون بالنسبة للمشتري، كأن يشتري ما قيمته ثلاثة بخمسة. فإذا باع الانسان أو اشترى وغبن كان له الخيار في الرجوع في البيع وفسخ العقد، بشرط أن يكون جاهلا ثمن السلعة ولا يحسن المماكسة، لانه يكون حينئذ مشتملا على الخداع الذي يجب أن يتنزه عنه المسلم. فإذا حدث هذا كان له الخيار بين إمضاء العقد أو إلغائه. ولكن هل يثبت الخيار بمجرد الغبن؟ قيده بعض العلماء بالغبن الفاحش، وقيده بعضهم بأن يبلغ ثلث القيمة، وقيده البعض بمجرد الغبن. وإنما ذهبوا إلى هذا التقييد لان البيع لا يكاد يسلم من مطلق الغبن، ولان القليل يمكن أن يتسامح به في العادة. وأولى هذه الاراء أن الغبن يقيد بالعرف والعادة. فما اعتبره العرف والعادة غبنا ثبت فيه الخيار، وما لم يعتبراه لا يثبت فيه. وهذا مذهب أحمد ومالك، وقد استدلا عليه بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 ذكر رجل - اسمه حبان بن منقذ - للنبي صلى الله الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " (1) . زاد ابن اسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الاعلى عنه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد ". فبقي ذلك الرجل حتى أدرك عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئا، فقيل له: إنك غبنت فيه، رجع، فيشهد له رجل من الصحابة بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جعله بالخيار ثلاثا، فترد له دراهمه. وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يثبت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين ما فيه غبن وغيره. وأجابوا عن الحديث المذكور: بأن الرجل كان ضعيف العقل، وإن كان ضعفه لم يخرج به عن حد التمييز، فيكون تصرفه مثل تصرف الصغير المميز   (1) أي لا خديعة. وظاهر هذا أن من قال ذلك ثبت له الخيار سواء غبن أم لم يغبن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 المأذون له بالتجارة، فيثبت له الخيار مع الغبن، ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، لقنه أن يقول: لا خلابة، أي عدم الخداع، فكان بيعه وشراؤه مشروطين بعدم الخداع، فيكون من باب خيار الشرط. تلقي الجلب : ومن صور الغبن تلقي الجلب، وهو أن يقدم ركب التجارة بتجارة فيتلقاه رجل قبل دخولهم البلد وقبل معرفتهم السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد، فإذا تبين لهم ذلك كان لهم الخيار دفعا للضرر، لما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن تلقي الجلب، وقال: " لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ". وهذا النهي للتحريم في قول أكثر العلماء. التناجش : ومنه أيضا التناجش، وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة لرفع سعرها ولا يريد شراءها ليغر غيره بالشراء بهذا السعر الزائد. وفي البخاري ومسلم عن ابن عمر: نهى رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو محرم باتفاق العلماء. قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: " واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة المالك أو صنعه. والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسا على المصراة، والاصح عندهم صحة البيع مع الاثم، وهو قول الحنفية ". اهـ. الإقالة : من اشترى شيئا ثم ظهر له عدم حاجته إليه. أو باع شيئا بدا له أنه محتاج إليه. فلكل منهما أن يطلب الاقالة وفسخ العقد (1) . وقد رغب الاسلام فيها ودعا إليها. روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) كما تصح من المضارب والشريك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 " من أقال مسلما أقال الله عثرته ". وهي فسخ لا بيع. وتجوز قبل قبض البيع، ولا يثبت فيها خيار المجلس ولا خيار الشرط ولا شفعة فيها لانها ليست بيعا. وإذا انفسخ العقد رجع كل من المتعاقدين بما كان له، فيأخذ المشتري الثمن ويأخذ البائع العين المبيعة. وإذا تلفت العين المبيعة أو مات العاقد أو زاد الثمن أو نقص فإنها لا تصح. السلم : تعريفه: السلم ويسمى السلف (1) وهو بيع شئ موصوف في الذمة بثمن معجل، والفقهاء تسميه: بيع المحاويج، لانه بيع غائب تدعو إليه ضرورة كل واحد من المتبايعين، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري السلعة، وصاحب السلعة محتاج إلى ثمنها قبل حصولها عنده لينفقها على نفسه وعلى زرعه حتى ينضج فهو من المصالح الحاجية.   (1) مأخوذ من التسليف وهو التقديم لان الثمن هنا مقدم على المبيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 ويسمي المشتري: المسلم، أو رب السلم. ويسمى البائع: المسلم إليه. والبيع: المسلم فيه، والثمن: رأس مال السلم. مشروعيته: وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والاجماع. 1 - قال ابن عباس، رضي الله عنهما،: " أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ". ثم قرأ قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتهم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (1) ". 2 - وروى البخاري ومسلم: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز.   (1) سورة البقرة آية رقم 282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 مطابقته لقواعد الشريعة: ومشروعية السلم مطابقة لمقتضى الشريعة ومتفقة مع قواعدها وليست فيها مخالفة للقياس، لانه كما يجوز تأجيل الثمن في البيع يجوز تأجيل المبيع في السلم، من غير تفرقة بينهما والله سبحانه وتعالى يقول: " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ". والدين هو المؤجل من الاموال المضمونة في الذمة، ومتى كان المبيع موصوفا ومعلوما ومضمونا في الذمة، وكان المشتري على ثقة من توفية البائع المبيع عند حلول الاجل، كان المبيع دينا من الديون التي يجوز تأجيلها والتي تشملها الاية كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما. ولا يدخل هذا في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده، كما جاء في قوله لحكيم بن حزام: " لا تبع لا ليس عندك (1) ". فإن المقصود من هذا النهي أن يبيع المرء مالا قدرة له على تسليمه، لان مالا قدرة له على تسليمه ليس عنده حقيقة فيكون بيعه غررا ومغامرة.   (1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 أما بيع الموصوف المضمون في الذمة مع غلبة الظن بإمكان توفيته في وقته، فليس من هذا الباب في شئ. شروطه: للسلم شروط لا بد من أن تتوفر فيه حتى يكون صحيحا. وهذه الشروط منها ما يكون في رأس المال. ومنها ما يكون في المسلم فيه. شروط رأس المال: أما شروط رأس المال فهي: 1 - أن يكون معلوم الجنس. 2 - أن يكون معلوم القدر. 3 - أن يسلم في المجلس. شروط المسلم فيه: ويشترط في المسلم فيه: 1 - أن يكون في الذمة. 2 - وأن يكون موصوفا بما يؤدي إلى العلم بمقداره وأوصافه التي تميزه عن غيره، كي ينتي الغرر وينقطع النزاع. 3 - وأن يكون الاجل معلوما. وهل يجوز إلى الحصاد والجذاذ وقدوم الحاج إلى العطاء؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 فقال مالك: يجوز متى كانت معلومة كالشهور والسنين. اشتراط الأجل : ذهب الجمهور إلى اعتبار الاجل في السلم، وقالوا: لا يجوز السلم حالا. وقالت الشافعية: يجوز، لانه إذ جار مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى. وليس ذكر الاجل في الحديث لاجل الاشتراط بل معناه إن كان لاجل فليكن معلوما. قال الشوكاني: والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الاجل لعدم ورود دليل يدل عليه، فلا يلزم التقيد بحكم بدون دليل. وأما ما يقال: من أنه يلزم مع عدم الاجل أن يكون بيعا للمعدوم، ولم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الاجل: فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة، وذلك كاف. لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه: لا يشترط في السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه بل يراعى وجوده عند الاجل. ومتى انقطع المبيع عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 محل الاجل انفسخ العقد، ولا يضر انقطاعه قبل حلوله. روى البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى فقالا: سله هل كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، يسلفون في الحنطة؟ فقال عبد الله: كنا نسلف نبيط (1) أهل الشام في الحنطة والشعير والزيت في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزي، فسألته فقال: كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يسلفون على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم نسألهم ألهم حرث أم لا. لا يفسد العقد بالسكوت عن موضع القبض : لو سكت المتعاقدان عن تعيين موضع القبض فالسلم صحيح ولو لم يتعين الموضع لانه لم يبين في الحديث.   (1) أهل الزراعة، وقيل: نصارى الشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 ولو كان شرطا لذكره الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الكيل والوزن والاجل. السلم في اللبن والرطب: قال القرطبي: " وأما السلم في اللبن والرطب مع الشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة. وهي مبنية على قاعدة المصلحة، لان المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء، لان النقد قد لا يحضره، ولان السعر قد يختلف عليه، وصاحب النخل واللبن محتاج إلى النقد لان الذي عنده عروض لا ينصرف له، فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسا على العرايا وغيرها من أصول الحاجات والمصالح ". اه. جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه : ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه مع بقاء عقد السلم، لانه يكون قد باع دين المسلم فيه قبل قبضه. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " (1) . وأجازه الامام مالك وأحمد. قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: " إذا أسلفت في شئ إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين ". رواه شعبة وهو قول الصحابي، وقول الصحابي حجة ما لم يخالف. وأما الحديث ففيه عطية بن سعد وهو لا يحتج بحديثه. ورجح هذا ابن القيم فقال - بعد أن ناقش أدلة كل من الفريقين -: فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الاباحة. والواجب عند التنازع الرد إلى الله وإلى الرسول، صلى الله عليه وسلم. وأما إذا انفسخ عقد السلم بإقالة ونحوها. فقيل: لا يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه.   (1) رواه الدارقطني عن ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وقيل: يجوز أخذ العوض عنه، وهو مذهب الشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وابن تيمية. قال ابن القيم: وهو الصحيح، لان هذا عوض مستقر في الذمة فحازت المعاوضة كسائر الديون من القرض وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الربا : تعريفه: - الربا في اللغة: الزيادة، والمقصود به هنا: الزيادة على رأس المال، قلت أو كثرت. يقول الله سبحانه: " وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " (1) . حكمه: - وهو محرم في جميع الاديان السماوية، ومحظور في اليهودية والمسيحية والاسلام. جاء في العهد القديم: (إذا أقرضت مالا لاحد من أبناء شعبي، فلا تقف منه موقف الدائن. لا تطلب منه ربحا لمالك) . آية 25، فصل 22، من سفر الخروج. وجاء فيه أيضا:   (1) سورة البقرة آية رقم 279. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 (إذا افتقر أخوك فاحمله ... لا تطلب منه ربحا ولا منفعة) . آية 35، فصل 25، من سفر اللاويين. إلا أن اليهود لا يرون مانعا من أخذ الربا من غير اليهودي، كما جاء في آية 20، من الفصل 23، من سفر التثنية. وقد رد عليهم القرآن، ففي سورة النساء (1) : (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه) . وفي كتاب العهد الجديد: (إذا أقرضتم لمن تنتظرون منه المكافأة، فأي فضل يعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين عائدتها. وإذن يكون ثوابكم جزيلا) . آية 34 وآية 35، من الفصل 6، من إنجيل لوقا. واتفقت كلمة رجال الكنيسة على تحريم الربا تحريما قاطعا استنادا إلى هذه النصوص. قال سكوبار: (إن من يقول إن الربا ليس معصية يعد ملحدا   (1) سورة النساء آية رقم 269. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 خارجا عن الدين) . وقال الاب بوني: (إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة الدنيا، وليسوا أهلا للتكفين بعد موتهم) . وفي القرآن الكريم تحدث عن الربا في عدة مواضع مرتبة ترتيبا زمنيا، ففي العهد المكي نزل قول الله سبحانه: " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (1) ". وفي العهد المدني نزل تحريم الربا صراحة في قول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم ترحمون (2) ". وآخر ما ختم به التشريع قول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من   (1) سورة الروم آية رقم 39. (2) سورة آل عمران آية رقم 130. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (1) ". وفي هذه الاية رد قاطع على من يقول: إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافا مضاعفة، لان الله لم يبح إلا رد رءوس الاموال دون الزيادة عليها. وهذا آخر ما نزل في هذا الامر. وهو من كبائر الاثم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " اجتنبوا السبع الموبقات ". قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". وقد لعن الله كل من اشترك في عقد الربا، فلعن الدائن الذي يأخذه، والمستدين الذي يعطيه، والكاتب الذي يكتبه، والشاهدين عليه. روى البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود، والترمذي وصححه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله، صلى الله   (1) سورة البقرة آية رقم 278، وآية رقم 279. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 عليه وسلم، قال: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه) روى الدارقطني عن عبد الله بن حنظلة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " الدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " الربا تسعة وتسعون بابا، أدناها كأن يأتي الرجل بأمه ". الحكمة في تحريم الربا: الربا محرم في جميع الاديان السماوية، والسبب في تحريمه ما فيه من ضرر عظيم: 1 - أنه يسبب العداوة بين الافراد، ويقصي على روح التعاون بينهم. والادبان كلها، ولا سيما الاسلام، تدعو إلى التعاون والايثار وتبغض الاثرة والانانية واستغلال جهد الاخرين. 2 - وأنه يؤدي إلى حلق طبقة مترفة لا تعمل شيئا، كما يؤدي إلى تضخيم الاموال في أيديها دون جهد مبذول، فتكون كالنباتات الطفيلية تنمو على حساب غيرها. والاسلام يمجد العمل ويكرم العاملين ويجعله أفضل وسيلة من وسائل الكسب، لانه يؤدي إلى المهارة، ويرفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الروح المعنوية في الفرد. 3 - وهو وسيلة الاستعمار، ولذلك قيل: الاستعمار يسير وراء تاجر أو قسيس. ونحن قد عرفنا الربا وآثاره في استعمار بلادنا. 4 - والاسلام بعد هذا يدعو إلى أن يقرض الانسان أخاه قرضا حسنا إذا احتاج إلى المال ويثيب عليه أعظم مثوبة: " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " (1) . أقسامه : والربا قسمان: (1) ربا النسيئة (2) وربا الفضل. ربا النسيئة: وربا النسيئة (2) هو الزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل. وهذا النوع محرم بالكتاب والسنة وإجماع الائمة.   (1) سورة الروم آية رقم 39. (2) النسيئة: التأجيل والتأخير أي الربا الذي يكون بسبب التأجيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 ربا الفضل: وربا الفضل وهو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام مع الزيادة وهو محرم بالسنة والاجماع لانه ذريعة إلى ربا النسيئة. وأطلق عليه اسم الربا تجوزا. كما يطلق اسم المسبب على السبب. روى أبو سعيد الخدري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخاف عليكم الرماء " أي: الربا. فنهى عن ربا الفضل لما يخشاه عليهم من ربا النسيئة. وقد نص الحديث على تحريم الربا في ستة أعيان: الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والملح. فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الاخذ والمعطي سواء ". رواه أحمد والبخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 علة التحريم : هذه الاعيان الستة التي خصها الحديث بالذكر تنتظم الاشياء الاساسية التي يحتاج الناس إليها والتي لا غنى لهم عنها. فالذهب والفضة هما العنصران الاساسيان للنقود تنضبط بها المعاملة والمبادلة، فهما معيار الاثمان الذي يرجع إليه في تقويم السلع. وأما بقية الاعيان الاربعة فهي عناصر الاغذية وأصول القوت الذي به قوام الحياة. فإذا جرى الربا في هذه الاشياء كان ضارا بالناس ومفضيا إلى الفساد في المعاملة، فمنع الشارع منه رحمة بالناس ورعاية لمصالحهم. ويظهر من هذا أن علة التحريم بالنسبة للذهب والفضة كونهما ثمنا، وأن علة التحريم بالنسبة لبقية الاجناس كونها طعاما. فإذا وجدت هذه العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة أخذ حكمه، فلا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد. وكذلك إذا وجدت هذه العلة في طعام آخر غير القمح والشعير والتمر والملح، فإنه لا يباع إلا مثلا بمثل يدا بيد. روى مسلم عن معمر بن عبد الله عن النبي أنه نهى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل، فكل ما يقوم مقام هذه الاجناس الستة يقاس عليها ويأخذ حكمها، فإذا اتفق البدلان في الجنس والعلة حرم التفاضل وحرم النساء أي التأجيل. فإذا بيع ذهب بذهب أو قمح بقمح فإنه يشترط لصحة هذا التبادل شرطان: 1 - التساوي في الكمية بقطع النظر عن الجودة والرداءة للحديث المذكور، ولما رواه مسلم أن رجلا جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشئ من التمر، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم،: ما هذا من تمرنا؟ فقال الرجل: يارسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع. فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك الربا، ردوه ثم بيعوا تمرنا ثم اشتروا لنا من هذا. وروى أبو داود عن فضالة قال: أتي النبي، صلى الله عليه وسلم، بقلادة فيها ذهب وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير أو سبعة، فقال النبي: لا، حتى تميز بينهما. قال: فرده حتى ميز بينهما. ولمسلم: " أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: الذهب بالذهب وزنا بوزن " (1) .   (1) أفاد ابن القيم يحل بيع المصوغات المباحة بأكثر من وزنها ذهبا، والمصوغات الفضية المباحة بأكثر من وزنها فضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 2 - عدم تأجيل أحد البدلين، بل لا بد من التبادل الفوري، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يدا بيد ". وفي هذا يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا (1) بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز ". رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد. وإذا اختلف البدلان في الجنس واتحدا في العلة حل التفاضل وحرم النساء. فإذا بيع ذهب بفضة أو قمح بشعير فهنا يشترط شرط واحد وهو الفورية، ولا يشترط التساوي في الكم بل يجوز التفاضل. روى أبو داود أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما، يدا بيد ". وفي حديث عبادة عند أحمد ومسلم: " فإذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا   (1) تشفوا: تفضلوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 كان يدا بيد ". وإذا اختلف البدلان في الجنس والعلة فإنه لا يشترط شئ فيحل التفاضل والنساء. فإذا بيع الطعام بالفضة حل التفاضل والتأجيل، وكذا إذا بيع ثوب بثوبين أو إناء بإناءين. والخلاصة أن كل ما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة، ويجوز فيه التفرق قبل التقابض، فيجوز بيع شاة بشاتين نسيئة، ونقدا، وكذلك شاة بشاة لحديث عمرو بن العاص (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة) . أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. ورواه البيهقي، وقوى الحافظ بن حجر إسناده. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس، وإلى هذا ذهب الشافعي. بيع الحيوان بلحم: قال جمهور الائمة: لا يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 من جنسه (1) ، فلا يجوز بيع بقرة مذبوحة ببقرة حيه يقصد منها الاكل، لما رواه سعيد بن المسيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الحيوان باللحم. رواه مالك في المطإ عن سعيد مرسلا وله شواهد. قال الشوكاني: ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه، وروى البيهقي عن أهل المدينة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى أن يباح حي بميت، ثم قال، أي البيهقي: وهذا مرسل يؤكد مرسل ابن المسيب. بيع الرطب باليابس : ولا يجوز بيع الرطب بما كان يابسا إلا لاهل العرايا، وهم الفقراء الذين لانخل لهم، فلهم أن يشتروه من أهل النخل رطبا يأكلونه في شجره بخرصه ثمرا. روى مالك وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك.   (1) عند الحنابلة يصح بيع اللحم بحيوان من غير جنسه، كقطعة من لحم الابل بشاة، لانه ليس أصله ولا جنسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 روى البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. أي يبيع الرجل ثمر حائطه (بستانه) إن كان نخلا بتمر كيلا. وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا. وإن كان زرعا أن يبيع بكيل طعام. نهى عن ذلك كله. وروى البخاري عن زيد بن ثابت: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا. بيع العينة : بيع العينة نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لانه ربا وإن كان في صورة بيع وشراء. ذلك أن الانسان المحتاج إلى النقود يشتري سلعة بثمن معين إلى أجل، ثم يبيعها ممن اشتراها منه بثمن حال أقل فيكون الفرق هو فائدة المبلغ الذي أخذه عاجلا. وهذا البيع حرام ويقع باطلا (1) . 1 - روى ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:   (1) وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويرى غيرهم جوازه ومنهم الشافعي لتحقق ركنه، ولا عبرة بالنية التي لا يمكن تحققها يقينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 " إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ". أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وابن القطان وصححه. وقال الحافظ بن حجر: رجاله ثقات. 2 - وقالت العالية (1) بنت أيفع بن شرحبيل: " دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، ثم اشتريته بستمائة درهم نقدا، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب ". أخرجه مالك والدارقطني.   (1) هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي البيعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 القرض : معناه: القرض هو المال الذي يعطيه المقرض للمقترض ليرد مثله إليه عند قدرته عليه، وهو في أصل اللغة: القطع. وسمي المال الذي يأخذه المقترض بالقرض لان المقرض يقطعه قطعة من ماله. مشروعيته: وهو قربة يتقرب بها إلى الله سبحانه، لما فيه من الرفق بالناس، والرحمة بهم، وتيسير أمورهم، وتفريج كربهم. وإذا كان الاسلام ندب إليه وحبب فيه بالنسبة للمقترض فإنه أباحه للمقترض، ولم يجعله من باب المسألة المكروهة لانه يأخذ المال لينتفع به في قضاء حوائجه ثم يرد مثله. 1 - روى أبو هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ". رواه مسلم وأبو داود والترمذي. 2 - وعن ابن مسعود: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة ". رواه ابن ماجه وابن حبان. 3 - وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل. ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لان السائل يسأل وعنده. والمستقرض لا يستقرض إلامن حاجة ". عقد القرض: وعقد القرض عقد تمليك فلا يتم إلا ممن يجوز له التصرف، ولا يتحقق إلا بالايجاب والقبول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 كعقد البيع والهبة. وينعقد بلفظ القرض والسلف، وبكل لفظ يؤدي إلى معناه. وعند المالكية أن الملك يثبت بالعقد ولو لم يقبض المال. ويجوز للمقترض أن يرد مثله أو عينه، سواء أكان مثليا أم غير مثلي، ما لم يتغير بزيادة أو نقص. فإن تغير وجب رد المثل. اشتراط الاجل فيه: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز اشتراط الاجل في القرض، لانه تبرع محض. وللمقرض أن يطالب ببذله في الحال. فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم لم يتأجل وكان حالا. وقال مالك: يجوز اشتراط الاجل، ويلزم الشرط. فإذا أجل القرض إلى أجل معلوم تأجل، ولم يكن له حق المطالبة قبل حلول الاجل، لقول الله تعالى: " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى " (1) . ولما رواه عمر وبن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسلمون عند شروطهم ".   (1) سورة البقرة آية 282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 رواه أبو داود وأحمد والترمذي والدارقطني. ما يصح فيه القرض : يجوز قرض الثياب والحيوان، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم استلف بكرا (1) . كما يجوز قرض ما كان مكيلا أو موزونا، أو ما كان من عروض التجارة. كما يجوز قرض الخبز والخمير، لحديث عائشة: " قلت يارسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصانا، فقال: لا بأس. إنما ذلك من مرافق الناس، لا يراد به الفضل ". وعن معاذ أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال: " سبحان الله، إنما هذا من مكارم الاخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء. سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك ". كل قرض جرنفعا فهو ربا : إن عقد القرض يقصد به الرفق بالناس ومعاونتهم على شئون العيش وتيسير وسائل الحياة، وليس هو وسيلة من   (1) البكر: الثني من الابل، وهو بمنزلة الفتى من الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وسائل الكسب، ولا أسلوبا من أساليب الاستغلال. ولهذا لا يجوز أن يرد المقترض إلى المقرض إلا ما اقترضه منه أو مثله، تبعا للقاعدة الفقهية القائلة: كل قرض جر نفعا فهو ربا (1) . والحرمة مقيدة هنا بما إذا كان نفع القرض مشروطا أو متعارفا عليه. فإن لم يكن مشروطا ولامتعارفا عليه، فللمقترض أن يقضي خيرا من القرض في الصفة أو يزيد عليه في المقدار، أو يبيع منه داره إن كان قد شرط أن يبيعها منه، وللمقرض حق الاخذ دون كراهة، لما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. عن أبي رافع قال: استلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكرا، فقلت: لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا (2) ،   (1) هذه القاعدة صحيحة شرعا، وإن كان لم يثبت فيها حديث: والحديث الذي جاء فيها عن علي إسناه ساقط. قال الحافظ: وله شاهد ضعيف عن فضالة بن عبيد عند البيهقي، وآخر موقوف عن عبد الله بن سلام عند البخاري. (2) الخبار: المختار. والرباعي: الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: " أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء ". وقال جابر بن عبد الله: " كان لي على رسول الله حق فقضاني وزادني ". رواه أحمد والبخاري ومسلم. التعجيل بقضاء الدين قبل الموت : 1 - روى الامام أحمد أن رجلا سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أخيه، مات وعليه دين، فقال: " هو محبوس بدينه، فاقض عنه ". فقال يا رسول الله: " قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة ". فقال: " أعطها فإنها محقة ". 2 - وروي أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن جاهدت بنفسي ومالي فقتلت صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، أدخل الجنة؟ قال: نعم. فقال ذلك مرتين أو ثلاثا. قال: " إلا ان مت وعليك دين وليس عندك وفاء ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وأخبرهم (1) بتشديد أنزل، فسألوه عنه فقال: " الدين. والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله ثم عاش، ثم قتل في سبيل الله ما دخل الجنة حتى يقضي دينه ". 3 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يصلي على رجل مات وعليه دين. فأتي بميت، فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة الانصاري: هما علي يا رسول الله. قال: فصلى عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فلما فتح الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، قال: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته ". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. 4 - وحديث البخاري عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: من أخذ أموال الناس يريد   (1) أي الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ". مطل الغني ظلم : عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع " (1) . رواه أبو داودو غيره. استحباب إنظار المعسر: يقول الله سبحانه: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون " (2) . 1 - وروي عن أبي قتادة أنه طلب غريما له فتوارى ثم وجده، فقال: إني معسر، فقال: الله (3) ؟ قال: فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس   (1) أي إذا أحيل على غني فليقبل الاحالة. (2) سورة البقرة آية رقم 280. (3) الهمزة الاولى ممدودة على الاستفهام والثانية من غير مدوالهاء فيهما مكسورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 عن معسر أو يضع عنه ". وعن كعب بن عمر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله في ظله ". ضع وتعجل: ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم وضع قدر من الدين نظير التعجيل بالقضاء قبل الاجل المتفق عليه. فمن أقرض غيره قرضا إلى أجل، ثم قال المقرض للمقترض: أضع عنك بعض الدين نظير أن ترد الباقي قبل الاجل فإنه يحرم. ويروي ابن عباس وزفر جواز ذلك، لما رواه ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم، فقالوا: يا نبي الله، إنك أمرت بإخراجنا، ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضعوا وتعجلوا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 الرهن : تعريفه: يطلق الرهن في اللغة على الثبوت والدوام، كما يطلق على الحبس. فمن الاول قولهم: نعمة راهنة، أي ثابتة ودائمة. ومن الثاني قوله تعالى: " كل نفس بما كسبت رهينة " (1) . أي محبوسة بكسبها وعملها. وأما معناه في الشرع: فقد عرفه العلماء بأنه جعل عين لها قيمة مالية في نظر الشرع وثيقة بدين (2) ، بحيث يمكن أخذ ذلك الدين، أو أخذ بعضه من تلك العين. فإذا استدان شخص دينا من شخص آخر وجعل له في   (1) سورة المدثر آية رقم 38. (2) شيئا مستوثقا به، وذلك لان الدين أصبح بحبس هذه العين محكما لابد من أدائه أو تضيع على المدين العين المرهونة كلها أو بعضها بحسب ذلك الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 في نظير ذلك الدين عقارا أو حيوانا محبوسا تحت يده حتى يقضيه دينه، كان ذلك هو الرهن شرعا. ويقال لمالك العين المدين: " راهن "، ولصاحب الدين الذي يأخذ العين ويحبسها تحت يده نظير دينه: " مرتهن " كما يقال للعين المرهونة نفسها: " رهن ". مشروعيته: الرهن جائز، وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب: فلقول الله تعالى: " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أوتمن أمانته وليتق الله ربه (1) ". وأما السنة: فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي. طلب منه سلف الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كذب، إني لامين في الارض، أمين في السماء، ولو ائتمنني لاديت، اذهبوا إليه بدرعي ".   (1) سورة البقرة آية رقم 283. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وروى البخاري وغيره عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: " اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما ورهنه درعه ". وقد أجمع العلماء على ذلك، ولم يختلف في جوازه ولا مشروعيته أحد، وإن كانوا قد اختلفوا في مشروعيته في الحضر. فقال الجمهور: يشرع في الحضر، كما يشرع في السفر، لفعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، له وهو مقيم بالمدينة، وأما تقيده بالسفر في الآية فإنه خرج مخرج الغالب، فإن الرهن غالبا يكون في السفر. وقال مجاهد والضحاك، والظاهرية: لايشرع الرهن إلا في السفر استدلالا بالآية. والحديث حجة عليهم. شروط صحته : يشترط لصحة عقد الرهن الشروط الآتية: أولا: العقل. ثانيا: البلوغ. ثالثا: أن تكون العين المرهونة (1) موجودة وقت   (1) قال القرطبي: لما قال الله تعالى " فرهان مقبوضة " قال علماؤنا: فيه ما يقتضي بظاهره ومطلقه جواز رهن المشاع خلافا لابي حنيفة وأصحابه. قال ابن المنذر: رهن المشاع جائز كما يجوز بيعه وقال الاحناف: يجب أن تكون العين المرهونة متميزة فلا يصح رهن المشاع سواء أكان عقارا أم حيوانا أم عروض تجارة أم غيرذلك. وخالف في ذلك الائمة الثلاثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 العقد، ولو كانت مشاعة. رابعا: أن يقبضها المرتهن أو وكيله. قال الشافعي: لم يجعل الله الحكم إلا برهن موصوف بالقبض، فإذا عدمت الصفة وجب أن يعدم الحكم. وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، ومتى قبضه المرتهن فإن الراهن يملك الانتفاع به، خلافا للشافعي الذي قال: بأن له حق الانتفاع ما لم يضر بالمرتهن. انتفاع المرتهن بالرهن : عقد الرهن عقد يقصد به الاستيثاق وضمان الدين وليس المقصود منه الاستثمار والربح، وما دام ذلك كذلك فإنه لا يحل للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة، ولو أذن له الراهن، لانه قرض جر نفعا، وكل قرض جر نفعا فهو ربا. وهذا في حالة ما إذا لم يكن الرهن دابة تركب أو بهيمة تحلب، فإن كان دابة أو بهيمة فله أن ينتفع بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 نظير النفقة عليها فإن قام بالنفقة عليها كان له حق الانتفاع، فيركب ما أعد للركوب كالابل والخيل والبغال ونحوها ويحمل عليها، ويأخذ لبن البهيمة كالبقر والغنم ونحوها (1) . والادلة على ذلك ما يأتي: (أ) عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا، والظهر يركب (2) بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة ". قال أبو داود: وهو عندنا صحيح، وقد أخرجه آخرون منهم البخاري والترمذي وابن ماجه. (ب) وعن أبي هريرة أيضا، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب   (1) هذا مذهب أحمد وإسحاق، وخالف في ذلك الجمهور من العلماء وقالوا: لا ينتفع المرتهن بشئ. والحديث التالي حجة عليهم. (2) فاعل يركب ويشرب المرتهن بقرينة العوض وهو الركوب، واحتمال أنه الراهن بعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 النفقة ". رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. وفي لفظ: " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته ". رواه أحمد، رضي الله عنه. (ج) وعن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " الرهن محلوب مركوب " أو " مر كوب محلوب " كما جاء في رواية أخرى. مؤونة الرهن ومنافعه : مؤونة الرهن وأجرة حفظه وأجرة رده على مالكه. ومنافع الرهن للراهن، ونماؤه يدخل في الرهن، ويكون رهنا مع الاصل، فيدخل فيه الولدوالصوف والثمرة واللبن، لقوله صلى الله عليه وسلم: " له غنمه، وعليه غرمه ". وقال الشافعي: لايدخل شئ من ذلك في الرهن. وقال مالك: لايدخل إلا الولد وفسيل النخل. فإذا أنفق المرتهن على الرهن بإذن الحاكم مع غيبة الراهن وامتناعه كان دينا للمنفق على الراهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 الرهن أمانة : والرهن امانة في يد المرتهن، لا يضمن إلا بالتعدية عند أحمد والشافعي. بقاء الرهن حتى يؤدى الدين : قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من رهن شيئا بمال فأدى بعضه وأراد إخراج بعض الرهن فإن ذلك ليس له حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه. غلق الرهن : كان من عادة العرب أن الراهن إذا عجز عن أداء ما عليه من دين خرج الرهن عن ملكه، واستولى عليه المرتهن، فأبطله الاسلام ونهى عنه. ومتى حل الاجل لزم الراهن الايفاء وأداء ما عليه من دين، فإن امتنع من وفائه ولم يكن أذن له ببيع الرهن أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن، فإن باعه وفضل من ثمنه شئ فلمالكه، وإن بقي شئ فعلى الراهن. ففي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر: أن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الاجل، فقال الذي ارتهن: منزلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 " لا يغلق الرهن (1) من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه ". رواه الشافعي والاثرم والدارقطني، وقال: إسناده حسن متصل. قال الحافظ بن حجر في بلوغ المرام: ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. اشتراط بيع الرهن عند حلول الاجل: فإذا اشترط بيع الرهن عند حلول الاجل جاز هذا الشرط وكان من حق المرتهن أن يبيعه، خلافا للامام الشافعي الذي يرى بطلان الشرط. بطلان الرهن : ومتى رجع الرهن إلى الراهن باختيار المرتهن بطل الرهن.   (1) غلق الرهن: أي لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه، وهومن باب فرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 المزارعة فضل المزارعة : قال القرطبي: الزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الامام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الاشجار. 1 - روى البخاري ومسلم عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا (1) فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ". 2 - وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " التمسوا الرزق من خبايا الارض ".   (1) الغرس: ماله ساق كالنخل والعنب، والزرع: مالاساق له مثل القمح والشعير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 تعريفها: معنى المزارعة في اللغة: المعاملة على الارض ببعض مايخرج منها. ومعناها هنا: إعطاء الارض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الاكثر من ذلك أو الادنى حسب ما يتفقان عليه. مشروعيتها: الزراعة نوع من التعاون بين العامل وصاحب الارض، فربما يكون العامل ماهرا في الزراعة وهو لا يملك أرضا. وربماكان مالك الارض عاجزا عن الزراعة. فشرعها الاسلام رفقا بالطرفين. المزارعة عمل بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمل بها أصحابه من بعده. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر مايخرج منها من زرع أو ثمر. وقال محمد الباقر بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما بالمدينة أهل بيت هجرة (1) إلا يزرعون على الثلث   (1) يقصد المهاجرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 والربع، وزارع علي، رضي الله عنه، وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين. رواه البخاري. قال في المغني: " هذا أمر مشهور، عمل به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم. ولم يبق من المدينة من أهل بيت إلا عمل به، وعمل به أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، من بعده. ومثل هذا مما لا يجوز أن ينسخ، لان النسخ إنما يكون في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأما شئ عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفاؤه من بعده، وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه، وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد، فكيف يجوز نسخه؟ فإن كان نسخه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف عمل به بعد نسخه، وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها، فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكروه ولم يخبرهم به؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 رد ما ورد من النهي عنها: وأما ما ذكره رافع بن خديج أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فقدرده زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأخبر أن النهي كان لفض النزاع، فقال: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه. إنما جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان من الانصار قد اقتتلا، فقال: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع، فسمع رافع قوله: فلا تكروا المزارع. رواه أبو داود والنسائي. كما رده ابن عباس رضيا لله عنه، وبين أن النهي إنما كان من أجل إرشادهم إلى ما هو خير لهم، فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق الناس بعضهم ببعض، بقوله: " من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه ". وعن عمرو بن دينار، رضي الله عنه، قال: سمعت ابن عمر يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عنها. فذكرته لطاووس فقال: قال لي أعلمهم " يقصد ابن عباس ": إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ينه عنها، ولكن قال: " لان يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما ". رواه الخمسة. كراء الأرض بالنقد : تجوز المزارعة بالنقد وبالطعام وبغيرهما مما يعد مالا، فعن حنظلة بن قيس، رضيا لله عنه، قال: سألت رافع ابن خديج عن كراء الارض فقال: نهى رسول الله، صلى عليه وسلم، عنه فقلت: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به. رواه الخمسة إلا الترمذي، وهذا مذهب أحمد وبعض المالكية والشافعية. قال النووي: وهذا هو الراجح المختار من جميع الاقوال. المزارعة الفاسدة : سبق أن قلنا إن المزارعة الصحيحة هي إعطاء الارض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها، كالثلث والربع ونحو ذلك، أي أن يكون نصيبه غير معين. فإذا كان نصيبه معينا بأن يحدد مقدارا معينا مما تخرج الارض، أو يحدد قدرا معينا من مساحة الارض تكون غلتهاله، والباقي يكون للعامل أو يشتر كان فيه: فإن المزارعة في هذه الحال تكون فاسدة، لما فيها من الغرر ولانها تفضي إلى النزاع. روى البخاري عن رافع بن خديج قال: " كنا أكثر أهل الارض (أي المدينة) مزروعا. كنا نكري الارض بالناحية منها تسمى لسيد الارض، فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك، فنهينا ". وروي أيضا عنه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " ما تصنعون بمحاقلكم " - المزارع. قالوا: نؤجرها على الربع، وعلى الاوسق من التمر والشعير. قال: " لا تفعلوا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وروى مسلم عنه قال: وإنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما على الماديانات - ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء وأقيال الجداول - أوائل السواقي - وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كري إلا هذا، فلذلك زجر عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 إحياء الموات : معناه : إحياء الموات معناه إعداد الارض الميتة التي لم يسبق تعميرها وتهيئتها وجعلها صالحة للانتفاع بها في السكنى والزرع ونحو ذلك. الدعوة إليه : والاسلام يحب أن يتوسع الناس في العمران وينشروا في الارض ويحيوا مواتها فتكثر ثرواتهم ويتوفر لهم الثراء والرخاء، وبذلك تتحقق لهم الثروة والقوة. وهو لذلك يحبب إلى أهله أن يعمدوا إلى الارض الميتة ليحيوا مواتها ويستثمروا خيراتها وينتفعوا ببركاتها. 1 - فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". رواه أبو داودو النسائي والترمذي وقال: إنه حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 2 - وقال عروة: إن الارض أرض الله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتا فهو أحق بها. جاءنا بهذا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين جاؤوا بالصلوات عنه. 3 - وقال: " من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي (1) فهو له صدقة ". رواه النسائي وصححه ابن حبان. 4 - وعن الحسن بن سمرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من أحاط حائطا على أرض فهي له ". رواه أبو داود. 5 - وعن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فبايعته، فقال: " من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له ". فخرج الناس يتعادون يتحاطون (2) . شروط إحياء الموات : يشترط لاعتبار الارض مواتا أن تكون بعيدة عن   (1) العوافي: الطير والسباع. (2) يتحاطون: أي يحيطون ما أحرزوه بما يفيد إحرازهم له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 العمران، حتى لا تكون مرفقا من مرافقه، ولا يتوقع أن تكون من مرافقه. ويرجع إلى العرف في معرفة مدى البعد عن العمران. إذن الحاكم: اتفق الفقهاء على أن الاحياء سبب للملكية. واختلفوا في اشتراط إذن الحاكم في الاحياء. فقال أكثر العلماء: إن الاحياء سبب للملكية من غير اشتراط إذن الحاكم، فمتى أحياها أصبح مالكا لها من غير إذن من الحاكم. وعلى الحاكم أن يسلم بحقه إذا رفع إليه الامر عند النزاع، لما رواه أبو داود عن سعيد بن زيد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". وقال أبو حنيفة: الاحياء سبب للملكية، ولكن شرطها إذن الامام وإقراره. وفرق مالك بين الاراضي المجاورة للعمران والارض البعيدة عنه. فإن كانت مجاورة فلا بد فيها من إذن الحاكم. وإن كانت بعيدة فلا يشترط فيها إذنه، وتصبح ملكا لمن أحياها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 متى يسقط الحق : من أمسك أرضا وعلمها بعلم أو أحاطها بحائط ثم لم يعمرها بعمل سقط حقه بعد ثلاث سنين. عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال على المنبر: من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. وذلك أن رجالا كانوا يحتجرون من الارض ما لا يعملون (1) . وعن طاووس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:" عادي الارض لله وللرسول، ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر بعد ثلاث سنين " (2) . من أحيا أرض غيره دون علمه : إن ما جرى عليه عمل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز: أنه إذا عمر المرء أرضا من الاراضي ظانا إياها من الاراضي الساقطة، أي غير المملوكة لاحد، ثم جاء رجل   (1) أي لا يستثمرونه. (2) رواه أبو عبيد في الاموال وقال: عادي الارض التي بها مساكن في آباد الدهر فانقرضوا. نسبهم إلى عاد لانهم مع تقدمهم ذوو قوة وآثار كثيرة. فنسب كل أثر قديم إليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 آخر وأثبت أنها له، خير في أمره: إما أن يسترد من العامر أرضه بعد أن يؤدي إليه أجرة عمله، أو يحيل إليه حق الملكية بعد أخذ الثمن. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق " (1) . إقطاع الارض والمعادن والمياه: يجوز للحاكم العادل أن يقطع بعض الافراد من الارض الميتة والمعادن والمياه ما دامت هناك مصلحة (2) . وقد فعل ذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما فعله الخلفاء من بعده، كما يتضح من الاحاديث الاتية: 1 - عن عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: أقطعني رسول الله، صلى الله عليه سلم، وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، فذهب الزبير إلى آل عمر فاشترى نصيبه منهم فأتى عثمان فقال: إن عبد الرحمن ابن عوف زعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطعه   (1) كتاب ملكية الارض. (2) إذا لم تكن هناك مصلحة من الاقطاع كما يفعل الحكام الظالمون من إعطاء بعض الافراد محاباة له بغير حق فإنه لا يجوز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن جائز الشهادة له وعليه. رواه أحمد. 2 - وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطعه أرضا في حضر موت. 3 - وعن عمر بن دينار قال: لما قدم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة أقطع أبا بكر وأقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 4 - وعن ابن عباس قال: أقطع النبي، صلى الله عليه وسلم، بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها (1) وغوريها. أخرجه أحمد وأبو داود. قال أبو يوسف: " فقد جاءت هذه الاثار بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أقطع أقواما، وأن الخلفاء من بعده أقطعوا. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك، إذ كان فيه تأليف على الاسلام وعمارة الارض. وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له غناء في الاسلام ونكاية   (1) القبلية: نسبة إلى قبل مكان بساحل البحر. والجلس: المرتفع من الارض، والغور: المنخفض منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 للعدو، ورأوا أن الافضل ما فعلوا، ولولا ذلك لم يأتوه، ولم يقطعوا حق مسلم ولا معاهد ". نزع الأرض ممن لا يعمرها : وإنما يقطع الحاكم من أجل المصلحة، فإذا لم تتحقق بأن لم يعمرها من أقطع له ولم يستثمرها فإنها تنزع منه. 1 - عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقطع لاناس من مزينة أو جهينة أرضا فلم يعمروها فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون أو المزنيون إلى عمر بن الخطاب فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: من كانت له أرض ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها. 2 - وعن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجره عن الناس، إنما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 هلاك المبيع قبل القبض وبعده : 1 - إذا هلك البيع كله أو بعضه قبل القبض بفعل المشتري، فإن البيع لا ينفسخ، ويبقى العقد كما هو، وعليه أن يدفع الثمن كله لانه هو المتسبب في الهلاك. 2 - وإذا هلك بفعل أجنبي فإن المشتري بالخيار بين الرجوع على هذا الاجنبي وبين فسخ العقد. 3 - ويفسخ البيع إذا هلك المبيع كله قبل القبض بفعل البائع أو بفعل المبيع نفسه أو بآفة سماوية. 4 - فإذا هلك بعض المبيع بفعل البائع سقط عن المشتري من الثمن بقدر الجزء الهالك. ويخير في الباقي بأخذه بحصته من الثمن. 5 - أما إذا كان هلاك بعض المبيع بفعل نفسه فإنه لا يسقط شئ من ثمنه، والمشتري مخير بين فسخ العقد وبين أن يأخذ ما بقي بجميع الثمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 6 - وإذا كان الهلاك بآفة سماوية ترتب عليها نقصان قدره، فيسقط من الثمن بقدر النقصان الحادث، ثم يكون المشتري بالخيار بين فسخ العقد وبين أخذ الباقي بحصته من الثمن. هلاك المبيع بعد القبض : إذا هلك المبيع بعد القبض كان من ضمان المشتري. ويلزم بثمنه إن لم يكن فيه خيار للبائع، وإلا فيلزم بالقيمة أو المثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 الإجارة : تعريفها: الاجارة مشتقة من الاجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرا. وفي الشرع: عقد على المنافع بعوض، فلا يصح استئجار الشجر من أجل الانتفاع بالثمر، لان الشجر ليس منفعة، ولا استئجار النقدين، ولا الطعام للاكل، ولا المكيل والموزون لانه لا ينتفع بها إلا باستهلاك أعيانها. وكذلك لا يصح استئجار بقرة أو شاة أو ناقة لحلب لبنها لان الاجارة تملك المنافع، وفي هذه الحال تملك اللبن وهو عين. والعقد يرد على المنفعة لا للعين ... والمنفعة قد تكون منفعة عين، كسكنى الدار، أو ركوب السيارة ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وقد تكون منفعة عمل، مثل عمل المهندس والبناء والنساج والصباغ والخياط والكواء، وقد تكون منفعة الشخص الذي يبذل جهده، مثل الخدم والعمال ... والمالك الذي يؤجر المنفعة يسمى: مؤجرا. والطرف الاخر الذي يبذل الاجر يسمى: مستأجرا. والشئ المعقود عليه المنفعة يسمى: مأجورا. والبذل المبذول في مقابل المنفعة يسمى: أجرا وأجرة. ومتى صح عقد الاجارة ثبت للمستأجر ملك المنفعة. وثبت للمؤجر ملك الاجرة، لانها عقد معاوضة. مشروعيتها: الاجارة مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. يقول الله سبحانه وتعالى: 1 - أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون " (1) . ويقول جل شأنه: 2 - " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح   (1) سورة الزخرف آية رقم 32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير " (1) . ويقول عزوجل: 3 - " قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجر ني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " (2) . وجاء في السنة ما يأتي: 1 - روى البخاري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استأجر رجلا من بني الديل (3) يقال له: عبد الله بن الاريقط وكان هاديا خريتا أي ماهرا. 2 - وروى ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه ". 3 - وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن سعد بن   (1) سورة البقرة آية رقم 233. (2) سورة القصص الاية رقم 26 و 27. (3) حي من عبد قيس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: " كنا نكري الارض بما على السواقي من الزرع ". فنهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك وأمرنا أن نكريها يذهب أو ورق. 4 - وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم،: " احتجم وأعطى الحجام أجره ". وعلى مشروعية الاجارة أجمعت الامة، ولا عبرة بمن خالف هذا الاجماع من العلماء. حكمة مشروعيتها : وقد شرعت الاجارة لحاجة الناس إليها، فهم يحتاجون إلى الدور للسكنى، ويحتاج بعضهم لخدمة بعض، ويحتاجون إلى الدواب للركوب والحمل، ويحتاجون إلى الارض للزراعة، وإلى الالات لا ستعمالها في حوائجهم المعاشية. ركنها : والاجارة تنعقد بالايجاب والقبول بلفظ الاجارة والكراء وما اشتق منهما، وبكل لفظ يدل عليها. شروط العاقدين : ويشترط في كل من العاقدين الاهلية بأن يكون كل منهما عاقلا مميزا، فلو كان أحدهما مجنونا أو صبيا غير مميز فإن العقد لا يصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 ويضيف الشافعية والحنابلة شرطا آخر وهو البلوغ. فلا يصح عندهم عقد الصبي ولو كان مميزا. شروط صحة الإجارة : ويشترط لصحة الاجارة الشروط الاتية: 1 - رضا العاقدين. فلو أكره أحدهما على الاجارة، فإنها لا تصح لقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالبا؟ ل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم. ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " (1) . 2 - معرفة المنفعة المعقود عليها معرفة تامة تمنع من المنازعة. والمعرفة التي تمنع المنازعة تم بمشاهدة العين التي يراد استئجارها أو بوصفها إن انضبطت بالوصف، وبيان مدة الاجارة كشهر أو سنة أو أكثر أو أقل، وبيان العمل المطلوب. 3 - أن يكون المعقود عليه المقدور الاستيفاء حقيقة وشرعا، فمن العلماء من اشترط هذا الشرط فرأى أنه لا يجوز إجارة المشاع من غير الشريك، وذلك لان منفعة   (1) سورة النساء الاية رقم 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 المشاع غير مقدورة الاستيفاء. وهذا مذهب أبي حنيفة وزفر. وقال جمهور الفقهاء: يجوز إجارة المشاع مطلقا من الشريك وغيره. لان للمشاع منفعة والتسليم ممكن بالتخلية أو المهايأة بالتهيؤ (1) . كما يجوز ذلك في البيع. والاجارة أحد نوعي البيع. فإن لم تكن المنفعة معلومة كانت الاجارة فاسدة. 4 - القدرة على تسليم العين المستأجرة مع اشتمالها على المنفعة، فلا يصح تأجير دابة شاردة، ولا مغصوب لا يقدر على انتزاعه لعدم القدرة على التسليم. ولا أرض للزرع لا تنبت، أو دابة للحمل وهي زمنة: لعدم المنفعة التي هي موضوع العقد. 5 - أن تكون المنفعة مباحة لا محرمة ولا واجبة. فلا تصح الاجارة على المعاصي، لان المعصية يجب اجتنابها. فمن استأجر رجلا ليقتل رجلا ظلما أو رجلا ليحمل له الخمر أو أجر داره لمن يبيع بها الخمر أو ليلعب فيها القمار أو ليجعلها كنيسة فإنها تكون إجارة فاسدة.   (1) أي تقسيم المنافع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وكذلك لا يحل حلوان الكاهن (1) والعراف (2) وهو ما يعطاه على كهانته وعرافته، إذ أنه عوض عن محرم وأكل لاموال الناس بالباطل. ولا تصح الاجارة على الصلاة والصوم، لان هذه فرائض عينية يجب أداؤها على من فرضت عليه. الأجرة على الطاعات : أما الاجرة على الطاعات فقد اختلف العلماء في حكمها، ونذكر بيان مذاهبهم فيما يلي: قالت الاحناف: الاجارة على الطاعات كاستئجار شخص آخر ليصلي أو يصوم أو يحج عنه أو يقرأ القرآن ويهدي ثوابه إليه أو يؤذن أو يؤم بالناس أو ما أشبه ذلك لا يجوز، ويحرم أخذ الاجرة عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: " اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ". وقوله، صلى الله عليه وسلم، لعمرو بن العاص: وان اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الاذان أجرا " ولان القربة متى حصلت وقعت عن العامل فلا يجوز أخذ الاجرة   (1) الكاهن: هو الذي يتعاطى الاخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الاسرار. (2) العراف: هو الذي يدعي معرفة الاشياء المسروقة ومكان الضالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 عليها من غيره، ومما هو شائع من ذلك في بلادنا المصرية الوصايا بالختمات والتسابيح بأجر معلوم ليهدي ثوابها إلى روح الموصي، وكل ذلك غير جائز شرعا، لان القارئ إذا قرأ لاجل المال فلا ثواب له، فأي شئ يهديه إلى الميت؟ ... وقد نص الفقهاء على أن الاجرة المأخوذة في نظير عمل الطاعات حرام على الآخذ، ولكن المتأخرين منهم استثنوا من هذا الاصل تعليم القرآن والعلوم الشرعية، فأفتوا بجواز أخذ الاجرة عليه استحسانا، بعد أن انقطعت الصلات والعطايا التي كانت تجرى على هؤلاء المعلمين، في الصدر الاول، من الموسرين وبيت المال، دفعا للحرج والمشقة، لانهم يحتاجون إلى ما به قوام حياتهم هم ومن يعولونهم ... وفي اشتغالهم بالحصول عليه من زراعة أو تجارة أو صناعة إضاعة للقرآن الكريم والشرع الشريف بانقراض حملته، فجاز إعطاؤهم أجرا على هذا التعليم ... وقالت الحنابلة: لا تصح الاجارة لاذان وإقامة وتعليم قرآن وفقه وحديث ونيابة في حج وقضاء، ولا يقع إلا قربة لفاعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ويحرم أخذ الاجرة عليه، وقالوا: ويجوز أخذ رزق من بيت المال أو من وقف على عمل يتعدى نفعه، كقضاء وتعليم قرآن وحديث وفقه ونيابة في حج وتحمل شهادة وأدائها وأذان ونحوها، لانها من المصالح، وليس بعوض بل رزق للاعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة ولا يقدح في الاخلاص، وإلا ما استحقت الغنائم وسلب القاتل ... وذهبت المالكية والشافعية وابن حزم: إلى جواز أخذ الاجرة على تعليم القرآن والعلم لانه استئجار لعمل معلوم ببذل معلوم. قال ابن حزم: " والاجارة جائزة على تعليم القرآن وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة، كل ذلك جائز وعلى الرقى وعلى نسخ المصاحف ونسخ كتب العلم لانه لم يأت في النهي عن ذلك نص، بل قد جاءت الاباحة ". ويقوي هذا المذهب ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن نفرا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، مروا بماء فيه لديغ أو سليم. فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق، فإن في الماء رجلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 لديغا أو سليما ... فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء (1) ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا. حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ". وكما اختلف الفقهاء في أخذ الاجرة على تلاوة القرآن وتعليمه، فقد اختلفوا أيضا في أخذ الاجرة على الحج والاذان والامامة. فقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز ذلك جريا على أصله في عدم أخذ الاجرة على الطاعات. وقال مالك: كما يجوز أخذ الاجرة على تعليم القرآن يجوز أخذها على الحج والاذان. فأما الامامة فإنه لا يجوز أخذ الاجرة عليها إن أفردها وحدها. فإن جمعها مع الاذان جازت الاجرة، وكانت على الاذان والقيام بالمسجد لا على الصلاة. وقال الشافعي: تجوز الاجرة على الحج ولا تجوز على الامامة في صلاة الفرائض، ويجوز بالاتفاق الاستئجار   (1) شياه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 على تعليم الحساب والخط واللغة والادب والحديث وبناء المساجد والمدارس. وعند الشافعية: تجوز الاجارة على غسل الميت وتلقينه ودفنه. وأبو حنيفة قال: لا يجوز الاستئجار على غسل الميت، ويجوز على حفر القبور وحمل الجنائز. كسب الحجام : كسب الحجام غير حرام، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، احتجم وأعطى الحجام أجره، كما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس. ولو كان حراما لم يعطه. قال النووي: " وحملوا الاحاديث التي وردت في النهي عنه على التنزيه والارتفاع عن دنئ الكسب والحث على مكارم الاخلاق ومعالي الامور ". 