الكتاب: اختلاف الحديث (مطبوع ملحقا بالأم للشافعي) المؤلف: الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت سنة النشر: 1410هـ/1990م عدد الأجزاء: 1 (يقع في الجزء 8 من كتاب الأم)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] ---------- اختلاف الحديث الشافعي الكتاب: اختلاف الحديث (مطبوع ملحقا بالأم للشافعي) المؤلف: الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) الناشر: دار المعرفة - بيروت سنة النشر: 1410هـ/1990م عدد الأجزاء: 1 (يقع في الجزء 8 من كتاب الأم)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْجَوْهَرِيُّ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَأَقَرَّ بِهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ حَيَّوَيْهِ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَيْفٍ السِّجِسْتَانِيِّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْمُطَّلِبِيُّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَضَعَ رَسُولَهُ مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ لِمَا افْتَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا افْتَرَضَ عَلَى لِسَانِهِ نَصًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَأَبَانَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ، فَفَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِأَخْذِ مَا أتَاهُمْ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَكَانَ فَرْضُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَايَنَ رَسُولَهُ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاحِدًا فِي أَنَّ عَلَى كُلٍّ طَاعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَابَ عَنْ رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْلَمُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا بِالْخَبَرِ عَنْهُ. وَأَوْجَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ حُدُودًا، وَبَيَّنَهُمْ حُقُوقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ بِشَهَادَاتٍ، وَالشَّهَادَاتُ أَخْبَارٌ، وَدَلَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةٌ، وَأَمَرَ فِي الدَّيْنِ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَفِي الْوَصَايَا بِشَاهِدَيْنِ، وَكَانَتْ حُقُوقٌ سِوَاهَا بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ عَدَدُ الشُّهُودِ فِيهَا مِنْهَا الْقَتْلُ وَغَيْرُهُ، أُخِذَ عَدَدُ الشُّهُودِ فِيهَا مِنْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، وَأُخِذَ أَنْ يُقْتَلَ فِي غَيْرِ الزِّنَا وَيُقْطَعَ، وَتُؤْخَذُ الْحُقُوقُ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِشَاهِدَيْنِ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا، وَأُخِذَ أَنْ تُؤْخَذَ الْأَمْوَالُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِذِكْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا فِي الدَّيْنِ وَهُوَ مَالٌ، وَاخْتَرْنَا أَنْ يُؤْخَذَ الْمَالُ بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ الْحَقُّ فِي الْقَسَامَةِ بِدَلَائِلَ قَدْ وَصَفْنَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّلَائِلِ شَاهِدٌ بِالْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَانَ مَا فَرَضَ اللَّهُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مُؤَدِّيًا خَبَرًا، كَمَا تُؤَدِّي الشَّهَادَاتُ خَبَرًا، وَشَرَطَ فِي الشُّهُودِ ذَوِي عَدْلٍ وَمَنْ نَرْضَى، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُ أَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، حَتَّى يَكُونَ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَرِضًا فِي خَبَرِهِ وَكَانَ بَيِّنًا إِذِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَبُولَ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَلَّفَنَا الْعَدْلَ عِنْدَنَا عَلَى مَا يَظْهَرُ لَنَا؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مُغَيَّبَ غَيْرِنَا، فَلَمَّا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِقَبُولِ الشُّهُودِ عَلَى الْعَدَالَةِ عِنْدَنَا، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَاتِهِمْ، وَشَهَادَاتُهُمْ أَخْبَارٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ وَعَدَدِهِمْ تَعَبُّدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ عَدَدٌ إِلَّا وَفِي النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَكَانَ فِي قَبُولِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ مَقْبُولًا مِنْ وُجُوهٍ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا أَنَّ مَا ثَبَتَ وَشَهِدَ بِهِ عِنْدَنَا مَنْ قَطَعْنَا الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 ، إِحَاطَةٌ عِنْدَنَا عَلَى الْمُغَيَّبِ، وَلَكِنَّهُ صِدْقٌ عَلَى الظَّاهِرِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ عِنْدَنَا. وَإِنْ أَمْكَنَ فِيهِ الْغَلَطُ فَفِيهِ مَا دَلَّ عَلَى الْفَرْضِ عَلَيْنَا مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يُؤْخَذُ عَدَدُ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِأَحَدِ الدَّلَائِلِ الَّتِي قَبِلْنَا بِهَا عَدَدًا مِنَ الشُّهُودِ، فَرَأَيْنَا الدَّلَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْهُ، فَلَزِمَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ نَقْبَلَ خَبَرَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ كَمَا لَزِمَنَا قَبُولُ عَدَدِ مَنْ وَصَفْتُ عَدَدَهُ فِي الشَّهَادَةِ، بَلْ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْهُ أَقْوَى سَبَبًا بِالدَّلَالَةِ عَنْهُ، ثُمَّ مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا مِنْ أَحَدٍ مِنْ مَاضِي أَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَتَابِعِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ خَبَرًا نَصًّا عَنْهُمْ، وَدَلَالَةً مَعْقُولَةً عَنْهُمْ مِنْ قَبُولِ عَدَدِ الشُّهُودِ فِي بَعْضِ مَا قَبِلْنَاهُ فِيهِ. وَقَدْ كَتَبْتُ فِي كِتَابِ جِمَاعِ الْعِلْمِ الدَّلِيلَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِمَّا اكْتَفَيْتُ فِي رَدِّ كَثِيرٍ مِنْهُ فِي كِتَابِي هَذَا، وَقَدْ رَدَدْتُ مِنْهُ جُمَلًا تَدُلُّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كِتَابَ جِمَاعِ الْعِلْمِ عَلَى مَا وَرَاءَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ؟ قِيلَ: الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَانِ: فَخَبَرُ عَامَّةٍ عَنْ عَامَّةٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مَا فُرِضَ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَأْتُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَيُؤْتُوا بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهُ، وَمَا كَانَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَوَامِّ أَنْ يَسْتَوُوا فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا كُلِّفَهُ كَعَدَدِ الصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ، وَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَخَبَرُ خَاصَّةٍ فِي خَاصِّ الْأَحْكَامِ لَمْ يُكَلَّفْهُ الْعَامَّةُ، لَمْ يَأْتِ أَكْثَرُهُ كَمَا جَاءَ الْأَوَّلُ، وَكُلِّفَ عِلْمَ ذَلِكَ مَنْ فِيهِ الْكِفَايَةُ لِلْخَاصَّةِ بِهِ دُونَ الْعَامَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَهْوٌ يَجِبُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِيمَا لَا يَجِبُ بِهِ سُجُودُ سَهْوٍ، وَمَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَمَا لَا يُفْسِدُهُ، وَمَا تَجِبُ بِهِ الْبَدَنَةُ، وَلَا تَجِبُ مِمَّا يَفْعَلُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى الْعُلَمَاءِ فِيهِ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَبُولُ خَبَرِ الصَّادِقِ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يَسَعُهُمْ رَدُّهُ كَمَا لَا يَسَعُهُمْ رَدُّ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِينَ قَبِلُوا شَهَادَتَهُمْ، وَهُوَ حَقٌّ صِدْقٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يُقَالُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ، فَمَنْ أَدْخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ شَيْئًا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي قَبُولِ عَدَدِ الشُّهُودِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِنَصٍّ فِي كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، مِثْلُ الشُّهُودِ عَلَى الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ كَانَ النَّاسُ مُسْتَقْبِلِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ حَوَّلَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَأَتَى أَهْلَ قُبَاءَ آتٍ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ كِتَابًا، وَأَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَجَمَاعَةً كَانُوا يَشْرَبُونَ فَضِيخَ بُسْرٍ، وَلَمْ يَحْرُمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ شَيْءٌ، فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، فَأَمَرُوا أُنَاسًا فَكَسَرُوا جِرَارَ شَرَابِهِمْ ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يُحَدَّثُونَ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَوْ كَانَ قَبُولُ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُمْ، وَهُوَ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ كُنْتُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تُحَوَّلُوا عَنْهَا، إِذْ كُنْتُ حَاضِرًا مَعَكُمْ حَتَّى أُعْلِمَكُمْ أَوْ يُعْلِمَكُمْ جَمَاعَةٌ، أَوْ عَدَدٌ يُسَمِّيهِمْ لَهُمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِمِثْلِهَا، إِلَّا بِأَقَلَّ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ لَا تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِوَاحِدٍ. وَالْفَسَادُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عِنْدَ عَالِمٍ، وَهِرَاقَةُ حَلَالٍ فَسَادٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ أَيْضًا تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَهُمْ بِتَحْرِيمٍ، لَأَشْبَهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ كَانَ لَكُمْ حَلَالًا وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ إِفْسَادُهُ حَتَّى أُعْلِمَكُمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ حَرَّمَهُ، أَوْ يَأْتِيَكُمْ عَدَدٌ يَحُدُّهُ لَهُمْ يُخْبِرُ عَنِّي بِتَحْرِيمِهِ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُعَلِّمَ امْرَأَةً أَنْ تُعَلِّمَ زَوْجَهَا إِنْ قَبَّلَهَا وَهُوَ صَائِمٌ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَرَ الْحُجَّةَ تَقُومُ عَلَيْهِ بِخَبَرِهَا إِذَا صَدَّقَهَا لَمْ يَأْمُرْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ رَجُلٍ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا، وَفِي ذَلِكَ إِفَاتَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 نَفْسِهَا بِاعْتِرَافِهَا عِنْدَ أُنَيْسٍ، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَأَمَرَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ، وَقَدْ سَنَّ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَهُ أَسْلَمَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَقَدْ يُحْدِثُ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَمَرَ أُنَيْسًا أَوْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ - شَكَّ الرَّبِيعُ - أَنْ يَقْتُلَ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ الْهُذَلِيَّ فَقَتَلَهُ، وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَسْلَمَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ مَعَانِي وُلَاتِهِ وَهُمْ وَاحِدٌ وَاحِدٌ فَتُصُوِّرَ الْحُكْمُ بِأَخْبَارِهِمْ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ بِعُمَّالِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا بَعَثَ عُمَّالَهُ لِيُخْبِرُوا النَّاسَ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِمْ، وَيَأْخُذُوا مِنْهُمْ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعْطُوهُمْ مَا لَهُمْ، وَيُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ وَيُنَفِّذُوا فِيهِمُ الْأَحْكَامَ، وَلَمْ يَبْعَثْ مِنْهُمْ وَاحِدًا إِلَّا مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ عِنْدَ مَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وَجَّهَهُمْ إِلَيْهَا أَهْلَ صِدْقٍ عِنْدَهُمْ، مَا بَعَثَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَالِيًا عَلَى الْحَجِّ، فَكَانَ فِي مَعْنَى عُمَّالِهِ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَهُ بِأَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ فَقَرَأَهَا فِي مَجْمَعِ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَاحِدٌ، وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ، وَكِلَاهُمَا بَعَثَهُ بِغَيْرِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ صَاحِبَهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِبَعْثَتِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذْ كَانَا مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ عَوَامِّهِمْ بِالصِّدْقِ، وَكَانَ مَنْ جَهِلَهُمَا مِنْ عَوَامِّهِمْ يَجِدُ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْرِفُ صِدْقَهُمَا، مَا بُعِثَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَقَدْ بَعَثَ عَلِيًّا يُعْطِيهِمْ نَقْضَ مُدَدٍ، وَإِعْطَاءَ مُدَدٍ وَنَبْذٍ إِلَى قَوْمٍ وَنَهْيٍ عَنْ أُمُورٍ وَأَمْرٍ بِأُخْرَى وَمَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَّغَهُ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ فِي مُدَّتِهِمْ، وَلَا مَأْمُورٌ بِشَيْءٍ وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِرِسَالَةٍ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَنْتَ وَاحِدٌ، وَلَا تَقُومُ عَلَيَّ الْحُجَّةُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَكَ إِلِيَّ بِنَقْضِ شِيْءٍ جَعَلَهُ لِي، وَلَا بِإحْدَاثِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لِي، وَلَا لِغَيْرِي، وَلَا بِنَهْيٍ عَنِ أَمْرٍ لَمْ أَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللِّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ، وَلَا بِإِحْدَاثِ أَمْرٍ لَمْ أَعْلَمْ رَسُولَ اللَّهِ أَحْدَثَهُ، وَمَا يَجُوزُ هَذَا لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ قَطَعَهُ عَلَيْهِ عَلِيٌّ بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ وَلَا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَلَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا نَهَاهُ عَنْهُ، بِأَنْ يَقُولَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ يَنْقُلُهُ إِلَى عَدَدٍ أَوْ لَا أَقْبَلُ فِيهِ خَبَرَكَ وَأَنْتَ وَاحِدٌ، وَلَا كَانَ لِأَحَدٍ وَجَّهَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَامِلًا يَعْرِفُهُ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ لَهُ مَنْ يُصَدِّقُهُ صَدَقَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْعَامِلُ: عَلَيْكَ أَنْ تُعْطِيَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ تَفْعَلَ بِكَ كَذَا، فَيَقُولُ: لَا أَقْبَلُ هَذَا مِنْكَ؛ لِأَنَّكَ وَاحِدٌ حَتَّى أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ فَيُخْبِرَنِي أَنَّ عَلَيَّ مَا قُلْتَ إِنَّهُ عَلَيَّ، فَأَفْعَلَهُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ لَا عَنْ خَبَرِكَ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُغَلِّطَ أَوْ يَجْهَلَ بَيِّنَةً عَامَّةً بِشَرْطٍ فِي عَدَدِهِمْ وَإِجَمَاعِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَشَهَادَتِهِمْ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، ثُمَّ لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْ خَبَرِ الْعَامَّةِ عَدَدًا أَبَدًا إِلَّا وَفِي الْعَامَّةِ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَا مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ حِينَ يُخْبِرُونَ وَتَفَرُّقِهِمْ تَثْبِيتًا إِلَّا أَمْكَنَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَعْضِ زَمَانِهِ حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَكُونُ لِتَثْبِيتِ الْأَخْبَارِ غَايَةٌ أَبَدًا يَنْتَهِي إِلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَكُونُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَجْوَزَ مِنْهُ لِمَنْ قَالَ هَذَا، وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ لِقَاءَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُدْرِكُ ذَلِكَ لَهُ أَبُوهُ وَوَلَدُهُ وَإِخْوَتُهُ وَقَرَابَتُهُ وَمَنْ يُصَدِّقُهُ فِي نَفْسِهِ، وَيُفَضِّلُ صِدْقَهُ لَهُ بِالنَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْكَاذِبَ قَدْ يُصَدِّقُ نَظَرًا لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِأَحَدٍ يُدْرِكُ لِقَاءَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُدْرِكُ خَبَرَ مَنْ يُصَدِّقُ مِنْ أَهْلِهِ وَالْعَامَّةِ عَنْهُ، كَانَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ مِمَّنْ لَا يَلْقَاهُ فِي الدُّنْيَا أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ عِنْدَ مَنْ أَخْبَرَهُ، فَمَا يَقُولُ فِي مُعَاذٍ إِذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَالِيًا وَمُحَارِبًا مَنْ خَالَفَهُ، وَدَعَا قَوْمًا لَمْ يَلْقَوَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَغَيْرِهَا، فَامْتَنَعُوا فَقَاتَلَهُمْ، وَقَاتَلْهُمْ مَعَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إِلَّا صِدْقُ مُعَاذٍ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ، إِذْ كَانُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى بِنْصَرِ مُعَاذٍ وَتَصْدِيقِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ الْحُجَّةُ قَائِمَةً عَلَى مَنْ رَدَّ عَلَى مُعَاذٍ مَا جَاءَ بِهِ مُعَاذٌ حَتَّى قَتَلَهُ مُعَاذٌ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ، وَمُعَاذٌ لِلَّهِ مُطِيعٌ. وَمَا يَقُولُ فِيمَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ فِي جُيُوشِهِ وَسَرَايَاهُ إِلَى مَنْ بَعَثَ، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ، أَكَانَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 وَالسَّرِيَّةِ، وَالْجَيْشُ وَالسَّرِيَّةُ مُطِيعِينَ لِلَّهِ فِيمَنْ قَاتَلُوا؟ وَمَنِ امْتَنَعَ مِمَّنْ دَعَوْهُ مَحْجُوجًا، وَقَدْ كَانَتْ سَرَايَاهُ أَوْ تَكُونُ عَشْرَةَ نَفَرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُعَاذٌ أَوْ أُمَرَاءُ سَرَايَاهُ مَحْجُوجًا بِخَبَرِهِمْ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الْقَوْلَ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا أَنْكَرَ خَبَرَ الْعَامَّةِ عَمَّنْ وَصَفَ وَصَارَ إِلَى طَرْحِ خَبَرِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَمَا يَقُولُ فِي امْرِئٍ بِبَادِيَةٍ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى بَادِيَتِهِ، فَجَاءَ أَخُوهُ وَأَبُوهُ وَهُمَا صَادِقَانِ عِنْدَهُ فَأَخْبَرَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ شَيْئًا أَوْ أَحَلَّهُ فَحَرَّمَهُ أَوْ أَحَلَّهُ أَوْ يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ بِقَبُولِ خَبَرِهِمَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ فَقَدْ ثَبَتَ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ قَالَ لَا خَرَجَ مِمَّا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا، فَإِنِّي لَمْ أَحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ لَقِيتُهُ، وَلَمْ أَعْلَمْهُ حُكِيَ لِي عَمَّنْ لَمْ أَلْقَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يُثْبِتَ إِلَّا مَا وَصَفْتُ عَنْ أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ، وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ وَصَلَ إِلَيْهِ عَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُسُلُهُ مِمَّنْ سَمَّيْنَا أَوْ لَمْ نُسَمِّ مِنْ عُمَّالِهِ وَرُسُلِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ شَيْئًا أَعْلَمُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَرُدَّ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَعْصِيَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ لِرَسُولِ اللَّهِ فِيهِ سُنَّةً تُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَبْعَثُ إِلَّا بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَكُلُّ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ وَاحِدٌ. ثُمَّ لَمْ أَعْلَمْ لِنَاسٍ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ خَلِيفَتَهُمْ وَوَالِيَ الْمِصْرِ لَهُمْ وَقَاضِيَ الْمِصْرِ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَقْضِي، فَيَقُولُ: شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَهُمَا عَدْلَانِ عَلَى فُلَانٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا، أَوْ أَنَّهُ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانًا، أَوْ أَنَّهُ أَتَى فَاحِشَةً مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ شَاهِدَانِ إِلَّا جَازَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ مَا وَصَفَهُ هَؤُلَاءِ، وَلَا حَاكِمٌ يُعْرَفُ بِعَدْلٍ يَكْتُبُ بِأَنَّهُ قَضَى لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا مِنَ الْمَالِ وَبِالدَّارِ الَّتِي فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَلَا لِأَحَدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَوَارِثُهُ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ إِلَّا أَنْفَذَهُ الْحَاكِمُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ حَاكِمٍ جَاءَ بَعْدَهُ، وَلَا يَكْتُبُ بِهِ إِلَّا حَاكِمٌ بِبَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْفَذَهُ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ أَنْفَذَهُ لَهُ عِلْمٌ إِلَّا بِقَوْلِ الْحَاكِمِ الَّذِي قَضَى بِهِ، وَلَا عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنَّ أَحَدًا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ إِلَّا بِخَبَرِ ذَلِكَ الْقَاضِي. وَالْقَاضِي وَاحِدٌ فَقَدْ أَجَازَ وَأَخْبَرَهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ النَّاسِ. فَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْوَالِي الْعَدْلُ، وَفِيمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا، فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يُكَلِّفْهُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ تَقُومُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا حُكِيَ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعِينَ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي لُزُومِهِ رَسُولَ اللَّهِ حَاضِرًا وَمُسَافِرًا، وَصُحْبَتِهِ لَهُ وَمَكَانِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُزَايِلِ الْمُهَاجِرِينَ بِمَكَّةَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُزَايِلْهُ عَامَّةٌ مِنْهُمْ فِي سَفَرٍ لَهُ، وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عِنْدَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِشَارَةِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَبْدَءُونَهُ بِمَا عَلِمُوا فَيَقْبَلُهُ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ يَنْفُذُ عَلَى النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ، يَحْكُمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَنَّ فِيَ الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى عَشْرًا عَشْرًا، وَفِي الَّتِي تَلِي الْخِنْصَرِ تِسْعًا، وَفِي الْخِنْصَرِ سِتًّا، فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ حَكَى عَنْهُ فِي زَمَانِهِ، وَالنَّاسُ عَلَيْهِ حَتَّى وُجِدَ كِتَابٌ عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِيهِ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» فَصَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ مِمَّا وَصَفْتُ، وَسَوَّوْا بَيْنَ الْخِنْصَرِ الَّتِي قَضَى فِيهَا عُمَرُ بِسِتٍّ وَالْإِبْهَامِ الَّتِي قَضَى فِيهَا بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَوْ عَلِمَهُ عُمَرُ كَمَا عَلِمُوهُ لَقَبِلَهُ وَتَرَكَ مَا حَكَمَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا فَعَلَ فِي غَيْرِهِ مِمَّا عَلِمَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَا كَانَ هُوَ يَقُولُ، فَتَرَكَ قَوْلَهُ بِخَبَرٍ صَادِقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَحْسَبُهُ قَالَ بِمَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ وَقَبِلَ ذَلِكَ مَنْ قَبِلَهُ مِنَ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْيَدِ بِخَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَتِ الْيَدُ خَمْسَةَ أَطْرَافٍ فَاجْتَهَدَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ مَنَافِعِهَا وَجَمَالِهَا، فَفَضَّلَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرًا صِرْنَا إِلَى مَا قَالَ عُمَرُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَعَلِمْنَا أَنَّ الْخِنْصَرَ لَا تُشْبِهُ الْإِبْهَامَ فِي الْجَمَالِ وَلَا الْمَنْفَعَةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْتُ مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ غَيْرُهُ إِنْ وَافَقَهُ وَلَا يُوهِنُهُ إِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّ بِالنَّاسِ كُلِّهِمُ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ وَالْخَبَرَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَتْبُوعٌ لَا تَابَعٌ، وَأَنَّ حُكْمَ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِنْ كَانَ يُخَالِفُهُ فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا يُخَالِفُهُ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنْ يَصِيرُوا إِلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا يُخَالِفُهُ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَعْزُبُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ الصُّحْبَةِ الْوَاسِعِ الْعِلْمِ الشَّيْءُ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْضِي أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ، وَلَا يُوَرِّثُ الْمَرْأَةَ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ، وَقَالَ: وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ، فَأَخْبَرَهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِي مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا، أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا، فِي كُلِّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ صَادِقًا عِنْدَ مَنْ أَخْبَرَ، وَلَوْ جَازَ لِأَحَدٍ رَدُّ هَذَا بِحَالٍ جَازَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَقُولَ لِلضَّحَّاكِ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، وَلِحَمَلِ بْنِ مَالِكٍ أَنْتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، لَمْ تَرَيَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَمْ تَصْحَبَاهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكَيْفَ عَزَبَ هَذَا عَنْ جَمَاعَتِنَا وَعَلِمْتَهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ وَاحِدٌ يُمْكِنُ فِيكَ أَنْ تَغْلَطَ وَتَنْسَى، بَلْ رَأَى الْحَقَّ اتِّبَاعَهُ، وَالرُّجُوعَ عَنْ رَأْيِهِ فِي تَرْكِ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، وَقَضَى فِي الْجَنِينِ بِمَا أَعْلَمَ مَنْ حَضَرَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ شَيْئًا قَضَى فِيهِ بِغَيْرِهِ، كَأَنَّهُ يَرَى إِنْ كَانَ الْجَنِينُ حَيًّا فَفِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَكِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَبَّدَهُ وَالْخَلْقَ بِمَا شَاءَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَا لِأَحَدٍ إِدْخَالُ لِمَ وَلَا كَيْفَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا رَدَّهُ عَلَى مَنْ يَعْرِفُهُ بِالصِّدْقِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا. وَقَبِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ كَانَ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ ذَبَائِحَهُمْ وَنَنْكِحَ نِسَاءَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، وَقَبِلَ خَبَرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الطَّاعُونِ وَرَجَعَ بِالنَّاسِ عَنْ خَبَرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْرِفُ صِدْقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَنَا خِلَافُ خَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ طَلَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مُخْبِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا آخَرَ غَيْرَهُ مَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ قَبُولَ عُمَرَ لِخَبَرِ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مَعَ مُخْبِرٍ مُخْبِرًا غَيْرَهُ إِلَّا اسْتِظْهَارًا أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ عِنْدَهُ بِوَاحِدٍ مَرَّةً وَلَا تَقُومُ أُخْرَى. وَقَدْ يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ فَيَسْأَلُ الرَّجُلَ قَدْ شَهِدَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّاهِدَانِ الْعَدْلَانِ زِيَادَةَ شُهُودٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَبِلَ الشَّاهِدِينَ، وَإِنْ فَعَلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ جَهِلَ الْمُخْبِرَ وَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ مَنْ جَهِلَهُ، وَكَذَلِكَ نَحْنُ لَا نَقْبَلُ خَبَرَ مَنْ جَهِلْنَاهُ، وَكَذَلِكَ لَا نَقْبَلُ خَبَرَ مَنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِالصِّدْقِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ. وَأَخْبَرَتِ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهَا أَنْ تَمْكُثَ فِي بَيْتِهَا وَهِيَ مُتَوَفًّى عَنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخَابِرُ الْأَرْضَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، فَأَخْبَرَهُ رَافِعٌ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهَا، فَتَرَكَ ذَلِكَ بِخَبَرِ رَافِعٍ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: «لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» يَعْنِي طَوَافَ الْوَدَاعِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: تَصْدُرَ الْحَائِضُ دُونَ غَيْرِهَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ زَيْدٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلْحَائِضِ فِي أَنْ تَصْدُرَ وَلَا تَطُوفَ، فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُ الْأَمْرَ كَمَا قُلْتَ. وَأَخْبَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ بَاعَهُ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِهَذَا بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ، لَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 أُسَاكِنُهُ بِأَرْضٍ، فَخَرَجَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مِنْ وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَرَهُ يَسَعُهُ مُسَاكَنَتُهُ إِذْ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ خَبَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْحُجَّةُ تَقُومُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِخَبَرِهِ مَا كَانَ رَأَى أَنَّ مُسَاكَنَتَهُ عَلَيْهِ ضَيِّقَةٌ. وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ التَّابِعِينَ أُخْبِرَ عَنْهُ إِلَّا قَبِلَ خَبَرَ وَاحِدٍ، وَأَفْتَى بِهِ وَانْتَهَى إِلَيْهِ، فَابْنُ الْمُسَيِّبِ يَقْبَلُ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلُهُ سُنَّةً، وَعُرْوَةُ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي عَائِشَةَ ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئِ، عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُثْبِتُ كُلَّ ذَلِكَ سُنَّةً، وَصَنَعَ ذَلِكَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَجَمِيعُ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ بِمَكَّةَ فَقَبِلُوا الْخَبَرَ عَنْ جَابِرٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ عَنِ النَّبِيِّ وَثَبَتُوهُ سُنَّةً، وَصَنَعَ ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ، فَقَبِلَ خَبَرَ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ عَنِ النَّبِيِّ وَثَبَتَهُ سُنَّةً، وَكَذَلِكَ قَبْلَِ خَبَرِ غَيْرِهِ، وَصَنَعَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقَبِلَ خَبَرَ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ وَثَبَتَهُ سُنَّةً، وَكَذَلِكَ خَبَرَ غَيْرِهِ، وَصَنَعَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِيمَنْ لَقِيَا، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ فِيمَا لَوْ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ لَطَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ «نَهَى عَنِ الطِّيبِ قَبْلَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ الْجَمْرَةِ» ، قَالَ سَالِمٌ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: " طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِيَدِيَّ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ أَحَقُّ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 قَالَ الشَّافِعِيُّ: «فَتَرَكَ سَالِمٌ قَوْلَ جَدِّهِ عُمَرَ فِي إِمَامَتِهِ، وَقَبِلَ خَبَرَ عَائِشَةَ وَحْدَهَا، وَأَعْلَمَ مَنْ حَدَّثَهُ أَنَّ خَبَرَهَا وَحْدَهَا سُنَّةٌ، وَأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ أَحَقُّ، وَذَلِكَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ» . وَصَنَعَ ذَلِكَ الَّذِينَ بَعْدَ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلَ ابْنِ شِهَابٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالَّذِينَ لَقِينَاهُمْ كُلُّهُمْ يُثْبِتُ خَبَرَ وَاحِدٍ عَنْ وَاحِدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجْعَلُهُ سُنَّةً حَمِدَ مَنْ تَبِعَهَا، وَعَابَ مَنْ خَالَفَهَا. فَحَكِيتُ عَامَّةَ مَعَانِي مَا كَتَبْتُ فِي صَدْرِ كِتَابِي هَذَا الْعَدَدَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ فَمَا خَالَفَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَاحِدًا، وَقَالُوا: هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَمَذْهَبُنَا، فَمَنْ فَارَقَ هَذَا الْمَذْهَبَ كَانَ عِنْدَنَا مَفَارِقَ سَبِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ، وَقَالُوا مَعًا: لَا نَرَى إِلَّا إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْبُلْدَانِ عَلَى تَجْهِيلِ مَنْ خَالَفَ هَذَا السَّبِيلَ، وَجَاوَزُوا أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِيمَنْ يُخَالِفُ هَذَا السَّبِيلَ إِلَى مَا لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَحْكِيَهُ. وَقُلْتُ لِعَدَدٍ مِمَّنْ وَصَفْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ الَّذِينَ خَالَفُوا أَصْلَ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِكُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ خِلَافَنَا لِمَا زَعَمْتُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يَأْمُرُ بِأَنَّ لَنَا فِيهِ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ وَالْأَحَادِيثَ بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ، فَأَتَأَوَّلُ كُلًّا عَلَى مَا يَحْتَمِلُ اللِّسَانُ، وَلَا أَخْرُجُ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللِّسَانُ، وَإِذَا تَأَوَّلْتُهُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ فَلَسْتُ أُخَالِفُهُ، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ كَمَا وَصَفْتُ، وَالْأَحْكَامُ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِيلَ مِنْهَا ظَاهِرًا إِلَى بَاطِنٍ، وَلَا عَامًّا إِلَى خَاصٍّ إِلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ أَوْ بَاطِنٌ دُونَ ظَاهِرٍ، أَوْ إِجْمَاعٌ مِنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يَجْهَلُونَ كُلُّهُمْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً، وَهَكَذَا السُّنَّةُ، وَلَوْ جَازَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُحَالَ الشَّيْءُ مِنْهُ عَنْ ظَاهِرَهِ إِلَى مَعْنًى بَاطِنٍ يَحْتَمِلُهُ كَانَ أَكْثَرُ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ عَدَدًا مِنَ الْمَعَانِي وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ ذَهَبَ إِلَى مَعْنًى مِنْهَا حُجَةٌ عَلَى أَحَدٍ ذَهَبَ إِلَى مَعْنًى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَوْ قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا عَلَى خَاصٍّ دُونَ عَامٍّ، وَبَاطِنٍ دُونَ ظَاهِرٍ، إِذَا كَانَتْ إِذَا صُرِفَتْ إِلَيْهِ عَنْ ظَاهِرِهَا مُحْتَمِلَةً لِلدُّخُولِ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: وَسَمِعْتُ عَدَدًا مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا وَبَلَغَنِي عَنْ عَدَدٍ مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْبُلْدَانِ فِي الْفِقْهِ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُخَالِفُهُ، وَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْأَصْلِ: " إِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حَدِيثَهُمْ وَلَا يُثْبِتُونَهُ فِي التَّأْوِيلِ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ يَعْدُو حَدِيثُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ حَدَّثَ عَنْهُ لَا يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ، أَنْ يُثْبِتَ مِنْ جِهَةٍ صِدْقَهُ وَحِفْظَهُ كَمَا يَثْبُتُ عِنْدَكَ عَدْلُ الشَّاهِدِ بِعَدْلِهِ إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَلَى مَا شَهِدَ عَلَيْهِ إِلَّا عَدْلُ نَفْسِهِ، أَوْ لَا يُثْبِتُ؟ قَالَ: لَا يَعْدُو هَذَا، قُلْتُ: فَإِذَا ثَبَتَ حَدِيثُهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ نَطْرَحَهُ أُخْرَى بِحَالٍ أَبَدًا إِلَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ أَوْ غَلَطٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْدُو فِي طَرْحِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُخْطِئَ فِي الطَّرْحِ أَوِ التَّثْبِيتِ، قَالَ: لَا يَجُوزُ غَيْرُ هَذَا أَبَدًا، وَهَذَا الْعَدْلُ، قُلْتُ: وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّكَ تَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى صِدْقٍ وَحِفْظٍ، قَالَ: أَجَلْ، وَهَكَذَا تَصْنَعُ فِي الشُّهُودِ وَلَا تَقْبَلُ شَهَادَةً فِي شَيْءٍ وَتَرُدُّهَا فِي مِثْلِهِ، قَالَ: أَجَلْ، وَقُلْتُ لَهُ: لَوْ صِرْتَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، قَالَ لَكَ مَنْ خَالَفَكَ مَذْهَبُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إِذَا جَازَ لَكَ رَدُّ حَدِيثِ وَاحِدٍ، وَسَمَّى رَجُلًا وَرِجَالًا فَوْقَهُ بِلَا حُجَّةٍ فِي رَدِّهِ جَازَ لِي رَدُّ جَمِيعِ حَدِيثِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بِصِدْقِهِ أَوْ تُهْمَتِهِ بِلَا دَلَالَةٍ فِي وَاحِدٍ الْحُجَّةُ فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ مَا لَمْ يَخْتَلِفْ حَالُهُ فِي حَدِيثِهِ، وَاخْتِلَافُهَا أَنْ يُحَدِّثَ مَرَّةً مَا لَا مُخَالِفَ لَهُ فِيهِ، وَمَرَّةً مَا لَهُ فِيهِ مُخَالِفٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا اخْتَلَفَتْ حَالُهُ فِي حَدِيثِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ فِي حَدِيثِهِ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَيُقْضَى بِمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِذَا خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ حَالَ الْحُكْمُ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ عَنْهُ، إِذَا كَانُوا شَهِدُوا غَيْرَ مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ. فَقَالَ مَنْ قُلْتَ لَهُ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا هَكَذَا، وَقُلْتَ لِبَعْضِهِمْ: وَلَوْ جَازَ لَكَ غَيْرُ مَا وَصَفْتُ جَازَ لِغَيْرِكَ عَلَيْكَ أَنْ يَقُولَ: أَجْعَلُ نَفْسِي بِالْخِيَارِ فَأَرُدُّ مِنْ حَدِيثِهِ مَا قَبِلْتَ، وَأَقْبَلُ مِنْ حَدِيثِهِ مَا رَدَدْتَ بِلَا اخْتِلَافٍ لِحَالِهِ فِي حَدِيثِهِ، وَأَسْلُكُ فِي رَدِّهَا طَرِيقَكَ فَيَكُونُ لِي رَدُّهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّكَ قَدْ رَدَدْتَ مِنْهَا مَا شِئْتَ فَشِئْتُ أَنَا رَدَّهَا كُلَّهَا، وَطَلَبَ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ الْحَدِيثِ ثُمَّ اعْتَلَّ فِيهَا بِمَعْنَى عِلَّتِكَ، ثُمَّ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْكَ، قَالَ: مَا يَجُوزُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَا الْقَوْلُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُقْبَلَ حَدِيثُهُمْ كَمَا وَصَفْتُ أَوَّلًا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُخَالِفٌ أَوْ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فِيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ بِلَا دَلَالَةٍ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِمَا وَعُمُومِهِمَا، وَإِنِ احْتَمَلَا الْحُجَّةَ لَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذْهَبَكَ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَقَالَ: مَا سَمِعْنَا مِنْهُمْ أَحَدًا تَأَوَّلَ شَيْئًا إِلَّا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا جَائِزًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَلَى غَيْرِ مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ لِسَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَبِذَلِكَ صَارَ مَنْ صَارَ مِنْهُمْ إِلَى اسْتِحْلَالِ مَا كَرِهْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ اسْتِحْلَالَهُ، وَجَهِلَ مَا كَرِهْنَا لَهُمْ جَهْلَهُ، قَالَ: أَجَلْ، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ رُوِّينَا وَرُوِّيتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا، وَرَجُلًا أَنْ يَحُجَّ عَنْ أَبِيهِ» فَقُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ بِهِ، وَقُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ مَعًا لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: «لَا يَحُجُّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» ، أَفَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ خَالَفَنَا فِيهِ فَقَالَ: الْحَجُّ عَمَلٌ عَلَى الْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ إِلَّا عَنْ نَفْسِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَتَأَوَّلَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وَقَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ، وَالْمَحْجُوجُ عَنْهُ غَيْرُ عَامِلٍ، فَهَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ الَّذِي رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِمَّنْ يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ وَلَا التَّأَوُّلُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْمُبِينُ عَنِ اللَّهِ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُعْطِي خَلْقَهُ بِفَضْلِهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَأَنْ لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ لَوْ قَالَ بِخِلَافِهِ حُجَّةٌ، وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنَّ لَوَ عَلِمَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اتِّبَاعَهُ، قَالَ: هَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَرُوِّينَا وَرُوِّيتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَهِيَ لِلَّذِي يُعْطَاهَا» فَأَخَذْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ بِهِ، وَخَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا، أَفَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّ لَهُ أَحَدٌ فَقَالَ: قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَُ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» فَلَا يُؤْخَذُ مَالُ رَجُلٍ إِلَّا بِمَا شَرَطَ أَهْلُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ كَانَ قَالَهُ -: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» جُمْلَةٌ فَلَا يُرَدُّ بِالْجُمْلَةِ نَصُّ خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا تَرُدُّ الْجُمْلَةُ نَصَّ خَبَرٍ يَخْرُجُ مِنَ الْجُمْلَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ مِمَّا يُخَالِفُ جُمْلَتَهَا، وَأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أَنْ قَالَ النَّبِيُّ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَهَذَا مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ. وَقَدْ شَرَطَ أَهْلُ بَرِيرَةَ عَلَى عَائِشَةَ أَنْ تُعْتِقَ بَرِيرَةَ وَلَهُمْ وَلَاءُ بَرِيرَةَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، قَالَ: فَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ، وَكَفَى بِهَذِهِ حُجَّةً، وَقُلْتُ: فَإِنِ احْتَجَّ بِأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، قَالَ فِي الْعُمْرَى: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ» ، قَالَ: هَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ خَالَفَ مَا نُثْبِتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِحَالٍ، وَذَكَرْتُ لَهُ بَعْضَ مَا رُوِّينَا وَرُوَّوْا مِنَ الْحَدِيثِ وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فَاحْتَجَجْتُ عَلَيْهِ بِمَعَانٍ شَبِيهَةٍ بِمَا وَصَفْتُ، وَاحْتَجَّ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْتُ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا قُلْتَ فِيمَنْ قَالَ هَذَا مِنْ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: خَالَفَ السُّنَنَ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ أَقَلَّ عُذْرًا لِمَا خَالَفَ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ أَصْلُ دِينِهِمْ طَرْحُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَهْلُ الرَّدِّ لِلْحَدِيثِ فِي مَعْنًى إِلَّا فِيمَا خَالَفَ مِنْهُ فِي مِثْلِهِ، بَلْ هُمْ أَحْسَنُ حُجَّةً فِيمَا خَالَفُوهُ مِنْهُ، وَتَوْجِيهًا لَهُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: فَإِذَا كَانَتْ لَنَا وَلَكَ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ فَهِيَ عَلَيْكَ إِذَا سَلَكْتَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ طَرِيقَهُ، فَإِذَا حَمِدْتُكَ بِاتِّبَاعِ حَدِيثٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ذَمَمْتُكَ عَلَى رَدِّ آخَرَ مِثْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَحْمَدَكَ بِمُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ وَخِلَافِهِ؛ لِأَنَّكَ لَا تَخْلُو مِنَ الْخَطَأِ فِي أَحَدِهِمَا، قَالَ: أَجَلْ، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ مُعْدِمٍِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَقَالُوا: وَقُلْنَا بِهِ، وَخَالَفَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ النَّبِيَّ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَقَالُوا بِهِ: وَخَالَفْتُهُ وَذَكَرْتُ لَهُ أَحَادِيثَ خَالَفَهَا، أَخَذَ بِهَا أَصْحَابُنَا وَذَكَرْتُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهَا شَبِيهًا بِمَا ذَكَرْتُ لَهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِيمَا أَخَذْنَا نَحْنُ وَهُوَ بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ وَخَالَفُوهُ، وَإِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِمَّنْ أَخَذَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنَ الْحَدِيثِ بِمَا خَالَفَهُ، قَالَ: فَحَدِيثُ التَّفْلِيسِ وَحَدِيثُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ أَضْعَفُ مِنْ حَدِيثِ الْعُمْرَى، وَحَدِيثُ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ، قُلْتُ: أَمَّا هُمَا مِمَّا نُثْبِتُ نَحْنُ وَأَنْتَ مِثْلَهُ، قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَالْحُجَّةُ بِهِمَا لَازِمَةٌ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُمَا أَقْوَى مِنْهُمَا كَمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ لَازِمَةً لَنَا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، وَشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ حِينَ خَرَجَا مِنْ أَنْ يَكُونَا مَجْرُوحَيْنِ، وَكَمَا تَكُونُ الْحُجَّةُ لَنَا بِأَنْ نَقْضِيَ بِشَهَادَةِ مِائَةٍ عُدُولٍ غَايَةً، وَشَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَكِلَاهُمَا دُونَ جَمِيعِ الْغَايَةِ فِي الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّفْسُ عَلَى الْأَعْدَلِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ أَطْيَبَ، فَالْحُجَّةُ بِالْأَقَلِّ إِذَا كَانَ عَلَيْنَا قَبُولُهُ ثَابِتَةٌ. وَقُلْتُ: قَدْ شَهِدَ عَلَيْكَ أَصْحَابُنَا الْحِجَازِيُّونَ، وَعَلَى مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَكَ فِي رَدِّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَفِيمَا رَدَدْتَ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمُ السُّنَنَ وَابْتَدَعْتُمْ خِلَافَهَا، وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا فِيكُمْ مَا أُحِبُّ الْكَفَّ عَنْ ذِكْرِهِ لِإِفْرَاطِهِ، وَشَهِدْتُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ مِنْهُمْ فِيمَا أَخَذْتَ بِهِ مِنْ حَدِيثِ حَجِّ الرَّجُلِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْعُمْرَى بِالْبِدْعَةِ وَخِلَافِ السُّنَّةِ وَرَدَّاهُمْ ضَعْفُ الْعُقُولِ، فَاجْتَمَعَ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ عَلَى أَنْ عَابُوكَ بِمَا خَالَفْتَ مِنَ الْحَدِيثِ وَعِبْتَهُمْ بِمَا خَالَفُوا مِنْهُ، وَعَامَّةُ مَا خَالَفْتَ وَخَالَفُوا حَدِيثُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْهِمْ إِذَا عَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ صَاحِبَهُ بِمَا خَالَفَهُ مِنْ حَدِيثِ الِانْفِرَادِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَائِبُ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ حَدِيثِ الِانْفِرَادِ مُصِيبًا، فَيَكُونَ شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْخَطَأِ فِي تَرْكِهِ مَا يُثْبَتُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ الِانْفِرَادِ أَوْ مُخْطِئًا بِعَيْبِهِ تَرْكَ حَدِيثِ الِانْفِرَادِ، فَيَكُونُ مُخْطِئًا فِي أَخْذِهِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بِحَدِيثِ الِانْفِرَادِ وَعَيْبِ مَنْ خَالَفَهُ، وَقُلْتُ لَهُ: وَهَكَذَا قَالَ الْبَصْرِيُّونَ فِيمَا أَخَذُوا بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ دُونَكُمْ وَدُونَ غَيْرِكُمْ، وَالْكُوفِيُّونَ سِوَاكُمْ فِيمَا أَخَذُوا مِنَ الْحَدِيثِ دُونَكُمْ وَدُونَ غَيْرِكُمْ، فَنَسَبُوا مَنْ خَالَفَ حَدِيثًا أَخَذُوا بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْجَهْلِ إِذَا جَهِلَهُ، وَقَالُوا: كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، وَإِلَى الْبِدْعَةِ إِذَا عَرَفَهُ فَتَرَكَهُ. وَهَكَذَا كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ فِيهَا عِلْمٌ، فَوَجَدْتُ أَقَاوِيلَ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ كُلَّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى عَيْبِ مَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ الْمُنْفَرِدَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي تَثْبِيتِ الْحَدِيثِ الْمُنْفَرِدِ حَجَّةٌ إِلَّا مَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا كَانَ تَثْبِيتُهُ مِنْ أَقْوَى حُجَّةٍ فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ لِتَتَابُعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَانِ عَلَيْهَا. وَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ يُسْرِفُ وَيَحْتَجُّ فِي عَيْبِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْكُمْ بِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ خَالَفَهُ مِنْكُمْ بِحَدِيثٍ وَيَتْرُكَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ، فَقَالَ: هَذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 594 كَمَا وَصَفْتَ، وَالْحُجَّةُ بِهَذَا ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مَنْ صَحَّحَ الْأَخْذَ بِالْحَدِيثِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ عَلَى مَنْ أَخَذَ بِبَعْضٍ وَتَرَكَ بَعْضًا، وَلَكِنْ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: فَسَنَذْكُرُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ فِيهِ وَمَا سَلَكَ فِيهِ سَالِكٌ طَرِيقًا خَالَفَ الْحَقَّ عِنْدَنَا كَانَ أَشْبَهَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْكَ مِنْ أَصْحَابِكَ؛ لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ، وَلَكُمْ عِلْمٌ بِمَذَاهِبِ النَّاسِ وَبَيَانِ الْعُقُولِ، وَكَلِمَتُهُ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فِيمَا تَأَوَّلُوا وَرَأَيْتُهُمْ غَلَطُوا فِيهِ وَخَلَطُوا بِوُجُوهٍ شَتَّى، أَمْثَلُ مِمَّا حَضَرَنِي مِنْهَا مِثَالًا يَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَبَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِخَلْقِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ كِتَابَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ وَهُوَ لِسَانُ قَوْمِهِ الْعَرَبِ، فَخَاطَبَهُمْ بِلِسَانِهِمْ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعَانِي كَلَامِهِمْ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعَانِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَلْفِظُونَ بِالشَّيْءِ عَمَّا يُرِيدُونَ بِهِ الْعَامَّ، وَعَامًّا يُرِيدُونَ بِهِ الْخَاصَّ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَأَبَانَ لَهُمْ أَنَّ مَا قَبِلُوا عَنْ نَبِيِّهِ فَعَنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبِلُوا بِمَا فَرَضَ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَقَوْلُهُ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . قَالَ: وَقَدِ اخْتَصَرْتُ مِنْ تَمْثِيلِ مَا يَدُلُّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، وَكَتَبْتُ فِي كِتَابٍ غَيْرِ هَذَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ، وَكَتَبْتُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَكَتَبْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا نَزَلَ عَامَّ الظَّاهِرِ مَا دَلَّ الْكِتَابُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهِ الْخَاصَّ لِإِبَانَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ مَا رَأَيْنَاهُ مُخَالِفًا فِيهِ طَرِيقَ مَنْ رَضِينَا مَذْهَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. مِنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الْآيَةَ، وَقَالَ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] فَكَانَ ظَاهِرُ مَخْرَجِ هَذَا عَامًّا عَلَى كُلِّ مُشْرِكٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخَرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . فَدَلَّ أَمْرُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمَرَ فِيهِمَا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وُجِدُوا حَتَّى يُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَأَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الَّذِي دَلَّ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخَاصَّ لَا أَنَّ وَاحِدَةً مِنَ الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى؛ لِأَنَّ لِإِعَمْالِهِمَا مَعًا وَجْهًا بِأَنْ كَانَ كُلُّ أَهْلِ الشِّرْكِ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَصِنْفٌ غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِهَذَا فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ وَفِي السُّنَنِ مِثْلُ هَذَا. قَالَ: وَالنَّاسِخُ مِنَ الْقُرْآنِ الْأَمْرُ يُنْزِلُهُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ يُخَالِفُهُ كَمَا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ قَالَ {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وَقَالَ {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وَأَشْبَاهٌ كَثِيرٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، قَالَ: وَلَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا كِتَابُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَقَوْلِهِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] فَأَبَانَ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَأَبَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رَسُولِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَقَالَ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ} [الأنعام: 106] وَشَهِدَ لَهُ بِاتَّبَاعِهِ فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 53] فَأَعْلَمَ اللَّهُ خَلْقَهُ أَنَّهُ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطِهِ، قَالَ: فَتُقَامُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَقَامَ الْبَيَانِ عَنِ اللَّهِ عَدَدَ فَرْضِهِ كَبَيَانِ مَا أَرَادَ بِمَا أَنْزَلَ عَامًّا: الْعَامَّ أَرَادَ بِهِ أَوِ الْخَاصَّ، وَمَا أَنْزَلَ فَرْضًا وَأَدَبًا وَإِبَاحَةً وَإِرْشَادًا لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ رَسُولَهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ نَاسِخٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَالسُّنَّةُ تَبَعٌ لِلْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَصَرْتُ مِنْ إِبَانَةِ السُّنَّةِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ بَعْضَ مَا حَضَرَنِي مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 595 عَلَى عَدَدِ الصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عَلَى عَامَّةِ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا الْحُيَّضَ، فَأَبَانَ مِنْهَا الْمَعَانِيَ الَّتِي وَصَفْتُ، وَأَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ عَنِ الْحُيَّضِ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وَكَانَ ظَاهِرُ مَخْرَجِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ الْوُضُوءَ، فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى صَلَاتَيْنِ وَصَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قَامَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَذَهَبَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَنَّهَا عَلَى الْقَائِمِينَ مِنَ النَّوْمِ، وَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَشْيَاءَ تُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ اللَّهُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ عَلَى الْقَدَمَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَوَضِّئِينَ دُونَ بَعْضٍ. وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَقَالَ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56] فَكَانَ ظَاهِرُ مَخْرَجِ الْآيَةِ بِالزَّكَاةِ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، بِدَلَالَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مِنَ أَمْوَالِهِمْ مَا لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ، وَأَنَّ مِنْهَا مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ وَزْنًا أَوْ كَيْلًا أَوْ عَدَدًا، فَإِذَا بَلَغَهُ كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا يُؤْخَذُ بِعَدَدٍ وَشَيْئًا يُؤْخَذُ بِكَيْلٍ وَشَيْئًا يُؤْخَذُ بِوَزْنٍ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا زَكَاتُهُ خُمُسٌ، وَعُشْرٌ، وَرُبُعُ عُشْرٍ، وَشَيْءٌ بِعَدَدٍ. وَقَالَ اللَّهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَمَا يَدْخُلُ بِهِ فِيهِ، وَمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهُ، وَمَا يَعْمَلُ فِيهِ بَيْنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَقَالَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَكَانَ ظَاهِرُ مَخْرَجِ هَذَا عَامًّا، فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَرَادَ بِهَذَا بَعْضَ السَّارِقِينَ بِقَوْلِهِ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرَجَمَ الْحُرَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ الثَّيِّبَيْنِ وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى بَعْضِ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ، وَالْجَلْدَ عَلَى بَعْضِ الزُّنَاةِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَدْ يَكُونُ سَارِقًا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا يُقْطَعُ، وَسَارِقًا لَا تَبْلُغُ سَرِقَتُهُ رُبُعَ دِينَارٍ فَلَا يُقْطَعُ، وَيَكُونُ زَانِيًا ثَيِّبًا فَلَا يُجْلَدُ مِائَةً. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ أَنْ لَا يَشُكَّ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا قَامَتْ هَذَا الْمَقَامِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ فِي أَنَّ اللَّهَ أَحْكَمَ فَرْضَهُ بِكِتَابِهِ، وَبَيَّنَ كَيْفَ مَا فَرَضَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، وَأَبَانَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرَادَ بِهِ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ، كَانَتْ كَذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَخْتَلِفُ، وَأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: تُعْرَضُ السُّنَّةُ عَلَى الْقُرْآنِ فَإِنْ وَافَقَتْ ظَاهِرَهُ وَإِلَّا اسْتَعْمَلْنَا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَتَرَكْنَا الْحَدِيثَ جَهْلٌ لِمَا وَصَفْتُ، فَأَبَانَ اللَّهُ لَنَا أَنَّ سُنَنَ رَسُولِهِ فَرْضٌ عَلَيْنَا بِأَنْ نَنْتَهِيَ إِلَيْهَا لَا أَنَّ لَنَا مَعَهَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا إِلَّا التَّسْلِيمَ لَهَا وَاتِّبَاعَهَا، وَلَا أَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى قِيَاسٍ وَلَا عَلَى شَيْءٍ غَيْرِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهَا مِنْ قَوْلِ الْآدَمِيِّينَ تَبَعٌ لَهَا. قَالَ: فَذَكَرْتُ مَا قُلْتَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ فَكُلُّهُمْ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ جَمِيعِ مَنْ رَضِينَا مِمَّنْ لَقِينَا، وَحُكِيَ لَنَا عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقُلْتُ لِأَلْحَنَ مَنْ خَبَرْتُ مِنْهُمْ عِنْدِي بِحُجَّةٍ وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا فِيمَا عَلِمْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا زَعَمْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَمْرٍ فَهَلْ يَجُوزُ خِلَافُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَحُجَّتُنَا حُجَّتُكَ عَلَى مَنْ رَدَّ الْأَحَادِيثَ وَاسْتَعْمَلَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، فَقَطَعَ السَّارِقَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّرِقَةِ يَلْزَمُهُ، وَأَبْطَلَ الرَّجْمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَعَلَى مَنِ اسْتَعْمَلَ بَعْضَ الْحَدِيثَ مَعَ هَؤُلَاءِ، وَقَالَ: لَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَصَدَ الْقَدَمَيْنِ بِغَسْلٍ أَوْ مَسْحٍ، وَعَلَى آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ أَحَلُّوا كُلَّ ذِي رُوحٍ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ لِقَوْلِ اللَّهِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَقَالُوا: قَالَ بِمَا قُلْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، فَحَرَّمْنَا كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ بِخَبَرٍ مِنْ ثِقَةٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «نَعَمْ هَذِهِ حُجَّتُنَا وَكَفَى بِهَا حُجَّةً» . وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا فِي أَحَدٍ رَدَّ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ بِلَا حَدِيثٍ مِثْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَالِمِ بِرَسُولِ اللَّهِ الشَّيْءُ مِنْ سُنَّتِهِ يَعْلَمُهُ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْعِلْمِ، وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَخَذُوا بِبَعْضِ الْحَدِيثِ فَقَدْ سَلَكُوا فِي تَرْكِ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَتَرْكُ الْمَسْحِ عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 596 الْخُفَّيْنِ طَرِيقُ مَنْ رَدَّ الْحَدِيثَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَعْمَلُوا بَعْضَ الْحَدِيثِ وَتَرَكُوا بَعْضَهُ لَا مُخَالِفَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ فَقَدْ عَطَّلُوا مِنَ الْحَدِيثِ مَا اسْتَعْمَلُوا مِثْلَهُ. وَقُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ بِتَوْهِينِ الْحَدِيثِ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَعُمُومَهُ إِذَا احْتَمَلَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَقَوْلُهُمْ لِمَنْ قَالَ بِالْحَدِيثِ فِي الْمَسْحِ، وَتَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَغَيْرِهِ: إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُحْتَمِلًا لِأَنْ يَكُونَ عَامًّا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ خَالَفْتَ الْقُرْآنَ ظُلْمٌ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَلَا تُقْبَلُ حُجَّتُهُمْ بِأَنْ أَنْكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَأَلْزَمُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرَبُ مِنْهُ وَأَحْفَظُ عَنْهُ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَسْحَ مَنْسُوخٌ بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَإِنْ لَمْ يَزَلْ فِي النَّاسِ إِلَى الْيَوْمِ مَنْ يَقُولِ بِقَوْلِهِمْ، قَالَ: لَا أَقْبَلُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَلَيْسَ فِي أَحَدٍ رَدَّ خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِلَا خَبَرٍ عَنْهُ حُجَّةٌ قُلْتُ لَهُ: وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحُجَّةُ فِي الرَّدِّ لَوْ أَوْرَدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَسْحِهِ: لَا تَمْسَحُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَلَا يُقْبَلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِذَا قَالَ قَائِلُهُمْ: لَمْ يَمْسَحِ النَّبِيُّ بَعْدَ الْمَائِدَةِ فَإِنَّمَا قَالَهُ بِعِلْمٍ: أَنَّ الْمَسْحَ مَنْسُوخٌ، قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَمْسَحْ بَعْدَ الْمَائِدَةِ إِذَا لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ. قُلْتُ لَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنُ السُّنَّةَ إِلَّا أَحْدَثَ رَسُولُ اللَّهِ سُنَّةً تَنْسَخُهَا؟ قَالَ: أَمَّا هَذَا فَأُحِبُّ أَنْ تُبَيِّنَهُ لِي، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ سَنَّ فَتَلْزَمُنَا سُنَّتُهُ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ سُنَّتَهُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُحْدِثُ النَّبِيُّ مَعَ الْقُرْآنِ سُنَّةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ أَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مَا حَرَّمَ مِنَ الْبُيُوعِ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِ اللَّهِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلِهِ {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] أَوْ مَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِ اللَّهِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَلَا بَأْسَ بِكُلِّ بَيْعٍ عَنْ تَرَاضٍ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ قَبْلَ نُزُولِ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ كُلِّ ذِي رُوحٍ مَا خَلَا الْآدَمِيِّينَ، ثُمَّ جَازَ هَذَا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَجَازَ أَنْ تُؤْخَذَ الصَّدَقَةُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِقَوْلِ اللَّهِ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَهَذَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَذَكَرْتُ لَهُ فِي هَذَا شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ السُّنَّةَ الْقُرْآنُ إِلَّا وَمَعَ الْقُرْآنِ سُنَّةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، وَإِلَّا دَخَلَ هَذَا كُلُّهُ وَكَانَ فِيهِ تَعْطِيلُ الْأَحَادِيثِ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ الْمَائِدَةِ إِذَا لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهُ عَلَى عِلْمِهِ، وَقَدْ يَعْلَمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَسَحَ بَعْدَهَا وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ غَيْرِهِ: لَمْ يَمْسَحْ بَعْدَهَا، إِذْ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: لَا يُقْبَلُ أَبَدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ صَاحِبِهِ دُونَ قَوْلِ النَّبِيِّ، وَلَا نَجْعَلُ فِي قَوْلِهِ حُجَّةً وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ إِذَا لَمْ يُعِزْهُ إِلَى النَّبِيِّ بِخَبَرٍ يُخَالِفُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَوْ جَازَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ إِنَّمَا قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» ، وَرَجَمَ الثَّيِّبَيْنِ ثُمَّ نَزَلَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَنَزَلَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فَنَسَخَ رَجْمَهُ بِالْجَلْدِ، وَدِلَالَةُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إِلَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَا يَبْلُغُ رُبُعَ دِينَارٍ قَالَ: نَعَمْ، وَقُلْتُ لَهُ: وَلَا يَجُوزُ إِذَا ذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبُو سَعِيدٍ أَوِ ابْنُ عُمَرَ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ فَقَضَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِي الصُّحْبَةِ بِخِلَافِ مَا رَوَى أَحَدُ هَؤُلَاءِ عَنِ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِخَبَرٍ صَادِقٍ عَنْهُ، وَعِلْمِي بِأَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ قَالَ بِخَبَرٍ صَادِقٍ عَنْهُ لَعَلَّهُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَبَرُ صَاحِبِ النَّبِيِّ أَوْلَى بِأَنْ يُثْبَتَ مِنْ خَبَرِ تَابِعِيٍّ، أَوْ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي أَنْ يُثْبَتَا، فَإِذَا اسْتَوَيَا عُلِمَ بِأَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 597 قَالَ أَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَ. وَلَا يَسَعُ مُسْلِمًا أَنْ يَشُكَّ فِي أَنَّ الْفَرْضَ اتِّبَاعُ قَوْلِ النَّبِيِّ وَطَرْحِ كُلِّ مَا خَالَفَهُ، كَمَا صَنَعَ النَّاسُ بِقَوْلِ عُمَرَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَصَابِعِ عَلَى بَعْضٍ، وَكَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِقَوْلِ نَفْسِهِ إِذْ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْمَرْأَةَ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا حَتَّى وَجَدُوا خِلَافَهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: نَعَمْ هَذَا هَكَذَا وَلَا يَسَعُ مُسْلِمًا أَنْ يَشُكَّ فِي هَذَا، قُلْتُ: وَلَا يُقَالُ: لَا يَعْزُبُ عَنْ عُمَرَ الْعِلْمُ يَعْلَمُهُ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَا عَنِ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، قَالَ: لَا لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَاهُ عَزَبَ، قُلْتُ لَهُ: أُعْطِيتَ عِنْدَنَا بِجُمْلَةِ هَذَا الْقَوْلِ النَّصْفَةَ، وَلَزِمَتْكَ الْحُجَّةُ مَعَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُنْفَرِدًا بِمَا عَلِمْتَ الْقَوْلَ مِنْ هَذَا وَعَلِمْتَ بِمَوْضِعِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّ كَثِيرًا قَدْ غَلَظَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِالْجَهَالَةِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعِلْمِ فِيهِ، قَالَ: أَجَلْ قُلْتُ: فَقَدْ وَجَدْتُ لَكَ أَقْاوِيلَ تُوَافِقُ هَذَا فَحَمِدْتُهَا وَأَقَاوِيلَ تُخَالِفُ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ أَحْمَدَكَ عَلَى خِلَافِ مَا حَمِدْتُكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكَ إِلَّا أَنْ تَنْتَقِلَ عَمَّا أَقَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ مَا زَعَمْتَ الْحَقَّ فِيهِ، قَالَ: ذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيَّ، فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَقَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ حَدِيثًا لِرَسُولِ اللَّهِ تَرَكْتُهُ بِأَضْعَفَ مِنْ حُجَّةِ مَنِ احْتَجَجْتَ لَهُ فِي رَدِّ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: فَاذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. قُلْتُ لَهُ: قُلْنَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَرَدَدْتَهَا، وَمَا رَأَيْتُكَ جَمَعْتَ حُجَّتَكَ عَلَى شَيْءٍ كَجَمْعِكَهَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهَا، وَسَلَكْتَ سَبِيلَ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْمُنْفَرِدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِتَأَوُّلِ الْقُرْآنِ وَنَسَبْتَ مَنْ قَالَ بِهَا إِلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ فِيهَا مِنْ خِلَافِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَلَا فِي شَيْءٍ يُثْبَتُ عَنِ النَّبِيِّ، وَإِنَّمَا ثَبَتَّ الشَّهَادَةَ عَلَى غَيْرِكَ بِالْخَطَأِ فِيمَا وَصَفْتَ مِنْ رَدِّ الْمَسْحِ، وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ بِمِثْلِ مَا رَدَدْتَ بِهِ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ بَلْ حُجَّتُكَ فِيهَا أَضْعَفُ. فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَدِّ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ إِلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَحَلَّ أَكْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَقَطَعَ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ سَرَقَةٍ، وَعَطَّلَ الرَّجْمَ إِنْ كَانَ مَنْ حَدَّثَ بِهَا مِمَّنْ يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ حَدِيثَهُ أَوْ حَدِيثًا مِثْلَهُ بِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَاتِّصَالِهِ، وَقَالَ: هُوَ وَهْمٌ: وَلَكِنَّهَا رُوِيَتْ فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ حَدِيثٍ مُنْقَطِعٍ وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُهُ. فَقُلْتُ لَهُ: فَقَدْ كَانَتْ لَكَ كِفَايَةٌ تَصْدُقُ بِهَا وَتُصَنِّفُ وَتَكُونُ لَكَ الْحُجَّةُ فِي رَدِّهَا لَوْ قُلْتَ: إِنَّهَا رُوِيَتْ مِنْ حَدِيثٍ مُنْقَطِعٍ؛ لِأَنَّا وَإِيَّاكَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ لَا نُثْبِتُ حَدِيثًا مُنْقَطِعًا بِنَفْسِهِ بِحَالٍ، فَكَيْفَ خَبَّرْتَ بِأَنَّهَا خِلَافُ الْقُرْآنِ فَزَعَمْتَ أَنَّكَ تَرُدُّهَا إِنْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ؟ وَأَنْتَ لَا تَرُدُّ حُكْمَ حَاكِمٍ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ رَأَيْتَهُ أَنْتَ جَوْرًا، قَالَ: فَدَعْ هَذَا، فَقُلْتُ: نَعَمْ بَعْدَ عِلْمٍ بِأَنَّكَ أَغْفَلْتَ أَوْ عَمَدْتَ أَنَّكَ تُشَنِّعُ عَلَى غَيْرِكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَتْ لَكَ عَلَيْهِ فِيهِ حُجَّةٌ، وَهَذَا طَرِيقُ غَفْلَةٍ أَوْ ظُلْمٍ، قَالَ: فَهَلْ تُثْبِتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ؟ فَإِنَّمَا عَرَفْنَا فِيهَا حَدِيثًا مُنْقَطِعًا وَحَدِيثًا يُرْوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ مُتَّصِلًا فَيُنْكِرُهُ سُهَيْلٌ وَيَرْوِيهِ رَجُلٌ لَيْسَ بِالْحَافِظِ فَيُحْتَمَلُ لَهُ مِثْلُ هَذَا، قُلْتُ: مَا أَخَذْنَا بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا فِيهَا حَدِيثٌ مُتَّصِلٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَاذْكُرْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 598 قُلْتُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُهُ قَبْلَ ذِكْرِكَ الْآنَ، قُلْتُ: أَنُثْبِتُ نَحْنُ وَأَنْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَلَزِمَكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَرُدُّهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَقَدْ كَتَبْتُ هَذَا فِي الْأَحَادِيثِ الْجُمَلِ وَالْمُفَسَّرَةِ، وَكَلِمَتُهُ فِيهِ بِمَا عَلِمَ مَنْ حَضَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَقَدْ وَصَفْتُ فِي كِتَابِي هَذَا الْمَوَاضِعَ الَّتِي غَلَطَ فِيهَا بَعْضُ مَنْ عَجَّلَ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ قَبْلَ خِبْرَتِهِ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ. وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ مَا كَانَ مِنْهُ عَامُّ الْمَخْرَجِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ كَمَا وَصَفْتُ فِي الْقُرْآنِ يَخْرُجُ عَامًّا وَهُوَ يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ، وَيَخْرُجُ عَامًّا وَهُوَ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عُمُومِهِ وَظُهُورِهِ حَتَّى تَأْتِيَ دَلَالَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ خَاصًّا دُونَ عَامٍّ يَكُونُ الْحَدِيثُ الْعَامُّ الْمُخَرَّجُ مُحْتَمِلًا مَعْنَى الْخُصُوصِ بِقَوْلِ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ [ص: 599] فِيهِ، أَوْ مَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ سَمَاعًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرَادَ بِهِ خَاصًّا دُونَ عَامٍّ، وَلَا يُجْعَلُ الْحَدِيثُ الْعَامُّ الْمُخَرَّجُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ خَاصًّا بِغَيْرِ دَلَالَةٍ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهُ وَيَسْمَعْهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِمْ جُمْلَةً أَنْ لَا يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَلَا بِقَوْلِ خَاصَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِيهِمْ جَهْلُهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِيمَنْ عَلِمَهُ وَسَمِعَهُ وَلَا فِي الْعَامَّةِ جَهْلُ مَا سَمِعَ وَجَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ زِيَادَةً لَيْسَتْ فِيهِ دَلَالَةٌ بِهَا عَلَيْهِ. وَكُلَّمَا احْتَمَلَ حَدِيثَانِ أَنْ يُسْتَعْمَلَا مَعًا اسْتُعْمَلَا مَعًا وَلَمْ يُعَطِّلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْآخَرَ كَمَا وَصَفْتُ فِي أَمْرِ اللَّهِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، كَمَا وَصَفْتُ فِي الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلِ الْحَدِيثَانِ إِلَّا الِاخْتِلَافَ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْقِبْلَةُ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ كَانَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا، وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا، وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بِقَوْلٍ أَوْ بِوَقْتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْآخَرَ هُوَ النَّاسِخُ أَوْ بِقَوْلِ مَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ أَوِ الْعَامَّةِ كَمَا وَصَفْتُ، أَوْ بِوَجْهٍ آخَرَ لَا يُبَيِّنُ فِيهِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ. وَقَدْ كَتَبْتُهُ فِي كِتَابِي وَمَا يُنْسَبُ إِلَى الِاخْتِلَافِ مِنَ الْأَحَادِيثِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ فَيُصَارُ إِلَى النَّاسِخِ دُونَ الْمَنْسُوخِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي الْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُبَاحَانِ كَاخْتِلَافِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَكِلَاهُمَا مُبَاحٌ وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ وَمِنْهَا مَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ أَشْبَهَ بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ أَشْبَهَ بِمَعْنَى سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا سِوَى الْحَدِيثَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ أَشْبَهَ بِالْقِيَاسِ، فَأَيُّ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَ هَذَا فَهُوَ أَوْلَاهُمَا عِنْدَنَا أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا عَدَّهُ بَعْضُ مَنْ يَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ مُخْتَلِفًا بِأَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ اخْتَلَفَ، أَوْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْفِعْلُ فِيهِ إِلَّا بِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ، أَوِ اخْتَلَفَ الْفِعْلُ فِيهِ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ فَيُشْبِهُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ بِأَنَّهُ الْقَائِلُ بِهِ، وَمِنْهَا مَا جَاءَ جُمْلَةً وَآخَرُ مُفَسَّرًا، وَإِذَا جَعَلْتَ الْجُمْلَةَ عَلَى أَنَّهَا عَامَّةٌ عَلَيْهِ رَوَيْتَ بِخِلَافِ الْمُفَسَّرِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا إِنَّمَا هَذَا مِمَّا وَصَفْتُ مِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهَا تَنْطِقُ بِالشَّيْءِ مِنْهُ عَامًّا تُرِيدُ بِهِ الْخَاصَّ وَهَذَانِ يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي مِثْلِ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَجِمَاعُ هَذَا أَنْ لَا يُقْبَلَ إِلَّا حَدِيثٌ ثَابِتٌ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنَ الشُّهُودِ إِلَّا مَنْ عُرِفَ عَدْلُهُ، فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مَجْهُولًا أَوْ مَرْغُوبًا عَمَّنْ حَمَلَهُ كَانَ كَمَا لَمْ يَأْتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 598 بَابُ الِاخْتِلَافِ مِنْ جِهَةِ الْمُبَاحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَّأَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً مَرَّةً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: مُخْتَلِفٌ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ فِيهَا يَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهِ أَنَّهُ مُبَاحٌ لِاخْتِلَافِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: أَقَلُّ مَا يَجْزِي مِنَ الْوُضُوءِ مَرَّةٌ، وَأَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْوُضُوءِ ثَلَاثٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ بِلَالٍ، أَنَّ رَسُولَ [ص: 600] اللَّهِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُقَالُ لِمَسْحِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ خِلَافَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ عَلَى الْمُصَلِّي، إِنَّمَا يُقَالُ: الْغَسْلُ كَمَالٌ، وَالْمَسْحُ رُخْصَةٌ وَكَمَالٌ، وَأَيَّهُمَا شَاءَ فَعَلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصُّبْحِ يَقْرَأُ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي بِقَافٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ سُفْيَانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْعَائِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صّلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ، أَوْ ذِكْرُ عِيسَى، أَخَذَتِ النَّبِيَّ سَعْلَةٌ فَحَذَفَ فَرَكَعَ» ، قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ حَاضِرٌ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَيْسَ نَعُدُّ شَيْئًا مِنْ هَذَا اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ عُمْرَهُ، فَيَحْفَظُ الرَّجُلُ قِرَاءَتَهُ يَوْمًا، وَالرَّجُلُ قِرَاءَتَهُ يَوْمًا غَيْرَهُ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا تَيَسَّرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّازِمَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَا تَيَسَّرَ مَعَهُمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 بَابٌ فِي التَّشَهُّدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدٍ، وَطَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " قَالَ الرَّبِيعُ: هَذَا حَدَّثَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رَوَى أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَشَهُّدًا يُخَالِفُ هَذَا فِي بَعْضِ حُرُوفِهِ. وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدِيثًا يُخَالِفُهُمَا فِي بَعْضِ حُرُوفِهِمَا. وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ حَدِيثًا يُخَالِفُهَا كُلَّهَا فِي بَعْضِ حُرُوفِهَا، فَهِيَ مُشْتَبِهَةٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا ثَابِتَةً، وَأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ يُعَلِّمُ الْجَمَاعَةَ وَالْمُنْفَرِدِينَ التَّشَهُّدَ، فَيَحْفَظُ أَحَدُهُمْ عَلَى لَفْظٍ، وَيَحْفَظُ الْآخَرُ عَلَى لَفْظٍ يُخَالِفُهُ، لَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَعْنَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَذِكْرَهُ، وَالتَّشَهُّدَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ، فَيُقِرُّ النَّبِيُّ كُلًّا عَلَى مَا حَفِظَ، وَإِنْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ لَفَظَهَا بِغَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ فِي بَعْضِ لَفْظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مَعْنَاهُ فَأَقَرَّهُمْ. وَقَالَ: «هَكَذَا أُنْزِلَ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» ، فَمَا سِوَى الْقُرْآنِ مِنَ الذِّكْرِ أَوْلَى أَنْ يَتَّسِعَ هَذَا فِيهِ، إِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَعْنَى. قَالَ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمِدَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ قِرَاءَةِ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا بِنِسْيَانٍ، وَهَذَا فِي التَّشَهُّدِ وَفِي جَمِيعِ الذِّكْرِ أَخَفُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالتَّشَهُّدِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَمُّهَا، وَأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى بَعْضِهَا؛ الْمُبَارَكَاتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 بَابٌ فِي الْوِتْرِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ فِي حَدِيثٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ، وَحَدِيثٍ دُونَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا وَصَفْتُ مِنَ الْمُبَاحِ لَهُ أَنْ يُوتِرَ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَنَحْنُ نُبِيحُ فِي الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَهَذَا فِي الْوِتْرِ أَوْسَعُ مِنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْفُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 بَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ بِالنَّجْمِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ إِلَّا رَجُلَيْنِ، قَالَ: «أَرَادَا الشُّهْرَةَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِالنَّجْمِ، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُجُودَ الْقُرْآنِ لَيْسَ بِحَتْمٍ، وَلَكِنَّا نُحِبُّ أَنْ لَا يُتْرَكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَجَدَ فِي النَّجْمِ وَتَرَكَ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي النَّجْمِ سَجْدَةٌ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ تَرَكَهُ كَرِهْتُهُ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ؟ قِيلَ: السُّجُودُ صَلَاةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، فَكَانَ الْمَوْقُوتُ يَحْتَمِلُ مَوْقُوتًا بِالْعَدَدِ، وَمَوْقُوتًا بِالْوَقْتِ، فَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فَرَضَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» ، فَلَمَّا كَانَ سُجُودُ الْقُرْآنِ خَارِجًا مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، كَانَ سُنَّةَ اخْتِيَارٍ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ لَا يَدَعَهُ، وَمَنْ تَرَكَهُ تَرَكَ فَضْلًا لَا فَرْضًا، وَإِنَّمَا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ؛ لِأَنَّ فِيهَا سُجُودًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي سُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ دَلِيلٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَجَدُوا مَعَهُ إِلَّا رَجُلَيْنِ، وَالرَّجُلَانِ لَا يَدَعَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْفَرْضَ، وَلَوْ تَرَكَاهُ أَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ بِإِعَادَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَهُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَسْجُدْ، وَهُوَ الْقَارِئُ، فَلَمْ يَسْجُدِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضًا فَيَأْمُرُهُ النَّبِيُّ بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، فَسَجَدَ النَّبِيُّ، ثُمَّ قَرَأَ آخَرُ عِنْدَهُ السَّجْدَةَ فَلَمْ يَسْجُدْ، فَلَمْ يَسْجُدِ النَّبِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَرَأَ فُلَانٌ عِنْدَكَ السَّجْدَةَ فَسَجَدْتَ، وَقَرَأْتُ عِنْدَكَ السَّجْدَةَ فَلَمْ تَسْجُدْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُنْتَ إِمَامًا، فَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْتُ مَعَكَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَإِنَّمَا رَوَى الْحَدِيثَيْنِ مَعًا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ. قَالَ: وَأُحِبُّ أَنْ يَبْدَأَ الَّذِي يَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدَ وَيَسْجُدُوا مَعَهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَعَلَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَسَخَ الْآخَرَ، قِيلَ: فَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ السُّجُودَ فِي النَّجْمِ مَنْسُوخٌ، إِلَّا جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ مَنْسُوخٌ، وَالسُّجُودُ نَاسِخٌ، ثُمَّ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ السُّجُودُ، لِقَوْلِ اللَّهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ، وَلَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَلَكِنْ يُقَالُ: اخْتِلَافٌ مِنْ جِهَةِ الْمُبَاحِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 بَابُ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ فِي الْخَوْفِ وَغَيْرِ الْخَوْفِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ فِي الْخَوْفِ وَغَيْرِ الْخَوْفِ مَعًا رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ أَنْ تَقْصُرُوا، كَمَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّ حَتْمًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسُّوهُنَّ، وَكَمَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61] إِلَى: {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] رُخْصَةٌ، لَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ، وَلَا مِنْ بُيُوتِ آبَائِهِمْ، وَلَا جَمِيعًا، وَلَا أَشْتَاتًا، وَإِذَا كَانَ الْقَصْرُ فِي الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ كَانَ كَذَلِكَ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ، فَمَنْ قَصَرَ فِي الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ قَصَرَ بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَنْ قَصَرَ فِي سَفَرٍ بِلَا خَوْفٍ قَصَرَ بِنَصِّ السُّنَّةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَالصَّدَقَةُ رُخْصَةٌ، لَا حَتْمٌ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَقْصُرُوا، وَدَلَّتْ عَلَى أَنْ يَقْصُرَ فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ إِنْ شَاءَ الْمُسَافِرُ، وَأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَمَّ فِي السَّفَرِ وَقَصَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ آمِنًا لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، حَدَّثَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ، أَتَمَّ فِي السَّفَرِ وَقَصَرَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 بَابُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: مَنْ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فِي مَثْنًى، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْقَطْعِ لِلصَّلَاةِ، أَوْ يُدْرِكَ مُقِيمًا يَأْتَمُّ بِهِ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْهَا فَيُتِمُّ، قَالَ: يُقَالُ لَهُ: مَا قُلْتَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ، وَلَا صَحَّحْتَ عَلَيْهِ قَوْلَكَ أَنْ يَقْصُرَ، قَالَ: فَكَيْفَ؟ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ إِذَا صَلَّى أَرْبَعًا كَانَتِ اثْنَتَانِ مِنْهَا نَافِلَةً، كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مُقِيمٍ، لَقَدْ كَانَ يَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ خَلْفَ مُقِيمٍ أَبَدًا إِلَّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَلَطَ عِنْدَكَ نَافِلَةً بِفَرِيضَةٍ، وَالْآخَرُ أَنَّكَ تَقُولُ: إِذَا اخْتَلَفَتْ نِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَنِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مُخْتَلِفَةٌ هَاهُنَا فِي أَكْبَرِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ عَدَدُ الصَّلَاةِ، قَالَ: إِنِّي أَقُولُ: إِذَا دَخَلَ خَلْفَ الْمُقِيمِ حَالَ فَرْضِهِ، قُلْتُ: بِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا، أَوْ هُوَ مُسَافِرٌ، قَالَ: بَلْ هُوَ مُسَافِرٌ، قُلْتُ: فَمِنْ أَيْنَ يَحُولُ فَرْضُهُ؟ قَالَ: قُلْنَا: إِجْمَاعٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَّ، قُلْتُ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ لَمْ تَعْلَمْ فِي أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ إِنْ شَاءَ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً أَنْ يَدُلَّكَ هَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَقُلْتَ فِيهِ قَوْلًا مُحَالًا، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْمُصَلِّيَ الْمُقِيمَ إِذَا جَلَسَ فِي مَثْنًى مِنْ صَلَاتِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، أَيَقْطَعُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يَقْطَعُهَا إِلَّا السَّلَامُ، أَوِ الْكَلَامُ، أَوِ الْعَمَلُ الَّذِي يُفْسِدُ الصَّلَاةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 ، قُلْتُ: فَلِمَ زَعَمْتَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا جَلَسَ فِي مَثْنًى قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَهُوَ يَنْوِي حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ حَالٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، فَصَلَّى أَرْبَعًا تَمَّتْ صَلَاتُهُ؟ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلِيَّتَيْنِ الْفَرْضُ، وَالْآخِرَتَيْنِ نَافِلَةٌ، وَقَدْ وَصَلَهُمَا؟ قَالَ: كَانَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْهُمَا، قُلْتُ: وَقَوْلُكَ: كَانَ لَهُ، يُصَيِّرُهُ فِي حُكْمِ مَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا، أَوْ لَا يَكُونُ فِي حُكْمِهِ إِلَّا بِالسَّلَامِ، فَمَا عَلِمْتُهُ زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: فَأَنَا أُضَيِّقُ عَلَيْهِ، إِنْ قُلْتَ: تَفْسُدُ، قُلْتُ: فَقَدْ ضَيَّقْتَ، إِنْ سَهَا فَلَمْ يَجْلِسْ فِي مَثْنًى وَصَلَّى أَرْبَعًا، فَزَعَمْتَ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ يَخْلِطُ نَافِلَةً بِفَرِيضَةٍ، فَمَا عَلِمْتُكَ وَافَقْتَ قَوْلًا مَاضِيًا، وَلَا قِيَاسًا صَحِيحًا، وَمَا زِدْتَ عَلَى أَنِ اخْتَرَعْتَ قَوْلًا أَحْدَثْتَهُ مُحَالًا، قَالَ: فَدَعْ هَذَا، وَلَكِنْ لِمَ لَمْ تَقُلْ أَنْتَ أَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ؟ قُلْتُ: أَقُولُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، كَمَا قُلْتُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: لَهُ أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، قَالَ: فَكَيْفَ قَالَتْ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 603 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَوَّلَ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» . قَالَ الزُّهْرِيُّ قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ؟ قُلْتُ: أَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدِي عَلَى غَيْرِ مَا أَرَدْتَ بِالدِّلَالَةِ عَنْهُ، قَالَ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: إِنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ أُقِرَّتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ، قَالَ: وَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهَا؟ قُلْتُ: إِنَّهَا أَتَمَّتْ فِي السَّفَرِ، قَالَ: فَمَا قَوْلُ عُرْوَةَ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي أَتَأَوَّلَتْ أَنَّ لَهَا أَنْ تُتِمَّ وَتَقْصُرَ، فَاخْتَارَتِ الْإِتْمَامَ، وَكَذَلِكَ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ وَقَالَتْ بِمِثْلِهِ أَوْلَى بِهَا مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ عُرْوَةُ ذَهَبَ إِلَى غَيْرِ هَذَا، وَمَا أَعْرِفُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ حَكَاهُ عَنْهَا، قُلْتُ: فَمَا عَلِمْتُهُ حَكَاهُ عَنْهَا، وَإِنْ حَكَاهُ فَقَدْ يُقَالُ: تَأَوَّلَ عُثْمَانُ أَنْ لَا يَقْصُرَ إِلَّا خَائِفٌ، وَمَا نَقِفُ عَلَى مَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ خَبَرًا صَحِيحًا، قَالَ: فَلَعَلَّهَا تَأَوَّلَتْ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: لَمْ تَزَلْ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمًّا وَهِيَ تَقْصُرُ، ثُمَّ أَتَمَّتْ بَعْدُ، وَحَالُهَا فِي أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْقَصْرِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ قَصَرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَتَمَّتْ، قَالَ: أَمَّا أَنْ لَيْسَتْ لِي عَلَيْكَ مَسْأَلَةٌ بِأَنَّ أَصْلَ مَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَتَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنْ لَيْسَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ حُجَّةٌ، وَأَنَّكَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ لَا حَتْمٌ، وَكَذَلِكَ رِوَايَتُكَ فِي السُّنَّةِ. قُلْتُ: مَا خَفِيَ عَلَيَّ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ أَنِّي لَمْ أَرَكَ سَلَكْتَ طَرِيقًا فِي صَلَاةِ السَّفَرِ إِلَّا أَخْطَأْتَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَتَكُونُ أَوْهَنَ لِجَمِيعِ قَوْلِكَ، قَالَ: فَقَدْ عَابَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إِتْمَامَهُ بِمِنًى. قُلْتُ: وَقَامَ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي مَنْزِلِهِ فَأَتَمَّ، فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ الْإِتْمَامَ، وَأَتْمَمْتَ؟ قَالَ: الْخِلَافُ شَرٌّ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا وَصَفْتَ مِنَ احْتِجَاجِكَ بِمَا عَلَيْكَ، وَقَالَ: وَمَا فِي هَذَا مِمَّا عَلَيَّ؟ قُلْتُ: أَتَرَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُتِمُّ وَهُوَ يَرَى الْإِتْمَامَ لَيْسَ لَهُ؟ قَالَ: مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَتَمَّ إِلَّا وَالْإِتْمَامُ عِنْدَهُ لَهُ وَإِنِ اخْتَارَ الْقَصْرَ، وَلَكِنْ مَا مَعْنَى عَيْبِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْإِتْمَامَ؟ قُلْتُ لَهُ: مَنْ عَابَ الْإِتْمَامَ عَلَى أَنَّ الْمُتِمَّ رَغِبَ عَنِ الرُّخْصَةِ، فَهُوَ مَوْضِعٌ يَجُوزُ لَهُ بِهِ الْقَوْلُ، كَمَا نَقُولُ فِيمَنْ تَرَكَ الْمَسْحَ رَغْبَةً عَنِ الرُّخْصَةِ، وَلَا نَقُولُ ذَلِكَ فِيمَنْ تَرَكَهُ غَيْرَ رَغْبَةٍ عَنْهَا. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ عَابَ الْإِتْمَامَ، وَأَتَمَّهَا عُثْمَانُ وَصَلَّى مَعَهُ، قُلْتُ: فَهَذَا مِثْلُ مَا رَوَيْتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ أَنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَفْسُدُ، أَفَتَرَى أَنَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ مَعَ عُثْمَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَجْلِسُونَ فِي مَثْنًى؟ قَالَ: مَا يَجُوزُ هَذَا عَلَيْهِمْ، قُلْتُ: أَفَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا؟ وَإِنَّمَا فَرْضُهُ زَعَمْتَ رَكْعَتَانِ، أَوْ تُرَاهُمْ إِذَا ائْتَمُّوا بِهِ فِي الْإِتْمَامِ لَوْ سَهَا فَقَامَ يُخَالِفُونَهُ فَيَجْلِسُونَ فِي مَثْنًى وَيُسَلِّمُونَ؟ قَالَ: مَا يَجُوزُ لِي أَنْ أَقُولَ هَذَا، قُلْتُ: قَدْ قُلْتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَلْزَمُكَ فِيهِ هَذَا فَأَمْسَكْتَ عَنْهُ، وَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى قَوْلِهِ أَوَّلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَخِلَافُهُمَا أَضْيَقُ عَلَيْكَ مِنْ خِلَافِ مَنِ امْتَنَعْتَ مِنْ أَنْ تُعْطِيَ خِلَافَهُ، قَالَ: فَتَقُولُ: مَاذَا قُلْتَ مَا وَصَفْتَ مِنْ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ بِالْإِتْمَامِ بِأَصْلِ الْفَرْضِ، وَمُصِيبُونَ بِالْقَصْرِ بِقَبُولِ الرُّخْصَةِ كَمَا أَقُولُ فِي كُلِّ رُخْصَةٍ، وَأَنْ لَا مَوْضِعَ لِعَيْبِ الْإِتْمَامِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ رَجُلٌ يَرْغَبُ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 603 بَابُ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي فَرْضِ الصَّوْمِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، فَكَانَ بَيِّنًا فِي الْآيَةِ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ عِدَّةً، فَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا فِيهَا مَرْضَى وُمَسَافِرِينَ، وَيُحْصُوا حَتَّى يُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمُ الْيُسْرَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ مَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ، وَيَجْعَلَ عَلَيْهِمْ عَدَدًا إِذَا مَضَى الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْفِطْرِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى الرُّخْصَةِ إِنْ شَاءُوا؛ لِئَلَّا يُحْرَجُوا إِنْ فَعَلُوا، وَكَانَ فَرْضُ الصَّوْمِ وَالْأَمْرُ بِالْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إِنَّمَا نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً لَا مُتَفَرِّقَةً، وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَتَانِ فِي السُّورَةِ مُفْتَرِقَيْنِ، فَأَمَّا آيَةٌ فَلَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهَا كَلَامٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ يُسْتَأْنَفُ بَعْدَهُ غَيْرُهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَمَا وَصَفْتُ أَنَّ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا مَعًا لَا مُفْتَرِقَةً، فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ بِالْفِطْرِ إِرْخَاصًا لَهُمَا لِئَلَّا يُحْرَجَا إِنْ فَعَلَا؛ لِأَنَّهُمَا يُجْزِيهِمَا أَنْ يَصُومَا فِي تَيْنِكَ الْحَالَيْنِ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ لَوْ كَانَ غَيْرَ رُخْصَةٍ لِمَنْ أَرَادَ الْفِطْرَ فِيهِ، لَمْ يَصُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ. وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ زَمَانَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، إِذَا هُوَ بِجَمَاعَةٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ؟» قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِلصَّائِمِ فِي السَّفَرِ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ النَّاسَ فِي سَفَرِهِ عَامَ الْفَتْحِ بِالْفِطْرِ وَقَالَ: «تَقَوَّوْا لِلْعَدُوِّ» ، وَصَامَ النَّبِيُّ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ الَّذِي حَدَّثَنِي: لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ يَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِهِ الْمَاءَ مِنَ الْعَطَشِ، أَوْ مِنَ الْحَرِّ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ قَدْ صَامُوا حِينَ صُمْتَ، فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ بِالْكَدِيدِ دَعَا بِقَدَحٍ فَشَرِبَ، فَأَفْطَرَ النَّاسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 وَفِي حَدِيثِ الثِّقَةِ غَيْرِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا وَقَالَ: «تَقَوَّوْا بِعَدَدِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ» ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ أَبَوْا أَنْ يُفْطِرُوا حِينَ صُمْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَهُ. ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ [ص: 605] قَالَ: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: مَا تَقُولُ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْوَاجِبِ غَيْرِهِ، وَالتَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ؟ قُلْتُ: أُحِبُّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ إِنْ لَمْ يَكُنْ يُجْهِدُ الْمَرِيضَ، وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ، وَالْمُسَافِرُ فَيُخَافُ مِنْهُ الْمَرَضُ، فَلَهُمَا مَعًا الرُّخْصَةُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ وَإِتْمَامِهَا؟ فَقُلْتُ: قَصْرُهَا فِي السَّفَرِ وَالْخَوْفِ رُخْصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَصْرُهَا فِي السَّفَرِ بِلَا خَوْفٍ رُخْصَةٌ فِي السُّنَّةِ اخْتَارَهَا، وَلِلْمُسَافِرِ إِتْمَامُهَا، فَقَالَ: أَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فَبَيِّنٌ أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا جَعَلَهُ رُخْصَةً لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فَلَمَّا كَانَ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَقْصُرُوا خَائِفِينَ مُسَافِرِينَ، فَهُمْ إِذَا قَصَرُوا مُسَافِرِينَ بِمَا ذَكَرْتَ مِنَ السُّنَّةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ رُخْصَةً، لَا حَتْمًا أَنْ يَقْصُرُوا؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] رُخْصَةٌ بَيِّنَةٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ فِي الصَّوْمِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ عَزْمٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، كَيْفَ لَمْ تَذْهَبْ أَنَّ الْفِطْرَ عَزْمٌ، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِي شَهْرُ رَمَضَانَ مَنْ صَامَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا مَعَ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، وَمَعَ أَنَّ الْآخَرَ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ الصَّوْمَ، وَأَنَّ عُمَرَ أَمَرَ رَجُلًا صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يَقْضِيَ الصِّيَامَ. قَالَ: فَحَكَيْتُ لَهُ قُلْتُ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] : إِنَّهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَحَدٌ يُخَالِفُ فِي أَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا مُجْتَمِعًا، وَإِنْ نَزَلَتِ الْآيَتَانِ فِي السُّورَةِ مُفْتَرِقَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ مَعْنَى قَطْعِ الْكَلَامِ، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: فَإِذَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفَرْضُ شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّمَا أُنْزِلَ فِي الْآيَةِ، أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ بِفِطْرِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ رُخْصَةٌ؟ قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ لَهُ: وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَعْرِضُ فِي نَفْسِكَ إِلَّا الْأَحَادِيثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ أَلَيْسَ الْفِطْرَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: الْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُفْطِرْ لِمَعْنَى نَسْخِ الصَّوْمِ، وَلَا اخْتِيَارِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْفِطْرِ وَيَقُولُ: «تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ» ، وَيَصُومُ، ثُمَّ يُخْبَرُ بِأَنَّهُمْ، أَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ، أَبَى أَنْ يُفْطِرَ إِذْ صَامَ، فَأَفْطَرَ لِيُفْطِرَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْفِطْرِ لِصَوْمِهِ بِفِطْرِهِ كَمَا صَنَعَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَنْحَرُوا وَيَحْلِقُوا، فَأَبَوْا، فَانْطَلَقَ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، فَفَعَلُوا، قَالَ: فَمَا قَوْلُهُ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ؟ قُلْتُ: قَدْ أَتَى بِهِ جَابِرٌ مُفَسَّرًا، فَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ بِهِ قَالَ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، فَاحْتَمَلَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يَبْلُغَ هَذَا رَجُلٌ بِنَفْسِهِ فِي فَرِيضَةِ صَوْمٍ وَلَا نَافِلَةٍ، وَقَدْ أَرْخَصَ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ أَنْ يُفْطِرَ، فَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ يَبْلُغَ هَذَا بِنَفْسِهِ، وَيَحْتَمِلُ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الْمَفْرُوضِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ أَثِمَ، قَالَ: فَكَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ لَمْ يَقُلْ هَذَا، قُلْتُ: كَعْبٌ رَوَى حَرْفًا وَاحِدًا، وَجَابِرٌ سَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِي صَوْمِ النَّبِيِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ: «وَإِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» ، وَفِي قَوْلِ أَنَسٍ: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» . قَالَ: فَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا أَفْطَرُوا، وَقَصَرُوا الصَّلَاةَ» ، قُلْتُ: وَهَذَا مِثْلُ مَا وَصَفْتُ، خِيَارُكُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ الرُّخْصَةَ لَا يَدَعُونَهَا رَغْبَةً عَنْهَا، لَا أَنَّ قَبُولَ الرُّخْصَةِ حَتْمٌ يَأْثَمُ بِهِ مَنْ تَرَكَهُ، قَالَ: فَمَا أَمْرُ عُمَرَ رَجُلًا صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يُعِيدَ؟ قُلْتُ: لَا أَعْرِفُهُ عَنْهُ، وَإِنْ عَرَفْتُهُ فَالْحُجَّةُ ثَابِتَةٌ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ، وَأَصْلُ مَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَالْحُجَّةُ لَازِمَةٌ لِلْخَلْقِ بِهِ، وَعَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعُهُ، وَقُلْتُ لَهُ: مَنْ أَمَرَ الْمُسَافِرَ أَنْ يَقْضِيَ الصَّوْمَ، فَمَذْهَبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ رَأَى الْآيَةَ حَتْمًا بِفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَمَنْ رَآهَا حَتْمًا قَالَ: الْمُسَافِرُ مَنْهِيٌّ عَنِ [ص: 606] الصَّوْمِ، فَإِذَا صَامَهُ كَانَ صِيَامُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَيُعِيدُهُ، كَمَا لَوْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَغَيْرُهَا أَعَادَهُمَا، فَقَدْ أَبَنَّا دِلَالَةَ السُّنَّةِ أَنَّ الْآيَةَ رُخْصَةٌ لَا حَتْمٌ، قَالَ: فَمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: رَوَى أَنَّهُ صَامَ وَأَفْطَرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ مَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، بِرَأْيِهِ، وَجَاءَ غَيْرُهُ وَفِي الْحَدِيثِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ مِنْ أَنَّ فِطْرَهُ كَانَ لِامْتِنَاعِ مَنْ أَمَرَهُ بِالْفِطْرِ مِنَ الْفِطْرِ حَتَّى أَفْطَرَ، وَجَاءَ غَيْرُهُ بِمَا وَصَفْتُ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَهَذَا مِمَّا وَصَفْتُ أَنَّ الرَّجُلَ يَسْمَعُ الشَّيْءَ فَيَتَنَاوَلُهُ، وَلَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَنْ عَلِمَ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَقُولَ بِهِمَا مَعًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 605 بَابُ قَتْلِ الْأُسَارَى، وَالْمُفَادَاةِ بِهِمْ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: أَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ أَسَرَتْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَدَاهُ النَّبِيُّ بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، لَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْإِسْنَادِ: أَنَّ خَيْلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَتْ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ، فَأُتِيَ بِهِ مُشْرِكًا، فَرَبَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثًا، مَنَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَأَسْلَمَ بَعْدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَسَرَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيَّ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَتَلَهُ بِالْبَادِيَةِ، أَوْ بَيْنَ الْبَادِيَةِ وَالْأَثِيلِ صَبْرًا. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَسَرَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ صَبْرًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَسَرَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَبَا وَدَاعَةَ السَّهْمِيَّ، وَغَيْرَهُمَا، فَفَادَاهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفَادَى بَعْضَهُمْ بِأَقَلَّ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَسَرَ أَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَنَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسَرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ صَبْرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ فِيمَا وَصَفْتُ مِنْ فَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ إِذَا أَسَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِلَا شَيْءٍ، أَوْ أَنْ يُفَادِيَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، أَوْ أَنْ يُفَادِيَ بِأَنْ يُطْلِقَ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يُطْلَقَ لَهُ بَعْضُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ هَذَا نَاسِخٌ لِبَعْضٍ، وَلَا مُخَالِفٌ لَهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ إِبَاحَتِهِ، وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ: مُخْتَلِفٌ مُطْلَقًا، إِلَّا مَا قَالَ حَاكِمٌ: حَلَالٌ، وَحَاكِمٌ: حَرَامٌ، فَأَمَّا مَا كَانَ وَاسِعًا فَيُقَالُ: هُوَ مُبَاحٌ، وَكُلُّ مَنْ صَنَعَ فِيهِ شَيْئًا وَإِنْ خَالَفَ فِعْلَ صَاحِبِهِ فَهُوَ فَاعِلٌ مَا يَجُوزُ لَهُ، كَمَا يَكُونُ الْقَائِمُ مُخَالِفًا لِلْقَاعِدِ، وَالْمَاشِي مُخَالِفًا لِلْقَائِمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ، لَا أَنَّ حَتْمًا عَلَى الْمَاشِي أَنْ يَقُومَ، وَلَا عَلَى الْقَائِمِ أَنْ يَقْعُدَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 بَابُ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذَا جَامَعَ أَحَدُنَا فَأَكْسَلَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِيَغْسِلْ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ، وَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيُصَلِّ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا مِنْ أَثْبَتِ إِسْنَادِ الْمَاءِ مِنَ الْمَاءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَتَى عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فِي أَمْرٍ، إِنِّي لَأُعْظِمُ أَنْ أَسْتَقْبِلَكِ بِهِ، فَقَالَتْ: مَا هُوَ؟ مَا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ فَسَلْنِي عَنْهُ، فَقَالَ لَهَا: الرَّجُلُ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يَكْسَلُ وَلَا يُنْزِلُ، فَقَالَتْ: «إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى [ص: 607] : لَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا أَحَدًا بَعْدَكِ أَبَدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يُنْزِلْ غُسْلٌ. ثُمَّ نَزَعَ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأْتُ بِحَدِيثِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَنُزُوعِهِ، أَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ عَنِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَسْمَعْ خِلَافَهُ، فَقَالَ بِهِ، ثُمَّ لَا أَحْسَبُهُ تَرَكَهُ إِلَّا لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْدَهُ مَا نَسَخَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تُرِكَ ذَلِكَ بَعْدُ، وَأُمِرَ بِالْغُسْلِ إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا مُوسَى سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قَعَدَ بَيْنَ الشُّعَبِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ أَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ، فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا» . وَحَدِيثُ: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ثَابِتُ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَنْسُوخٌ بِمَا حَكَيْتُ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ مِنَ الْمَاءِ، وَيَجِبُ إِذَا غَيَّبَ الرَّجُلُ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُوَارِيَ حَشَفَتَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 بَابُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِخُرُوجِ الْمَاءِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا بَلَغَ مِنِ امْرَأَتِهِ مَا شَاءَ الْغُسْلُ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهُ الْمَاءُ الدَّافِقُ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُوَافِقُهُ، وَقَالَ: أَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا» ، فَقَدْ يَكُونُ تَطَوُّعًا مِنْهُمَا بِالْغُسْلِ، وَلَمْ تَقُلْ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: عَلَيْهِ الْغُسْلُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: الْأَغْلَبُ أَنَّ عَائِشَةَ لَا تَقُولُ: «إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، أَوْ جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» ، وَتَقُولُ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا» ، إِلَّا خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ، قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ اغْتَسَلَتْ وَرَأَتْهُ وَاجِبًا، وَلَمْ تَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيجَابَهُ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَيْسَ هَذَا خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: الْأَغْلَبُ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهُ، قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَلَيْسَ مِمَّا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ: الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، بَعْدَ قَوْلِهِ بِهِ عُمْرًا مِنْ عُمْرِهِ، وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ رَجَعَ إِلَّا بِخَبَرٍ يَثْبُتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ هَذَا لَأَقْوَى فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ، وَقُلْتُ لَهُ: مَا أَعْلَمُ عِنْدَنَا مِنْ جِهَةِ الْحَدِيثِ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنْ هَذَا، قَالَ: فَمِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْحَدِيثِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، فَكَانَ الَّذِي يَعْرِفُهُ مَنْ خُوطِبَ بِالْجَنَابَةِ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهَا الْجِمَاعُ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعَامَّةُ أَنَّ الزِّنَا الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ الْجِمَاعُ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَأَنَّ مَنْ غَابَتْ حَشَفَتُهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَكَانَ الَّذِي يُشْبِهُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَجْنَبَ مِنْ حَرَامٍ، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ أُبَيٍّ: «إِذَا جَامَعَ أَحَدُنَا فَأَكْسَلَ أَنْ يُنْزِلَ» ، أَنْ يَقُولَ: إِذَا صَارَ إِلَى الْجِمَاعِ وَلَمْ يُغَيِّبْ حَشَفَتَهُ فَأَكْسَلَ، فَلَا يَكُونُ حَدِيثُ الْغُسْلِ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ مُخَالِفًا لَهُ، قَالَ: أَفَتَقُولُ بِهَذَا؟ فَقُلْتُ: إِنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ أَنْ يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ وَلَمْ يُنْزِلْ، وَكَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْأَغْلَبُ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاغْتَسَلْنَا» ، عَلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 إِيجَابِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْغُسْلَ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، قَالَ: فَمَاذَا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ؟ قُلْتُ: إِذَا صَارَ الْخِتَانُ حَذْوَ الْخِتَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَاسَّا، قَالَ: فَيُقَالُ لِهَذَا الْتِقَاءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَرَأَيْتَ إِذَا قِيلَ: الْتَقَى الْفَارِسَانِ، أَلَيْسَ إِنَّمَا يَعْنِي إِذَا تَوَافَقَا فَصَارَ أَحَدُهُمَا، وَجَاءَ الْآخَرُ، أَوِ اخْتَلَفَتْ دَوَابُّهُمَا، فَصَارَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ وِجَاهَ صَاحِبِهِ؟ وَيُقَالُ: إِذَا جَاوَزَ بَدَنُ أَحَدِهِمَا بَدَنَ صَاحِبِهِ قَدْ خَلَفَ الْفَارِسُ الْفَارِسَ، قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَيُقَالُ إِذَا تَمَاسَّا الْتَقَيَا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْتِقَاءٍ، وَبَعْضُ اللِّقَاءِ أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَيَقُولُونَهُ، قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ جَائِزٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ الْخِتَانُ الَّذِي خَلْفَ الْحَشَفَةِ حَذْوَ خِتَانِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُ هَذَا مَنْ جَهِلَ لِسَانَ الْعَرَبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 بَابُ التَّيَمُّمِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، انْحَلَّ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ، فَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى الْتِمَاسِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي وَغَيْرِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَانْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَالَ: «فَتَيَمَّمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمَنَاكِبِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ بِنَصِّ خَبَرٍ كَيْفَ تَيَمَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَنَاكِبِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَيَمَّمَ عَمَّارٌ إِلَى الْمَنَاكِبِ إِلَّا بِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ التَّنْزِيلِ كَانَ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ عَمَّارًا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ تَيَمُّمٍ كَانَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ مُخَالِفُهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ قَالَ: «مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُولُ، فَمَسَحَ بِجِدَارٍ، ثُمَّ يَمَّمَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ الصِّمَّةِ وَبَنُو الصِّمَّةِ مَعْرُوفُونَ، بَدْرِيُّونَ وَأُحُدِيُّونَ، وَأَهْلُ غَنَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ وَمَكَانٍ مِنْهُ، وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو الْحُوَيْرِثِ ثِقَةٌ، وَلَوْ كَانَ حَدِيثُ ابْنُ الصِّمَّةِ مُخَالِفًا حَدِيثَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ غَيْرَ بَيِّنٍ أَنَّهُ نَسَخَهُ، كَانَ حَدِيثُ ابْنُ الصِّمَّةِ أَوْلَاهُمَا أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ فِي الْوُضُوءِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ، فَعَفَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَأَمَرَ بِأَنْ نُيَمِّمَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ، وَكَانَ اسْمُ الْيَدَيْنِ يَقَعُ عَلَى الْكَفَّيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَعَلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنًى أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنَ الْوُضُوءِ، وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ فِي الْمُبْدَلِ عَنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُيَمِّمَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. قَالَ: فَلَا يَجُوزُ عَلَى عَمَّارٍ إِذَا كَانَ ذَكَرَ تَيَمُّمَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى الْمَنَاكِبِ إِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِ النَّبِيِّ إِلَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ، إِذْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، أَوْ يَكُونُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا تَيَمُّمًا وَاحِدًا، فَاخْتَلَفَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ ابْنُ الصِّمَّةِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ أَثْبَتُ، فَإِذَا لَمْ تَخْتَلِفْ فَأَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْفَقُ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ، أَوْ يَكُونُ إِنَّمَا سَمِعَ آيَةَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَتَيَمَّمُوا وَاحْتَاطُوا، فَأَتَوْا عَلَى غَايَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُمُ، كَمَا لَا يَضُرُّهُمُ لَوْ فَعَلُوهُ فِي الْوُضُوءِ، فَلَمَّا صَارُوا إِلَى مَسْأَلَةِ النَّبِيِّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يُجْزِيهِمْ مِنَ التَّيَمُّمِ أَقَلُّ مِمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 فَعَلُوا، وَهَذَا أَوْلَى الْمَعَانِي عِنْدِي بِرِوَايَةِ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ بِمَا وَصَفْتُ مِنَ الدَّلَائِلِ، قَالَ: وَإِنَّمَا مَنَعَنَا أَنْ نَأْخُذَ بِرِوَايَةِ عَمَّارٍ فِي أَنْ نُيَمِّمَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ ثُبُوتُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ مَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَأَنَّ هَذَا التَّيَمُّمَ أَشْبَهُ بِالْقُرْآنِ، وَأَشْبَهُ بِالْقِيَاسِ، بِأَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَكُونُ مِثْلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ جَالِسًا وَمَنْ خَلْفَهُ قِيَامًا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْقِيَامِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ جَالِسًا، صَلَّى النَّاسُ وَرَاءَهُ إِذَا قَدَرُوا عَلَى الْقِيَامِ قِيَامًا، كَمَا يُصَلِّي هُوَ قَائِمًا، وَيُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْقِيَامِ جُلُوسًا، فَيُصَلِّي كُلٌّ فَرْضَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا قُلْتُ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مَنْسُوخٌ بِسُنَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَنَسًا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى جَالِسًا مِنْ سَقْطَةٍ مِنْ فَرَسٍ فِي مَرَضِهِ، وَعَائِشَةُ تَرْوِي ذَلِكَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يُوَافِقُ رِوَايَتَهُمَا، وَأَمَرَ مَنْ خَلْفَهُ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ بِالْجُلُوسِ إِذَا صَلَّى جَالِسًا، ثُمَّ تَرْوِي عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى فِي فَرْضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا " قَالَ: وَهِيَ آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا نَاسِخًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ وَجِعًا، فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَوَجَدَ النَّبِيُّ خِفَّةً، فَجَاءَ فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ وَهُوَ قَائِمٌ. وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَعْنَاهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي حَدِيثِ أَصْحَابِنَا مِثْلُ مَا فِي هَذَا، وَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفِ الْأَحَادِيثَ الْأُولَى إِلَّا بِمَا يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْ نَصِيرَ إِلَى النَّاسِخِ الْأَوْلَى، كَانَتْ حَقًّا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ نَسَخَهُ، فَكَانَ الْحَقُّ فِيمَا نَسَخَهَا، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْسُوخٍ يَكُونُ الْحَقَّ مَا لَمْ يُنْسَخْ، فَإِذَا نُسِخَ كَانَ الْحَقُّ فِي نَاسِخِهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الصِّنْفِ شَيْءٌ يَغَلَطُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْحَدِيثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ أَخْبَرَنَا، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا يُشَيِّعُونَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلُّوا خَلْفَهُ جُلُوسًا أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، لَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَيَقُولُ بِمَا عَلِمَ، ثُمَّ لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ بِمَا عَلِمَ. وَرَوَى حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قَوْلًا أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَنْسَخُ الْعَمَلَ الَّذِي قَالَ بِهِ غَيْرُهُ وَعَلِمَهُ، كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى جَالِسًا وَأَمَرَ بِالْجُلُوسِ، وَصَلَّى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ وَأَمَرَهُمَا بِالْجُلُوسِ، وَجُلُوسُ مَنْ خَلْفَهُمَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا يَنْسَخُهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْخَاصَّةِ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضٍ، وَيَعْزُبُ عَنْ بَعْضٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كِعَلْمِ الْعَامَّةِ الَّذِي لَا يَسَعُ جَهْلُهُ، وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَيَأْمُرُ بِصِيَامِهِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ، يَقُولُ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 ثُمَّ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ: «إِنِّي صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ عَامَ حَجَّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْمِ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «كَانَ يَوْمًا يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَلْيَدَعْهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَامَ يَوْمًا يَتَحَرَّى صِيَامَهُ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ مُخْتَلِفٌ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا شَيْئًا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مِمَّا وَصَفْتُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمُحَدِّثُ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَحَدِيثُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَيَأْمُرُ بِصِيَامِهِ» ، لَوِ انْفَرَدَ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 وَذَكَرَ مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَامَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ الْفَرِيضَةَ، وَتَرَكَ عَاشُورَاءَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْتَمِلُ قَوْلُ عَائِشَةَ: تَرَكَ عَاشُورَاءَ، مَعْنًى يَصِحُّ إِلَّا تَرَكَ إِيجَابَ صَوْمِهِ، إِذْ عَلِمْنَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمَفْرُوضُ صَوْمُهُ، وَأَبَانَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَتَرَكَ إِيجَابَ صَوْمِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْأُمُورِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَلَعَلَّ عَائِشَةَ إِنْ كَانَتْ ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ، قَالَتْهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رَأَتِ النَّبِيَّ لَمَّا صَامَهُ وَأَمَرَ بِصَوْمِهِ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا، ثُمَّ نَسَخَهُ تَرْكُ أَمْرِهِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدَعَ صَوْمَهُ، وَلَا أَحْسَبُهَا ذَهَبَتْ إِلَى هَذَا، وَلَا ذَهَبَتْ إِلَّا إِلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ مُوَافِقٌ الْقُرْآنَ، أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّوْمَ فَأَبَانَ أَنَّهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَدَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَمُعَاوِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى الْقُرْآنِ، بِأَنْ لَا فَرْضَ فِي الصَّوْمِ إِلَّا رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَامَ يَوْمًا يَتَحَرَّى فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ يَتَحَرَّى فَضْلَهُ فِي التَّطَوُّعِ بِصَوْمِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 بَابُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، وَقَالَ فِي الطَّهَارَةِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ كُلِّهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ [ص: 611] ، حَدَّثَنَا الثِّقَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الثِّقَةِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَوْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَدَوِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ يُطْرَحُ فِيهَا الْكِلَابُ وَالْحِيَضُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ مِنْهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 وَبِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا جَعَلَ مَكَانَ وَلَغَ: شَرِبَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ، أَوْ إِحْدَاهُنَّ، بِالتُّرَابِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا نَأْخُذُ، وَلَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ يُخَالِفُ عِنْدَنَا وَاحِدًا، أَمَّا حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَإِنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَاسِعَةٌ، كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مِنَ الْأَنْجَاسِ مَا لَا يُغَيِّرُ لَهَا لَوْنًا وَلَا طَعْمًا، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا رِيحٌ، فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ يُطْرَحُ فِيهَا كَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُجِيبًا: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَكَانَ جَوَابُهُ مُحْتَمِلًا كُلَّ مَاءٍ وَإِنْ قَلَّ، وَبَيَّنَا أَنَّهُ فِي الْمَاءِ مِثْلُهَا إِذَا كَانَ مُجِيبًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ أَنْ يَغْسِلَ الْإِنَاءَ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَيْهَا، وَكَانَ الْعِلْمُ أَنَّهُ عَلَى مِثْلِهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَا يَدُلُّ حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحْدَهُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهَا مِنَ الْمَاءِ لَا يَنْجُسُ، وَكَانَتْ آنِيَةُ النَّاسِ صِغَارًا، إِنَّمَا هِيَ صُحُونٌ، وَصِحَافٌ، وَمَخَاضِبُ الْحِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، مِمَّا يُحْلَبُ فِيهِ وَيُشْرَبُ وَيُتَوَضَّأُ، وَكَبِيرُ آنِيَتِهِمْ مَا يُحْلَبُ وَيُشْرَبُ فِيهِ، فَكَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَ مَاءِ الْإِنَاءِ يَنْجُسُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ، وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ لَهُ طَعْمًا، وَلَا رِيحًا، وَلَا لَوْنًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَا يُجَاوِزُهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قَدْرَ مَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، لَا يَنْجُسُ، فَكَانَ الْبَيَانُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَنْجُسُ وَبَيْنَ مَا لَا يَنْجُسُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ، وَانْقَطَعَ بِهِ الشَّكُّ فِي حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ الْكَثِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، وَفِي الْحَدِيثِ بِقِلِالِ هَجَرَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ قَلَائِلَ هَجَرَ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِرَبُ الْحِجَازِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا الْكِبَارُ لِعِزِّ الْمَاءِ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا، وَذَلِكَ قُلَّتَانِ بِقِلَالِ هَجَرَ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، دِلَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ إِذَا تَنَجَّسَا لَمْ يَنْجُسْ أَكْثَرُ مِنْهُمَا، وَهَذَا يُوَافِقُ جُمْلَةَ حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَالدِّلَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ حَمَلَ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ كَذَا لَمْ يَحْمِلِ النَّجَاسَةَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا حَمَلَ النَّجَاسَةَ، وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مُوَافِقٌ جُمْلَةَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنْ يُغْسَلَ الْإِنَاءُ مِنْ شُرْبِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَآنِيَةُ الْقَوْمِ أَوْ أَكْثَرُ آنِيَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ صِغَارٌ، لَا تَسَعُ بَعْضَ قِرْبَةٍ، فَأَمَّا حَدِيثُ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ» ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُ حَدِيثَ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَلَا: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، وَلَا: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ الْمَاءَ الدَّائِمَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّجَاسَةَ فَهُوَ مِثْلُ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ كُلَّ مَاءٍ دَائِمٍ دَلَّتِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَحَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي كُلِّ مَاءٍ دَائِمٍ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْبَوْلِ [ص: 612] يُنَجِّسُهُ، كَمَا يَنْهَى الرَّجُلَ أَنْ يَتَغَوَّطَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا النَّاسُ؛ لِمَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَمْنُوعَةٌ، وَلَا أَنَّ التَّغَوُّطَ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنْ مَنْ رَأَى رَجُلًا يَبُولُ فِي مَاءٍ نَاقِعٍ قَذَرَ الشُّرْبَ مِنْهُ، وَالْوُضُوءَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ جَعَلْتَ حَدِيثَ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ يُضَادُّ حَدِيثَ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحَدِيثَ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَجَعَلْتَهُ عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ كُلَّ مَاءٍ دَائِمٍ. قِيلَ: فَعَلَيْكَ حُجَّةٌ أُخْرَى مَعَ الْحُجَّةِ بِمَا وَصَفْتُ، فَإِنْ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قِيلَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا بَالَ فِي الْبَحْرِ، أَيُنَجِّسُ بَوْلُهُ مَاءَ الْبَحْرِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: مَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ دَائِمٌ، وَقِيلَ لَهُ: أَفَتُنَجَّسُ الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: فَهِيَ مَاءٌ دَائِمٌ، وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، دَخَلَ عَلَيْهِ مَاءُ الْبَحْرِ، فَإِنْ قَالَ: وَمَاءُ الْبَحْرِ يَنْجُسُ، فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَ الْعَامَّةِ مَعَ خِلَافِهِ السُّنَّةَ، وَإِنْ قَالَ: لَا، هَذَا كَثِيرٌ، قِيلَ لَهُ: فَقُلْ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ مَا شِئْتَ لَمْ يَنْجُسْ، فَإِنْ حَدَّدْتَهُ بِأَقَلَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّجَاسَةِ، قِيلَ لَكَ: فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِقَدَحِ مَاءٍ، فَإِنْ قُلْتَ: يَنْجُسُ، قِيلَ: فَيُعْقَلُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ مَا أَنْ تُخَالِطَهُمَا نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تُغَيِّرُ مِنْهُمَا شَيْئًا، يَنْجُسُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَنْجُسُ الْآخَرُ، إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ، تَعَبَّدَ الْعِبَادُ بِاتِّبِاعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ النَّبِيِّ، وَالْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنْ يَنْجُسَ مَا دُونَ خَمْسِ قِرَبٍ، وَلَا يَنْجُسَ خَمْسُ قِرَبٍ فَمَا فَوْقَهَا، فَأَمَّا شَيْءٌ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَنْ يَنْجُسَ مَاءٌ وَلَا يَنْجُسُ آخَرُ، وَهُمَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، إِلَّا أَنْ يُجْمِعَ النَّاسُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ، فَنَتَّبِعَ إِجْمَاعَهُمْ، وَإِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمُحَرَّمٍ يُخَالِطُهُ لَمْ يَطْهُرِ الْمَاءُ أَبَدًا حَتَّى يُنْزَحَ، أَوْ يُصَبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ طَعْمُ الْمُحَرَّمِ وَلَوْنُهُ وَرِيحُهُ، فَإِذَا ذَهَبَ فَعَادَ بِحَالِهِ الَّتِي جَعَلَهُ اللَّهُ بِهَا طَهُورًا، ذَهَبَتْ نَجَاسَتُهُ، وَمَا قُلْتَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَوْنُهُ كَانَ نَجِسًا، يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ لَا يُثْبِتُ مِثْلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَمَعْقُولٌ أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا كَانَ جُزْأٌ فِي الْمَاءِ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا مَاسَ الْجَسَدَ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُ، فَإِذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ بِوُجُودِهِ فِي الْجَسَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْمَاءِ، فَيَكُونُ الْمَاءُ طَهُورًا وَالْحَرَامُ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَهُوَ الرَّاكِدُ. فَأَمَّا الْجَارِي فَإِذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ فَجَرَى فَالْآتِي بَعْدَمَا لَمْ تُخَالِطْهُ النَّجَاسَةُ فَهُوَ لَا يَنْجُسُ، وَإِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَوْنُهُ، أَوْ جَمِيعُ ذَلِكَ، بِلَا نَجَاسَةٍ خَالَطَتْهُ لَمْ يَنْجُسْ، إِنَّمَا يَنْجُسُ بِالْمُحَرَّمِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَنْجُسُ بِهِ، وَمَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا فِي كُلِّ مَا لَمْ يُصَبَّ عَلَى النَّجَاسَةِ يُرِيدُ إِزَالَتَهَا، فَإِذَا صُبَّ عَلَى نَجَاسَةٍ يُرِيدُ إِزَالَتَهَا فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَا وَصَفْتُ اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا، وَإِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ النَّجَاسَةُ، فَصُبَّ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثَلَاثًا، وَدُلِّكَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَ، وَإِنْ كَانَ مَا صُبَّ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ قَلِيلًا فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمُمَاسَّةِ النَّجَاسَةِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِزَالَتُهَا عَنِ الثَّوْبِ؛ لِأَنْ لَوْ نَجُسَ بِمُمَاسَّتِهَا بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَطْهُرْ، وَكَانَ إِذَا غُسِلَ الْغَسْلَةَ الْأُولَى نَجُسَ الْمَاءُ، ثُمَّ كَانَ فِي الْمَاءِ الثَّانِي يَمَاسُّ مَاءً نَجِسًا فَيَنْجُسُ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَمَاسُّ مَاءً نَجِسًا فَيَنْجُسُ، وَلَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِمَا وَصَفْتُ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مَا قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ حَتَّى يُطَهِّرَ مِنْهَا مَا مَاسَّهُ، وَلَا نَجِدُهُ يَنْجُسُ إِلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ فِيهَا، وَالدِّلَالَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَاءِ الْمَغْسُولِ بِهِ النَّجَاسَةُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، وَهُوَ يُغْسَلُ سَبْعًا بِأَقَلَّ مِنْ قَدَحِ مَاءٍ، وَفِي أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِدَمِ الْحَيْضَةِ يُقْرَصُ بِمَاءٍ قَلِيلٍ يُنْضَحُ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ قَوْلَكَ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ قُلْتَ: لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِحَالٍ لِلْقِيَاسِ عَلَى مَا وَصَفْتَ أَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ، كَانَ قَوْلًا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ رَدَّهُ، وَلَكِنْ زَعَمْتَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُطَهَّرُ بِهِ يَنْجُسُ بَعْضُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي زَعَمْتُهُ بِالْعَرْضِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ، فَأَدْخَلَ حَدِيثَ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ» ، فَأَدْخَلْتُ عَلَيْهِ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِجْمَاعِ النَّاسِ فِيمَا عَلِمْتُهُ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَمِنْ مَاءِ الْمَصَانِعِ الْكِبَارِ وَالْبَحْرِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ حُجَّةٌ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: مَا عَلِمْتُكُمُ اتَّبَعْتُمْ فِي الْمَاءِ سُنَّةً، وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا قِيَاسًا، وَلَقَدْ [ص: 613] قُلْتُمْ فِيهِ أَقَاوِيلَ لَعَلَّهُ لَوْ قِيلَ لِعَاقِلٍ: تَخَاطَأْ، فَقَالَ مَا قُلْتُمْ، لَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ التَّخَاطُؤَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ فِيهِ الْحُجَجَ بِمَا ذَكَرْتُ مِنَ السُّنَّةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَفِي أَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ حُجَّةٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَقُلْتُ: أَلَيْسَتْ تَثْبُتُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي وَصَفْتُ؟ فَقَالَ: أَمَّا حَدِيثُ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَحَدِيثُ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْمَاءِ، وَحَدِيثُ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، فَتَثْبُتُ بِإِسْنَادِهَا، وَحَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَيُثْبُتُ بِشُهْرَتِهِ وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ خَالَفْتَهَا كُلَّهَا، وَقُلْتَ قَوْلًا اخْتَرَعْتَهُ مُخَالِفًا لِلْأَخْبَارِ، خَارِجًا مِنَ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: اذْكُرِ الْقَدْرَ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَمْ يَنْجُسْ، وَإِذَا نَقَصَ مِنْهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ يَنْجُسُ، قَالَ: الَّذِي إِذَا حُرِّكَ أَدْنَاهُ لَمْ يَضْطَرِبْ أَقْصَاهُ، فَقُلْتُ: أَقُلْتَ هَذَا خَبَرًا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقِيَاسًا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَعْقُولٌ أَنَّهُ يَخْتَلِطُ بِتَحْرِيكِ الْآدَمَيِّينَ وَلَا يَخْتَلِطُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ حَرَّكْتَهُ بِالرِّيحِ فَاخْتَلَطَ؟ قَالَ: إِنْ قُلْتُ: إِنَّهُ يَنْجُسُ إِذَا اخْتَلَطَ، مَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: أَقُولُ: أَرَأَيْتَ رِجْلًا مِنَ الْبَحْرِ تَضْطَرِبُ أَمْوَاجُهَا فَتَأْتِي مِنْ أَقْصَاهَا إِلَى أَنْ تُفِيضَ عَلَى السَّاحِلِ هَاجَتِ الرِّيحُ أَتَخْلِطُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَفَتَنْجُسُ ذَلِكَ الرِّجْلُ مِنَ الْبَحْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ: تَنْجُسُ، تَفَاحَشَ عَلَيَّ، قُلْتُ: فَمَنْ كَلَّفَكَ قَوْلًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ، وَيَتَفَاحَشُ عَلَيْكَ، فَلَا تَقُومُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، قُلْتُ: فَيُقَالُ لَكَ: أَيَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ مَاءَانْ خَالَطَتْهُمَا نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا، لَا يَنْجُسُ أَحَدُهُمَا وَيَنْجُسُ الْآخَرُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِقَدَحٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ لَا يَنْجُسَ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا بِأَنْ يَتَغَيَّرَ بِحَرَامٍ خَالَطَهُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ، أَوْ يَنْجُسُ كُلُّهُ بِكُلِّ مَا خَالَطَهُ، قَالَ: مَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِيَاسِ إِلَّا هَذَا، وَلَكِنْ لَا قِيَاسَ مَعَ خِلَافِ خَبَرٍ لَازِمٍ، قُلْتُ: فَقَدْ خَالَفْتَ الْخَبَرَ اللَّازِمَ وَلَمْ تَقُلْ مَعْقُولًا، وَلَمْ تَقِسْ، وَزَعَمَتَ أَنَّ فَأْرَةً لَوْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، ثُمَّ طَهُرَتِ الْبِئْرُ، فَإِنْ طُرِحَتْ تِلْكَ الْعِشْرُونَ أَوِ الثَّلَاثُونَ دَلْوًا فِي بِئْرٍ أُخْرَى لَمْ يُنْزَحْ مِنْهَا إِلَّا عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ أَوْ سِتُّونَ دَلْوًا، فَمَنْ وَقَّتَ لَكَ هَذَا فِي الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِطَعْمٍ حَرَامٍ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رِيحُهُ، أَنْ يَنْجُسَ بَعْضُ الْمَاءِ دُونَ بَعْضٍ، أَيَنْجُسُ بَعْضُهُ أَمْ يَنْجُسُ كُلُّهُ؟ قَالَ: بَلْ يَنْجُسُ كُلُّهُ، فَقُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ شَيْئًا قَطُّ يَنْجُسُ كُلُّهُ، فَيُخْرَجُ بَعْضُهُ فَتَذْهَبُ النَّجَاسَةُ مِنَ الْبَاقِي مِنْهُ، أَتَقُولُ هَذَا فِي سَمْنٍ ذَائِبٍ أَوْ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِقِيَاسٍ، وَلَكِنَّا اتَّبَعْنَا فِيهِ الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: أَفَتُخَالِفُ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقَدْ فَعَلْتَ وَخَالَفْتَ مَعَ ذَلِكَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ، زَعَمْتَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي بِئْرٍ نُزِحَ مِنْهَا سَبْعَةُ أَوْ خَمْسَةُ دِلَاءٍ، وَزَعَمْتَ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ إِلَّا بِعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، وَزَعَمْتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَقُولُ: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ أَوْ سِتُّونَ دَلْوًا، قَالَ: فَلَعَلَّ الْبِئْرَ تَغَيَّرَتْ بِدَمٍ، قُلْتُ: فَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا تَغَيَّرَتْ بِدَمٍ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا حَتَّى لَا يُوجَدَ فِيهَا طَعْمُ دَمٍ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رِيحُهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي زَمْزَمَ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهَا وَأَوْسَعُ، حَتَّى يُنْزَحَ، فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَدْ خَالَفْتَهُمَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا، وَزَعَمْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ جُنُبًا فَدَخَلَ فِي بِئْرٍ يَنْوِي الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ نَجُسَ الْبِئْرُ وَلَمْ يَطْهُرْ، ثُمَّ هَكَذَا إِنْ دَخَلَ ثَانِيَةً، ثُمَّ يَطْهُرُ الثَّالِثَةَ، فَإِذَا كَانَ يَنْجُسُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْجُسُ ثَانِيَةً، وَكَانَ نَجِسًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوَّلًا وَلَمْ يَطْهُرْ بِهَا، وَلَا ثَانِيَةً، أَلَيْسَ قَدِ ازْدَادَ فِي قَوْلِكَ نَجَاسَةً؟ فَإِنَّهُ كَانَ نَجِسًا بِالْجَنَابَةِ، ثُمَّ زَادَ نَجَاسَةً بِمُمَاسَّةِ الْمَاءِ النَّجِسِ، فَكَيْفَ يَطْهُرُ بِالثَّالِثَةِ وَلَمْ يَطْهُرْ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَهَا، وَلَا بِالْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ؟ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، قُلْتُ: وَذَلِكَ يَلْزَمُكَ؟ قَالَ: يَتَفَاحَشُ، وَيَتَفَاحَشُ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ، قُلْتُ: فَمَنْ كَلَّفَكَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ؟ وَقُلْتُ لَهُ: وَزَعَمْتَ أَنَّكَ إِنْ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي بِئْرٍ تَنْوِي بِهَا أَنْ تُوَضِّئَهَا نَجُسَتِ الْبِئْرُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ تُوُضِّئَ بِهِ، وَلَا تَطْهُرُ حَتَّى تُنْزَحَ كُلُّهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ فِيهَا مَيْتَةٌ طَهُرَتْ بِعِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثِينَ دَلْوًا، فَزَعَمْتَ أَنَّ الْبِئْرَ بِدُخُولِ الْيَدِ الَّتِي لَا نَجَاسَةَ فِيهَا تَنْجُسُ كُلُّهَا فَلَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَأَنَّهَا تَطْهُرُ مِنَ الْمَيْتَةِ بِعِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثِينَ، هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا قَطُّ زَعَمَ أَنَّ يَدَ مُسْلِمٍ تُنَجِّسُ أَكْثَرَ مِمَّا تُنَجِّسُهُ الْمَيْتَةُ؟ وَزَعَمْتَ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ وَلَا يَنْوِي وُضُوءًا طَهُرَتْ [ص: 614] يَدُهُ لِلْوُضُوءِ، وَلَمْ تَنْجُسِ الْبِئْرُ، أَوْ رَأَيْتَ أَنْ لَوْ أَلْقَى فِيهَا جِيفَةً لَا يَنْوِي تَنْجِيسَهَا أَوْ يَنْوِيهِ، أَوْ لَا يَنْوِي شَيْئًا، أَذَلِكَ سَوَاءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّجَاسَةُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَنِيَّتُهُ لَا تَصْنَعُ فِي الْمَاءِ شَيْئًا، قُلْتُ: وَمَا خَالَطَهُ إِمَّا طَاهِرٌ وَإِمَّا نَجِسٌ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَلِمَ زَعَمْتَ أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الْوُضُوءِ تُنَجِّسُ الْمَاءَ؟ إِنِّي لَأَحْسَبُكُمْ لَوْ قَالَ هَذَا غَيْرُكُمْ لَبَلَغْتُمْ بِهِ إِلَى أَنْ تَقُولُوا: الْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: قَوْلُ الْحِجَازِيِّينَ فِي الْمَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِنَا، وَقَوْلُنَا فِيهِ خَطَأٌ، قُلْتُ: وَأَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا فِيهِ؟ قَالَ: قَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ إِلَى قَوْلِكُمْ نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ قَوْلِكُمْ، قُلْتُ: وَمَا زَادَ رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِنَا قُوَّةً، وَلَا وَهَّنَهُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، وَمَا فِيهِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّكَ تَرْوِي عَنْهُ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَنْ يُقِيمَ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ يَرَاهُ خَطَأً، قُلْتُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ رَجُلًا إِنْ وَضَّأَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ لِصَلَاةٍ، وَلَا نَجَاسَةَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَدَيْهِ، فِي طَسْتٍ نَظِيفٍ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَاءُ الَّذِي فِي ذَلِكَ الطِّسْتِ ثَوْبَهُ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَإِنْ صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُنَجِّسْهَا، وَيُصَلِّي عَلَيْهَا رَطْبَةً كَمَا هِيَ، ثُمَّ إِنْ صُبَّ فِي بِئْرٍ نَجَّسَ الْبِئْرَ كُلَّهَا، وَلَمْ تَطْهُرْ أَبَدًا إِلَّا بِأَنْ يُنْزَحَ مَاؤُهَا كُلُّهُ، وَلَوْ أَنَّ قَدْرَ الْمَاءِ الَّذِي وَضَّأَ بِهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ كَانَ فِي إِنَاءٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ مَيْتَةٌ نَجَّسَتْهُ، وَإِنْ مَسَّ ثَوْبًا نَجَّسَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ، وَإِنْ صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا رَطْبَةً، وَإِنْ صُبَّ فِي بِئْرٍ طَهُرَتِ الْبِئْرُ بِأَنْ يُنْزَحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، أَزَعَمْتَ أَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ أَكْثَرُ نَجَاسَةً مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ؟ قَالَ: فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَكُمْ فِي الْمَاءِ قُلْتُ: أَفَتَرْجِعُ إِلَى الْحَسَنِ، فَمَا عَلِمْتُهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَرَأَّسَ مِنْهُمْ، بَلْ عَلِمْتُ مَنِ ازْدَادَ مِنْ قَوْلِنَا فِي الْمَاءِ بُعْدًا فَقَالَ: إِذَا وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ لَمْ تَطْهُرْ أَبَدًا إِلَّا بِأَنْ يُحْفَرَ تَحْتَهَا بِئْرٌ، فَيُفَرَّغَ مَاؤُهَا فِيهَا، وَيُنْقَلَ طِينُهَا، وَيُنْزَعَ بِنَاؤُهَا، وَتُغْسَلَ مَرَّاتٍ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ قَالَ قَوْلَهُمْ هَذَا، وَفِي هَذَا مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَقَدْ خَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فَذَهَبَ إِلَى بَعْضِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَاءِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: لَا يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنَ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَيَكْفِي فِيهِ دُونَ سَبْعٍ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَافَقَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، وَأَنْ يُهَرَاقَ الْمَاءُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: إِنْ وَلَغَ الْكَلْبُ بِالْبَادِيَةِ فِي اللَّبَنِ شُرِبَ اللَّبَنُ وَأُكِلَ، وَغُسِلَ الْإِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْكِلَابَ لَمْ تَزَلْ بِالْبَادِيَةِ، فَشَغَلَنَا الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ عَمَّا وَصَفْتُ قَوْلَ غَيْرِهِ، أَرَأَيْتَ إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلْبَ يَلَغُ فِي اللَّبَنِ فَيَنْجُسُ الْإِنَاءُ بِمُمَاسَّةِ اللَّبَنِ الَّذِي مَاسَّهُ لِسَانُ الْكَلْبِ حَتَّى يُغْسَلَ، فَكَيْفَ لَا يَنْجُسُ اللَّبَنُ؟ وَإِذَا نَجُسَ اللَّبَنُ، فَكَيْفَ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا يَنْجُسُ اللَّبَنُ، فَكَيْفَ يَنْجُسُ الْإِنَاءُ بِمُمَاسَّةِ اللَّبَنِ، وَاللَّبَنُ غَيْرُ نَجِسٍ؟ أَوَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: مَا زَالَتِ الْكِلَابُ بِالْبَادِيَةِ، فَمَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِالْبَادِيَةِ لَا تُنَجِّسُ، وَإِذَا كَانَتْ بِالْقَرْيَةِ نَجَّسَتْ، أَتَرَى أَنَّ الْبَادِيَةَ تُطَهِّرُهَا، أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ الْفَأْرُ وَالْوِزْغَانُ بِالْقَرْيَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْكِلَابِ بِالْبَادِيَةِ، وَأَقْدَمَ مِنْهَا، أَوْ فِي مِثْلِ قِدَمِهَا، أَوْ أَحْرَى أَنْ لَا يُمْتَنَعَ مِنْهَا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا وَقَعَتْ فَأْرَةٌ، أَوْ وَزَغٌ، أَوْ بَعْضُ دَوَابِّ الْبُيُوتِ فِي سَمْنٍ، أَوْ لَبَنٍ، أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ، أَيُنَجِّسُهُ؟ قَالَ: فَإِنْ قَالَ: لَا يُنَجِّسُهُ فِي الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَمُوتَ فِي بَعْضِ آنِيَتِهِمْ، وَيُنَجِّسُهُ فِي الْبَادِيَةِ، فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ قَوْلَيْهِ وَزَادَ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ قَالَ: يُنَجِّسُهُ، قِيلَ: فَكَيْفَ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الْكَلْبِ فِي الْبَادِيَةِ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ يَضْبِطُونَ أَوْعِيَتَهُمْ مِنَ الْكِلَابِ ضَبْطًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِنَ الْفَأْرَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُوكِئُونَ عَلَى أَلْبَانِهِمُ الْقِرَبَ، وَيَقِلُّ حَبْسُهُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمْ، وَلَا يُبْقُونَهُ مِمَّا لَا يُدَّخَرُ، وَيَكْفَئُونَ عَلَيْهِ الْآنِيَةَ، وَيَزْجُرُونَ الْكِلَابَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَضْرِبُونَهَا فَتَنْزَجِرَ، وَلَا يُسْتَطَاعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْفَأْرَةِ وَلَا دَوَابِّ الْبُيُوتِ بِحَالٍ، وَأَهْلُ الْبُيُوتِ يَدَّخِرُونَ إِدَامَهُمْ وَأَطْعِمَتَهُمْ لِلسَنَةِ وَأَكْثَرَ، فَكَيْفَ قَالَ هَذَا فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ دُونَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ؟ وَكَيْفَ جَازَ لِمَنْ قَالَ مَا أَحْكِي أَنْ يَعِيبَ أَحَدًا بِخِلَافِهِ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ عَيْبًا يُجَاوِزُ فِيهِ الْقَدْرَ، وَالَّذِي عَابَهُ لَمْ يَعْدُ أَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ، وَلَمْ يَدَعْ مَنْ قَبُولِهَا مَا يَكْتَرِثُ بِهِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ آخَرُ اسْتَتَرَ مِنْ رَدِّ الْأَخْبَارِ وَوَجَّهَهَا وُجُوهًا تَحْتَمِلُهَا، أَوْ تَشَبَّهَ بِهَا، فَعِبْنَا مَذْهَبَهُمْ وَعَابَهُ، ثُمَّ شَرَكَهُمْ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ، فَرَدَّ هَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِلَا وَجْهٍ [ص: 615] تَحْتَمِلُهُ، وَزَادَ أَنِ ادَّعَى الْأَخْبَارَ وَهُوَ يُخَالِفُهَا، وَفِي رَدِّ مَنْ تَرَكَ أَسْوَأُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ مَا لَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 بَابُ السَّاعَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، وَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا» ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 وَرُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَامَ عَلَى الصُّبْحِ، فَصَلَّاهَا بَعْدَ أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ فَعَرَّسَ فَقَالَ: «أَلَا رَجُلٌ صَالِحٌ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ؛ لَا نَرْقُدُ عَنِ الصَّلَاةِ؟» فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ: فَاسْتَنَدَ بِلَالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْفَجْرَ، قَالَ: فَلَمْ يَفْزَعُوا إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «يَا بِلَالُ» ، فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ اقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ مُتَّصِلًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ، وَيَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ: «مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» ، وَيَزِيدُ الْآخَرُ: أَيْ حِينَ مَا كَانَتْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مَنْ وُلِّيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا، فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ، مِثْلَ مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفُهُ، وَزَادَ عَطَاءٌ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَوْ يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: " قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذْ قَالَ: يَا كَثِيرُ بْنَ الصَّلْتِ، اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلْهَا عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، وَبَعَثَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ مَعَنَا فَقَالَ: اذْهَبْ وَاسْتَمِعْ مَا تَقُولُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَجَاءَهَا فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَا عِلْمَ لِي، وَلَكِنِ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَلْهَا، قَالَ: فَذَهَبْنَا مَعَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَصَلَّى عِنْدِي رَكْعَتَيْنِ لَمْ أَكُنْ أَرَهُ يُصَلِّيهِمَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتَ صَلَاةً لَمْ أَكُنْ أَرَاكَ تُصَلِّيهَا، قَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ صَدَقَةٌ، فَشَغَلُونِي عَنْهُمَا، فَهُمَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ قَيْسٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسٍ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ فَقَالَ: «هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. فَسَكَتَ عَنِّي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يُعَدُّ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحَدِيثِ، بَلْ بَعْضُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى بَعْضٍ، فَجِمَاعُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَمَا تَبْدُو حَتَّى تَبْزُغَ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ مَغِيبِ بَعْضِهَا حَتَّى يَغِيبَ كُلُّهَا، وَعَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَيْسَ عَلَى كُلِّ صَلَاةٍ لَزِمَتِ الْمُصَلِّي بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، أَوْ تَكُونُ الصَّلَاةُ مُؤَكَّدَةً، فَأَمَرَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا أَوْ صَلَاةً كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّيهَا فَأَغْفَلَهَا، فَإِذَا كَانَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ صُلِّيَتْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِالدَّلَالَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ إِجْمَاعِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ قِيلَ: فِي قَوْلِهِ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] "، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَمْنَعَ أَحَدًا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ، وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَنَائِزِهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِيمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى فِي بَيْتِهَا رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَشُغِلَ عَنْهُمَا بِالْوَفْدِ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَشُغِلَ عَنْهُمَا، قَالَ: وَرَوَى قَيْسٌ جَدُّ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ رَآهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَأَقَرَّهُ؛ لِأَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مُؤَكَّدَتَانِ مَأْمُورٌ بِهِمَا، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّاعَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ لَا تَلْزَمُ، فَأَمَّا كُلُّ صَلَاةٍ كَانَ يُصَلِّيهَا صَاحِبُهَا فَأَغْفَلَهَا، أَوْ شُغِلَ عَنْهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ أُكِّدَتْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْكُسُوفِ، فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ فِيمَا سِوَى هَذَا ثَابِتًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَنِصْفَ النَّهَارِ، وَمِثْلُهُ إِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ وَبَرَزَ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ وَاحِدٌ، قَالَ: وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ التَّهْجِيرَ لِلْجُمُعَةِ، وَالصَّلَاةَ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَهَذَا مِثْلُ الْحَدِيثِ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ الْيَوْمِ قَبْلَ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمَ رَجُلٍ كَانَ يَصُومُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 616 بَابُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا وَغَيْرُهُمْ فَقَالَ: يُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ تُقَارِبُ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ، وَمَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، يُشْبِهُ بَعْضَ مَا قَالَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عُمَرَ إِنَّمَا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ النَّهْيَ أَنْ يَتَحَرَّى أَحَدٌ فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَلَمْ أَعْلَمْهُ رَوَى عَنْهُ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَا بَعْدَ الصُّبْحِ، فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْهُ رَوَى النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، كَمَا نَهَى عَنْهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، لَزِمَهُ أَنْ يَعْلَمَ مَا قُلْتُ مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا فِيمَا لَا يَلْزَمُ، وَمَنْ رَوَى فَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَشُغِلَ عَنْهُمَا، وَأَقَرَّ قَيْسًا عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ نَهَى عَنْهَا فِيمَا لَا يَلْزَمُ، وَلَمْ يَنْهَ الرَّجُلَ عَنْهُ فِيمَا اعْتَادَ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَفِيمَا يُؤَكَّدُ مِنْهَا، وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 616 حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِلَّا بِمَا قُلْنَا بِهِ، أَوْ يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ بِكُلِّ حَالٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَهَبَ أَيْضًا إِلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَحَدٌ لِلطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ ثُمَّ نَظَرَ فَلَمْ يَرَ الشَّمْسَ طَلَعَتْ، فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى فَصَلَّى. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ كَانَ عُمَرُ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَهُوَ مِثْلُ مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، فَرَأَى نَهْيَهُ مُطْلَقًا، فَتَرَكَ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ هَذَا أَنْ يَقُولَ: لَا صَلَاةَ فِي جَمِيعِ السَّاعَاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِطَوَافٍ، وَلَا عَلَى جَنَازَةٍ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فِيهَا صَلَاةً فَائِتَةً، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الصُّبْحَ إِلَى أَنْ تَبْرُزَ الشَّمْسُ، وَحِينَ يُصَلِّي الْعَصْرَ إِلَى أَنْ يَتَتَامَّ مَغِيبُهَا، وَنِصْفَ النَّهَارِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ سَمِعَ النَّبِيَّ يَنْهَى أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ أَوْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ صُنِعَتْ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَعَجِبَ ابْنُ عُمَرَ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ، وَلَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلِمَ أَبُو أَيُّوبَ النَّهْيَ فَرَآهُ مُطْلَقًا، وَعَلِمَ ابْنُ عُمَرَ اسْتِقْبَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَاجَتِهِ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّهْيَ، فَرَدَّ النَّهْيَ، وَمَنْ عَلِمَهُمَا مَعًا قَالَ: النَّهْيُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّحْرَاءِ الَّتِي لَا ضَرُورَةَ عَلَى ذَاهِبٍ فِيهَا، وَلَا سِتْرَ فِيهَا لِذَاهِبٍ؛ لِأَنَّ الصَّحْرَاءَ سَاحَةٌ يَسْتَقْبِلُهُ الْمُصَلِّي أَوْ يَسْتَدْبِرُهُ، فَتُرَى عَوْرَتُهُ إِنْ كَانَ مُقْبِلًا أَوْ مُدْبِرًا، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْبُيُوتِ لِضِيقِهَا، وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى الْمِرْفَقِ فِيهَا وَسِتْرِهَا، وَإِنَّ أَحَدًا لَا يَرَى مَنْ كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ، أَوْ يُشْرَفَ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّيَا فَرِيضَتَيْنِ قَاعِدَيْنِ بِقَوْمٍ أَصِحَّاءَ، فَأَمَرَاهُمْ بِالْقُعُودِ مَعَهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ، فَأَخَذَا بِهِ، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنْ قَدْ عَزَبَ عَلَيْهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ قَائِمًا، وَالنَّاسُ مِنْ وَرَائِهِ قِيَامًا، فَنَسَخَ هَذَا أَمْرَ النَّبِيِّ بِالْجُلُوسِ وَرَاءَهُ إِذْ صَلَّى شَاكِيًا جَالِسًا، وَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا أَنْ يَصِيرَ إِلَى أَمْرِ النَّبِيِّ الْآخِرِ، إِذْ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، أَوْ إِلَى أَمْرِ النَّبِيِّ الدَّالِّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ النَّاسَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَحْصُورٌ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ يَقُولُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ قَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ، وَغَيْرُهُمَا، فَلَمَّا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْهُ عِنْدَ الدَّافَّةِ ثُمَّ قَالَ: «كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا، وَتَصَدَّقُوا» ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: «كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَتَصَدَّقُوا» ، كَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا أَنْ يَقُولَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْهُ لِمَعْنًى، فَإِذَا كَانَ مِثْلَهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَوْ يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ عَنْهُ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ أَرْخَصَ فِيهِ بَعْدَهُ، وَالْآخِرُ مِنْ أَمْرِهِ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكُلٌّ قَالَ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى مَعْنًى دُونَ مَعْنًى، أَوْ نَسَخَهُ، فَعَلِمَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَعْلَمْ غَيْرَهُ، فَلَوْ عَلِمَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ صَارَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ، وَإِنَّمَا وَضَعْتُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لِتَدُلَّ عَلَى أُمُورٍ غَلِطَ فِيهَا بَعْضٌ فِي النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِمَهُ أَنَّ مِنَ مُتَقَدِّمِي الصُّحْبَةِ وَأَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْأَمَانَةِ مَنْ يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ الشَّيْءُ يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَعَلَّهُ لَا يُقَارِبُهُ فِي تَقَدُّمِ صُحْبَتِهِ وَعِلْمِهِ. وَيَعْلَمُ أَنَّ عِلْمَ خَاصِّ السُّنَنِ، إِنَّمَا هُوَ عِلْمٌ خَاصٌ بِمَنْ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ عِلْمَهُ، لَا أَنَّهُ عَامٌّ مَشْهُورٌ كَشُهْرَةِ الصَّلَاةِ وَجُمَلِ الْفَرَائِضِ الَّتِي كُلِّفَتْهَا الْعَامَّةُ، وَلَوْ كَانَ مَشْهُورًا شُهْرَةَ جُمَلِ الْفَرَائِضِ مَا كَانَ الْأَمْرُ فِيمَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ كَمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 617 وَصَفْتُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ ثُبُوتُهُ، وَأَنْ لَا نُعَوِّلَ عَلَى الْحَدِيثِ لِيَثْبُتَ أَنْ وَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يُرَدُّ لِأَنْ عَمِلَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ عَمَلًا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ حَاجَةٌ إِلَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ، لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ تَبِعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ وَوَافَقَهُ مُزِيدٌ قَوْلَهُ شِدَّةً، وَلَا شَيْئًا خَالَفَهُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ يُوهِنُ مَا رَوَى عَنْهُ الثِّقَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْمَفْرُوضُ اتِّبَاعُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ هَكَذَا قَوْلُ بَشَرٍ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَتَّهِمُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنِ النَّبِيِّ إِذَا خَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَّهِمَ الْحَدِيثَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ كُلًّا رَوَى خَاصَّةً مَعًا وَأَنْ يُتَّهَمَا، فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَوْلَى أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ قَوْلًا لَمْ يَرْوِهِ عَنِ النَّبِيِّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا قَالَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؛ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهُ يَعْزُبُ عَنْ بَعْضِهِمْ بَعْضُ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَذْكُرَهُ عَنْهُ إِلَّا رَأَيًا لَهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ نُعَارِضَ بِقَوْلِ أَحَدٍ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِلَافُ مَنْ وَضَعَهُ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ وَتُرِكَ لِقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُرَدَّ لِقَوْلِ أَحَدٍ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَاذْكُرْ لِي فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْتَ فِيهِ، قِيلَ لَهُ: مَا وَصَفْتُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ، مُفَرَّقًا وَجُمْلَةً مِنْهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُقَدَّمَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْفَضْلِ، وَقِدَمِ الصُّحْبَةِ، وَالْوَرَعِ، وَالْفِقْهِ، وَالثَّبْتُ، وَالْمُبْتَدِئُ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهُ، وَالْكَاشِفُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ يَلْزَمُ، كَانَ يَقْضِي بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ أَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَتَرَكَ قَوْلَهُ. وَكَانَ عُمَرُ يَقْضِي أَنَّ فِيَ الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَالْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةِ عَشْرًا عَشْرًا، وَفِي الَّتِي تَلِي الْخِنْصَرَ تِسْعًا، وَفِي الْخِنْصَرِ سِتًّا، حَتَّى وُجِدَ كِتَابٌ عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» ، فَتَرَكَ النَّاسُ قَوْلَ عُمَرَ وَصَارُوا إِلَى كِتَابِ النَّبِيِّ، فَفَعَلُوا فِي تَرْكِ أَمْرِ عُمَرَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ فِعْلَ عُمَرَ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ، فِي أَنَّهُ تَرَكَ فِعْلَ نَفْسِهِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حَاكِمَهُمْ كَانَ يَحْكُمُ بِرَأْيِهِ فِيمَا لِرَسُولِ اللَّهِ فِيهِ سُنَّةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَمْ يَعْلَمْهَا أَكْثَرُهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ خَاصِّ الْأَحْكَامِ خَاصٌّ عَلَى مَا وَصَفْتُ، لَا عَامٌّ كَعَامِّ جُمَلِ الْفَرَائِضِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَسَمَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ فَسَوَّى بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَيْنَ أَحَدٍ بِسَابِقَةٍ، وَلَا نَسَبٍ. ثُمَّ قَسَمَ عُمَرُ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ، وَفَضَّلَ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ. ثُمَّ قَسَمَ عَلِيٌّ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ وَسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَلِي الْخُلَفَاءُ وَأَعَمُّهُ وَأَوْلَاهُ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَإِنَّمَا لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فِي الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قَسْمُ الْفَيْءِ، وَقَسْمُ الْغَنِيمَةِ، وَقَسْمُ الصَّدَقَةِ، فَاخْتَلَفَتِ الْأَئِمَّةُ فِيهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ مَا أَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عَلِيٌّ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ لِحَاكِمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ خِلَافَ رَأْيِهِ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمُهُمْ قَدْ يَحْكُمُ بِخِلَافِ آرَائِهِمْ، لَا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، وَفِيهِ مَا يَرُدُّ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ حُكْمَ حَاكِمِهِمْ إِذَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا وَقَدْ رَأَوْا رَأْيَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا رَأْيَهُ فِيهِ لَمْ يُخَالِفُوهُ بَعْدَهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَأَوْهُ فِي حَيَاتِهِمْ ثُمَّ رَأَوْا خِلَافَهُ بَعْدَهُ، قِيلَ لَهُ: فَيَدْخُلُ عَلَيْكَ فِي هَذَا، إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتَ، أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى قَسْمِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يُجْمِعُوا عَلَى قَسْمِ عَلِيٍّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخَالِفُ صَاحِبَهُ، فَإِجْمَاعُهُمْ إِذًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ حُجَّةٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةً، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا إِجْمَاعٌ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى فَاعِلِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِعْلَهُ، وَإِلَى عُمَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 618 فِعْلَهُ، وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلَهُ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ مِنْهُمْ: مُوَافِقٌ لَهُمْ، وَلَا مُخَالِفٌ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ، وَلَا عَمَلُ عَامَلٍ، إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى كُلٍّ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ. وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ خاصِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَدَّعِيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا بَدَأْنَا بِهِ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ مَا صَنَعَ الْأَئِمَّةُ، وَأَوْلَى أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَأَنْ لَا يَجْهَلَهُ الْعَامَّةُ، وَنَحْنُ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا، ثُمَّ طَرَحَ الْأُخْوَةَ مَعَهُ، ثُمَّ خَالَفَهُ فِيهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَأَى عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِدَاءً وَسَبْيًا، وَحَبَسَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَطْلَقَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا سَبْيَ، وَلَا فِدَاءَ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَكَتْنَا عَنْهُ، وَنَكْتَفِي بِهَذَا مِنْهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 619 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ حَاطِبٍ حَدَّثَهُ قَالَ: تُوُفِّيَ حَاطِبٌ فَأَعْتَقَ مَنْ صَلَّى مِنْ رَقِيقِهِ وَصَامَ، وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ نُوبِيَّةٌ قَدْ صَلَّتْ وَصَامَتْ، وَهِيَ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ تَفْقَهْ، فَلَمْ تَرُعْهُ إِلَّا بِحَمْلِهَا، وَكَانَتْ ثَيِّبًا، فَذَهَبَ إِلَى عُمَرَ فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَأَنْتَ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا عُمَرُ فَقَالَ: أَحَبِلْتِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، مَنْ مَرَّ عَرَّسَ بِدِرْهَمَيْنِ، فَإِذَا هِيَ تُسَهِّلُ بِذَلِكَ وَلَا تَكْتُمُهُ، قَالَ: وَصَادَفَ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ، قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ جَالِسًا فَاضْطَجَعَ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، فَقَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ يَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: قَدْ أَشَارَ عَلَيْكَ أَخَوَاكَ، فَقَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ أَنْتَ، قَالَ: أُرَاهَا تُسَهِّلُ بِهِ، كَأَنَّهَا لَا تَعْلَمُهُ، وَلَيْسَ الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ صَدَقْتَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ، فَجَلَدَهَا عُمَرُ مِائَةً، وَغَرَّبَهَا عَامًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَ عَلِيًّا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَلَمْ يَحُدَّهَا حَدَّهَا عِنْدَهُمَا، وَهُوَ الرَّجْمُ، وَخَالَفَ عُثْمَانَ أَنْ لَا يَحُدَّهَا بِحَالٍ، وَجَلَدَهَا مِائَةً وَغَرَّبَهَا عَامًا، فَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنْ خِلَافِهِ بَعْدَ حَدِّهِ إِيَّاهَا حَرْفٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافَهُمْ لَهُ إِلَّا بِقَوْلِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ فِعْلِهِ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ إِذْ قِيلَ: حَدَّ عُمَرُ مَوْلَاةَ حَاطِبٍ كَذَا: لَمْ يَكُنْ لِيَجْلِدَهَا إِلَّا بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، جَهَالَةً بِالْعِلْمِ، وَجُرْأَةً عَلَى قَوْلِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَ رَجُلٍ أَوْ عَمَلَهُ فِي خَاصٍّ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَا لَمْ يُحْكَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، قَالَ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَعْلَمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَضَى عُمَرُ أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ. وَقَضَى عُمَرُ فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ الضِّرْسَ سِنًّا فِيهَا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لِلرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: إِذَا طَعَنَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدِ انْقَطَعَتْ رَجْعَتُهُ عَنْهَا، مَعَ أَشْيَاءَ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفْتُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَائِلَ السَّلَفِ يَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَيُخَالِفُهُ غَيْرُهُ وَيَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَلَا يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِ فِيمَا قَالَ بِهِ شَيْءٌ، فَلَا يُنْسَبُ الَّذِي لَمْ يُرْوَ عَنْهُ شَيْءٌ إِلَى خِلَافِهِ، وَلَا مُوَافَقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُعْلَمْ قَوْلُهُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى خِلَافِهِ، وَلَكِنَّ كُلًّا كَذَبَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ قَوْلًا وَلَا الصِّدْقَ فِيهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَا يُعْرَفُ، إِذْ لَمْ يَقُلْ قَوْلًا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرَى قَوْلَ بَعْضٍ حُجَّةً تَلْزَمُهُ، إِذْ رَأَى خِلَافَهَا، وَأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ اللَّازِمَ إِلَّا الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا قَطُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَاصُّ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا إِجْمَاعًا كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجُمَلِ الْفَرَائِضِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا وَجَدُوا كِتَابًا أَوْ سُنَّةً اتَّبَعُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا تَأَوَّلُوا مَا يُحْتَمَلُ فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا فِيهِ سُنَّةً اخْتَلَفُوا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَفَى حُجَّةً عَلَى أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كُلَّمَا ادَّعَى مَنِ ادَّعَى مَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا وَنَظَائِرَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ الْإِجْمَاعَ، فِيمَا سِوَى جُمَلِ الْفَرَائِضِ الَّتِي كُلِّفَتْهَا الْعَامَّةُ، أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا الْقَرْنُ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَلَا الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلَا عَالِمٌ عَلِمْتُهُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، وَلَا أَحَدٌ نَسَبَتْهُ الْعَامَّةُ إِلَى عِلْمٍ إِلَّا حِينًا مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ قَائِلًا قَالَ فِيهِ بِمَعْنًى لَمْ [ص: 620] أَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَرَفَهُ، وَقَدْ حَفِظْتُ عَنْ عَدَدٍ مِنْهُمْ إِبْطَالَهُ، وَمَتَى كَانَتْ عَامَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي دَهْرٍ بِالْبُلْدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَعَامَّةُ قَبْلِهِمْ، قِيلَ: يُحْفَظُ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ كَذَا، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفًا وَنَأْخُذُ بِهِ، وَلَا نَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَنْ قَالَهُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ أَوْ عَنْهُ، قَالَ: وَمَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَصًّا وَاسْتِدْلَالًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالْعِلْمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: اتِّبَاعٍ، وَاسْتِنْبَاطٍ، وَالِاتِّبَاعُ اتِّبَاعُ كِتَابٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسُنَّةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَقَوْلُ عَامَّةِ مَنْ سَلَفَنَا، لَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ سَلَفِنَا، لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا قَاسَ مَنْ لَهُ الْقِيَاسُ فَاخْتَلَفُوا، وَسِعَ كُلًّا أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ اجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَسَعْهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِخِلَافِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 619 بَابُ أَكْلِ الضَّبِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: «لَسْتُ بِآكِلِهِ، وَلَا مُحَرِّمِهِ» . أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ نَحْوَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَشُكُّ، قَالَ مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَوْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الضَّبِّ؛ لِأَنَّهُ عَافَهُ، لَا لِأَنَّهُ حَرَّمَهُ، وَقَدِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْبُقُولِ ذَوَاتِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ يُكَلِّمُهُ، وَلَعَلَّهُ عَافَهَا لَا مُحَرِّمًا لَهَا. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَسْتُ بِآكِلِهِ» ، يَعْنِي نَفْسَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عَافَهُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا مُحَرِّمِهِ» ، قَالَ: فَجَاءَ بِمَعْنَى ابْنِ عَبَّاسٍ بَيِّنًا، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ أَبْيَنَ مِنْهُ، قَالَ: لَسْتُ أُحَرِّمُهُ وَلَيْسَ حَرَامًا، وَلَسْتُ آكُلُهُ تَفْسِيرٌ، وَأَكْلُ الضَّبِّ حَلَالٌ، وَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ يُؤْكَلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 بَابُ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: " لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِيمَنْ مَنَعَ الصَّدَقَةَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ "؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا مِنْ حَقِّهَا، يَعْنِي [ص: 621] مَنْعَهُمُ الصَّدَقَةَ، وَقَالَ اللَّهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا وَقَالَ: " فَإِذَا لَقِيتَ عَدُوًّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، أَوْ ثَلَاثِ خِصَالٍ، شَكَّ عَلْقَمَةُ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ إِنْ هُمْ فَعَلُوا أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ، فَإِنِ اخْتَارُوا الْمُقَامَ فِي دَرَاهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ كَمَا يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَدَعْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى، وَلَا وَاحِدٌ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ، وَلَا مُخَالِفًا لَهُ، وَلَكِنَّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ وَالْآيَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي مَخْرَجُهُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَمِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُفَسَّرُ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ أَمْرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مَنْ قَاتَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ، وَذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِيَّاهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفَرَضَ اللَّهُ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، كَمَا كَانَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ خَاصَّةً، قَالَ: فَالْفَرْضُ فِي قِتَالِ مَنْ دَانَ وَآبَاؤُهُ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُقَاتَلُوا، إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا، وَلَا يَحِلُّ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، قَالَ: وَالْفَرْضُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ كُلِّهُ دِينَهُمْ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يُسْلِمُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا، قَالَ: وَلِلَّهِ كُتُبٌ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، الْمَعْرُوفُ مِنْهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ غَيْرَهُمَا، فَقَالَ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] ، وَلَيْسَ تُعْرَفُ تِلَاوَةُ كُتُبِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ زَبُورَ دَاوُدَ فَقَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] . قَالَ: الْمَجُوسُ أَهْلُ كِتَابٍ غَيْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ نَسُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوهُ، فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 621 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَدَانَ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ بَعْضِهِمُ الْجِزْيَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ حَفِظَ أَحَدٌ أَنَّ الْمَجُوسَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 621 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ: عَلَامَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَجُوسِ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْتَوْرِدُ فَأَخَذَ بِلَبَبِهِ فَقَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، تَطْعَنُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي عَلِيًّا، وَقَدْ أَخَذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ؟ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْقَصْرِ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: الْبُدَا، فَجَلَسْنَا فِي ظِلِّ الْقَصْرِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يَعْلَمُونَهُ، وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ، فَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ فَقَالَ: تَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ، قَدْ كَانَ آدَمُ يُنْكِحُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ، فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ، مَا يَرَغَبُ بِكُمْ عَنْ دِينِهِ؟ فَاتَّبَعُوهُ وَقَاتَلُوا الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أَسْرَى عَلَى كِتَابِهِمْ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَذَهَبَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَقَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 621 أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. قَالَ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَا وَصَفْتَ غَيْرَ مَا ذَكَرْتَ مِنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، أَرَأَيْتَ إِذْ أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ؟ أَمَا فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا تُؤْخَذَ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَابَ؟ فَقَالَ: بَلَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: خُذْ مِنْ صِنْفٍ كَذَا، فَقَدْ مَنَعَ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يُخَالِفُهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ حِينَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُقَاتَلَ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَمَرَ إِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَنْ يُقْتَلَ الْمُشْرِكُونَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَيُؤْخَذُوا وَيُحْصَرُوا، وَيُقْعَدَ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوَا الزَّكَاةَ خُلِّيَ سَبِيلُهُمْ، أَمَا فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، وَأَنَّ الْفَرْضَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُهُ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ؟ قَالَ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَيَدُلُّ عَلَى ما وَصَفْتَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَامٌّ، بِأَنْ يُدْعَوْا إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُنِيَ كُلُّ مُشْرِكٍ وَثَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، قُلْتُ لَهُ: وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: " لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " عَامُّ الْمَخْرَجِ، فَإِنْ قَالَ جَاهِلٌ: بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ مُشْرِكٍ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كِتَابِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا كَهِيَ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى جُمْلَةِ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، وَادَّعَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ نَاسِخٌ لَهُ، قَالَ: مَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَدِيثَيْنِ شَيْءٌ، إِلَّا كَمَا لِصَاحِبِهِ مِثْلُهُ، لَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيثَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 622 بَابُ الْخِلَافِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَفِيمَنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِمَّنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ مَا كَانَ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ خَاصَّةً إِذَا دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَأَمَّا الْعَجَمُ فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، قَالَ: فَقُلْتُ لِبَعْضِ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ: وَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟ قَالَ: ذَهَبْتُ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا الْعَرَبُ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ الْعَرَبَ إِذَا دَانُوا دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَتَأْخُذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَيَدْخُلُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَقَدْ تَرَكْتَ أَصْلَ قَوْلِكَ، وَزَعَمْتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى النَّسَبِ، قَالَ: فَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَقُولَ: الْجِزْيَةُ وَتَرْكُ الْجِزْيَةِ وَأَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُسْلِمُوا عَلَى النَّسَبِ، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَلِمَ ذَهَبْتَ أَوَّلًا إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَلَسْتَ تَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ؟ قَالَ: فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِكَ مَنْ قَالَ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا إِلَيْهَا، وَثَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَعْجَمِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: أَحَمِدْتَ قَوْلَ مَنْ قَالَ هَذَا؟ قَالَ: لَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبَ، فَلَمْ يَأْخُذِ الْجِزْيَةَ إِلَّا مِنْ عَرَبٍ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَسَأَقُومُ لِمَنْ خَالَفَنَا وَإِيَّاكَ مِنْ أَصْحَابِكَ بِقَوْلِهِ فَأَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ، وَرَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: قُلْتَ: إِنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ، بَاقٍ فِي أَيْدِيهِمْ، فَهَلْ مِنْ حُجَّةٍ فِي أَنْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ كَالْعَرَبِ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مَا وَصَفْتُ مِنْ أَلَّا تُنْكَحَ نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ، قُلْتُ: فَكَيْفَ أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] مَنْ دَانَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، وَأَنْ يَكُونَ إِحْلَالُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِحْلَالُ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دُونَ أَهْلِ الْكُتُبِ سِوَاهُمْ، فَيَكُونُونَ مُسْتَوِينَ فِي الْجِزْيَةِ، مُخْتَلِفِينَ فِي النِّسَاءِ وَالذَّبَائِحِ؟ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 622 ، فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الشِّرْكِ، وَخَالَفَ بَيْنَهُمْ فِي الْقِتَالِ عَلَى الشِّرْكِ. فَقَالَ، أَوْ قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: مَا فِي هَذَا مَا أَنْكَرَهُ عَالِمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ لَهُ: لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْمَذْهَبَ أَحَدٌ لَهُ عِلْمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوِ السُّنَّةِ، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ؟ قُلْتُ: السُّنَّةُ لَا تَكُونُ أَبَدًا إِلَّا تَبَعًا لِلْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَعْنَاهُ وَلَا تُخَالِفُهُ، فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ نَصًّا فَهِيَ مِثْلُهُ، وَإِذَا كَانَ جُمْلَةً أَبَانَتْ مَا أُرِيدَ بِالْجُمْلَةِ، ثُمَّ لَا تَكُونُ إِلَّا وَالْقُرْآنُ مُحْتَمِلٌ مَا أَبَانَتِ السُّنَّةُ مِنْهُ؟ قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: فَمَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، خَرَجَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، مِنَ الْكِتَابِ إِلَى غَيْرِ كِتَابٍ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، وَذَهَبَ فِي الْمَجُوسِ إِلَى أَمْرٍ جَهِلَهُ، فَقَالَ فِيهِمْ بِالْجَهَالَةِ. قَالَ: إِنَّهُ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ فِي أَلَّا تُؤْكَلَ ذَبَائِحُهُمْ. قُلْتُ: لَا، وَلَا ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ كَمَا وَصَفْتُ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا فِي جُمْلَةِ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ، وَالَّذِينَ أَمَرَ بِنِكَاحِ نِسَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ، أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ دُونَ غَيْرِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 623 بَابٌ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 623 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ رَاهَقْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ فَأَرْسَلْتُ حِمَارِي يَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ ". حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيْسَ يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا مُخْتَلِفًا، وَهُوَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُؤَدَّاةِ لَمْ يَتَقَصَّ الْمُؤَدِّي لَهَا أَسْبَابَهَا، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَسْتَتِرَ بِالدُّنُوِّ مِنَ السُّتْرَةِ اخْتِيَارًا، لَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا أَنَّ شَيْئًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالنَّاسُ يَطُوفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ سُتْرَةٌ، وَهَذِهِ صَلَاةُ انْفِرَادٍ لَا جَمَاعَةٍ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ بِمِنًى صَلَاةَ جَمَاعَةٍ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَفْسُدُ بِمُرُورِ شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ يُصَلِّ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَلَا أَحَدَ وَرَاءَهُ يَعْلَمُهُ، وَقَدْ مَرَّ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَتَانٍ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الَّذِي وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهَكَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَمْرُهُ بِالْخَطِّ فِي الصَّحْرَاءِ اخْتِيَارٌ، وَقَوْلُهُ: لَا يُفْسِدُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، أَنْ يَلْهُوَ بِبَعْضِ مَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَصِيرُ إِلَى أَنْ يُحْدِثَ مَا يُفْسِدُهَا لِمُرُورِ مَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُكْرَهُ لِلْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَعَلَّ تَشْدِيدَهُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَرْكِهِمْ نَهْيَهُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَمُرُّوا بَيْنَ يَدَه» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ عَلَى الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، وَلَوْ كَانَ يَقْطَعُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ مَا أَبَاحَ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاةَ مُسْلِمٍ، وَهَكَذَا مِنْ مَعْنَى مُرُورِ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَالنَّاسُ فِي الطَّوَافِ، وَمِنْ مُرُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ بِمِنًى، لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُمَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي الْمُسْتَتِرِ، وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُمَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي الَّذِي لَا يَسْتَتِرُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْتَتِرِ: «إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُقَاتِلْهُ» ، يَعْنِي فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُرُورَ الْكَلْبِ وَالْحِمَارِ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْمُصَلِّي إِذَا مَرَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ إِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ» ، وَكَانَ مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَثْبَتَ مِنْهُ، وَمَعَهَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنْ يُتْرَكَ إِنْ [ص: 624] كَانَ ثَابِتًا، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمَنْسُوخَ حَتَّى نَعْلَمَ الْآخِرَ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ الْآخِرَ، أَوْ يَرِدَ مَا يَكُونُ غَيْرَ مَحْفُوظٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى وَعَائِشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَصَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ يَضَعُهَا فِي السُّجُودِ، وَيَرْفَعُهَا فِي الْقِيَامِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ لَمْ يَفْعَلْ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَصَلَّى إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَرُدُّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ أُخِذَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ هَذَا؟ قِيلَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَنْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِنَّهُ لَا يُبْطِلُ عَمَلُ رَجُلٍ عَمَلَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ سَعْيُ كُلٍّ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا هَكَذَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُرُورُ رَجُلٍ يَقْطَعُ صَلَاةَ غَيْرِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 623 بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَإِذَا خَرَجْنَ فَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» . قَالَ الرَّبِيعُ: يَعْنِي: لَا يَتَطَيَّبْنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يَمْنَعْهَا» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ كَلَّمَنَا فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ بِكَلَامٍ قَدْ جَهِدْتُ عَلَى تَقَصِّي مَا كَلَّمُونِي فِيهِ، فَكَانَ مِمَّا قَالُوا أَوْ بَعْضُهُمْ: ظَاهِرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِ إِمَاءِ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَالنَّهْيُ عِنْدَكَ عَنِ النَّبِيِّ تَحْرِيمٌ، إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ عَامٌّ عَلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَالْعَامُّ عِنْدَكَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَنِ النَّبِيِّ، أَوْ عَنْ جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِمْ جَهْلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ خَاصٌّ، فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَهُوَ عَامٌّ، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدٌ إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ بِحَالٍ، أَوْ خَاصٌّ فَيَكُونُ لَهُمْ مَنْعُهُنَّ بَعْضَ الْمَسَاجِدِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَاحِدًا مِنْ مَعْنَيَيْنِ؟ قُلْتُ: بَلْ خَاصٌّ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ عِنْدَكَ؟ قُلْتُ: الْأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ عَنِ النَّبِيِّ بِمَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا، قَالَ: فَاذْكُرْ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا وَصَفْتَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 قُلْتُ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ امْرَأَتِي انْطَلَقَتْ حَاجَّةً، قَالَ: «فَانْطَلِقْ فَاحْجُجْ بِامْرَأَتِكَ» . قَالَ: فَقُلْتُ: أَفَتَرَى أَنَّ فَرْضًا عَلَى قَيِّمِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا أَكْبَرَ مَسَاجِدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَهَا أَوْجَبُهَا، وَمِنْ كُلِّ سَفَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَهُ؟ قَالَ: قُلْتُهُ بِالْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهَا مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مَعْصِيَةٌ، وَفَرْضُ اللَّهِ أَنْ تُمْنَعَ الْمَعْصِيَةُ. قُلْتُ: فَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ أَنْ تُمْنَعَ أَكْبَرَ مَسَاجِدِ اللَّهِ، قَالَ: مَا أَكْبَرَ مَسَاجِدِ اللَّهِ قَالَ: مَا أَجِدُ مِنْ هَذَا أَبَدًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنَا أُكَلِّمُكُ بِغَيْرِ مَا كَلَّمَكَ بِهِ فَأَقُولُ: لَيْسَ لِقَيِّمِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا أَنْ تُسَافِرَ إِلَى مَسْجِدٍ، قُلْتُ: وَلَا يَمْنَعُهَا الْوَالِي، وَلَا زَوْجُهَا، وَلَا وَلِيُّهَا مَنْ كَانَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقَدْ أَمَرْتَ بِأنْ لَا تُمْنَعَ الْمَعْصِيَةُ بِالسَّفَرِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى ذِي مَحْرَمِهَا أَنْ يُسَافِرَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ السَّفَرَ مَعَهَا مَا يُوجِبُ عَلَى الْوَالِي مَنْعَهَا مِنَ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ، قُلْتُ: فَإِنَّ قَيِّمَهَا أَخُوهَا، وَهُوَ مُوسِرٌ، عَلَى مَنِ النَّفَقَةُ فِي السَّفَرِ، أَعَلَيْهَا أَوْ عَلَى أَخِيهَا؟ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَعَلَيْهَا نَفَقَتُهَا، قُلْتُ: فَقَدْ جَعَلْتَ لَهَا أَنْ تُكَلِّفَهُ إِخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، وَأَنْتَ لَا تَجْعَلُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مُوسِرَةً، وَلَا مُعْسِرَةً صَحِيحَةً، وَتُكَلِّفُهَا الْمَسْأَلَةَ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ أَلْزَمَ لَكَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، مُعْسِرَةً صَحِيحَةً شَرِيفَةً تَسْتَحِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ، خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ، أَوْ يُكَلَّفَ فِي سَفَرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا، قُلْتُ: فَأَقُولُ لَكَ: فَكَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، أَتُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهَا؟ قَالَ: بَلْ لَا أُنْفِقُ عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا إِلَّا مَا لَا صَلَاحَ لَهَا إِلَّا بِهِ، فَكَيْفَ أُنْفِقُ عَلَى آخَرِهِ مِنْ مَالِهَا؟ [ص: 625] قُلْتُ: فَقَدْ مَنَعْتَهَا إِذًا أَكْثَرَ مَسَاجِدِ اللَّهِ، قَالَ: فَكُلُّ مَا قُلْتَ مِنْ هَذَا مُخَالِفٌ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قُلْتُ: أَجَلْ، وَقَدْ تَرَكْتُ إِبَانَةَ ذَلِكَ؛ لِتَعْرِفَ أَنَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ فِيهِ كُلُّهُ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَهَلْ عَلِمْتَ مُخَالِفًا فِي أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْنَعَ امْرَأَتَهُ مَسْجِدَ عَشِيرَتِهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَابِهَا، وَالْجُمُعَةَ الَّتِي لَا أَوْجَبَ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ؟ قَالَ: وَمَا عَلِمْتُهُ، قُلْتُ: فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا تَسَاءَلْتَ عَنْهُ حُجَّةٌ إِلَّا مَا وَصَفْتُ اسْتَدْلَلْتُ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا كَانَ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ وَقَيِّمِهَا مَنْعُهَا مِنَ الْجُمُعَةِ وَمَسْجِدِ عَشِيرَتِهَا، كَانَ مَعْنَى: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» خَاصًّا عَلَى مَا قُلْتُ لَكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَجْهَلُ مَعْنَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ عَامَّةُ مَنْ حَضَرَ هَذَا كَمَا قُلْتَ فِيمَا أَدْخَلْتَ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ امْرَأَتَهُ شَيْئًا مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَ: مَا مَعْنَى: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» ؟ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ خَاصٌّ، فَأَيُّ الْمَسَاجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ إِمَاءَ اللَّهِ؟ قُلْتُ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَسْجِدَ اللَّهِ الْحَرَامَ لِفَرِيضَةِ الْحَجِّ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ تَطَوُّعًا، وَمِنِ الْمَسَاجِدِ غَيْرِهِ، قَالَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا قُلْتَ؟ قُلْتُ: قَالَ اللَّهُ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «السَّبِيلُ الزَّادُ وَالْمَرْكَبُ» ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَجِدُ مَرْكَبًا وَزَادًا، وَتُطِيقُ السَّفَرَ لِلْحَجِّ، فَهِيَ مِمَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ تُمْنَعَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، كَمَا لَا تُمْنَعُ فَرِيضَةَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْفَرَائِضِ. قَالَ: فَهَلْ عَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يُحِجَّهَا مِنْ مَالِهَا لَوْ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، كَمَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ عَنْهَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا؟ قُلْتُ: لَا، وَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَقَلَّ مُسْلِمٌ يَدَعُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ حَجَّتْ مَعَهُنَّ، وَأَجْبَرَتْ وَلِيَّهَا عَلَى تَرْكِهَا وَالْحَجِّ مَعَ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ إِذَا كَانَتْ طَرِيقُهَا آمِنَةً، مَنْ كَانَ وَلِيُّهَا زَوْجُهَا أَوْ غَيْرُهُ. قَالَ: فَمَا مَعْنَى نَهْيِهَا عَنِ السَّفَرِ؟ قُلْتُ: نَهْيُهَا عَنِ السَّفَرِ فِيمَا لَا يَلْزَمُهَا، قَالَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنْ أَنَّهَا إِنَّمَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ فِيمَا لَا يَلْزَمُهَا؟ قُلْتُ: بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ أَنَّ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ الْبِكْرَيْنِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالتَّغْرِيبُ سَفَرٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْلَى بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَفِي التَّغْرِيبِ خَلْوَةٌ بِهَا مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ وَسَفَرٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ سَفَرِهَا فِيمَا لَا يَلْزَمُهَا، وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ بِبَلَدٍ نَاءٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ، فَأَحْدَثَتْ حَدَثًا يَكُونُ عَلَيْهَا فِيهِ حَدٌّ، أَوْ حَقٌّ لِمُسْلِمٍ، أَوْ خُصُومَةٌ لَهُ، جُلِبَتْ إِلَى الْحَاكِمِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّهَا إِنَّمَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ فِيمَا لَا يَلْزَمُهَا، فَإِذَا قَضَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَلِوَلِيِّهَا مَنْ كَانَ مَنْعُهَا مِنَ الْحَجِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا شَيْئًا سَأَذْكُرُهُ فِي الْعِيدَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَفَتَجِدُ عَلَى هَذَا دَلَالَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا وَصَفْتُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى أَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ، وَأَنَّ الْأَسْفَارَ إِلَى الْمَسَاجِدِ نَافِلَةٌ، غَيْرَ السَّفَرِ لِلْحَجِّ، وَفِي مَنْعِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ هَذِهِ الْحَجَّةُ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحَصْرِ» . قَالَ: وَإِنَّ إِتْيَانَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ عَلَى الرِّجَالِ إِلَّا مَنْ عُذْرٍ، وَلَمْ نَعْلَمْ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ امْرَأَةً خَرَجَتْ إِلَى جُمُعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ، وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَانِهِنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُنَّ قَدْ ضُرِبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ، قِيلَ: وَقَدْ كُنَّ لَا حِجَابَ عَلَيْهِنَّ، ثُمَّ ضُرِبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ، فَلَمْ يُرْفَعْ عَنْهُنَّ مِنَ الْفَرَائِضْ شَيْءٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَى النِّسَاءِ إِتْيَانَ الْجُمُعَةِ، كُلٌّ رَوَى أَنَّ الْجُمُعَةَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا، فَإِذَا سَقَطَ عَنِ الْمَرْأَةِ فَرْضُ الْجُمُعَةِ، كَانَ فَرْضُ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَالنَّافِلَةُ فِي الْمَسَاجِدِ، عَنْهُنَّ أَسْقَطَ، قَالَ: فَقَالَ: وَمَا فُرِضَ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ إِلَّا عَلَى الرِّجَالِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى النِّسَاءِ بِفَرْضٍ، وَمَا هُنَّ فِي إِتْيَانِ الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ كَالرِّجَالِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْحُجَّةَ لَتَقُومُ بِأَقَلَّ مِمَّا وَصَفْتُ لَكَ، وَعَرَفْتَ بِنَفْسِكَ وَعَرَفَ النَّاسُ مَعَكَ، وَقَدْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَبَنَاتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَمَوْلَيَاتِهِ وَخَدَمِهِ وَخَدَمِ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَمَا عَلِمْتُ مِنْهُنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ إِلَى شُهُودِ جُمُعَةٍ، وَالْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الرِّجَالِ بِأَكْثَرَ مِنْ وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ غَيْرِهَا، وَلَا إِلَى جَمَاعَةٍ غَيْرِهَا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَلَا إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَلَا إِلَى [ص: 626] غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَمَا أَشُكُّ أَنَّهُنَّ كُنَّ عَلَى الْخَيْرِ بِمَكَانِهِنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَصَ، وَبِهِ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ أَنْ يَأْمُرَهُنَّ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ، وَعَلَيْهِ فِيهِنَّ، وَمَا لَهُنَّ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِنَّ، كَمَا أَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَاتِ وَالسُّنَنِ، وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِالْحِجَابِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ الْمُسْلِمِينَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ بِإِتْيَانِ جُمُعَةٍ، وَلَا جَمَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ أَمَرُوهُنَّ بِهِ، وَأَذِنُوا لَهُنَّ إِلَيْهِ، بَلْ قَدْ رُوِيَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي حُجْرَتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوِ الْمَسَاجِدِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ لَيَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصُومَ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ» . وَرُوِيَ «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ لِتَشْهَدَ الْعِشَاءَ فَلَا يَمْنَعْهَا» . فَاحْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِنَّ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى اسْتِحْبَابٍ، فَلَمَّا كَانَ مَا وَصَفْتُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعَامَّةُ أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةَ شُهُودُ صَلَاةِ جَمَاعَةٍ كَمَا هِيَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ وَلِيُّهَا حَبَسَهَا، كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لَا فَرْضًا عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمَرْأَةِ لِلْعِشَاءِ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ الْمُفْتِينَ يُخَالِفُ فِي أَنْ لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ الْإِذْنُ لِامْرَأَتِهِ إِلَى جُمُعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ، وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا إِلَى حَجٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهَا فِي عُمُرِهَا، فَقُلْتُ: فَفِي أَنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفْتُونَ إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتَ دَلِيلٌ عَلَى أنْ لَا يَجْهَلُوا مَعْنَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، إِذَا كَانَ مَعْنَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ مُحْتَمِلًا مَا قَالُوا. قَالَ: وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْحَجِّ، قُلْتُ: أَمَّا هَذَا فَلَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا الْفَرِيضَةَ فَقَدْ مَنَعَهَا مَسَاجِدَ اللَّهِ كُلَّهَا، فَأَبَاحَ لَهُ خِلَافَ الْحَدِيثِ، فَإِذَا قُلْتُ: لَا يَمْنَعُهَا الْفَرِيضَةَ مِنَ الْحَجِّ أُخَالِفُ الْحَدِيثَ؟ بَلْ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ كُلَّهَا» ، وَفِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُنَّ بَعْضَهَا، قَالَ: وَأُجْبِرُ زَوْجَ امْرَأَةٍ وَوَلِيَّهَا مَنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَدَعَهَا وَالْفَرِيضَةَ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةَ فِي سَفَرٍ، وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَى مَا تَطَوَّعَتْ بِهِ مِنْهُمَا، فَإِذَا أَذِنَ لَهَا إِلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَمْنَعْهَا مَسَاجِدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهَا فِي الْفَرْضِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ أَنْ يُتْرَكَ النِّسَاءُ إِلَى الْعِيدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا قُلْنَا بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 بَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ، قَالَ: فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ، وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، قَالَ: فَكَانَ الْوُضُوءُ عَامًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ الْجُنُبَ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ دَلِيلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أنْ لَا يَجِبَ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، إِلَّا أَنْ تَدُلَّ السُّنَّةُ عَلَى غُسْلٍ وَاجِبٍ فَنُوجِبُهُ بِالسُّنَّةِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا، وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلَمْ أَعْلَمْ دَلِيلًا بَيِّنًا عَلَى أَنْ يَجِبَ غُسْلٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ الْوُجُوبَ الَّذِي لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ شَيْءٌ، فَذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى غَيْرِ مَا قُلْنَا، وَلِسَانُ الْعَرَبِ وَاسِعٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَاحْتَمَلَ: وَاجِبٌ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ، وَوَاجِبٌ فِي الْأَخْلَاقِ، وَوَاجِبٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَفِي النَّظَافَةِ، وَنَفْيُ تَغَيُّرِ الرِّيحِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: وَجَبَ حَقُّكَ عَلَيَّ إِذْ رَأَيْتَنِي مَوْضِعًا لِحَاجَتِكَ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مَعْنَيَيْهِ لِمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي عُمُومِ الْوُضُوءِ [ص: 627] مِنَ الْأَحْدَاثِ، وَخُصُوصِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَاذْكُرِ الدَّلَالَةَ، قُلْتُ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ عَلِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَذَكَرَ عُمَرُ عِلْمَهُ، وَعَلِمَ عُثْمَانُ، فَذَهَبَ عَنَّا أَنْ نَتَوَهَّمَ أَنْ يَكُونَا نَسِيَا عِلْمَهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، إِذْ ذَكَرَ عُمَرُ عِلْمَهُمَا فِي الْمَقَامِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَلَمْ يَخْرُجْ عُثْمَانُ فَيَغْتَسِلْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ، وَلَا أَجِدُ مِمَّنْ حَضَرَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ عَلِمَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ بِالْغُسْلِ مَعَهُمَا، أَوْ بِإِخْبَارِ عُمَرَ عَنْهُ، دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَدْ عَلِمَا أَمْرَ النَّبِيِّ بِالْغُسْلِ، عَلَى الْأَحَبِّ لَا عَلَى الْإِيجَابِ لِلْغُسْلِ الَّذِي لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ مَنْ سَمِعَ مُخَاطَبَةَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي مِثْلِ عِلْمِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمُوهُ عِلْمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلِمُوهُ بِخَبَرِ عُمَرَ كَالدِّلَالَةِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا يَرُوحُونَ بِهَيْئاتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ ". قَالَ: وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» . قَالَ: وَقَوْلُ أَكْثَرِ مَنْ لَقِيتُ مِنَ الْمُفْتِينَ اخْتِيَارُ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْوُضُوءَ يُجْزِئُ مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ «، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يَجِبُ الْوُجُوبَ الَّذِي لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِذَا وَجَبَ الْوُجُوبَ الَّذِي لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ جَاءَ الْجُمُعَةَ أَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ، يَدُلُّ عَلَى أنْ لَا غُسْلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَأْتِ الْجُمُعَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 بَابُ نِكَاحِ الْبِكْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ، عَنْ خَنْسَاءَ ابْنَةِ خِذَامٍ، أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ فَرَدَّ نِكَاحَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعٍ، وَبَنَى بِي وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعٍ، وَكُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ، فَكُنَّ جَوَارٍ يَأْتِينَنِي فَإِذَا رَأَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ تَقَمَّعْنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْوَلِيُّ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ» الْأَبُّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ وَلَايَةٌ مَعَهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْوَلَايَةُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ، فَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُطْلَقُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» مِثْلُ حَدِيثِ خَنْسَاءَ، إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَيِّمًا، وَالْأَيِّمُ الثَّيِّبُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ نِكَاحَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَقُلْنَا: أَمْرُهُ الْآبَاءَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِلْأَبْكَارِ فِي الْإِنْكَاحِ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِنَّ، وَأَحْرَى إِنْ كَانَ بِهِمْ عِلَّةٌ فِي أَنْفُسِهِنَّ، أَوْ لَهُنَّ عِلَّةٌ فِيمَنْ يُسْتَأْمَرْنَ فِي إِنْكَاحِهِ، أَنْ يَذْكُرْنَهَا، لَا عَلَى أَنَّ لَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ مَعَ آبَائِهِنَّ أَمْرً، إِنْ لَمْ يَأْذَنَّ أَنْ يُنْكَحْنَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْكَحْنَ. وَذَهَبْنَا إِلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَهِيَ فِي حَالِ التَّزْوِيجِ [ص: 628] وَالدُّخُولِ مِمَّنْ لَا أَمْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْبِكْرِ إِلَّا بِإِذْنِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَوَّجَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا أَمْرٌ فِي نَفْسِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْلُودِ يُقْتَلُ أَبُوهُ، يُحْبَسُ قَاتِلُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ فَيَعْفُوَ أَوْ يُصَالِحَ أَوْ يَقْتُلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَمْرَ لَهُ، فَوَقَفْنَا قَتْلَ قَاتِلِ أَبِيهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ، فَقُلْنَا: إِذَا زَوَّجَ الْأَبُّ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ بَالِغًا أَوْ صَغِيرَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا لَزِمَهَا النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ: «تُسْتَأْمَرُ» عَلَى مَا قُلْتَ؟ قِيلَ: مَا وَصَفْتُ مِنْ نِكَاحِهِ عَائِشَةَ وَهِيَ لَا أَمْرَ لَهَا، وَدُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَمَّعْنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْوَلِيُّ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْهُ» الْأَبُّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ وَلَايَةٌ مَعَهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْوَلَايَةُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ، فَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُطْلَقُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» مِثْلُ حَدِيثِ خَنْسَاءَ، إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَيِّمًا، وَالْأَيِّمُ الثَّيِّبُ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ فَقُلْنَا: أَمْرُهُ الْآبَاءَ بِالِاسْتِئْذَانِ لِلْأَبْكَارِ فِي الْإِنْكَاحِ أَطْيَبُ لِأَنْفُسِهِنَّ، وَأَحْرَى إِنْ كَانَ بِهِمْ عِلَّةٌ فِي أَنْفُسِهِنَّ، أَوْ لَهُنَّ عِلَّةٌ فِيمَنْ يُسْتَأْمَرْنَ فِي إِنْكَاحِهِ، أَنْ يَذْكُرْنَهَا، لَا عَلَى أَنَّ لَهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ مَعَ آبَائِهِنَّ أَمْرًا، إِنْ لَمْ يَأْذَنَّ أَنْ يُنْكَحْنَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْكَحْنَ. وَذَهَبْنَا إِلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَهِيَ فِي حَالِ التَّزْوِيجِ وَالدُّخُولِ مِمَّنْ لَا أَمْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْبِكْرِ إِلَّا بِإِذْنِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَوَّجَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا أَمْرٌ فِي نَفْسِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْلُودِ يُقْتَلُ أَبُوهُ، يُحْبَسُ قَاتِلُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ فَيَعْفُوَ أَوْ يُصَالِحَ أَوْ يَقْتُلَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا أَمْرَ لَهُ، فَوَقَفْنَا قَتْلَ قَاتِلِ أَبِيهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ، فَقُلْنَا: إِذَا زَوَّجَ الْأَبُّ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ بَالِغًا أَوْ صَغِيرَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا لَزِمَهَا النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْمِرْهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُسْتَأْمَرُ» عَلَى مَا قُلْتَ؟ قِيلَ: مَا وَصَفْتُ مِنْ نِكَاحِهِ عَائِشَةَ وَهِيَ لَا أَمْرَ لَهَا، وَدُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَهِيَ مِمَّنْ لَا أَمْرَ لَهَا إِذْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا، وَإِنْكَاحِ الْآبَاءِ الصِّغَارَ قَدِيمًا، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ دَلَالَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ {شَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِأَحَدٍ مَعَ نَبِيِّنَا أَمْرًا، بَلْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ فِيمَا أَحَبُّوا أَوْ كَرِهُوا، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: هُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى أَنْ يَسْتَنَّ بِالْمَشُورَةِ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ غَيْرِهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، زَوَّجَ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ ابْنَتَهُ، فَكَرِهَتْ ذَلِكَ أُمُّهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَمِّرُوهُنَّ فِي بَنَاتِهِنَّ» ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ بِكْرًا، وَلَا اخْتِلَافَ أَنْ لَيْسَ لِلْأُمِّ شَيْءٌ مِنْ إِنْكَاحِ ابْنَتِهَا مَعَ أَبِيهَا وَلَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَلَا مِنْ إِنْكَاحِ نَفْسِهَا إِلَّا بِوَلِيِّهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 بَابُ النَّجْشِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّجْشِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَنَاجَشُوا» . أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، وَمَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالنَّجْشُ أَنْ يَحْضُرَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ تُبَاعُ فَيُعْطَي بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ السُّوَّامُ فَيُعْطُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَسْمَعُوا سَوْمَهُ. قَالَ: فَمَنْ نَجَشَ فَهُوَ عَاصٍ بِالنَّجْشِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَنِ اشْتَرَى وَقَدْ نَجَشَ غَيْرُهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ، لَزِمَهُ الشِّرَاءُ، كَمَا يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يُنْجَشْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لَا يُفْسِدُهُ مَعْصِيَةُ رَجُلٍ نَجَشَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ غَيْرُ النَّجْشِ وَلَوْ كَانَ بِأَمْرِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاجِشَ غَيْرُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ، فَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ إِنْ فَعَلَ النَّاجِشُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَا يَفْسُدُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ بِفِعْلِ غَيْرِهِمَا، وَأَمْرُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ بِالنَّجْشِ مَعْصِيَةٌ مِنْهُ، وَمِنَ النَّاجِشِ مَعْصِيَةٌ، قَالَ: وَقَدْ بِيعَ فِيمَنْ يَزِيدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالنَّجْشُ أَنْ يَحْضُرَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ تُبَاعُ فَيُعْطَى بِهَا الشَّيْءَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ السُّوَّامُ فَيُعْطُونَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ لَوْ لَمْ يَسْمَعُوا سَوْمَهُ. قَالَ: فَمَنْ نَجَشَ فَهُوَ عَاصٍ بِالنَّجْشِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنِ اشْتَرَى وَقَدْ نَجَشَ غَيْرُهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ، لَزِمَهُ الشِّرَاءُ، كَمَا يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يُنْجَشْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لَا يُفْسِدُهُ مَعْصِيَةُ رَجُلٍ نَجَشَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ غَيْرُ النَّجْشِ وَلَوْ كَانَ بِأَمْرِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاجِشَ غَيْرُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ، فَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ إِنْ فَعَلَ النَّاجِشُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَا يَفْسُدُ عَلَى الْمُتَبَايِعَيْنِ بِفِعْلِ غَيْرِهِمَا، وَأَمْرُ صَاحِبِ السِّلْعَةِ بِالنَّجْشِ مَعْصِيَةٌ مِنْهُ، وَمِنَ النَّاجِشِ مَعْصِيَةٌ، قَالَ: وَقَدْ بِيعَ فِيمَنْ يَزِيدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَازَ الْبَيْعُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَادَ مَنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 بَابٌ فِي بَيْعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» . أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَنْهَى الرَّجُلَ إِذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ [ص: 629] سِلْعَةً وَلَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي سِلْعَةً تُشْبِهُ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ يَرُدُّ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى أَوَّلًا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَنْهَى الرَّجُلَ إِذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً وَلَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي سِلْعَةً تُشْبِهُ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ يَرُدُّ السِّلْعَةَ الَّتِي اشْتَرَى أَوَّلًا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَيَكُونُ الْبَائِعُ الْآخَرُ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بَيْعَهُ، ثُمَّ لَعَلَّ الْبَائِعَ الْآخَرَ يَخْتَارُ نَقْصَ الْبَيْعِ فَيُفْسِدُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ بَيْعَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَنْهَى رَجُلَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَايَعَا، وَلَا بَعْدَمَا يَتَفَرَّقَانِ عَنْ مَكَانِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، عَنْ أَنْ يَبِيعَ أَيُّ الْمُتَبَايِعَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بَيْعًا عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ، فَيُنْهَى عَنْهُ، قَالَ: وَهَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» لِمَا وَصَفْتُ، فَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ عَصَى، إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ فِيهِ، وَالْبَيْعُ لَازِمٌ لَا يَفْسُدُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ لَا يَفْسُدُ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ؟ قِيلَ: بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ يَفْسُدُ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ شَيْئًا؟ إِذًا لَمْ يَكُنِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الْبَيْعَ الْآخِرَ فَيُتْرَكَ بِهِ الْأَوَّلَ، بَلْ كَانَ يَنْفَعُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَفْسُدُ عَلَى كُلِّ بَيِّعٍ بَيْعُهُ كَانَ أَرْغَبَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّقِ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ مَقَامِهِمَا لَازِمًا بِالْكَلَامِ كَلُزُومِهِ لَوْ تَفَرَّقَا، مَا كَانَ الْبَيْعُ الْآخِرُ يَضُرُّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، أَوْ رَأَيْتَ لَوْ تَفَرَّقَا ثُمَّ بَاعَ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْعِ هَلْ يُضَرُّ الْأَوَّلُ شَيْئًا أَوْ يَحْرُمُ عَلَى الْبَائِعِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيعَهُ رَجُلٌ سِلْعَةً قَدِ اشْتَرَى مِثْلَهَا وَلَزِمَتْهُ؟ هَذَا لَا يَضُرُّهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْهَى عَنِ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ الرَّجُلِ إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا، فَأَمَّا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ فَلَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 بَابُ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي بَيَانُ مَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يَقْدَمُونَ جَاهِلِينَ بِالْأَسْوَاقِ وَبِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَا قَدِمُوا بِهِ، وَمُسْتَثْقِلِينَ الْمَقَامَ، فَيَكُونُ أَدْنَى مِنْ أَنْ يَرْتَخِصَ الْمُشْتَرُونَ سِلَعَهُمْ، فَإِذَا تَوَلَّى أَهْلُ الْقَرْيَةِ لَهُمُ الْبَيْعَ ذَهَبَ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي الْمَقَامِ شَيْءٌ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ ثِقَلَهُ عَلَى أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فُيُرَخِّصُونَ لَهُمْ سِلَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْغِرَّةُ بِمَوْضِعِ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَا يَبِيعُ النَّاسُ مِنْ سِلَعِهِمْ، وَلَا بِالْأَسْوَاقِ فَيُرَخِّصُونَهَا لَهُمْ، فَنُهُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِئَلَّا يَكُونُوا سَبَبًا لِقَطْعِ مَا يُرْجَى مِنْ رِزْقِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، لِمَا وَصَفْتُ مِنَ ارْتِخَاصِهِ مِنْهُمْ، فَأَيُّ حَاضِرٍ بَاعَ لِبَادٍ فَهُوَ عَاصٍ إِذَا عَلِمَ الْحَدِيثَ، وَالْبَيْعُ لَازِمٌ غَيْرُ مَفْسُوخٍ، بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَوْ كَانَ يَكُونُ مَفْسُوخًا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي إِلَّا الضَّرَرُ عَلَى الْبَادِي مِنْ أَنْ تُحْبَسَ سِلْعَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ غَيْرِهِ حَتَّى يَلِيَ هُوَ أَوْ بَادٍ مِثْلُهُ بَيْعَهَا، فَيَكُونَ كَمُكْسِدٍ لَهَا، وَأَحْرَى أَنْ يُرْزَقَ مُشْتَرِيهِ مِنْهُ بِارْتِخَاصِهِ إِيَّاهَا بِإِكْسَادِهَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَدِّ الْبَيْعِ وَغُرَّةِ الْبَادِي الْآخَرِ، فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا مَعْنًى يُخَافُ يَمْتَنِعُ فِيهِ أَنْ يُرْزَقَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا مَا قُلْتُ مِنْ أَنَّ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي جَائِزٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَالْحَاضِرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 بَابُ تَلَقِّي السِّلَعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَلَقَّوُا السِّلَعَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ سَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَمَنْ تَلَقَّاهَا [ص: 630] فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَقْدَمَ السُّوقَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ إِنْ كَانَ ثَابِتًا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَلَقَّى السِّلْعَةَ فَاشْتَرَاهَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِ السِّلْعَةِ بَعْدَ أَنْ يَقْدَمَ السُّوقَ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ تَلَقِّيَهَا حِينَ يَشْتَرِي مِنَ الْبَدَوِيِّ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَوْضِعِ الْمُسَاوِمِينَ مِنَ الْغَرَرِ لَهُ بِوَجْهِ النَّقْصِ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِذَا قَدِمَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِنْفَاذِ الْبَيْعِ وَرَدِّهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُتَلَقِّي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَارُّ لَا الْمَغْرُورُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 بَابُ عَطِيَّةِ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 630 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، يُحَدِّثَانِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟» قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَارْجِعْهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ سَمِعْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْبِرِّ إِلَيْكَ سَوَاءً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَارْجِعْهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 630 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ، إِلَّا الْوَالِدَ مِنْ وَلَدِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ ثَابِتٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أُمُورٍ، مِنْهَا حُسْنُ الْأَدَبِ فِي أَنْ لَا يُفَضِّلَ رَجُلٌ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ فِي نُحْلٍ، فَيَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِرِّهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ قُلُوبِ الْآدَمَيِّينَ جُبِلَ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَنْ بَعْضِ الْبِرِّ إِذَا أُوثِرَ عَلَيْهِ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ نَحْلَ الْوَالِدِ بَعْضَ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ كَانَ يُقَالُ إِعْطَاؤُكَ إِيَّاهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ مِلْكِكَ الْأَوَّلِ أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: «ارْجِعْهُ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ، إِلَّا الْوَالِدَ مِنْ وَلَدِهِ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ ثَابِتٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أُمُورٍ، مِنْهَا حُسْنُ الْأَدَبِ فِي أَنْ لَا يُفَضِّلَ رَجُلٌ أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ فِي نُحْلٍ، فَيَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ بِرِّهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ قُلُوبِ الْآدَمَيِّينَ جُبِلَ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَنْ بَعْضِ الْبِرِّ إِذَا أُوثِرَ عَلَيْهِ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ نَحْلَ الْوَالِدِ بَعْضَ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ كَانَ يُقَالُ إِعْطَاؤُكَ إِيَّاهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ مِلْكِكَ الْأَوَّلِ أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: «ارْجِعْهُ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَارْجِعْهُ» ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ رَدَّ مَا أَعْطَى الْوَلَدَ، وَأَنَّهُ لَا يُحْرَجُ بِارْتِجَاعِهِ مِنْهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَشْهِدْ غَيْرِي» ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اخْتِيَارٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَسَوَاءٌ ادَّانَ الْوَلَدُ وَتَزَوَّجَ رَغْبَةً فِيمَا أَعْطَاهُ أَبُوهُ، أَوْ لَمْ يُدَنْ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لَهُ مَتَى شَاءَ، وَقَدْ حَمِدَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَالِ وَالطَّعَامِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَأَمَرَ بِهِمَا فَقَالَ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] ، وَقَالَ: {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8] ، وَقَالَ: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] ، وَقَالَ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] ، وَقَالَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، فَإِذَا جَازَ هَذَا لِلْأَجْنَبِيِّينَ وَذَوِي الْقُرْبَى، فَلَا أَقْرَبَ مِنَ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَعْطَى مَالَهُ ذَا قَرَابَتِهِ غَيْرَ وَلَدِهِ أَوْ أَجْنَبِيًّا فَقَدْ مَنَعَهُ وَلَدَهُ، وَقَطَعَ مُلْكَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا، كَانَ مَحْمُودًا أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَدَهُ دُونَ بَعْضٍ، وَمَنْعُ بَعْضِهِمْ مَا أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ أَقَلُّ مِنْ مَنْعِهِمْ كُلِّهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يُقَصِّرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي بِرِّهِ؛ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ تُنَفِّسُ بَعْضُهَا بَعْضًا مَا لَمْ تُنَفِّسِ الْبُعَادَةُ. قَالَ الرَّبِيعُ: يُرِيدُ الْبُعَدَاءَ، وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ بِنَخْلٍ، وَفَضَّلَ عُمَرُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَفَضَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوِ اتَّصَلَ حَدِيثُ طَاوُسٍ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ، لَزَعَمْتُ أَنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِمَنْ يَسْتَثِيبُهُ مِثْلَهُ أَوْ لَا يَسْتَثِيبُهُ وَقُبِضَتِ الْهِبَةُ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَإِنِ لَمْ يُثِبْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 630 بَابُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 631 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَدْتُهَا، وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَسَأَلَهَا النَّبِيُّ فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: «خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ؛ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ، وَأَحْسَبُهُ غَلَطَ فِي قَوْلِهِ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» ، وَأَحْسَبُ حَدِيثَ عَمْرَةَ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ شَرَطَتْ لَهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ، وَهِيَ تَرَى ذَلِكَ يَجُوزُ، فَأَعْلَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ أَنَّهَا إِنْ أَعْتَقَتْهَا فَالْوَلَاءُ لَهَا، وَقَالَ: لَا يَمْنَعُكِ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِيهَا مِنْ شَرْطِكِ، وَلَا أَرَى أَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ لَهُمْ مَا لَا يَجُوزُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَقَدْ ذَهَبَ فِيهِ قَوْمٌ مَذَاهِبَ سَأَذْكُرُ مَا حَضَرَنِي حِفْظُهُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ: يَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فِي حَالَيْنِ، قَالَ: وَمَا هُمَا؟ قُلْتُ: أَنْ يَحِلَّ نَجْمٌ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ فَيَعْجِزَ عَنْ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُقِدَتْ لَهُ الْكِتَابَةُ عَلَى الْأَدَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ فَفِي نَفْسِ الْكِتَابَةِ أَنَّ لِلْمَوْلَى بَيْعَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَقَدَهَا عَلَى شَيْءٍ فَلَمْ يَأْتِ كَانَ الْعَبْدُ بِحَالَهِ قَبْلَ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ بِهَذَا، فَمَا الْحَالُ الثَّانِيَةُ؟ قُلْتُ: أَنْ يَرْضَى الْمُكَاتَبُ بِالْبَيْعِ وَالْعَجْزِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نَجْمٌ، قَالَ: بَلَى، فَأَيْنَ هَذَا؟ قُلْتُ: أَفَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبِ شَرْطَانِ، إِلَى السَّيِّدِ بَيْعُهُ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ إِذَا لَمْ يُوَفِّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَالشَّرْطُ الثَّانِي لِلْعَبْدِ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ، قَالَ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ فَلَمْ يَكُ بِالْكِتَابَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ: وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ بِالْكِتَابَةِ، هَلِ الْكِتَابَةُ إِلَّا شَرْطٌ لِلْعَبْدِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَلِلسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَنْ كَانَ لَهُ شَرْطٌ فَتَرَكَهُ، أَلَيْسَ يَنْفَسِخُ شَرْطُهُ؟ قَالَ: أَمَّا مِنَ الْأَحْرَارِ فَبَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ لَا يَكُونُ هَذَا فِي الْعَبْدِ؟ قَالَ: الْعَبْدُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَعَفَاهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ عَفَاهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؟ قَالَ: يَجُوزُ، قُلْتُ: أَفَلَيْسَ قَدِ اجْتَمَعَ الْعَبْدُ وَالسَّيِّدُ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ شَرْطِهِ فِي الْكِتَابَةِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يَعْتِقَ الْمُكَاتِبُ عَبْدَهُ أَوْ يَهَبَ مَالَهُ جَازَ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى إِبْطَالِ الْكِتَابَةِ أَنْ يُبْطِلَاهَا؟ قَالَ: وَقُلْتُ لَهُ: ذَهَابُ بَرِيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا مُسَاوِمَةً بِنَفْسِهَا لِعَائِشَةَ، وَرُجُوعُهَا إِلَى عَائِشَةَ بِجَوَابِ أَهْلِهَا بِأَنِ اشْتَرَطُوا وَلَاءَهَا، وَرُجُوعُهَا بِقَبُولِ عَائِشَةَ ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى رِضَاهَا بِأَنْ تُبَاعَ، وَرِضَا الَّذِي يُكَاتِبُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُشْتَرَى إِلَّا مِمَّنْ كَاتَبَهَا، قَالَ: أَجَلْ، فَقُلْتُ: فَقَدْ كَانَ فِي هَذَا مَا يَكْفِيكَ مِمَّا سَأَلْتَ عَنْهُ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلَعَلَّهَا عَجَزَتْ؟ قُلْتُ: أَفَتَرَى مَنِ اسْتَعَانَ فِي كِتَابَتِهِ مُعْجَزًا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَحَدِيثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْجِزْ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ فَلَمْ يُعْجِزْهَا سَيِّدُهَا، قَالَ: فَلَعَلَّ لِأَهْلِهَا بَيْعَهَا؟ قُلْتُ: بِغَيْرِ رِضَاهَا؟ قَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ، قُلْتُ: أَفَتَرَاهَا رَاضِيَةً إِذَا كَانَتْ مُسَاوِمَةً بِنَفْسِهَا، وَرَسُولًا لِأَهْلِهَا وَإِلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ تَوَهُّمُكَ أَنَّهُمْ بَاعُوهَا بِغَيْرِ رِضًا، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَنْ لَقِيَنَا مِنَ [ص: 632] الْمُفْتِينَ إِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أنْ لَا يُبَاعَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يَعْجِزَ أَوْ يَرْضَى بِالْبَيْعِ، لَا يَجْهَلُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحْتَمِلًا مَعْنَيَيْنِ كَانَ أَوْلَاهُمَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَوَامُّ الْفُقَهَاءِ مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ كَمَا وَصَفْتُ أَنْ لَمْ تُبَعْ إِلَّا بِرِضَاهَا، قَالَ: أَجَلْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: فَمَا مَعْنَى إِبْطَالِ النَّبِيِّ شَرْطَ عَائِشَةَ لِأَهْلِ بَرِيرَةَ؟ قُلْتُ: إنْ بَيَّنَّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَقَالَ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] ، وَإِنَّهُ نَسَبَهُمْ إِلَى مَوَالِيهِمْ كَمَا نَسَبَهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ، وَكَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَوَّلُوا عَنْ آبَائِهِمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَوَّلُوا عَنْ مَوَالِيهِمْ، وَمَوَالِيهِمُ الَّذِينَ وُلُّوا مِنَّتَهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ» . فَلَمَّا بَلَغَهُمْ هَذَا كَانَ مَنِ اشْتَرَطَ خِلَافَ مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَاصِيًا، وَكَانَتْ فِي الْمَعَاصِي حُدُودٌ وَآدَابٌ، وَكَانَ مِنْ آدَابِ الْعَاصِينَ أَنْ تُعَطَّلَ عَلَيْهِمْ شُرُوطُهُمْ لِيُنَكَّلُوا عَنْ مِثْلِهَا، وَيُنَكَّلَ بِهَا غَيْرُهُمْ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَدَبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 631 بَابُ الضَّحَايَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 قَالَ: وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ ذَبَحَ أُضْحِيَّةً قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 قَالَ: وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَضْحَى، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: لَا أَجِدُ إِلَّا جَذَعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَذَعًا فَاذْبَحْهُ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ وَاجِبَةٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ؛ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَيْسَتْ بِضَحِيَّةٍ تُجْزِيهِ، فَيَكُونَ فِي عِدَادِ مَنْ ضَحَّى. قَالَ: وَوَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الضَّحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لَا يَحِلُّ تَرْكُهَا، وَهِيَ سُنَّةٌ يَجِبُّ لُزُومُهَا وَيُكْرَهُ تَرْكُهَا، لَا عَلَى إِيْجَابِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ السُّنَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؟ قِيلَ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: «فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ» ، وَلَوْ كَانَتِ الضَّحِيَّةُ وَاجِبَةً أَشْبَهَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ، وَنَأْمُرُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ اتِّبَاعًا وَاخْتِيَارًا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لَا وَاجِبٌ؟ قِيلَ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُحْرِمُ بِالْبَعْثَةِ بِهَدْيِهِ، يَقُولُ: الْبَعْثَةُ بِالْهَدْيِ أَكْبَرُ مِنْ إِرَادَةِ الضَّحِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 بَابُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي يُوجَدُ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ وَمَسْحِهِمَا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: نَحْنُ نَقْرَأُ آيَةَ الْوُضُوءِ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بِنَصْبِ (أَرْجُلَكُمْ) عَلَى مَعْنَى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا [ص: 633] بِرُءُوسِكُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا دَلَالَةُ السُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَالْكَعْبَانِ اللَّذَانِ أُمِرَ بِغَسْلِهِمَا مَا أَشْرَفَ مِنْ مَجْمَعِ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَا أَشْرَفَ وَاجْتَمَعَ كَعْبًا، حَتَّى تَقُولَ: كَعْبُ سَمْنٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَذَهَبَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] كَقَوْلِهِ {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، وَالْكَعْبَيْنِ مِمَّا يُغْسَلُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ سَالِمٍ سَبَلَانَ مَوْلَى النَّضْرِيِّينَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَتْ تَخْرُجُ بِأَبِي حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا، قَالَ: فَأَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِوَضُوءٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْأَعَقْابِ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 قَالَ الْشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُجْزِئُ مُتَوَضِّئًا إِلَّا أَنْ يَغْسِلَ ظُهُورَ قَدَمَيْهِ وَبُطُونَهُمَا وَأَعْقَابَهُمَا، وَكَعْبَيْهِ مَعًا، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَسَحَ عَلَى ظُهُورِ قَدَمَيْهِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَشَّ عَلَى ظُهُورِهِمَا. وَأَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ وَجْهٍ صَالِحِ الْإِسْنَادِ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ لَا يُجْزِئُ مَسْحُ ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ أَوْ رَشُّهُمَا، وَلَا يَكُونُ مُضَادًّا لِحَدِيثِ: إِنَّ النَّبِيَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، كَمَا أَجْزَأَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ مُضَادًّا لِغَسْلِ الْقَدَمَيْنِ؟ قِيلَ لَهُ: الْخُفَّانِ حَائِلَانِ دُونَ الْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا يُضَادُّ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُهُمَا، وَالَّذِي قَالَ: مَسْحُ أَوْ رَشُّ ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، فَقَدْ زَعَمَ أَنْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ غَسْلُ بَطْنِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا تَخْلِيلٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا، وَلَا غَسْلُ أَصَابِعِهِمَا، وَلَا غَسْلُ عَقِبَيْهِ، وَلَا كَعْبَيْهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» ، وَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ» ، وَلَا يُقَالُ: وَيْلٌ لَهُمَا مِنَ النَّارِ إِلَّا وَغَسْلُهُمَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَعْمَى يَتَوَضَّأُ: «بَطْنَ الْقَدَمِ، بَطْنَ الْقَدَمِ» ، فَجَعَلَ الْأَعْمَى يَغْسِلُ بَطْنَ الْقَدَمِ وَلَا يَسْمَعُ النَّبِيَّ، فَسُمِّيَ: الْبَصِيرَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ مَسْحِ ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ وَرَشِّهِمَا؟ قِيلَ: أَمَّا أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ فَلَيْسَ مِمَّا يُثْبِتُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَوِ انْفَرَدَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَحَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا ثَبَتَ، وَالَّذِي يُخَالِفُهُ أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا كَانَ أَوْلَى، وَمَعَ الَّذِي خَالَفَهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ كَمَا وَصَفْتُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْعَامَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 بَابُ الْإِسْفَارِ وَالتَّغْلِيسِ بِالْفَجْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَسْفِرُوا بِالصُّبْحِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ» ، أَوْ قَالَ: «لِلْأَجْرِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كُنَّ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ، وَهُنَّ مُتَلَفِّعَاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى أَهْلِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْغَلَسِ» قَالَ: وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ مَا يُوَافِقُ هَذَا، وَرَوَى مِثْلَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْنَا: إِذَا انْقَطَعَ الشَّكُّ فِي الْفَجْرِ الْآخِرِ وَبَانَ مُعْتَرِضًا فَالتَّغْلِيسُ بِالصُّبْحِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ أَحَبُّ إِلَيْنَا. قَالَ: وَرُوِيَ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْنَا بِأَحَدِهِمَا، وَذَكَرَ حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَقَالَ: أَخَذْنَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ، قَالَ: وَقَالَ لِي: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَلِمَ صِرْتَ إِلَى التَّغْلِيسِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ التَّغْلِيسَ أَوْلَاهُمَا بِمَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَأَثْبَتُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَشْبَهُهُمَا بِجُمَلِ سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْرَفُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ: فَاذْكُرْ ذَلِكَ، قُلْتُ: قَالَ اللَّهُ [ص: 634] تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَكَانَ أَقَلَّ مَا فِي الصُّبْحِ إِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أُمِرْنَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَلَّتِ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ، أَنَّ الْفَجْرَ إِذَا بَانَ مُعْتَرِضًا فَقَدْ جَازَ أَنْ يُصَلَّى الصُّبْحُ، عَلِمْنَا أَنْ مُؤَدَّى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنْ مُؤَخَّرِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ» ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُؤْثِرُ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، شَيْئًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي امْرِئٍ أَرَادَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ يَتَعَجَّلُهُ مُبَادَرَةَ مَا لَا يَخْلُو مِنْهُ الْآدَمَيُّونَ مِنَ النِّسْيَانِ وَالشُّغْلِ، وَمُقَدَّمُ الصَّلَاةِ أَشَدُّ فِيهَا تَمَكُّنًا مِنْ مُؤَخَّرِهَا، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ الْمُقدَّمَةُ مِنْ أَعْلَى أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، وَأُمِرْنَا بِالتَّغْليسِ بِهَا لِمَا وَصَفْتُ، فَقَالَ: فَأَيْنَ أَنَّ حَدِيثَكَ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ أَثْبَتُهُمَا؟ قُلْتُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَثَالِثٍ مَعَهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّغْلِيسِ، أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَحْدَهُ فِي أَمْرِهِ بِالْإِسْفَارِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَأْمُرُ بِأَنْ تُصَلَّى صَلَاةٌ فِي وَقْتٍ، وَيُصَلِّيهَا فِي غَيْرِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَثْبَتُ الْحُجَجِ وَأَوْلَاهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ» ، وَقَوْلِهِ إِذْ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» . قَالَ: فَقَالَ: فَيُخَالِفُ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ حَدِيثَكُمْ فِي التَّغْلِيسِ، قُلْتُ: إِنْ خَالَفَهُ فَالْحُجَّةُ فِي أَخْذِنَا بِحَدِيثِنَا مَا وَصَفْتُ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَلَّا يُخَالِفَهُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّهُ رِضْوَانُ اللَّهِ، فَلَعَلَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ سَمِعَهُ فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُسْفِرُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ الْآخِرُ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى حَدِيثِ رَافِعٍ مَا أَرَدْتَ مِنَ الْإِسْفَارِ، وَلَا يَكُونُ حَدِيثُهُ مُخَالِفًا حَدِيثَنَا، قَالَ: فَمَا ظَاهِرُ حَدِيثِ رَافِعٍ؟ قُلْتُ: الْأَمْرُ بِالْإِسْفَارِ لَا بِالتَّغْلِيسِ، وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَحَادِيثِ كَانَ أَوْلَى بِنَا أَلَّا نَنْسِبَهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فَالْحُجَّةُ فِي تَرْكِنَا إِيَّاهُ؛ بِحَدِيثِنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا وَصَفْتُ مِنَ الدَّلَائِلِ مَعَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 بَابُ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 634 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 634 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنِي وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ» . قَالَ وَائِلٌ: ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فِي الشِّتَاءِ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْبَرَانِسِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَّقُوهُ مَعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبِهَذَا نَقُولُ، فَنَقُولُ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَهُمَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَرَكْنَا مَا خَالَفَهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّهَا أَثْبَتُ إِسْنَادًا مِنْهُ، وَأَنَّهَا عَدَدٌ، وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّا نَرَاهُ رَأَى الْمُصَلِّيَ يُرْخِي يَدَيْهِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ رَفْعَهُمَا، فَلَوْ كَانَ رَفَعَهُمَا مَدًّا احْتَمَلَ مَدًّا حَتَّى الْمَنْكِبَيْنِ، وَاحْتَمَلَ مَا يُجَاوِزُهُ وَيُجَاوِزُ الرَّأْسَ وَرَفْعَهُمَا، وَلَا يُجَاوِزُ الْمَنْكِبَيْنِ، وَهَذَا حَذْوٌ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ، وَحَدِيثُنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ أَثْبَتُ إِسْنَادًا، وَمَعَهُ عَدَدٌ يُوَافِقُونَهُ وَيُحَدِّدُونَهُ تَحْدِيدًا لَا يُشْبِهُ الْغَلَطَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمَنْكِبَيْنِ؟ قِيلَ: لَا يَنْقُضُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُوجِبُ سَهْوًا، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمَنْكِبَيْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 634 بَابُ الْخِلَافِ فِيهِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ الْمُصَلِّي رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ يَرْفَعُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ» . قَالَ سُفْيَانُ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَلَقِيتُ يَزِيدَ بِهَا، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ بِهَذَا وَزَادَ فِيهِ: ثُمَّ لَا يَعُودُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَقَّنُوهُ. قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا سَمِعْتُ يَزِيدَ يُحَدِّثُهُ هَكَذَا، وَيَزِيدُ فِيهِ: ثُمَّ لَا يَعُودُ، قَالَ: وَذَهَبَ سُفْيَانُ إِلَى أَنْ يُغَلِّطَ يَزِيدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَيَقُولُ: كَأَنَّهُ لُقِّنَ هَذَا الْحَرْفَ الْآخَرَ فَلَقَّنَهُ، وَلَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ يَرَى يَزِيدَ بِالْحَافِظِ لِذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِبَعْضِ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ: أَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَثْبَتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَمْ حَدِيثُ يَزِيدَ؟ قَالَ: بَلْ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ وَحْدَهُ، قُلْتُ: فَمَعَ الزُّهْرِيِّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْهُمْ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وَحَدِيثُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ كُلُّهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا وَصَفْتُ، وَثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا أَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ مِنْ حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَمِنْ أَصْلِ قَوْلِنَا وَقَوْلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَمَعَكَ حَدِيثٌ يُكَافِئُهُ فِي الصِّحَّةِ، فَكَانَ فِي حَدِيثِكَ أَنْ لَا يَعُودَ لِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَفِي حَدِيثِنَا يَعُودُ لِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، كَانَ حَدِيثُنَا أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ حِفْظِ مَا لَمْ يَحْفَظْ صَاحِبُ حَدِيثِكَ، فَكَيْفَ صِرْتَ إِلَى حَدِيثِكَ وَتَرَكْتَ حَدِيثَنَا، وَالْحُجَّةُ لَنَا فِيهِ عَلَيْكَ بِهَذَا، وَبِأَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِكَ لَيْسَ كَإِسْنَادِ حَدِيثِنَا بِأَنَّ أَهْلَ الْحِفْظِ يَرَوْنَ أَنَّ يَزِيدَ لُقِّنَ: ثُمَّ لَا يَعُودُ؟ يَقُولُ: فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ أَنْكَرَ حَدِيثَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَقَالَ: أَتَرَى وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَعْلَمَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُمَا رَوَيَا عَنِ النَّبِيِّ خِلَافَ مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ رَوَيَاهُ أَوْ فَعَلَاهُ، قُلْتُ: أَفَرَوَى هَذَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ نَصًّا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَخَفِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ شَيْءٌ رَوَاهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ أَوْ فَعَلَاهُ؟ قَالَ: مَا أَشُكُّ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ: فَتَدْرِي لَعَلَّهُمَا قَدْ فَعَلَاهُ فَخَفِيَ عَنْهُ، وَرَوَيَاهُ فَلَمْ يَسْمَعْهُ؟ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيُمْكِنُ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ جَمِيعَ مَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ، فَأَخَذَ بِهِ فَأَحَلَّ بِهِ وَحَرَّمَ، أَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَلِمَ احْتَجَجْتَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ وَقَدْ يَأْخُذُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ غَيْرِهِمَا مَا لَمْ يَأْتِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمِنْ قَوْلِنَا وَقَوْلِكَ أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ، إِذْ كَانَ ثِقَةً، لَوْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ شَيْئًا، فَقَالَ عَدَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ: لَمْ يَكُنْ مَا رَوَى، كَانَ الَّذِي قَالَ: كَانَ، أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ مِنَ الَّذِي قَالَ: لَمْ يَكُنْ، وَأَصْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَوْ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، إِلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ ثِقَةً لِلُقِيِّهِمَا، ثُمَّ أَرَدْتَ إِبْطَالَ مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ إِبْرَاهِيمُ فِيهِ قَوْلَ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ عَلِمَهُ؟ قُلْتُ: وَلَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فِيهِ حُجَّةٌ بِأَنْ رَوَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُوهِمَ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَا أَنْ يَقُولَ هُوَ: رَوَيْتُهُ، جَازَ لَنَا أَنْ نَتَوَهَّمَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يَرْوِ أَنَّهُ عَلِمَ فِيهِ، لَمْ يَقُلْ لَنَا عَلِمْنَا، وَلَوْ رَوَى عَنْهُمَا خِلَافَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فِيهِ حُجَّةٌ، فَقَالَ: وَائِلٌ أَعْرَابِيٌّ، فَقُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ قَرْنَعًا الضَّبِّيَّ، وَقَزْعَةَ، وَسَهْمَ بْنَ مِنْجَابٍ، حِينَ رَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْهُمْ، وَرَوَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ، أَهُمْ أَوْلَى أَنْ يُرْوَى عَنْهُمْ، أَمْ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَكُمْ بِالصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا زَعَمْتُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَكُمْ بِحَدِيثٍ وَلَا شَيْءٍ؟ قَالَ: بَلْ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، قُلْتُ: فَكَيْفَ تَرُدُّ حَدِيثَ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَرْوِي عَمَّنْ دُونَهُ؟ وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ عَنْ عَدَدٍ، لَعَلَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْهُمْ غَيْرَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَوَائِلٌ أَهْلٌ أَنْ يُقْبَلَ عَنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا: إِنَّهُ لَمَرْوِيٌّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 635 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الِافْتِتَاحِ، وَعِنْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَمَا هُوَ بِالْمَعْمُولِ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا نَامُوا مِنَ اللَّيْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يُجَامِعُوا، حَتَّى نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَجَامَعُوا إِلَى الْفَجْرِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَيْسَ بِالْمَعْمُولِ بِهِ، فَقَدْ أَعْيَانَا أَنْ نَجِدَ عِنْدَ أَحَدٍ عِلْمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِذَا عَمِلُوا بِالْحَدِيثِ ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَإِذَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ سَقَطَ عِنْدَهُ، هُوَ يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ فَعَلَهُ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَعَلَهُ، وَلَا يَرْوِي عَنْ أَحَدٍ يُسَمِّيهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ أَعْلَمْهُمْ خُلِقُوا، ثُمَّ يَحْتَجُّ بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ وَغَفْلَتِهِمْ؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي النَّاسِ: كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ بَعْدَ النَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى أَرْخَصَ لَهُمْ، إِنَّ أَشْيَاءَ قَدْ كَانَتْ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَذَلِكَ كَمَا قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ مَا نَسَخَهَا، وَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ، أَفَيْجَوزُ أَنْ يُقَالَ: لِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ مَنْسُوخٌ، بِلَا خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: فَأَيْنَ الْخَبَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَفَعَ الْيَدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالَ: فَلَعَلَّهُ كَانَ وَلَمْ يُحْفَظْ، قِيلَ: أَفَيَجُوزُ فِي كُلِّ خَبَرٍ رَوَيْتُهُ عَنِ النَّبِيِّ أَنْ يُقَالَ: قَدْ كَانَ هَذَا، وَلَعَلَّهُ مَنْسُوخٌ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِالسُّنَنِ بِلَعَلَّهُ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَ تَرْكُكَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا وَصَفْتَ مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الضَّعِيفِ، فَكَيْفَ لُمْنَا وَلَامُوا مَنْ تَرَكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَعْتَلُّونَ فِي تَرْكِهَا بِأَحْسَنَ وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ الضَّعِيفِ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 بَابُ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، أَظُنُّهُ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي زِيَادُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ فَوَقَفَ بِي عَلَى شَيْخٍ بِالرَّقَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ: وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي هَذَا الشَّيْخُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَدِّثِينَ يُدْخِلُ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَوَابِصَةَ فِيهِ رَجُلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ عَنْ هِلَالٍ عَنْ وَابِصَةَ، سَمِعَهُ مِنْهُ. وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَانَ يُوهِنُهُ بِمَا وَصَفْتُ، وَسَمِعْتُ مَنْ يَرْوِي بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ أَنَّهُ رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا، وَلَا تَعُدْ» . فَكَأَنَّهُ أَحَبَّ لَهُ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ، وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ الْعَجَلَةَ بِالرُّكُوعِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالصَّفِّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى رُكُوعَهُ مُنْفَرِدًا مُجْزِئًا عَنْهُ، وَمِنْ حَدِيثِنَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الْإِمَامِ تُجْزِئُهُ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ وَابِصَةَ كَانَ حَدِيثُنَا أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ الْقِيَاسَ وَقَوْلَ الْعَامَّةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الْقِيَاسُ وَقَوْلُ الْعَامَّةِ؟ قِيلَ: أَرَأَيْتَ صَلَاةَ الرَّجُلِ مُنْفَرِدًا تُجْزِئُ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَصَلَاةُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفِّ وَهُوَ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: فَهَلْ يَعْدُو الْمُنْفَرِدُ خَلْفَ الْمُصَلَِّي أَنْ يَكُونَ كَالْإِمَامِ الْمُنْفَرِدِ أَمَامَهُ؟ أَوْ يَكُونَ كَرَجُلٍ مُنْفَرِدٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا؟ فَإِنْ قِيلَ: فَهَكَذَا سُنَّةُ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، قِيلَ: فَسُنَّةُ مَوقِفِهِمَا تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي الِانْفِرَادِ شَيْءٌ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، فَإِنْ قَالَ بِالْحَدِيثِ فِيهِ، قِيلَ: فِي الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ قِيلَ: فَاذْكُرْ حَدِيثَكَ، قِيلِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتِ النَّبِيَّ إِلَى طَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّيَ لَكُمْ» ، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِالْمَاءِ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ لَنَا خَلْفَ النَّبِيِّ فِي بَيْتِنَا، وَأُمُّ سَلَمَةَ خَلْفَنَا» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَنَسٌ يَحْكِي أَنَّ امْرَأَةً صَلَّتْ مُنْفَرِدَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، فَإِذَا أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةَ صَلَاتُهَا مَعَ الْإِمَامِ مُنْفَرِدَةً أَجْزَأَ الرَّجُلَ صَلَاتُهُ مَعَ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا كَمَا تُجَزِّئُهَا هِيَ صَلَاتُهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 بَابُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي يُوجَدُ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 637 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَصَفَّتْ طَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَصَفُّوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ. حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنْ حَفْصٍ، يَذْكُرُ عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخَذْنَا بِهَذَا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، أَوْ جِهَتِهَا غَيْرَ مَأْمُونِينَ؛ لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْقُرْآنِ. قَالَ: وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ شَيْئًا يُخَالِفُ فِيهِ هَذِهِ الصَّلَاةَ، رَوَى أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَ النَّبِيِّ، وَطَائِفَةً وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ اسْتَأْخَرُوا وَلَمْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ، فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَصَلُّوا مَعَهُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَتْ، وَقَامَتِ الطَّائِفَتَانِ مَعًا فَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ أَخَذْتَ بِحَدِيثِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ دُونَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؟ قِيلَ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُوَافَقَةُ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ مَعْقُولًا فِيهِ أَنَّهُ عَدَلَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَأُخْرَى أَنْ لَا يُصِيبَ الْمُشْرِكُونَ غِرَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قَالَ: فَأَيْنَ مُوَافَقَةُ الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ: قَالَ اللَّهُ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] إِلَى {وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَذَكَرَ اللَّهُ صَلَاةَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى مَعَهُ، قَالَ: فَإِذَا سَجَدُوا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِذَا سَجَدُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ السُّجُودِ كُلِّهِ، كَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى مَا احْتَمَلَ الْقُرْآنُ مِنْ هَذَا، فَكَانَ أَوْلَى مَعَانِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ اللَّهُ خُرُوجَ الْإِمَامِ بِالطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ قَضَاءً. وَهَكَذَا حَدِيثُ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: وَلَمَّا كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مَأْمُورَةً بِالْوُقُوفِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْوَاقِفَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَرَى مِنْ حَرَكَةِ الْعَدُوِّ وَإِرَادَتِهِ وَمَدَدًا إِذَا جَاءَهُ، فَيَفْهَمُهُ عَنْهُ الْإِمَامُ وَالْمُصَلُّونَ، فَيُخَفِّفُ أَوْ يَقْطَعُ، أَوْ يُعْلِمُونَهُ أَنَّ حَرَكَتَهُمْ حَرَكَةٌ لَا خَوْفَ فِيهَا عَلَيْهِمْ، فَيُقِيمُ عَلَى صَلَاتِهِ مُطِيلًا لَا مُعَجِّلًا، وَتُخَالِفُهُمُ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَائِهَا أَوْ بَعْضُهَا، وَهِيَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَالْحَارِسُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ أَقْوَى مِنَ الْحارسِ مُصَلِّيًا، فَكَانَ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، إِذَا حَرَسَتِ الْأُولَى إِذْ صَارَتْ مُصَلِّيَةً، أَشْبَهَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى قَدْ أَخَذَتْ مِنَ الْآخِرَةِ مَا لَمْ تُعْطِهَا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُخَالِفُ حَدِيثَ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ تَكُونُ فِيهِ الطَّائِفَتَانِ مَعًا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ، لَيْسَ لَهَا حَارِسٌ إِلَّا الْإِمَامَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِحِرَاسَةِ الْأُخْرَى، وَالطَّائِفَةُ الْجَمَاعَةُ لَا الْإِمَامُ الْوَاحِدُ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يُصِيبَ الْمُشْرِكُونَ غِرَّةً مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، وَحَدِيثُ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ كَمَا وَصَفْنَا أَقْوَى فِي الْمَكِيدَةِ، وَأَحْصَنُ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي يُخَالِفُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَبِهَذِهِ الدَّلَائِلِ قُلْنَا بِحَدِيثِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ لَا يُثْبِتُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِثْلَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي قَرَدٍ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا، فَكَانَتْ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رَكْعَةٌ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ عَدَدِ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا عَلَى الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّاسِ وَاحِدٌ فِي الْعَدَدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مِثْلُهُ لِشَيْءٍ فِي بَعْضِ إِسْنَادِهِ. قَالَ: وَرُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَحَادِيثُ لَا تُضَادُّ حَدِيثَ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَابِرًا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 638] صَلَّى بِبَطْنِ نَخْلٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ. وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مَحْرُوسَتَانِ، فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ هَكَذَا أَجْزَأَ عَنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رَوَى أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ، أَنَّ الْعَدُوَّ كَانَ فِي الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ بِالطَّائِفَتَيْنِ مَعًا بِعُسْفَانَ، فَرَكَعَ وَرَكَعُوا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَقَامَتْ طَائِفَةٌ تَحْرُسُهُ، فَلَمَّا قَامَ سَجَدَ الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ. وَهَكَذَا نَقُولُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ كَانُوا كَثِيرًا، وَالْعَدُوُّ قَلِيلًا، لَا حَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يُخَافُ حَمْلَتَهُمْ، فَإِذَا كَانُوا هَكَذَا صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ هَكَذَا، وَلَيْسَ هَذَا مُضَادًّا لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَخَذْنَا بِهِ، وَلَكِنَّ الْحَالَيْنِ مُخْتَلِفَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 637 بَابُ صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 قَالَ الْرَّبِيْعُ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، فَحَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَحَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى النَّبِيُّ فَحَكَتْ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَبِهَذَا نَقُولُ إِذَا كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ فِي كُسُوفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ صَلَّى الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ كَذَلِكَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 بَابُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَقَالَ: يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي النَّاسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْسَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَذَكَرْتُ لَهُ بَعْضَ حَدِيثِنَا، فَقَالَ: هَذَا ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِحَدِيثٍ لَنَا غَيْرِهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ، وَذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي مَعْنَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْحَدِيثَ إِذَا جَاءَ مِنْ وَجْهَيْنِ فَاخْتَلَفَا، وَكَانَ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ، كَانَ الْجَائِي بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مَا لَمْ يُثْبِتِ الَّذِي نَقَصَ الْحَدِيثَ؟ قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ: فَفِي حَدِيثِنَا الزِّيَادَةُ الَّتِي تَسْمَعُ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: عَلَيْكَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: فَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ يَقُولُ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَذْكُرُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، فَقُلْتُ: فَالنُّعْمَانُ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَظَرَ فَلَمْ تَنْجَلِ الشَّمْسُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، أَفَتَأْخُذُ بِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَنْتَ إِذًا تُخَالِفُ حَدِيثَ النُّعْمَانِ وَحَدِيثَنَا، وَلَيْسَ لَكَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ إِلَّا مَا لَكَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَسَمُرَةَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إِسْنَادَنَا فِي حَدِيثِنَا مِنْ أَثْبَتِ إِسْنَادِ النَّاسِ، فَقَالَ: رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 صَلَّى ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَتَقُولُ بِهِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لِمَ لَمْ تَقُلْ بِهِ أَنْتَ، وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِكُمْ؟ قُلْتُ: لَمْ نُثْبِتْهُ، قَالَ: وَلِمَ لَا تُثْبِتُهُ؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ وَجْهٍ مُنْقَطِعٌ، وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُ الْمُنْقَطِعَ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ، وَوَجْهٍ نَرَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ غَلَطًا، قَالَ: وَهَلْ تَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَلَاةً ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ يَقُولُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ سِتَّ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا وَمَعَ الْمَحْفُوظِ عِنْدَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأَبِي مُوسَى وَكَثِيرِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ، مُوَافِقَةٌ كُلُّهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ، قَالَ: فَمَا جَعَلَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَثْبَتَ مِنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقَةٌ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْهُ، قَالَ: فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 قِيلَ: رَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُمَرَ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ زَمْزَمَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ. قَالَ: وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُصَلِّي فِي الْخُسُوفِ خِلَافَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَعُمَرُ وَصَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَ مَا رَوَى سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، كَانَتْ رِوَايَةُ ثَلَاثَةٍ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَكْثَرُ حَدِيثًا وَأَشْبَهُ بِالْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَّقَ بَيْنَ خُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزَّلْزَلَةِ، وَإِنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَأَحَادِيثُنَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ مِمَّا رَوَيْتَ، فَأَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ الْأَثْبَتِ، كَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ وَأَنْتَ، قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِكُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُصَلَّى فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ كَمَا يُصَلَّى فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ، قُلْتُ: فَقَدْ خَالَفَنَا نَحْنُ وَأَنْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ قَوْلَهُ، قَالَ: فَمَا الْحُجَّةُ عَلَيْكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» ، ثُمَّ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ الَّذِي فَزِعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ الصَّلَاةَ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ، وَأَمْرُهُ مِثْلُ فِعْلِهِ، وَقَدْ أَمَرَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ بِالْفَزَعِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَنْ يَفْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِلَى الصَّلَاةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ كَمَا صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ تَرَاهُ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مَا يَعْلَمُ كُلُّ النَّاسِ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا يُؤْمَنُ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَجْهَلَهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 بَابُ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَنَا أَسْمَعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ، فَأغْتَسِلُ، وَأَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَأَبِي عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَتَذْهَبَنَّ إِلَى أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، فَتَسْأَلُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَذَهَبْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا [ص: 640] كُنَّا عِنْدَ مَرْوَانَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا أَفْطَرَ الْيَوْمَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَتَرْغَبُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا وَاللَّهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ» . قَالَ: ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا قَالَتَا فَأَخْبَرَهُ، قَالَ مَرْوَانُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَتَرْكَبَنَّ دَابَّتِي بِالْبَابِ، فَلَتَأْتِيَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَلْتُخْبِرْهُ بِذَلِكَ، قَالَ: فَرَكِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَكِبْتُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا عِلْمَ لِي بِذَلِكَ، إِنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الصُّبْحُ وَهُوَ جُنُبٌ فَيَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ يَوْمَهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِمَعَانٍ، مِنْهَا أَنَّهُمَا زَوْجَتَاهُ، وَزَوْجَتَاهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ رَجُلٍ إِنَّمَا يَعْرِفُهُ سَمَاعًا أَوْ خَبَرًا، وَمِنْهَا أَنَّ عَائِشَةَ مُقَدَّمَةٌ فِي الْحِفْظِ، وَأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَافِظَةٌ، وَرِوَايَةُ اثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ رِوَايَةِ وَاحِدٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الَّذِيَ رَوَتَا عَنِ النَّبِيِّ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَعْقُولِ، وَالْأَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا يُعْرَفُ مِنْهُ فِي الْمَعْقُولِ؟ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْجِمَاعُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مُبَاحًا فِي اللَّيْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَمَمْنُوعًا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَكَانَ الْجِمَاعُ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَمَا كَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُبَاحًا؟ فَإِذَا قِيلَ: بَلَى، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ الْغُسْلَ هُوَ الْجِمَاعُ أَمْ هُوَ شَيْءٌ وَجَبَ بِالْجِمَاعِ؟ فَإِنْ قَالَ: هُوَ شَيْءٌ وَجَبَ بِالْجِمَاعِ، قِيلَ: وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّائِمِ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: فَبِذَلِكَ زَعَمْنَا أَنَّ الرَّجُلَ يُتِمُّ صَوْمَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَلِمُ بِالنَّهَارِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَيُتِمُّ صَوْمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْ فِي نَهَارٍ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ إِفْطَارًا، فَإِنْ قَالَ: فَهَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ سُنَّةٌ تُشْبِهُ هَذَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، الدَّلَالَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَدْ كَانَ تَطَيَّبَ حَلَالًا قَبْلُ، يُحْرِمُ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ التَّطَيُّبِ كَانَ وَهُوَ مُبَاحٌ، وَهَذَا فِي أَكْثَرِ مَعْنَى مَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ مِنْ جِمَاعٍ مُتَقَدِّمٍ، قَبْلُ يَحْرُمُ الْجِمَاعُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَنَّى تَرَى الَّذِي رَوَى خِلَافَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ؟ قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: قَدْ يَسْمَعُ الرَّجُلُ سَائِلًا يَسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ جَامَعَ أَهْلَهُ بِلَيْلٍ، وَأَقَامَ بَعْدَ الْفَجْرِ شَيْئًا، فَأُمِرَ بِأَنْ يَقْضِيَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِمَاعِ قَدْ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ إِذَا أَمْكَنَ هَذَا عَلَى مُحَدِّثٍ ثِقَةٍ ثَبَتَ حَدِيثُهُ، وَلَزِمَتْ بِهِ حُجَّةٌ؟ قِيلَ: كَمَا يَلْزَمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْحَكَمُ فِي الْمَالِ وَالدَّمِ مَا لَمْ يُخَالِفْهُمَا غَيْرُهُمَا، وَقَدْ يُمْكِنُ عَلَيْهِمَا الْغَلَطُ وَالْكَذِبُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَوْ شَهِدَ غَيْرُهُمَا بِضِدِّ شَهَادَتِهِمَا، كَمَا يَسْتَعْمِلُهَا إِذَا انْفَرَدَا، فَحُكْمُ الْمُحَدِّثُ لَا يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ كَحُكْمِ غَيْرِهِمَا، وَيَحُولُ حُكْمُهُ إِذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ بِمَا وَصَفْتُ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْأَحْفَظِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ بِمَا وَصَفْتُ بِمَا لَا يُؤْخَذُ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ بِحَالٍ إِنْ كَانَ إِلَّا قَلِيلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 بَابُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَبِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ زَمَانَ الْفَتْحِ، فَرَأَى رَجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ [ص: 641] ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ احْتَجَمَ مُحْرِمًا صَائِمًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَمَاعُ ابْنِ أَوْسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَامَ الْفَتْحِ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا، وَلَمْ يَصْحَبْهُ مُحْرِمًا قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَذِكْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ حِجَامَةَ النَّبِيِّ عَامَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَحَدِيثُ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» فِي الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ قَبْلَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِسَنَتَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَا ثَابِتَيْنِ فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَاسِخٌ، وَحَدِيثُ إِفْطَارِ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ مَنْسُوخٌ، قَالَ: وَإِسْنَادُ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا مُشْتَبَهٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْثَلُهُمَا إِسْنَادًا، فَإِنْ تَوَقَّى رَجُلٌ الْحِجَامَةَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ احْتِيَاطًا، وَلِئَلَّا يُعَرِّضَ صَوْمَهُ أَنْ يَضْعُفَ فَيُفْطِرَ، وَإِنِ احْتَجَمَ فَلَا تُفْطِرُهُ الْحِجَامَةُ، إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ بَعْدَهَا مَا يُفْطِرُهُ مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْتَجِمْ فَفَعَلَهُ فَطَّرَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقِيَاسُ، أَنْ لَيْسَ الْفِطْرُ مِنْ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْ جَسَدٍ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ الصَّائِمُ مِنْ جَوْفِهِ مُتَقَيِّئًا، وَأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُنْزِلُ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ، فَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، وَيَعْرَقُ وَيَتَوَضَّأُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْخَلَاءُ وَالرِّيحُ وَالْبَوْلُ، وَيَغْتَسِلُ وَيَتَنَوَّرُ، فَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ مِنْ إِدْخَالِ الْبَدَنِ، أَوِ التَّلَذُّذِ بِالْجِمَاعِ، أَوِ التَّقَيُّؤِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ جَوْفِهِ كَمَا عَمَدَ إِدْخَالَهُ فِيهِ، قَالَ: وَالَّذِي أَحْفَظُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَالتَّابِعِينَ وَعَامَّةِ الْمَدَنِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ أَحَدٌ بِالْحِجَامَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 بَابُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: أَتَجْعَلُ يَزِيدَ بْنَ الْأَصَمِّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ أَحَدِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَلَا يَخْطُبُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ، وَالنَّبِيُّ بِالْمَدِينَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: وَهِمَ فُلَانٌ، مَا نَكَحَ رَسُولُ اللَّهِ مَيْمُونَةَ إِلَّا وَهُوَ حَلَالٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 قَالَ: رَوَى بَعْضُ قَرَابَةِ مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ مُحْرِمًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ أَشْبَهُ الْأَحَادِيثِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَكَحَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا، فَإِنْ قِيلَ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَثْبَتُهَا؟ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكَحُ، وَعُثْمَانُ مُتَقَدِّمُ الصُّحْبَةِ، وَمَنْ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ يَنْكِحُهَا مُحْرِمًا لَمْ يَصْحَبْهُ إِلَّا بَعْدَ السَّفَرِ الَّذِي نَكَحَ فِيهِ مَيْمُونَةَ، وَإِنَّمَا نَكَحَهَا قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَقِيلَ لَهُ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَدِيثَانِ، فَالْمُتَّصِلُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَوْلَى عِنْدَنَا إِنْ ثَبَتَ، لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُجَّةُ إِلَّا فِيهِ نَفْسِهِ، وَمَعَ حَدِيثِ عُثْمَانَ مَا يُوَافِقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا اتِّصَالَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ مَنْ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَكَحَهَا مُحْرِمًا قَرَابَةٌ يَعْرِفُ نِكَاحَهَا، قِيلَ: وَلِابْنِ أَخِيهَا يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ذَلِكَ الْمَكَانُ مِنْهَا، وَلِسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ مِنْهَا مَكَانُ الْوَلَايَةِ، يُشَابِهُ أَنْ يَعْرِفَ نِكَاحَهَا، فَإِذَا كَانَ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، مَعَ أَنَّهُمَا مِنْهَا يَقُولَانِ نَكَحَهَا حَلَالًا، وَكَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: نَكَحَهَا حَلَالًا، ذَهَبَتِ الْعِلَّةُ فِي أَنْ يَثْبُتَ مَنْ قَالَ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، وَبِأَنَّ حَدِيثَ عُثْمَانَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ لَا شَكَّ فِي اتِّصَالِهِ أَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ مَعَ مُوَافَقَةِ مَا وَصَفْتُ، فَأَيُّ مُحْرِمٍ نَكَحَ، أَوْ أُنْكِحَ، فَنِكَاحُهُ مَفْسُوخٌ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 بَابُ مَا يُكْرَهُ فِي الرِّبَا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْبُيُوعِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ هَذَا مَا يُوَافِقُهُ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَرَى فِي دِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ، وَلَا فِي دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، يَدًا بِيَدٍ بَأْسًا، وَيَرَاهُ فِي النَّسِيئَةِ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يُرْوَى مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَأْيًا مِنْهُمَا، لَا أَنَّهُ يَحْفَظُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ الْمَكِّيِّينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ، يَدًا بِيَدٍ، كَيْفَ شِئْتُمْ. وَنَقَصَ أَحَدُهُمَا الْمِلْحَ وَالتَّمْرَ، وَزَادَ أَحَدُهُمَا: مَنْ زَادَ، أَوِ ازْدَادَ، فَقَدْ أَرْبَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا غَائِبًا مِنْهَا بِنَاجِزٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ جَدِّهِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ، وَلَا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَخَذْنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُوَافِقُ حَدِيثَ عُبَادَةَ، وَكَانَتْ حُجَّتُنَا فِي أَخْذِنَا بِهَا، وَتَرْكِنَا حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، إِذَا كَانَ ظَاهِرُهُ يُخَالِفُهَا، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّفْسَ عَلَى حَدِيثِ الْأَكْثَرِ أَطْيَبُ؛ لِأَنَّهُمْ أَشْبَهُ أَنْ يَحْفَظُوا مِنَ الْأَقَلِّ، وَكَانَ عُثْمَانُ وَعُبَادَةُ أَسَنَّ وَأَشَدَّ تَقَدُّمَ صُحْبَةٍ مِنْ أُسَامَةَ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ أَكْثَرَ حِفْظًا عَنِ النَّبِيِّ فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ أُسَامَةَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يُخَالِفُ حَدِيثُ أُسَامَةَ أَحَادِيثَهُمْ؟ قِيلَ: إِنْ كَانَ يُخَالِفُهَا فَالْحُجَّةُ فِيهَا دُونَهُ لِمَا وَصَفْنَا، فَإِنْ قَالَ: فَأَنَّى تَرَى هَذَا؟ قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنِ الرِّبَا فِي صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، وَتَمْرٍ بِحِنْطَةٍ، فَقَالَ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، فَحَفِظَهُ، فَأَدَّى قَوْلَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يُؤَدِّ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ، فَكَانَ مَا أَدَّى مِنْهُ عِنْدَ سَمْعِهِ أَنْ لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 بَابُ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي شَيْءٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ عَادَ لَهُ حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَذَكَرَ «فَاجْلِدُوهُ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ بَلَغَنِي عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَضْلٌ، وَعِنْدَهُ أَحَادِيثُ حِسَانٌ، وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ إِلَّا ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ، وَلَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ أَوْ لَا، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: " مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي شَيْءٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ الرَّبِيعُ: أَنَا شَكَكْتُ - ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الرَّابِعَةَ أَوِ الْخَامِسَةَ قُتِلَ أَوْ خُلِعَ ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ: «مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 الْخَامِسَةَ قُتِلَ» ، ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ، فَحَدَّهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ نَسْخُهُ بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ مِثْلُهَا، وَنَسْخُهُ مُرْسَلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ» . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ فِي هَذَا حُجَّةٌ غَيْرُ مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عُثْمَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ مُسْلِمٍ إِلَّا مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي ثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى خَاصٍّ، وَيَكُونُ مَنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَنَقْتُلُهُ بِنَصِّ أَمْرِهِ، فَلَا يَكُونَانِ مُتَضَادَّيْنِ، وَلَا أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ، قِيلَ لَهُ: فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفُتْيَا يُخَالِفُ فِي أَنَّ مَنَ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي شَيْءٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ خَامِسَةً أَوْ سَادِسَةً، أُقِيمَ ذَلِكَ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُقْتَلْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ إِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَنْسُوخٌ، مَعَ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ بِمَا وَصَفْتُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ قَالَ: وَأَيْنَ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ؟ قِيلَ: إِذَا كَانَ اللَّهُ وَضَعَ الْقَتْلَ مَوْضِعًا، وَالْجَلْدَ مَوْضِعًا، فَلَا يَجُوزُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُوضَعَ الْقَتْلُ مَوْضِعَ الْجَلْدِ إِلَّا بِشَيْءٍ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ، لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَلَا نَاسِخَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 بَابُ لُحُومِ الضَّحَايَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ» . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: فَذَكَرْتُ لِعَمْرَةَ، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «ادَّخِرُوا لِثَلَاثٍ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ» . قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ: لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، يَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَاكَ؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَهَيْتَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ حَضْرَةَ الْأَضْحَى، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا» . قَالَ: فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثَةٍ إِذْ كَانَتِ الدَّافَّةُ عَلَى مَعْنَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: يُشْبِهُ الِاخْتِيَارَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْبُدْنِ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