5 - أن تكون الاجرة مالا متقوما معلوما (1) بالمشاهدة أو الوصف، لانها ثمن المنفعة، وشرط الثمن أن يكون معلوما، لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " من استأجر أجيرا فليعلمه أجره " (2) .   (1) وخالف في ذلك الظاهرية. (2) رواه عبد الرازق عن أبي سعيد - قال أبو زرعة - الصحيح وقفه على أبي سعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 ويصح تقدير الاجرة بالعرف ... أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي أن سويد بن قيس قال: " جلبت أنا ومخرمة العبدي برا من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه. وثم رجل يزن بالاجر فقال له: " زن وأرجح " ... فهنا لم يسم له الاجرة بل أعطاه ما اعتاده الناس. قال ابن تيمية: " إذا ركب دابة المكاري أو دخل حمام الحمامي أو دفع ثيابه أو طعامه إلى من يغسل ويطبخ فإن له الاجر المعروف ". وقد دل على ثبوت عوض الاجارة بالمعروف قوله تعالى: " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " (1) . فأمر بإيفائهن أجورهن بمجرد الارضاع. والمرجع في الاجور إلى العرف ... اشتراط تعجيل الاجرة وتأجيلها: الاجرة لا تملك بالعقد عند الاحناف، ويصح اشتراط   (1) سورة الطلاق الاية رقم 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 تعجيل الأجرة وتأجيلها : كما يصح تعجيل البعض وتأجيل البعض الاخر، حسب ما يتفق عليه المتعاقدان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم،: " المسلمون عند شروطهم ". فإذا لم يكن هناك اتفاق على التعجيل أو التأجيل فإن كانت الاجرة مؤقتة بوقت معين فإنه يلزم إيفاؤها بعد انقضاء ذلك الوقت. فمن أجر دارا شهرا مثلا ثم مضى الشهر فإنه تجب الاجرة بانقضائه ... وإن كان عقد الاجارة على عمل فإنه يلزم إيفاؤها عند الانهاء من العمل. وإذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الاجرة ولم ينص على تأجيلها: قال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: إنها تجب جزءا جزءا بحسب ما يقبض من المنافع. وقال الشافعي وأحمد: إنها تستحق بنفس العقد، فإذا سلم المؤجر العين المستأجرة إلى المستأجر استحق جميع الاجرة، لانه قد ملك المنفعة بعقد الاجارة ووجب تسليم الاجرة ليلزم تسليم العين إليه. استحقاق الأجرة : وتستحق الاجرة بما يأتي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 1 - الفراغ من العمل، لما رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه ". 2 - استيفاء المنفعة إذا كانت الاجارة على عين مستأجرة، فإذا تلفت العين قبل الانتفاع ولم يمض شئ من المدة بطلت الاجارة. 3 - التمكن من استيفاء المنفعة، إذا مضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها ولو لم تستوف بالفعل. 4 - تعجيلها بالفعل أو اتفاق المتعاقدين على اشتراط التعجيل. هل تسقط الاجرة بهلاك العين في عقد إجارة الاعمال؟ إذا عمل الاجير في ملك المستأجر أو بحضرته استحق الاجرة لانه تحت يده، فكلما عمل شيئا صار مسلما له. وإن كان العمل في يد الاجير لم يستحق الاجرة بهلاك الشئ في يده لانه لم يسلم العمل. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. استئجار الظئر (1) : استئجار الرجل زوجته على رضاع ولده منها لا يجوز،   (1) الظئر: المرضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 لان ذلك أمر واجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى (1) . أما استئجار المرضع غير الام فإنه يجوز بأجر معلوم، ويجوز أيضا بطعامها وكسوتها، وجهالة الاجرة في هذه الحال لا يفضي إلى المنازعة. والعادة جرت بالمسامحة مع المراضع والتوسعة عليهن رفقا بالاولاد. ويشترط العلم بمدة الرضاع ومعرفة الطفل بالمشاهدة وموضع الرضاع. يقول الله سبحانه: " وإن أردتم أن تسترضعوا أولاكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف. واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير " (2) . وهي بمنزلة الاجير الخاص، فلا يجوز لها أن ترضع صبيا آخر ... وعلى الظئر القيام بالارضاع وبما يحتاج إليه الصبي من غسله وغسل ثيابه وطبخ طعامه، وعلى الاب نفقات الطعام وما يحتاج إليه الصبي من الريحان والدهن، وإذا   (1) هذا مذهب الائمة الثلاثة. وزاد مالك: تجبر على ذلك إلا أن تكون شريفة ولا يرضع مثلها، وقال أحمد: يصح. (2) سورة البقرة الاية رقم 233. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 مات الصبي أو المرضع انفسخت الاجارة. لان المنفعة في حالة موت المرضع تكون قد فاتت بهلاك محلها ... وفي حالة موت الطفل يتعذر استيفاء المعقود عليه. الاستئجار بالطعام والكسوة : اختلف العلماء في حكم الاستئجار بالطعام والكسوة فأجازه قوم ومنعه آخرون، وحجة المجيزين ما رواه أحمد وابن ماجه عن عتبة بن الندر قال: " كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقرأ " طسم " حتى بلغ قصة موسى عليه السلام فقال: " إن موسى أجر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه " وهو مروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى. وإلى هذا ذهب مالك والحنابلة، وجوزه أبو حنيفة في الظئر دون الخادم ... وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد والهادوية والمنصور بالله لا يصح للجهالة ... ويرى المالكية الذين أجازوا استئجار الاجير بطعامه وكسوته: أن ذلك يكون على حسب المتعارف. قالوا: ولو قال: احصد زرعي ولك نصفه، أو اطحنه أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 اعصر الزيت، فإن ملكه نصفه الان جاز، وإن أراد نصف ما يخرج منه لم يجز، للجهالة. إجارة الارض (1) : ويصح استئجار الارض، ويشترط فيه بيان ما تستأجر له من زرع أو غرس أو بناء. وإذا كانت للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، إلا أن يأذن له المؤجر بأن يزرع فيها ما يشاء. فإذا لم تتحقق هذه الشروط فإن الاجارة تقع فاسدة، لان منافع الارض تختلف باختلاف البناء والزرع كما يختلف تأخير المزروعات في الارض، وله أن يزرعها زرعا آخر غير الزرع المتفق عليه بشرط أن يكون ضرره مثل ضرر الزرع المتفق عليه أو أقل منه. وقال داود: ليس له ذلك. استئجار الدواب : ويصح استئجار الدواب. ويشترط فيه بيان المدة أو المكان، كما يشترط بيان ما تستأجر له الدابة من الحمل أو الركوب، وبيان ما يحمل عليها ومن يركبها.   (1) يرجع إلى الجزء السابق (12) في باب المزارعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وإذا هلكت الدواب المؤجرة للحمل والركوب فإن كانت مؤجرة معيبة فهلكت انقضت الاجارة، وإن كانت غير معيبة فهلكت لا تبطل الاجارة. وعلى المؤجر أن يأتي بغيرها وليس له أن يفسخ العقد لان الاجارة وقعت على منافع في الذمة ولم يعجز المؤجر عن وفاء ما التزمه بالعقد. وهذا متفق عليه بين فقهاء المذاهب الاربعة. استئجار الدور للسكنى : واستئجار الدور للسكن يبيح الانتفاع بسكناها سواء سكن فيها المستأجر أو أسكنها غيره بالاعارة أو الاجارة على أن لا يمكن من سكناها من يضر بالبناء أو يوهنه مثل الحداد وأمثاله. وعلى المؤجر إتمام ما يتمكن به المستأجر من الانتفاع حسب ما جرت به العادة. تأجير العين المستأجرة : ويجوز للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة. فإذا كانت دابة وجب عليه أن يكون العمل مساويا أو قريبا للعمل الذي استؤجرت من أجله أولا، حتى لا تضار الدابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 ويجوز له أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها بمثل ما أجرها به أو أزيد أو أقل، وله أن يأخذ ما يسمى بالخلو. هلاك العين المستأجرة : العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر لانه قبضها ليستوفي منها منفعة يستحقها، فإذا هلكت لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ. ومن استأجر دابة ليركبها فكبحها بلجامها كما جرت به العادة فلا ضمان عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 الأجير : الأجير خاص وعام ... فالاجير الخاص: هو الشخص الذي يستأجر مدة معلومة ليعمل فيها، فإن لم تكن المدة معلومة كانت الاجارة فاسدة. ولكل واحد من الاجير والمستأجر فسخها متى أراد ... وفي الاجارة: إذا كان الاجير سلم نفسه للمستأجر زمنا ما فليس له في هذه الحال إلا أجر المثل (1) عن المدة التي عمل فيها ... والاجير الخاص لا يجوز له أثناء المدة المتعاقد عليها أن يعمل لغير مستأجره. فإن عمل لغيره في المدة نقص من أجره بقدر عمله ...   (1) الاجر الذي يتساوى فيه مع أمثاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وهو يستحق الاجرة متى سلم نفسه ولم يمتنع عن العمل الذي استؤجر من أجله. وكذلك يستحق الاجرة كاملة لو فسخ المستأجر الاجارة قبل المدة المتفق عليها في العقد ما لم يكن هناك عذر يقتضي الفسخ. كأن يعجز الاجير عن العمل أو يمرض مرضا لا يمكنه من القيام به. فإن وجد عذر من عيب أو عجز ففسخ المستأجر الاجارة لم يكن للاجير إلا أجرة المدة التي عمل فيها - ولا تجب على المستأجر الاجرة الكاملة. والاجير الخاص مثل الوكيل في أنه أمين على ما بيده من عمل، فلا يضمن منه ما تلف إلا بالتعدي أو التفريط. فإن فرط أو تعدي ضمن كغيره من الامناء. الأجير المشترك: والاجير المشترك هو الذي يعمل لاكثر من واحد فيشتركون جميعا في نفعه كالصباغ، والخياط، والحداد، والنجار، والكواء. وليس لمن استأجره أن يمنعه من العمل لغيره، ولا يستحق الاجرة إلا بالعمل. وهل يده يد ضمان أو يد أمانة؟؟. ذهب الامام علي وعمر، رضي الله عنهما، وشريح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 القاضي وأبو يوسف ومحمد والمالكية إلى أن يد الاجير المشترك يد ضمان، وأنه يضمن الشئ التالف ولو بغير تعذ أو تقصير منه صيانة لاموال الناس وحفاظا على مصالحهم. روي البيهقي عن علي - كرم الله وجهه - أنه كان يضمن الصباغ والصانع وقال: " لا يصلح الناس إلا ذاك ". وروى أيضا: أن الشافعي، رضي الله عنه، ذكر أن شريحا ذهب إلى تضمين القصار (1) ، فضمن قصارا احترق بيته فقال: تضمنني وقد احترق بيتي؟ فقال شريح: أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك؟ وذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أن يده يد أمانة فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة والصحيح من أقوال الشافعي رضي الله عنه. وقال ابن حزم: لا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك ولاعلى صانع أصلا، إلا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه.   (1) القصار: الصباغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فسخ الإجارة وانتهاؤها : الاجارة عقد لازم لا يملك أحد المتعاقدين فسخه لانه عقد معاوضة، إلا إذا وجد ما يوجب الفسخ كوجود عيب، كما سيأتي ... فلا تفسخ الاجارة بموت أحد المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه ويقوم الوارث مقام مورثه سواء أكان مؤجرا أو مستأجرا ... خلافا للحنفية والظاهرية والشعبي والثوري والليث بن سعد. ولا تفسخ ببيع العين المستأجرة للمستأجر أو لغيره، ويتسلمها المشتري إذا كان غير المستأجر بعد انقضاء مدة الاجارة (1) . وتفسخ بما يأتي: 1 - طروء العيب الحادث على المأجور وهو في يد المستأجر أو ظهور العيب القديم فيه. 2 - هلاك العين المؤجرة المعينة كالدار المعينة والدابة المعينة ...   (1) هذا مذهب مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لاتباع إلا برضا المستأجر أو يكون عليه دين يحبسه الحاكم بسببه فيبيعها في دينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 3 - هلاك المؤجر عليه كالثوب المؤجر للخياطة، لانه لا يمكن استيفاء المعقود عليه بعد هلاكه ... 4 - استيفاء المنفعة المعقود عليها أو إتمام العمل أو انتهاء المدة إلا إذا كان هناك عذر يمنع الفسخ، كما لو انتهت مدة إجارة الارض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع فتبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد، ولو جبرا على المؤجر منعا لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أو انه. 5 - وقال الاحناف: يجوز فسخ الاجارة لعذر يحصل ولو من جهته، مثل أن يكتري حانوتا ليتجر فيه فيحترق ماله أو يسرق أو يغصب أو يفلس فيكون له فسخ الاجارة ... رد العين المستأجرة: ومتى انتهت الاجارة وجب على المستأجر رد العين المستأجرة. فإن كانت من المنقولات سلمها لصاحبها ... وإن كانت من العقارات المبينة سلمها لصاحبها خالية من متاعه. وإن كانت من الاراضي الزراعية سلمها خالية من الزرع، إلا إذا كان هناك عذر كما سبق، فإنها تبقى بيد المستأجر حتى يحصد الزرع بأجر المثل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وقالت الحنابلة: متى انقضت الاجارة رفع المستأجر يده ولم يلزمه الرد ولا مؤونته مثل المودع، لانه عقد لا يقتضي الضمان، فلا يقتضي رده ومؤونته. قالوا: وتكون بعد انقضاء المدة بيد المستأجر أمانة إن تلفت بغير تفريط فلاضمان عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 المضاربة : تعريفها: المضاربة مأخوذة من الضرب في الارض وهو السفر للتجارة، يقول الله سبحانه: " وآخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله " (1) . وتسمى قراضا، وهو مشتق من القرض، وهو القطع، لان المالك قطع قطعة من ماله ليتجر فيها وقطعة من ربحه. وتسمى أيضا: معاملة. والمقصود بها هنا: عقد بين طرفين على أن يدفع أحدهما نقدا إلى الآخر ليتجر فيه، على أن يكون الربح بينهما حسب ما يتفقان عليه. حكمها: وهي جائزة بالاجماع.   (1) سورة المزمل الآية رقم 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وقد ضارب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لخديجة - رضي الله عنها - بمالها، وسافر به إلى الشام قبل أن يبعث، وقد كان معمولا بها في الجاهلية، ولما جاء الاسلام أقرها. قال الحافظ بن حجر: " والذي نقطع به أنها كانت ثابتة في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، يعلم بها وأقرها، ولولا ذلك لما جازت ألبتة ... وروى أن عبد الله وعبيد الله ابي عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش العراق فلما قفلا (1) مرا على عامل لعمر: وهو أبو موسى الاشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى، ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه، فقالا: وددنا، ففعل. فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا وربحا قال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال عمر:   (1) أي رجعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه، فقال: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا (1) ، فرضي عمر وأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال. حكمتها: وقد شرعها الاسلام وأباحها تيسيرا على الناس. فقد يكون بعض منهم مالكا للمال، ولكنه غير قادر على استثماره. وقد يكون هناك من لا يملك المال، لكنه يملك القدرة على استثماره. فأجاز الشارع هذه المعاملة لينتفع كل واحد منهما، فرب المال ينتفع بخبرة المضارب، والمضارب ينتفع بالمال. ويتحقق بهذا تعاول المال والعمل. والله ما شرع العقود إلا لتحقيق المصالح ودفع الجوائح. ركنها : وركنها الايجاب والقبول الصادران ممن لهما أهلية التعاقد.   (1) أي لو عملت بحكم المضاربة، وهو أن يجعل لهما النصف ولبيت المال النصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 ولا يشترط لفظ معين، بل يتم العقد بكل ما يؤدي إلى معنى المضاربة، لان العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للالفاظ والمباني. شروطها : ويشترط في المضاربة الشروط الآتية: 1 - أن يكون رأس المال نقدا. فإن كان تبرا أو حليا أو عروضا فإنها لا تصح. قال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه أنه لا يجوز أن يجعل الرجل دينا له على رجل مضاربة " انتهى. 2 - أن يكون معلوما، كي يتميز رأس المال الذي يتجر فيه من الربح الذي يوزع بينهما حسب الاتفاق. 3 - أن يكون الربح بين العامل وصاحب رأس المال معلوما بالنسبة، كالنصف والثلث والربع، لان النبي، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها. وقال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه على إبطال القراض إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة " انتهى. وعلة ذلك أنه لو اشترط قدر معين لاحدهما فقد لا يكون الربح إلا هذا القدر، فيأخذه من اشترط له ولا يأخذ الآخر شيئا. وهذا مخالف المقصود من عقد المضاربة الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 راد به نفع كل من المتعاقدين. 4 - أن تكون المضاربة مطلقة، فلا يقيد رب المال العامل بالاتجار في بلد معين أوفي سلعة معينة، أو يتجر في وقت دون وقت، أو لا يتعامل إلا مع شخص بعينه، ونحو ذلك من الشروط، لان اشتراط التقييد كثيرا ما يفوت المقصود من العقد، وهو الربح. فلابد من عدم اشتراطه، وإلا فسدت المضاربة. وهذا مذهب مالك والشافعي. وأما أبو حنيفة وأحمد فلم يشترطا هذا الشرط وقالا: " إن المضاربة كما تصح مطلقة فإنها تجوز كذلك مقيدة ". (1) وفي حالة التقييد لا يجوز للعامل أن يتجاوز الشروط التي شرطها، فإن تعداها ضمن. روي عن حكيم بن حزام: أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة يضرب له به: " أن لا يجعل مالي في كبد رطبة، ولا يحمله في بحر، ولا ينزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي ". وليس من شروط المضاربة بيان مدتها، فإنها عقد جائز يمكن فسخه في أي وقت.   (1) الافصاح ص 258. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وليس من شروطها أن تكون بين مسلم ومسلم، بل يصح أن تكون بين مسلم وذمي. العامل أمين : ومتى تم عقد المضاربة وقبض العامل المال كانت يد العامل في المال يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي. فإذا تلف المال بدون تعد منه فلاشئ عليه، والقول قوله مع يمينه إذا ادعى ضياع المال أو هلاكه، لان الاصل عدم الخيانة. العامل يضارب بمال المضاربة : وليس للعامل أن يضارب بمال المضاربة ويعتبر ذلك تعديا منه. قال في بداية المجتهد: " ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الامصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر فإنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمر شرطه على الذي دفع إليه فيوفيه حظه مما بقي من المال " (1) . نفقة العامل : نفقة العامل في مال المضاربة من ماله مادام مقيما، وكذلك إذا سافر للمضاربة. لان النفقة   (1) يرى أبو قلابة ونافع وأحمد وإسحاق: أن المضارب إذا خالف فهو ضامن والربح لرب المال. وقال أصحاب الرأي: الربح للمضارب ويتصدق به، والوضيعة عليه وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 قد تكون قدر الربح فيأخذه كله دون رب المال ولان له نصيبا من الربح مشروطا له فلا يستحق معه شيئا آخر. لكن إذا أذن رب المال للعامل بأن ينفق على نفسه من مال المضاربة أثناء سفره أو كان ذلك مما جرى به العرف فإنه يجوز له حينئذ أن ينفق من مال المضاربة. ويرى الامام مالك أن للعامل أن ينفق من مال المضاربة متى كان المال كثيرا يتسع للانفاق منه. فسخ المضاربة : وتنفسخ المضاربة بما يأتي: 1 - أن تفقد شرطا من شروط الصحة. فإذا فقدت شرطا من شروط الصحة وكان العامل قد قبض المال واتجر فيه فإنه يكون له في هذه الحال أجرة مثله، لان تصرفه كان بإذن من رب المال وقام بعمل يستحق عليه الاجرة. وما كان من ربح فهو للمالك وما كان من خسارة فهي عليه، لان العامل لا يكون إلا أجيرا، والاجير لا يضمن إلا بالتعدي. 2 - أن يتعدى العامل أو يقصر في حفظ المال، أو يفعل شيئا يتنافى مع مقصود العقد، فإن المضاربة في هذه الحال تبطل، ويضمن المال إذا تلف، لانه هو المتسبب في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 التلف. 3 - أن يموت العامل أو رب المال. فإذا مات أحدهما انفسخت المضاربة. تصرف العامل بعد موت رب المال : إذا مات رب المال انفسخت المضاربة بموته، ومتى انفسخت المضاربة فإن العامل لا حق له في التصرف في المال، فإذا تصرف بعد علمه بالموت وبغير إذن الورثة فهو غاصب، وعليه ضمان. ثم إذا ربح المال فالربح بينهما، قال ابن تيمية: " وبه حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما أخذ ابناه من بيت المال، فاتجرا فيه بغير استحقاق فجعله مضاربة " انتهى. وإذا انفسخت المضاربة ورأس المال عروض، فلرب المال وللعامل أن يبيعاه أو يقتسماه لان ذلك حق لهما. وإن رضي العامل بالبيع وأبى رب المال أجبر رب المال على البيع لان للعامل حقا في الربح ولا يحصل عليه إلا بالبيع. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. اشتراط حضور رب المال عند القسمة : قال ابن رشد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 " أجمع علماء الامصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بخضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه في حضور بينة أو غيرها ". انتهى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 الحوالة : تعريفها: الحوالة (1) مأخوذة من التحويل بمعنى الانتقال، والمقصود بها هنا نقل الدين من ذمة المحيل الى ذمة المحال عليه. وهي تقتضي وجود محيل، ومحال، ومحال عليه. فالمحيل هو المدين، والمحال هو الدائن، والمحال عليه هو الذي يقوم بقضاء الدين. والحوالة تصرف من التصرفات التي لا تحتاج الى ايجاب وقبول، وتصح بكل ما يدل عليها: كأحلتك وأتبعتك بدينك على فلان ... ونحو ذلك. مشروعيتها: وقد شرعها الاسلام وأجازها للحاجة إليها. روى الامام البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم   (1) الحوالة بفتح الحاء وقد تكسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 على ملئ فليتبع " (1) . ففي هذا الحديث أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، الدائن إذا أحاله المدين على غني ملئ قادر أن يقبل الاحالة، وأن يتبع الذي أحيل عليه بالمطالبة حتى يستوفي حقه. هل الأمر للوجوب أو الندب؟ ذهب الكثير من الحنابلة وابن جرير وأبو ثور والظاهرية: إلى أنه يجب على الدائن قبول الاحالة على الملئ عملا بهذا الامر. وقال الجمهور: إن الامر للاستحباب. شروط صحتها : ويشترط لصحة الحوالة الشروط الآتية: 1 - رضا المحيل والمحال دون المحال عليه استدلالا بالحديث المتقدم، فقد ذكرهما الرسول، صلى الله عليه وسلم. ولان المحيل له أن يقضي الدين الذي عليه من أي جهة أراد. ولان المحال حقه في ذمة المحيل فلا ينتقل إلا برضاه. وقيل: لا يشترط رضاه لان المحال يجب عليه قبولها   (1) المطل في الاصل المد. والمراد به هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر والغني هنا: القادر على الاداء ولو كان فقيرا. والملئ: الغني المقتدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع. ولان له أن يستوفي حقه سواء أكان من المحيل نفسه أو ممن قام مقامه. وأما عدم اشتراط رضا المحال عليه فلان الرسول لم يذكره في الحديث، ولان الدائن أقام المحال مقام نفسه في استيفاء حقه فلا يحتاج إلى رضا من عليه الحق. وعند الحنفية والاصطخري من الشافعية اشتراط رضاه أيضا. 2 - تماثل الحقين في الجنس والقدر والحلول والتأجيل والجودة والرداءة، فلا تصح الحوالة إذا كان الدين ذهبا وأحاله ليأخذ بدله فضة. وكذلك إذا كان الدين حالا وأحاله ليقبضه مؤجلا أو العكس. وكذلك لا تصح الحوالة إذا اختلف الحقان من حيث الجودة والرداءة أو كان أحدهما أكثر من الآخر. 3 - استقرار الدين، فلو أحاله على موظف لم يستوف أجره بعد فإن الحوالة لا تصح. 4 - أن يكون كل من الحقين معلوما. هل تبرأ ذمة المحيل بالحوالة؟ إذا صحت الحوالة برئت ذمة المحيل، فإذا أفلس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 الحال عليه أو جحد الحوالة أو مات لم يرجع المحال على المحيل بشئ. وهذا هو ما ذهب إليه جماهير العلماء. إلا أن المالكية قالوا: إلا أن يكون المحيل غر المحال فأحاله على عديم، قال مالك في الموطأ: " الامر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه، إن أفلس الذي أحيل عليه أو مات ولم يدع وفاء فليس للمحال على الذي أحاله شئ، وأنه لا يرجع على صاحبه الاول. قال: " وهذا الامر الذي لااختلاف فيه عندنا ". وقال أبو حنيفة وشريح وعثمان البتي وغيرهم: يرجع صاحب الدين إذا مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحوالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 الشفعة : تعريفها: الشفعة مأخوذة من الشفع وهو الضم، وقد كانت معروفة عند العرب. فان الرجل في الجاهلية إذا أراد بيع منزل أو حائط أتاه الجار والشريك والصاحب يشفع إليه فيما باع فيشفعه ويجعله أولى به ممن بعد منه، فسميت شفعة، وسمي طالبها شفيعا. والمقصود بها في الشرع: تملك المشفوع فيه جبرا عن المشتري بما قام عليه من الثمن والنفقات. مشروعيتها: والشفعة ثابتة بالسنة، واتفق المسلمون على أنها مشروعة. " روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن الرسول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 صلى الله عليه وسلم، قضى في الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة ". حكمتها: وقد شرع الاسلام الشفعة ليمنع الضرر ويدفع الخصومة، لان حق تملك الشفيع للمبيع الذي اشتراه أجنبي يدفع عنه ما قد يحدث له من ضرر ينزل به من هذا الاجنبي الطارئ. واختار الشافعي أن الضرر هو ضرر مؤونة القسمة واستحداث المرافق وغيرها. وقيل: ضرر سوء المشاركة. الشفعة للذمي : وكما تثبت الشفعة للمسلم فإنها للذمي عند جمهور الفقهاء. وقال أحمد والحسن والشعبي: لا تثبت للذمي، لما رواه الدارقطني عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لاشفعة لنصراني ". استئذان الشريك في البيع: ويجب على الشريك أن يستأذن شريكه قبل البيع فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لاغرض لي فيه، لم يكن له الطلب بعد البيع. هذا مقتضى حكم رسول الله، ولا معارض له بوجه. 1 - وروى مسلم عن جابر قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 " قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة (1) أو حائط (2) . لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ". 2 - وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له شرك في نخل أو ربعة فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ وإن كره ترك ". رواه يحيى بن آدم عن زهير عن أبي الزبير وإسناده على شرط مسلم. قال ابن حزم: " لا يحل لمن له ذلك أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه، فإن أراد من يشركه فيه الاخذ له بما أعطى فيه غيره فالشريك أحق به، وإن لم يرد فقد سقط حقه، ولاقيام له بعد ذلك إذا باعه ممن باعه. فإن لم يعرض عليه، كما ذكرنا، حتى باعه من غير من يشركه فيه فمن يشركه مخير بين أن يمضي ذلك البيع وبين أن يبطله ويأخذ ذلك الجزء لنفسه بما بيع به ".   (1) الربعة: المنزل. (2) الحائط: البستان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وقال ابن القيم: " وهذا مقتضى حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به. وذهب بعض العلماء ومنهم الشافعية إلى أن الامر محمول على الاستحباب. قال النووي: هو محمول عند أصحابنا على الندب إلى إعلامه وكراهة بيعه قبل إعلامه وليس بحرام. الاحتيال لإسقاط الشفعة : ولا يجوز الاحتيال لاسقاط الشفعة، لان في ذلك إبطال حق المسلم، لما روي عن أبي هريرة مرفوعا: " لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ". وهذا مذهب مالك وأحمد، ويرى أبو حنيفة والشافعي أنه يجوز الاحتيال. والاحتيال لاسقاط الشفعة مثل أن يقر له ببعض المالك فيصبح بهذا الاقرار شريكا له، ثم يبيعه الباقي أو يهبه له ". شروط الشفعة : يشترط للاخذ بالشفعة الشروط الآتية: أولا: أن يكون المشفوع فيه عقارا كالارض والدور وما يتصل بها اتصال قرار، كالغراس والبناء والابواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 والرفوف، وكل ما يدخل في البيع عند الاطلاق، لما تقدم عن جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شركة لم تقسم: ربعة أو حائط. وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء، وخالف في ذلك أهل مكة والظاهرية، ورواية عن أحمد، وقالوا: إن الشفعة في كل شئ، لان الضرر الذي قد يحدث للشريك في العقار قد يحدث أيضا للشريك في المنقول، ولما قاله جابر قال: " قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل شئ ". قال ابن القيم: ورواة هذا الحديث ثقات، ولحديث ابن عباس، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " الشفعة في كل شئ " ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالارسال، وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس به، وقد انتصر لهذا ابن حزم فقال: " الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم، بى اثنين فصاعدا، من أي شئ كان مما ينقسم أولا: من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو عبد أو أمة، أم من سيف أو من طعام أو من حيوان أو من أي شئ بيع ". ثانيا: أن يكون الشفيع شريكا في المشفوع فيه، وأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 تكون الشركة متقدمة على البيع، وأن لا يتميز نصيب كل واحد من الشريكين، بل تكون الشركة على الشيوع. فعن جابر رضي الله عنه قال: " قضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ". رواه الخمسة. أي أن الشفعة ثابتة في كل مشترك مشاع قابل للقسمة، فإذا قسم وظهرت الحدود ورسمت الطرق بينهما فلاشفعة. وإذا كانت الشفعة تثبت للشريك فإنها تثبت فيما يقبل القسمة، ويجبر الشريك فيها على القسمة بشرط أن ينتفع بالمقسوم على الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة، ولهذا لا تثبت الشفعة في الشئ الذي لو قسم لبطلت منفعته، قال في المنهاج: " وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لاشفعة فيه على الاصح ". وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب " أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود بينهم فلاشفعة ". وهذا مذهب علي وعثمان وعمر وسعيد بن المسيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك والشافعي والاوزاعي وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن والامامية. قال في شرح السنة: " اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة، فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع. وإن باع بثئ متقوم من ثوب فيأخذ بقيمته " انتهى. وأما الجار فإنه لاحق له في الشفعة عندهم. وخالف في ذلك الاحناف فقالوا: إن الشفعة مرتبة: فهي تثبت للشريك الذي لم يقاسم أولا، ثم يليه الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة، ثم الجار الملاصق. ومن العلماء من توسط فأثبتها عند الاشتراك في حق من حقوق الملك، كالطريق والماء ونحوه، ونفاها عند تميز كل ملك بطريق حيث لا يكون بين الملاك اشتراك، واستدل لهذا بما رواه أصحاب السنن بإسناده صحيح عن جابر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 قال ابن القيم: " وعلى هذا القول تدل أحاديث جابر منطوقها ومفهومها ويزول عنها القضاء والاختلاف ". قال: " والاقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وأعدلها واحسنها هذا القول الثالث " انتهى. ثالثا: أن يخرج المشفوع فيه من ملك صاحبه بعوض مالي، بأن يكون مبيعا (1) أو يكون في معنى المبيع، كصلح عن إقرار بمال، أو عن جناية توجبه أو هبة ببيع بعوض معلوم لانه بيع في الحقيقة. فلاشفعة فيما انتقل عنه ملكه بغير بيع كمر هوب بغير عوض وموصى به وموروث. وفي بداية المجتهد: " واختلف في الشفعة في المساقاة، وهي تبديل أرض بأرض، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: الجواز والمنع والثالث أن تكون المناقلة بين الاشراك أو الاجانب، فلم يرها في الاشراك ورآها في الاجانب. رابعا: أن يطلب الشفيع على الفور، أي أن الشفيع إذا علم بالبيع فإنه يجب عليه أن يطلب الشفعة حين يعلم متى كان ذلك ممكنا، فإن علم ثم أخر الطلب من غير عذر سقط حقه فيها.   (1) الاحناف يرون أن الشفعة لا تكون إلا في المبيع فقط، أخذا بظاهر الاحاديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 والسبب في ذلك أنه لو لم يطلبها الشفيع على الفور وبقي حقه في الطلب متراخيا لكان في ذلك ضرر بالمشتري، لان ملكه لا يستقر في المبيع ولا يتمكن من التصرف فيه بالعمارة خوفا من ضياع جهده وأخذه بالشفعة. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وهو الراجح من مذهب الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد (1) ، وهذا ما لم يكن الشفيع غائبا، أو لم يعلم بالمبيع، أو كان يجهل الحكم. فإن كان غائبا أو لم يعلم بالبيع أو كان يجهل أن تأخير الطلب يسقط الشفعة فإنها لا تسقط. ويرى ابن حزم وغيره أن الشفعة تثبت حقا له بإيجاب الله فلا تسقط بترك الطلب ولو ثمانين سنة أو أكثر، إلا إذا أسقطه بنفسه. ويرى أن القول بأن الشفعة لمن واثبها لفظ فاسد، لا يحل أن يضاف مثله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال مالك: لا تجب على الفور بل وقت وجوبها متسع.   (1) أصح الروايتين عن أبي حنيفة: أن الطلب لا يجب أن يكون فور العلم بالبيع، لان الشفيع قد يحتاج إلى التروي في الامر، فيجب أن يمكن من ذلك. وهذا يكون بجعل الخيار له طول مجلس علمه بالبيع. فلا تبطل شفعته إلا إذا قام عن المجلس أو تشاغل عن الطلب بأمر آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 قال ابن رشد: واختلف قوله في هذا الوقت، هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود، وإنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغيرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت. ومرة حدد هذا الوقت، فروي عنه السنة، وهو الاشهر، وقيل أكثر من سنة. وقد قيل عنه: إن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة. خامسا: أن يدفع الشفيع للمشتري قدر الثمن الذي وقع عليه العقد فيأخذ الشفيع الشفعة بمثل الثمن إن كان مثليا أو بقيمته إن كان متقوما. ففي حديث جابر مرفوعا " هو أحق به بالثمن " رواه الجوزجاني. فإن عجز عن دفع الثمن كله سقطت الشفعة. ويرى مالك والحنابلة أن الثمن إذا كان مؤجلا كله أو بعضه فإن للشفيع تأجيله أو دفعه منجما " مقسطا " حسب المنصوص عليه في العقد، بشرط أن يكون موسرا أو يجئ بضامن له موسر، وإلا وجب أن يدفع الثمن حالا رعاية للمشتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 والشافعي والاحناف يرون أن الشفيع مخير، فإن عجل تعجلت الشفعة، وإلا تتاخر إلى وقت الاجل. سادسا: أن يأخذ الشفيع جميع الصفقة، فإن طلب الشفيع أخذ البعض سقط حقه في الكل. وإذا كانت الشفعة بين أكثر من شفيع فتركها بعضهم فليس للباقي إلا أخذ الجميع حتى لا تتفرق الصفقة على المشتري. الشفعة بين الشفعاء : إذا كانت الشفعة بين أكثر من شفيع وهم أصحاب سهام متفاوتة فإن كل واحد منهم يأخذ من المبيع بقدر سهمه عند مالك، والاصح من قولي الشافعي وأحمد، لانها حق يستفاد بسبب الملك فكانت على قدر الاملاك. وقال الاحناف وابن حزم: إنها على عدد الرؤوس لاستوائهم جميعا في سبب استحقاقها. وراثة الشفعة : يرى مالك والشافعي (1) أي الشفعة تورث ولا تبطل بالموت، فإذا أوجبت له الشفعة فمات ولم يعلم بها، أو علم بها ومات قبل التمكن من الاخذ انتقل الحق إلى الوارث قياسا على الاموال.   (1) وأهل الحجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وقال أحمد: لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها. وقالت الاحناف: إن هذا الحق لا يورث كما أنه لا يباع وإن كان الميت طالب بالشفعة إلا أن يكون الحاكم حكم له بها ثم مات. تصرف المشتري: تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع بالشفعة صحيح لانه تصرف في ملكه، فإن باعه فللشفيع أخذه بأحذ البيعين. وإن وهبه أو وقفه أو تصدق به أو جعله صداقا ونحوه فلاشفعة، لان فيه إضرارا بالمأخوذ منه لان ملكه يزول عنه بغير عوض والضرر لا يزال بالضرر، أما تصرف المشتري بعد أخذ الشفيع بالشفعة فهو باطل، لانتقال الملك للشفيع بالطلب. المشتري يبني قبل الاستحقاق بالشفعة: إذا بنى المشتري أو غرس في الجزء المشفوع فيه قبل قيام الشفعة ثم استحق عليه بالشفعة. فقال الشافعي وأبو حنيفة: للشفيع أن يعطيه قيمة البناء منقوضا، وكذلك قيمة العرش مقلوعا أو يكلفه بنقضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وقال مالك: لاشفعة إلا أن يعطى المشتري قيمة ما بنى وما غرس. المصالحة عن إسقاط الشفعة: إذا صالح عن حقه في الشفعة أو باعه من المشتري كان عمله باطلا ومسقطا لحقه في الشفعة، وعليه رد ما أخذه عوضا عنه من المشتري. وهذا عند الشافعي. وعند الائمة الثلاثة يجوز له ذلك، وله أن يتملك ما بذله له المشتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 الوكالة : تعريفها: الوكالة (1) : معناها التفويض، تقول: وكلت أمري إلى الله، أي فوضته إليه - وتطلق على الحفظ، ومنه قول الله سبحانه: " حسبنا الله ونعم الوكيل (2) ". والمراد بها هنا استنابة الانسان غيره فيما يقبل النيابة. مشروعيتها: وقد شرعها الاسلام للحاجة إليها، فليس كل إنسان قادرا على مباشرة أموره بنفسه فيحتاج إلى توكيل غيره ليقوم بها بالنيابة عنه، جاء في القرآن الكريم قول الله سبحانه في قصة أهل الكهف: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم. قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما   (1) بفتح الواو وكسرها. (2) أي الحافظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه، وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " (1) . وذكر الله عن يوسف أنه قال للملك: " اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم ". وجاءت الاحاديث الكثيرة تفيد جواز الوكالة، منها أنه، صلى الله عليه وسلم، وكل أبا رافع ورجلا من الانصار فزوجاه ميمونة رضي الله عنها - وثبت عنه، صلى الله عليه وسلم، التوكيل في قضاء الدين، والتوكيل في إثبات الحدود واستيفائها، والتوكيل في القيام على بدنه وتقسيم جلالها (2) وجلودها، وغير ذلك. وأجمع المسلمون على جوازها بل على استحبابها، لانها نوع من التعاون على البر والتقوى الذي دعا إليه القرآن الكريم وحببت فيه السنة، يقول الله سبحانه: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه ".   (1) سورة الكهف الآية (19) . (2) البدن، الحيوان البدين من ناقة أو بقر. والجلة، البعرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وقد حكى صاحب البحر الاجماع على كونها مشروعة. وفي كونها نيابة أو ولاية وجهان: فقيل: نيابة، لتحريم المخالفة، وقيل: ولاية لجواز المخالفة إلى الاصلح، كالبيع بمعجل وقد أمر بمؤجل. أركانها: الوكالة عقد من العقود، فلا تصح إلا باستيفاء أركانها من الايجاب والقبول، ولا يشترط فيهما لفظ معين بل تصح بكل ما يدل عليهما من القول أو الفعل. ولكل واحد من المتعاقدين أن يرجع في الوكالة ويفسخ العقد في أي حال. لانها من العقود الجائزة أي غير اللازمة. التنجيز والتعليق : وعقد الوكالة يصح منجزا ومعلقا ومضافا إلى المستقبل كما يصح مؤقتا بوقت، أو بعمل معين، فالمنجز مثل: وكلتك في شراء كذا. والتعليق مثل: إن تم كذا فأنت وكيلي، والاضافة إلى المستقبل مثل: إن جاء شهر رمضان فقد وكلتك عني، والتوقيت مثل: وكلتك مدة سنة أو لتعمل كذا. وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ورأى الشافعية أنه لا يجوز تعليقها بالشرط. والوكالة قد تكون تبرعا من الوكيل وقد تكون بأجر لانه تصرف لغيره لا يلزمه فجاز أخذ العوض عليه، وحينئذ للموكل أن يشترط عليه أن لا يخرج نفسه منها إلا بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 أجل محدود وإلا كان عليه التعويض (1) . وإن نص في العقد على أجرة للوكيل اعتبر أجيرا وسرت عليه أحكام الاجير. شروطها : والوكالة لا تصح إلا إذا استكملت شروطها، وهذه الشروط منها شروط خاصة بالموكل ومنها شروط خاصة بالوكيل، ومنها شروط خاصة بالموكل فيه، أي محل الوكالة. شروط الموكل : ويشترط في الموكل أن يكون مالكا للتصرف فيما يوكل فيه، فإن لم يكن مالكا للتصرف فلا يصح توكيله: كالمجنون والصبي غير المميز، فإنه لا يصح أن يوكل واحد منهما غيره، لان كلا منهما فاقد الاهلية، فلا يملك التصرف ابتداء. أما الصبي المميز فإنه يصح توكيله في التصرفات النافعة له نفعا محضا، مثل التوكيل بقبول الهبة والصدقة والوصية. فإن كانت التصرفات ضارة به ضررا محضا مثل الطلاق والهبة والصدقة فإن توكيله لا يصح. شروط الوكيل : ويشترط في الوكيل أن يكون عاقلا،   (1) قالت الحنابلة: إن قال بع هذا بعشرة فما زاد فهو لك صح البيع وله الزيادة، وهو قول إسحاق وغيزه، وكان ابن عباس لا يرى بذلك بأسا لانه مثل المضاربة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 فلو كان مجنونا أو معتوها أو صبيا غير مميز فإنه لا يصح توكيله. أما الصبي المميز فإنه يجوز توكيله عند الاحناف لانه مثل البالغ في الاحاطة بأمور الدنيا، ولان عمرو ابن السيدة أم سلمة زوج أمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صبيا لم يبلغ الحلم بعد. شروط الموكل فيه : ويشترط في الموكل فيه أن يكون معلوما للوكيل أو مجهولا جهالة غير فاحشة، إلا إذا أطلق الموكل كأن يقول له: اشتر لي ما شئت، كما يشترط فيه أن يكون قابلا للنيابة. ويجري ذلك في كل العقود التي يجوز للانسان أن يعقدها لنفسه: كالبيع والشراء والاجارة وإثبات الدين والعين والخصومة والتقاضي والصلح وطلب الشفعة والهبة والصدقة والرهن والارتهان والاعارة والاستعارة والزواج والطلاق وإدارة الاموال، سواء أكان الموكل حاضرا أم غائبا وسواء أكان رجلا أم امرأة. روي البخاري عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الابل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه، فطلبواله سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها. فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 عليه وسلم: " إن خيركم أحسنكم قضاء ". قال القرطبي: فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه. وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي، صلى الله عليه وسلم، مريضا ولا مسافرا، وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما ": إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضاء الخصم "، وهذا الحديث خلاف قولهما. ضابط ما تجوز فيه الوكالة : وقد وضع الفقهاء ضابطا لما تجوز فيه الوكالة فقالوا: كل عقد جاز أن يعقده الانسان لنفسه جاز أن يوكل به غيره، أما ما لا تجوز فيه الوكالة، فكل عمل لا تدخله النيابة، مثل الصلاة والحلف والطهارة، فإنه لا يجوز في هذه الحالات أن يوكل الانسان غيره فيها لان الغرض منها الابتلاء والاختبار وهو لا يحصل بفعل الغير. الوكيل أمين : ومتى تمت الوكالة كان الوكيل أمينا فيما وكل فيه فلا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، ويقبل قوله في التلف كغيره من الامناء (1) .   (1) ومن صور التفريط أن يبيع السلعة ويسلمها قبل قبض الثمن أو أن يستعمل العين استعمالا خاصا أو أن يضعها في غير حرز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 التوكيل بالخصومة : ويصح التوكيل بالخصومة في إثبات الديون والاعيان وسائر حقوق العباد، سواء أكان الموكل مدعيا أم مدعى عليه، وسواء أكان رجلا أم امرأة، وسواء رضي الخصم أم لم يرض، لان المخاصمة حق خالص للموكل، فلهأن يتولاه بنفسه وله أن يوكل عنه غيره فيه، وهل يملك الوكيل بالخصومة الاقرار على موكله؟ وهل له الحق في قبض المال الذي يحكم به له؟ والجواب عن ذلك نذكره فيما يلي: إقرار الوكيل على موكله: إقرار الوكيل على موكله في الحدود والقصاص لا يقبل مطلقا، سواء أكان بمجلس القضاء أم بغيره. وأما إقراره في غير الحدود والقصاص، فإن الائمة اتفقوا على أنه لا يقبل في غير مجلس القضاء، واختلفوا فيما إذا أقر عليه بمجلس القضاء فقال الائمة الثلاثة: لا يصح، لانه إقرار فيما لا يملكه، وقال أبو حنيفة: " يصح إلا إن شرط عليه ألا يقر عليه ". الوكيل بالخصومة ليس وكيلا بالقبض: والوكيل بالخصومة ليس وكيلا بالقبض، لانه قد يكون كفئا للتقاضي والمخاصمة ولايكون أمينا في قبض الحقوق، وهذا ما ذهب إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الائمة الثلاثة، خلافا للاحناف الذين يرون أن له قبض المال الذي يحكم به لموكله، لان هذا من تمام الخصومة ولا تنتهي إلا به، فيعتبر موكلا فيه. التوكيل باستيفاء القصاص : ومما اختلف العلماء فيه التوكيل باستيفاء القصاص، فقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا إذا كان الموكل حاضرا، فإذا كان غائبا فإنه لا يجوز لانه صاحب الحق، وقد يعفو لو كان حاضرا فلا يجوز استيفاء القصاص مع وجود هذه الشبهة، وقال مالك: يجوز ولو لم يكن الموكل حاضرا. وهذا أصح قولي الشافعي، وأظهر الروايتين عن أحمد. الوكيل بالبيع : ومن وكل غيره ليبيع له شيئا وأطلق الوكالة فلم يقيده بثمن معين ولا أن يبيعه معجلا أن مؤجلا فليس له أن يبيعه إلا بثمن المثل ولا أن يبيعه مؤجلا، فلو باعه بما لا يتغابن الناس بمثله أو باعه مؤجلا لم يجز هذا البيع إلا برضا الموكل، لان هذا يتنافي مع مصلحته فيرجع فيه إليه، وليس معنى الاطلاق أن يفعل الوكيل ما يشاء، بل معناه الانصراف إلى البيع المتعارف لدى التجار وبما هو أنفع للموكل، قال أبو حنيفة: يجوز أن يبيع كيف شاء نقداأو نسيئة، وبدون ثمن المثل وبما لا يتغابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الناس بمثله وبنقد البلد وبغير نقده، لان هذا هو معنى الاطلاق. وقد يرغب الانسان في التخلص من بعض ما يملك ببيعه ولو بغبن فاحش. هذا إذا كانت الوكالة مطلقة، فإذا كانت مقيدة فإنه يجب على الوكيل أن يتقيد بما قيده به الموكل، ولايجوز مخالفته إلا إذا خالفه إلى ما هو خير للموكل، فإذا قيده بثمن معين فباعه بأزيد، أو قال بعه مؤجلا فباعه حالا صح هذا البيع. فإذا لم تكن المخالفة إلى ما هو خير للموكل كان تصرفه باطلا عند الشافعي، ويرى الاحناف أن هذا التصرف يتوقف على رضا الموكل فإن أجازه صح وإلا فلا (1) . شراء الوكيل من نفسه لنفسه : وإذا وكل في بيع شئ هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟. قال مالك: للوكيل أن يشتري من نفسه لنفسه بزيادة في الثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: لا يصح شراء   (1) وعند الحنابلة، أن الوكيل إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل أو الثمن الذي قدره له الموكل بما لا يتغابن الناس فيه عادة صح الشراء للموكل وضمن الوكيل الزيادة. والبيع كالشراء في صحته، وضمان الوكيل النقص في الثمن أماما يتغابن فيه الناس عادة فعفو لا يضمنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الوكيل من نفسه لنفسه، لان الانسان حريص بطبعه على أن يشتري لنفسه رخيصا، وغرض الموكل الاجتهاد في الزيادة، وبين الغرضين مضادة. التوكيل بالشراء : الوكيل بالشراء إن كان مقيدا بشروط اشترطها الموكل وجب مراعاة تلك الشروط، سواء أكانت راجعة إلى ما يشترى أو إلى الثمن، فإن خالف فاشترى غير ما طلب منه شراؤه، أو اشترى بثمن أزيد مما عينه الموكل كان الشراء له دون الموكل، فإن خالف إلى ما هو أفضل جاز، فعن عروة البارقي، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أعطاه دينارا يشتري به ضحية أو شاة، فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. رواه البخاري وأبو داود والترمذي. وفي هذا دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك: اشتر بهذا الدينار شاة ووصفها أن يشتري به شاتين بالصفة المذكورة، لان مقصود الموكل قد حصل، وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها. بدرهمين أو أن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم. وهو الصحيح عند الشافعية كما نقله النووي في زيادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الروضة ... وإن كانت الوكالة مطلقة فليس للوكيل أن يشتري بأكثر من ثمن المثل أو بغبن فاحش، وإذا خالف كان تصرفه غير نافذ على الموكل ووقع الشراء للوكيل نفسه. انتهاء عقد الوكالة : ينتهي عقد الوكالة بما يأتي: 1 - موت أحد المتعاقدين أو جنونه، لان من شروط الوكالة الحياة والعقل، فإذا حدث الموت أو الجنون فقد فقدت ما يتوقف عليه صحتها. 2 - إنهاء العمل المقصود من الوكالة، لان العمل المقصود إذا كان قد انتهى فإن الوكالة في هذه الحال تصبح لا معنى لها ... 3 - عزل الموكل للوكيل ولو لم يعلم (1) . ويرى الاحناف: أنه يجب أن يعلم الوكيل بالعزل، وقبل العلم تكون تصرفاته كتصرفاته قبل العزل في جميع الاحكام. 4 - عزل الوكيل نفسه. ولا يشترط علم الموكل بعزل نفسه أو حضوره، والاحناف يشترطون ذلك حتى لا يضار. 5 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل.   (1) وهذا عند الشافعي والحنابلة، ويكون ما بيده بعد العزل أمانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 العارية : تعريفها: العارية (1) عمل من أعمال البر التي ندب إليها الاسلام ورغب فيها. يقول الله سبحانه: " وتعاونوا على البر والتقوي ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " (2) . وقال أنس، رضي الله عنه: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي، صلى الله عليه وسلم، فرسا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه فلما رجع قال: " ما رأينا من شئ وإن وجدناه لبحرا ". وقد عرفها الفقهاء بأنها إباحة المالك منافع ملكه لغيره بلا عوض.   (1) عارية أو عارية بالتخفيف والتشديد. (2) سورة المائدة الآية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 بم تنعقد : وتنعقد بكل ما يدل عليها من الاقوال والافعال. شروطها : ويشترط لها الشروط الآتية: 1 - أن يكون المعير أهلا للتبرع. 2 - أن تكون العين منتفعا بها مع بقائها. 3 - أن يكون النفع مباحا. إعارة الاعارة وإجارتها : ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن المستعير له إعارة العارية وإن لم يأذن المالك إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل. وعند الحنابلة أنه متى تمت العارية جاز للمستعير أن ينتفع بها بنفسه أو بمن يقوم مقامه، إلا أنه لا يؤجرها ولا يعيرها إلا بإذن المالك. فإن أعارها بدون إذنه فتلفت عند الثاني فللمالك أن يضمن أيهما شاء، ويستقر الضمان على الثاني لانه قبضها على أنه ضامن لها وتلفت في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب من الخاصب. متى يرجع المعير : وللمعير أن يسترد العارية متى شاء، ما لم يسبب ضررا للسمتعير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 فإن كان في استردادها ضرر بالمستعير أجل حتى يتقي ما يتعرض له من ضرر. وجوب ردها : ويجب على المستعير أن يرد العارية التي استعارها بعد استيفاء نفعها لقول الله سبحانه: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها " (1) . وعن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " أد الامانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك ". أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، والحاكم وحسنه. وروى أبو داود والترمذي وصححه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العارية مؤداة " (2) . إعارة ما لا يضر المعير وينفع المستعير: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يمنع الانسان جاره من غرز خشبة في جداره ما لم يكن في ذلك ضرر   (1) سورة النساء الآية رقم 58. (2) أي تعاد لصاحبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 يصيب الجدار. فعن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " لايمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره ". قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لارمين بها بين أكتافكم. رواه مالك. واختلف العلماء في معنى الحديث، هل هو على المندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره أم على الايجاب. وفيه قولان للشافعي وأصحاب مالك، أصحهما في المذهبين الندب، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، والثاني الايجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو ظاهر الحديث، ومن قال بالندب قال: ظاهر الحديث أنهما توقفوا عن العمل، فلهذا قال: مالي أراكم عنها معرضين. وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الايجاب، ولو كان واجبا لما أطبقوا على الأعراض عنه. والله أعلم. ويدخل في هذا كل ما ينتفع به المستعير ولاضرر فيه على المعير، فإنه لا يحل منعه وإذا منعه صاحبه قضى الحاكم به. لما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك ابن قيس ساق خليجا له من العريض فأراد أن يمر في أرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 محمد بن مسلمة، فأبى محمد - فقال له الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة - تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد. فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا - فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به - ففعل الضحاك. ولحديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط فمنعه صاحب الحائط. فكلم عمر بن الخطاب - فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله. وهذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي ثور وداود وجماعة أهل الحديث. ويرى أبو حنيفة ومالك: أنه لا يقضي بمثل هذا، لان العارية لا يقضى بها. والاحاديث المتقدمة ترجح الرأي الاول. ضمان المستعير : ومتى قبض المستعير العارية فتلفت ضمنها، سواء فرط أم لم يفرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 وإلى هذا ذهب ابن عباس وعائشة وأبو هريرة والشافعي وإسحاق. ففي حديث سمرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " على اليد ما أخذت حتى تودي " (1) . وذهب الاحناف والمالكية إلى أن المستعير لا يضمن إلا بتفريط منه، لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " ليس على المستعير غير المغل (2) ضمان، ولا المستودع غير المغل ضمان ". أخرجه الدارقطني.   (1) أي اليد ضمان ما أخذت حتى ترده إلى مالكه. (2) المغل: الخائن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 الوديعة : تعريفها: الوديعة مأخوذة من ودع الشئ بمعنى تركه. وسمي الشئ الذي يدعه الانسان عند غيره ليحفظه له بالوديعة، لانه يتركه عند المودع. حكمها: والايداع والاستيداع جائزان، ويستحب قبولها لمن يعلم عن نفسه القدرة على حفظها، ويجب على المودع أن يحفظها في حرز مثلها. والوديعة أمانة عند المودع يجب ردها عندما يطلبها صاحبها، يقول الله سبحانه: " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اوتمن أمانته وليتق الله ربه " (1) .   (1) سورة البقرة الآية رقم 283. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 وقد تقدم حديث " أد الامانة إلى من ائتمنك ... الخ " ضمانها: ولا يضمن المودع إلا بالتقصير أو الجناية منه على الوديعة، للحديث المتقدم الذي رواه الدارقطني في الباب المتقدم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من أودع وديعة فلاضمان عليه ". رواه ابن ماجه. وفي حديث رواه البيهقي: " لا ضمان على مؤتمن ". وقضى أبو بكر رضي الله عنه في وديعة كانت في جراب فضاعت من خرق الجراب أن لا ضمان فيها. وقد استودع عروة بن الزبير أبا بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام ما لا من مال بني مصعب، قال: فأصيب المال عند أبي بكر، أو بعضه، فأرسل إليه عروة: أن لا ضمان عليك، إنما أنت مؤتمن. فقال أبو بكر: قد علمت أن لا ضمان علي. ولكن لم تكن لتحدث قريشا أن أمانتي قد خربت. ثم إنه باع مالا له فقضاه. قبول قول المودع مع يمينه: وإذا ادعى المودع تلف الوديعة دون تعد منه فإنه يقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 قوله مع يمينه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن المودع إذا أحرزها ثم ذكر أنها ضاعت أن القول قوله. إدعاء سرقة الوديعة : وفي مختصر الفتاوى لابن تيمية: " من ادعى أنه حفظ الوديعة مع ماله فسرقت دون ماله كان ضامنا لها ". وقد ضمن عمر، رضي الله عنه، أنس بن مالك، رضيا لله عنه، وديعة ادعى أنها ذهبت دون ماله. من مات وعنده وديعة لغيره : من مات وثبت أن عنده وديعة لغيره ولم توجد فهي دين عليه تقضى من تركته. وإذا وجدت كتابة بخطه وفيها إقرار بوديعة ما فإنه يؤخذ بها ويعتمد عليها، فإن الكتابة تعتبر كالاقرار سواء بسواء متى عرف خطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 الغصب : تعريفه: جاء في القرآن الكريم: " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " (1) . والغصب هو أخذ شخص حق غيره والاستيلاء عليه عدوانا وقهرا عنه (2) . حكمه: وهو حرام يأثم فاعله، يقول الله سبحانه:   (1) سورة الكهف آية رقم 79. (2) إن أخذ المال سرا من حرز مثله كان سرقه، وإن أخذ مكابرة كان محاربة، وإن أخذ استيلاء كان اختلاسا، وإن أخذ ممن كان له مؤتمنا عليه كان خيانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (1) . 1 - وفي خطبة الوداع التي رواها البخاري ومسلم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ". 2 - وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة (2) يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ". 3 - وعن السائب بن يزيد عن أبيه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولالاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه ". أخرجه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه. 4 - وعند الدارقطني من طريق أنس مرفوعا إلى النبي   (1) سورة البقرة آية رقم 188. (2) النهبة وزن غرفة: الشئ المنهوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه ". 5 - وفي الحديث: " من أخذ مال أخيه بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ... فقال رجل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان عودا من أراك ". 6 - وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من ظلم شبرا من الارض طوقه الله من سبع أرضين ". زرع الأرض أو غرسها أو البناء عليها غصبا : ومن زرع في أرض مغصوبة فالزرع لصاحب الارض وللغاصب النفقة، هذا إذا لم يكن الزرع قد حصد، فإذا كان قد حصد فليس لصاحب الارض بعد الحصد إلا الاجرة. أما إذا كان غرس فيها فإنه يجب قلع ما غرسه وكذلك إذا بنى عليها فإنه يجب هدم ما بناه. ففي حديث رافع بن خديج، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ، وله نفقته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وأحمد وقال: إنما أذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس. وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " من أحيا أرضا فهي له وليس لعرق ظالم حق ". قال: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر. فقضى لصاحب الارض بأرضه. وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس وإنها لنخل عم ". حرمة الإنتفاع بالمغصوب : وما دام الغصب حراما فإنه لا يحل الانتفاع بالمغصوب بأي وجه من وجوه الانتفاع، ويجب رده إن كان قائما بنمائه (1) سواء أكان متصلا أم منفصلا. ففي حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " على اليد (2) ما أخذت حتى تؤديه ".   (1) فإن كان النتاج مستولدا من الغاصب فمن العلماء من يجعل النماء مقاسمة بين المالك والغاصب كالمضاربة. (2) أي على اليد ضمان ما أخذت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 أخرجه أحمد وأبو داود، والحاكم وصححه، وابن ماجه. فإن هلك وجب على الغاصب رد مثله أو قيمته سواء أكان التلف بفعله أو بآفة سماوية. وذهبت المالكية إلى أن العروض والحيوان وغيرها، مما لا يكال ولا يوزن، يضمن بقيمته إذا غصب وتلف. وعند الاحناف والشافعية أن على من استهلكه أو أفسده ضمان المثل، ولا يعدل عنه إلا عند عدم المثل. واتفقوا على أن المكيل والموزون إذا غصبا وحدث التلف ضمن مثله إذا وجد مثله، لقوله تعالى: " فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (1) ". ومؤونة الرد وتكاليفه على الغاصب بالغة ما بلغت. وإذانقص المغصوب وجب رد قيمة النقص، سواء أكان النقص في العين أو الصفة. الدفاع عن المال : ويجب على الانسان أن يدفع عن ماله متى أراد غيره أن ينتهبه، ويكون الدفع بالاخف، فإن لم ينفع الاخف دفع   (1) سورة البقرة آية رقم 194. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 بالاشد، ولو أدى ذلك إلى المقاتلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ". رواه البخاري ومسلم والترمذي. من وجد ماله عند غيره فهو أحق به: ومتى وجد المغصوب منه ماله عند غيره كان أحق به ولو كان الغاصب باعه لهذا الغير، لان الغاصب حين باعه لم يكن مالكا له، فعقد البيع لم يقع صحيحا. وفي هذه الحال يرجع المشتري على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه. روى أبو داود والنسائي عن سمرة، رضيا لله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيع من باعه - أي يرجع المشتري على البائع. فتح باب القفص : من فتح باب قفص فيه طير ونفره ضمن. واختلفوا فيما إذا فتح القفص عن الطائر فطار، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 حل عقال البعير فشرد. فقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه على كل وجه. وقال مالك وأحمد: عليه الضمان سواء خرج عقيبه أو متراخيا. وعن الشافعي قولان: في القديم: لا ضمان عليه مطلقا. وفي الجديد: إن طار عقيب الفتح وجب الضمان، وإن وقف ثم طار لم يضمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 اللقيط : تعريفه: اللقيط هو الطفل غير البالغ الذي يوجد في الشارع أو ضال الطريق ولايعرف نسبه. حكم التقاطه : والتقاطه فرض من فروض الكفاية، كغيره من كل شئ ضائع لا كافل له، لان في تركه ضياعه. ويحكم بإسلامه متى وجد في بلاد المسلمين. من الأولى باللقيط : والذي يجده هو الاولى بحضانته إذا كان حرا عدلا أمينا رشيدا، وعليه أن يقوم بتربيته وتعليمه روى سعيد بن منصور في سننه، أن سنين بن جميلة قال: وجدت ملقوطا فأتيت به عمر بن الخطاب، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح. فقال عمر: أكذلك هو؟ قال: نعم. قال: اذهب به، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 حر ولك ولاؤه (1) ، وعلينا نفقته، وفي لفظ: وعلينا رضاعه. فإن كان في يد فاسق أو مبذر أخذ منه وتولى الحاكم أمر تربيته. النفقة عليه : وينفق عليه من ماله إن وجد معه مال، فإن لم يوجد معه مال، فنفقته من بيت المال لان بيت المال معد لحوائج المسلمين، فإن لم يتيسر فعلى من علم بحاله أن ينفق عليه، لان ذلك إنقاذ له من الهلاك، ولا يرجع على بيت المال إلا إذا كان القاضي أذن له بالنقة عليه، فإن لم يكن أذن له كانت نفقته تبرعا. ميراث اللقيط : وإذا مات اللقيط وترك ميراثا ولم يخلف وارثا كان ميراثه لبيت المال، وكذلك ديته تكون لبيت المال إذاقتل، وليس لملتقطه حق ميراثه. ادعاء نسبه : ومن ادعى نسبه من ذكر أو أنثى ألحق به متى كان وجوده منه ممكنا، لما فيه من مصلحة اللقيط دون ضرر يلحق بغيره، وحينئذ يثبت نسبه وإرثه لمدعيه. فإن ادعاه أكثر من واحد ثبت نسبه لن أقام البينة على دعواه فإن لم يكن لهم بينة أو أقامها كل واحد منهم عرض على القافة الذين يعرفون الانساب بالشبه، ومتى   (1) ولك ولاؤه: أي ولايته وحضانته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 حكم ينسبه قائف واحد أخذ بحكمه متى كان مكلفا ذكرا عدلا مجربا في الاصابة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل علي النبي، صلى الله عليه وسلم، مسرور اتبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض " رواه البخاري ومسلم. فإن لم يتيسر ذلك اقترعوا بينهم، فمن خرجت قرعته كان له. وقال الحنفية: لا يعمل بالقائف ولا بالقرعة، بل لو تساوي جماعة في ولد وكان مشتركا بينهم ورث كل منهم كابن كامل، وورثوه جميعا كأب واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 اللقطة : تعريفها: اللقطة هي كل مال معصوم معرض للضياع لايعرف مالكه. وكثيرا ما تطلق على ما ليس بحيوان، أما الحيوان فيقال له: ضالة. حكمها: أخذ اللقطة مستحب. وقيل: يجب. وقيل: إن كانت في موضع يأمن عليها الملتقط إذ تركها استحب له الاخذ. فإن كانت في موضع لا يأمن عليها فيه إذا تركها وجب عليه التقاطها، وإذا علم من نفسه الطمع فيها حرم عليه أخذها. وهذا الاختلاف بالنسبة للحر البالغ العاقل، ولو لم يكن مسلما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أما غير الحر والصبي وغير العاقل فليس مكلفا بالتقاط اللقطة. والاصل في هذا الباب ما جاء عن زيد بن خالد، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقطة فقال: " اعرف عفاصها (1) ، ووكاءها (2) ، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا شأنك بها (3) قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لاخيك (4) أو للذئب (5) . قال: فضالة الابل؟ قال: مالك ولها (6) معها سقاؤها (7) وحذاؤها (8)   (1) العفاص: الوعاء الذي يكون فيه الشئ من جلد أو نسيج أو خشب أو غيره. (2) الوكاء. الخيط الذي يشد به على رأس الكيس والصرة. والمقصود من معرفة العفاص والوكاء تمييزهما عن غيرهما حتى لا تختلط اللقطة بمال الملتقط، وحتى يستطيع إذا جاءه صاحبها أن يستوصفه العلامات التي تميزها عن غيرها ليتبين صدقه من كذبه. (3) تصرف فيها. (4) أي صاحبها أو ملتقط آخر. (5) كل حيوان مفترس. (6) دعها وشأنها. (7) السقاء، وعاء الماء، والمراد به هنا كرشها الذي تختزن فيه الماء. (8) أخفافها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ". رواه البخاري وغيره بألفاظ مختلفة. لقطة الحرم : وهذه في غير لقطة الحرم. أما لقطته فيحرم أخذها إلا لتعريفها، لقوله، صلى الله عليه وسلم: " ولا يلتقط لقطتها (1) إلا من عرفها ". وقوله: " لا يرفع لقطتها إلا منشد " أي المعرف بها (2) . التعريف بها: يجب على ملتقطها أن يتبين علاماتها التي تميزها عن غيرها من وعاء ورباط، وكذا كل ما اختصت به من نوع وجنس ومقدار (3) . ويحفظها كما يحفظ ماله ويستوي في ذلك الحقير والخطير. وتبقى وديعة عنده لا يضمنها إذا هلكت إلا بالتعدي، ثم ينشر نبأها في مجتمع الناس بكل وسيلة في الاسواق وفي غيرها من الاماكن حيث يظن أن ربها هناك.   (1) أي مكة. (2) ويصح إعطاء اللقطة للحكومة إذا كانت في الجهة التي وجدت فيها حكومة أمينة فيها محل لحفظها ومشهور بين الناس لان ذلك أحفظ لها وأيسر على الناس. (3) أي كيل أو وزن أو ذرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 فإن جاء صاحبها وعرف علاماتها والامارات التي تميزها عما عداها حل للملتقط أن يدفعها إليه وإن لم يقم البينة. وإن لم يجئ عرفها الملتقط مدة سنة. فإن لم يظهر بعد سنة حل له أن يتصدق بها أو الانتفاع بها، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ولا يضمن. لما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال: لقيت أوس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: عرفها حولا. فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها. وسئل رسول الله في اللقطة توجد في سبيل العامرة، قال: عرفها حولا، فإن وجدت باغيها فأدها إليه، وإلا فهي لك. قال: ما يوجد في الخراب؟ قال: فيه وفي الركاز الخمس ". قال ابن القيم: والافتاء بما فيه متعين، وإن خالفه من خالفه فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه. استثناء المأكول والحقير من الأشياء : وهذا بالنسبة لغير المأكول وغير الحقير من الاشياء. فأن المأكول لا يجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 التعريف به ويجوز أكله، فعن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر بثمرة في الطريق فقال: " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لاكلتها " رواه البخاري ومسلم. وكذلك الشئ الحقير لايعرف سنة بل يعرف زمنا يظن أن صاحبه لا يطلبه بعده، وللملتقط أن ينتفع به إذا لم يعرف صاحبه. فعن جابر، رضي الله عنه، قال: " رخص لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به " أخرجه أحمد وأبو داود. وعن علي، كرم الله وجهه، أنه جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بدينار وجده في السوق، فقال النبي صلى عليه وسلم: عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعرفه، فقال: كله ". أخرجه عبد الرزاق عن أبي سعيد. ضالة الغنم : ضالة الغنم ونحوها يجوز أخذها لانها ضعيفة ومعرضة للهلاك وافتراس الوحوش. ويجب تعريفها، فإن لم يطلبها صاحبها كان للملتقط أن يأخذها وغرم لصاحبها. وقالت المالكية: إنه يملكها بمجرد الاخذ ولاضمان عليه، ولو جاء صاحبها، لان الحديث سوى بين الذئب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 والملتقط، والذئب لاغرامة عليه فكذلك الملتقط. وهذا الخلاف في حالة ما إذا جاء صاحبها بعد أكلها. أما إذا جاء قبل أن يأكلها الملتقط ردت إليه بإجماع العلماء. ضالة الأبل والبقر والخيل والبغال والحمير : اتفق العلماء على أن ضالة الابل لا تلتقط، ففي البخاري ومسلم عن زيد بن خالد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سئل عن ضالة الابل، فقال: " مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها ". أي أن ضالة الابل مستغنية عن الملتقط وحفظه، ففي طبيعتها الصبر على العطش والقدرة على تناول المأكول من الشجر بغير مشقة لطول عنقها فلاتحتاج إلى ملتقط، ثم إن بقاءها حيث ضلت يسهل على صاحبها العثور عليه بدل أن يتفقدها في إبل الناس. وقد كان الامر على هذا حتى عهد عثمان، رضي الله عنه، فلما كان عثمان رأى التقاطها وبيعها، فإن جاء صاحبها أخذ ثمنها. قال ابن شهاب الزهري: " كانت ضوال الابل في زمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 عمر بن الخطاب إبل مؤيلة (1) حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ". رواه مالك في الموطأ. على أن الامام عليا كرم الله وجهه أمر بعد عثمان أن يبني لها بيت يحفظها فيه ويعلفها علفا لا يسمنها ولا يهزلها، ثم من يقيم البينة على أنه صاحب شئ منها تعطى له، وإلا بقيت على حالها لا يبيعها. واستحسن ذلك ابن المسيب. وأما البقر والخيل والبغال والحمير فهي مثل الابل عند الشافعي (2) وأحمد. وروى البيهقي أن المنذر بن جرير قال: كنت مع أبي بالبوازيج (3) بالسواد، فراحت البقر فرأى بقرة أنكرها فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر فأمر بها فطردت حتى توارت، ثم قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " لا يأوي الضالة إلا ضال " (4) .   (1) كثيرة متخذ للقنية. (2) واستثنى الشافعي الصغار منها وقال: يجوز التقاطها. (3) بلد قديم على دجلة فوق بغداد. (4) أي لا يأوي الضالة من الابل والبقر التي تستطيع حماية نفسها وتقدر على التنقل في طلب الكلا والماء إلا ضال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وقال أبو حنيفة: يجوز التقاطها. وقال مالك: " يلتقطها إن خاف عليها من السباع وإلا فلا ". النفقة على اللقطة : وما أنفقه الملتقط على اللقطة فإنه يسترده من صاحبها، اللهم إلا إذا كانت النفقة نظير الانتفاع بالركوب أو الدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الأطعمة : تعريفها: الأطعمة جمع طعام، وهي ما يأكله الانسان ويتغذى به من الاقوات وغيرها. وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " (1) أي على آكل يأكله. ولا يحل منها إلا ما كان طيبا تتوقه النفس. يقول الله تعالى: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " (2) . والمقصود بالطيب هنا ما تستطيبه النفس وتشتهيه وهذا مثل قول الله تعالى:   (1) سورة الانعام آية رقم 145. (2) سورة المائدة آية رقم 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (1) . والطعام، منه ما هو جماد، ومنه ما هو حيوان. فالجماد حلال كله ما عدا النجس والمتنجس والضار والمسكر وما تعلق به حق الغير. فالنجس مثل الدم والمتنجس (2) كالسمن الذي ماتت فيه فأرة، لحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري عن ميمونة أنه سئل عن سمن وقعت فيه فأرة فقال: " القوها، وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم ". وقد أخذ من هذا الحديث أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه. وأما المائع فإنه ينجس بملاقاة النجاسة (3) . والضار من السموم وغيرها. فالسموم مثل السموم المستخرجة من العقارب والنحل والحيات السامة وما يستخرج   (1) سورة الاعراف آية رقم 157. (2) المختلط بالنجاسة. (3) روى الزهري والاوزاعي وابن عباس وابن مسعود والبخاري أن المائع إذا وقعت فيه النجاسة فإنه لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة. فإن لم يتغير فهو طاهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 من النبات السام والجماد كالزرنيخ، لقول الله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " (1) . وقوله جل شأنه: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " (2) . وقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أبو هريرة: " من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. " ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " رواه البخاري. وإنما يحرم من السموم القدر الذي يضر. وأما ما يحرم للضرر من غير السموم مثل الطين والتراب والحجر والفحم بالنسبة لمن يضره تناولها فلقول الرسول، صلى الله عليه وسلم،: " لا ضر ولا ضرار " رواه أحمد وابن ماجه. ويدخل في هذا الباب " الدخان " فإنه ضار بالصحة وفيه   (1) سورة النساء آية رقم 29. (2) سورة البقرة آية رقم 195. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 تبذير وضياع للمال، والمسكر مثل الخمر وغيرها من المخدرات. وما تعلق به حق الغير مثل المسروق والمغصوب فإنه لا يحل شئ من ذلك كله. والحيوان منه ما هو بحري (1) ومنه ما هو بري (2) . فأما البحري فهو حلال كله. والحيوان البري: منه ما هو حلال أكله ومنه ما هو حرام. وقد فصل الاسلام ذلك كله وبينه بيانا وافيا، مصداقا لقول الله عزوجل: " وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " (3) . وقد جاء هذا التفصيل مشتملا على أمور ثلاثة: الامر الاول: النص على المباح. الامر الثاني: النص على الحرام. الامر الثالث: ما سكت عنه الشارع.   (1) الحيوان البحري ما كان ساكنا في البحر بالفعل. (2) الحيوان البري ما يعيش في البر من الدواب والطيور. (3) سورة الانعام آية رقم 119. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 ما نص الشارع على أنه مباح : وما نص الشارع على أنه مباح نذكره فيما يلي: الحيوان البحري: الحيوان البحري حلال كله - ولا يحرم منه إلا ما فيه سم للضرر، سواء أكان سمكا أم كان من غيره وسواء اصطيد أم وجد ميتا، وسواء أصاده مسلم أم كتابي أم وثني، وسواء أكان مما له شبه في البر أم لم يكن له شبه. والحيوان البحري لا يحتاج إلى تزكية. والاصل في ذلك قول الله عزوجل: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة " (1) قال ابن عباس: " صيد البحر وطعامه: ما لفظ البحر " رواه الدارقطني. وروى عنه في معنى طعامه " ميتته " لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته ".   (1) سورة المائدة آية رقم 96. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 رواه الخمسة. وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح. وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: حديث صحيح. السمك المملح : كثيرا ما يخلط السمك بالملح ليبقى مدة طويلة بعيدا عن الفساد ويتخذ من أصنافه المختلفة: السردين، والفسيخ، والرنجة، والملوحة. وكل هذه طاهرة ويحل أكلها ما لم يكن فيه ضرر فإنه يحرم لضرره بالصحة حينئذ. قال الدرديري - رضي الله عنه - من شيوخ المالكية: " الذي أدين الله به أن الفسيخ طاهر لانه لا يملح ولا يرضخ إلا بعد الموت، والدم المسفوح لا يحكم بنجاسته إلا بعد خروجه، وبعد موت السمك إن وجد فيه دم يكون كالباقي في العروق بعد الذكاة الشرعية، فالرطوبات الخارجة منه بعد ذلك طاهرة لا شك في ذلك ". وإلى هذا ذهب الاحناف والحنابلة وبعض علماء المالية. الحيوان يكون في البر والبحر : قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه، لانه تعارض فيه دليلان: دليل تحليل، ودليل تحريم، فنغلب دليل التحريم احتياطا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 أما غيره من العلماء فيرى أن جميع ما يكون في البحر بالفعل تحل ميتته، ولو كان يمكن أن يعيش في البر، إلا الضفدع للنهي عن قتلها. فعن عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه أن طبيبا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه عن قتلها. رواه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه الحاكم (1) . الحلال من الحيوان البري : والحلال من الحيوان البري المنصوص عليه نذكره فيما يلي: بهيمة الانعام، بقول الله تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون " (2) . ويقول جل شأنه: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم " (3) . وبهيمة الانعام هي: الابل والبقر ومنه الجاموس والغنم   (1) القول بتحريم الضفدع فيه نظر وسيأتي تحقيق ذلك في هذا الباب. (2) سورة النحل آية رقم 5. (3) سورة المائدة آية رقم 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 ويشمل الضأن والمعز ويلحق بها بقر الوحش وإبل الوحش والظباء، فهذه كلها حلال بالاجماع، وثبت في السنة الترخيص في: الدجاج (1) والخيل (2) وحمار الوحش (3) والضب والارنب (4) والضبع (5) والجراد (6) والعصافير. " عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فيما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن الضب فقال: لا تطعموه وقذره. وقال: قال عمر بن الخطاب، إن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يحرمه، إن الله ينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاة منه، ولو كان عندي طعمته ". وقال ابن عباس، رواية عن خالد بن الوليد، رضي الله عنهما، أنه دخل مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم،   (1) رواه البخاري، ومسلم الترمذي والنسائي، ومثله الاوز والبط والرومي. (2) رواه البخاري، ويرى مالك وأبو حنيفة أنها مكروهة لان الله تعالى ذكرها وبين أنها معدة للركوب والزينة ولم يذكر الاكل. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) رواه البخاري ومسلم. (5) رواه الترمذي. (6) رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 على خالته ميمونة بنت الحارث فقدمت إلى رسول الله لحم ضب جاءها مع قريبة لها من نجد، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يأكل شيئا حتى يعلم ما هو - فاتفق النسوة ألا يخبرنه حتى يرين كيف يتذوقه ويعرفه إن ذاقه، فلما أن سأل عنه وعلم به تركه وعافه، فسأله خالد: أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته إلى فأكلته ورسول الله ينظر. وروي عن عبد الرحمن بن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الترمذي بسند صحيح. وممن ذهب إلى جواز أكله الشافعي وأبو يوسف ومحمد وابن حزم. وقال الشافعي فيه: إن العرب تستطيبه وتمدحه ولا يزال يباع ويشترى بين الفا والمروة من غير نكير. ويري بعض العلماء أنه حرام لانه سبع، ولكن الحديث حجة عليهم. وذكر أبو داود وأحمد أن ابن عمر سئل عن القنفذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 فتلا: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ". فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خبيثة من الخبائث ". فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا فهو كما قال. وهذا الحديث من رواية عيسى ابن نميلة وهو ضعيف، قال الشوكاني: فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من أدلة الحل العامه، وبناء على ما قاله الشوكاني يكون أكله حلالا. وقال مالك وأبو ثور ويحكى عن الشافعي والليث أنه لا بأس بأكله، لان العرب تستطيبه ولان حديثه ضعيف. وكرهه الاحناف. وقالت عائشة في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ". وعند مالك لا بأس بأكل خشاش الارض وعقاربها ودودها، ولا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه. قال القرطبي: وحجته قول ابن عباس وأبي الدرداء: " ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 سكت عنه فهو عفو ". قال أحمد في الباقلاء المدود: تجنبه أحب إلي، وإن لم يستقذر فأرجو (أي أنه لا يكون في أكله بأس) . وقال عن تفتيش التمر المدود: لا بأس به، وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه أتي بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه. قال ابن قدامة: وهو أحسن. ويرى ابن شهاب وعروة والشافعي والاحناف وبعض علماء أهل المدينة أنه لا يجوز أكل شئ من خشاش الارض وهو امها مثل الحيات والفأرة وما أشبه ذلك وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه. وقال الشافعي: لا بأس بالوبر واليربوع. وفي أكل العصافير يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله تعالى عنها. قيل: يا: رسول الله، وما حقها؟ قال: يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمي بها " رواه النسائي. وأكل بعض الصحابة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، لحم الحباري " طائر ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 رواه أبو داود والترمذي. ما نص الشارع على حرمته : والمحرمات من الطعام في كتاب الله تعالى محصورة في عشرة أشياء منصوص عليها في قوله سبحانه: (1) " حرمت عليكم الميتة (2) والدم (3) ولحم الخنزير (4) وما أهل لغير (5) الله به والمنخنقة (6) والموقوذة (7) والمتردية (8) والنطيحة (9) وما أكل السبع (10) إلا ما ذكيتم وما ذبح على   (1) سورة المائدة آية رقم 3. (2) " الميتة " ما مات حتف أنفه. وإنما حرم الله الميتة لضررها إذ أنها لم تمت إلا بسبب الامراض التي لحقتها. (3) " والدم " أي الدم المسفوح. وحرم الدم لضرره وهو أصلح بيئة لنمو الميكروبات. (4) " ولحم الخنزير " كما قال في المنار: لانه قذر وأشهى غذاء له القاذورات والنجاسات. وهو ضار في جميع الاقاليم ولا سيما الحارة كما ثبت بالتجربة. وأكل لحمه من أسباب الدودة القتالة: ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة. (5) " وما أهل لغير الله به " أي ذكر غير اسم الله عند ذبحه. وهذا تحريم ديني من أجل المحافظة على التوحيد. (6) " والمنخنقة " أي التي تخنق فتموت. (7) " والموقوذة " أي التي ضربت بعصى فقتلت. (8) " والمتردية " هي التى تتردى من مكان عال فتموت. (9) النطيحة " هي التي تنطحها أخرى فتقتلها. (10) " وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " أي وما جرحه الحيوان المفترس إلا إذا أدركتموه وفيه حياة فذبحتموه فإنه يحل حينئذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 النصب (1) وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق ". وهذا تفصيل للاجمال المذكور في قوله سبحانه: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به " (2) . فإنه ذكر هنا أربعة أشياء مجملة، وذكر في الاية السابقة تفصيلها فلا تنافي بين الايتين. ما قطع من الحي : ويلحق بهذه المحرمات ما قطع من الحي. لحديث أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم. ويستثنى من ذلك: (أ) : ميتة السمك والجراد فإنها طاهرة لحديث ابن   (1) " وما ذبح على النصب " أي ما ذبح وقصد به تعظيم الطاغوت. والطاغوت: كل ما عبد من دون الله. (2) سورة الانعام آية رقم 145. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أحل لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالحوت (1) والجراد، واما الدمان: فالكبد والطحال ". رواه أحمد والشافعي وابن ماجه والبيهقي والدارقطني. والحديث ضعيف، لكن الامام أحمد صحح وقفه، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم، ومثل هذا له حكم الرفع، لان قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا ونهينا - وقد تقدم ما يؤكد هذا الحديث. وإذا كانت الميتة محرمة فالمقصود بالتحريم أكل اللحم، أما ما عداه فهو طاهر يحل الانتفاع به. (ب) : فعظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلده وكل ما هو من جنس ذلك طاهر. لان الاصل في هذه كلها الطهارة، ولا دليل على النجاسة. قال الزهري في عظام الموتى، نحو الفيل وغيره: " أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها، لا يرون به بأسا ". رواه البخاري.   (1) الحوت: السمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: " تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: " إنما حرم أكلها ". رواه الجماعة إلا ابن ماجه، قال فيه عن ميمونة. وليس في البخاري ولا النسائي ذكر الدباغ. وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قرأ هذه الاية: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " وقال: " إنما حرم ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والقد (1) والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال ". رواه ابن المنذر وابن حاتم. وكذلك إنفحة الميتة وليتها طاهر لان الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس وهو يعمل بالانفحة مع أن ذبائحهم تعتبر كالميتة. وقد ثبت عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه، أنه سئل عن شئ من الجبن والسمن والفراء، فقال: الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما   (1) القد: بكسر القاف الاناء من الجلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 سكت عنه فهو مما عفا عنه، ومن المعلوم أن السؤال كان عن جبن المجوس حينما كان سلمان نائب عمر بن الخطاب عن المدائن. (ج) : والدم: يعفى عن اليسير منه، فعن ابن جريج في قوله تعالى: " أو دما مسفوحا " قال: المسفوح الذي يهراق. ولا بأس بما كان في العروق منها. أخرجه ابن المنذر. وعن أبي مجلز في الدم يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون في أعلى القدر قال: لا بأس، إنما نهى عن الدم المسفوح. أخرجه ابن حميد وأبو الشيخ. وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر. حرمة الحمر والبغال : ومما يدخل في دائرة التحريم الحمر الاهلية (1) والبغال   (1) لا يقال إن آية تحريم الطعام تفيد الحصر فلا يحرم غيرها فقد أجاب القرطبي عن هذا فقال: إن هذه الاية مكية وكل محرم حرمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو جاء في الكتاب مضموم إليها فهو زيادة حكم من الله عز وجل عن لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. قال: على هذا أكثر أهل العلم من النظر وأهل الفقه والاثر، ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله: " وأحل لكم ما وراء ذلكم "، وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 بقول الله سبحانه: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة (1) ". 1 - روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن المقداد ابن معد يكرب، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الاهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه " (2) . 2 - وعن أنس، رضي الله عنه، قال: لما فتح النبي، صلى الله عليه وسلم، خيبر أصبنا من القرية حمرا، فطبخنا منها، فنادى النبي: ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها، فإنها رجس من عمل الشيطان، فأكفئت القدور وإنها لتفور بما فيها. رواه الخمسة. 3 - وعن جابر، رضي الله عنه، قال: نهانا النبي،   (1) سورة النحل آية رقم 8. (2) أي يأخذ كفايته ولو بالقوته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 صلى الله عليه وسلم، يوم خيبر عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. والمروي عن ابن عباس أنه أباح الحمر الاهلية، والصحيح أنه توقف فيها وقال: لا أدري أنهى عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أجل أنها كانت حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرم يوم خيبر لحم الحمر الاهلية - كما رواه البخاري ... تحريم سباع البهائم والطير : ومما حرمه الاسلام السباع من البهائم والطير. روى مسلم عن ابن عباس قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والسباع جمع سبع وهو المفترس من الحيوان، والمراد بذي الناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم مثل الذئب والاسد والكلب والفهد والنمر والهر، فهذه كلها محرمة عند جمهور العلماء. ويرى أبو حنيفة أن كل ما أكل اللحم فهو سبع وأن من السباع الفيل والضبع واليربوع والهر، فهي كلها محرمة عنده. ويرى الشافعي أن السباع المحرمة هي التي تعدو على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 الناس كالاسد والنمر والذئب. وروى مالك في الموطإ عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أكل كل ذي ناب من السباع حرام ". وقال مالك بعد هذا الحديث: وعلى ذلك الامر عندنا. وروى ابن القاسم عنه أنها مكروهة، وبه أخذ جمهور أصحابه. وأجاز أكل الثعلب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وأجاز ابن حزم الفيل والسمور. ويحرم أكل القرد، قال أبو عمر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن أكله. وأما ذو المخلب من الطير فالمقصود به الطيور التي تعدو بمخالبها مثل الصقر والشاهين والعقاب والنسر والباشق ونحو ذلك، فهي محرمة عند جمهور العلماء. ويرى مالك أنها مباحة، ولو كانت جلالة. تحريم الجلالة : والجلالة هي التي تأكل العذرة (1) من الابل والبقر   (1) العذرة: الغائط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 والغنم والدجاج والاوز وغيرها حتى يتغير ريحها. وقد ورد النهي عن ركوبها وأكل لحمها وشرب لبنها. 1 - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شرب لبن الجلالة ". رواه الخمسة إلا ابن ماجه. وصححه الترمذي. وفي رواية " نهى عن ركوب الجلالة " رواه أبو داود. 2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: " نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن لحوم الحمر الاهلية وعن الجلالة: عن ركوبها وأكل لحومها " رواه أحمد والنسائي وأبو داود. فإن حبست بعيدة عن العذرة زمنا وعلفت طاهر فطاب لحمها وذهب اسم الجلالة عنها حلت. لان علة النهي التغيير وقد زالت. تحريم الخبائث : وبجانب هذا التفصيل وضع القرآن الكريم قاعدة عامة لكل ما هو محرم. بقول الله تعالى: " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (1) .   (1) سورة الاعراف آية رقم 157. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 والطيبات ما تستطيبه الناس وتستلذه من غير ورود نص بتحريمه فإن استخبثته فهو حرام. ويرى الشافعي والحنابلة أن الطيبات ما تستطيبه العرب وتستلذه لا غيرهم. والمقصود بالعرب هم سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي. وفي كتاب الدراري المضية يرجح القول باستطابة الناس لا العرب وحدهم، فيقول: " ما استخبثه الناس من الحيوانات لا لعلة ولا لعدم اعتياد بل لمجرد استخباث فهو حرام، وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالاكثر كحشرات الارض وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة فتندرج تحت قوله سبحانه: " ويحرم عليهم الخبائث ". ويدخل في الخبائث كل مستقذر مثل البصاق والمخاط والعرق والمني والروث والقمل والبراغيث ونحو ذلك. تحريم ما أمر الشارع بقتله : ويرى بعض العلماء تحريم ما أمر الرسول، صلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 عليه وسلم، بقتله وتحريم ما نهى عن قتله. فما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله خمس من الدواب، وهي: الغراب (1) والحدأة والعقرب والفأر والكلب العقور. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عائشة، رضي الله عنها، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال " خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأر والكلب العقور ". وما نهى عن قتله من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد. روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد ". وقد ناقش الشوكاني هذا الرأي ونقده فقال: " وقد قيل إن من أسباب التحريم الامر بقتل الشئ كالخمس الفواسق والوزغ ونحو ذلك، والنهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك، ولم يأت الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله أو نهى عن قتله حتى يكون الامر والنهي دليلين على ذلك،   (1) يرى المالكية حل جميع الغربان من غير كراهة تبعا لرأيهم في جميع الطيور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ولا ملازمة عقلية ولا عرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم، بل إن كان المأمور بقتله أو المنهى عن قتله مما يدخل في الخبائث كان تحريمه بالاية الكريمة. وإن لم يكن من ذلك كان حلالا، عملا بما أسلفنا من أصالة الحل وقيام الادلة الكلية على ذلك ". المسكوت عنه : أما ما سكت الشارع عنه ولم يرد نص بتحريمه فهو حلال تبعا للقاعدة المتفق عليها، وهي أن الاصل في الأشياء الإباحة، وهذه القاعدة أصل من أصول الاسلام. وقد جاءت النصوص الكثيرة تقررها، فمن ذلك قول الله سبحانه: 1 - " هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا " (1) . 2 - وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". 3 - وعن سلمان الفارسي أن الرسول، صلى الله عليه   (1) سورة البقرة آية رقم 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 وسلم، سئل عن السمن والجبن والفراء فقال: " الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم ". أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه أيضا الحاكم في المستدرك شاهدا. 4 - وروى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته ". 5 - وعن أبي الدرداء أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ". وتلا: " وما كان ربك نسيا (1) ". أخرجه البزار وقال: سنده صحيح، والحاكم وصححه. اللحوم المستوردة : اللحوم المستوردة من خارج البلاد الاسلامية يحل أكلها   (1) سورة مريم آية رقم 64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 بشرطين: 1 - أن تكون من اللحوم التي أحلها الله. 2 - أن تكون قد ذكيت ذكاة شرعية. فإن لم يتوفر فيها هذا الشرطان بأن كانت من اللحوم المحرمة مثل الخنزير أو كانت ذكاتها غير شرعية فإنها في هذه الحال تكون محظورة لا يحل أكلها. وقد أصبح من الميسور معرفة هذين الشرطين بواسطة الوسائل الاعلامية التي وفرها العلم الحديث. وكثيرا ما تكون العلب التي تحتوي على هذه اللحوم مكتوبا عليها ما يعرف بها وبأنواعها، ويمكن الاكتفاء بهذه المعلومات، إذ الاصل فيها غالبا الصدق. وقد أفتى الفقهاء من قبل في مثل هذا، فجاء في الاقناع من كتب الشافعية للخطيب الشربيني: " لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذبح هذه الشاة مثلا حل أكلها، لانه من أهل الذبح، فإذا كان في البلد مجوس ومسلمون وجهل ذابح الحيوان هل هو مسلم أو مجوسي؟ لم يحل أكله للشك في الذبح المبيح والاصل عدمه. نعم إن كان المسلمون أغلب كما في بلاد الاسلام فينبغي أن يحل. وفي معنى المجوس كل من لم تحل ذبيحته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 إباحة أكل ما حرم عند الإضطرار : وللمضطر أن يأكل من الميتة ولحم الخنزير وما لا يحل من الحيوانات (1) التي لا تؤكل وغيرها مما حرمه الله، محافظة على الحياة وصيانة للنفس من الموت. والمقصود بالاباحة هنا وجوب الاكل لقوله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " (2) . حد الإضطرار : وإنما يكون الانسان مضطرا إذا وصل به الجوع إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي به إليه سواء أكان طائعا أو عاصيا. يقول الله سبحانه: " فمن اضطر غير باغ (3) ولا عاد (4) فلا إثم عليه   (1) حتى إن الشافعية والزيدية أجازوا اللحم الادمي عند عدم غيره بشروط اشترطوها. وخالف في ذلك الاحناف والظاهرية وقالوا: لا يباح لحم الادمي ولو كان ميتا. (2) سورة النساء آية رقم 29. (3) الباغي: هو الذي يبغي على غيره عند تناول الميتة فينفرد بها فيهلك غيره من الجوع. (4) العادي: الذي يتجاوز حد الشبع وقيل: الذي يتجاوز القدر الذي يسد الرمق ويدفع عن نفسه الضرر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 إن الله غفور رحيم " (1) . وروى أبو داود عن الفجيع العامري أنه أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا: نغتبق (2) ونصطبح (3) . قال: " ذاك - وأبي (4) - الجوع ". فأحل لهم الميتة على هذه الحال. وقال ابن حزم: " حد الضرورة أن يبقى يوما وليلة لا يجد فيهما ما يأكل أو يشرب، فإن خشي الضعف المؤذي الذي إن تمادى به أدى إلى الموت أو قطع به عن طريقه وشغله، جل له من الاكل والشرب ما يدفع به عن نفسه الموت بالجوع أو العطش. أما تحديدنا ذلك ببقاء يوم وليلة بلا أكل فلتحريم النبي، صلى الله عليه وسلم، الوصال يوما وليلة - أي وصل الصيام -.   (1) سورة البقرة آية رقم 173. (2) الغبوق: الشرب مساء. (3) الصبوح: الشرب صباحا. (4) قسم. أي وحق أبي إن هذا هو الجوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وأما قولنا إن خاف الموت قبل ذلك فلانه مضطر ". والمالكية يرون أنه إذا لم يأكل شيئا ثلاثة أيام فله أن يأكل ما حرم الله عليه مما يتيسر له ولو من مال غيره. القدر الذي يؤخذ : ويتناول المضطر من الميتة القدر الذي يحفظ حياته ويقيم أوده، وله أن يتزود حسب حاجته ويدفع ضرورته. وفي رواية عن مالك وأحمد: يجوز له الشبع، لما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فسأله فقال: هل عندك غناء يغنيك؟ قال: لا. قال: فكلوها ". وقال أصحاب أبي حنيفة لا يشبع منه. وعن الشافعي قولان. لا يكون مضطرا من وجد بمكان به طعام ولو كان للغير: وإنما يكون الانسان مضطرا إذا لم يجد طعاما يأكله ولو كان مملوكا للغير. فإن كان مضطرا ووجد طعاما مملوكا للغير فله أن يأكل منه ولو لم يأذن صاحبه به ولم يختلف في ذلك العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وإنما اختلفوا في الضمان. فذهب الجمهور منهم إلى أنه إن اضطر في مخمصة ومالك الطعام غير حاضر فله أن يأخذ منه ويضمن له، لان الاضطرار لا يبطل حق الغير. وقال الشافعي: لا يضمن، لان المسئولية تسقط بالاضطرار لوجود الاذن من الشارع، ولا يجتمع إذن وضمان. فإن كان الطعام موجودا ومنعه صاحبه فللمضطر أن يأخذه بالقوة متى كان قادرا على ذلك. وقالت المالكية: يجوز في هذه الحال مقاتلة صاحب الطعام بالسلاح بعد الانذار بأن يعلمه المضطر بأنه مضطر وإنه إن لم يعطه قاتله، فإن قتله بعد ذلك فدمه هدر، لوجوب بذل طعامه للمضطر. وإن قتله الآخر فعليه القصاص. وقال ابن حزم: من اضطر إلى شئ من المحرمات ولم يجد مال مسلم ولا ذمي فله أن يأكل حتى يشبع ويتزود حتى يجد حلالا، فإذا وجده عاد ذلك المحرم حراما كما كان. فإن وجد مال مسلم أو ذمي فقد وجد ما أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإطعامه منه لقوله " أطعموا الجائع " فحقه فيه، فهو غير مضطر إلى الميتة فإن منع ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 ظلما كان حينئذ مضطرا. هل يباح الخمر للعلاج؟ وقد اتفق العلماء على إباحة الحرام للمضطر ولم يختلف منهم أحد. وإنما اختلفوا في التداوي بالخمر، فمنهم من منعه ومنهم من أباحه، والظاهر أن المنع هو الراجح، فقد كان الناس في الجاهلية قبل الاسلام يتناولون الخمر للعلاج. فلما جاء الاسلام نهاهم عن التداوي به وحرمه، فقد روى الامام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الخمر فنهاه عنها فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ". وروى أبو داود عن أبي الدرداء أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام ". وكانوا يتعاطون الخمر في بعض الاحيان قبل الاسلام اتقاء لبرودة الجو، فنهاهم الاسلام عن ذلك أيضا. فقد روى أبو داود أن ديلم الحميري سأل النبي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنانتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم. قال: فاجتنبوه، قال: إن الناس غير تاركيه. قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم ". وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وأن لا يقصد المتداوي به اللذة والنشوة، ولا يتجاوز مقدار ما يحدده الطبيب. كما أجازوا تناول الخمر في حال الضطرار، ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر. أو من أشرف على الهلاك من البرد، ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من خمر، أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت. فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر. فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 الذكاة الشرعية : تعريفها: الذكاة في الاصل معناه التطيب، ومنه: رائحة ذكية، أي طيبة، وسمي بها الذبح لان الاباحة الشرعية جعلته طيبا. وقيل: الذكاة معناها: التتميم، ومنه: فلان ذكي، أي: تام الفهم. والمقصود بها هنا ذبح الحيوان أو نحره بقطع حلقومه (1) أو مريئه (2) ، فإن الحيوان الذي يحل أكله لا يجوز أكل شئ منه إلا بالتذكية ما عدا السمك والجراد.   (1) الحلقوم: مجرى النفس. (2) المرئ: مجرى الطعام والشراب من الحلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 ما يجب فيها : يجب في الذكاة الشرعية ما يأتي: 1 - أن يكون الذابح عاقلا سواء أكان ذكرا أم أنثى مسلما أو كتابيا. فإذا فقد الاهلية بأن كان سكران أو مجنونا أو صبيا غير مميز فإن ذبيحته لا تحل. وكذلك لا تحل ذبيحة المشرك من عبدة الاوثان والزنديق والمرتد عن الاسلام. ذبائح أهل الكتاب : قال القرطبي: قال ابن عباس: قال الله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ". (1) ثم استثنى فقال: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " (2) . يعني ذبيحة اليهودي والنصراني. وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح، واليهودي يقول: باسم عزيز، وذلك أنهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال: باسم   (1) الآية رقم 121 من سورة الانعام. (2) سورة المائدة الآية رقم 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 المسيح، لان الله عز وجل أباح ذبائحهم وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال: باسم سرجس (اسم كنيسة لهم) . وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عزوجل، فلا تأكل. وقال بهذا من الصحابة: علي وعائشة وابن عمر، وهو قول طاوس والحسن، متمسكين بقول الله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ". وقال مالك: أكره ذلك. ولم يحرمه. ذبائح المجوس والصابئين : اختلف الفقهاء في ذبيحة المجوس بناء على اختلافهم في أصل دينهم، فمنهم من رأى أنهم كانوا أصحاب كتاب فرفع، كما روي عن علي، كرم الله وجهه، ومنهم من يرى أنهم مشركون. والذين رأوا أنهم كانوا أصحاب كتاب قالوا بحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 ذبائحهم وأنهم داخلون في قول الله سبحانه: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ". ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " قال ابن حزم في المجوس: إنهم أهل كتاب فحكمهم كحكم أهل الكتاب في كل ذلك. وإلى هذا ذهب أبو ثور والظاهرية. أما جمهور الفقهاء فإنهم حرموها لانهم مشركون في نظرهم. والصابئون (1) : قيل لا تجوز ذبائحهم. وقيل بالجواز. 2 - أن تكون الآلة التي يذبح بها محددة يمكن أن تنهر الدم وتقطع الحلقوم، مثل السكين والحجر والخشب والسيف والزجاج والقصب الذي له حد يقطع كما تقطع السكين والعظم، إلا السن والظفر. (أ) : روى مالك أن امرأة كانت ترعى غنما فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله،   (1) ودينهم بى المجوسية والنصرانية ويعتقدون بتأثير النجوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: " لا بأس بها ". (ب) : وروي عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قيل له: أنذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال: أعجل وأرن، وما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر. رواه مسلم. (ج) : ونهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شريطة الشيطان: " وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الاوداج " (1) . أخرجه أبو داود عن ابن عباس، وفي إسناده عمرو ابن عبد الله الصنعاني وهو ضعيف. 3 - قطع الحلقوم والمرئ ولا يشترط إبانتهما ولا قطع الودجين (2) لانهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة وهو الغرض من الموت، ولو أبان الرأس لم يحرم ذلك المذبوح. وكذلك لو ذبحه من قفاه متى أتت الآلة على محل الذبح. 4 - التسمية: قال مالك: كل ما ذبح ولم يذكر عليه   (1) ثم تترك حتى تموت. (2) الودجين: عرقان غليظان في جانبي ثغرة النحر. وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تصح الذكاة إلا بقطع الودجين والحلقوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 اسم الله فهو حرام، سواء ترك ذلك الذكر عمدا أو نسيانا. وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. وقال أبو حنيفة: إن ترك الذكر عمدا حرم، وإن ترك نسيانا حل. وقال الشافعي: يحل متروك التسمية سواء كان عمدا أم خطأ إذا كان الذابح أهلا للذبح. عن عائشة أن قوما قالوا: يارسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا عليه أنتم وكلوا، قالت: " وكانوا حديثي عهد بالكفر " أخرجه البخاري وغيره. ما يكره فيها : ويكره في الذكاة ما يأتي: 1 - أن يكون الذبح بآلة كالة، لما رواه مسلم عن شداد بن أوس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وابرح ذبيحته ". 2 - وعن ابن عمر، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 رواه أحمد. 3 - كسر عنق الحيوان أو سلخه قبل زهوق روحه، لما رواه الدارقطني عن أبي هريرة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تعجلوا الانفس قبل أن تزهق ". وأما استقبال القبلة عند الذبح فلم يرد في استحبابه شئ. ذبح الحيوان وفيه رمق أو به مرض : إذا ذبح الحيوان وفيه حياة أثناء الذبح حل أكله، ولو لم تكن هذه الحياة مستقرة يعيش الحيوان بمثلها. وكذلك المريضة التي لا يرجى حياتها إذا ذبحت وفيها الحياة. وتعرف الحياة بحركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو جريان نفسها أو نحو ذلك، فإذا صارت في حال النزع ولم تحرك يداو لا رجلا فإنها في هذه الحال تعتبر ميتة ولا تفيد فيها الذكاة، لقول الله سبحانه: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاما ذكيتم " (1) .   (1) سورة المائدة آية رقم 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 أي أن هذه الاشياء محرمة عليكم، إلا ما أدركتموه، فإن ذكاته تحله. وقد سئل ابن عباس عن ذئب عداعلى شاة فشق بطنها ثم انتثر قصبها (1) فذبحت فقال: كل، وما انتثر من قصبها فلا تأكل. رفع اليد قبل تمام الذكاة: وإذارفع المذكي يده قبل تمام الذكاة ثم رجع فورا وأكمل الذكاة فإن هذا جائز لانه جرحها ثم ذكاها بعد وفيها الحياة فهي داخلة في وقول الله تعالى " إلا ما ذكيتم ". جرح الحيوان عند تعذر الذكاة : الحيوان الذي يحل بالذكاة إن قدر على ذكاته ذكي في محل الذبح، وإن لم يقدر عليها كانت ذكاته بجرح جزء منه في أي موضع من بدنهبشرط أن يكون الجرح مدميا يجوز وقوع القتل به. قال رافع بن خديج: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سفر فند (2) بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله،   (1) القصب: الامعاء. (2) ند، بمعنى شردوذهب على وجهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 صلى الله عليه وسلم،: " إن لهذه البهائم أوابد (1) كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا ". رواه البخاري ومسلم. وروى أحمد وأصحاب السنن عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: " لو طعنت في فخذها أجزأ عنك ". قال أبو داود: وهذا لا يصح إلا في المتردية والمتوحش. قال الترمذي: وهذا في حال الضرورة كالحيوان الذي تمرد أو شرد فلم نقدر عليه أو وقع في بحر وخفنا غرقه فنضربه بسكين أو بسهم فيسيل دمه فيموت فهو حلال. وروى البخاري عن علي وابن عباس وابن عمرو عائشة: ما أعجزك من البهائم مما في يدك فهو ك الصيد ، وما تردى في بئر فذكاته حيث قدرت عليه. ذكاة الجنين : إذا خرج الجنين من بطن أمه وفيه حياة مستقرة وجب أن يذكى. فإن ذكيت أمه وهو في بطنها فذكاته ذكاة أمه إن خرج ميتا أو به رمق.   (1) الاوابد التي تأبدت أي توحشت جمع آبدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين: " ذكاته ذكاة أمه ". رواه عن أبي سعيد: أحمد، وابن ماجه، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان وصححه. وقال ابن المنذر: وممن قال: " ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر ": علي بن أبي طالب، وسعيد بن المسيب، وأحمد، وإسحاق، والشافعي وقال: إنه لم يرد عن أحد من الصحابة ولامن العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه، إلاما روي عن أبي حنيفة رحمه الله. وقال ابن القيم: وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه، خلاف الاصول، وهو تحريم الميتة. فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة فإنها جزء من أجزاء الام والذكاة قد أتت على جميع أعضائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 والجنين تابع للأم، جزء منها، فهذا مقتضى الاصول الصحيحة، ولو لم ترد السنة بالاباحة، فكيف وقد وردت بالاباحة الموافقة للقياس والاصول. وقد اتفق النص والاصل والقياس، ولله الحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 الصيد : تعريفه: الصيد هو اقتناص الحيوان الحلال المتوحش بالطبع، الذي لا يقدر عليه. حكمه: وهو مباح، أباحه الله سبحانه بقوله: " وإذا حللتم فاصطادوا (1) ". والصيد مباح كله، ما عدا صيد الحرم، فقد تقدم الكلام عليه في باب الحج. وصيد البحر جائز في كل حال، وكذلك صيد البر، إلا في حالة الاحرام. يقول الله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم صيد البر ما دمتم حرما " (2) .   (1) سورة المائدة الآية رقم 2. (2) سورة المائدة الآية رقم 96. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الصيد الحرام : والصيد المباح هو الصيد الذي يقصد به التذكية، فإن لم يقصد به التذكية فإنه يكون حراما لانه من باب الافساد وإتلاف الحيوان لغير منفعة: وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن قتل الحيوان إلا لمأكله. روى النسائي وابن حبان أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل عصفورا عبثا عج (1) إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة ". وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا " (2) . ومر صلوات الله وسلامه عليه على طائر قد اتخذه بعض الناس هدفا يصوبون إليه ضرباتهم، فقال: " لعن الله من فعل هذا ". شروط الصائد : ويشترط في الصائد الذي يحل أكل   (1) عج - رفع صوته بالشكوى. (2) الهدف يصوب إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 صيده ما يشترط في الذابح بأن يكون مسلما أو كتابيا. فصيد اليهودي والنصراني كذبيحته، وكذلك ما ألحق بهما كما هو موضح في باب الذكاة الشرعية. الصيد بالسلاح الجارح وبالحيوان : والصيد قد يكون بالسلاح الجارح كالرماح والسيوف والسهام ونحوها. وفي هذا يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " (1) . وقد يكون بواسطة الحيوان، وفيه يقول الله سبحانه: " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله واتقوا الله إن الله سريع الحساب " (2) . وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله، إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي؟ فقال: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل،   (1) سورة المائدة آية رقم 94. (2) سورة المائدة آية رقم 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ". رواه البخاري ومسلم. شروط الصيد بالسلاح : ويشترط في الصيد بالسلاح ما يأتي: 1 - أن يخزق السلاح جسم الصيد وينفذ فيه، ففي حديث عدي بن حاتم قال: يارسول الله، إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: " يحل لكم كل ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم (1) فكلوا ". قال الشوكاني: " فدل على أن المعتبر مجرد الخزق وإن كان القتل بمثقل. فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، لان الرصاص تخزق خزقا زائدا على السلاح فلها حكمه، وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك ". وأما النهي من الاكل مما أصابته البندقية ولم يذك واعتباره موقوذة كما جاء في الحديث، فإن المقصود من البندقية هنا ما يصنع من الطين ثم ييبس ويرمى به،   (1) فخزقتم أي خرقتم وجرحتم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 فليست مثل البندقية التي يرمى بها البارود والرصاص. وكما نهى الاسلام عن الاكل من البندقية هذه: (أي المصنوعة من الطين) : نهى عن الرمي بالحصاة وما يماثلها. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، معللا ذلك: " إنها لاتصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، لكنها تكسر السن وتفقأ العين ". ويحرم كذلك ما قتل بمثقل كالعصا ونحوها، إلا إذا أدرك حيا وذبح. ففي حديث عدي قال قلت: فإني أرمي بالمعارض الصيد فأصيد. قال: " إذا رميت بالمعارض فخزق (1) فكل. وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ". 2 - أن يذكر الصائد اسم الله عند رمي الصيد، ولم تختلف الائمة على أن التسمية مشروعة لحديث أبي ثعلبة المتقدم ذكره ولغيره من الاحاديث، وإنما اختلفوا في حكمها. فذهب أبو ثور والشعبي وداود والظاهري وجماعة أهل   (1) أي نفذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 الحديث إلى أن التسمية شرط في الاباحة بكل حال، فإن تركها عامدا أو ساهيا لم تحل ... وهذا أظهر الروايات عن أحمد. وقال أبو حنيفة: هي شرط في حال الذكر فإن تركها ناسيا حل الصيد، وإن تركها عامدا لا يحل. وكذلك قال مالك في المشهور عنه. وقال الشافعي وجماعة من المالكية التسمية سنة، فإن تركها ولو عامدا لم يحرم الصيد ويحل أكله، وحملوا الامر بالتسمية على الندب. شروط الصيد بالجوارح : والصيد بالجوارح مثل الصقر والبازي والفهد والكلب غيرها مما يقبل التعليم جائز بالشروط الآتية: 1 - تعليم الحيوان الصيد، ويعرف ذلك بأن يأتمر إذا أمر، وينزجر إذا زجر. 2 - أن يمسك على صاحبه بترك الاكل من الصيد، فإن أكل فقد أمسك على نفسه فلا يحل صيده، ففي حديث عدي بن حاتم قال الرسول صلى الله عليه وسلم له: " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل، فإني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 أخاف أن يكون مما أمسك على نفسه ". 3 - أن يرسله ويذكر اسم الله، أما ذكر التسمية فقد تقدم حكمها، وأما قصد إرسال الحيوان فإنه شرط من شروط الصيد، فإذا انبعث الحيوان الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولاإغراء من الصائد فلا يجوز صيده، ولا يحل أكله عند مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لانه صاد لنفسه من غير إرسال وإمسك عليها ولا صنع للصائد فيه فلا ينسب إليه، لانه لا يصدق عليه الحديث المتقدم " إذا أرسلت كلابك المعلمة ... إلخ " فمفهوم الشرط أن غير المرسل لا يكون كذلك. وقال عطاء والاوزاعي: يؤكل صيده إذا كان أخرج للصيد وكان معلما. اشتراك جارحين في صيد : إذا اشترك جارحان في صيد فهو حلال إذا كان كل واحد منهما أرسله صاحبه للصيد، أما إذا كان أحدهما مرسلا دون الآخر فإنه لا يؤكل لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ". الصيد بكلب اليهودي والنصراني: ويجوز الاصطياد بكلب اليهودي والنصراني وبازه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وصقره إذا كان الصائد مسلما، وذلك مثل شفرته. إدراك الصيد حيا : إذا أدرك الصائد الصيد وهو حي وكان قد قطع حلقومه ومريئه ان تمزقت أمعاؤه وخرج حشوه فإنه في هذه الحال يحل بدون زكاة. أما إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، فإنه يحب في هذه الحال ذكاته، ولا يحل بدونها. وجود الصيد ميتا بعد إصابته: إذا رمى الصائد الصيد فأصابه ثم غاب عنه ثم وجده بعد ذلك ميتا، فإنه يكون حلالا بشروط ثلاثة: الاول: أن لا يكون قد تردى من جبل أو وجده في الماء لاحتمال أن يكون موته بالتردي أو الغرق. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا رميت بسهمك فاذكر الله، فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الثاني: أن يعلم أن رميته هي التي قتلته وليس به أثر من رمي غيره أو حيوان آخر. فعن عدي قال: قلت: يا رسول الله، أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال: " إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل ". وفي رواية للبخاري: " إنا نرمي الصيد فتقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتا وفيه سهمه. قال: يأكل إن شاء ". الثالث: أن لا يفسد فسادا يبلغ درجة النتن، فإنه حينئذ يكون من المستقذرات الضارة التي تمجها الطباع. فعن أبي ثعلبة الخشني أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن ". أخرجه مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 الأضحية : تعريفها: الاضحية والضحية اسم لما يذبح من الابل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقربا إلى الله تعالى. مشروعيتها: وقد شرع الله الاضحية بقوله سبحانه: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر ". وقوله: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير " (1) . والنحر هنا هو ذبح الاضحية. وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضحى وضحى المسلمون وأجمعوا على ذلك.   (1) سورة الحج آية رقم 36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 فضلها : روى الترمذي عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم (1) . إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظللافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان (2) قبل أن يقع على الارض، فطيبوا بها نفسا ". حكمها: الاضحية سنة مؤكدة، ويكره تركها مع القدرة عليها لحديث أنس الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضحى بكبشين أملحين (3) أقرنين (4) ذبحهما بيده وسمى وكبر. وروى مسلم عن أم سلمة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ". فقوله أراد أن يضحي دليل على السنة لا على الوجوب.   (1) إسالته أي ذبح الاضحية. (2) كناية عن سرعة قبولها. (3) الاملح ما يخالط بباضه سواد. (4) ما له قرن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما، مخافة أن يرى ذلك واجبا (1) . متى تجب : ولا تجب إلا بأحد أمرين: 1 - أن ينذرها لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وحتى لو مات الناذر فإنه تجوز النيابة فيما عينه بنذره قبل موته ". 2 - أن يقول: هذه لله، أو: هذه أضحية. وعند مالك إذا اشتراها نيته الاضحية وجبت. حكمتها : والاضحية شرعها الله إحياء لذكرى إبراهيم وتوسعة على الناس يوم العيد، كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم: إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل. مم تكون : ولا تكون إلا من الابل والبقر والغنم، ولا تجزئ من غير هذه الثلاثة. يقول الله سبحانه:   (1) وقال ابن حزم: لم يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ويرى أبو حنيفة أنها واجبة على ذوي اليسار ممن يملكون نصابا من المقيمين غير المسافرين، لقوله صلى الله عليه وسلم:: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح الائمة وقفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام " (1) ويجزئ من الضأن ما له نصف سنة، ومن المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الابل ما له خمس سنين، يستوي في ذلك الذكر والانثى. 1 - روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نعمت الاضحية الجذع (2) من الضأن ". 2 - وقال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله، أصابني جذع قال: ضح به. رواه البخاري ومسلم. 3 - وروى مسلم عن جابر أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تذبحوا إلا مسنة، فإن تعسر عليكم فاذبحوا جدعة من الضأن ". والمسنة الكبيرة هي من الابل ما لها خمس سنين، ومن البقر ما له سنتان. ومن المعز ما له سنة، ومن الضأن ما له سنة وستة أشهر، على الخلاف المذكور من الائمة. وتسمى المسنة بالثنية.   (1) سورة الحج آية رقم 34. (2) ما له ستة أشهر عند الحنفية. وما له سنة في الاصح عند الشافعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 الأضحية بالخصي: ولا بأس بالاضحية بالخصي. روى أحمد عن أبي رافع قال: ضحى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكبشين أملحين موجوءين خصيين، ولان لحمه أطيب وألذ. ما لا يجوز أن يضحى به : ومن شروط الأضحية السلامة من العيوب، فلا تجوز الاضحية بالمعيبة (1) مثل: 1 - المريضة البين مرضها 2 - العوراء البين عورها 3 - العرجاء البين ظلعها 4 - العجفاء (2) التي لا تنقي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. 5 - العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة لا تجزئ في الاضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لا تنقي ".   (1) المعيبة: المقصود بالعيب الظاهر الذي ينقص اللحم، فإذا كان العيب يسيرا فإنه لا يضر. (2) العجفاء التي ذهب مخها من شدة الهزال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 ويلحق بهذه: الهتماء (1) والعصماء (2) والعمياء والتولاء (3) والجرباء التي كثر جربها. ولا بأس بالعجماء والبتراء والحامل وما خلق بغير أذن أو ذهب نصف أذنه أو أليته والاصح عند الشافعية لا تجزئ مقطوعة الالية والضرع لفوات جزء مأكول وكذا مقطوعة الذنب. قال الشافعي: لا نحفظ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الاسنان شيئا. وقت الذبح: ويشترط في الاضحية ألا تذبح إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد ويمر من الوقت قدر ما يصلى العيد، ويصح ذبحها بعد ذلك في أي يوم من الايام الثلاثة في ليل أو نهار، ويخرج الوقت بانقضاء هذه الايام. فعن البراء، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إن أول ما نبدأ به في يومنا (4) هذا أن نصلي   (1) الهتماء هي التي ذهب ثناياها من أصلها. (2) العصماء ما انكسر غلاف قرنها. (3) التولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى. (4) أي يوم العيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لاهله ليس من النسك في شئ ". وقال أبو بردة: خطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم النحر فقال: " من صلى صلاتنا ووجه قبلتنا ونسك نسكنا فلا يذبح حتى يصلي، روى الشيخان عن الرسول صلى الله عليه وسلم: من ذبح قبل الصلاة، فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة والخطبتين فقد أتم نسكه وأصاب سنة المسلمين ". كفاية أضحية واحدة عن البيت الواحد : إذا ضحى الانسان بشاة من الضأن أو المعز أجزأت عنه وعن أهل بيته. فقد كان الرجل من الصحابة، رضي الله عنهم، يضحي بالشاة عن نفسه وعن أهل بيته، فهي سنة كفاية. روى ابن ماجه والترمذي وصححه أن أبا أيوب قال: " كان الرجل في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى ". جواز المشاركة في الأضحية : تجوز المشاركة في الاضحية إذا كانت من الابل أو البقر، وتجزئ البقرة أو الجمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 عن سبعة أشخاص إذا كانوا قاصدين الاضحية والتقرب إلى الله، فعن جابر قال: " نحرنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ". رواه مسلم وأبو داود والترمذي. توزيع لحم الأضحية : يسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الاقارب ويتصدق منها على الفقراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلوا وأطعموا وادخروا " وقد قال العلماء: الافضل أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويدخر الثلث. ويجوز نقلها ولو إلى بلد آخر، ولا يجوز بيعها ولا بيع جلدها. [ولا يعطى الجزار من لحمها شيئا كأجر، وله أن يكافئه نظير عمله] وإنما يتصدق به المضحي أو يتخذ منه ما ينتفع به. وعند أبي حنيفة أنه يجوز بيع جلدها ويتصدق بثمنه وأن يشتري بعينه ما ينتفع به في البيت. المضحي يذبح بنفسه : يسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عن فلان - ويسمي نفسه - فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذبح كبشا وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 رواه أبو داود والترمذي. فإن كان لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة: يا فاطمة، قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملته، وقولي: " إن صلاتي ونسكي (1) ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ". فقال أحد الصحابة: يا رسول الله، هذا لك ولاهل بيتك خاصة أو للمسلمين عامة؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: بل للمسلمين عامة.   (1) النسك: الذبح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 العقيقة : تعريفها: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود. قال صاحب مختار الصحاح: العقيقة والعقة بالكسر، الشعر الذي يولد عليه كل مولود من الناس والبهائم، ومنه سميت الشاة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه. حكمها : والعقيقة سنة مؤكدة ولو كان الاب معسرا، فعلها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه، روى أصحاب السنن أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا، ويرى وجوبها الليث وداود الظاهري. ويجري فيها ما يجري في الاضحية من الاحكام، إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 أن العقيقة لا تجوز فيها المشاركة. فضلها : روى أصحاب السنن عن سمرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: 1 - " كل مولود رهينة (1) بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ". 2 - وعن سلمان بن عامر الضبي، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " مع الغلام عقيقته، فأهريقوا علهى دما، وأميطوا عنه الاذى (2) " رواه الخمسة. ما يذبح عن الغلام وللبنت : ومن الافضل أن يذح عن الولد شاتان متقاربتان شبها وسنا. وعن البنت شاة. فعن أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " عن الغلام شاتان متكافئتان (3) وعن الجارية شاة ".   (1) أي تنشئته تنشئة صالحة وحفظه حفظا كاملا مرهون بالذبح عنه. (2) أي أزيلوا عنه القذارة والنجاسة. (3) أي شاتان متقاربتان شبها وسنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 ويجوز ذبح شاة واحدة عن الغلام لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك مع الحسن والحسين - رضي الله عنهما - كما تقدم في الحديث. وقت الذبح : والذبح يكون يوم السابع بعد الولادة إن تيسر، وإلا ففي اليوم الرابع عشر وإلا ففي اليوم الواحد والعشرين من يوم ولادته، فإن لم يتيسر ففي أي يوم من الايام. ففي حديث البيهقي: تذبح لسبع، ولاربع عشر، ولاحدي وعشرين. اجتماع الأضحية والعقيقة : قالت الحنابلة: وإذا اجتمع يوم النحر مع يوم العقيقة فإنه يمكن الاكتفاء بذبيحة واحدة عنهما، كما إذا اجتمع يوم عيد ويوم جمعة واغتسل لاحدهما. التسمية والحلق : ومن السنة أن يختار للمولود اسم حسن ويحلق شعره ويتصدق بوزنه فضة إن تيسر ذلك، لما رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عق عن الحسن بشاة، وقال: يا فاطمة، احلقي رأسه وتصدقي بوزنه فضة على المساكين، فوزناه فكان وزنه درهما أو بعض درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 أحب الأسماء : وأحب الاسماء عبد الله وعبد الرحمن، لحديث مسلم، وأصدقها همام وحارث كما ثبت في الحديث الصحيح. ويصح التسمية بأسماء الملائكة والانبياء وطه ويس. وقال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمر، وعبد الكعبة، حاشا عبد المطلب. كراهة بعض الأسماء : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمي بالاسماء الاتية: يسار، ورباح، ونجيح، وأفلح، لان ذلك ربما يكون وسيلة من وسائل التشاتم، ففي حديث سمرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا تسم غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول: أثم هو - فلا يكون - فيقول: لا ". رواه مسلم. الأذان في أذن المولود : ومن السنة أن يؤذن في أذن المولود اليمنى، ويقيم في الاذن اليسرى، ليكون أول ما يطرق سمعه اسم الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، عن أبي رافع رضي الله عنه، قال: رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، أذن بالصلاة في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة رضي الله عنهم. وروى ابن السني عن الحسن بن علي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " من ولد له ولد فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان " (1) . لا فرع ولا عتيرة : الفرع: ذبح أول ولد الناقة، كانت العرب تذبحه لاصنامهم. العتيرة: ذبيحة رجب تعظيما له. وقد نهى الاسلام عن الذبح تعظيما للاصنام، وغير معالم الجاهلية. وأباح الذبح باسم الله برا وتوسعا. روى أبو هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا فرع ولا عتيرة " (2) . رواه البخاري ومسلم.   (1) يقال إنها القرينة. (2) بالمعنى الذي كان عليه في الجاهلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 وقال نبيشة، رضي الله عنه: نادى رجل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا لله وأطعموا. قال: إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استجمل (1) ذبحته، فتصدقت بلحمه على ابن السبيل، فذلك خير ". رواه أبو داود والنسائي. وعن أبي رزين قلت: يا رسول الله، كنا نذبح في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا، فقال: " لا بأس به ". وروى أحمد والنسائي عن عمر بن الحارث أنه لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع، فقال رجل: يا رسول الله الفرائع والعتائر؟ قال: من شاء فرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر في الغنم الاضحية ".   (1) أي صار جملا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ثقب أذن الصغير : في كتب الحنابلة: إن تثقيب آذان الصبية للحلية جائز ويكره للصبيان. وفي فتاوي قاصي خان، من الحنفية: لا بأس بتثقيب آذان الصبية، لانهم كانوا في الجاهلية يفعلونه، ولم ينكره عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 الكفالة : تعريفها: الكفالة معناها في اللغة: الضم، ومنه قول الله، عز وجل: " وكفلها زكريا (1) ". وفي الشرع عبارة عن ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الاصيل في المطالبة بنفس أو دين أو عين أو عمل، وهذا التعريف لفقهاء الاحناف. وعند غيرهم من الائمة يعرفونها بأنها ضم الذمتين في المطالبة والدين. والكفالة تسمي: حمالة وضمانة وزعامة. وهي تقتضي كفيلا وأصيلا ومكفولا له ومكفولا به.   (1) سورة آل عمران الاية رقم 37. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 فالكفيل هو الذي يلتزم بأداء المكفول به، ويجب أن يكون بالغا عاقلا مطلق التصرف في ماله رضايا بالكفالة (1) فلا يكون المجنون ولا الصبي ولو كان مميزا كفيلا. ويسمى الكفيل بالضامن والزعيم والحميل والقبيل. والاصيل هو المدين وهو المكفول عنه، ولا يشترط بلوغه ولا عقله ولا حضوره ولا رضاه بالكفالة. بل تجوز الكفالة عن الصبي والمجنون والغائب. ولكن الفيل لا يرجع على أحد من هؤلاء إذا أدى عنه، بل يعتبر متبرعا إلا في حالة ما إذا كانت الكفالة عن الصبي المأذون له في التجارة وكانت بأمره. والمكفول له هو الدائن. ويشترط أن يعرفه الضامن، لان الناس يتفاوتون في المطالبة تسهيلا وتشديدا. والاغراض تختلف بذلك، فيكون الضمان بدونه غررا. ولا تشترط معرفة المضمون عنه. والمكفول به هو النفس أو الدين أو العين أو العمل الذي وجب أداؤه على المكفول عنه، وله شروط ستأتي في موضعها. مشروعيتها: والكفالة مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع.   (1) لانه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 ففي الكتاب يقول الله تعالى: " قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به (1) "، وقوله، جل شأنه: " ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " (2) . وجاء في السنة عن أبي أمامة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: " الزعيم غارم ". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان. ومعنى الزعيم: الكفيل. والغارم: الضامن. وقد أجمع العلماء على جوازها. ولا يزال المسلمون يكفل بعضهم بعضا من عصر النبوة إلى وقتنا هذا، دون تكبر من أحد من العلماء. التنجيز والتعليق والتوقيت : وتصح الكفالة منجزة، ومعلقة، ومؤقتة. فالمنجزة مثل قول الكفيل: أنا أضمن فلانا الان، وأكفله. قال العلماء: إذا قال الرجل: تحملت أو تكفلت أو ضمنت، أو   (1) سورة يوسف الاية رقم 66. (2) سورة يوسف الاية رقم 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 أنا حميل لك، أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو علي أو إلي أو قبلي، فذلك كله كفالة. ومتى انعقدت الكفالة كانت تابعة للدين في الحلول والتأجيل والتقسيط، إلا إذا كان الدين حالا واشترط الكفيل تأجيل المطالبة إلى أجل معلوم، فإنه يصح، لما رواه ابن ماجه عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم: تحمل عشرة دنانير عن رجل قد لزمه غريمه إلى شهر، وقضاها عنه. وفي هذا دليل على أن الدين إذا كان حالا وضمنه الكفيل إلا أجل معلوم صح، ولا يطالب به الضامن قبل مضي الاجل. والمعلقة مثل: إن أقرضت فلانا فأنا ضامن لك، وكما جاء في الاية الكريمة قول الله تعالى: ولمن جاء به حمل بعير " (1) . والمؤقتة مثل: إذا جاء شهر رمضان فأنا ضامن لك. وهذا مذهب أبي حنيفة وبعض الحنابلة. وقال الشافعي: لا يصح التعليق في الكفالة.   (1) سورة يوسف الاية 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 مطالبة الكفيل والأصيل معا : ومتى انعقدت الكفالة جاز لصاحب الحق أن يطالب الضامن والمضمون معا، كما جاز له أن يطالب أيهما شاء بناء على تعدد محل الحق، كما يرى جمهور العلماء. أنواع الكفالة : والكفالة نوعان: الاول: كفالة بالنفس. الثاني: كفالة بالمال. الكفالة بالنفس: وتعرف بضمان الوجه، وهي التزام الكفيل بإحضار الشخص المكفول إلى المكفول له. وتصح بقوله: أنا كفيل بفلان أو ببدنه أو وجهه، أو: أنا ضامن أو زعيم ونحو ذلك، وهي جائزة إذا كان على المكفول به حق لادمي، ولا يشترط العلم بقدر ما على المكفول لانه تكفل بالبدن لا بالمال. أما إذا كانت الكفالة في حدود الله، فإنها لا تصح، سواء أكان الحد حقا لله تعالى كحد الخمر، أو كان حقا لادمي كحد القذف. وهذا مذهب أكثر العلماء، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا كفالة في حد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 رواه البيهقي بإسناد ضعيف وقال: إنه منكر. ولان مبناه على الاسقاط والدرء بالشبهة، فلا يدخله الاستيثاق، ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني. وعند أصحاب الشافعي تصح الكفالة بإحضار من عليه عقوبة لادمي كقصاص وحد قذف، لانه حق لازم، أما إذا كان حدا لله فلا تصح فيه الكفالة. ومنعها ابن حزم فقال: " لا تجوز الضمانة بالوجه أصلا لا في مال ولا حد، ولا في شئ من الاشياء، لان كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. ومن طريق النظر أن نسأل من قال بصحته عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول عنه ماذا تصنعون بالضامن بوجهه؟ أتلزمونه غرامة ما على المضمون؟ فهذا جور وأكل مال بالباطل، لانه لم يلتزمه قط. أم تتركونه؟ فقد أبطلتم الضمان بالوجه، أم تكلفونه طلبه؟ فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله إياه قط. وأجاز الكفالة بالوجه جماعة من العلماء. واستدلوا بأنه، صلى الله عليه وسلم، كفل في تهمة، قال: وهو خبر باطل، لانه من رواية إبراهيم بن خيثم بن عراك، وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ثم ذكر آثارا عن عمر بن عبد العزيز وردها كلها بأنها لا حجة فيها، " إذا الحجة في كلام الله ورسوله لا غير ". ومتى تكفل بإحضاره لزمه إحضاره فإن تعذر عليه إحضاره مع حياته أن امتنع الكفيل عن إحضاره غرم ما عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " الزعيم غارم ". إلا إذا اشترط إحضاره دون المال، وصرح بالشرط لانه يكون ألزم ضد ما اشترط، وهذا مذهب المالكية وأهل المدينة. وقالت الاحناف: يحبس الكفيل إلى أن يأتي به أو يعلم موته، ولا يغرم المال إلا إذا شرطه على نفسه. وقالوا: إذا مات الاصيل فإنه لا يلزم الكفيل الحق الذي عليه، لانه إنما تكفل بالنفس ولم يكفل بالمال، فلا يلزمه ما لم يتكفل به. وهذا هو المشهور من قول الشافعي. وكذلك يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول نفسه. ولا يبرأ الكفيل بموت المكفول له بل تقوم ورثته مقامه في المطالبة بإحضار المكفول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 الكفالة بالمال: والكفالة بالمال: هي التي يلتزم فيها الكفيل التزاما ماليا، وهي أنواع ثلاثة: 1 - الكفالة بالدين: وهي التزام أداء دين في ذمة الغير. ففي حديث سلمة بن الاكوع، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، امتنع من الصلاة على من عليه الدين، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه (1) ويشترط في الدين: (أ) أن يكون ثابتا وقت الضمان كدين القرض والثمن والاجرة والمهر، فإذا لم يكن ثابتا فإنه لا يصح، فضمان ما لم يجب غير صحيح، كما إذا قال: بع لفلان وعلي أن أضمن الثمن، أو: أقرضه، وعلي أن أضمن بدله. وهذا مذهب الشافعي ومحمد بن الحسن والظاهرية. وأجاز ذلك أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف، وقالوا بصحة ضمان ما لم يجب. (ب) أن يكون معلوما، فلا يصح ضمان المجهول، لانه غرر، فلو قال: ضمنت لك ما في ذمة فلان، وهما لا   (1) ذهب الجمهور إلى صحة الكفالة عن الميت ولا رجوع له في مال الميت. والحديث من رواية البخاري وأحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 يعلمان مقداره فإنه لا يصح. وهذا مذهب الشافعي وابن حزم. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يصح ضمان المجهول. 2 - كفالة بالعين أو كفالة بالتسليم: وهي التزام تسليم عين معينة موجودة بيد الغير مثل: رد المغصوب إلى الغاصب وتسليم المبيع إلى المشتري. ويشترط فيها أن تكون العين مضمونة على الاصيل كما في المغصوب. فإذا لم تكن مضمونة كالعارية والوديعة فإن الكفالة لا تصح. 3 - كفالة بالدرك: أي بما يدرك المال المبيع ويلحق به من خطر بسبب سابق على البيع، أي أنها كفالة. وضمانة لحق المشتري تجاه البائع إذا ظهر للمبيع مستحق، كما لو تبين أن المبيع مملوك لغير البائع أو مرهون. رجوع الكفيل على المضمون عنه: وإذا أدى الضامن عن المضمون عنه ما عليه من دين رجع عليه متى كان الضمان والاداء بإذنه، لانه أنفق ماله فميا ينفعه بإذنه. وهذا مما اتفق الائمة الاربعة عليه. واختلفوا فيما إذا ضمن عن غيره حقا بغير أمره وأداه. وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو متطوع، وليس له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 الرجوع عليه. والمشهور عن مالك: أن له الرجوع به. وعن أحمد: روايتان. قال ابن حزم: " لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره أو بغيره أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه. قال: وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو ثور وأبو سليمان بمثل قولنا ". اهـ. من أحكام الكفالة : 1 - ومتى عدم المضمون أو غاب، ضمن الكفيل، ولا يخرج عن الكفالة إلا بأداء الدين منه أو من الاصيل، أو بإبراء الدائن نفسه من الدين أو نزوله عن الكفالة، وله هذا النزول لانه من حقه. 2 - من حق المكفول له (أي صاحب الدين) فسخ عقد الكفالة من ناحية، ولو لم يرض المدين المكفول عنه أو الكفيل. وليس هذا الفسخ للمكفول عنه ولا للكفيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 المساقاة : تعريفها: المساقاة مفاعلة من السقي، وهذه المفاعلة على غير بابها. وسميت بهذه التسمية لان شجر أهل الحجاز أكثر حاجة إلى السقي لانها تسقى من الابار، فسميت بهذه التسمية. وهي في الشرع دفع الشجر لمن يقوم بسقيه ويتعهده حتى يبلغ تمام نضجه نظير جزء معلوم من ثمره. فهي شركة زراعية على استثمار الشجر يكون فيها الشجر من جانب، والعمل في الشجر من جانب، والثمرة الحاصلة مشتركة بينهما بنسبة يتفق عليها المتعاقدان كالنصف والثلث ونحو ذلك. ويسمى العامل بالمساقي، والطرف الاخر يسمى برب الشجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 والشجر يطلق على كل ما غرس ليبقى في الارض سنة فأكثر من كل ما ليس لقطعه مدة ونهاية معلومة، سواء أكان مثمرا أم غير مثمر. وتكون المساقاة على غير المثمر نظير ما يأخذه المساقي من السعف والحطب ونحوها. مشروعيتها: والمساقاة مشروعة بالسنة، وقد اتفق الفقهاء على جوازها للحاجة إليها، ما عدا أبا حنيفة الذي رأى أنها لا تجوز. وقد استدل الجمهور من العلماء على جوازها بما يأتي: 1 - روى مسلم عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. 2 - وروى البخاري أن الانصار قالت للنبي، صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. أي أن الانصار أرادوا أن يشركوا معهم المهاجرين في النخيل فعرضوا ذلك على الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأبى، فعرضوا أن يتولوا أمره ولهم الشطر فأجابهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وفي نيل الاوطار: قال الحازمي: روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري، ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، فقالوا: تجوز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمر أو الزرع قالوا: ويجوز العقد على المزارعة والمساقاة مجتمعين، فتساقيه على النخل وتزارعه على الارض كما جري في خيبر. ويجوز العقد على كل واحدة منها منفردة. أركانها : والمساقاة لها ركنان: 1 - الايجاب. 2 - القبول. وتنعقد بكل ما يدل عليها من القول أو الكتابة أو الاشارة ما دام ذلك صادرا ممن يجوز تصرفهم. شروطها : ويشترط في المساقاة الشروط الاتية: 1 - أن يكون الشجر المساقى عليه معلوما بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها، لانه لا يصح العقد على مجهول. 2 - أن تكون مدتها معلومة، لانها عقد لازم يشبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 عقد الايجار، وحتى ينتفي الغرر. وقال أبو يوسف ومحمد: إن بيان المدة ليس بشرط في المساقاة استحسانا، لان وقت إدراك الثمر معلوم غالبا ولا يتفاوت تفاوتا يعتد به. وممن قال بعدم اشتراط هذا الشرط الظاهرية، واستدلوا بما رواه مالك مرسلا، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال لليهود: " أقركم ما أقركم الله ". وعند الاحناف أنه متى انتهت مدة المساقاة قبل نضج الثمر تترك الاشجار للعامل ليعمل فيها بلا أجر إلى أن ينضج. 3 - أن يكون عقد المساقاة قبل بدو الصلاح، لانها في هذه الحال تفتقر إلى عمل. أما بعد بدو الصلاح، فمن الفقهاء من رأى أن المساقاة لا تجوز، لانه لا ضرورة تدعو إليها. ولو وقعت، لكانت إجارة لا مساقاة. ومنهم من جوزها في هذه الحال، لانها إذا جازت قبل أن يخلق الله الثمر فهي بعد بدو الثمر أولى. 4 - أن يكون للعامل جزء مشاع معلوم من الثمرة، أي يكون نصيبه معلوما بالجزئية: كالنصف والثلث، فلو شرط له أو لصاحب الشجر نخلات معينة أو قدرا معينا بطلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 وقال في بداية المجتهد: واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت النفقة كلها على رب الحائط (1) وليس على العامل إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز، لانها إجارة بما لم يخلق. ومتى فقد شرط من هذه الشروط انفسخ العقد وفسدت المساقاة، فإن كان قد مضى فيها المساقي ونما الشجر أو الزرع بعمله فله أجر مثله، ونماء الشجر أو الزرع لمالكه. ما تجوز فيه المساقاة : اختلف الفقهاء فيما تجوز عليه المساقاة. فمنهم من قصرها على النخل كداود، ومنه من زاد على النخل العنب كالشافعي، ومنهم من توسع في هذا كالاحناف، فعندهم تصح على الشجر والكروم والبقول وكل ما له أصول في الارض ليس لقلعها نهاية معلومة، بل كلما جزت نبتت، وذلك كالكراث والقصب الفارسي. وإذا لم تبين المدة وقع العقد على أول جز يحصل بعد العقد. وتصح أيضا على ما تتلاحق آحاده وتظهر شيئا فشيئا كالباذنجان. ولو دفع شخص لاخر رطبة انتهى جذاذها على أن يقوم   (1) الحائط: البستان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 بخدمتها وسقيها حتى يخرج بذرها ويكون بينهما أنصافا جاز ذلك بلا بيان المدة. وعند مالك أنها تجوز في كل أصل ثابت، كالرمان والتين والزيتون وما أشبه ذلك من غير ضرورة، وتكون في الاصول غير النابتة كالمقاثي والبطيخ مع عجز صاحبها عنها، وكذلك الزرع. وعند الحنابلة تجوز المساقاة في كل ثمر مأكول. قال في المغني: وتصح المساقاة على البعلي من الشجر، كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي، وبهذا قال مالك. قال: ولا نعلم فيه خلافا. وظيفة المساقي : ووظيفة عامل المساقاة - كما قال النووي: أن عليه كل ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر، واستزادته مما يتكرر كل سنة: كالسقي وتنقية الانهار وإصلاح منابت الشجر وتلقيحه وتنحية الحشيش والقضبان عنه وحفظ الثمرة وجذاذها ونحو ذلك. وأما ما يقصد به حفظ الاصل ولا يتكرر كل سنة. كبناء الحيطان وحفر الانهار فعلى المالك. عجز العامل عن العمل : إذا وجد عذر يمنع العامل من العمل، كأن يمرض أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 تصيبه عاهة أو يسافر سفرا اضطراريا فإن المساقاة تفسخ. وهذا في حالة ما إذا كان الطرف الاخر قد اشترط عليه أن يعمل بنفسه. فإذا لم يكن قد اشترط عليه هذا الشرط فإن المساقاة لا تنفسخ بل على العامل أن يقيم غيره مقامه. وهذا عند الاحناف. وقال مالك: إذا عجز العامل وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره، ووجب عليه أن يستأجر من يعمل. وإن لم يكن له شئ استؤجر من نصيبه من الثمر. وقال الشافعي: تنفسخ المساقاة بالعجز. موت أحد المتعاقدين : إذا مات أحد المتعاقدين فإن كان في الشجر ثمر لم يبد صلاحه فلرعاية مصلحة الطرفين يستمر العامل أو ورثته على العمل حتى ينضج الثمر، ولو جبرا على صاحب الشجر أو ورثته، لانه لا ضرر على أحد في ذلك، وليس للعامل أجرة في المدة التي بين انفساخ العقد ونضج الثمر. وإذا امتنع العامل أو ورثته عن العمل بعد انتهاء المدة أو انفساخ العقد لا يجبرون عليه، ولكنهم إذا أرادوا قطع الثمر قبل نضجه فلا يمكنون منه، وإنما يكون الحق للمالك أو ورثته في أحد ثلاثة أشياء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 1 - الموافقة على قطع الثمر وقسمته حسب الاتفاق. 2 - إعطاء العامل أو ورثته من النقود قيمة ما يخص نصيبهم وهو مستحق القطع. 3 - الانفاق على الشجر حتى ينضج الثمر ثم الرجوع على المساقي أو ورثته بما أنفق أو يأخذ به ثمارا من نصيبه. وهذا مذهب الاحناف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 الجعالة : () تعريفها : الجعالة عقد على منفعة يظن حصولها، كمن يلتزم بجعل (1) معين لمن يرد عليه متاعه الضائع، أو دابته الشاردة، أو يبني له هذا الحائط، أو يحفر له هذه البئر حتى يصل إلى الماء، أو يحفظ ابنه القرآن، أو يعالج المريض حتى يبرأ، أو يفوز في مسابقة كذا ... الخ. مشروعيتها : والاصل في مشروعيتها قول الله سبحانه: (2)   الجعالة مثلثة الجيم. (1) الجعل. ما يعطى مقابل عمل. (2) سورة يوسف الاية رقم 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 ولمن جاء به حمل بعير (1) وأنا به زعيم " (2) . ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، أجاز أخذ الجعل على الرقية بام القرآن كما تقدم في باب الاجارة. وقد أجيزت للضرورة، ولهذا جاز فيها من الجهالة ما لم يجز في غيرها، فإنه يجوز أن يكون العمل مجهولا. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين كغيره من العقود، لقول الله تعالى: " ولمن جاء به حمل بعير ". والجعالة عقد من العقود الجائزة التي يجوز لاحد المتعاقدين فسخه. ومن حق المجعول له أن يفسخه قبل الشروع في العمل كما أن له أن يفسخه بعد الشروع إذا رضي بإسقاط حقه. أما الجاعل فليس له أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. وقد منعها بعض الفقهاء منهم ابن حزم، قال في المحلى: " لا يجوز الحكم بالجعل على أحد. فمن قال لاخر: إن جئتني بعبدي الابق فلك علي دينار، أو قال: إن فعلت   (1) البعير: الجمل. (2) الزعيم: الكفيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 كذا وكذا فلك درهم، أو ما أشبه ذلك، فجاءه بذلك، أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءني بكذا فله كذا فجاءه به، لم يقض عليه بشئ، ويستحب لو وفى بوعده. وكذلك من جاء بآبق فلا يقضى له بشئ، سواء عرف بالمجئ بالاباق أو لم يعرف بذلك، إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة أو ليأتيه به من مكان معروف، فيجب له ما استأجره به. وأوجب قوم الجعل وألزموه الجاعل واحتجوا بقول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " (1) . وبقول يوسف عليه السلام: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم "، وبحديث الذي رقى على قطيع من الغنم ". انتهى.   (1) سورة المائدة الاية رقم 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 الشركة تعريفها: الشركة هي الاختلاط. ويعرفها الفقهاء بأنها عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (1) . مشروعيتها: وهي مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. ففي الكتاب يقول الله سبحانه: " فهم شركاء في الثلث " (2) . وقوله سبحانه: " وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات   (1) التعريف عند الاحناف. (2) سورة النساء الاية رقم 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 وقليل ما هم " (1) ، والخلطاء هم الشركاء. وفي السنة يقول الرسول، صلوات الله وسلامه عليه: إن الله تعالى يقول: " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه. فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما " (2) . رواه أبو داود عن أبي هريرة. وقال زيد: كنت أنا والبراء شريكين. رواه البخاري. وأجمع العلماء على هذا. ذكر ذلك ابن المنذر. أقسامها : والشركة قسمان: القسم الاول: شركة أملاك. والقسم الثاني: شركة عقود. شركة الأملاك : وهي أن يتملك أكثر من شخص عينا من غير عقد. وهي إما أن تكون اختيارية أو جبرية: فالاختيارية، مثل أن يوهب هبة أو يوصى لهما بشئ فيقبلا فيكون الموهوب والموصى به ملكا لهما على   (1) سورة " ص "، الاية رقم 24. (2) أي أن الله يبارك للشريكين في المال ويحفظه لهما ما لم تكن خيانة بينهما. فإذا خان أحدهما نزع البركة من المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 سبيل المشاركة. وكذلك إذا اشتريا شيئا لحسابهما فيكون المشترى شركة بينهما شركة ملك. والجبرية: هي التي تثبت لاكثر من شخص جبرا دون أن يكون فعل في إحداث الملكية كما في الميراث. فإن الشركة تثبت للورثة دون اختيار منهم، وتكون شركة بينهم شركة ملك. حكم هذه الشركة: وحكم هذه الشركة أنه لا يجوز لاي شريك أن يتصرف في نصيب صاحبه بغير إذنه، لانه لا ولاية لاحدهما في نصيب الاخر، فكأنه أجنبي. شركة العقود : هي أن يعقد اثنان فأكثر عقدا على الاشتراك في المال وما نتج عنه من ربح. أنواعها: وأنواعها كما يلي: 1 - شركة العنان . 2 - شركة المفاوضة. 3 - شركة الابدان. 4 - شركة الوجوه. ركنها: وركنها الايجاب والقبول، فيقول أحد الطرفين: شاركتك في كذا وكذا، ويقول الثاني: قبلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 حكمها: أجاز الاحناف كل نوع من أنواع الشركات السابقة متى توفر فيها الشروط التي ذكروها. والمالكية أجازوا كل الشركات، ما عدا شركة الوجوه . والشافعية أبطلوها كلها ما عدا شركة العنان . والحنابلة أجازوها كلها ما عدا شركة المفاوضة . شركة العنان: (1) وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما، ولا يشترط فيها المساواة في المال ولا في التصرف ولا في الربح. فيجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من الاخر. ويجوز أن يكون أحدهما مسئولا دون شريكه. ويجوز أن يتساويا في الربح. كما يجوز أن يختلفا حسب الاتفاق بينهما. فإذا كان ثمة خسارة فتكون بنسبة رأس المال. شركة المفاوضة: (2) هي التعاقد بين اثنين أو أكثر على الاشتراك في عمل بالشروط الاتية:   (1) العنان بكسر العين وتفتح قال الفراء: اشتقاقها من عن الشئ إذا عرض، فالشريكان كل واحد منها تعن شركة الاخر. وقيل هي مشتقة عناني الفرسين في التساوي. (2) المفاوضة: أي المساواة وسميت بهذه التسمية لاعتبار المساواة في رأس المال والربح والتصرف، وقيل: هي من التفويض لان كل واحد يفوض شريكه في التصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 1 - التساوي في المال، فلو كان أحد الشركاء أكثر مالا فإن الشركة لا تصح (1) . 2 - التساوي في التصرف، فلا تصح الشركة بين الصبي والبالغ. 3 - التساوي في الدين، فلا تنعقد بين مسلم وكافر. 4 - أن يكون كل واحد من الشركاء كفيلا عن الاخر فيما يجب عليه من شراء وبيع كما أنه وكيل عنه، فلا يصح أن يكون تصرف أحد الشركاء أكثر من تصرف الاخر. فإذا تحققت المساواة في هذه النواحي كلها انعقدت الشركة وصار كل شريك وكيلا عن صاحبه وكفيلا عنه يطالب بعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. وقد أجازها الحنفية والمالكية ولم يجزها الشافعي، وقال: " إذا لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا " لانها عقد لم يرد الشرع بمثله. وتحقق المساواة في هذه الشركة أمر عسير لما فيها من غرر وجهالة. وما ورد من   (1) فلو كان أحد الشركاء يملك 100 والاخر يملك دون ذلك فإن الشركة لا تصح ولو لم يكن ذلك مستعملا في التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 الحديث: " فاوضوا فإنه أعظم للبركة " وقوله: " إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة " فإنه لم يصح شئ من ذلك. وصفتها عند الامام مالك: هي أن يفوض كل واحد منهما إلى الاخر التصرف مع حضوره وغيبته، وتكون يده كيده. ولا يكون شريكه إلا بما يعقدان الشركة عليه. ولا يشترط المفاوضة أن يتساوي المال ولا أن لا يبقي أحدهما مالا إلا ويدخله في الشركة. شركة الوجوه : هي أن يشتري اثنان فاكثر من الناس دون أن يكون لهم رأس مال اعتمادا على جاههم وثقة التجار بهم، على أن تكون الشركة بينهما في الربح، فهي شركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وهي جائزة. عند الحنفية والحنابلة لانها عمل من الاعمال فيجوز أن تنعقد عليه الشركة ويصح تفاوت ملكيتهما في الشئ المشترى. وأما الربح فيكون بينهما على قدر نصيب كل منهما في الملك. وأبطلها الشافعية والمالكية، لان الشركة إنما تتعلق بالمال أو العمل، وهما هنا غير موجودين. شركة الأبدان : هي أن يتفق اثنان على أن يتقبلا عملا من الاعمال على أن تكون أجرة هذا العمل بينهما حسب الاتفاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وكثيرا ما يحدث هذا بين النجارين والحدادين والحمالين والخياطين والصاغة وغيرهم من المحترفين. وتصح هذه الشركة سواء اتحدث حرفتها أم اختلفت " كنجار مع نجار أو نجار مع حداد ". وسواء عملا جميعا أو عمل أحدهما دون الاخر، منفردين ومجتمعين. وتسمى هذه الشركة بشركة الاعمال أو الابدان أو الصنائع أو التقبل. ودليل جواز هذه الشركة ما رواه أبو عبيدة عن عبد الله قال: " اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ ". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويرى الشافعي أن هذه الشركة باطلة، لان الشركة عنده تختص بالاموال لا بالاعمال. وفي كتاب الروضة الندية كلام حسن في هذا الموضوع نورده فيما يلي: " واعلم أن هذه الاسامي التي وقعت في كتب الفروع لانواع من الشركة: كالمفاوضة، والعنان، والوجوه، والابدان، لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية، بل اصطلاحات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما ويتجرا كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها، لان للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ما لم يستلزم ذلك التصرف محرما مما ورد الشرع بتحريمه، وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين وكونهما نقدا واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره بل مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف. وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شئ بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن، كما هو معنى شركة العنان اصطلاحا، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة ودخل فيها جماعة من الصحابة فكانوا يشتركون في شراء شئ من الاشياء ويدفع كل واحد منهم نصيبا من قيمته يتولى الشراء أحدهما أو كلاهما. وأما اشتراط العقد والخلط فلم يرد ما يدل على اعتباره. وكذلك لا بأس أن يوكل أحد الرجلين الاخر أن يستدين له مالا ويتجر فيه ويشتركا في الربح كما هو معنى شركة الوجوه اصطلاحا. ولكن لا وجه لما ذكروه من الشروط. وكذلك لا بأس بأن يوكل أحد الرجلين الاخر في أن يعمل عنه عملا استؤجر عليه كما هو معنى شركة الابدان اصطلاحا. ولا معنى لا شتراط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 شروط في ذلك. والحاصل أن جميع هذه الانواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي، لان ما كان منها من التصرف في الملك فمناطه التراضي ولا يتحتم اعتبار غيره. وما كان منها من باب الوكالة أو الاجارة فيكفي فيه ما يكفي فيهما، فما هذه الانواع التي نوعوها والشروط التي اشترطوها؟ وأي دليل عقلي أو نقلي ألجأهم إلى ذلك؟ فإن الامر أيسر من هذا التهويل والتطويل، لان حاصل ما يستفاد من شركة: المفاوضة، والعنان، والوجوه، أنه يجوز للرجل أن يشترك هو وآخر في شراء شئ وبيعه، ويكون الربح بينهما على مقدار نصيب كل واحد منهما من الثمن، وهذا شئ واحد واضح المعنى يفهمه العامي فضلا عن العالم، ويفتي بجوازه المقصر فضلا عن الكامل، وهو أعم من أن يستوي ما يدفعه كل واحد منهما من الثمن أو يختلف، وأعم من أن يكون المدفوع نقدا أو عرضا، وأعم من أن يكون ما اتجرا به جميع مال كل واحد منهما أو بعضه، وأعم من أن يكون المتولي للبيع والشراء أحدهما أو كل واحد منهما. وهب أنهم جعلوا لكل قسم من هذا الاقسام - التي هي في الاصل شئ واحد - اسما يخصه، فلا مشاحة في الاصطلاحات، لكن ما معنى اعتبارهم لتلك العبارات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وتكلفهم لتلك الشروط، وتطويل المسافة على طالب العلم وإتعابه بتدوين ما لا طائل تحته؟ وأنت لو سألت حراثا أو بقالا عن: جواز الاشتراك في شراء الشئ وفي ربحه، لم يصعب عليه أن يقول: نعم. ولو قلت له: هل يجوز العنان أو الوجوه أو الابدان؟ لحار في فهم معاني هذه الالفاظ. بل قد شاهدنا كثيرا من المتبحرين في علم الفروع يلتبس عليه الكثير من تفاصيل هذه الانواع ويتلعثم إن أراد تمييز بعضها من بعض. اللهم إلا أن يكون قريب عهد بحفظ مختصر من مختصرات الفقه، فربما يسهل عليه ما يهتدى به إلى ذلك. وليس المجتهد من وسع دائرة الاراء العاطلة عن الدليل، وقبل كل ما يقف عليه من قال وقيل، فإن ذلك هو دأب أسراء التقليد، بل المجتهد من قرر الصواب، وأبطل الباطل، وفحص في كل مسألة عن وجوه الدلائل، ولم يحل بينه وبين الصدع بالحق مخالفة من يخالفه ممن يعظم في صدور المقصرين، فالحق لا يعرف بالرجال. ولهذا المقصد سلكنا في هذه الابحاث مسالك لا يعرف قدرها إلا من صفى فهمه عن التعصبات، وأخلص ذهنه عن الاعتقادات المألوفات. والله المستعان ". اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 شركة الحيوان : ويرى ابن القيم جواز المشاركة في الحيوان بأن تكون العين مملوكة لشخص ويقوم الاخر على تربيتها على أن يكون الربح بينهما حسب الاتفاق. قال في إعلام الموقعين: تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع إليه أرضه ويقول: اغرسها من الاشجار كذا وكذا، والغرس بيننا نصفان، وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما، وكما يدفع إليه شجره يقوم عليه والثمر بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها والدر والنسل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والاجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها وسهمها بينهما، وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما، ونظائر ذلك، فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها، والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 الاجارة، فالعوض مجهول فيفسد. ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها والمضاربة للاجماع دون ما عدا ذلك، ومنه من خص الجواز بالمضاربة، ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنه من منع الجواز فيما إذا كان بعض الاصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الاصل كالدر والنسل، والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها، فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك: هذا بماله وهذا بعمله، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الاجارة، حتى قال شيخ الاسلام: هذه المشاركات أحل من الاجارة. قال: لان المستاجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر، إذا قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة، فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان، وهذا غاية العدل، فلا تاتي الشريعة بحل الاجارة وتحريم هذه المشاركات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وقد أقر النبي، صلى الله عليه وسلم، المضاربة على ما كانت عليه قبل الاسلام، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الامة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا كانه رأي عين، ثم لم ينسخه ولا ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم، يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع، إلا فيما منع منه النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك، فإذا بلي الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا، ولا يدله من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الامة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ولم يحرمه على الامة. بعض صور من الشركات الجائزة : أورد ابن قدامة بعض صور من الشركات الجائزة، فقال في المغني: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 " فإن كان لقصار أداة ولاخر بيت، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما، جاز، والاجرة على ما شرطاه، لان الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة، والالة والبيت لا يستحق بهما شئ لانهما يستعملان في العمل المشترك، فصارا كالدابتين اللتين أجراهما لحمل الشئ الذي تقبلا حملا. وإن فسدت الشركة قسم ما حصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والالة، وإن كانت لاحدهما آلة وليس للاخر شئ، أو لاحدهما بيت وليس للاخر شئ، فاتفقا على أن يعملا بالالة أو في البيت والاجرة بينهما، جاز لما ذكرناه. قال: وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا، صح، نص عليه في رواية الاثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد، ونقل عن الاوزاعي ما يدل على هذا. وكره ذلك الحسن والنخعي. وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي: لا يصح، والربح كله لرب الدابة لان الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله، لان هذا ليس من أقسام الشركة، إلا أن تكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 المضاربة، ولا تصح المضاربة بالعروض، ولان المضاربة تكون بالتجارة في الاعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها. وقال القاضي: يتخرج أن لا يصح، بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح، فعلى هذا: إن كان أجر الدابة بعينها فالاجر لمالكها، وإن تقبل حمل شئ فحمله عليها أو حمل عليها شيئا مباحا فباعه، فالاجرة والثمن له، وعليه أجرة مثلها لمالكها. ولنا انها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها، كالدراهم والدنانير، وكالشجر في المساقاة والارض في المزارعة. وقولهم إنه ليس من أقسام الشركة ولا هو مضاربة، قلنا: نعم، لكنه يشبه المساقاة والمزارعة، فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها. وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعرض فاسد، فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال، وهذا بخلافه. قال: ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو ألا يكون به بأس. قال إسحاق ابن إبراهيم قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع فهو جائز، وبه قال الاوزاعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 قال: وقالوا (1) لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها. وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على ما شرطا، لانها عين تنمى بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالارض " (انتهى) .   (1) أي بعض أئمة الفقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 شركات التأمين: أفتى فضيلة الشيخ أحمد ابراهيم بعدم جواز عقود التأمين على الحياة، فقال: إن حقيقة الامر في عقود التأمين على الحياة هو عدم صحتها، ولبيان ذلك أقول: إن عاقد التأمين مع الشركة إذا أوفى الاقساط حال حياته كان له أن يسترد من الشركة كل المبلغ الذي دفعه مقسطا مع الربح الذي اتفق عليه مع الشركة. فأين هذا من عقد المضاربة الجائزة شرعا؟. فعقد المضاربة: أن يعطي زيد بكرا مائة جنيه (مثلا) ليتجر بها بكر على أن يكون الربح بينهما مشتركا بنسبة كذا على حسب ما يتفقان، لرب المال النصف وللمضارب الذي هو العامل النصف. الاول في مقابلة ماله، والثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 في مقابلة عمله. أو يكون للاول الثلثان وللثاني الثلث أو العكس. وهكذا. فشرط صحة المضاربة الاساسي أن يأخذ رب المال حقه مما تربحه التجارة بماله بعمل المضارب. فإذا لم تكسب التجارة ولم تخسر سلم لرب المال رأس ماله ولا شئ له ولا للمضارب بعد ذلك لعدم الربح، عملا بحكم المضاربة. وإذا خسرت التجارة كانت الخسارة على رب المال من رأس ماله دون المضارب، ولاشئ للمضارب في مقابل عمله لانه في هذه الحالة شريك وليس بأجير. أما إذا شرط رب المال على المضارب أن يأخذ رب المال مقدارا معينا فوق رأس ماله بصرف النظر عن كون التجارة كسبت أو خسرت، فهذا شرط فاسد، لانه يؤدي إلى قطع الشركة في الربح، وهذا مخالف لحكم المضاربة، أو إلى التزام المضارب بدفع مبلغ من ماله الخاص لرب المال. وهذا من باب أكل أموال الناس بالباطل. ثم إذا فسدت المضاربة بالشرط الذي ذكرته آنفا وهو الموجود في عقد التأمين، وربحت التجارة، كان الربح كله لرب المال. وأما المضارب فاء على رب المال أجر مثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 عمله بالغا ما بلغ، على رواية الاصل لمحمد (رحمه الله) لانه انقلب أجيرا بفساد المضاربة وخرج عن كونه شريكا. وعلى قول أبي يوسف المفتى به يكون للعامل أجر مثل (1) عمله دون أن يتجاوز المتفق عليه في العقد. وذلك لان المضاربة إذا كانت صحيحة لم يكن للعامل إلا المتفق عليه مع الربح. فإذا فسد العقد فلا ينبغي أن يستفيد المضارب من العقد الفاسد أكثر مما يستفيده من العقد الصحيح. وقول محمد في الاصل هو القياس. وقول أبي يوسف استحسان، للمعنى الذي قلنا. هـ ذه هي المضاربة الشرعية، وهذه هي أحكامها ... فهل يندرج عقد التأمين تحت المضاربة الصحيحة؟. الجواب: لا. وإذن هو يندرج تحت المضاربة الفاسدة. وحكمها شرعا هو ما أسمعتك هنا، وهو مخالف لحكم عقد التأمين قانونا. ولا يمكن أن يقال إن الشركة تتبرع للمؤمن بما   (1) أجر المثل: هو الاجر الذي قدره أهل الحبرة المنزهين عن الهوى والتحيز، ويكون اختيارهم بموافقة المتعاقدين أو باختيار الحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 التزمته. لان طبيعة عقد التأمين قانونا أنه من عقود المعاوضة الاحتمالية. وإذا قيل إن ما يدفعه المؤمن للشركة يعتبر قرضا يسترده مع أرباحه إذا كان حيا، فهذا قرض جر نفعا. وهو حرام. وهذا هو الربا المنهي عنه. وبالجملة فالموضوع على أي وجه قلبته وجدته لا ينطبق على عقد يصححه الشرع الاسلامي. وهذا الذي قدمناه هو فيما إذا بقي المؤمن على حياته حيا بعد توفيته ما التزمه على نفسه من الاقساط، أما إذا مات قبل إيفاء جميع الاقساط، وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغا عظيما جدا، لان مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد على ما هو معلوم، فإذا أدت الشركة المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته، ففي مقابل أي شئ دفعت الشركة هذا المبلغ؟. أليست هذه مخاطرة ومغامرة؟ وإذا لم يكن هذا من صميم المغامرة، ففي أي شئ المغامرة إذن ... ؟ وهل يتصور أن يجيز شرع يحرم أكل أموال الناس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 بالباطل أن يكون موت شخص مصدرا لان يجني ورثته أو من يقوم مقامه بعد موته ربحا اتفق عليه قبل موته مع آخر مجازف يؤديه بعد موت الاول إلى هؤلاء؟ مع العلم بأنه يجوز الاتفاق على أي مبلغ، بالغا قدره ما بلغ؟ ومتى كانت حياة الانسان وموته محلا للتجارة، ومن الاشياء التي تقوم بالمال غير الواقف مقداره عند أي حد، بل يوكل ذلك إلى تقدير العاقدين؟ على أن المغامرة حاصلة أيضا من ناحية أخرى. فإن المؤمن له، بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الاقساط يكون له كذا. وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا. أليس هذا قمارا ومخاطرة؟ حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الامرين على التعيين ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 لصلح: تعريفه: الصلح في اللغة: قطع المنازعة. وفي الشرع: عقد ينهي الخصومة بين المتخاصمين. ويسمى كل واحد من المتعاقدين مصالحا. ويسمى الحق المتنازع فيه، مصالحا عنه. وما يسمى يؤديه أحدهما لخصمه قطعا للنزاع: مصالحا عليه أو بدل الصلح. مشروعيته : والصلح مشروع بالكتاب والسنة والاجماع من أجل أن يحل الوفاق محل الشقاق، ولكي يقضي على البغضاء بين المتنازعين. ففي الكتاب يقول الله سبحانه وتعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (1) ". وفي السنة يروي أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حيان عن عمرو بن عوف أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ". وزاد الترمذي: " والمسلمون على شروطه م " ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال عمر،، رضي الله عنه: " ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن ". وقد أجمع المسلمون على مشروعية الصلح بين الخصوم. أركانه : وأركان الصلح: الايجاب والقبول بكل لفظ ينبئ عن المصالحة، كأن يقول المدعى عليه:   (1) سورة الحجرات الاية رقم 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 " صالحتك على المائة التي لك عندي على خمسين ". ويقول الاخر: " قبلت ". ونحو ذلك. ومتى تم الصلح أصبح عقدا لازما للمتعاقدين، فلا يصح لاحدهما أن يستقل بفسخه بدون رضا الاخر، وبمقتضى العقد يملك المدعي بدل الصلح ولا يملك المدعى عليه استرداده وتسقط دعوى المدعي فلا تسمع منه مرة أخرى. شروطه : من شروط الصلح ما يرجع إلى المصالح، ومنها ما يرجع إلى المصالح به، ومنها ما يرجع إلى المصالح عنه. شروط المصالح : يشترط في المصالح أن يكون ممن يصح تبرعه، فلو كان المصالح ممن لا يصح تبرعه مثل: المجنون أو الصبي أو ولي اليتيم أو ناظر الوقف، فإن صلحه لا يصح لانه تبرع، وهم لا يملكونه. ويصح صلح الصبي المميز وولي اليتيم وناظر الوقف إذا كان فيه نفع للصبي أو لليتيم أو للوقف، مثل أن يكون هناك دين على آخر وليس ثمة أدلة على ثبوت هذا الدين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 فيصالح المدين على أخذ بعض دينه وترك البعض الاخر. شروط المصالح به : 1 - أن يكون مالا متقوما مقدور التسليم، أو يكون منفعة. 2 - أن يكون معلوما علما نافيا للجهالة الفاحشة المؤدية إلى النزاع إن كان يحتاج إلى التسلم والتسليم. قال الاحناف: فإن كان لا يحتاج إلى التسليم والتسلم فإنه لا يشترط العلم به، كما إذا ادعى كل من رجلين على صاحبه شيئا، ثم تصالحا على أن يجعل كل منهما حقه بدل صلح عما للاخر. ورجح الشوكاني جواز الصلح بالمجهول عن المعلوم. فعن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: " جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فإ مواريث بينهما قد درست (1) ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر (2)   (1) درست: أي قدم عليها العهد حتى ذهبت معالمها. (2) بشر: يطلق على الواحد وعلى الجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 ولعل بعضكم ألحن (1) بحجته من بعض. وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطاما (2) في عنقه يوم القيامة. فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لاخي. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا (3) الحق. ثم استهما (4) ثم ليحلل (5) كل واحد منكما صاحبه ". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وفي رواية لابي داود: " وإنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه ". قال الشوكاني: وفيه دليل على أنه يصح الابراء عن المجهول، لان   (1) ألحن: أبلغ. (2) إسطاما: الحديدة التي تحرك بها النار. (3) توخيا: اقصدا. (4) استهما: أي ليأخذ كل واحد منكما ما تخرجه القرعة بعد القسمة. (5) ثم ليحلل: أي ليسأل كل واحد صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الذي في ذمة كل واحد ههنا غير معلوم. وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن المجهول. ولكن لا بد مع ذلك من التحليل (1) . وحكي في البحر عن الناصر والشافعي أنه لا يصح الصلح بمعلوم عن مجهول. انتهى. شروط المصالح عنه " الحق المتنازع فيه " : ويشترط في المصالح عنه الشروط الاتية: 1 - أن يكون مالا متقوما أو يكون منفعة، ولا يشترط العلم به لانه لا يحتاج فيه إلى التسليم. " فعن جابر أن أباه قتل يوم أحد شهيدا وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال: فأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألهم أن يقبلوا ثمرة حائطي (2) ويحلوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم النبي، صلى الله عليه وسلم حائطي، وقال: سنغدو عليك، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة. فجذذتها (3) فقضيتهم وبقي لنا من ثمرها ".   (1) أي بشرط أن يحل كل من المتصالحين صاحبه. (2) الحائط: البستان. (3) قطعتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 وفي لفظ " أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود. فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم اليهودي ليأخذ ثمرة نخله بالذي له فأبى، فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جذ له فأوف له الذي له، فجذه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت سبعة عشر وسقا " رواه البخاري. قال الشوكاني: وفيه جواز الصلح عن معلوم بمجهول. 2 - أن يكون حقا من حقوق العباد يجوز الاعتياض عنه ولو كان غير مال كالقصاص. أما حقوق الله فلا صلح عنها. فلو صالح الزاني أو السارق أو شارب الخمر من أمسكه ليرفع أمر إلى الحاكم على مال ليطلق سراحه فإن الصلح لا يجوز، لانه لا يصح أخذ العوض في مقابلته. ويعتبر أخذ العوض في هذه الحال رشوة. وكذلك لا يصح الصلح عن حد القذف لانه شرع للزجر وردع الناس عن الوقوع في الاعراض، فهو وإن كان فيه حق للعبد ولكن حق الله فيه أغلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 ولو صالح الشاهد على مال ليكتم الشهادة عليه بحق لله تعالى أو بحق لادمي فإن الصلح غير صحيح لحرمة كتمان الشهادة. قال تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (1) . وقال، جل شأنه: " وأقيموا الشهادة لله " (2) . ولا يصح الصلح على ترك الشفعة. كما إذا صالح المشتري الشفيع على شئ ليترك الشفعة فالصلح باطل، لان الشفعة شرعت لازالة ضرر الشركة ولم تشرع من أجل استفادة المال، وكذلك لا يصح الصلح على دعوى الزوجية. أقسام الصلح : الصلح إما أن يكون صلحا عن إقرار، أو صلحا عن إنكار، أو صلحا عن سكوت. الصلح عن إقرار : والصلح عن إقرار: هو أن يدعي إنسان على غيره دينا أو عينا أو منفعة فيقر المدعى عليه بالدعوى ثم يتصالحا   (1) سورة البقرة الاية رقم 283. (2) سورة الطلاق الاية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 على أن يأخذ المدعي من المدعى عليه شيئا لان الانسان لا يمنع من إسقاط حقه أو بعضه. قال أحمد رضي الله عنه، ولو شفع فيه شافع لم يأثم، لان النبي، صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر. وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر. يشير الامام أحمد إلى ما رواه النسائي وغيره عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما وكشف سجف حجرته فنادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دينك هذا. وأومأ إلى الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال: قم فاقضه ". ثم إن المدعى عليه إن اعترف بنقد وصالح على نقد فإن هذا يعتبر صرفا ويعتبر فيه شروطه، وإن اعترف بنقد وصالح على عروض أو بالعكس فهذا بيع يثبت فيه أحكامه كلها. وإن اعترف بنقد أو عرض وصالح على منفعة كسكنى دار وخدمة فهذه إجارة تثبت فيها أحكامها، وإذا استحق المصالح عنه، الحق المتنازع فيه، كان من حق المدعى عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 أن يسترد بدل الصلح لانه ما دفعه إلا ليسلم له ما في يده. وإذا استحق البدل رجع المدعي على المدعى عليه لانه ما ترك المدعى إلا ليسلم له البدل. الصلح عن إنكار : والصلح عن إنكار: هو أن يدعي شخص على آخر عينا أو دينا أو منفعة فينكر ما ادعاه ثم يتصالحا. الصلح عن سكوت : والصلح عن سكوت: هو أن يدعي شخص على آخر ما ذكر فيسكت المدعى عليه، فلا يقر ولا ينكر. حكم الصلح عن إنكار وسكوت: وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى جواز الصلح عن الانكار والسكوت. وقال الامام الشافعي وابن حزم: لا يجوز إلا الصلح عن إقرار. لان الصلح يستدعي حقا ثابتا ولم يوجد في حال الانكار والسكوت. أما في حال الانكار فلان الحق لا يثبت إلا بالدعوى وهي معارضة بالانكار، ومع التعارض لا يثبت الحق. وأما في حال السكوت فلان الساكت يعتبر منكرا حكما حتى تسمع عليه البينة. وبذل كل منهما المال لدفع الخصومة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 غير صحيح. لان الخصومة باطلة، فيكون البذل في معنى الرشوة، وهي ممنوعة شرعا لقول الله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون " (1) . وقد توسط بعض العلماء فلم يمنعه بإطلاق ولم يبحه بإطلاق. فقال: والاولى أن يقال: إن كان المدعي يعلم أن له حقا عند خصمه جاز له قبض ما صولح عليه. وإن كان خصمه منكرا وإن كان يدعي باطلا فإنه يحرم عليه الدعوى، وأخذ ما صولح به. والمدعى عليه إن كان عنده حق يعلمه، وإنما ينكر لغرض وجب عليه تسليم ما صولح عليه. وإن كان يعلم أنه ليس عنده حق جاز له إعطاء جزء من ماله في دفع شجار غريمه وأذيته. وحرم على المدعي أخذه. وبهذا تجتمع الادلة: فلا يقال الصلح على الانكار لا يصح، ولا أنه يصح على الاطلاق. بل يفصل فيه (2) .   (1) سورة البقرة الآية رقم 188. (2) من كتاب " فتح العلام شرح بلوغ المرام " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 والذين أجازوا الصلح عن إنكار أو سكوت قالوا: إن حكمه يكون في حق المدعي معاوضة عن حقه. وفي حق المدعى عليه افتداء ليمينه وقطعا للخصومة عن نفسه. ويترتب على هذا أن بدل الصلح إذا كان عينا كان في معنى البيع، فتجري عليه جميع أحكامه. وإن كان منفعة كان في معنى الاجارة فتجري عليه أحكامها. وأما المصالح عنه فإنه لا يكون كذلك لانه في مقابلة انقطاع الخصومة وليس عوضا عن مال، ومتى استحق بدل الصلح رجع المدعي بالخصومة على المدعى عليه، لانه لم يترك الدعوى إلا ليسلم له البدل. ومتى استحق المصالح عنه رجع المدعى عليه على المدعي لانه لم يدفع البدل إلا ليسلم له المدعى، فإذا استحق لم يتم مقصوده، فيرجع على المدعي. الصلح عن دين المؤجل ببعضه حالا ً: ولو صالح عن الدين المؤجل ببعضه حالا لم يصح عند الحنابلة وابن حزم. قال ابن حزم في المحلي: " ولا يجوز في الصلح الذي يكون فيه إبراء من البعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 شرط تأجيل أصلا، لانه شرط ليس في كتاب الله. فهو باطل. ولكنه يكون حالا في الذمة ينظره به ما شاء بلا شرط، لانه فعل خير ". وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس، وابن سيرين والنخعي: أنه لا باس به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 بسم الله الرحمن الرحيم القضاء : العدل هو الغاية من رسالات الله: إن العدل قيمة من القيم الاسلامية العليا. ذلك أن إقامة الحق والعدل هي التي تشيع الطمأنينة، وتنشر الامن، وتشد علاقات الافراد بعضهم ببعض، وتقوي الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتنمي الثروة، وتزيد في الرخاء، وتدعم الاوضاع، فلا تتعرض لخلخلة أو اضطراب، ويمضي كل من الحاكم والمحكوم إلى غايته في العمل، والانتاج، وخدمة البلاد، دون أن يقف في طريقه ما يعطل نشاطه، أو يعوقه عن النهوض. وإنما يتحقق العدل بإيصال كل حق إلى مستحقه والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام ويتجنب الهوى بالقسمة بين الناس بالسوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وما كانت مهمة رسل الله إلا القيام بهذا الامر وانفاذه. وما كانت وظيفة أتباع الرسل إلا السير على هذا النهج كي تبقى النبوة تمد الناس بظلها الظليل " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " (1) . القضاء (2) في الاسلام: ومن أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط وتحفظ الحقوق وتصان الدماء والاعراض والاموال هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الاسلام وجعله جزءا من تعاليمه وركيزة من ركائزه التي لابد منها ولاغنى عنها. وكان أول من تولى هذه الوظيفة في الاسلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء في المعاهدة التي تمت بعد الهجرة بين المسلمين واليهود وغيرهم: " إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ".   (1) سورة الحديد الاية رقم 24. (2) القضاء في اللغة: إتمام الشئ قولا وفعلا. وفي الشرع: الفصل بين الناس في الخصومات حسما للخلاف وقطعا للنزاع بمقتضى الاحكام التي شرعها الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وقد أمره الله عز وجل أن يحكم بما أنزل فقال: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما " ... الخ (1) . وتولى قضاء مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد كما تولى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قضاء اليمن. روى أهل السنن وغيرهم أن عليا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا قال: يارسول الله، بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: " اللهم أهده وثبت لسانه ". قال علي: فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين ". وعن علي كرم الله وجهه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الاخر، كما سمعت من الاول فإنك إذا   (1) سورة النساء الايات من 105 - 113 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 فعلت ذلك تبين لك القضاء " (1) فيم يكون القضاء: والقضاء يكون في جميع الحقوق سواء أكانت حقوقا لله أم حقوقا للادميين. وقد أفاد ابن خلدون " أن منصب القضاء استقر آخر الامر على أن يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أحوال المحجور عليهم من المجانين واليتام والمفلسين وأهل السفه. وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الايامى عند فقد أوليائهن على رأي من يراه. والنظر في مصالح الطرقات والابنية وتصفح الشهود والامناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجراح ليحصل له الوثوق بهم. وصارت هذه كلها من متعلقات وظيفته وتوابع ولايته " ا. هـ. منزلة القضاء : والقضاء فرض كفاية لدفع التظالم وفصل التخاصم ويجب على الحاكم أن ينصب للناس قاضيا ومن أبي أجبره عليه. وإذا كان الانسان في جهة لا يصلح للقضاء غيره تعين   (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 عليه ووجب عليه الدخول فيه. وقد رغب الاسلام في الحكم بين الناس بالحق وجعله من الغبطة: روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لاحسد (1) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ". ووعد القاضي العادل بالجنة: فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار " (2) . وعن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان " (3) .   (1) المقصود بالحسد هنا الغبطة. وهي أن يتمى الانسان أن يكون له مثل ما لغيره. (2) رواه أبو داود (3) رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 أما ما جاء من الاحاديث في التحذير من الدخول في القضاء مثل ما رواه سعيد المغبري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين " (1) . (أي فقد تعرض لذبح نفسه وإهلاكها بتوليه القضاء) . فإنها ترجع إلى الاشخاص الذين لاعلم لهم بالحق ولا قدرة لهم على الصدع به ولا يتمكنون من ضبط أنفسهم ولا كبح جماحها ومنعها من الميل إلى الهوى. والذي يرشد إلى هذا حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف. وإنها أمانة (2) وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها " (3) . وعن أبي موسى الاشعري قال: دخلت على النبي   (1) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن غريب من هذا الوجه. (2) أي أنها تكليف شاق يستلزم القيام بحقوق الناس على الوجه الذي يحقق كل مطالبهم. (3) رواه مسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عزوجل. وقال الاخر مثل ذلك فقال: إنا والله لانولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه ". وعن أنس (1) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " (2) . والخوف من العجز عن القيام بالقضاء على الوجه الاكمل هو السبب في امتناع بعض الائمة عن الدخول في القضاء. ومن طريف ما يروى في هذا: أن حياة بن شريح دعي إلى أن يتولى قضاء مصر. فلما عرض عليه الامير امتنع فدعا له بالسيف. فلما رأى ذلك أخرج مفتاحا كان معه وقال: هذا مفتاح بيتي ولقد اشتقت إلى لقاء ربي. فلما رأى الامير عزيمته تركه. من يصلح للقضاء : ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالما بالكتاب   (1) رواه الترمذي وأبو داود. (2) أي يرشده إلى الحق والصواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 والسنة فقيها في دين الله قادرا على التفرقة بين الصواب والخطأ. بريئا من الجور بعيدا عن الهوى. وقد اشترط الفقهاء في القاضي أن يبلغ درجة الاجتهاد (1) فيكون عالما بآيات الاحكام وأحاديثها، عالما بأقوال السلف ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، عالما باللغة وعالما بالقياس، وأن يكون مكلفا ذكرا عدلا سميعا بصيرا ناطقا. وهذه الشروط تعتبر حسب الامكان ويجب تولية الامثل فالامثل. فلا يصح قضاء المقلد ولا الكافر ولا الصغير ولا المجنون ولا الفاسق ولا المرأة (2) لحديث أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: " لن يفلح   (1) هذا هو الذي ذهب إليه الشافعي وهو قول عند المالكية والقول الاخر أنه مستحب. ولم يشترط أبو حنيفة هذا الشرط. (2) جوز أبو حنيفة للمرأة أن تكون قاضية في الاموال. وقال الطبري: يجوز للمرأة أن تكون قاضيا في كل شئ. قال في نيل الاوطار - قال في الفتح: " وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي الا عند الحنفية. واستثنوا الحدود. وأطلق ابن جرير. ويؤيد ما قاله الجمهور أن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي ورأي المرأة ناقص ولاسيما في محافل الرجال " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 قوم ولوا أمرهم امرأة " (1) . وقد اشترط الفقهاء أيضا مع هذه الشروط تولية الحاكم للقاضي فانها شرط في صحة قضائه وهذا بخلاف المتداعيين إذا ارتضيا حكما يقضي بينهما ممن ليس له ولاية القضاء، فقد أجازه مالك وأحمد (2) ولم يجوزه أبو حنيفة إلا بشرط أن يوافق حكمه حكم قاضي البلد. وقد ذكر الله لنا المثل الاعلى في القضاء فقال جل شأنه: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " (3) وإذا كان هذا الخطاب موجها إلى داود عليه السلام فهو في الواقع موجه إلى ولاة الامور لان الله لم يذكر ذلك إلا ليبين لنا المثل الاعلى في   (1) رواه احمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه. (2) ومتى رضي المتداعيان حكمه وحكماه ثم حكم لزمهما حكمه ولا يعتبر رضاهما بالحكم ولايجوز للحاكم نقضه. وللشافعي قولان: أحدهما يلزمه حكمه. والثاني لا يلزم إلا بتراضيهما بل يكون ذلك كالفتوى. وهذا التحكيم في قضايا الاموال. أما الحدود واللعان والنكاح فلا يجوز فيها التحكيم بالاجماع. (3) سورة ص آية 26 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الحكم وأن داود وهو نبي معصوم يخاطبه الله بقوله: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ". فإذا كان النبي وهو معصوم يخشى عليه من اتباع الهوى فأولى بأن يخشى على غيره من غير المعصومين. وعن أبي بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " (1) . ومع الكتاب والسنة كان بعض القضاة يرجع في قضائه إلى أقوال الائمة واختيار الرأي القوي الذي يتفق مع الحق بعد انتهاء عصر الاجتهاد. ذكر محمد بن يوسف الكندي ان ابراهيم بن الجراح تولى القضاء في سنة 204. وقد قال عمربن خالد: ما صحبت أحدا من القضاة كابراهيم بن الجراح. كنت إذا عملت له المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه، فإذا أراد أن يقضي به دفعه إلي لانشى   (1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 منه سجلا فأجد في ظهره: قال أبو حنيفة كذا. وفي سطر: قال ابن أبي ليلى كذا. وفي سطر آخر: قال أبو يوسف وقال مالك كذا. ثم أجد على سطر منها علامة كالخط فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ السجل عليه. وقد رأى بعض العلماء إلزام القضاة بالقضاء بمذهب معين منعا للاضطراب وبلبلة الافكار. قال الدهلوي: إن بعض القضاة لما جاروا في أحكامهم صار أولياء الامور يلزمون القضاة بأن يحكموا بمذهب معين لا يعدونه، ولم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة وتكون شيئا قد قيل من قبل. قضاء من ليس بأهل للقضاء: قال العلماء: كل من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فهو آثم ولا ينفذ حكمه وسواء وافق الحق أم لا، لان اصابة الحق اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا. وأحكامه مردودة كلها. ولا يعذر في شئ من ذلك. النهج القضائي: وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الذي ينبغي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 أن يسلكه القاضي في قضائه لما بعث معاذا إلى اليمن فقال له: " بم تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبرأيي " (1) . وعلى القاضي أن يتحرى الحق فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يشوش فكره فلا يقضي أثناء الغضب الشديد أو الجوع المفرط أوالهم المقلق أو الخوف المزعج أو النعاس الغالب أو الحر الشديد أو البرد الشديد أو شغل القلب شغلا يصرف عن المعرفة الصحيحة والفهم الدقيق. ففي حديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ". فإذا حكم القاضي أثناء حالة من هذه الحالات صح حكمه إن وافق الحق عند جمهور الفقهاء. المجتهد مأجور : ومهما اجتهد القاضي في معرفة الحق وإصابة الصواب فهو مأجور ولو لم يصب الحق. فعن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وان اجتهد   (1) رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فأخطأ فله أجر " (1) . قال الخطابي: إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لان اجتهاده عبادة. ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الاثم فقط. وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعا لالة الاجتهاد عارفا بالاصول وبوجوه القياس. وأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " (2) . وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحدهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك.   (1) رواه البخاري ومسلم. (2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وقالت الاخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود فقضى للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى ". وهذا من فقه سليمان. فقد عمد إلى هذا الاسلوب لمعرفة الام الحقيقية فلما قال: ائتوني بالسكين أشقه، تحركت عاطفة الام الحقيقية ورفضت أن يقتل ابنها وآثرت أن يبقى حيا بعيدا عنها على قتله. فاستدل سليمان بهذه القرينة على أنه ابنها. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة داود وسليمان فقال جل شأنه: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما ... " (1) . ذكر المفسرون: أن الغنم انتشرت في الزرع فأفسدته، وأن أصحاب الزرع اختصموا معهم فرفعت القضية إلى داود ليحكم فيها فحكم داود بالغنم لاصحاب الزرع.   (1) سورة الانبياء الاية رقم 78 - 79 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 فخرجا من عنده ومرا بسليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بما هو أرفق بالفريقين. فبلغ ذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرقه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك. ا لواجب على القاضي : وعلى القاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء (1) : 1 - في الدخول عليه 2 - والجلوس بين يديه 3 - والاقبال عليهما 4 - والاستماع لهما 5 - والحكم عليهما والمطلوب منه التسوية بينهما في الافعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته   (1) نقل الرازي عن الشافعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 على الاخر فلا شئ عليه، لانه لا يمكنه التحرز عنه. ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته، لان ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعى عليه الانكار والاقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أولا يشهدوا، ولا أن يضيف أحد الخصمين دون الاخر، لان ذلك يكسر قلب الاخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه، ولا يقبل الهدية من أحد إلا إذا كانت ممن جرت عادته بأن يهديه قبل تولي منصب القضاء، فإن الهدية إلى القاضي ممن لم تجر عادته بإهدائه تعتبر من الرشوة. عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول " (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: " لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم " (2) .   (1) رواه أبو داود. (2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 قال الخطابي: وانما يلحقهما العقوبة معا إذا استويا في القصد والارادة، فرشا المعطي لينال به باطلا ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلما فإنه غير داخل في هذا الوعيد. روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابربن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وكذلك الاخذ انما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه أداؤه، فلا يفعل ذلك حتى يرشى. أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشى. ا. هـ قال في فتح العلام: " وحاصل ما يأخذه القضاة من الاموال على أربعة أقسام: رشوة، وهدية، وأجرة، ورزق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 فالاول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الاخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي. لانها لاستيفاء حقه، فهي كجعل الابق وأجرة الوكالة على الخصومة. وقيل: تحرم لانها توقع الحاكم في الاثم. وأما الهدية وهي الثاني: فإن كان ممن يهاديه قبل الولاية فلا يحرم استدامتها. وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية: فان كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده، جازت وكرهت. وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي. وأما الاجرة وهي الثالث: فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق منه حرمت بالاتفاق، لانه إنما أجري له الرزق لاجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للاجرة. وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الاجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه. لانه إنما يعطى الاجرة لكونه عمل عملالا لاجل كونه حاكما. فأخذه لما زاد على أجر مثله غير حاكم إنما أخذها لافي مقابلة شئ بل في مقابلة كونه حاكما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 ولا استحق لاجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس اتفاقا. فأجرة العمل أجرة مثله، فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام. ولذا قيل إن تولية القضاء من كان غنيا أولى من توليته من كان فقيرا. وذلك لانه لفقره يصير متعرضا لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال " ا. هـ. رسالة عمربن الخطاب في القضاء : ولقد وضع عمربن الخطاب الدستور المحكم للقضاء في الرسالة التي أرسلها إلى أبي موسى الاشعري نذكرها فيما يلي. بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمربن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له، آس (1) بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى   (1) آس بين الناس: سوبينهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 لا يطمع شريف في حيفك (1) ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا. لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق. فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج (2) في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الاشباه والامثال فقس الامور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا (3) في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ (4) بالبينات والايمان، وإياك والقلق والضجر (5)   (1) حيفك: أي ميلك معه لشرفه. (2) تلجلج: تردد. (3) ظنين: متهم. (4) درأ: دفع. (5) القلق والضجر: ضيق الصدر وقلة الصبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فان الحق في مواطن الحق يعظم الله به الاجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق (1) للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام. شفاعة القاضي : وللقاضي أن يشفع الشفاعة الحسنة فيطلب من الخصوم أن يصطلحوا أو يتنازل أحدهم عن بعض حقه. عن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف (2) حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال،: لبيك يارسول الله، فأشار له بيده، أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال   (1) تخلق الناس: أظهر لهم في خلقه خلاف نيته. (2) ستر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه " (1) . نفاذ الحكم ظاهرا: حكم القاضي لا يحل حلالا ولا يحرم حراما لحديث السيدة أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار " (2) . وقد حكى الشافعي الاجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام. فإذا ادعى إنسان على آخر حقا وأقام الشهود على ذلك وحكم القاضي للمدعي فإنه يحل له أن يأخذ هذا الحق متى كانت البينة بينة صادقة. فإذا كانت البينة التي أقامها المدعي كاذبة كأن كان الشهود شهود زور فحكم له بمقتضى هذه الشهادة فإن الحكم لا يغير الواقع ولا يبيح للمدعي أن يأخذ الحق المدعى لانه على ملك صاحبه.   (1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. (2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 ولم يختلف أحد من الفقهاء في هذا، إلا أن أبا حنيفة قال: إن القضاء في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا..فإذا شهد شاهد زور عند القاضي على طلاق امرأة فحكم القاضي بالطلاق طلقت من زوجها بقضائه، وجاز لها أن تتزوج من آخر. كما يجوز أن يتزوجها من شهد بطلاقها زورا. وكذلك لو شهد شهادة زور على أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة فحكم القاضي بمقتضى هذه الشهادة فإنها تحل له بمقتضى هذا الحكم. وما ذهب إليه أبو حنيفة من التفرقة بين قضايا الدماء والاملاك وقضايا العقود والفسوخ غير صحيح لانه لافرق بين هذا وذاك. وخالفه في ذلك أصحابه. القضاء على الغائب الذي لا وكيل له : يجوز للمدعي أن يدعي على الغائب الذي لا وكيل له. ويجوز للحاكم أن يحكم عليه متى ثبتت الدعوى. ودليل ذلك: 1 - أن الله سبحانه وتعالى يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 " فاحكم بين الناس بالحق " (1) والذي ثبت بالبينة حق فيجب الحكم به. 2 - ذكرت هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان رجل شحيح هل لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". وهذا قضاء على غائب. 3 - وروى مالك في الموطا أن عمر قال: من كان له دين فليأتنا غدا فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه. وكان الشخص الذي قضى عليه ببيع ماله غائبا. 4 - ولان الامتناع عن القضاء عليه اضاعة الحقوق إذ لا يعجز الممتنع عن الوفاء من الغيبة، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وقالوا: ان الغائب لا يفوت عليه حق فانه إذا حضر كانت حجته قائمة وتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدى إلى نقض الحكم لانه في حكم المشروط. وقال شريح وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى   (1) سورة " ص " الاية رقم 26 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 وأبو حنيفة: إن القاضي لا يقضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه كوكيل أو وصي لانه يمكن أن يكون معه حجة تبطل دعوى المدعي، ولان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي في الحديث المتقدم: " يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الاخر كما سمعت من الاول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " (1) . قال الخطابي: وقد حكم أصحاب الرأي على الغائب في مواضع: منها الحكم على الميت والطفل. وقالوا: في الرجل يودع وديعة ثم يغيب فإذا ادعت امرأته النفقة وقدمت المودع إلى الحاكم قضى لها عليه بها. وقالوا: إذا ادعى الشفيع على الغائب أنه باع عقاره وسلم واستوفى الثمن فإنه يقضي له بالشفعة. وكل هذا حكم على الغائب. القضاء بين الذميين : وإذا تحاكم الذميون إلى قضاة المسلمين جازذلك.   (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 ويقضى بينهم بما أنزل الله وبما يقضى به بين المسلمين. يقول الله تعالى: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (1) . هل لصاحب الحق أن يأخذه من المماطل بدون تقاض: قالت الشافعية: من لهعند شخص حق وليس له بينة، وهو منكر، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن قدر ولا يأخذ غير الجنس مع قدرته على الجنس. قالوا: فإن لم يجد إلا غير الجنس جاز له الاخذ. ولو أمكن تحصيل الحق بالقاضي، بأن كان من عليه الحق مقرا مماطلا أو منكرا وعليه البينة، أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض عليه اليمين فهل يستقل بالاخذ أم يجب الرفع إلى القاضي؟ فيه خلاف. الراجح جواز الاخذ ويشهد له قضية هند زوجة   (1) سورة المائدة الاية رقم 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 أبي سفيان. ولان في المرافعة مشقة ومؤونة وتضييع زمان. قالوا: ثم متى جاز له الاخذ فلم يصل إلى حقه إلا بكسر الباب وثقب الجدار جاز له ذلك ولا يضمن مما أتلف كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن. وما ذهبوا إليه لا يتنافى مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " قال الخطابي: " وذلك لان الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخذه ظلما وعدوانا. فأما من كان مأذونا له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه، فليس بخائن، وإنما معناه: لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته، وهذا لم يخنه، لانه يقبض حقا لنفسه، والاول يغتصب حقا لغيره " ا. هـ. ظهور حكم جديد القاضي : إذا حكم القاضي في قضية باجتهاده ثم ظهر له حكم آخر يخالف الحكم الاول فإنه لا ينقضه وكذلك إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 رفع إليه حكم قاض آخر فلم يره فإنه لا ينقضه وأصل ذلك ما رواه عبد الرزاق في قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لابيها وأمها وأخويها لامها فأشرك عمر بين الاخوة للام والاب والاخوة للام في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم. قال ابن القيم: فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق. نماذج من القضاء في صدر الإسلام : أخرج أبو نعيم في الحلية قال: وجد علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - درعا له عند يهودي التقطها فعرفها فقال: درعي سقطت عن جمل له أورق. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. ثم قال اليهودي بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحا. فلما رأى عليا قد أقبل تحرف عن موضعه. وجلس علي فيه. ثم قال علي: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساووهم في المجلس، وساق الحديث. قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين. قال درعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 سقطت عن جمل لي أورق فالتقطها هذا اليهودي. قال شريح: ما تقول يايهوي. قال: درعي وفي يدي. قال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك ولكن لا بد من شاهدين. فدعا قنبر والحسن بن علي وشهدا أنها درعه. فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها. فقال علي: ثكلتك أمك، أما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". قال: اللهم نعم. قال: أفلا تجيز شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ ثم قال اليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى لي ورضي. صدقت والله ياأمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فوهبها له علي. كرم الله وجهه. وأجازه بتسعمائة. وقتل معه يوم صفين " ا. هـ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 الدعاوى والبينات : تعريف الدعاوى: الدعاوى جمع دعوى وهي في اللغة الطلب، يقول الله سبحانه: " ولكم فيها ما تدعون " (1) أي تطلبون. وفي الشرع: هي إضافة الانسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته. والمدعي: هو الذي يطالب بالحق. وإذا سكت عن المطالبة ترك. والمدعى عليه: هو المطالب بالحق. وإذا سكت لم يترك. ممن تصح الدعوى : والدعوى لا تصح إلا من الحر العاقل البالغ الرشيد. فالعبد والمجنون والمعتوه والصبي والسفيه لا تقبل دعواهم. وكما تجب هذه الشروط بالنسبة للمدعي فإنها تجب أيضا بالنسبة للمنكر للدعوى.   (1) سورة حم فصلت الاية رقم 31. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 لا دعوى إلا ببينة : ولا تثبت دعوى إلا بدليل يستبين به الحق ويظهر. فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ". رواه أحمد ومسلم. المدعي هو الذي يكلف بالدليل : والمدعي هو الذي يكلف بإقامة الدليل على صدق دعواه وصحتها، لان الاصل في المدعى عليه براءة ذمته. وعلى المدعي أن يثبت العكس. فقد روى البيهقي والطبراني بإسناد صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". اشتراط قطعية الدليل : ويشترط في الدليل أن يكون قطعيا لان الدليل الظني لا يفيد اليقين " وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " (1) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ترى الشمس؟ قال: نعم. قال:   (1) سورة النجم الاية رقم 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 على مثلها فاشهد أو دع " رواه الخلال في جامعه وابن عدي وهو ضعيف لان في إسناده محمد بن سليمان، ضعفه النسائي، وقال البيهقي لم يرد من وجه يعتمد عليه. طرق إثبات الدعوى : وطرق إثبات الدعوى هي: (1) الاقرار (2) الشهادة (3) اليمين (4) الوثائق الرسمية الثابتة. ولكل طرق من هذه الطرق أحكام نذكرها فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 الإقرار تعريفه: الاقرار في اللغة: الاثبات من قر الشئ يقر، وفي الشرع: الاعتراف بالمدعى به، وهو أقوى الادلة لاثبات دعوى المدعى عليه ولهذا يقولون: إنه سبد الادلة ويسمى بالشهادة على النفس. مشروعيته : أجمع العلماء على أن الاقرار مشروع بالكتاب والسنة، يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم " (1) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ". ويقول " صل من قطعتك. وأحسن إلى من أساء إليك. وقل الحق ولو على   (1) سورة النساء الاية رقم 135. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 نفسك ". (1) وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي، وإن قطعوني وجفوني. وأن أقول الحق وإن كان مرا، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل أحدا شيئا، وأن استكثر من " لا حول ولا قوة إلا بالله "، فإنها من كنوز الجنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي به في الدماء والحدود والاموال. شروط صحته : ويشترط لصحة الاقرار ما يأتي: العقل والبلوغ والرضا وجواز التصرف. وأن لا يكون المقر هازلا. وان لا يكون أقر بمحال عقلا أو عادة. فلا يصح إقرار المجنون ولا الصغير ولا المكره ولا المحجور عليه ولا الهازل ولا بما يحيله العقل أو العادة لان كذبه في هذه الاحوال معلوم ولا يحل الحكم بالكذب. الرجوع عن الإقرار : ومتى صح الاقرار كان ملزما للمقر ولا يصح له   (1) الجامع الصغير 5004. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 رجوعه عنه متى كان الاقرار متعلقا بحق من حقوق الناس. أما إذا كان الاقرار متعلقا بحق من حقوق الله كما في حد الزنا والخمر فإنه يصح فيه الرجوع: لقوله صلى الله عليه وسلم: " ادرأوا الحدود بالشبهات ". ولما تقدم في حديث ما عز في باب الحدود. وخالف الظاهرية ومنعوا صحة الرجوع عن الاقرار سواء أكان في حق من حقوق الله أو حق من حقوق العباد. الاقرار حجة قاصرة : والاقرار حجة قاصرة لا تتعدى غير المقر. فلو أقر على الغير فإن إقراره عليه لا يجوز بخلاف البينة فإنها حجة متعدية إلى الغير. فلو ادعى مدع على آخرين دينا وأقر به بعضهم وأنكر البعض الاخر فإن الاقرار لا يلزم إلا من أقر. ولو ادعى هذه الدعوى وأثبتها بالبينة فإنها تلزم الجميع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 الإقرار لا يتجزأ : الإقرار كلام واحد لا يؤخذ بعضه ويترك البعض الاخر. الإقرار بالدين : إذا أقر إنسان لاحد ورثته بدين فإن كان في مرض موته لا يصح لا ما لم يصدقه باقي الورثة، وذلك لان احتمال كون المريض قصد بهذا الاقرار حرمان الورثة مستندا إلى كونه في المرض، أما إذا كان الاقرار في حال الصحة فإنه جائز، واحتمال إرادة حرمان سائر الورثة حينئذ من حيث إنه احتمال مجرد ونوع من التوهم لا يمنع حجة الاقرار. وعند الشافعية أن إقرار الصحيح صحيح حيث. لا مانع لوجود شروط الصحة. أما إقرار المريض في مرض الموت فإن أقر لاجنبي فإقراره صحيح سواء أكان المقر به دينا أو عينا، وقيل هو محسوب من الثلث. وإن كان إقراره لوارث فالراجح عندهم صحة الاقرار لان المقر انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر، والظاهر في مثل هذه الحال أنه لا يقر إلا عن تحقيق ولا يقصد الحرمان. وفيه قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 آخر عندهم، وهو عدم الصحة، لانه قد يقصد حرمان بعض الورثة. وعندهم أنه إذا أقر في صحته بدين ثم أقر لاخر في مرضه، تقاسما، ولا يقدم الاول. وقال أحمد: لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية أن يجعلها إقرارا. على أن الاوزاعي وجماعة من العلماء أجازوا إقرار المريض بشئ من ماله للوارث، لان التهمة في حق المحتضر بعيدة، وأن مدار الاحكام على الظاهر، فلا يترك إقراره للظن المحتمل، فإن أمره إلى الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 الشهادة تعريفها: الشهادة مشتقة من المشاهدة، وهي المعاينة لان الشاهد يخبر عما شاهده وعاينه، ومعناها الاخبار عما علمه بلفظ أشهد أو شهدت. وقيل الشهادة مأخوذة من الاعلام من قوله تعالى: - شهد الله أنه لا إلا إلا هو " (1) أي علم. والشاهد حامل الشهادة ومؤديها لانه شاهد لما غاب عن غيره. لا شهادة إلا بعلم : ولا يحل لاحد أن يشهد إلا بعلم. والعلم يحصل بالرؤية أو بالسماع أو باستفاضة فيما يتعذر علمه غالبا بدونها والاستفاضة هي الشهرة التي تثمر الظن أو العلم.   (1) سورة آل عمران الاية رقم 18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 وتصح الشهادة بالاستفاضة عند الشافعية في النسب والولادة والموت والعتق والولاء والولاية والوقف والعزل والنكاح وتوابعه والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسفه والملك. وقال أبو حنيفة: تجوز في خمسة أشياء: النكاح والدخول والنسب والموت وولاية القضاء. وقال أحمد وبعض الشافعية: تصح في سبعة: النكاح والنسب والموت والعتق والولاء والوقف والملك المطلق. حكمها : وهي فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وخيف من ضياع الحق، بل تجب إذا خيف من ضياعه ولو لم يدع لها لقول الله تعالى: " ولا تكتموا الشهادة " (1) " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ". وقوله " وأقيموا الشهادة لله " (2) . وفي الحديث الصحيح:   (1) سورة البقرة الاية رقم 283. (2) سورة الطلاق الاية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " وفي أداء الشهادة نصره. وعن زيد بن خالد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بخير الشهداء؟ ... الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها! ". وإنما تجب متى قدر على أدائها بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله لقول الله تعالى: - " ولا يضار كاتب ولا شهيد " (1) . ومتى كثر الشهود ولم يخش على الحق ان يضيع كانت الشهادة في هذه الحالة مندوبة فإن تخلف عنها لغير عذر لم يأثم. ومتى تعينت فانه يحرم أخذ الاجرة عليها إلا إذا تأذى بالمشي فله أجر ما يركبه، أما إذا لم تتعين فإنه يجوز أخذ الاجرة. شروط قبول الشهادة : يشترط في قبول الشهادة الشروط الاتية: 1 - الاسلام: فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم إلا في الوصية أثناء السفر عند الامام أبي حنيفة فإنه جوزها في هذه الحال هو وشريح وإبراهيم النخعي وهو   (1) سورة البقرة الاية رقم 282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 قول الاوزاعي لقول الله تعالى: - " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين " (1) وكذلك أجاز الاحناف شهادة الكفار بعضهم على بعض لان النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزني. وعن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة وأتيا الاشعري - هو أبو موسى - فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته. فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) سورة المائدة الاية رقم 106، 107. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وانها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما. قال الخطابي فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة. وقال أحمد: لا تقبل شهادتهم الا في مثل هذا الموضوع للضرورة. ا.هـ وقال الشافعي ومالك: لا تجوز شهادة الكافر على المسلم لا في الوصية أثناء السفر ولا في غيرها. والاية منسوخة عندهم. شهادة الذمي للذمي: أما شهادة الذمي للذمي فهي موضع اختلاف عند الفقهاء. قال الشافعي ومالك: لا تقبل شهادة الذمي لا على مسلم ولا على كافر. قال أحمد: لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. وقال الاحناف: شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة. وقال الشعبي وابن أبي ليلى واسحاق: شهادة اليهودي على اليهودي جائزة - ولا تجوز على النصراني والمجوسي لانها ملل مختلفة. ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة اخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 2 - والعدالة: صفة زائدة عن الاسلام ويجب توافرها في الشهود بحيث يغلب خيرهم شرهم، ولم يجرب عليهم اعتياد الكذب لقول الله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله " (1) . وقوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " (2) . وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " (3) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود: لا تجوز شهادة خائن ولاخائنة ولازان ولازانية " فلا تقبل شهادة الفاسق ولا من اشتهر بالكذب أو بسوء الحال وفساد الاخلاق هذا هو المختار في معنى العدالة (4) .   (1) سورة الطلاق الآية رقم 2. (2) سورة البقرة الآية رقم 282. (3) سورة الحجرات الآية رقم 6. (4) وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الاسلام وألا تعلم منه ما يجرح شرفه وسمعته وهذا في الاموال دون الحدود. وأجاز في الزواج شهادة الفسقة وقال ينعقد بشهادة فاسقين. وبعض المالكية جوز القضاء بشهادة غير العدول للضرورة وشهادة من لا تعرف عدالته في الامور اليسيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 أما الفقهاء فقالوا: إنها مقيدة بالصلاح في الدين وبالاتصاف بالمروءة. أما الصلاح في الدين فيتم بأداء الفرائض والنوافل واجتناب المحرمات والمكروهات وعدم ارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة. أما المروءة فهي أن يفعل الانسان ما يزينه ويترك ما يشينه من الاقوال والافعال. وهل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب؟ اتفق الفقهاء على قبول شهادة الفاسق إذا تاب. إلا أن الامام أبا حنيفة قال: إذا كان فسقه بسبب القذف في حق الغير فإن شهادته لاتقبل، لقول الله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون " (1) . 3، 4 - البلوغ والعقل: ولما كانت العدالة شرطا في قبول الشهادة فإن البلوغ والعقل شرط في العدالة. فلا تقبل شهادة الصغير - ولو شهد على صبي مثله - ولا المجنون ولا المعتوه لان شهادتهم لا تفيد   سورة النور الآية رقم 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 اليقين الذي يحكم بمقتضاه. وأجاز الامام مالك شهادة الصبيان في الجراح ما لم يختلفوا ولم يتفرقوا كما أجازها عبد الله بن الزبير. وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا، وهذا هو الراجح. فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولاسيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطأوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الاداء واتفقت كلمتهم، فان الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده، فلا نظن بالشريعة الكاملة، الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك. 5 - الكلام: ولا بد أن يكون الشاهد قادرا على الكلام، فإذا كان أخرس لايستطيع النطق فان شهادته لاتقبل، ولو كان يعبر بالاشارة وفهمت اشارته إلا إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 كتب الشهادة بخطه، وهذا عند أبي حنيفة وأحمد والصحيح من مذهب الشافعي. 6 - الحفظ والضبط: فلا تقبل شهادة من عرف بسوء الحفظ وكثرة السهو والغلط لفقد الثقة بكلامه، ويلحق به المغفل ومن على شاكلته. 7 - نفي التهمة: ولاتقبل شهادة المتهم بسبب المحبة أو العداوة. وخالف في ذلك عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه وقالوا: تقبل شهادة الولد لوالده والوالد لولده ما دام كل منهما عدلا مقبول الشهادة: أفاده الشوكاني وابن رشد. فلا تقبل شهادة العدو على عدوه إذا كانت العداوة بينهما عداوة دنيوية لوجود التهمة. أما إذا كانت العداوة دينية فإنها لا توجب التهمة لان الدين ينهي عن شهادة الزور. فلا توجد التهمة في هذه الحالة. وكذلك لا تقبل شهادة الاصل كالولد يشهد الوالده وشهادة الفرع كالوالد يشهد لولده ولكن تجوز الشهادة عليهما. ومثل ذلك الام تشهد لابنها والابن يشهد لامه. والخادم الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 ينفق عليه صاحب البيت، فإن الشهادة في هذه الحال لا تقبل لوجود التهمة ولما روته السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاتقبل شهادة خائن ولا خائنة ولاذي غمر (1) على أخيه المسلم. ولا شهادة الولد لوالده ولا شهادة الوالد لولده ". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولاذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لاهل البيت. والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت "، رواه أحمد وأبو داود قال في التلخيص لابن حجر: وسنده قوي. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تقبل شهادة خصم على خصمه " اعتمد الشافعي هذا الخبر. قال الحافظ: ليس له إسناد صحيح لكن له   (1) صاحب الحقد: والعداوة تظهر في الاقوال أو الافعال ومن مظاهرها أن يفرح بما يصيب عدوه من ضير ويحزن لما يصيبه من خير ويتمنى له كل شر. وذكر الفقهاء من أسباب العداوة القذف والغضب والسرقة والقتل وقطع الطريق فلا تقبل شهادة المغضوب منه على الغاضب ولا شهادة المقذوف على القاذف ولا المسروق على السارق ولا ولي المقتول على القاتل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 طرق يتقوى بعضها ببعض. أفاده الشوكاني. ويدخل في هذا الباب شهادة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها لان الزوجية مظنة للتهمة إذ الغالب فيها المحاباة. وفي بعض روايات الحديث: " لاتقبل شهادة المرأة لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته ". وأخذ بهذا مالك وأحمد وأبو حنيفة. وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن. أما شهادة الاقرباء من غير هؤلاء كالاخ لاخيه فإنها تجوز. وما ورد في بعض الاحاديث من عدم صحة شهادة القريب لقريبه فقد قال الترمذي: لايعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده وكذلك تجوز شهادة الصديق لصديقه. وقال مالك: لاتقبل شهادة الاخ المنقطع إلى أخيه والصديق الملاطف. شهادة مجهول الحال : والظاهر أن شهادة مجهول الحال غير مقبولة. فقد شهد عند عمر رضي الله عنه رجل فقال له عمر: - لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 فقال رجل من القوم: أنا أعرفه. قال: بأي شئ تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل. قال: هو جارك الادنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فرافقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه. ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك. قال ابن كثير. رواه البغوي بإسناد حسن. شهادة البدوي : ذهب أحمد وجماعة من أصحابه وأبو عبيد وفي رواية عن مالك إلى عدم قبول شهادة البدوي على القروي لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 " لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ". روه أبو داود وابن ماجه. ورجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه. والبدوي هو ساكن البادية الذي يرتحل من مكان إلى مكان. والقروي الحضري الذي يسكن القرية وهي المصر الجامع. والمنع من شهادته من أجل جفائه وجهله وقلة شهوده ما يقع في المصر فلا تكون شهادته موضع الثقة. والصحيح جواز شهادته إذا كان عدلا مرضيا وهو من رجالنا وأهل ديننا، والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي. وكونه بدويا ككونه من بلد آخر. وإلى هذا ذهب الشافعي وجمهور الفقهاء. وأما الحديث المتقدم فيحمل على الجاهل ولا يشمل كل بدوي بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل شهادة البدوي في ثبوت الهلال. شهادة الأعمى : شهادة الاعمى جائزة عند مالك وأحمد فيما طريقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 السماع إذا عرف الصوت، فتجوز شهادته في النكاح والطلاق والبيع والاجارة والنسب والوقف والملك المطلق والاقرار ونحو ذلك، سواء كان تحمله وهو أعمى أو كان بصيرا أثناء التحمل ثم عمي. قال ابن القاسم: قلت لمالك: " فالرجل يسمع جاره من وراء الحائط - ولا يراه - يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف الصوت. قال مالك: شهادته جائزة. وقالت الشافعية: لا تقبل شهادة الاعمى إلا في خمسة مواضع: النسب، والموت، والملك المطلق والترجمة وعلى المضبوط وما تحمله قبل العمى. وقال أبو حنيفة: لاتقبل شهادته أصلا. نصاب الشهادة : الشهادة إما أن تكون في الحقوق المالية أو البدنية أو الحدود والقصاص، ولكل حالة من هذه الحالات عدد من الشهداء لابد منه حتى تثبت الدعوى، وفيما يلي بيان ذلك كله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 شهادة الأربعة : نصاب الشهادة في حد الزنا أربعة (1) رجال، لقول الله تعالى: - " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم " (2) . وقوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (3) . وقوله تعالى: " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء " (4) . شهادة الثلاثة : قالت الحنابلة: إن من عرف غناه إذا ادعى أنه فقير ليأخذ من الزكاة لا يقبل منه إلا ثلاثة شهود من الرجال على ادعائه، واستدل على كلامه هذا بحديث قبيصة بن مخارق: عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله   (1) جوز الظاهرية شهادة امرأتين مكان كل رجل فإذا شهد ثمان نسوة وحدهن قيلت شهادتهن (وجوز عطاء شهادة ثلاثة رجال وامرأتين) . (2) سورة النساء الآية رقم 15. (3) سورة النور الآية رقم 4. (4) سورة النور الآية رقم 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 عنه قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقالت: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت، ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. شهادة الرجلين دون النساء : تقبل شهادة الرجلين دون النساء في جميع الحقوق وفي الحدود ما عدا الزنا الذي يشترط فيه أربعة شهود. فإن شهادة النساء في الحدود غير جائزة عند عامة الفقهاء خلافا للظاهرية. يقول الله تعالى في الطلاق والرجعة: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " (1) . وروى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه   (1) سورة الطلاق الآية رقم 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وسلم قال للاشعث بن قيس: " شاهداك أو يمينه ". شهادة الرجلين أو الرجل وامرأتين : قال الله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل (1) إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى " (2) . أي اطلبوا الشهادة من رجلين فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وهذا في قضايا الاموال كالبيع والقروض والديون كلها والاجارة والرهن والاقرار والغصب. وقالت الاحناف: شهادة النساء مع الرجال جائزة في الاموال والنكاح والرجعة والطلاق وكل شئ إلا في الحدود والقصاص، ورجح هذا ابن القيم وقال: إذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبا في مجامع الرجال فلأن يسوغ ذلك فيما تشهده النساء كثيرا كالوصية والرجعة أولى.   (1) ان تضل إحداهما: أي تنسى جزءا من الشهادة فتذكر وتنبه أختها إذا غفلت ونسيت. (2) سورة البقرة الآية رقم 282. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وعند مالك والشافعية وكثير من الفقهاء تجوز في الاموال وتوابعها خاصة ولا تقبل في أحكام الابدان، مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة، واختلفوا في قبولها في حقوق الابدان المتعلقة بالمال فقط، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقيل: يقبل فيه شاهد وامرأتان، وقيل: لا يقبل إلا رجلان. وعلل القرطبي قبول الشهادة في الاموال دون غيرها فقال: " لان الاموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوي بها وتكررها. فجعل فيها التوثق تارة بالكنبة وتارة بالاشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان وأدخل في جميع ذلك النساء مع الرجال. شهادة الرجل الواحد : تقبل شهادة الرجل الواحد العدل في العبادات كالاذان والصلاة والصوم. قال ابن عمر: " أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بصيامه " أي صيام رمضان. وأجاز الاحناف شهادة الرجل الواحد في بعض الحالات الاستثنائية مثل: شهادته على الولادة وشهادة المعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 وحده في قضايا الصبيان، وشهادة الخبير في تقويم المثلثات. وشهادة الواحد في تزكية الشهود وجرحهم وفي إخبار عزل الوكيل وفي إخبار عيب المبيع. وقد اختلف الفقهاء في ترجمة المترجم الواحد العدل. فذهب مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى قبول ترجمته. وقال بقية الائمة ومحمد بن الحسن: الترجمة كالشهادة لا يقبل فيها المترجم الواحد. ومن الفقهاء من قبل شهادة الرجل الواحد الصادق مثل ابن القيم قال: والصواب ان كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلا، بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان، وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله " ا. هـ. وقال: " يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد، إذا عرف صدقة، في غير الحدود. ولم يوجب الله على الحكام أن لا يحكموا إلا بشاهدين أصلا، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين أو بشاهد وامرأتين، وهذا لا يدل على أن الحاكم لا يحكم بأقل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 ذلك، بان قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين وبالشاهد فقط ". فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها: أجاز الرسول في شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، وأجاز شهادة الشاهد في قضية سلب، وقبل شهادة المرأة الواحدة إذا كانت ثقة فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وجعل شهادة خزيمة كشهادة رجلين وقال: " من شهد له خزيمة فحسبه ". وليس هذا مخصوصا بخزيمة دون من هو خير منه أو مثله من الصحابة، فلو شهد أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو أبي بن كعب لكان أولى بالحكم بشهادته وحده. قال أبو داود: باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به " ا. هـ الشهادة على الرضاع : ذهب ابن عباس وأحمد إلى أن شهادة المرضعة وحدها تقبل لما أخرجه البخاري أن عقبة بن الحارث تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأة فقالت: قد أرضعتكما. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 كيف؟ وقد قيل؟ ففارقها عقبة فنكحت زوجا غيره. وقالت الاحناف: الرضاع كغيره لابد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا تكفي شهادة المرضعة لانها تقرر فعلها. وقال مالك: لابد من شهادة امرأتين. وقال الشافعي: تقبل شهادة المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تعرض بطلب أجرة. وأجابوا عن حديث عقبة بأنه محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه. الشهادة على الإستهلال (1) : أجاز ابن عباس شهاده القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي وروي عن علي وشريح أنهما قضيا بهذا. وذهب مالك إلى أنه لابد من شهادة امرأتين مثل الرضاع. وجرى الشافعي على قبول شهادة النساء في الاستهلال ولكنه اشترط شهادة أربع منهن. وقال أبو حنيفة: يثبت الاستهلال بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لانه ثبوت إرث. فأما في حق الصلاة عليه   (1) الاستهلال: صراخ الطفل عند الولادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 والغسل فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة. وعند الحنابلة: أن مالا يطلع عليه الرجال غالبا يقبل فيه شهادة امرأة عدل كما روي عن حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها. ذكره الفقهاء في كتبهم. والذي لا يطلع عليه الرجال غالبا مثل عيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والاستهلال والرضاع والرقق والقرن والصقل وكذلك جراحه وغيرها من حمام وعرس ونحوها مما لا يحضره الرجال. قالوا: والرجل في هذا كالمرأة وأولى لكماله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 اليمين : اليمين عند العجز عن الشهادة : إذا عجز المدعي بحق على آخر عن تقديم البينة وأنكر المدعى عليه هذا الحق فليس له إلا يمين المدعى عليه، وهذا خاص بالاموال والعروض ولايجوز في دعاوى العقوبات والحدود وفي الحديث الذي رواه البيهقي والطبراني بإسناد صحيح: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". ولما رواه البخاري ومسلم عن الاشعث بن قيس قال: " كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " شاهداك أو يمينه ". فقلت: إنه يحلف ولايبالي، فقال: " من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان "، وأخرج مسلم من حديث وائل بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. فقال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف، وليس يتورع من شئ. فقال: ليس لك منه إلا ذلك ". واليمين لا تكون إلا بالله أو باسم من أسمائه، وفي الحديث " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لرجل حلفه: احلف بالله الذي لاإله إلا هو ما له عندك شئ " رواه أبو داود والنسائي. هل تقبل البينة بعد اليمين؟ ومتى حلف المدعى عليه اليمين ردت دعوى المدعي بلا خلاف. فإذا عاد المدعي بعد يمين المدعى عليه وعرض البينة فهل تقبل دعواه؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: لاتقبل. ومنهم من قال: تقبل. ومنهم من فصل. فالذين رأوا أنها لا تقبل هم الظاهرية وابن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 ليلى وأبو عبيد، ورجح الشوكاني هذا الرأي فقال: " وأما كونها لاتقبل البينة بعد اليمين فلما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ". فاليمين إذا كانت تطلب من المدعى عليه فهي مستند للحكم الصحيح، ولا يقبل المستند المتخالف لها بعد فعلها، لانه لا يحصل لكل واحد منهما إلا مجرد ظن. ولا ينقض الظن بالظن. والذين رأوا أنها تقبل هم الحنفية والشافعية والحنابلة وطاوس وابراهيم النخعي وشريح فقد قالوا: " البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة " وهو رأي عمر ابن الخطاب، وحجتهم أن اليمين حجة ضعيفة لا تقطع النزاع فتقبل البينة بعدها، لانها هي الاصل واليمين هي الخلف ومتى جاء الاصل انتهى حكم الخلف. وأما مالك والغزالي من الشافعية فقد قالوا: بجواز تقديم المدعي البينة على صدق دعواه بعد يمين المدعى عليه متى كان جاهلا وجود البينة قبل عرض اليمين. أما إذا فقد هذا الشرط بأن كان عالما بأن له بينة واختار تحليف المدعى عليه اليمين، ثم رأى بعد حلفها تقديم بينته، فلا يقبل منه ذلك، لان حكم بينته قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 سقط بالتحليف. النكول عن اليمين : إذا عرضت اليمين على المدعى عليه لعدم وجود بينة المدعي فنكل ولم يحلفها اعتبر نكوله هذا مثل إقراره بالدعوى، لانه لو كان صادقا في إنكاره لما امتنع عن الحلف. والنكول يكون صراحة أو دلالة بالسكوت. وفي هذه الحال لاترد اليمين على المدعي فلا يحلف على صدق الدعوى التي يدعيها، لان اليمين تكون على النفي دائما، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". وهذا مذهب الاحناف واحدى الروايتين عن أحمد. وعند مالك والشافعي والرواية الثانية عن أحمد: أن النكول وحده لا يكفي للحكم على المدعى عليه، لانه حجة ضعيفة يجب تقويتها بيمين المدعي على أنه صادق في دعواه وإن لم يطلب المدعى عليه ذلك، فإذا حلف حكم له بالدعوى والا ردت. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق. ولكن في اسناد هذا الحديث مسروق وهو غير معروف. وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 اسناده اسحاق بن الفرات وفيه مقال. وقد قصر مالك هذا الحكم على دعوى المال خاصة. وقال الشافعي: هو عام في جميع الدعاوى. وذهب أهل الظاهر وابن أبي ليلى إلى عدم الاعتداد بالنكول وأنه لا يقضى به في شئ قط، وأن اليمين لاترد على المدعي وأن المدعى عليه إما أن يقر بحق المدعي وإما أن ينكر ويحلف على براءة ذمته. ورجح هذا الشوكاني فقال: " وأما النكول فلا يجوز الحكم به، لان غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها، وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق، بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله. ولكن اليمين على المدعى عليه فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الاقرار بما ادعاه المدعي، وأيهما وقع كان صالحا للحكم به " ا. هـ. اليمين على نية المستحلف : اذا حلف أحد المتقاضين كانت اليمين على نية القاضي وعلى نية المستحلف الذي تعلق حقه فيها لا على نية الحالف لما تقدم في باب الايمان قول الرسول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 صلى الله عليه وسلم: " اليمين على نية المستحلف ". فإذا ورى الحالف بأن أضمر تأويلا يختلف عن اللفظ الظاهر كان ذلك غير جائز. وقيل: تجوز التورية إذا اضطر إليها بأن كان مظلوما. الحكم بالشاهد مع اليمين : إذا لم تكن للمدعي بينة سوى شاهد واحد فإنه يحكم في الدعوى بشهادة هذا الشاهد ويمين المدعي لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الحق بشاهدين فإن جاء بشاهدين أخذ حقه. وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده، وإنما يحكم بالشاهد مع اليمين في جميع القضايا إلا الحدود والقصاص. وقصر بعض العلماء الحكم بالشاهد واليمين في الاموال وما يتعلق بها، وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نيف وعشرون شخصا. قال الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لانه لايمنع أن يجوز أقل مما نص عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 وبهذا قضى أبو بكر وعلي وعمر بن عبد العزيز وجمهور السلف والخلف ومنهم مالك وأصحابه والشافعي وأتباعه وأحمد وأسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود. وهو الذي لا يجوز خلافه. ومنع من ذلك الاحناف والاوزاعي وزيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة وقالوا: لا يحكم بشاهد ويمين أبدا. والاحاديث التي وردت في هذا حجة عليهم. القرينة القاطعة : القرينة هي الامارة التي بلغت حد اليقين، ومثالها فيما إذا خرج أحد من دار خالية خائفا مدهوشا وفي يده سكين ملوثة بالدم، فدخل في الدار ورؤي فيها شخص مذبوح في ذلك الوقت، فلا يشتبه في كونه قاتل هذا الشخص، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الوهمية الصرفة كأن يكون الشخص المذكور قتل نفسه. ويؤخذ بها متى اقتنع القاضي بأنها الواقع اليقين. قال ابن القيم: ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو إثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة، ويضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته. وذكر الاحناف من أمثلتها أيضا: إذا اختلف رجلان في سفينة فيها دقيق، وكان أحدهما تاجرا والاخر سفانا، وليس لاحدهما بينة، فالدقيق يكون للاول والسفينة للثاني وكذلك يعد منها ثبوت نسب الولد من الزوج عملا بالحديث الشريف " الولد للفراش ". اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت : وعند الحنابلة انه إذا اختلف شخصان ووجد ظاهر لاحدهما عمل به، فلو تنازع الزوجان في قماش البيت فما يصلح للرجل فهو له وما يصلح للمرأة فهو لها وما يصلح لهما يقسم بينهما مناصفة، وإن كان بايديهما تحالفا وتناصفا فإن قويت يد أحدهما مثل حيوان يسوقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 شخص ويركبه شخص آخر فهو للراكب لقوة يده. البينة الخطية والوثائق الموثوق بها : لما اعتاد الناس التعامل بالصكوك واعتمدوا عليها أفتى بعض العلماء من المتأخرين بقبول الخط والعمل به، وأخذت بذلك مجلة الاحكام العدلية وقبلت الاثبات بصكوك الدين وقيود التجار وغيرها، إذا كانت سالمة من شبهة التزوير والتصنيع، واعتبرت الاقرار بالكناية كالاقرار باللسان. وكذلك يعمل بالاوراق الرسمية إذا كانت خالية من التزوير والفساد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 التناقض : التناقض قسمان: (1) تناقض الشهود. (2) تناقض المدعي . تناقض الشهود أو رجوعهم عن الشهادة : إذا أدى الشهود الشهادة ثم رجعوا عنها في حضور القاضي قبل إصدار الحكم تكون شهادتهم كأن لم تكن ويعزرون. وهذا رأي جمهور الفقهاء، أما إذا رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم في حضور القاضي فلا ينقض الحكم الذي حكم به ويضمن الشهود المحكوم به. وقد روي أن رجلين شهدا عند الامام علي - كرم الله وجهه - على آخر بالسرقة فقطع يده ثم عادا بعد ذلك برجل غيره قائلين: إنما السارق هذا. فقال علي: " لا أصدقكما على هذا الاخر وأضمنكما دية يد الاول ولو أني أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما ". وعلل شهاب الدين القرافي رأي الجمهور هذا بقوله: " إن الحكم ثبت بقول عدول وسبب شرعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 ودعوى الشهود بعد ذلك الكذب اعتراف منهم أنهم فسقة، والفاسق لا ينقض الحكم بقوله فيبقى الحكم على ماكان عليه ". وذهب ابن المسيب والاوزاعي وأهل الظاهر إلى نقض الحكم عند الرجوع عن الشهادة في كل الاحوال لان الحكم ثبت بالشهادة فإذا رجع الشهود زال ما يثبت به الحكم، وكذلك سائر الحدود والقصاص عند بعض الفقهاء لا ينفذ الحكم إذا رجع الشهود قبل التنفيذ لان الحدود تدرأ بالشبهات. تناقض المدعي : إذا سبق كلام من المدعي مناقض لدعواه بطلت الدعوى، فإذا أقر بمال لغيره ثم ادعى أنه له، فهذا الادعاء المناقض لاقراره مبطل لدعواه ومانع من قبولها. وإذا أبرأ أحد آخر من جميع الدعاوى فلا يصح له أن يدعي عليه بعد ذلك مالا لنفسه. نقض بينة المدعي : يجوز للمدعى عليه أن يقدم البينة التي يدفع بها دعوى المدعي ليثبت براءة ذمته إذا كانت لديه هذه البينة. فإذا لم تكن له مثل هذه البينة جاز له أن يقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 بينة تشهد بالطعن في عدالة الشهود وتجريح بينة المدعي. تعارض البينتين : وإذا تعارضت البينتان ولم يوجد ما يرجح إحداهما قسم المدعى بين المدعي والمدعى عليه: فعن أبي موسى أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين " رواه أبو داود والحاكم والبيهقي. وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي من حديث أبي موسى: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين ". وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، فإن كان المدعى في يد أحدهما فعلى خصمه البينة، فإن لم يأت بها فالقول لصاحب اليد مع يمينه، وكذلك لو أقام كل واحد منهما البينة كانت اليد مرجحة للشهادة. فعن جابر، أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت عندي، وأقام بينة. فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هي في يده. أخرجه البيهقي ولم يضعف اسناده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 وأخرج الشافعي نحوه. تحليف الشاهد اليمين : إن عدالة الشهود في هذا الزمن قد أصبحت غير معلومة فوجب تقويتها باليمين. وقد جاء في مجلة الاحكام العدلية: " إذا ألح المشهود عليه على الحاكم قبل الحكم بتحليف الشهود: أنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين وكان هناك لزوم لتقوية الشهادة باليمين، كان للحاكم أن يحلف الشهود وأن يقول لهم: إن حلفتم قبلت شهادتكم وإلا فلا ". وقد ذهب إلى هذا ابن أبي ليلى وابن القيم ومحمد بن بشير قاضي قرطبة، ورجحه ابن نجيم الحنفي، وعند الاحناف: أن الشاهد لا يمين عليه لان لفظ الشهادة يتضمن معنى اليمين. وعند الحنابلة: لا يستحلف شاهد أنكر تحمل الشهادة ولا حاكم أنكر الحكم ولا وصي على نفي دين على موص. ولا يستحلف منكر النكاح والطلاق والرجعة والايلاء والنسب والقود والقذف لانها ليست مالا ولا يقصد به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 المال ولا يقضى فيها بالنكول. شهادة الزور (1) : شهادة الزور هي من أكبر الكبائر وأعظم الجرائر لانها مناصرة للظالم وهضم لحق المظلوم وتضليل للقضاء وإيغار للصدور وتأريث للشحناء بين الناس. يقول الله سبحانه: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور " (2) وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار " رواه ابن ماجه بسند صحيح. وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور. أو قال: شهادة الزور. وروي عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) قال الثعلبي: الزور تحسين الشئ ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. (2) سورة الحج الاية رقم 30 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الاشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئا قجلس وقال: الا وقول الزور وشهادة الزور ... فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت (1) " عقوبة شاهد الزور: رأي الامام مالك والشافعي وأحمد أن شاهد الزور يعزر ويعرف بأنه شاهد زور. وزاد الامام مالك فقال: يشهر به في الجوامع والاسواق ومجتمعات الناس العامة عقوبة له وزجرا لغيره.   (1) شهادة الزور أكبر من جريمة الزنا أو السرقة. ولهذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير منها لكونها أسهل على اللسان والتهاون بها أكثر والدوافع لها وفيرة من الحقد والعداوة وغير ذلك، فاحتاجت الى الاهتمام بشأنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 السجن : السجن قديم وقد جاء في القرآن الكريم أن يوسف عليه السلام قال: " قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " (1) . وذكر أنه دخل السجن ولبث فيه بضع سنين. وقد كان السجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا. قال ابن القيم: " الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق. وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل الخصم أو وكيله عليه وملازمته له. ولهذا سماه النبي أسيرا كما روى أبو داود وابن ماجه عنا لهرماس بن حبيب عن   (1) سورة يوسف الاية رقم 33 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي فقال لي: الزمه. ثم قال: يا أخا بني تميم، ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ وفي رواية ابن ماجه: ثم مربي في آخر النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟ ثم قال ابن القيم: وكان هذا هو الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. ولم يكن محبس معد لحبس الخصوم. ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها، ولهذا تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم: هل يتخذ الامام حبسا، على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسا، قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفة بعده حبس، ولكن يقومه (أي الخصم) بمكان من الامكنة أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمى الترسيم. أو يأمر خصمه بملازمته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال: له " أي للامام " أن يتخذ حبسا قال: قد اشترى عمربن الخطاب من صفوان بن أمية دارا بأيعه آلاف وجعلها حبسا " ا. هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 في السجن الامن والمصلحة : قال الشوكاني: إن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الان في جميع الاعصار والامصار من دون إنكار، وفيه من المصالح مالا يخفى لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الاضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولا قصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد، فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الاضرار بهم إلى كل غاية. وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها، فلم يبق إلا حفظهم في السجن والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك حتى تصح منهم التوبة، أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره. وقد أمرنا الله تعالى بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما في حق من كان كذلك لا يمكن بدن الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس، كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس " ا. هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 أنواع الحبس : قال الخطابي: الحبس على ضربين: حبس عقوبة، وحبس استظهار فالعقوبة لا تكون إلا في واجب. وأما ما كان في تهمة: فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله. وهذا الحديث رواه بهزبن حكيم عن أبيه عن جده. ضرب المتهم : ولا يحل حبس أحد بدون حق. ومتى حبس بحق يجب المسارعة بالنظر في أمره. فإن كان مذنبا أخذ بذنبه. وإن كان بريئا أطلق سراحه. ويحرم ضرب المتهم لما فيه من إذلاله وإهدار كرامته. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين: أي المسلمين. وهل يضرب إذا اتهم بالسرقة؟ فيه رأيان: فالرأي المختار عند الاحناف وعند الغزالي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يضرب لاحتمال كونه بريئا. فترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ. وفي الحديث: " لان يخطئ الامام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". وأجاز الامام مالك سجن المتهم بالسرقة. وأجاز أصحابه أيضا ضربه، لاظهار المال المسروق من جهته، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة أخري. ومتى أقر في هذه الحال فإنه لاقيمة لاقراره لانه يشترط في الاقرار الاختيار. وهنا إنما أقر تحت ضغط التعذيب. ما ينبغي أن يكون عليه الحبس : وينبغي أن يكون الحبس واسعا. وأن ينفق على من في السجن من بيت المال وأن يعطى كل واحد كفايته من الطعام واللباس. ومنع المساجين مما يحتاجون إليه من الغذاء والكساء والمسكن الصحي جور يعاقب الله عليه. فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لاهي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولاهي تركتها تأكل من خشاش الارض " (1) .   (1) رواه البخاري ومسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 الإكراه : تعريفه: الاكراه في اللغة: حمل الانسان على أمر لا يريده طبعا أو شرعا، والاسم منه الكره. وفي الشرع: حمل الغير على ما يكره بالوعيد بالقتل أو التهديد بالضرب أو السجن أو إتلاف المال أو الاذي الشديد أو الايلام القوي. ويشترط فيه أن يغلب على ظن المكره انفاذ ما توعد به المكره. ولافرق بين إكراه الحاكم أو اللصوص أو غيرهم. قال عمر: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطا أو سوطين إلا كنت متكلما به. وقال ابن حزم: ولا يعرف له من الصحابة مخالف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 أقسام الإكراه : الاكراه ينقسم إلى قسمين: 1 - إكراه على كلام. 2 - إكراه على فعل. الإكراه على الكلام : والاكراه على الكلام لا يجب به شئ لان المكره غير مكلف. فإذا نطق بكلمة الكفر فإنه لا يؤاخذ. وإذا قذف غيره فلا يقام عليه الحد. وإذا أقر فلا يؤخذ بإقراره. وإذا عقد عقد زواج أو هبة أو بيع فإن عقده لا ينعقد. وإذا حلف أو نذر فإنه لا يلزم بشئ. وإذا طلق زوجته أو راجعها فإن طلاقه لا يقع ورجعته لا تصح والاصل في هذا قول الله سبحانه: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح (1) بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " (2) .   (1) أي طاب به نفسا واعتقده إيثار اللدنيا الفانية على الاخرة الباقية. (2) سورة النحل الاية رقم 106 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 سبب نزول الاية: والسبب في نزول هذه الاية ما ذكره ابن كثير في التفسير عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم (1) في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عادوا فعد ". ورواه البيهقي بأبسط من ذلك وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله: ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالايمان. فقال: " إن عادوا فعد ".وفي ذلك أنزل الله تعالى " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ". شمول الآية الكفر وغيره: والاية وإن كانت خاصة بالتلفظ بكلمة الكفر إلا انها تعم غيره.   (1) أي اقترب من موافقتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 قال القرطبي: لما سمع الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الاكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها. فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الاثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق العلماء. قاله القاضي أبو بكر بن العربي وذكر أبو محمد عبد الحق ان اسناده صحيح قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الاقناع ا. هـ. العزيمة عند الإكراه على الكفر أفضل : وإذا كان النطق بكلمة الكفر عند الاكراه رخصة فإن الافضل الاخذ بالعزيمة والصبر على التعذيب ولو أدى ذلك إلى القتل إعزازا للدين كما فعل ياسر وسمية. وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرح به العلماء. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لاحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ فقال: أنت أيضا، فخلاه. وقال للاخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم. فأعاد عليه ثلاثا. فأعاد ذلك في جوابه فقتله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال: أما الاول فقد أخذ برخصة الله تعالى. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له ". الإكراه على الفعل : والقسم الثاني الإكراه على الفعل وهو ينقسم إلى قسمين: 1 - ما تبيحه الضرورة. 2 - ما لا تبيحه الضرورة. فالاول: مثل الاكراه على شرب الخمر أو أكل الميتة أو أكل لحم الخنزير أو أكل مال الغير أو ما حرم الله: فإنه في هذه الحال يباح تناول هذه الاشياء. بل من العلماء من يرى وجوب التناول حيث لم يكن له خلاص إلا به. ولا ضرر فيه لاحد. ولا تفريط فيه في حق من حقوق الله والله تعالى يقول " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وكذلك من أكره على إفطار رمضان أو الصلاة لغير القبلة أو السجود لصنم أو صليب فيحل له أن يفطر ويصلي إلى أي جهة ويسجد ناويا السجود لله جل شأنه. والثاني: مثل الاكراه على القتل والجراح والضرب والزنا وإفساد المال. قال القرطبي: " أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ويصبر على البلاء الذي نزل به ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والاخرة ". لاحد على مكره: ولو قدر أن رجلا استكره على الزنا فزنى فإنه لا يقام عليه الحد. وكذلك المرأة إذا أكرهت على الزنا فانه لاحد عليها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". ويرى مالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبو ثور وعطاء والزهري: أنه يجب لها صداق مثلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 اللباس : اللباس من النعم التي أنعم الله بها على عباده. يقول الله تعالى: - " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " (1) . وينبغي أن تكون حسنة جميلة نظيفة والله تعالى يقول: - " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ". " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة   (1) سورة الاعراف الاية رقم 26 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون " (1) . وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثويه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس " (أي انكار الحق واحتقار الناس) (2) . روى الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الله الطيب يحب الطيب، نظيف يحب النطافة، كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا افنيتكم ولا تشبهوا باليهود. حكمه: واللباس منه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب ومنه ما هو حرام. اللباس الواجب: فالواجب من اللباس ما يستر العورة وما يقي الحر والبرد وما يستدفع به الضرر. فعن حكيم بن حزام عن أبيه قال: قلت: يا   (1) سورة الاعراف الاية رقم 31، رقم 32. (2) رواه مسلم والترمذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 رسول الله، عوراتنا: ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قلت: يارسول الله، فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. فقلت: فإن كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " (1) . اللباس المندوب: والمندوب من اللباس ما فيه جمال وزينة. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " (2) وعن أبي الاحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الابل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمته عليك وكرامته " (3) .   (1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه. (2) رواه أبو داود. (3) رواه أبو داود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 ويتأكد ذلك عند العبادة وفي الجمعة والعيدين وفي المجتمعات العامة. فعن محمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما على أحدكم إن وجد (1) أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوي ثوبي مهنته " (2) . اللباس الحرام : أما اللباس الحرام فهو لباس الحرير والذهب للرجال، ولبس الرجل ما يختص بالنساء من ملابس. ولبس النساء ما يختص بالرجال من ملابس. ولبس ثياب الشهرة والاختيال وكل ما فيه إسراف. لبس الحرير والجلوس عليه: جاءت الاحاديث مصرحة بتحريم لبس الحرير والجلوس عليه بالنسبة للرجال، نذكرها فيما يلي: 1 - فعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " (3) .   (1) أي: إذا وسعه. (2) رواه أبو داود. (3) رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 2 - وعن عبد الله بن عمر: أن عمر رأى حلة من إستبرق تباع. فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ابتع هذه، فتجمل بها للعيد وللوفود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذه لباس من لا خلاق له. ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه بجبة ديباج. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قلت: إنما هذه لباس من لاخلاق له. ثم أرسلت إلي بهذه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أرسلها إليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك " (1) . 3 - وعن حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها. وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: " هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " (2) . بمقتضى هذه الاحاديث ذهب الجمهور من العلماء إلى تحريم لبس الحرير وافتراشه (3) بل ذكر المهدي   (1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. (2) رواه البخاري. (3) يرى أبو حنيفة وابن الماجشون من المالكية وبعض الشافعية جواز افتراش الحرير والجلوس عليه لان النهي عن اللبس فقط. وهذا مخالف للاحاديث الصحيحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 في البحر أنه مجمع عليه. وحكى القاضي عياض عن جماعة أباحته منهم ابن عليه. واستدلوا على قولهم هذا بالاحاديث الآتية: 1 - عن عقبة قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير (1) فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا كالكاره له ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين " (2) . 2 - وعن المسور بن مخرمة أنه قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية فذهب هو وأبوه للنبي صلى الله عليه وسلم لشئ منها. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء من ديباج مزردة، فقال: يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه وقال: أرضي مخرمة؟ (3) 3 - وعن أنس أنه صلى الله عليه وسلم لبس مستقة (4) من سندس (5) أهداها له ملك الروم ثم بعث   (1) قباء مفتوح من الخلف. (2) رواه البخاري ومسلم. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) فرو طويل الكمين. (5) رفيع الحرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 بها إلى جعفر فلبسها ثم جاءه فقال: إني لم أعطكها لتلبسها. قال: فما أصنع؟ قال: أرسل بها إلى أخيك النجاشي " (1) . 4 - ولبس الحرير أكثر من عشرين صحابيا منهم أنس والبراء من عازب " (2) . وأجاب الجمهور عن أدلة القائلين بالجواز بالادلة الدالة على التحريم التي ذكرناها أولا وقالوا: إن حديث عقبة فيه: " أنه لا ينبغي هذا للمتقين ". فإذا كان لبسه لا يلائم المتقين فهو بالتحريم أجدر. وقالوا: في حديث المسورو حديث أنس إنهما من قبيل الافعال فلا تقاوم الاقوال الدالة على التحريم. على أنه لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الامرين كما يشعر بذلك حديث جابر: قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء له من ديباج أهدي إليه ثم أوشك   (1) رواه أبو داود. (2) رواه أبو داود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 أن نزعه وأرسل به إلى عمر بن الخطاب. فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله! قال: نهاني عنه جبريل عليه السلام. فجاءه عمر يبكي فقال: يارسول الله، كرهت أمرا وأعطيتنيه، فمالي؟ قال: ما أعطيتك لتلبسه وانما أعطيتك تبيعه. فباعه بألفي درهم " (1) . وقالوا أيضا: حديث أنس في سنده علي بن زيد بن جدعان لا يحتج بحديثه. وقالوا: إن ما لبسه الصحابة كان خزا، وهو ما نسج من صوف وابريسم. وقال الخطابي: يشبه أن تكون المستقة مكففة بالسندس. رأي الشوكاني: وقال الشوكاني: " إن أحاديث النهي تدل على الكراهية جمعا بينها وبين أدلة الجواز قال في نيل الاوطار: ويمكن أن يقال إن لبسه صلى الله عليه وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للاقبية بين أصحابه وليس فيه ما يدل على أنه متقدم على أحاديث النهي، كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ويكون ذلك جمعا بين الادلة.   (1) رواه أحمد وروى مسلم نحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة، ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه، فقد كان ينكر بعضهم على بعض ما هو أخف من هذا ". اباحة الحرير للنساء وعند الاعذار واليسير عنه: هذا الحكم بالنسبة للرجال. أما النساء فإنه يحل لهن لبس الحرير وافتراشه. كما يحل للرجال عند وجود عذر. وقد جاء في ذلك من النصوص ما يلي: - 1 - فعن علي قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء (1) فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين النساء " (2) . 2 - وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة   (1) التي فيها خطوط كالسيور وهي برود من الحرير أو الغالب فيها الحرير. وفسرت بغير ذلك. (2) رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 كانت بهما " (1) . قال في الحجة البالغة: لانه لم يقصد به حينئذ الارفاه وإنما قصد به الاستشفاء. 3 - وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين أو ثلاثة أو أربعة (2) " قال في الحجة البالغة: لانه ليس من باب اللباس وربما تقع الحاجة إلى ذلك. الحرير المخلوط بغيره: كل ما تقدم خاص بالحرير الخالص. أما الحرير المخلوط بغيره فعند الشافعية أن الثوب إذا كان أكثره من الحرير فهو حرام وإن كان نصفه فما دونه من الحرير فليس بحرام. فهم يرون أن للاكثر حكم الكل. قال النووي: أما المختلط من حرير وغيره فلا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر وزنا. جواز لبس الصبيان للحرير: وأما الصبيان (3) من الذكور فيحرم عليهم أيضا   (1) رواه البخاري ومسلم. (2) رواه مسلم وأصحاب السنن. (3) الحرمة على الاولياء لاعلى الصبيان لانهم غير مكلفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 عند أكثر الفقهاء لعموم النهي عن الليس. وأجازه الشافعية. قال النووي: وأما الصبيان فقال أصحابنا يجوز إلباسهم الحلي والحرير في يوم العيد لانه لا تكليف عليهم. وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها جوازه والثاني تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 التختم بالذهب والفضة ذهب الجمهور من العلماء إلى حرمة التختم بالذهب (1) للرجال دون النساء. واستدلوا بالاحاديث الآتية: 1 - عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع. أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وابرار القسم أو المقسم، ورد السلام. وفي رواية: وإفشاء السلام، وتشميت العاطس. ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير   (1) أما اتخاذ الخاتم من غير الذهب فيجوز للرجال والنساء ولو كان أعلى قيمة من الذهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 والديباج (1) والقسي (2) والاستبرق (3) والمثيرة الحمراء (4) . 2 - وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب أو فضة وجعل فصه مما يلي كفه ونقش فيه " محمد رسول الله " فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبدا، ثم اتخذ خاتما من فضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان حتى وقع من عثمان في بئر أريس (5) . 3 - ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده. فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لاوالله، لا آخذ   (1) الديباج: الثوب الذي سداه ولحمته من حرير. (2) القسي: ثياب من كتاب مخلوط بحرير. (3) الاستبرق: غليظ الديباج. (4) المثيرة الحمراء: غطاء للسرج من الحرير. (5) أريس: بئر مجاورة لمسجد قباء بالمدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) . 4 - وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أحل الذهب والحرير للاناث من أمتي وحرم على ذكورها " (2) . وقال المحدثون: إن هذا الحديث معلول لان في سنده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى، وسعيد لم يلق أبا موسى ولم يسمع منه. 5 - وأخرج مسلم وغيره من حديث علي قال: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب وعن لباس القسي وعن القراءة في الركوع والسجود وعن لباس المعصفر " (3) . هذه أدلة الجمهور لتحريم خاتم الذهب. قال النووي: وكذا لو ان بعضه ذهبا وبعضه فضة. وذهب جماعة من العلماء إلى كراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه.   (1) رواه مسلم. (2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. (3) المعصفر: يصبغ الثوب صبغا أحمر على هيئة مخصوصة وقد ذهب جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء الى جواز لبس المعصفر إلا الامام أحمد فانه قال: بكراهة لبسه تنزيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 ولقد لبسه جماعة من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحذيفة، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، ولعلهم حسبوا أن النهي للتنزيه. آنية الذهب والفضة يحرم الاكل والشرب في أواني الذهب والفضة لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء (1) . وانما يحل للنساء التحلي بهما تزينا وتجملاكما تقدم. وليس الاكل والشرب من هذه الاواني مما أحله الله لهن. ودليل ذلك الاحاديث الآتية: 1 - عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها (2)   (1) وكذا يحرم الاكل والشرب في الاواني المطلية بالذهب والفضة إن كان يمكن فصل الذهب أو الفضة عن الاناء فإن لم يمكن الفصل بينهما كأن كان مجرد طلاء فقط فإنه لا يحرم. (2) واحدتها صحفة وهي إناء يسع ما يشبع الخمسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " (1) . 2 - وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر (2) في بطنه نار جهنم (3) ". وفي رواية لمسلم: " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب أو الفضة ... ". ويرى بعض الفقهاء الكراهة دون التحريم وقالوا: إن الاحاديث التي وردت في هذا لمجرد التزهيد. ورد ذلك بالوعيد عليه في حديث أم سلمة المذكور. وألحق جماعة من الفقهاء أنواع الاستعمال الاخرى كالتطيب والتكحل من أواني الذهب والفضة بالاكل والشرب. ولم يسلم بذلك المحققون. وفي حديث أحمد وأبي داود: " عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا " ما يؤكد ما ذهب إليه المحققون، وفي فتح العلام: الحق عدم تحريم غير   (1) رواه البخاري ومسلم. (2) يصب. (3) رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 الاكل والشرب، ودعوى الاجماع غير صحيحة، وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي بغيره، لانه ورد بتحريم الاكل والشرب فعدلوا عنه إلى الاستعمال وهجروا العبارة النبوية وجاؤوا بلفظ عام من تلقاء أنفسهم - انتهى. وجمهور الفقهاء على منع اتخاذ الاواني منهما بدون استعمال. ورخصت فيه طائفة. الآنية من غير الذهب والفضة: أما اتخاذ الاواني من الجواهر النفيسة وإن كانت أعلى قيمة من الذهب والفضة فيجوز، لان الاصل في الاشياء الحل. ولم يرد دليل يدل على التحريم. جواز اتخاذ السن والانف من الذهب: يجوز للشخص أن يتخذ سنا من الذهب وأنفا منه إذا احتاج إلى شئ من ذلك. روى الترمذي عن عرفجة ابن أسعد قال: " أصيب أنفي يوم الكلاب فاتخذت أنفا من ورق فأنتن علي فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذ أنفا من ذهب ". قال الترمذي: روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب. وروى النسائي قال معاوية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 وحوله ناس من المهاجرين والانصار: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قالوا: اللهم نعم. قال: ونهى عن لبس الذهب إلا مقطعا (1) ؟ قالوا: اللهم نعم. تشبه النساء بالرجال: أراد الاسلام أن تكون طبيعة المرأة متميزة، وأن يكون مظهرها صورة صادقة لهذه الطبيعة. كما أراد ذلك للرجل. فنهى كلا منهما أن يتشبه بالآخر، وحرم عليه ذلك. وسواء أكان التشبه في اللباس أم الكلام أم الحركة أم غير ذلك. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين (2) من الرجال والمترجلات (3) من النساء " (4) . وفي رواية: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " (5) .   (1) أي قطعا صغيرة كالسن. (2) المخنث: من فيه انخناث وهو التكسر والتثني كما تفعل النساء. (3) المترجلة: هي التي تتشبه بالرجل في الهيئة والقول والفعل والاحوال. (4) رواه البخاري. (5) رواه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 وعن أبي هريرة قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة. والمرأة تلبس لبسة الرجل " (1) . لباس الشهرة: وهو الثوب الذي يشهر لابسه بين الناس، ويلحق بالثوب غيره من اللبوس مما يشتهر به اللابس له وهو حرام. 1 - لحديث ابن عمر، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة " (2) . 2 - وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء " (3) . 3 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:   (1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. (2) أخرجه أحمدو أبو داود والنسائي وابن ماجه ورجال اسناده ثقات. (3) رواه البخاري ومسلم: الخيلاء: الكبر والبطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل واشرب والبس وتصدق في غير سوف ولا مخيلة " (1) النهي عن أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها: 1 - عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عروسا وقد تمزق شعرها من حصبة أفأصله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الواصلة (2) والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ". 2 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لعن الله الواشمات (3) والمستوشمات والنامصات (4) والمتنمصات (5) ، والمتفلجات (6) للحسن المغيرات خلق   (1) أخرجه أبو داودو أحمد وذكره البخاري تعليقا. (2) الوصل: وصل الشعر بشعر آخر. (3) الوشم: غرز ابرة ونحوها في الجلد حتى يسيل الدم ويذر عليه كحل ونحوه حتى يخضر. (4) النامصة: التي تنتف شعرها بالنماص " الملقاط " من وجهها. (5) المتنمصة: الطالبة لذلك. (6) المتفلجات: اللائي يفرقن ما بين الثنايا والرباعيات أو ترقيق الاسنان بالمبرد رغبة في الجمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 فبلغ ذلك امرأة من بني أسيد تقرأ القرآن اسمها أم يعقوب فأتته فكلمته فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوفي كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت مابين لوحي المصحف فما وجدته. قال: لو قرأته لوجدته: قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (1) . 3 - وعنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من داء ". وفي نيل الاوطار قال: والوصل حرام لان اللعن لا يكون على أمر غير محرم. قال النووي: وهذا هو الظاهر المختار. قال: وقد فصله أصحابنا فقالوا: إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف. وسواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف لعموم الادلة. ولانه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته. بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه. وان وصلته بشعر آدمي: فإن كان شعرا   (1) رواه الخمسة إلا الترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 بخسا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث. ولانه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمدا. وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال، وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي فإن لم يكن لها زوج ولاسيد فهو حرام أيضا. وان كان فثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز لظاهر الاحاديث. والثاني: يجوز. وأصحها عندهم ان فعلته باذن الزوج أو السيد جاز والا فهو حرام " انتهى. أما وصل الشعر بغير شعر آدمي كالحرير والصوف والكتاب أو نحوها فقد أجازه سعيد بن جبير وأحمد والليث. قال القاضي عياض: فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر فليس بمنهي عنه لانه ليس بوصل ولاهو في معنى مقصود الوصل، وانما هو للتجمل والتحسين. وكما يحرم وصل الشعر على النحو المتقدم ذكره فإنه يحرم إزالة الشعر أي شعر المرأة ونتفه من الوجه إلاأذا نبتت لها لحية أو شوارب فإنه لا يحرم إزالته بل يستحب. كما ذكره النووي وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 والتفلج ويقال له الوشر: قال النووي: وهذا الفعل حرام على الفاعل والمفعول بها. قال في نيل الاوطار: ظاهره أن التحريم المذكور انما هو فيما إذا كان لقصد التحسين لا لداء وعلة فإنه ليس بمحرم. وظاهر قوله " المغيرات خلق الله " أنه لا يجوز تغيير شئ من الخلقة عن الصفة التي هي عليها. قال أبو جعفر الطبري: في هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز تغيير شئ مما خلق الله المرأة عليه بزيادة أو نقص التماسا للتحسين لزوج أو غيره، كما لو كان لها سن زائدة أو عضو زائد فلا يجوز لها قطعه ولانزعه لانه من تغيير خلق الله. وهكذا لو كان لها أسنان طوال فأرادت تقطيع أطرافها. وهكذا قال القاضي عياض وزاد: إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة وتتضرر بها فلا بأس بنزعها " ا. هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 التصوير حرمة التصوير وصناعة التماثيل : جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صناعة التماثيل وعن تصوير ما فيه روح سواء أكان إنسانا أم حيوانا أم طيرا. أماما لاروح فيه كالاشجار والازهار ونحوها فإنه يجوز تصويره. 1 - فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " (1) . 2 - وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين   (1) أخرجه البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 يصورون هذه الصور ". 3 - وروي مسلم أن رجلا جاء ابن عباس فقال: إني أصور هذه الصور فأفتن فيها. فقال له: ادن مني. فدنا منه. ثم أعادها، فدنا منه. فوضع يده على رأسه فقال: أنبئك بما سمعت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم ". وقال: إن كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له. 4 - وعن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا قبرا إلا سواه ولا صورة إلا لطخها؟ فقال رجل: أنا يارسول الله. قال: فهاب أهل المدينة وانطلق الرجل ثم رجع فقال: يارسول الله، لم ادع بها وثنا إلا كسرته ولا قبرا إلا سويته ولا صورة إلا لطختها. ثم قال الرسول: من عاد إلى صنعة شئ من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد بإسناد حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 إباحة صور لعب الاطفال : ويستثنى من هذا لعب الاطفال كالعرائس ونحوها فإنه يجوز صنعها وبيعها للاحاديث الآتية: - 1 - عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات (1) فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري (2) فإذا دخل خرجن وإذا خرج دخلن " (3) . 2 - وعنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليها من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها (4) ستر. فهبت الريح فكشفته عن بنات لعائشة لعب. فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟. قالت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان. قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة. قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه " (5) .   (1) البنات: صور للبنات كانت تلعب بها. (2) الجواري: جمع جارية وهي الشابة الصغيرة. (3) رواه البخاري وأبو داود. (4) الرف. (5) رواه أبو داود والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 النهي عن وضع الصور في البيت : وكما يحرم صنع التماثيل والصور يحرم اقتناءها ووضعها في البيت، ومن الواجب كسرها حتى لا تبقى على صورة التمثال. 1 - روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب (1) إلا نفضه ". 2 - وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل " (2) . الصور التي لاظل لها: كل ما سبق ذكره خاص بالصور المجسدة التي لها ظل. أما الصور التي لا ظل لها، كالنقوش في الحوائط وعلى الورق والصور التي توجد في الملابس والستور والصور الفوتر غرافية فهذه كلها جائزة. وكانت ممنوعة في أول الامر ثم رخص فيها بعد. والذي يدل على المنع ما ذكرته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت:   (1) صور الصليب. (2) رواه البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة (1) لي بقرام (2) فيه تماثيل. فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: يا عائشة: أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت عائشة فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. والذي يدل على الترخيص ما رواه يسربن سعيد: عن زيد بن خالد عن 1 - أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور. قال يسر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صور، فقلت لعبيد الله، ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الاول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: إلا رقما في ثوب " (3) 2 - وعن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) الطاق يوضع فيه الشئ. (2) الستر الرقيق. (3) رواه الخمسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 " حولي هذا، فإني كلما دخلت قرأيته ذكرت الدنيا " (1) . فهذا الحديث دليل على أنه ليس بحرام لانه لو كان حراما في آخر الامر لامر بهتكه ولما اكتفى بمجرد تحويل وجهه. ثم ذكر أن علة تحويل وجهه هو تذكيره بالدنيا، وأيد هذا الطحاوي من أئمة الاحناف فقال: " إنما نهى الشارع أولا عن الصور كلها، وإن كانت رقما، لانهم كانوا حديثي عهد بعبادة الصور فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ما كان رقما في ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب وأباح ما يمتهن، لانه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن. وبقي النهي فيما لا يمتهن. ا.هـ وقال ابن حزم: وجائز للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يحل لغيرهن. والصور محرمة إلا هذا وإلا ما كان رقما في ثوب. ثم ذكر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الانصاري.   (1) رواه مسلم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 المسابقة المسابقة مشروعة وهي من الرياضة المحمودة وقد تكون مستحبة أو مباحة حسب النية والقصد. وتكون بالعدو (1) بين الاشخاص كما تكون بالسهام والاسلحة وبالخيل والبغال والحمير. ففي المسابقة بالعدو بين الاشخاص ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت: " سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته فلما حملت اللحم سابقته فسبقني: قلت: هذه بتلك " (2) . والمسابقة بالسهام والرماح وكل سلاح يمكن أن يرمى به يقول الله تعالى: - " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ... الخ " (3) .   (1) العدو: الجري. (2) رواه البخاري. (3) سورة الانفال الاية رقم 60 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 1 - وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي. ألا إن القوة الرمي " (1) . 2 - ويقول عليه الصلاة والسلام: " عليكم بالرمي فإنه من خير لهوكم " (2) . 3 - وبقول صلى الله عليه وسلم: " كل لعب حرام إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، ورميه عن قوسه، وتأديبه فرسه ". ويحرم أثناء الرمي أن يتخذ ما فيه الروح غرضا، فقد رأى عبد الله بن عمر جماعة اتخذوا دجاجة هدفا لهم فقال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا " (3) . والمسابقة بين الحيوانات ثبتت في الاحاديث. 1 - فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبق الا في خف (4) أو نصل (5) أو   (1) رواه مسلم. (2) رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح. (3) رواه البخاري ومسلم. (4) الخف: الابل. (5) النصل: السهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 حافر (1) " (2) . 2 - وعن ابن عمر قال: " سابق النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل التي قد ضمرت (3) من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وكان ابن عمر فيمن سابق " متفق عليه. زاد البخاري، قال سفيان: من الحفياء (4) إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ومن الثنية إلى مسجد بني زريق ميل. جواز المراهنة : المسابقة دون رهان جائزة بإجماع العلماء كما سبق، أما المسابقة برهان فإنها تجوز في الصور الاتية: 1 - يجوز أخذ المال في المسابقة إذا كان من الحاكم أو من غيره، كأن يقول للمتسابقين: من سبق منكم فله هذا القدر من المال. 2 - أو يخرج أحد المتسابقين مالا فيقول لصاحبه:   (1) الحافر: الخيل. (2) رواه أحمد والثلاثة وصححه ابن حبان. (3) تضمير الخيل: اعطاؤها العلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتها لتخف ويكون ذلك في مدة أربعين يوما. (4) الحفياء: مكان خارج المدينة المنورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 إن سبقتني فهو لك. وإن سبقتك فلا شئ لك علي ولا شئ لي عليك. 3 - إن كان المال من الاثنين المتسابقين أو من الجماعة المتسابقين ومعهم محلل بأخذ هذا المال إن سبق. ولا يغرم إن سبق. قيل لانس: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن على فرس يقال له سبحة فسبق الناس فهش لذلك وأعجبه " (1) . الصور التي يحرم فيها الرهان : ولا يجوز الرهان في حالة ما إذا كان من كل واحد على أنه إن سبق فله الرهان وإن سبق فيغرم لصاحبه مثله، لان هذا من باب القمار المحرم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخيل ثلاثة: فرس للرحمن وفرس للانسان وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله،   (1) رواه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 فعلفه وروثه وبوله، (وذكر ... ) ما شاء الله (1) . وأما فرس الشيطان: فالذي يقامر أو يراهن عليه. وأما فرس الانسان: فالذي يرتبطه الانسان يلتمس بطنها (2) فهي ستر من الفقر. لا جلب ولا جنب في الرهان : روى أصحاب السنن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا جلب ولا جنب في الرهان " الجلب: هو أن يتبع فرسه بمن يحثه على سرعة الجري. والجنب: هو أن يجنب فرسا إلى فرسه إذا فترت تحول إلى المجنوب. قال ابن أويس: الجلب: أن يجلب حول الفرس من خلفه في الميدان ليحرز السبق. والجنب: أن يكون الفرس به اعتراض جنوب فيعترض له الرجل بفرسه يقومه فيحوز الغاية. وقال أبو عبيد: الجنب: أن يجنب الرجل فرسه الذي سابق عليه فرسا عريا ليس عليه أحد، فإذا بلغ   (1) يعني أن كل ذلك له حسنات. (2) أي للنتاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 قريبا من الغاية ركب فرسه العري فسبق عليه، لانه أقل عياء أو كلالا من الذي عليه الراكب. حرمة إيذاء الحيوان : ويحرم إيذاء الحيوان وتحميله فوق طاقته. فإن حمله إنسان ما يعجز عنه كان للحاكم أن يمنعه من حمل ما لا يطيق. وإذا كان الحيوان حلوبا وله ولد فلا يجوز الاخذ من اللبن إلا بالقدر الذي لا يضر ولده، لانه لا ضرر ولا ضرار في الاسلام لا لحيوان ولا لانسان. وسم (1) البهائم وخصاؤها: يجوز وسم البهائم في أي جزء من بدنها ما عدا الوجه. فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا قد وسم في وجهه فقال: " أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها " (2) . وعن جابر رضي الله عنه قال:   (1) الوسم: الكي. (2) رواه أبو داود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم فيه " (1) . وقد استنبط العلماء من هذا النهي حرمة ضرب الوجه ووسمه من غير تفرقة بين إنسان وحيوان. لان الوجه أكرمه الله. وهو مجمع المحاسن. وأما وسم غير الوجه من الحيوان فهو جائز بل يستحب لانه قد يحتاج إليه في التمييز بين الحيوانات. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسم بالميسم (2) إبل الصدقة. كما رواه مسلم. وقال أبو حنيفة بكراهته لانه تعذيب ومثلة، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما، ويرد على كلام أبي حنيفة: أن هذا عام مخصوص. وأن التخصيص ثابت بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. أي أن التعذيب والمثلة حرام في كل حال إلا في حالة وسم الحيوان فإنه يجوز. أما خصاء البهائم: فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصد به المنفعة إما لسمن أو لغيره.   (1) رواه مسلم والترمذي. (2) الميسم: آلة الكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم. خصاء الآدمي : وهذا بخلاف الآدمي فإنه لا يجوز لانه مثلة وتغيير لخلق الله وقطع للنسل وربما أفضى إلى الهلاك. التحريش بين البهائم : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم وإغراء بعضها ببعض لتتصارع، فعن ابن عباس قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم " (1) . كما نهى عن اتخاذ شئ منها غرضا. 1 - ودخل أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال لهم: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر (2) البهائم " (3) .   (1) رواه أبو داود والترمذي. (3) صبر البهائم: حبسها وهي حية ثم ترمى حتى تقتل. (3) رواه مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 2 - وعن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شئ من الدواب صبرا " (1) . 3 - وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ". وانما نهى عن ذلك لانه تعذيب للحيوان واتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى ولمنفعته إن لم يكن مذكى. اللعب بالنرد : ذهب جمهور العلماء إلى حرمة اللعب بالنرد (2) واستدلوا على الحرمة بما يأتي: 1 - روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " (3) . 2 - وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) رواه مسلم. (2) النرد: " الطاولة ". (3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " (1) . وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم. قال الشوكاني: روي أنه رخص في النرد ابن غفل وابن المسيب على غير قمار. ويبدو أنهما حملا الحديث على من لعب بقمار. اللعب بالشطرنج : ورد في الاحاديث تحريم لعب الشطرنج. ولكن هذه الاحاديث لم يثبت منها شئ. قال الحافظ بن حجر العسقلاني: " لم يثبت في تحريمه حديث صحيح ولا حسن ". ولهذا اختلف الفقهاء في حكمه. فمنهم من حرمه. ومنهم من أباحه. فمن حرمه: أبو حنيفة ومالك وأحمد. وقال الشافعي وبعض التابعين بكره ولا يحرم: فقد لعبه جماعة من الصحابة ومن لا يحصى من التابعين.   (1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ومالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 قال ابن قدامة في " المغني ": " فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم. إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص في تحريمه لكن هذا في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه ". وروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير اباحته. واحتجوا بأن الاصل الاباحة. ولم يرد بتحريمها نص ولا هي في معنى المنصوص عليه فتبقى على الاباحة. اه. والذين أباحوه اشترطوا لاباحته الشروط الاتية: (1) أن لا يشغل عن واجب من واجبات الدين. (2) أن لا يخالطه قمار (3) أن لا يصدر أثناء اللعب ما يخالف شرع الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 الوقف : تعريفه: الوقف في اللغة: الحبس. يقال: وقف يقف وقفا أي حبس يحبس حبسا (1) . وفي الشرع: حبس الاصل وتسبيل الثمرة. أي حبس المال وصرف منافعه في سبيل الله. أنواعه : والوقف أحيانا يكون الوقف على الاحفاد أو الاقارب ومن بعدهم إلى الفقراء، ويسمى هذا بالوقف الاهلي أو الذري. وأحيانا يكون الوقف على أبواب الخير ابتداء ويسمى بالوقف الخيري. مشروعيته: وقد شرع الله الوقف وندب إليه وجعله قربة (2)   (1) وأما أوقفت فهي لغة شاذة. (2) القربة: هي ما جعل الشارع له ثوابا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 من القرب التي يتقرب بها إليه، ولم يكن أهل الجاهلية يعرفون الوقف وانما استنبطه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا إليه وحبب فيه برا بالفقراء وعطفا على المحتاجين. فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " (1) . والمقصود بالصدقة الجارية " الوقف ". ومعنى الحديث: أن عمل الميت ينقطع تجدد الثواب له إلا في هذا الاشياء الثلاثة لانها من كسبه: فولده، وما يتركه من علم، وكذا الصدقة الجارية، كلها من سعيه. وأخرج ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما نشره أو ولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه أو نهرا أجراه   (1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ". ووردت خصال أخرى بالاضافة إلى هذا فيكون مجموعها عشرا. نظمها السيوطي فقال: إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعال غير عشر علوم بثها ودعاء نجل وغرس النخل والصدقات تجري وراثة مصحف ورباط ثغر وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي إليه أو بناء محل ذكر وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف أصحابه المساجد والارض والابار والحدائق والخيل. ولا يزال الناس يقفون من أموالهم إلى يومنا هذا. وهذا بعض أمثلة للاوقاف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 - عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 صلى الله عليه وسلم المدينة المدينة وأمر ببناء المسجد قال: يا بني النجار: تأمنوني (1) بحائطكم (2) هذا؟ فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى. أي فأخذه فبناه مسجدا " (3) . 2 - وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفر بئر رومة فله الجنة. قال: فحفرتها " (4) . وفي رواية للبغوي: " أنها كانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان. فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين.   (1) أي طلب منهم أن يدفع ثمنه. (2) الحائط: البستان. (3) رواه الثلاثة. (4) رواه البخاري والترمذي والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 3 - وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدفة أفضل (1) ؟ قال: الماء. فحفر بئرا وقال: هذه لام سعد 4 - وعن أنس رضي الله عنه قال: " كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (2) . وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت هذه الاية الكريمة " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " (3) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وإن أحب أموالي إلي بيرحاء. وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ (4) ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الاقربين، فقسمها أبو   (1) أي أكثر ثوابا. (2) بستان من نخل بجوار المسجد النبوي. (3) سورة آل عمران الاية رقم 92. (4) كلمة يقصد بها الاعجاب والتفخيم لعمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 طلحة في أقاربه (1) وبني عمه " (2) . 5 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره (3) فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن شئت حبست أصلها (4) وتصدقت بها ". فتصدق بها عمر: أنها لاتباع ولا توهب ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول " (5) قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب   (1) أي جعلها وقفا على أقاربه ... وهذا هو أصل الوقف الاهلي. (2) رواه البخاري ومسلم والترمذي. قال الشوكاني: يجوز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث المال لانه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه " والثلث كثير ". (3) يستشيره ويطلب أمره. (4) وقفت الاصل وتصدقت بالريع. (5) أي غير متخذ منها ملكا لنفسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا. وكان هذا أول وقف في الاسلام. 6 - وروى أحمد والبخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات ". 7 - وفي حديث خالد بن الوليد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " أما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده (1) في سبيل الله ". إنعقاد الوقف : ويصح الوقف وينعقد بأحد أمرين: 1 - الفعل (2) الدال عليه: كأن يبني مسجدا ويؤذن للصلاة فيه ولا يحتاج إلى حكم حاكم. 2 - القول: وهو ينقسم إلى صريح وكناية. فالصريح: مثل قول الواقف: وقفت وحبست   (1) ما أعده الانسان من السلاح والدواب وآلة الحرب. (2) ويرى الشافعي أن الفعل لا يكفي بل لا يصير وقفا إلا بالقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 وسبلت وأبدت. والكناية: كأن يقول: تصدقت ناويا به الوقف. أما الوقف المعلق بالموت مثل أن يقول: " داري أو فرسي وقف بعد موتي "، فإنه جائز ذلك في ظاهر مذهب أحمد، كما ذكره الخرقي وغيره، لان هذا كله من الوصايا، فحينئذ يكون التعليق بعد الموت جائزا لانه وصية. لزومه : ومتى فعل الواقف ما يدل على الوقف أو نطق بالصيغة لزم الوقف بشرط أن يكون الواقف ممن يصح تصرفه، بأن يكون كامل الاهلية من العقل والبلوغ والحرية والاختيار، ولا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه. وإذا لزم الوقف فإنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا التصرف فيه بأي شئ يزيل وقفيته. وإذا مات الواقف لا يورث عنه لان هذا هو مقتضى الوقف. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث ابن عمر: " لا يباع ولا يوهب ولا يورث ". ويرى أبو حنيفة أنه يجوز بيع الوقف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 قال أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث لقال به. والراجح من مذهب الشافعية أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله عز وجل فلا يكون ملكا للواقف ولا ملكا للموقوف عليه. وقال مالك وأحمد: ينتقل الملك إلى الموقوف عليه. (1) ما يصح وقفه وما لا يصح : يصح وقف العقار والمنقول من الاثاث والمصاحف والكتب والسلاح والحيوان (2) ، وكذلك يصح وقف كل ما يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به مع بقاء عينه. وقد تقدم ما يفيد ذلك ولا يصح وقف ما يتلف بالانتفاع به مثل النقود والشمع والمأكول والمشروب، ولا ما يسرع إليه الفساد من المشمومات والرياحين لانها تتلف سريعا، ولا ما لا يجوز بيعه كالمرهون. والكلب والخنزير وسائر سباع البهائم التي لا تصلح للصيد وجوارح الطير التي لا يصاد بها. لا يصح الوقف إلا على معين أو جهة بر : ولا يصح الوقف إلا على من يعرف كولده وأقاربه   (1) ويترتب على الحكم بانتقال الملك لزوم مراعاته والخصومة فيه. (2) هذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ورواية عن مالك: لا يصح وقف الحيوان. والحديث حجة عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 ورجل معين، أو على بر كبناء المساجد والقناطر وكتب الفقه والعلم والقرآن. فإذا وقف على غير معين كرجل وامرأة. أو على معصية مثل الوقف على الكنائس والبيع فإنه لا يصح. الوقف على الولد يدخل فيه أولاد الولد : من وقف على أولاده دخل في ذلك أولاد الاولاد ما تناسلوا. وكذلك أولاد البنات. فعن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابن أخت القوم منهم " (1) . الوقف على أهل الذمة : ويصح الوقف على أهل الذمة مثل المسيحيين كما يجوز التصدق عليهم. ووقفت صفية بنت حيي النبي صلى الله عليه وسلم على أخ لها يهودي. الوقف المشاع : يجوز وقف المشاع لان عمر رضي الله عنه وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة وحكاه في " البحر " عن   (1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 الهادي والقاسم والناصر والشافعي وأبي يوسف ومالك. وبعض العلماء يري عدم صحة وقف المشاع لان من شرطه التعيين. وبهذا قال محمد بن الحسن. الوقف على النفس : من العلماء من رأى صحة الوقف على النفس استدلالا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: عندي دينار. فقال له: " تصدق به على نفسك " (1) . ولان المقصود من الوقف التقرب إلى الله، والصرف على النفس فيه قربة إليه سبحانه، وهذا قول أبي حنيفة وابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد، في الارجح عنه، وابن شعبان من المالكية وابن سريج من الشافعية وابن شبرمة وابن الصباع والعترة بل إن بعضهم جوز وقف المحجور عليه للسفه إذا وقف على نفسه تم على أولاده، لان الحجر إنما هو للمحافظة على أمواله ووقفه بهذه الطريقة يحقق هذه المحافظة. ومنهم من منع ذلك لان الوقف على النفس تمليك ولا يصح أن يتملكه من نفسه لنفسه كالبيع والهبة. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:   (1) رواه أبو داود والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 " سبل الثمرة " وتسبيلها تمليكها للغير. وإلى هذا ذهب الشافعي وجمهور المالكية والحنابلة ومحمد والناصر. الوقف المطلق : إذا وقف الواقف وقفا مطلقا فلم يعين مصرفا للوقف بأن قال: هذه الدار وقف. فإن ذلك يصح عند مالك. والراجح عند الشافعية أنه لا يصح مع عدم بيان المصرف. الوقف في مرض الموت : إذا وقف المريض مرض الموت لاجنبي فإنه يعتبر من الثلث مثل الوصية ولا يتوقف على رضا الورثة إلا إذا زاد على الثلث فإنه لا يصح وقف هذا الزائد إلا بإجازتهم. الوقف في المرض على بعض الورثة : أما الوقف لبعض الورثة في مرض الموت: فقد ذهب الشافعي وأحمد في احدى الروايتين عنه إلى أنه لا يجوز الوقف على بعض الورثة أثناء المرض. وذهب غير الشافعي وأحمد في الرواية الاخرى إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 جواز وقف الثلث على الورثة في المرض مثل الاجانب. ولما قيل للامام أحمد: أليس تذهب إلى أنه لا وصية لوارث؟ فقال: نعم. والوقف غير الوصية لانه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة ينتفعون بغلته. الوقف على الأغنياء : الوقف قربة يتقرب به إلى الله عز وجل. فإذا شرط الواقف ما ليس بقربة. كما لو شرط أن لا يعطى إلا الاغنياء. فقد اختلف العلماء في هذه الصورة. فمنهم من أجازها لانها ليست بمعصية. ومنهم من منعها لان هذا شرط باطل ولانه صرف له فيما لا ينفع الواقف لا في دينه ولا في دنياه. ورجح ابن تيمية هذا فقال: " وهذا من السرف والتبذير الذي يمنع منه، ولان الله سبحانه وتعالى كره أن يكون المال دولة بين الاغنياء لقوله: " كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم " (1) .   (1) سورة الحشر من الاية رقم 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 فمن شرط في وقفه أو وصيته أن يكون دولة بين الاغنياء فقد شرط شرطا يخالف كتاب الله. ومن شرط شرطا يخالف كتاب الله فهو باطل. وان شرط مائة شرط: " كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ". ومن هذا الباب: إذا اشترط الواقف أو الموصي أعمالا ليست في الشريعة لا واجبة ولا مستحبة فهذه شروط باطلة مخالفة لكتاب الله لان إلزام الانسان للناس ما ليس بواجب ولا مستحب من غير منفعة له بذلك سفه وتبذير يمنع منه " ا. هـ جواز أكل العامل من مال الوقف: يجوز للمتولي أمر الوقف أن يأكل منه لحديث ابن عمر " السابق " وفيه: " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ". والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة. قال القرطبي: " جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل لاستقبح ذلك منه." الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 فاضل ريع الوقف يصرف في مثله : قال ابن تيمية: " وما فضل من ريع الوقف واستغني عنه فإنه يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضلت غلة وقفه عن مصالحه صرف في مسجد آخر، لان الواقف غرضه في الجنس. والجنس واحد. فلو قدر أن المسجد الاول خرب، ولم ينتفع به أحد. صرف ريعه في مسجد آخر. وكذلك إذا فضل عن مصلحته شئ، فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه. ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى. وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف ". إبدال المنذور والموقوف بخير منه : وقال ابن تيمية أيضا: وأما إبدال المنذور والموقوف بخير منه. كما في إبدال الهدي. فهذا نوعان: أحدهما: أن يكون الابدال للحاجة، مثل أن يتعطل فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، كالفرس الحبيس للغزو، إذا لم يمكن الانتفاع به في الغزو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، والمسجد إذا تخرب ما حوله، فينقل إلى مكان آخر، أو يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، وإذا لم يمكن الانتفاع بالموقوف عليه من مقصود الواقف، فيباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، وإذا خرب ولم يمكن عمارته فتباع العرصة، ويشترى بثمنها ما يقوم مقامها، فهذا كله جائز، فإن الاصل إذا لم يحصل به المقصود قام بدله مقامه. والثاني: الابدال لمصلحة راجحة، مثل أن يبدل الهدي بخير منه، ومثل المسجد إذا بني بدله مسجد آخر أصلح لاهل البلد منه، وبيع الاول، فهذا ونحوه جائز عند أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الاول سوقا للتمارين (1) ، فهذا إبدال لعرصة المسجد وأما إبدال بنائه ببناء آخر، فإن عمر وعثمان   (1) يشير الى ما كتبه عمر الى سعد رضي الله عنهما لما بلغه أنه نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 رضي الله عنهما. بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غير بنائه الاول وزادا فيه، وكذلك المسجد الحرام وقد ثبت في " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة، ولالصقتها بالارض ولجعلت لها بابين، بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرج منه الناس، فلولا المعارض الراجح، لكان النبي صلى الله عليه وسلم غير بناء الكعبة، فيجوز تغيير بناء الوقف من صورة إلى صورة، لاجل المصلحة الراجحة، أما إبدال العرصة بعرصة أخرى، فهذا قد نص أحمد وغيره على جوازه، اتباعا لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، واشتهرت القضية ولم تنكر. وأما ما وقف للغلة، إذا أبدل بخير منه، مثل أن يقف دارا أو حانوتا أو بستانا أو قرية مغلها قليل، فيبدل بها ما هو أنفع للوقف. فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء، مثل أبي عبيد بن حربويه قاضي مصرو حكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 عرصة للمصلحة، بل إذا جاز أن يبدل المسجد بما ليس بمسجد للمصلحة، بحيث يصير المسجد سوقا، فلان يجوز إبدال المستغل بمستغل آخر، أولى وأحرى، وهو قياس قوله في إبدال الهدي بخير منه، وقد نص على أن المسجد اللاصق بالارض إذا رفعوه وبنوا تحته سقاية، واختار ذلك الجيران فعل ذلك. لكن من أصحابه من منع إبدال المسجد، والهدي، والارض الموقوفة، وهو قول الشافعي وغيره (1) ، لكن النصوص والآثار، والقياس تقتضي جواز الابدال للمصلحة، والله أعلم. حرمة الإضرار بالورثة : يحرم أن يقف الشخص وقفا يضار به الورثة لحديث الرسول (ص) (لاضرر ولاضرار في الاسلام) فإن وقف بطل وقفه. قال في الروضة الندية: " والحاصل أن الاوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز وجل فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال، وذلك كمن يقف على   (1) وهو قول مالك أيضا. وقد استدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك، فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لاحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني، فليكن هذا منك على ذكر، فما أكثر وقوعه في هذه الازمنة. وهكذا وقف من لا يحمله على الوقوف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته، فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عزوجل، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء، وليس أمر غنى الورثة أو فقرهم إلى هذا الواقف بل هو إلى الله عزوجل. وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا بحسب اختلاف الاشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الاسباب المقتضية لذلك. ومن هذا النادر أن يقف على من تمسك بالصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم، فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خالصا والقربة متحققة والاعمال بالنيات، ولكن تفويض الامر إلى ما حكم الله به بين عباده وارتضاه لهم أولى وأحق " ا. هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 الهبة : تعريفها: جاء في القرآن الكريم قول الله عزوجل: " قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " (1) . وهي مأخوذة من هبوب الريح أي مرورها. وتطلق الهبة ويراد بها التبرع والتفضل على الغير سواء أكان بمال أم بغيره. والهبة في الشرع: عقد موضوعه تمليك الانسان ماله لغيره في الحياة بلا عوض، فإذا أباح الانسان ماله لغيره لينتفع به ولم يملكه إياه كان إعارة. وكذلك إذا أهدى ما ليس بمال كخمرأ وميتة فإنه لا يكون مهديا ولايكون هذا العطاء هدية، وإذا لم يكن التمليك في الحياة بل كان مضافا إلى ما بعد الوفاة   (1) سورة آل عمران الآية رقم 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 كان ذلك وصية. وإذا كانت بعوض (1) كانت بيعا ويجري فيها حكم البيع، أي أنها تملك بمجرد تمام العقد ولا تنفذ فيها تصرفات الواهب إلا بإجازة الموهوب له. ويثبت فيها الخيار والشفعة. ويشترط أن يكون العوض معلوما فإذا لم يكن العوض معلوما بطلت الهبة. والهبة المطلقة لا تقتضي عوضا سواء أكانت لمثله أو دونه أو أعلى منه. هذا هو معنى الهبة بالمعنى الاخص. أما معناها بالمعنى الأعم فيشمل ما يأتي: 1 - الابراء: وهو هبة الدين ممن هو عليه. 2 - الصدقة: وهي هبة ما يراد به ثواب الآخرة. 3 - الهدية: وهي ما يلزم الموهوب له أن يعوضه. مشروعيتها: وقد شرع الله الهبة لما فيها من تأليف القلوب وتوثيق عرى المحبة بين الناس. وعن أبي هريرة، رضي   (1) يرى أبو حنيفة أن الهبة بشرط العوض هبة ابتداء بيع انتهاء. وعلى هذا فهي قبل تسليم العوض لا تملك إلا بالقبض ولا ينفذ فيها تصرفات الموهوب له قبل القبض. ويجوز للواهب التصرف فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 الله عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا " (1) . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها. وكان يدعو إلى قبولها ويرغب فيها، فعند أحمد من حديث خالد بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف (2) ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه ". وقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على قبول الهدية ولو كانت شيئا حقيرا، ومن ثم رأى العلماء كراهية ردها حيث لا يوجد مانع شرعي. فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أهدي إلى كراع (3) لقبلت. ولو دعيت عليه لاجبت " (4) . وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: " إلى أقربهما منك بابا ".   (1) أخرجه البخاري في الادب المفرد. والبيهقي. قال الحافظ: سناده حسن. (2) تطلع. (3) وهو ما دون الكعب من الدابة. (4) رواه أحمد والترمذي وصححه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 وعن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تهادوا فإن الهدية تذهب وحر (1) الصدر ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فرسن (2) شاه ". وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية الكفار. فقبل هدية كسري. وهدية قيصر. وهدية المقوقس. كما أهدى هوالكفار الهدايا والهبات. أما ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي أن عياضا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت؟ قال: لا. قال: " اني نهيت عن زبد (3) المشركين ". فقد قال فيه الخطابي: " يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا لانه صلى الله عليه وسلم قد قبل هدية غير واحد من المشركين ". قال الشوكاني: " وقد أورد البخاري في صحيحه حديثا استنبط منه جواز قبول هدية الوثني، ذكره في باب قبول الهدية من   (1) الحقد. (2) الحافر. (3) رفد وعطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 المشركين من كتاب الهبة والهدية. قال الحافظ في الفتح: " وفيه فساد من حمل رد الهدية على الوثني دون الكتابي وذلك لان الواهب المذكور في ذلك الحديث وثني " ا. هـ أركانها : وتصح الهبة بالايجاب والقبول بأي صيغة تفيد تمليك المال بلا عوض بأن يقول الواهب: وهبتك أو أهديتك أو أعطيتك ونحو ذلك. ويقول الآخر: قبلت. ويرى مالك والشافعي اعتبار القبول في الهبة. وذهب بعض الاحناف إلى أن الايجاب كاف وهو أصح. وقالت الحنابلة: تصح بالمعاطاة التي تدل عليها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه، وكذلك كان أصحابه يفعلون. ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يشترطون إيجابا وقبولا ونحو ذلك. شروطها : الهبة تقتضي واهبا وموهوبا له وموهوبا. ولكل شروط نذكرها فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 شروط الواهب : يشترط في الواهب الشروط الآتية: 1 - أن يكون مالكا للموهوب. 2 - أن لا يكون محجورا عليه لسبب من أسباب الحجر. 3 - أن يكون بالغا. لان الصغير ناقص الاهلية. 4 - أن يكون مختارا. لان الهبة عقد يشترط في صحته الرضا. شروط الموهوب له : ويشترط في الموهوب له: 1 - وأن يكون موجودا حقيقة وقت الهبة فإن لم يكن موجودا أصلا أو كان موجودا تقديرا بأن كان جنينا فإن الهبة لا تصح. ومتى كان الموهوب له موجودا أثناء الهبة وكان صغيرا أو مجنونا فإن وليه أو وصيه أو من يقوم بتربيته ولو كان أجنبيا يقبضها له. شروط الموهوب: ويشترط في الموهوب: 1 - أن يكون موجودا حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 2 - أن يكون مالا متقوما (1) . 3 - أن يكون مملوكا في نفسه أي يكون المرهوب مما ترد عليه الملكية ويقبل التداول وانتقال ملكيته من يد إلى يد فلا تصح هبة الماء في النهر ولا السمك في البحر ولا الطير في الهواء ولا المساجد والزوايا. 4 - أن لا يكون متصلا بملك الواهب اتصال قرار كالزرع والشجر والبناء دون الارض بل يجب فصله وتسليمه حتى يملك للموهوب له. 5 - أن يكون مفرزا أي غير مشاع لان القبض فيه لا يصح إلامفرزا كالرهن، ويرى مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور عدم اشتراط هذا الشرط وقالوا: ان هبة المشاع غير المقسوم تصح. وعند المالكية يجوز هبة ما لا يصح بيعه مثل البعير الشارد والثمرة قبل بدو صلاحها والمغصوب. هبة المريض مرض الموت: (2) إذا كان شخص مريض مرض الموت ووهب غيره هبة فحكم هبته كحكم الوصية، فإذا وهب هبة لاحد   (1) يرى الحنابلة صحة هبة الكلب الذي يقتنى. والنجاسة التي يباح نفعها. (2) مرض الموت: هو الذي يعجز المريض عن ممارسة العمل وينتهي به إلى الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 ورثته ثم مات، وادعى باقي الورثة أنه وهبه في مرض موته وادعى الموهوب له أنه وهبه في حال صحته، فإن على الموهوب له أن يثبت قوله، وإن لم يفعل اعتبرت الهبة أنها حصلت في مرض الموت وجرى حكمها على مقتضى ذلك أي أنها لا تصح إلا إذا أجازها الورثة. وإذا وهب وهو مريض مرض الموت ثم صح من مرضه فالهبة صحيحة. قبض الهبة : من العلماء من يرى أن الهبة تستحق للموهوب له بمجرد العقد ولا يشترط قبضها أصلا لان الاصل في العقود أنها تصح بدون اشتراط القبض مثل البيع كما سبقت الاشارة إليه، وإلى هذا ذهب أحمد ومالك وأبو ثور وأهل الظاهر. وبناء على هذا إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل التسليم فإن الهبة لا تبطل لانها بمجرد العقد أصبحت ملكا للموهوب له. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري إن القبض شرط من شروط صحتها، وما لم يتم القبض لم يلزم الواهب. فإذا مات الموهوب له أو الواهب قبل التسليم بطلت الهبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 التبرع بكل المال : مذهب الجمهور من العلماء أن للانسان أن يهب جميع ما يملكه لغيره. وقال محمد بن الحسن وبعض محققي المذهب الحنفي: لا يصح التبرع بكل المال ولو في وجوه الخير، وعدوا من يفعل ذلك سفيها يجب الحجر عليه. وحقق هذه القضية صاحب الروضة الندية فقال: " من كان له صبر على الفاقة وقلة ذات اليد فلا بأس بالتصدق بأكثر ماله أو بكله، ومن كان يتكفف الناس إذا احتاج لم يحل له أن يتصدق بجميع ماله ولا بأكثره. وهذا هو وجه الجمع بين الاحاديث الدالة على أن مجاوزة الثلث غير مشروعة وبين الادلة التي دلت على مشروعية التصدق بزيادة على الثلث " ا. هـ الثواب على الهدية : ويستحب المكافأة على الهدية وإن كانت من أعلى لادنى. لما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 الهدية ويثيب عليها " (1) . ولفظ ابن أبي شيبة: " ويثيب ما هو خير منها ". وانما كان يفعل ذلك ليقابل الجميل بمثله وحتى لا يكون لاحدعليه منة. قال الخطابي: " من العلماء من جعل أمر الناس في الهادية على ثلاث طبقات: 1 - هبة الرجل من دونه كالخادم ونحوه اكرام له وإلطاف. وذلك غير مقتض ثوابا. 2 - هبة الصغير للكبير: طلب رفد ومنفعة. والثواب فيها واجب. 3 - هبة النظير لنظيره: الغالب فيها معنى التودد والتقرب. وقد قيل إن فيها ثوابا. فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم " ا. هـ   (1) أي يعطي المهدي. بدلها وأقله ما يساوي قيمة الهدية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 حرمة تفضيل بعض الابناء في العطاء والبر: لا يحل لاي شخص أن يفضل بعض أبنائه على بعض في العطاء لما في ذلك من زرع العداوة وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل. وقد ذهب إلى هذا الامام أحمد (1) واسحاق والثوري وطاوس وبعض المالكية وقالوا: " إن التفضيل بين الاولاد باطل وجور ويجب على فاعله إبطاله، وقد صرح البخاري بهذا، واستدلوا على هذا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سووا بين أولادكم في العطية. ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء " (2) . عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، قال: أنحلني   (1) مذهب الامام أحمد حرمة التفضيل بين الاولاد ما لم يكن هناك داع، فإذا كان هناك داع أو مقتض للتفضيل فإنه لا مانع منه. قال في المغني: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه على سبيل الاثرة والعطية في معناه " ا. هـ (2) أخرجه الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور وقد حسن الحافظ بن حجر اسناده في الفتح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 أبي نحلا (1) - قال اسماعيل بن سالم من بين القوم: نحله غلاما له. قال: فقالت له أمي عمرة بنت رواحة - إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال: إني نحلت ابني النعمان نحلا، وإن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك. قال: فقال: ألك ولد سواه؟ قال: قلت: نعم، قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ قال: لا. قال: فقال بعض هؤلاء المحدثين: هذا جور وقال بعضهم: هذا تلجئة. فأشهد على هذا غيري. قال مغيرة في حديثه: أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم. قال: فأشهد على هذا غيري - وذكر مجاهد في حديثه: إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم. كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك ". قال ابن القيم: هذا الحديث هو من تفاصيل العدل الذي أمر الله   (1) النحل: بضم النون وسكون الحاء المهملة. مصدر نحلته، من العطية، أنحله بضم الحاء واللام. نحلا. والنحلى: العطية. على فعلى. قاله الجوهري. وقال غيره: النحل والنحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 به في كتابه وقامت به السموات والارض وأثبتت عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الارض، وهو محكم الدلالة غاية الاحكام، فرد بالمتشابه من قوله: " كل أحد أحق بماله من ولده والناس أجمعين ". فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء ويقاس متشابهه على إعطاء الاجانب. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا الحكم المبين غاية البيان " ا. هـ وذهب الاحناف والشافعي ومالك والجمهور من العلماء إلى أن التسوية بين الابناء مستحبة والتفضيل مكروه وان فعل ذلك نفذ. وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة، كما ذكر الحافظ في الفتح، كلها مردودة، وقد أوردها الشوكاني في نيل الاوطار، نوردها مختصرة مع زيادات مفيدة قال: أحدها: أن الموهوب النعمان كان جميع مال والده، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأن كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث الباب ان الموهوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 كان غلاما وكما في لفظ مسلم المذكور قال: " تصدق علي أبي ببعض ماله ". الجواب الثاني: أن العطية المذكورة لم تنجز، وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأشار عليه بأن لا يفعل فترك. حكاه الطبري. ويجاب عنه بأن أمره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالتنجيز. وكذلك قول عمرة " لا أرضى حتى تشهد ... الخ ". الجواب الثالث: أن النعمان كان كبيراولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع. ذكره الطحاوي قال الحافظ: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله " أرجعه " فإنه يدل على تقدم وقوع القبض. والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره. فأمره برد العطية المذكورة بعدما كانت في حك المقبوض. الجواب الرابع: إن قوله " أرجعه " دليل الصحة، ولو لم تصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 الهبة لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لان للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وإن كان الافضل خلاف ذلك. لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به. قال في الفتح: وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله: " أرجعه " أي لا تمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. الجواب الخامس: إن قوله " أشهد على هذا غيري " إذن بالاشهاد على ذلك، وانما امتنع من ذلك لكونه الامام وكأنه قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد. وإنما من شأنه أن يحكم. حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار. وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولامن أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث. قال الحافظ: وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع. وقال ابن حبان: قوله " أشهد " صيغة أمر والمراد به نفي الجواز، وهي كقوله لعائشة " اشترطي لهم الولاء " ا. هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 ويؤيد هذا تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا، كما في الرواية المذكورة في الباب. الجواب السادس: التمسك بقوله " ألا سويت بينهم؟ على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهي التنزيه. قال الحافظ: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة. ولاسيما رواية " سو بينهم ". الجواب السابع: قالوا: المحفوظ في حديث النعمان " قاربوا بين أولادكم " لاسووا، وتعقب بأنكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية. الجواب الثامن: في التشبيه الواقع بينهم في التسوية بينهم بالتسوية منهم في البر قرينة تدل على أن الامر للندب. ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهي عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفها. وان صلحت لصرف الامر. الجواب التاسع: ما تقدم عن أبي بكر من نحلته لعائشة وقوله لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 " فلو كنت احترثته " وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه تحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين. قال في الفتح ": وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين. ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم " ا. هـ على أنه لاحجة في فعلهما لاسيما إذا عارض المرفوع. الجواب العاشر: إن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده. فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض أولاده بالتمليك لبعضهم. ذكره ابن عبد البر. قال الحافظ: ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص. ا. هـ فالحق أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم. واختلف الموجبون في كيفية التسوية. فقال محمد ابن الحسن واحمد واسحاق وبعض الشافعية والمالكية: العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث. واحتجوا بأن ذلك حظه من المال لو مات عند الواهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 وقال غيرهم: لافرق بين الذكر والانثى. وظاهر الامر بالتسوية " ا. هـ الرجوع في الهبة : ذهب جمهور العلماء إلى حرمة الرجوع في الهبة ولو كانت بين الاخوة أو الزوجين، إلا إذا كانت هبة الوالد لولده (1) فإن له الرجوع فيها لما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها الا الوالد (2) فيما يعطي ولده (3) . ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح، وهذا أبلغ في الدلالة على التحريم.   (1) وقال مالك: له الرجوع فيما وهب له إلا أن يكون الشئ قد تغير عن حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه. وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع فيما وهب لابنه ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للاجانب. وهذا المذهب غير قوي لمخالفته الاحاديث. (2) حكم الام مثل الاب عند أكثر العلماء. (3) سواء أكان الولد كبيرا أم صغيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 وفي احدى الروايات عن ابن عباس: " ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه ". وكذلك يجوز الرجوع في الهبة في حالة ما إذا وهب ليتعوض من هبته ويثاب عليها فلم يفعل الموهوب له: لما رواه سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها " أي يعوض عنها وهذا هو ما رجحه ابن القيم في " اعلام الموقعين " قال: " ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع هو من وهب تبرعا محضا لا لاجل العوض، والواهب الذي له الرجوع هومن وهب ليتعوض من هبته ويثاب منها فلم يفعل الموهوب له، وتستعمل سنة رسول الله كلها ولا يضرب بعضها ببعض ". ما لايرد من الهدايا والهبات : 1 - عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 " ثلاث لاترد: الوسائد والدهن (1) واللبن (2) ". 2 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عرض عليه ريحان فلا يرده لانه خفيف المحمل طيب الريح " (3) . 3 - وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كان لايرد الطيب. الثناء على المهدي والدعاء له : 1 - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " (4) . 2 - وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أعطي عطاء فوجد (5) فليجزيه، ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور " (6) .   (1) الدهن: الطيب. (2) رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب. (3) رواه مسلم. (4) رواه أحمدو الترمذي بإسناد صحيح. (5) فوجد: أي سعة من المال. (6) رواه أبو داود والترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 3 - وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله اخيرا فقد أبلغ في الثناء " (1) . 4 - وعن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل من كثير (2) . ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤونة، وأشر كونا في المهنأ (3) حتى خفنا أن يذهبوا بالاجر كله؟ فقال: لا. ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم " (4) .   (1) رواه الترمذي بإسناد جيد. (2) أبذل من كثير: أي من مال. (3) المهنأ: ما يقوم بالكفاية وإصلاح المعيشة. (4) رواه الترمذي بإسناد صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 العمرى : تعريفها : العمرى: هي نوع من الهبة: وهي أن يهب إنسان آخر شيئا مدى عمره. أي على أنه إذا مات الموهوب له عاد الشئ للواهب. ويكون ذلك بلفظ: أعمرتك هذا الشئ أو هذه الدار، أي جعلتها لك مدة عمرك، ونحو هذا من العبارات. ويسمى القائل معمرا. والمقول له معمرا. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فكرة الاسترداد بعد وفاة المعمر له باطلة فأثبت في العمرى ملك اليمين الدائم للمعمر له مادام حيا ثم من بعده لورثته الذين يرثون أملاكه، إن كان له ورثة. فإن لم يكن له ورثة كانت لبيت المال، ولا يعود إلى المعمر شئ منها قط. فعن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 1 - " من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 يرثه من عقبه من بعده. 2 - " وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرى جائزة " أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. 3 - وعن أبي سلمة عن جابر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " العمرى لمن وهبت له ". أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. 4 - وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع للذي أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ". أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 5 - وروى أبو داود عن طارق المكي أن جابر بن عبد الله قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة من الانصار أعطاها ابنها حديقة من نخل فماتت. فقال ابنها: انما أعطيتها حياتها. وله إخوة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 " هي لها حياتها وموتها ". قال: كنت تصدقت بها عليها. قال: " ذاك أبعد لك ". وإلى هذا ذهبت الاحناف والشافعي وأحمد. وقال مالك: العمرى: تمليك المنفعة دون الرقبة. فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث. فإن جعلها له ولعقبه بعده كانت ميراثا لاهله والحديث حجة عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 الرقبى تعريفها : هي أن يقول أحد الاشخاص لصاحبه: - أرقبتك داري وجعلتها لك في حياتك فإن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك. فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه فتكون الدار التي جعلها رقبى لآخر من بقي منهما. قال مجاهد: العمرى: أن يقول الرجل للرجل: هو لك ما عشت فإذا قال ذلك فهو له ولورثته. والرقبى: أن يقول الانسان هو للآخر مني ومنك. مشروعيتها: وهي مشروعة. فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 " العمرى جائزة لاهلها. والرقبى جائزة لاهلها ". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي حسن. حكمها : حكمها حكم العمرى عند الشافعي وأحمد وهو حكم ظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة: العمرى موروثة. والرقبى عارية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 النفقة سبق أن ذكرنا وجوب نفقة الزوجة على زوجها، وبقي أن نذكر نفقة الوالدين على ابنهما ونفقة الابن على أبيه ونفقة الاقارب ونفقة الحيوان. نفقة الوالدين وأخذهما من مال ابنهما : نفقة الوالدين المعسرين واجبة على الولد متى كان واجدا لها. فعن عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة قالت: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه " (1) . وأما أخذ الوالدين من مال ابنهما فإنه يجوز لهما   (1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 أن يأخذا منه سواء أذن الولد أم لم يأذن. ويجوز لهما أن يتصرفا فيه ما لم يكن ذلك على وجه السرف والسفه، للحديث المتقدم ولحديث جابر أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي مالا وولده وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: " أنت ومالك لابيك " (1) . وذهب الائمة الثلاثة إلى أنه لا يأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة. وقال أحمد: له أن يأخذ من مال ولده ما شاء عند الحاجة وغيرها. وجوب النفقة على الوالد الموسر لولده المعسر : وكما تجب النفقة على الولد الموسر لوالده المعسر فإنها تجب للولد المعسر على والده الموسر، لقوله صلى الله عليه وسلم لهند " خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف ". قال أحمد: إذا بلغ الولد معسرا أو لا حرفة له لا تسقط نفقته عن أبيه إذا لم يكن له كسب ولا مال.   (1) رواه ابن ماجه..واللام للاباحة لاللتمليك فإن مال الولد له وزكاته عليه وهو موروث عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 النفقة للأقرباء : أما النفقة للاقرباء المعسرين على أقربائهم الموسرين فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا كبيرا. فمنهم من قال بعدم وجوبها إلا من باب البر وصلة الرحم. قال الشوكاني: ولا تجب على القريب لقريبه إلا من باب صلة الرحم. قال: وأما كونها لا تجب نفقة سائر القرابة إلا من باب صلة الرحم فلعدم ورود دليل يخص ذلك، بل جاءت أحاديث صلة الرحم وهي عامة، والرحم المحتاج إلى النفقة أحق الارحام بالصلة وقد قال تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاه سيجعل الله بعد عسر يسرا " (1) . " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " (2) . وقالت الشافعية: تجب النفقة على الموسر سواء أكان   (1) سورة الطلاق الاية رقم 7. (2) سورة البقرة الاية رقم 236. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 مسلما أم غير مسلم للاصول من الاباء والاجداد وإن علوا. وللفروع من الابناء وأبناء الابناء وأن نزلوا ولا تجب لغير هؤلاء. وقالت المالكية: لا تجب النفقة إلا للاب والام والابن والبنت ولا تجب للاجداد ولا للاحفاد ولا لغيرهما من الاقارب ولا يمنع اختلاف الدين من وجوبها. والحنابلة: يوجبون النفقة على القريب الموسر الذي يرث القريب المحتاج إذا مات وترك مالا فهي تسير مع الميراث سيرا مطردا لان الغرم بالغنم والحقوق متبادلة. وهم يوجبونها للوالدين وإن علوا والولد وان نزل، وعندهم لا تجب النفقة لذوي الارحام وهم من ليسوا بذوي فروض وليسوا بعصبات فلا نفقة لهم ولا علهيم إن لم يكونوا من جهة الاصول والفروع وذلك لضعف قرابتهم وعدم النص في شأنهم من قران وسنة، وقد توسع ابن حزم فقال: إنه يجبر القادر على النفقة على المحتاج من أبويه وأجداده وإن علوا، وعلى البنين والبنات وبنيهم وإن سفلوا. وعلى الاخوة والاخوات والزوجات. كل هؤلاء يسوي بينهم في إيجاب النفقة ولا يقدم منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 أحد على أحد. فإن فضل هؤلاء عن هؤلاء بعد كسوتهم ونفقتهم شئ أجبر على النفقة على ذوي رحمه المحرمة ومورثيه (1) إن كان من ذكرنا لا شئ لهم ولا عمل بأيديهم تقوم مؤونتهم منه. وهم الاعمام والعمات وإن علوا والاخوال والخالات وان علوا وبنو الاخوة وان سفلوا ومن قدر من كل هؤلاء على معاش وتكسب وان كان خسيسا فلا نفقة له إلا الابوين والاجداد والجدات والزوجات فانه يكلف أن يصونهم عن خسيس الكسب وإن قدر على ذلك. ويباع عليه في كل ما ذكرنا ما به عنه غنى من عقاره وعروضه وحيوانه. نفقة الحيوان : يجب على الشخص أن ينفق على بهائمه وحيوانه ويقدم لها ما يقيم حياتها من طعام وشراب. فإن لم يفعل أجبره الحاكم على النفقة عليها أو على بيعها أو على ذبحها. فإن لم يفعل تصرف الحاكم بما هو أصلح. 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   (1) أي من يرثهم لو ماتوا عن مال يورث عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 " عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الارض ". 2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملا خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ". قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: " في كل كبد رطبة أجر ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 الحجر : تعريفه: الحجر في اللغة: التضييق والمنع ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن قال: " اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا: " لقد حجرت واسعا يا أعرابي ". ومعناه في الشرع: منع الانسان من التصرف في ماله. أقسامه : والحجر ينقسم قسمين: الاول: الحجر لحق الغير مثل: الحجر على المفلس فإنه يمنع من التصرف في ماله محافظة على حقوق الغرماء. فقد حجر الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ وباع ماله في دينه - رواه سعيد بن منصور. والثاني: الحجر لحفظ النفس مثل: الحجر على الصغير والسفيه والمجنون فإن في الحجر على هؤلاء مصلحة تعود عليهم بخلاف المفلس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 الحجر على المقاس المفلس هو الذي لا يملك مالا ولا يملك ما يدفع به حاجته وبلغ به الفقر إلى الحالة التي يقال عنه فيها ليس معه فلس. وسمي مفلسا وإن كان ذا مال لان ماله مستحق للغرماء، فكأنه معدوم لا وجود له ويعرف الفقهاء: بأنه الشخص الذي كثر دينه ولم يجد وفاء له فحكم الحاكم بإفلاسه. مماطلة القادر على الوفاء : القادر على الوفاء إن ماطل ولم يف بالدين الذي حل أجله يعتبر ظالما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظلم " وبهذا الحديث استدل جمهور العلماء على ان المطل مع الغنى كبيرة، ويجب على الحاكم أن يأمره بالوفاء، فإن أبى حبسه متى طلب الدائن ذلك: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه (1) وعقوبته (2) ". قال ابن المنذر:   (1) عرضه: شكواه. (2) عقوبته: حبسه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 " أكثر من نحفظ عنه من علماء الامصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين. وكان عمر بن عبد العزيز يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس. وبه قال الليث: فإن أصر على عدم قضاء الدين ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضى رب المال دفعا للضرر عنه. الحجر على المفلس وبيع ماله : ومن له مال ولكنه لا يفي بديونه فإنه يجب على الحاكم أن يحجر عليه متى طلب الغرماء أو بعضهم ذلك منه حتى لا يضر بهم. وله أن يبيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقع بيعه صحيحا لانه يقوم مقامه. وأصل هذا ما رواه سعيد بن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك، مرسلا، قال: " كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا. فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه. فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 حتى قام معاذ بغير شئ ". وفي نيل الاوطار: " استدل بالحجر على معاذ على أنه يجوز الحجر على كل مدين. وعلى أنه يجوز للحاكم بيع مال المدين لقضاء دينه من غير فرق بين من كان ماله مستغرقا بالدين ومن لم يكن ماله كذلك " ا. هـ ومتى تم الحجر عليه فإن تصرفه لا ينفذ في أعيان ماله لان هذا هو مقتضى الحجر، وهو قول مالك وأظهر قولي الشافعي. ويقسم المال بالحصص على الغرماء الحاضرين الطالبين الذين حلت آجال حقوقهم فقط لا يدخل فيهم حاضر لا يطلب ولا غائب لم يوكل. ولا حاضر أو غائب لم يحل أجل حقه طلب أو لم يطلب. وهذا ما ذهب إليه أحمد وهو أصح قولي الشافعي. وعند مالك يحل الدين بالحجر إذا كان مؤجلا. أما الميت المفلس فإنه يقضي لكل من حضر أو غاب، طلب أو لم يطلب، ولكل ذي دين سواء أكان الدين حالا أم مؤجلا. ويقدم حق الله كالزكاة والكفارات على حق العباد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن دين الله أحق بالقضاء ". وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الحجر على المدين ولا بيع ماله بل يحبسه الحاكم حتى يقضي. والرأي الاول أرجح لموافقته للحديث. الرجل يجد ماله عند المفلس : إذا وجد الرجل ماله عند المفلس فله عدة صور نذكرها فيما يلي: 1 - من وجد ماله بعينه عند المفلس فانه أحق به من سائر الغرماء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " من أدرك ماله بعينه (1) عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره " رواه البخاري ومسلم. 2 - إذا تغير المال بالزيادة أو النقص فإنه ليس صاحبه أولى به بل يكون أسوة الغرماء (أي مثل الغرماء) . 3 - إذا باع المال وقبض بعض الثمن فإنه يكون أسوة الغرماء وليس له حق في استرجاع المبيع عند الجمهور. والراجح من قولي الشافعي أن البائع أولى به. 4 - إذا مات المشتري ولم يكن البائع قبض الثمن ثم   (1) لم يتغير بزيادة أو نقصان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 وجد البائع ما باعه فهو أولى به للحديث المتقدم. ولانه لا فرق بين الموت والافلاس. هذا عند الشافعي. وقال أبو هريرة " لاقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به " وهذا الحديث صححه الحاكم. لا حجر على معسر : وإنما يكون الحجر على المفلس في حالة ما إذا لم يتبين إعساره. فإن تبين إعساره لا يحبس ولا يحجر عليه ولا يلازمه الغرماء بل ينظر إلى ميسرة لقول الله سبحانه: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " (1) . وروى مسلم أن رجلا مدينا أصيب في ثمار ابتاعها فتصدقوا عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للغرماء: خذوا ما وجدتم وليس لكم لا ذلك ". وإنظار المعسر ثوابه مضاعف، فعن بريدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " من أنظر معسرا فله بكل يوم مثليه صدقة ".   (1) سورة البقرة الاية رقم 280. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 ترك ما يقوم به معاشه: وإذا باع الحاكم مال المفلس من أجل الغرماء فيجب أن يترك له ما يقوم به معاشه من مسكن فلا تباع داره (1) التي لا غنى له عنها. ويترك له من المال ما يستأجر به خادما يصلح لخدمة مثله. وإن كان تاجرا يترك له ما يتجر به. وإن كان محترفا يترك له آلة الحرفة. ويجب له ولمن تلزمه نفقتهم أدنى نفقة مثلهم من الطعام والكسوة. قال الشوكاني: يجوز لاهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه إلا ما كان لا يستغنى عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد وسد رمقه ومن يعول. وفي شرحه لهذا الكلام ذكر حديث معاذ ثم قال: لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه، ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك. ا.هـ الحجر على السفيه : ويحجر على السفيه البالغ لسفهه وسوء تصرفه. قال الله تعالى:   (1) هذا مذهب أبى حنيفة وأحمد. وذهب الشافعي ومالك إلى أن داره تباع في هذه الحالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " (1) . دلت الاية على جواز الحجر على السفيه. قال ابن المنذر: " أكثر علماء الامصار يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أم كبيرا " (2) . وفي نيل الاوطار: قال في البحر: " والسفه المقتضي للحجر عند من أثبته هو صرف المال في الفسق أو فيما لا مصلحة فيه ولا غرض ديني ولا دنيوي كشراء ما يساوي درهما، بمائة لا صرفه في أكل؟ يب ولبس نفيس وفاخر المشموم لقول الله تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون " (3) .   (1) سورة النساء الاية رقم 5. (2) قال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لما له: فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة. فإذا بلغها سلم المال إليه بكل حال، سواء أكان مفسدا أم غير مفسد. وقال مالك: إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول الحجر عنه وإن شاخ. (3) سورة الاعراف الاية رقم 32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 وكذا لو أنفقه في القرب " ا. هـ تصرفات السفيه : أفعال السفيه قيل الحجر عليه جائزة حتى يصدر الحكم عليه بالحجر. فإذا صدر الحكم عليه بالحجر فإن تصرفه لا يصح لان هذا هو مقتضى الحجر. فلا ينعقد له بيع ولا شراء ولا وقف، ولا يصح له إقرار. إقرار السفيه على نفسه : قال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان بزنى أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل. وأن الحدود تقام عليه وإن طلق نفذ في قول الاكثر. وإن أقر بمال صح إلا أنه لا يؤخذ به إلا بعد فك الحجر عنه. إظهار الحجر على السفيه والمفلس : من المستحب إظهار الحجر على السفيه والمفلس ليعلمهما الناس فلا يخدعوا بهما ويتعاملوا معهما على بصيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 الحجر على الصغير : وكما يحجر على السفيه لسفهه فإنه يحجر على الصغير ويمنع من تصرفه في ماله صيانة له من الضياع، ولا يمكن منه إلا بشرطين: الاول: أن يبلغ الحلم. الثاني: أن يؤنس منه الرشد. يقول الله سبحانه وتعالى: - وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ... " (1) . نزلت هذه الاية في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه إالاية. علامات البلوغ : والبلوغ يثبت بظهور علامة من العلامات الاتية: 1 - الإمناء سواء أكان ذلك يقظة أم مناما، لقول الله سبحانه:   (1) سورة النساء الاية رقم 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 " وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم " (1) روى أبو داود عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم. وعن النائم حتى يستيقظ. وعن المجنون حتى يفيق ". وروى الامام علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يتم بعد احتلام " رواه أبو داود. رواه البخاري. 2 - إتمام خمس عشرة سنة لقول ابن عمر رضي الله عنهما: " عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ". فلما سمع عمر بن عبد العزيز ذلك كتب إلى عماله أن لا يتعرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحكم لمن لا يحتلم بالبلوغ حتى يبلغ سبع عشرة سنة وفي رواية عند أبي حنيفة وهي الاشهر:   (1) سورة النور الاية رقم 59. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 تسع عشرة سنة. وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة. وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. 3 - نبات الشعر حول القبل. والمقصود بالشعر الشعر الاسود المتجعد لا مطلق شعر فإنه موجود في الاطفال. ففي غزوة بني قريظة كان يعرف المرء بأنه من المقاتلة بإنبات الشعر حول قبله. وقال أبو حنيفة: لا يثبت بالانبات حكم وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه. 4 - الحيض والحمل: ويثبت البلوغ بهذه الاشياء المتقدمة. بالنسبة للذكر والانثى وتزيد الانثى بالحيض والحمل لما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار "، وأما الرشد فهو القدرة على إصلاح المال وحفظه من الضياع فلا يغبن غبنا فاحشا غاليا ولا يصرفه في حرام. وإذا بلغ الشخص غير رشيد استمرت الولاية المالية عليه حتى يؤنس منه الرشد دون تحديد سن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 معينة للانتظار وفقا لظاهر النص القرآني خلافا لابي حنيفة ويعاد الحجر عليه إذا ظهر منه سفه بعد الرشد لان ضرر السفيه كما قال الجصاص يسري إلى الكافة. فإنه إذا أفنى ماله بالتبذير كان وبالا وعيالا على الناس وبيت المال. هذا من جهة الولاية على المال. أما الولاية على النفس فإنها تنقطع عن الشخص بمجرد بلوغه عاقلا وصيرورته مكلفا. قال ابن عباس وقد سئل: متى ينقضي يتم اليتيم؟ قال: لعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الاخذ لنفسه ضعيف العطاء، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وروى سعيد بن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: - " فإن آنستم منهم رشدا " (1) . قال: العقل لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط (2) حتى يؤنس منه رشد. رفع الأمر إلى الحاكم عند رفع المال إلى المحجور عليه : من العلماء من رأى شرط رفع الامر إلى الحاكم واثبات   (1) سورة النساء الاية رقم 6. (2) شمط: أي كبر سنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 رشده عنده ثم يدفع إليه ماله. ومنهم من رأى أن ذلك متروك إلى اجتهاد الوصي. والرأي الاول أولى في زماننا هذا. الولاية على الصغير والسفيه والمجنون : لمن تكون الولاية؟ والولاية على الصغير والسفيه والمجنون تكون للاب. فإن لم يكن الاب موجودا انتقلت الولاية إلى الوصي لانه نائبه. فإن لم يكن وصي انتقلت إلى الحاكم والجد والام وسائر العصبات لا ولاية لهم إلا بالوصية. الوصي وشروطه : الوصي هو الذي وكل إليه أمر المحجور عليه سواء أكان التوكيل من الاقارب أو من الحاكم، ويجب أن يكون مشهورا بالدين والعدالة والرشد سواء أكان رجلا أم امرأة، فقد أوصى عمر إلى حفصة رضي الله عنهما. والواجب على الوصي : أن يعمل في مال اليتيم والمحجور عليه ما ينميه ويزيد فيه. ويجوز عند الامام مالك للوصي وللاب أن يشتريا من مال اليتيم لانفسهما وأن يبيعا مال أنفسهما بمال اليتيم إذا لم يحابيا أنفسهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 التنزه عن الولاية عند الضعف: عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا ذر، إنى أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم. الولي يأكل من مال اليتيم : يقول الله سبحانه: " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " (1) . أفادت هذه الاية أن الولي الغني لا حق له في مال اليتيم وأن أجر ولايته مثوبة له من الله. فإن فرض له الحاكم شيئا حل له أكله. أما إذا كان فقيرا فله أن يأخذ من ماله بالمعروف، أي المعروف في أجرة مثله لمثل العمل الذي يقوم به. قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في هذه الاية: نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله إن كان فقيرا أكل بالمعروف. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شئ ولي يتيم، فقال:   (1) سورة النساء الاية رقم 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر (1) ولا متأثل (2) ". والمراد النهي عن أخذ أكثر من أجرة مثله. النفقة على الصغير : قال الله تعالى: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " (3) قال القرطبي: " الوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله. فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الامام   (1) أي مبادر كبر الايتام وبلوغهم الحلم. (2) أي جامع للمال. (3) سورة النساء الآية رقم 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 القيام به من بيت المال. فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين الاخص به فالاخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به ولا ترجع عليه ولا على أحد " ا. هـ هل للوصي والزوجة والخازن أن يتصدقوا بدون إذن: وليس للوصي ولا للزوجة ولا للخازن أن يتصدقوا من المال إلا بإذن صاحب المال إلا أن يكون شيئا لا يضر المال. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجر ما كسب. وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 الوصية : تعريفها: الوصية مأخوذة من وصيت الشئ أوصيه إذا أوصلته. فالموصي وصل ما كان في حياته بعد موته. وهي في الشرع: هبة الانسان غيره عينا أو دينا أو منفعة على أن يملك الموصى له الهبة بعد موت الموصي. وعرفها بعضهم: بأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، ومن هذا التعريف يتبين الفرق بين الهبة والوصية. فالتمليك المستفاد من الهبة يثبت في الحال. أما التمليك المستفاد من الوصية فلا يكون إلا بعد الموت. هذا من جهة ومن جهة اخرى، فالهبة لا تكون إلا بالعين. والوصية تكون بالعين وبالدين وبالمنفعة. مشروعيتها: وهي مشروعة بالكتاب والسنة والاجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 ففي الكتاب يقول الله سبحانه: " كتب (1) عليكم إذا حضر (2) أحدكم الموت إن ترك خيرا (3) الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف (4) حقا على المتقين " (5) . ويقول جل شأنه: " ... من بعد وصية يوصي بها أو دين ... " (6) . ويقول عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ذوا عدل منكم ... " (7) وجاء في السنة الاحاديث الاتية: 1 - روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه، يبيت ليلتين (8)   (1) أي فرض. (2) أي وجدت أسبابه. (3) المال. (4) المعروف: الذي لا ظلم فيه للورثة. (5) سورة البقرة الاية رقم 180. (6) سورة النساء الاية رقم 11. (7) سورة المائدة الاية رقم 106. (8) للتقريب لا للتحديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 إلا ووصيته مكتوبة عنده ". قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. ومعنى الحديث أن الحزم هو هذا فقد يفاجئه الموت. قال الشافعي: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، إذا كان له شئ يريد أن يوصي فيه لانه لا يدري متى تأتيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. 2 - وروى أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما الثار ثم قرأ أبو هريرة. " من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضاروصية من الله والله عليه حليم " (1) . 3 - وروى ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) سورة النساء الاية رقم 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 " من مات على وصية مات على سبيل وسنة ومات على تقى وشهادة ومات مغفورا له ". وقد أجمعت الامة على مشروعية الوصية. وصية الصحابة : لقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الاعلى ولم يوص لانه لم يترك مالا يوصى به. روى البخاري عن ابن أبي أوفى أنه صلى الله عليه وسلم لم يوص. قال العلماء في تعليل ذلك: لانه لم يترك بعده مالا. وأما الارض فقد كان سبلها، وأما السلاح والبغلة فقد أخبر أنها لا تورث. ذكره النووي. أما الصحابة فقد كانوا يوصون ببعض أموالهم تقربا إلى الله. وكانت لهم وصية مكتوبة لمن بعدهم من الورثة. أخرج عبد الرازق بسند صحيح أن أنسا رضي الله عنه قال: كانوا (1) يكتبون في صدور وصاياهم:   (1) أي الصحابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به ابرهيم بنيه ويعقوب: " إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ". حكمتها: جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم فضعوها حيث شئتم أو حيث أحببتم ". والحديث ضعيف. أفاد هذا الحديث أن الوصية قربة يتقرب بها الانسان إلى الله عز وجل في آخر حياته كي تزداد حسناته أو يتدارك بها ما فاته، ولما فيها من البر بالناس والمواساة لهم. حكمها : أما حكمها أي وصفها الشرعي من حيث كونها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 مطلوبة الفعل أو الترك (1) فقد اختلف العلماء فيه إلى عدة آراء نجملها فيما يلي: الرأي الاول: يرى أن الوصية واجبة على كل من ترك مالا سواء أكان المال قليلا أم كثيرا، قاله الزهري وأبو مجلز. وهذا رأي ابن حزم وروى الوجوب عن ابن عمر وطلحة والزبير وعبد لله بن أبي أوفى وطلحة بن مطرف وطاوس والشعبي قال: وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا. واستدلوا بقول الله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين " (2) . الرأي الثاني: يرى أنها تجب للوالدين والاقربين الذين لا يرثون الميت. وهذا مذهب مسروق وإياس وقتادة وابن جرير والزهري.   (1) أما حكمها من حيث أثرها المترتب عليها فهو الملك للموصى له للموصى به متى مات الموصي. (2) سورة البقرة الاية رقم 180. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 الرأي الثالث: وهو قول الائمة الاربعة والزيدية أنها ليست فرضا على كل من ترك مالا كما في الرأي الاول. ولا فرضا للوالدين والاقربين غير الوارثين كما هو الرأي الثاني وإنما يختلف حكمها باختلاف الاحوال. فقد تكون واجبة أو مندوبة أو محرمة أو مكروهة أو مباحة. وجوبها: فتجب في حالة ما إذا كان على الانسان حق شرعي يخشى أن يضيع إن لم يوص به: كوديعة ودين لله أو لادمي، مثل أن يكون عليه زكاة لم يؤدها أو حج لم يقم به أو تكون عنده أمانة تجب عليه أن يخرج منها أو يكون عليه دين لا يعلمه غيره أو يكون عنده وديعة بغير إشهاد. استحبابها: وتندب في القربات وللاقرباء الفقراء وللصالحين من الناس. حرمتها: وتحرم إذا كان فيها اضرار بالورثة. روى عبد الرازق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 أوصى جاف (1) في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة. قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم: " تلك حدود الله فلا تعتدوها " (2) . روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح قال ابن عباس: " الاضرار في الوصية من الكبائر ". ورواه النسائي مرفوعا ورجاله ثقات. [ومثل هذه الوصية التي يقصد بها الاضرار باطلة ولو كانت دون الثلث] . وتحرم كذلك إذا أوصى بخمر أو ببناء كنيسة أو دار للهو. كراهتها: وتكره إذا كان الموصي قليل المال وله وارث أو ورثة يحتاجون إليه، كما تكره لاهل الفسق متى علم أو غلب على ظنه أنهم سيستعينون بها على الفسق والفجور. فإذا علم الموصي أو غلب على ظنه أن الموصى له سيستعين بها على الطاعة فإنها تكون مندوبة.   (1) جاف: جار. (2) سورة البقرة الاية رقم 229. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 إباحتها: وتباح إذا كانت لغني سواء أكان الموصى له قريبا أم بعيدا. ركنها : وركنها الايجاب من الموصي. والايجاب يكون بكل لفظ يصدر منه متى كان هذا اللفظ دالا على التمليك المضاف إلى ما بعد الموت بغير عوض مثل: أوصيت لفلان بكذا بعد موتي أو وهبت له ذلك أو ملكته بعدي. وكما تنعقد الوصية بالعبارة تنعقد كذلك بالاشارة المفهمة متى كان الموصي عاجزا عن النطق كما يصح عقدها بالكتابة. ومتى كانت الوصية غير معينة بأن كانت للمساجد أو الملاجئ أو المدارس أو المستشفيات فإنها لا تحتاج إلى قبول بل تتم بالايجاب وحده لانها في هذه الحال تكون صدقة، أما إذا كانت الوصية لمعين بالشخص فإنها تفتقر إلى قبول الموصى له بعد الموت أو قبول وليه إن كان الموصى له غير رشيد. فإن قبلها تمت وإن ردها بعد الموت بطلت الوصية وبقيت على ملك ورثة الموصي. والوصية من العقود الجائزة التي يصح فيها للموصي أن يغيرها أو يرجع عما شاء منها أو يرجع عما أوصى به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 والرجوع يكون صراحة بالقول كأن يقول: رجعت عن الوصية. ويكون دلالة بالفعل مثل تصرفه في الموصى به تصرفا يخرجه عن ملكه مثل أن يبيعه. متى تستحق الوصية : ولا تستحق الوصية للموصى له إلا بعد موت الموصي وبعد سداد الديون. فإذا استغرقت الديون التركة كلها فليس للموصى له شئ لقول الله تعالى: " من بعد وصية يوصى بها أو دين ". الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط : وتصح الوصية المضافة أو المعلقة بالشرط أو المقترنة به متى كان الشرط صحيحا. والشرط الصحيح: هو ما كان فيه مصلحة للموصي أو الموصى له أو لغيرهما ولم يكن منهيا عنه ولا منافيا لمقاصد الشريعة. ومتى كان الشرط صحيحا وجبت مراعاته ما دامت المصلحة منه قائمة. فإن زالت المصلحة المقصودة منه أو كان غير صحيح لم تجب مراعاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 شروطها : الوصية تقتضي موصيا وموصى له وموصى به، ولكل شروط نذكرها فيما يلي: شروطالموصي: يشترط في الموصي أن يكون أهلا للتبرع بأن يكون كامل الاهلية. وكمال الاهلية بالعقل والبلوغ والحرية والاختيار وعدم الحجر لسفه أو غفلة، فإن كان الموصي ناقص الاهلية بأن كان صغيرا أو مجنونا أو عبدا أو مكرها أو محجورا عليه فإن وصيته لا تصح. ويستثنى من ذلك أمران: 1 - وصية الصغير المميز الخاصة بأمر تجهيزه ودفنه مادامت في حدود المصلحة. 2 - وصية المحجور عليه للسفه في وجه من وجوه الخير مثل تعليم القرآن وبناء المساجد وإقامة المستشفيات. ثم إن كان له وارث وأجازها الورثة نفذت من كل ماله. وكذا إذا لم يكن له وارث أصلا. وأما إن كان له ورثة ولم يجيزوا هذه الوصية فإنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 تنفذ من ثلث ماله فقط، وهذا مذهب الاحناف. وخالف في ذلك الامام مالك فأجاز وصية ضعيف العقل والصغير الذي يعقل معنى التقرب إلى الله تعالى قال: " الامر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائة ماضية ". وقد أجاز القانون في مصر وصية السفيه وذوي الغفلة إذا أذنت بها الجهة القضائية المختصة. شروط الموصى له : يشترط في الموصى له الشروط الاتية: 1 - ان لا يكون وارثا للموصي. روى أصحاب المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: " لا وصية لوارث ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وهذا الحديث وان كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول وأجمعت العامة على القول به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 وفي رواية: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث. وأما آية " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين ". فقد قال الجمهور من العلماء بنسخها. وقال الشافعي: إن الله تعالى أنزل آية الوصية وأنزل آية المواريث فاحتمل أن تكون آية الوصية باقية مع الميراث. واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. وقد طلب العلماء ما يرجح أحد الاحتمالين فوجدوه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى عنه أصحاب المغازي أنه قال عام الفتح: " لا وصية لوارث " ا. هـ واتفقوا على اعتبار كون الموصى له وارثا يوم الموت حتى لو أوصى لاخيه الوارث حيث لا يكون للموصي ابن ثم ولد له ابن قبل موته صحت الوصية للاخ المذكور ولو أوصى لاخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 - ومذهب الاحناف أن الموصى له إذا كان معينا يشترط لصحة الوصية له أن يكون موجودا وقت الوصية تحقيقا أو تقديرا. أي يكون موجودا بالفعل وقت الوصية أو يكون مقدرا وجوده أثناءها. كما إذا أوصى لحمل فلانة. وكان الحمل موجودا وقت ايجاب الوصية. أما إذا لم يكن الموصى له معينا بالشخص فيشترط أن يكون موجودا وقت موت الموصي تحقيقا أو تقديرا. فإذا قال الموصي: أوصيت بداري لاولاد فلان ولم يعين هؤلاء الاولاد، ثم مات ولم يرجع عن الوصية. فإن الدار تكون مملوكة للاولاد الموجودين وقت موت الموصي سواء منهم الموجود حقيقة أو تقديرا كالحمل، ولو لم يكونوا موجودين وقت إيجاب الوصية. ويتحقق من وجود الحمل وقت الوصية أو وقت موت الموصي متى ولد لاقل من ستة أشهر من وقت الوصية أو من وقت موت الموصي. وقال الجمهور من العلماء: إن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي انها تصح وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 وارثا للميت ". وخالف في ذلك أبو ثور، أفاده الشوكاني في نيل الاوطار. 3 - ويشترط أن لا يقتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا. فإذا قتل الموصى له الموصي قتلا محرما مباشرا بطلت الوصية له لان من تعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه. وهذا مذهب أبي يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد لا تبطل الوصية وتتوقف على إجازة الورثة. شروط الموصى به : يشترط في الموصى به أن يكون بعد موت الموصي قابلا للتمليك بأي سبب من أسباب الملك، فتصح الوصية بكل مال متقوم من الاعيان ومن المنافع. وتصح الوصية بما يثمره شجره وبما في بطن بقرته لانه يملك بالارث فما دام وجوده محققا وقت موت الموصي استحقه الموصى له. وهذا بخلاف ما إذا أوصى بمعدوم. وتصح الوصية بالدين وبالمنافع كالسكن وبالوصية بالحلو. ولا تصح بما ليس بمال كالميتة. وما ليس متقوما في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 حق العاقدين كالخمر للمسلمين. مقدار المال الذي تستحب الوصية فيه : قال ابن عبد البر: " اختلف السلف في مقدار المال الذي يستحب فيه الوصية أو يجب عند من أوجبها. فروي عن علي أنه قال: ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية وروي عنه ألف درهم مال فيه وصية. وقال ابن عباس: لا وصية في ثمانمائة درهم وقالت عائشة: في امرأة لها أربعة من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم لا وصية في مالها. وقال ابراهيم النخعي: ألف درهم إلى خمسمائة درهم. وقال قتادة في قوله " إن ترك خيرا " ألفا فما فوقها وعن علي: من ترك مالا يسيرا فليدعه لورثته فهو أفضل وعن عائشة فيمن ترك ثمانمائة درهم لم يترك خيرا فلا يوصي " ا. هـ الوصية بالثلث : وتجوز الوصية بالثلث ولا تجوز الزيادة عليه، والاولى أن ينقص عنه، وقد استقر الاجماع على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا بمكة - وهو يكره أن يموت بالارض التي هاجر منها - قال: يرحم الله ابن عفراء - قلت: يا رسول الله أوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فالشطر (1) ؟ قال: لا. قلت: الثلث؟ قال: فالثلث والثلث كثير، إنك إن تدع (2) ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة (3) يتكففون (4) الناس في ايديهم، وانك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في (5) في امرتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك أناس ويضر بك آخرون، ولم يكن له يومئذ إلا ابنة " (6) الثلث يحسب من جميع المال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الثلث يحسب من جميع   (1) الشطر: النصف. (2) تدع: تترك. (3) عالة: فقراء. (4) يتكففون الناس: يبسطون للسؤال أكفهم. (5) في: الفم. (6) كان هذا قبل أن يولد له الذكور. وقد ولد له بعد ذلك أربعة بنين - ذكره الواقدي، وقيل: أكثر من عشرة ومن البنات ثنتا عشرة بنتا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 المال الذي تركه الموصي وقال مالك: يحسب الثلث مما علمه الموصي دون ما خفي عليه أو تجدد له ولم يعلم به. وهل المعتبر الثلث حال الوصية أو عند الموت؟ ذهب مالك والنخعي وعمر بن عبد العزيز أو المعتبر ثلث التركة عند الوصية. وذهب أبو حنيفة وأحمد والاصح من قولي الشافعية إلى اعتبار الثلث حال الموت. وهو قول علي وبعض التابعين. الوصية بأكثر من الثلث : الموصي إما أن يكون له وارث أو لا. فإن كان له وارث فإنه لا يجوز له الوصية بأكثر من الثلث كما تقدم، فإن أوصى بالزيادة على الثلث فإن وصيته لا تنفذ إلا بإذن الورثة، ويشترط لنفاذها شرطان: 1 - ان تكون بعد موت الموصي لانه قبل موته لم يثبت للمجيز حق فلا تعتبر إجازته، وإذا أجازها أثناء الحياة كان له الرجوع عنها متى شاء. وإن أجازها بعد الحياة نفذت الوصية. وقال الزهري وربيعة: ليس له الرجوع مطلقا. 2 - أن يكون المجيز وقت الاجازة كامل الاهلية غير محجور عليه لسفه أو غفلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 وإن لم يكن له وارث فليس له أن يزيد على الثلث أيضا. وهذا عند جمهور العلماء. وذهب الاحناف واسحاق وشريك وأحمد في رواية، وهو قول علي وابن مسعود، إلى جواز الزيادة على الثلث. لان الموصي لا يترك في هذه الحال من يخشى عليه الفقر، ولان الوصية جاءت في الاية مطلقة. وقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على إطلاقه. بطلان الوصية : وتبطل الوصية بفقد شرط من الشروط المتقدمة كما تبطل بما يأتي: 1 - إذا جن الموصي جنونا مطبقا واتصل الجنون بالموت (1) . 2 - إذا مات الموصى له قبل موت الموصي. 3 - إذا كان الموصى به معينا وهلك قبل قبول الموصى له.   (1) الجنون المطبق هو الجنون الذي يستمر سنة عند محمد، وقال أبو يوسف: هو الذي يستمر شهرا وعليه الفتوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 الفرائض : تعريفها: الفرائض جمع فريضة، والفريضة مأخوذة من الفرض بمعنى التقرير، يقول الله سبحانه: " فنصف ما فرضتم " أي قدرتم. والفرض في الشرع هو النصيب المقدر للوارث ويسمى العلم بها علم الميراث وعلم الفرائض. مشروعيتها: كان العرب في الجاهلية قبل الاسلام يورثون الرجال دون النساء. والكبار دون الصغار وكان هناك توارث بالحلف. فأبطل الله ذلك كله وأنزل: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس من بعد وصية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضا من الله إن الله كان عليما حكيما " سورة النساء، الاية رقم 11. سبب نزول الاية: وسبب نزول هذه الاية ما جاء عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا. وان عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا بمال. فقال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية المواريث. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " رواه الخمسة إلا النسائي. فضل العلم بالفرائض : 1 - عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1 - " تعلموا القرآن وعلموه الناس. وتعلموا الفرائض وعلموها فإني امرئ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك ان يختلف اسمان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدا يخبرهما " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 ذكره أحمد. 2 - وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة " رواه أبو داود وابن ماجه. 3 - وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول شئ ينزع من امتي " رواه ابن ماجه والدارقطني. التركة : تعريفها: التركة هي ما يتركه الميت من الاموال مطلقا (1) - ويقرر هذا ابن حزم فيقول: " إن الله أوجب الميراث فيما يخلفه الانسان بعد موته من مال لا فيما ليس بمال، وأما الحقوق فلا يورث منها إلا ما كان تابعا للمال أو في معنى المال، مثل حقوق لارتفاق والتعلي وحق البقاء في الارض المحتكرة للبناء الغرس وهي عند المالكية والشافعية والحنابلة تشمل جميع يتركه الميت من أموال وحقوق سواء أكانت الحقوق   (1) هذا تعريف الاحناف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 مالية أم غير مالية. الحقوق المتعلقة بالتركة: الحقوق المتعلقة بالتركة أربعة: وهي كلها ليست بمنزلة واحدة بل بعضها أقوى من بعض فيقدم على غيره في الاخراج من التركة على الترتيب الاتي: 1 - الحق الاول: يبدأ من تركة الميت بتكفينه وتجهيزه على النحو الذي سبق ذكره في باب الجنائز. 2 - الحق الثاني: قضاء ديونه. فابن حزم والشافعي يقدمون ديون الله كالزكاة والكفارات على ديون العباد. والحنفية يسقطون ديون الله بالموت فلا يلزم الورثة اداؤها إلا إذا تبرعوا بها أو أوصى الميت بأدائها. وفي حالة الايصاء بها تصير كالوصية لاجنبي يخرجها الوارث أو الوصي من ثلث الفاضل بعد التجهيز وبعد دين العباد. هذا إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فتخرج من الكل. والحنابلة يسوون بينها، كما نجد أنهم جميعا اتفقوا على أن ديون العباد العينية (1) مقدمة على ديونهم المطلقة. 3 - الحق الثالث: - تنفيذ وصيته من ثلث الباقي   (1) الدين العيني هو الذي تعلق بعين المال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 بعد قضاء الدين. 4 - الحق الرابع: - تقسيم ما بقي من ماله بين الورثة. أركان الميراث : الميراث يقتضي وجود ثلاثة أشياء: 1 - الوارث: وهو الذي ينتمي إلى الميت بسبب من أسباب الميراث. 2 - المورث: وهو الميت حقيقة أو حكما مثل المفقود الذي حكم بموته. 3 - الموروث: ويسمى تركة وميراثا. وهو المال أو الحق المنقول من المورث إلى الوارث. أسباب الإرث : يستحق الارث بأسباب ثلاثة: 1 - النسب الحقيقي (1) : - لقول الله سبحانه " وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " سورة الانفال. 2 - النسب الحكمي (2) : - لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:   (1) القرابة الحقيقية. (2) هو الولاء وهو القرابة الحاصلة بسبب العتق ويسمى ولاء العتاق أو القرابة الحاصلة بسبب الموالاة. ويسمى ولاء المولاة. وهو عقد بين شخصين أحدهما ليس له وارث نسبي فيقول للاخر: أنت مولاي أو أنت وليي ترثني إذا مت وتعقل عني إذا جنيت أي تدفع عني الدية الشرعية إذا وقع مني جناية خطأ من قتل فما دونه، فهذا العقد يثبت الولاء بين المتعاقدين وولاء المولاة يعتبر سببا في الارث عند أبي حنيفة ولا يعتبر سببا عند جمهور العلماء وإلى رأي الجمهور جنح القانون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 " الولاء لحمة كلحمة النسب " رواه ابن حبان والحاكم وصححه. 3 - الزواج الصحيح: - لقول الله سبحانه: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم ". شروط الميراث : - يشترط للارث شروط ثلاثة: 1 - موت المورث حقيقة أموته حكما كأن يحكم القاضي بموت المفقود فهذا الحكم يجعله كمن مات حقيقة، أو موته تقديرا، كأن يعتدي شخص على امرأة حامل بالضرب فتسقط جنينا ميتا فتقدر حياة هذا السقط وان لم تتحقق بعد. 2 - حياة الوارث بعد موت المورث ولو حكما، كالحمل، فإنه حي في الحكم ليس إلا لجواز أن يكون الروح لم ينفخ فيه بعد. فإذا لم تعلم حياة الوارث بعد موت المورث كالغرقى والحرقى والهدمي فإنه لا توارث بينهم إذا كانوا ممن يرث بعضهم بعضا ويقسم مال كل منهم على ورثته الاحياء. 3 - ألا يوجد مانع من موانع الارث الاتية: موانع الارث: - الممنوع من الارث هو الشخص الذي توفر له سبب الارث ولكنه اتصف بصفة سلبت عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 أهلية الارث. ويسمى هذا الشخص محروما. والموانع أربعة : 1 - الرق: سواء أكان تاما أم ناقصا. 2 - القتل العمد المحرم: فإذا قتل الوارث مورثه ظلما فإنه لا يرثه اتفاقا لما رواه النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس للقاتل شئ ". وما عدا القتل العمد العدوان فقد اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي: كل قتل يمنع من الميراث ولو من صغير أو مجنون ولو كان بحق كحد أو قصاص. وقالت المالكية: إن القتل المانع من الميراث هو القتل العمد العدوان سواء أكان مباشرة أم سببا وأخذ القانون بهذا المذهب في المادة الخامسة منه ونصها: " من موانع الارث قتل المورث عمدا سواء أكان القاتل فاعلا أصليا أم شريكا أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالقتل وتنفيذه إذا كان القتل بلا حق ولاعذر، وكان القاتل عاقلا بالغا من العمر خمس عشرة سنة ويعد من الاعذار تجاوز حق الدفاع الشرعي. 3 - اختلاف الدين: فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم لما رواه الاربعة عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 الكافر المسلم ". وحكي عن معاذ ومعاوية وابن المسيب ومسروق والنخعي: أن المسلم يرث الكافر ولاعكس، كما يتزوج المسلم الكافرة ولا يتزوج الكافر المسلمة. أما غير المسلمين فإن بعضهم يرث بعضا. لانهم يعتبرون أهل ملة واحدة. 4 - اختلاف الدارين: (أي الوطن) المراد باختلاف الدارين اختلاف الجنسية واختلاف الدارين لا يكون مانعا من التوارث بين المسلمين فالمسلم يرث المسلم مهما نأت الديار وتعددت الاقطار، وأما اختلاف الدارين بين غير المسلمين فقد اختلف فيه: هل هو مانع من التوارث بينهم أم لا؟ فالجمهور من العلماء على أنه لايمنع من التوارث بين غير المسلمين، كما لايمنع التوارث بين المسلمين. قال في المغني: وقياس المذهب عندي أن الملة الواحدة يتوارثون وان اختلفت ديارهم لان العمومات من النصوص تقتضي توريثهم ولم يرد بتخصيصهم نص ولا اجماع، ولا يصح قياس فيجب العمل بعمومها. وقد أخذ القانون بهذ الافي صورة واحدة أخذ فيها برأي أبي حنيفة وهي ما إذا كانت شريعة الدولة الاجنبية تمنع توريث غير رعاياها فمنع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 القانون توريث رعايا هذه الدولة الاجنبية المانعة، فعامله بالمثل في التوريث، ففي المادة السادسة من القانون النص الاتي: (واختلاف الدارين لايمنع من الارث بين المسلمين ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الاجنبية تمنع من توريث الاجنبي عنها ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 المستحقون للتركة : المستحقون للتركة يرتبون على النحو التالي في المذهب الحنفي: 1 - أصحاب الفروض 2 - العصبة النسبية 3 - العصبة السببية 4 - الرد على ذوي الفروض 5 - ذوو الارحام 6 - مولى الموالاة 7 - المقر له بالنسب على الغير 8 - الموصى له باكثر من الثلث 9 - بيت المال أما ترتيب المستحق للتركة في قانون المواريث المعمول به في مصر فعلى النحو التالي: - 1 - أصحاب الفروض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 2 - العصبة النسبية 3 - الرد على ذوي الفروض 4 - ذوو الارحام 5 - الرد على أحد الزوجين 6 - العصبة السببية 7 - المقر له بالنسب على الغير 8 - الموصى له بجميع المال 9 - بيت المال 1 - أصحاب الفروض: أصحاب الفروض هم الذين لهم فرض - أي نصيب - من الفروض الستة المعينة لهم وهي 2 / 1، 4 / 1، 8 / 1، 3 / 2، 3 / 1، 6 / 1. وأصحاب الفروض اثنا عشر: أربعة من الذكور وهم الاب والجد الصحيح وإن علا والاخ لام والزوج. وثمان من الاناث وهن الزوجة والبنت والاخت الشقيقة والاخت والاخت لام الابن والام والجدة الصحيحة وإن علت. وفيما يلي بيان نصيب كل منهم مفصلا: أحوال الاب يقول الله سبحانه وتعالى " ولابويه لكل واحد منهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 السدس مما ترك إن كان له ولد (1) فإن لم يكن ولد وورثه أبواه فلامه الثلث ". للاب ثلاثة أحوال: حالة يرث فيها بطريق الفرض وحالة يرث فيها بالتعصيب. وحالة يرث فيها بالفرض والتعصيب معا. الحالة الاولى: يرث فيها بطريق الفرض إذا كان معه فرع وارث مذكر منفردا أو مع غيره، وفي هذه الحالة فرضه السدس. الحالة الثانية: يرث فيها بطريق التعصيب إذا لم يكن مع الميت فرع وارث مذكرا كان أم مؤنثا فيأخذ كل التركة إذا انفرد أو الباقي من أصحاب الفروض إن كان معه أحد منهم. الحالة الثالثة: يرث فيها بطريق الفرض والتعصيب معا، وذلك إذا كان معه فرع وارث مؤنث. وفي هذه الحال يأخذ السدس فرضا ثم يأخذ الباقي من أصحاب الفروض تعصيبا. أحوال الجد الصحيح الجد منه صحيح ومنه جد فاسد.   (1) المراد بالولد الفرع الوارث مذكرا كان أم مؤنثا، ويفهم من النص على نصيب الام والسكوت عن الاب عند عدم الفرع الوارث أن للاب الباقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 فالجد الصحيح هو الذي يمكن نسبته إلى الميت بدون دخول انثى مثل أب الاب. والجد الفاسد هو الذي لا ينسب إلى الميت الا بدخول الانثى كأب الام. والجد الصحيح ارثه ثابت بالاجماع، فعن عمران ابن حصين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس. فلما أدبر دعاه فقال: لك السدس فلما أدبر دعاه فقال: لك سدس آخر. فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الاخر طعمة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. ويسقط إرث الجد الصحيح بالاب عند وجوده، ويقوم مقامه عند فقده إلا في أربعة مسائل: 1 - أم الاب لا ترث مع وجود الاب لانها تدلي به وترث مع وجود الجد 2 - إذا ترك الميت أبوين وأحد الزوجين فللام ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين، أما إذا وجد مكان الاب جد فللام ثلث الجميع، وهذه تسمى بالمسألة العمرية لقضاء عمر فيها، وتسمى أيضا بالغرائية لشهرتها كالكوكب الاغر. وخالف في ذلك ابن عباس فقال: إن الام تأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 ثلث الكل لقوله تعالى " فلامه الثلث ". 3 - إذا وجد الاب حجب الاخوة والاخوات الاشقاء والاخوة والاخوات لاب، أما الجد فإنهم لا يحجبون به. وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومالك، وقال أبو حنيفة: يحجبون بالجد كما يحجبون بالاب لا فرق بينهما. وقد أخذ قانون المواريث بالرأي الاول ففي مادة (22) النص الاتي: " إذا اجتمع الجد مع الاخوة والاخوات لابوين أو لاب كانت له حالتان: الاولى: أن يقاسمهم كأخ ان كانوا ذكورا فقط، أو ذكورا وإناثا أو إناثا عصبن مع الفرع الوارث من الاناث. الثانية: أن يأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض بطريق التعصيب إذا كان مع أخوات لم يعصبن بالذكور أو مع الفرع من الاناث. على أنه إذا كانت المقاسمة أو الارث التعصيب على الوجه المتقدم تحرم الجد من الارث أو تنقصه إعتبر صاحب فرض بالسدس ولا يعتبر في المقاسمة من كان محجوبا من الاخوة أو الاخوات لاب. حالات الاخ لام قال تعالى " وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " (1) . فالكلالة من لا والد له ولا ولد ذكرا أو أنثى والمقصود بالاخ أو الاخت هنا الاخوة لام ويتبين من الاية أن لهم أحوالا ثلاثة: 1 - أن السدس للشخص الواحد سواء أكان ذكرا أم أنثى. 2 - أن الثلث للاثنين فأكثر يستوي فيه الذكور والاناث. 3 - لا يرثون شيئا مع الفرع الوارث كالولد وولد الابن ولا مع الاصل الوارث المذكر كالاب والجد فلا يحجبون بالام أو الجدة. حالات الزوج قال الله سبحانه: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ". ذكرت هذه الاية أن للزوج حالتين: الحالة الاولى: يرث فيها النصف وذلك عند عدم وجود الفرع الوارث، وهو الابن وان نزل. والبنت. وبنت   (1) سورة النساء. آية 12 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 الابن وإن نزل أبوها، سواء أكان منه أم من غيره. الحالة الثانية: يرث فيها الربع عند وجود الفرع الوارث (1) . أحوال الزوجة قال الله تعالى: " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم وله فلهن الثمن مما تركتم ". بينت الاية أن للزوجة حالتين: الحالة الاولى: استحقاق الربع عند عدم وجود الفرع الوارث سواء أكان منها أم من غيرها. الحالة الثانية: استحقاق الثمن عند وجود الفرع الوارث وإذا تعددت الزوجات اقتسمن الربع أو الثمن بينهن بالسوية. الزوجة المطلقة : - الزوجة المطلقة طلاقا رجعيا ترث من زوجها إذا مات قبل انتهاء عدتها، ويرى الحنابلة توريث المطلقة قبل الدخول والخلوة من مطلقها في مرض الموت إذا مات في مرضه ما لم تتزوج، وكذلك بعد الخلوة ما لم تتزوج وعليها عدة الوفاة. والقانون الجديد يعتبر المطلقة بائنا في مرض الموت   (1) أما الفرع غير الوارث كبنت البنت فإنها لا تنقض الزوج ولا الزوجة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق ومات المطلق في ذلك المرض وهي في عدته. أحوال البنت الصلبية يقول الله سبحانه: " يوصيكم الله في أولادكم (1) للذكر مثل حظ الانثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ". أفادت الاية أن للبنت الصلبية ثلاثة أحوال: الحالة الاولى: أن لها النصف إذا كانت واحدة. الحالة الثانية: أن الثلثين للاثنتين فأكثر إذا لم يكن معهن ابن أو أكثر. قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على ان فرض البنتين الثلثان إلا رواية شاذة عن ابن عباس. وقال ابن رشد: وقد قيل: إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور. الحالة الثالثة: أن ترث بالتعصيب إذا كان معها ابن أو أكثر فيكون الارث بالتعصيب ويكون للذكر مثل حظ الانثيين. وكذلك الحال عند تعددها أو تعدده. حالات الاخت الشقيقة يقول الله سبحانه: " يستفتونك قل الله يفتيكم في   (1) الولد يتناول الذكر والانثى لانه مشتق من التولد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الاثنيين " سورة النساء - آخر آية. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم " اجعلوا الاخوات مع البنات عصبة " (1) . للأخت الشقيقة (2) خمسة أحوال: 1 - النصف للواحدة المنفردة إذا لم يكن معها ولد ولاولد ابن ولا أب ولا جد ولا أخ شقيق. 2 - الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم من ذكر. 3 - إذا وجد معهن أخ شقيق مع عدم من تقدم ذكره فإنه يعصبهن ويكون للذكر مثل حظ الانثيين. 4 - يصرن عصبة مع البنات أو بنات الابن فيأخذن الباقي بعد نصيب البنات أو بنات الابن. 5 - يسقطن بالفرع الوارث المذكر كالابن وابنه   (1) الاخوة والاخوات الاشقاء يسمون بني الاعيان أي من أعيان هذا الصنف والاخوة والاخوات لام يسمون بني العلات، لانهم من نسوة ضرائر، كل منهن علة، أي ضرة للاخرى، والاخوة والاخوات لام يسمون بني الاخياف لانهم من أصلين مختلفين. (2) الاخت الشقيقة كل أخت شاركت المتوفي في الاب والام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 وبالاصل الوارث المذكر كالاب اتفاقا وبالجد عند أبي حنيفة خلافا لابي يوسف ومحمد وقد تقدم بيان الخلاف في ذلك. أحوال الاخوات لاب الاخوات لاب لهن أجوال ستة: 1 - النصف للواحدة المنفردة عن مثلها وعن الاخ لاب وعن الاخت الشقيقة. 2 - الثلثان لاثنتين فصاعدا. 3 - السدس مع الاخت الشقيقة المنفردة تكملة للثلثين. 4 - ان يرثن بالتعصيب بالغير إذا كان مع الواحدة أو الاكثر أخ لاب فيكون للذكر مثل حظ الاثنيين. 5 - يرثن بالتعصيب مع الغير إذا كان مع الواحدة أو الاكثر بنت أو بنت ابن ويكون لهن الباقي بعد فرض البنت أو بنت الابن. 6 - سقوطهن بمن يأتي: 1 - بالاصل أو الفرع الوارث المذكر. 2 - بالاخ الشقيق. 3 - بالاخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع البنت أو بنت الابن لانها في هذه الحال تقوم مقام الاخ الشقيق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 ولهذا تقدم على الاخ لاب والاخت لاب عندما تصير عصبة بالغير. 4 - بالاختين الشقيقتين: إلا إذا كان معهن في درجتهن أخ لاب فيعصبهن فيكون الباقي للذكر مثل حظ الانثيين. فإذا ترك المييت اختين شقيقتين وأخوات لاب وأخ لاب فللشقيقتين الثلثان والباقي يقسم بين الاخوات لاب والاخ لاب للذكر مثل حظ الانثيين. أحوال بنات الابن بنات الابن لهن خمسة أحوال: 1 - النصف للواحدة عند عدم ولد الصلب. 2 - الثلثان للاثنتين فصاعدا عند عدم ولد الصلب. 3 - السدس للواحدة فأكثر مع الواحدة الصلبية تكملة للثلثين إلا إذا كان معهن ابن في درجتهن فيعصبهن ويكون الباقي بعد نصيب البنت للذكر مثل حظ الانثيين. 4 - لايرثن مع وجود الابن. 5 - لا يرثن مع وجود البنتين الصلبيتين فأكثر إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 إذا وجد معهن ابن ابن (1) بحذائهن أو أسفل منهن في الدرجة فيعصبهن. أحوال الام يقول الله سبحانه " ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فإن كان له إخوة فلامه السدس ". سورة النساء - الاية 10. للأم ثلاثة أحوال: 1 - تأخذ السدس إذا كان معها ولد أو ولد ابن أو اثنان من الاخوة أو الاخوات مطلقا سواء كانوا من جهة الاب والام أو من جهة الاب فقط أو من جهة الام فقط. 2 - تأخذ ثلث جميع المال إذا لم يوجد أحد ممن تقدم ذكرهم. 3 - تأخذ ثلث الباقي عند عدم من ذكر بعد فرض أحد الزوجين وذلك في مسألتين تسميان بالغرائية. الاولى: في حالة ما إذا تركت زوجا وأبوين. والثانية: ما إذا ترك زوجة وأبوين.   (1) ابن الابن يعصب من في درجته سواء كانت أخته أو بنت عمه، ويعصب من فوقه إلا إذا كانت صاحبه فرض. ويسقط من تكون أسفل منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 الجدات (1) عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شئ. وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس. فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الانصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة. فأنفذه لها أبو بكر. قال: ثم جاءت الجدة الاخرى إلى عمر. فسألته ميراثها. فقال: مالك في كتاب الله شئ. ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وايتكما خلت به فهو لها " رواه الخمسة إلا النسائي. وصححه الترمذي. للجدات الصحيحات (1) ثلاث حالات: 1 - لهن السدس تستقل به الواحدة ويشترك فيه الاكثر بشرط التساوي في الدرجة كأم الام وأم الاب.   (1) الجدة الصحيحة هي التي لا يتخلل في نسبتها إلى الميت جد فاسد والجد الفاسد هو من تخلل في نسبته إلى الشخص أنثى كأب الام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 2 - القريبة من الجدات من أي جهة تحجب البعيدة كأم الام تحجب أم أم الام وتحجب أيضا أم أبي الاب. 3 - الجدات من أي جهة كانت يسقطن بالام وتسقط من كانت من جهة الاب بالاب أيضا ولا تسقط به من كانت من جهة الام ويحجب الجد أمه أيضا لانها تدلي به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 2، 3 - العصبة تعريفها: العصبة جمع عاصب كطالب وطلبة، وهم بنو الرجل وقرابته لابيه، وسموا بذلك لشد بعضهم أزر بعض. وهذا اللفظ مأخوذ من قولهم: عصب القوم بفلان إذا أحاطوا به، فالابن طرف والاب طرف آخر والاخ جانب والعلم جانب آخر والمقصود بهم هنا الذين يصرف لهم الباقي بعد أن يأخذ أصحاب الفروض أنصباءهم المقدرة لهم، فإذا لم يفضل شئ منهم لم يأخذوا شيئا إلا إذا كان العاصب ابنا فإنه لا يحرم بحال. والعصبة كذلك هم الذين يستحقون التركة كلها إذا لم يوجد من أصحاب الفروض أحد، لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 " ألحقوا الفرائض بأهلها (1) فما بقي فلاولي رجل ذكر (2) ". عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والاخرة. اقرأوا ان شئتم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا (3) فليأتني فأنا مولاه ". أقسامها: - تنقسم العصبة إلى قسمين: 1 - عصبة نسبية. 2 - عصبة سببية. العصبة النسبية: العصبة النسبية أصناف ثلاثة: 1 - عصبة بنفسه. 2 - عصبة بغيره. 3 - عصبة مع غيره. العصبة بنفسه: هي كل ذكر لايدخل في نسبته إلى   (1) أي اعطوا السهام المقدرة لاهلها المستحقين لها بالنص وما بقي فلاقرب ذكر من العصبة إلى الميت. (2) يرى ابن عباس أن الميت إذا ترك بنتا وأختا وأخا يكون للبنت النصف والباقي للاخ ولاشئ للاخت. (3) من يخلفه الميت ولا شئ له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 الميت انثى وتنحصر في أصناف أربعة: 1 - البنوة وتسمى جزء الميت. 2 - الابوة وتسمى بأصل الميت. 3 - الاخوة وتسمى جزء أبيه. 4 - العمومة وتسمى جزء الجد العصبة بغيره: والعصبة بغيره هي الانثى التي يكون فرضها النصف في حالة الانفراد والثلثين إذا كانت معها اخت لها فأكثر، فإذا كان معها أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به وهن أربع: 1 - البنت أو البنات. 2 - بنت أو بنات الابن. 3 - الاخت أو الاخوات الشقيقات. 4 - الاخت أو الاخوات لاب. فكل صنف من هذه الاصناف الاربعة يكون عصبة بغيره وهو الاخ ويكون الارث بينهم للذكر مثل حظ الانثيين (1) .   (1) من لافرض له من النساء عند عدم أخيها العاصب لا تصير عصبة به عند وجوده فلو مات شخص عن عم أو عمة فالمال كله للعم دون العمة ولا تصير العمة عصبة بأخيها لانها عند فقده لافرض لها. ومثل هذا ابن الاخ مع بنت الاخت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 العصبة مع الغير: - العصبة مع الغير هي كل انثى تحتاج في كونها عاصبة، إلى انثى اخرى وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الاناث وهي: - 1 - الاخت الشقيقة أو الاخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن. 2 - الاخت لاب أو الاخوات لاب مع البنت أو بنت الابن، ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض. كيفية توريث العصبة بالنفس : تقدم في الفصل السابق كيفية توريث العصبة بالغير وتوريث العصبة مع الغير. أما كيفية توريث العصبة بالنفس فنذكرها فيما يلي: العصبة بالنفس أصناف أربعة وترث حسب الترتيب الاتي: 1 - البنوة وتشمل الابناء وأبناء الابن وإن نزل. 2 - فإن لم توجد جهة البنوة انتقلت التركة أو ما يتبقى منها إلى جهة الابوة وتشمل الاب والجد الصحيح وان علا. 3 - فإن لم يكن أحد من جهة الابوة حيا استحق التركة أو ما بقي منها الاخوة وتشمل الاخوة لابوين والاخوة لاب وأبناء الاخ لابوين وأبناء الاخ لاب وان نزل كل منهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 4 - فإذا لم يكن أحد من هذه الجهة حيا انتقلت التركة أو الباقي منها إلى جهة العمومة من غير فرق بين عمومة الميت نفسه أو عمومة أبيه أو جده، إلا أن عمومة الميت نفسه تقدم على عمومة أبيه وعمومة أبيه تقدم على عمومة جده وهكذا. فإن وجد أشخاص متعددون من مرتبة واحدة كان أحقهم بالارث أقربهم إلى الميت. وان وجد أشخاص متعددون تساوت نسبتهم إلى الميت من حيث الجهة والدرجة كان أحقهم بالارث أقواهم قرابة. فإذا ترك الميت أشخاصا متساوين في نسبتهم إليه من حيث الجهة والدرجة والقوة استحقوا على السواء بحسب رؤوسهم. وهذا هو معنى ما يقول الفقهاء: إن التقديم في العصبات بالنفس يكون بالجهة فإن اتحدت فبالدرجة فإن تساوت فبالقوة فإن اتحدت في الدرجة والجهة والقوة استحقوا على السواء ووزعت التركة بينهم على عددهم. العصبة السببية : العاصب السببي هو المولى المعتق ذكرا كان أم أنثى. فإذا لم يوجد المعتق فالميراث لعصبته الذكور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 الحجب والحرمان : معنى الحجب: الحجب لغة المنع والمقصود به منع شخص معين من ميراثه كله أو بعضه لوجود شخص آخر. الحرمان: أما الحرمان فالمقصود به منع شخص معين من ميراثه بسبب تحقق مانع من موانع الارث كالقتل ونحوه من الموانع. أقسام الحجب: الحجب نوعان: 1 - حجب نقصان. 2 - حجب حرمان. فحجب النقصان هو نقص ميراث أحد الورثة لوجود غيره ويكون لخمسة أشخاص: 1 - الزوج يحجب من النصف إلى الربع عند وجود الولد. 2 - الزوجة تحجب من الربع إلى الثمن عند وجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 الولد. 3 - الام تحجب من الثلث إلى السدس عند وجود الفراع الوارث 4 - بنت الابن. 5 - الاخت لاب. وأما حجب الحرمان: فهو منع جميع الميراث عن شخص لوجود غيره كمنع ميراث الاخ عنه عند وجود الابن، وهذا النوع لا يدخل في ميراث ستة من الوارثين، وإن جاز أن يحجبوا حجب نقصان، وهم: 1، 2 - الابوان - الاب والام. 3، 4 - الولدان - الابن والبنت. 5، 6 - الزوجان. ويدخل حجب الحرمان فيما عدا هؤلاء من الورثة. وحجب الحرمان قائم على أساسين: 1 - أن كل من ينتمي إلى الميت بشخص لا يرث مع وجود ذلك الشخص كابن الابن فإنه لا يرث مع وجود الابن سوى أولاد الام فإنهم يرثون معها مع أنهم ينتمون إلى الميت بها. 2 - يقدم الاقرب على الابعد فالابن يحجب ابن أخيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 فإن تساووا في الدرجة يرجح بقوة القرابة كالاخ الشقيق يحجب الاخ الاب. الفرق بين المحروم والمحجوب: يظهر الفرق بين المحروم والمحجوب الامرين الآتيين: 1 - المحروم ليس أهلا للارث أصلا كالقاتل، بخلاف المحجوب فإنه أهل للارث ولكن حجب لوجود شخص آخر أولى منه بالميراث. 2 - المحروم من الميراث لا يؤثر في غيره فلا يحجبه أصلا بل يجعل كالمعدوم، فإذا مات شخص عن ابن كافر وأخ مسلم، فالميراث كله للاخ ولاشئ للابن. أما المحجوب فإنه قد يؤثر في غيره فيحجبه سواء أكان حجب حرمان أم حجب نقصان، فالاثنان فأكثر من الاخوة مع وجود الاب والام لا يرثان لوجود الاب ولكنهما يحجبان الام من الثلث إلى السدس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 العول : تعريفه: - العول لغة الارتفاع. يقال: عال الميزان إذا ارتفع، ويأتي أيضا بمعنى الميل إلى الجور ومنه قول الله سبحانه: " وذلك أدنى ألا تعولوا " (1) . وعند الفقهاء زيادة في سهام ذوي الفروض ونقصان من مقادير أنصبتهم في الارث. وروي أن أول فريضة عالت في الاسلام عرضت على عمر رضي الله عنه فحكم بالعول في زوج وأختين فقال لمن معه من الصحابة: إن بدأت بالزوج أو بالاختين لم يبق للآخر حقه فأشيروا علي، فأشار عليه العباس بن عبد المطلب بالعول وقيل: علي، وقيل: زيد بن ثابت.   (1) ان تميلوا إلى الجور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 من مسائل العول: 1 - توفيت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين وأختين لام وأم. تسمى هذه بالمسألة الشريحية لان الزوج شنع على شريح القاضي المشهور حيث أعطاه بدل النصف ثلاثة من عشرة فأخذ يدور في القبائل قائلا: لم يعطني شريح النصف ولا الثلث فلما علم بذلك شريح جاء به وعزره وقال له: أسأت القول وكتمت العول. 2 - توفي رجل عن زوجة وبنتين وأب وام. تسمى هذه المسألة المنبرية لان سيدنا عليا رضي الله عنه كان على منبر الكوفة يقول في خطبته " الحمد لله الذي يحكم بالحق قطعا. ويجزي كل نفس بما تسعى. وإليه المآب والرجعى. فسئل عنها فأجاب على قافية الخطبة - والمرأة صار ثمنها تسعا - ثم مضى في خطبته. والمسائل التي قد يدخلها العول هي المسائل التي يكون أصلها: 6 - 12 - 24. فالستة قد تعول إلى سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة والاثنا عشر قد تعول إلا ثلاثة عشر أو خمسة عشر أو سبعة عشر. والاربعة والعشرون لا تعول إلا إلى سبعة وعشرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 والمسائل التي لا يدخلها العول أصلا هي المسائل التي تكون أصولها 2 - 3 - 4 - 8. وأخذ بالعول قانون المواريث في المادة (15) ونصها " إذا زادت انصباء أصحاب الفروض على التركة قسمت بينهم بنسبة أنصبائهم في الارث ". طريقة حل مسائل العول : - هي أن تعرف أصل المسألة، أي مخرجها وتعرف سهام كل ذي فرض وتهمل الاصل ثم تجمع فروضهم وتجعل المجموع أصلا فتقسم التركة عليه وبذلك يدخل النقص عل كل واحد بنسبة سهامه. فلا ظلم ولا حيف وذلك نحو زوج وشقيقتين، فأصل المسألة من ستة للزوج النصف وهو ثلاثة وللاختين الثلثان وهو أربعة فالمجموع سبعة وهو الذي تقسم عليه التركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 4 - الرد تعريفه: يأتي الرد بمعنى الاعادة. يقال: رد عليه حقه أي أعاده إليه، ويأتى بمعنى الصرف، يقال: رد عنه كيد عدوه أي صرفه عنه. والمقصود به عند الفقهاء: دفع ما فضل من فروض ذوي الفروض النسبية إليهم بنسبة فروضهم عند عدم استحقاق الغير. أركانه: الرد لا يتحقق إلا بوجود أركانه الثلاثة: 1 - وجود صاحب فرض. 2 - بقاء فائض من التركة. 3 - عدم العاصب. رأي العلماء في الرد: لم يرد في الرد نص يرجع إليه ولهذا اختلف العلماء فيه. فمنهم من رأى عدم الرد على أحد من أصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 الفروض، ويكون الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم لبيت المال حيث لا يوجد عاصب (1) . ومنه من قال بالرد على أصحاب الفروض حتى الزوجين بنسبة فروضهم (2) . ومنه من قال بالرد على جميع أصحاب الفروض ما عدا الزوجين والاب والجد، فيكون الرد على الثمانية الاصناف الآتية: 1 - البنت 2 - بنت الابن 3 - الاخت الشقيقة 4 - الاخت لاب 5 - الام 6 - الجدة 7 - الاخ لام 8 - الاخت لام. وهذا هو الرأي المختار وهو مذهب عمر وعلي وجمهور الصحابة والتابعين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والمعتمد عند الشافعية وبعض أصحاب مالك عند فساد بيت المال. قالوا: وإنما لا يرد على الزوجين لان الرد إنما يستحق بالرحم ولا رحم لهما من حيث الزوجية، ولا يرد على الاب والجد لان الرد لا يكون إلا عند عدم وجود عاصب وكل من الاب والجد عاصب فيأخذ الباقي بالتعصيب لا بالرد.   (1) ممن ذهب إلى هذا زيد بن ثابت وتابعه عروة والزهري ومالك والشافعي. (2) هذ مذهب عثمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 وقد أخذ القانون بهذا الرأي إلا في مسألة واحدة أخذ فيها بمذهب عثمان، فحكم بالرد على أحد الزوجين وهي ما إذا مات أحد الزوجين ولم يترك وارثا سواه، فإن الزوج الحي يأخذ التركة كلها بطريق الفرض والرد، فالرد على احد الزوجين في القانون مؤخر عن ذوي الارحام فجاء نص المادة 30 من القانون هكذا: " إذا لم تستغرق الفروض التركة ولم توجد عصبة من النسب رد الباقي على غير الزوجين من أصحاب الفروض بنسبة فروضهم، ويرد باقي التركة إلى أحد الزوجين إذا لم يوجد عصبة من النسب أو أحد الفروض النسبية أو أحد ذوي الارحام ". طريقة حل مسائل الرد : هي أنه إذا وجد مع أصحاب الفروض من لا يرد عليه من أحد الزوجين فإنه يأخذ فرضه منسوبا إلى أصل التركة والباقي بعد فرض يكون لاصحاب الفروض بحسب رؤوسهم إن كانوا صنفا واحدا سواء أكان الموجود منهم واحدا كبنت أو متعددا كثلاث بنات. وإن كانوا أكثر من صنف واحد كأم وبنت فإن الباقي يقسم عليهم بنسبة فروضهم ويرد عليهم بنسبتها أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 وأما إذا لم يكن مع أصحاب الفروض أحد الزوجين فإن الباقي بعد فروضهم يرد عليهم بحسب رؤوسهم إن كانوا صنفا واحدا، سواء أكان الموجود منهم واحدا أو متعددا. وإن كانوا أكثر من صنف واحد فإن الباقي يرد عليهم بنسبة فروضهم، وبذلك يكون نصيب كلى صاحب فرض قد زاد بنسبة فرضه واستحق جملته فرضا وردا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 5 - ذوو الأرحام ذوو الارحام هم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة. وقد اختلف الفقهاء في توريثهم. فقال مالك والشافعي بعدم توريثهم، ويكون المال لبيت المال: وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وزيد والزهري والاوزاعي وداود، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى توريثهم. وحكي ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود، وذلك عند عدم وجود أصحاب الفروض والعصبات وعن سعيد بن المسيب: أن الخال يرث مع البنت. وقد أخذ القانون بهذا الرأي فجاء في المواد من 31 إلى 38 كيفية توريثهم كما هو مبين فيما يلي: المادة 31 - إذا لم يوجد أحد من العصبة بالنسب ولا أحد من ذوي الفروض النسبية كانت التركة أو الباقي منها لذوي الارحام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 وذوو الارحام أربعة أصناف مقدم بعضها على بعض في الارث على الترتيب الآتي: الصنف الاول: أولاد البنات وإن نزلوا، وأولاد بنات الابن وإن نزل. الصنف الثاني: الجد غير الصحيح وإن علا، والجدة غير الصحيحة وإن علت. الصنف الثالث: أبناء الاخوة لام وأولادهم وإن نزلوا، وأولاد الاخوات لابوين أو لاحدهما وإن نزلوا، وبنات الاخوة لابوين، أو لاحدهما وأولادهن وإن نزلوا، وبنات أبناء الاخوة لابوين أو لاب وإن نزلوا، وأولادهن وإن نزلوا. الصنف الرابع: يشمل ست طوائف مقدم بعضها على بعض في الارث على الترتيب الآتي: 1 - أعمام الميت لام وعماته وأخواله وخالاته لابوين أو لاحدهما. 2 - أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وإن نزلوا، وبنات أعمام الميت لابوين أو لاب، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. 3 - أعمام أبي الميت لام وعماته وأخواله وخالاته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 لابوين أو لاحدهما، وأعمام أم الميت وعماتها وأخوالها وخالاتها لابوين أو لاحدهما. 4 - أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وان نزلوا. وبنات أعمام أب الميت لابوين أو لاب وبنات أبنائهم وان نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. 5 - أعمام أب أب الميت لام، وأعمام أب أم الميت وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما لابوين أو لاحدهما. وأعمام أم أم الميت وأم أبيه وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما لابوين أو لاحدهما. 6 - أولاد من ذكروا في الفقرة السابقة وإن نزلوا. وبنات أعمام أب أب الميت لابوين أو لاب وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. وهكذا. المادة 32 - الصنف الاول من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إل الميت درجة. فإن استووا في الدرجة فولد صاحب الفرض أولى من ولد ذوي الرحم. فإن استووا في الدرجة ولم يكن فيهم ولد صاحب قرض. أو كانوا كلهم يدلون بصاحب فرض اشتركوا في الارث. المادة 33 - الصنف الثاني من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت درجة. فإن استووا في الدرجة قدم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 كان يدلي بصاحب فرض، وإن استووا في الدرجة وليس فيهم من يدلي بصاحب فرض أو كانوا كلهم يدلون بصاحب فرض: فإن اتحدوا في حيز القرابة اشتركوا في الارث، وان اختلفوا في الحيز فالثلثان لقرابة الاب. والثلث لقرابة الام. المادة 34 - الصنف الثالث من ذوي الارحام أولاهم بالميراث أقربهم إلى الميت درجة. فإن استووا في الدرجة وكان فيهم ولد عاصب فهو أولى من ولد ذوي الرحم. وإلا قدم أقواهم قرابة للميت، فمن كان أصله لابوين فهو أولى بمن كان أصله لاب، ومن كان أصله لاب فهو أولى ممن كان أصله لام. فإن اتحدوا في الدرجة وقوة القرابة اشتركوا في الارث. المادة 35 - في الطائفة الاولى من طوائف الصنف الرابع المبينة بالمادة (31) إذا انفرد فريق الاب وهم أعمام الميت لام وعماته أو فريق الام وهم أخواله وخالاته، قدم أقواهم قرابة: فمن كان لابوين فهو أولى ممن كان لاب. ومن كان لاب فهو أولى ممن كان لام، وإن تساووا في القرابة اشتركوا في الارث، وعند اجتما الفريقين يكون الثلثان لقرابة الاب والثلث لقرابة الام. ويقسم نصيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 كل فريق على النحو المتقدم وتطبق أحكام الفقرتين السابقتين على الطائفتين الثالثة والخامسة. المادة 36 - في الطائفة الثانية يقدم الاقرب منهم درجة على الابعد ولو من غير حيزه، وعند الاستواء واتحاد الحيز يقدم الاقوى في القرابة إن كانوا أولاد عاصب أو أولاد ذوي رحم، فإن كانوا مختلفين قدم ولد العاصب على ولد ذوي الرحم، وعند اختلاف الحيز يكون الثلثان لقرابة الاب، والثلث لقرابة الام، وما أصاب كل فريق يقسم عليه بالطريقة المتقدمة وتطبق أحكام الفقرتين السابقتين على الطائفتين الرابعة والسادسة. المادة 37 - لا اعتبار لتعدد جهات القرابة في وارث من ذوي الارحام إلا عند اختلاف الحيز. المادة 38 - في إرث ذوي الارحام يكون للذكر مثل حظ الانثيين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 الحمل : الحمل هو ما يحمل في البطن من الولد. ونحن نتكلم عنه هنا من حيث الميراث ومن حيث مدة الحمل. حكمه في الميراث : الحمل إما ينفصل عن أمه وإما أن يبقى في بطنها، وهو في كل من الامرين له أحكام نذكرها فيما يلي: الحمل إذا انفصل عن أمه: إذا انفصل الحمل عن أمه، فإما أن ينفصل حيا أو ينفصل ميتا، وإن انفصل ميتا، فإما أن يكون انفصاله بغير جناية ولا اعتداء على أمه أو بسبب الجناية عليها، فإن انفصل كله حيا ورث من غيره وورثه غيره لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استهل المولود ورث ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 الاستهلال رفع الصوت، والمراد إذا ظهرت حياة المولود ورث. وعلامة الحياة صوت أو تنفس أو عطاس ونحو ذلك. وهذا رأي الثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب أبي حنيفة. وإن انفصل ميتا بغير جناية على أمه فإنه لا يرث ولا يورث اتفاقا. وإن انفصل ميتا بسب الجناية على أمه فإنه في هذه الحال يرث ويورث عند الاحناف. وقالت الشافعية والحنابلة ومالك: لا يرث شيئا ويملك الغرة فقط ضرورة ولا يورث عنه سواها ويرثها كل من يتصور إرثه منه. وذهب الليث بن سعد وربيعة بن عبد الرحمن إلى أن الجنين إذا انفصل ميتا بجناية على أمه لا يرث ولا يورث. وإنما تملك أمه الغرة وتختص بها لان الجناية على جزء منها وهو الجنين، ومتى كانت الجناية عليها وحدها كان الجزاء لها وحدها. وقد أخذ القانون بهذا. الحمل في بطن أمه : 1 - الحمل الذي يبقى في بطن أمه لا يوقف له شئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 من التركة متى كان غير وارث أو كان محجوبا بغيره على جميع الاعتبارات. فإذا مات شخص وترك زوجة وأبا وأما حاملا من غير أبيه. فإن الحمل في هذه الصورة لا ميراث له لانه لا يخرج عن كونه أخا أو أختا لام. والاخوة لام لا يرثون مع الاصل الوارث وهو هنا الاب. 2 - وتوقف التركة كلها إلى أن يولد الحمد إذا كان وارثا ولم يكن مع وارث أصلا أو كان معه وارث محجوب به باتفاق الفقهاء وتوقف كذلك إذا وجد معه ورثة غير محجوبين به ورضوا جميعا صراحة أو ضمنا بعدم قسمتها بأن سكتوا أو لم يطالبوا بها. 3 - كل وارث لا يتغير فرضه بتغير الحمل يعطى له نصيبه كاملا ويوقف الباقي. كما إذا ترك الميت جدة وامرأة حاملا فإنه يعطى للجدة السدس لانه فرضها لا يتغير سواء ولد الحمل ذكرا أم أنثى. 4 - الوارث الذي يسقط في احدى حالتي الحمل ولا يسقط في الاخرى لا يعطى شيئا للشك في استحقاقه، فمن مات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 وترك زوجة حاملا وأخا فلا شئ للاخ لجواز كون الحم ذكرا. وهذا مذهب الجمهور. 5 - من يختلف نصيبه من أصحاب الفروض باختلاف ذكورة الحمل وأنوثته يعطى أقل النصيبين ويوثف للحمل أوفر النصيبين. فإن ولد الحمل حيا وكان يستحق النصيب الاوفر أخذه، وإن لم يكن يستحقه بل يستحق النصيب الاقل أخذه ورد الباقي إلى الورثة، وإن نزل ميتا لم يستحق شيئا ووزعت التركة كلها على الورثة دون اعتبار للحمل. أقل مدة الحمل وأكثرها : وأقل مدة يتكون فيها الجنين ويولد حيا ستة أشهر لقول الله سبحانه: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (1) . مع قوله " وفصاله في عامين " (2) . فإذا كان الفصال عامين لم يبق إلا ستة أشهر للحمل. وإلى هذا ذهب الجمهور من الفقهاء. وقال الكمال بن الهمام من أئمة الاحناف: إن العادة المستمرة كون الحمل أكثر من ستة أشهر وربما يمضي   (1) صورة الاحناف الآية رقم 15. (2) سورة لقمان الآية رقم 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 دهور ولم يسمع فيها بولادة لستة أشهر. وفي قول لبعض الحنابلة: أقل مدة الحمل تسعة أشهر. وقد خالف القانون قول جماهير العلماء وأخذ بقول بعض الحنابلة وبما قال به الاطباء الشرعيون: وهو أن أقل مدة الحمل تسعة أشهر هلالية (أي 270 يوما) لان هذا يتفق والكثير الغالب. وكما اختلفوا في أقل مدة الحمل فقد اختلفوا في أكثرها، فمنهم من قال: إنها سنتان (1) . ومنهم من قال تسعة أشهر ومنهم من قال: سنة هلالية " 354 يوما ". وأخذ القانون بما ارتآه الطب الشرعي. فذكر أن أكثر مدة الحمل سنة شمسية (2) " 365 يوما " واعتبر ذلك في ثبوت النسب والارث والوقف والوصية. أما القانون فقد أخذ برأي أبي يوسف الذي عليه الفتوى في المذهب الحنفي في أن الحمل يوقت له أوفر النصين وأخذ برأي الائمة الثلاثة في اشتراط ولادته كله حيا في استحقاقه الميراث.   (1) وهذا رأي الاحناف. (2) وهذا رأي محمد بن الحكم أحد فقهاء المذهب المالكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 وأخذ برأي محمد بن الحكم في أنه لا يرث إلا إذا ولد لسنة من تاريخ الوفاة أو الفرقة بين أبيه وأمه. فجاء في المواد - 42 - 43 - 44 - ما يلي: - المادة - 42 - يوقف للحمل من تركة المتوفى أوفر النصيبين على تقدير أنه ذكر أو أنثى. المادة 43 - إذا توفي الرجل عن زوجته أو عن معتدته فلا يرثه حملها إلا إذا ولد حيا لخمسة وستين وثلثمائة يوم على الاكثر من تاريخ الوفاة أو الفرقة، ولا يرث الحمل غير أبيه إلا في الحالتين الآيتين: 1 - أن يولد حيا لخمسة وستين وثلثمائة يوم على الاكثر من تاريخ الموت أو الفرقة إن كانت أمه معتدة موت أو فرقة، ومات المورث أثناء العدة. 2 - أن يولد حيا لسبعين ومائتي يوم على الاكثر من تاريخ وفاة المورث إن كان من زوجية قائمة وقت الوفاة. المادة 44 - إذا نقص الموقوف للحمل عما يستحقه يرجع بالباقي على من دخلت الزيادة في نصيبه من الورثة، وإذا زاد الموقوف للحمل عما يستحقه رد الزائد على من يستحقه من الورثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 المفقود : المفقود: إذا غاب الشخص وانقطع خبره ولم يدر مكانه ولم يعرف أحي هو أم ميت؟ وحكم القضاء بموته قيل إنه مفقود. وحكم القاضي: إما أن يكون مبينا على الدليل، كشهادة العدول، أو يكون مبينا على أمارات لا تصلح أن تكون دليلا وذلك بمضي المدة. ففي الحالة الاولى يكون موته محققا ثابتا من الوقت الذي قام فيه الدليل على الموت، وفي الحالة الثانية التي يحكم فيها القاضي بموت المفقود بمقتضى مضي الدة يكون موته حكميا لاحتمال أن يكون حيا. المدة التي يحكم بعدها بموت المفقود: اختلف الفقهاء في المدة التي يحكم بعدها بموت المفقود، فروي عن مالك أنه قال: أربع سنين، لان عمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 رضي الله عنه قال " أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم تحل " أخرجه البخاري والشافعي. والمشهور عن أبي حنيفة والشافعي ومالك عدم تقدير المدة بل ذلك مفوض إلى اجتهاد القاضي في كل عصر. قال صاحب المغني في احدى الروايتين في المفقود الذي لا يغلب هلاكه " لا يقسم ماله ولا تتزوج امرأته حتى يتيقن موته، أو يمضي عليه مدة لا يعيش في مثلها. وذلك مردود إلى اجتهاد الحاكم. وهذا قول الشافعي رضي الله عنه ومحمد بن الحسن وهو المشهور عن مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف، لان الاصل حياته والتقدير لا يصار ل يه إلا بتوقيف، ولا توقيف هنا. فوجب التوقف ". وير الامام أحمد أنه إن كان في غيبة يغلب فيها الهلاك (1) فإنه بعد التحري الدقيق عنه يحكم بموته بمضي أربع سنين لان الغالب هلاكه، فأشبه ما لو مضت مدة لا يعيش في مثلها، وإن كان في غيبة يغلب معها السلامة (2) يفوض أمره إلى القاضي يحكم بموته بعد أي   (1) كمن يفقد في ميدان الحرب أو بعد الغارات أو يفقد بين أهله كمن خرج إلى صلاة العشاء ولم يعد أو لحاجة قريبة ولم يرجع ولا يعلم خبره. (2) مثل المسافر إلى الحج أو لطلب العلم أو التجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 مدة يراها وبعد التحري عنه بكل الوسائل الممكنة التي توصل إلى بيان حقيقة كونه حيا أم ميتا. وأخذ القانون برأي الامام أحمد فيما إذا كان المفقود في حالة يغلب معها الهلاك فقدر المدة بأربع سنين وأخذ برأيه ورأي غيره في تفويض الامر إلى القاضي في الحالات الاخرى. ففي المادة " 21 " من القانون رقم 15 سنة 1929 النص الاتي: يحكم بموت المفقود الذي يغلب عليه الهلاك بعد أربع سنين من تاريخ فقده. وأما في جميع الاحوال الاخرى فيفوض أمر المدة التي يحكم بموت المفقود بعد ما إلى القاضي. وذلك كله بعد التحري عنه بجميع الطرق الممكنة الموصلة إلى معرفة إن كان المفقود حيا أو ميتا. ميراثه : ميراث المفقود يتعلق به أمران: لانه إما أن يكون مورثا أو وارثا، ففي حالة ما إذا كان مورثا فإن ماله يبقى على مكله ولا يقسم بين ورثته إلى أن يتحقق موته أو يحكم القاضي بالموت. فإن ظهر حيا أخذ ماله وإن تحقق موته أو حكم القاضي بموته ورثه من كان وارثا له وقت الموت أو وقت الحكم بالموت، ولا يرثه من مات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 قبل ذلك، أو حدث إرثه بعد ذلك بزوال مانع عنه كإسلام وارث له. هذا إذا لم يسند الحكم بالموت إلى وقت سابق على صدور وإلا ورثه من كان وارثا في الوقت الذي أسند الحكم الموت إليه. أما الحالة الثانية وهي إذا ما كان وارثا لغيره فإنه يوقف له نصيبه من تكرة المورث وبعد الحكم بموته يرد ذلك الموقوف إلى وارث مورثه، وبهذا أخذ القانون، فقد جاء في مادة " 45 " النص الاتي: يوقف نصيب المفقود من تركة المورث حتى يتبين أمره، فإن ظهر حيا أخذه وإن حكم بموته رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه، فإن ظهر حيا بعد الحكم بموته أخذ ما بقي من نصيبه بأيدي الورثة (1) .   (1) هذا الحكم بالنسبة للميراث أما الحكم بالنسبة للزوجة فقد جاء في مادة (22) من القانون رقم 25 سنة 1929: - (بعد الحكم بموت المفقود بالصفة المبينة في المادة السابقة تعتد زوجته عدة الوفاة وتقسم تركته بين ورثته الموجودين وقت الحكم) - مادة (7) من القانون رقم 25 لسنة 1920 (إذا جاء المفقود أو لم يجئ وتبين أنه حي فزوجته له ما لم يتمتع بها الثاني غير عالم بحياة الاول فإن تمتع بها الثاني غير عالم بحاية الاول كانت للثاني ما لم يكن عقده في عدة وفاة الاول) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 الخنثى : (1) تعريفه: الخنثى شخص اشتبه في أمره ولم يدر أذكر هو أم أنثى؟ إما لان له ذكره وفرجا معا أو لانه ليس له شئ منهما أصلا. كيف يرث : إن تبينأنه ذكر ورث ميراث الذكر وإن تبين أنه أنثى ورث ميراثها. وتتبين الذكورة والانوثة بظهور علامات كل منهما. وهي قبل البلوغ تعرف بالبول فإن بال بالعضو المخصوص بالذكر فهو ذكر وان بال بالعضو المخصوص بالانثى فهو أنثى، وإن بال منهما كان الحكم للاسبق. وبعد البلوغ إن نبتت له لحية أو أتى النساء أو احتلم كما يحتلم الرجال فهو ذكر، وإن ظهر له ثدي كثدي المرأة أو در له لبن أو حاض أو حبل فهو أنثى، وهو في هاتين الحالتين يقال له خنثى غير مشكل.   (1) الخنثى مأخوذ من الخنث وهو اللين والتكسر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 فإن لم يعرف أذكر هو أم أنثى؟ بأن لم تظهر علامة من العلامات أو ظهرت وتعاضت فهو الخنثى المشكل. وقد اختلف الفقهاء في حكمه من حيث الميراث فقال أبو حنيفة إنه يفرض أنه ذكر ثم يفرض أنه أنثى ويعامل بعد ذلك بأسموإ الحالين، حتى لو كان يرث على اعتبار ولا يرث على اعتبار آخر لم يعط شيئا. وإن ورث على كل الفرضين، واختلف نصيبه أعطي أقل النصيبين. وقال مالك وأبو يوسف والشيعة الامامية: يأخذ المتوسط بين نصيبي الذكر والانثى. وقال الشافعي: يعامل كل من الورثة والخنثى بأقل النصيبين لانه المتبقي إلى كل منهما، وقال أحمد: إن كان يرجى ظهور حاله يعامل كل منه ومن الورثة بالاقل ويوقف الباقي، وإن لم يرج ظهور الامر يأخذ المتوسط بين نصيبي الذكر والانثى وهذا الرأي الاخير هو الارجح ولكن القانون أخذ برأي أبي حنيفة، ففي المادة " 46 " منه " للخنثى المشكل وهو الذي لا يعرف أذكر هو أم أنثى أقل النصيبين وما بقي من التركة يعطى لباقي الورثة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 ميراث المرتد : المرتد لا يرث من غيره ولا يرثه غيره وإنما ميراثه يكون لبيت مال المسلمين، وهذا رأي الشافعي ومالك والمشهور عن أحمد. وقالت الاحناف: ما اكتسبه قبل الردة ورثه أقاربه المسلمون وما اكتسبه بعدها فهو لبيت المال، وقد سبق الكلام عليه مفصلا في باب الحدود. ابن الزنا وابن الملاعنة ابن الزنا هو المولود من غير زواج شرعي وابن الملاعنة هو الذي نفى الزوج الشرعي نسبه منه. وابن الزنا وابن الملاعنة لا توارث بينهما وبين أبويهما باجماع المسلمين لانتفاء النسب الشرعي. وإنما التوارث بينهما وبين أميهما. فعن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق النبي بينهما وألحق الولد بالمرأة. رواه البخاري وأبو داود. ولفظه " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لامه ولورثتها من بعدها " ونص مادة " 47 " من قانون الميراث " يرث ولد الزنا وولد اللعان من الام وقرابتها وترثهما الام وقرابتها. " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 التخارج : تعريفه: التخارج هو أن يتصالح الورثة على إخراج بعضهم عن نصيبه في الميراث نظير شئ معين من التركة أو من غيرها. وقد يكون التخارج بين اثنين من الورثة على أن يحل أحدهم محل الاخر في نصيبيه في مقابل مبلغ من المال يقدمه له. حكمه: والتخارج جائز متى كان عن تراض. وقد طلق عبر الرحمن بن عوف زوجته تماضر بنت الاصبغ الكلبية في مرض موته، ثم مات وهى في العدة فورثها عثمان مع ثلاث نسوة أخر فصالحوها عن ربع ثمنها على ثلاثة وثمانين ألفا - قيل هي دنانير وقيل هي دارهم. جاء في القانون مادة " 48 ": التخارج هو أن يتصالح الورثة على اخراج بعضهم من الميراث على شئ معلوم، فإذا تخارج أحد الورثة مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 آخر منهم استحق نصيبه وحل محله في التركة، وإذا تخارج أحد الورثة مع باقيهم، فإن كان المدفوع له من التركة قسم نصيبه بينهم بنسبة أنصبائهم فيها. وإن كان المدفوع من مالهم ولم ينص في عقد التخارج على طريقة قسمة نصيب الخارج قسم عليهم بالسوية بينهم. 6، 7، 8 - الاستحقاق بغير الارث جاء في قانون المواريث في المادة 4: إذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الاتي: أولا: استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره. ثانيا: ما أوصى به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية. فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة. ومعنى هذا أن الميت إذا مات ولم يكن له ورثة استحق التركة ثلاثة: 1 - المقر له بالنسب على الغير. 2 - الوصية بما زاد على الثلث. 3 - بيت المال - الخزانة العامة. وسنتكلم على كل من هذه الثلاثة فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 المقر له بالنسب القانون الذي جرى عليه العمل في مصر أنه: إذا أقر الميت بالنسب على غيره استحق المقر له التركة إذا كان مجهول النسب ولم يثبت نسبه من الغير ولم يرجع المقر عن إقراره ويشترط في هذه الحال أن يكون المقر له حيا وقت موت المقر أو وقت الحكم باعتباره ميتا، وأن لا يقوم به مانع من موانع الارث. وجاء في المذكرة الايضاحية ما يأتي: والمقر له بالنسب غير وارث، لان الارث يعتمد على ثبوت النسب وهو غير ثابت بالاقرار وحده، غير أن الفقهاء أجروا عليه حكم الوارث في بعض الاحوال كتقديمه على الموصى له بما زاد على الثلث بالنسبة للزائد، وكاعتباره خلفا عن المورث في الملك فله أن يرد بالعيب وكمنعه من الارث بأي مانع من موانعه فرئي من المصلحة اعتباره مستحقا للتركة بغير الارث إيثارا للحقيقة والواقع. الموصى له بما زاد على الثلث إذا مات الميت ولم يكن له وارث ولا مقر له بنسب على غيره جازت الوصية للاجنبي بالتركة كلها أو بأي جزء منها، لان التقييد بالثلث من أجل الورثة وليس منهم أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 9 - بيت المال إذا مات الميت ولم يترك ورثة ولم يوجد مقر له بالنسب على الغير ولا موصى له بأكثر من الثلث فإن المال يوضع في بيت مال المسلمين ليصرف في مصالح الامة العامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 الوصية الواجبة : صدر قانون الوصية الواجبة رقم 71 لسنة 1365 هجرية وسنة 1946 م وقد تضمن الاحكام الاتية: 1 - إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو مات معه ولو حكما بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثا في تركته لو كان حيا عند موته، وجبت للفرع وصية في التركة بقدر هذا النصيب في حدود الثلث، بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض من طريق تصرف آخر قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه ما أقل منه وجبت له وصية بقدر ما يكمله. وتكون هذه الوصية لاهل الطبقة الاولى من أولاد البنات، ولاولاد الابناء من أولاد الظهور (1) وإن نزلوا،   (1) وهم من لا ينتسبون إلى الميت بأنثى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، وأن يقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل قسمة الميراث كما لو كان أصله أو أصوله الذين يدلي بهم إلى الميت ماتوا بعده وكان موتهم مرتبا كترتيب الطبقات. 2 - إذا أوصى الميت لمن وجبت له الوصية بأكثر من نصيبه كانت الزيادة وصية اختيارية، وإن أوصى له بأقل من نصيبه وجب له ما يكمله، وإن أوصى لبعض من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له من وجبت لهم الوصية دون البعض الاخر وجب لمن لم يوص له قدر نصيبه، ويؤخذ نصيب من لم يوص له ويوفى نصيب من أوصى له بأقل مما وجب من باقي الثلث، فإن ضاق عن ذلك فمنه ومما هو مشغول بالوصية الاختيارية. 3 - الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا، فإذا لم يوص الميت لمن وجبت لهم الوصية وأوصى لغيرهم استحور كل من وجبت له الوصية قدر نصيبه من باقي ثلث التركة إن وفى وإلا فمنه ومما أوصى به لغيرهم. طريقة حل المسائل التي تشتمل على الوصية الواجبة : 1) يفرض الولد الذي مات في حياة أحد أبويه حيا وارثا ويقدر نصيبه كما لو كان موجودا. 2) يخرج من التركة نصيب المتوفى ويعطى لفرعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 المستحق للوصية الواجبة إن كان يساوي الثلث فأقل، فإن زاد على الثلث رد إلى الثلث ثم يقسم على الاولاد للذكر مثل حظ الانثيين. 3) يقسم باقي التركة بين الورثة الحقيقيين على حسب فرائضهم الشرعية. انتهى كتاب " فقه السنة " والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات رمضان 1391 هـ نوفمبر 1971 م الشيخ سيد سابق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664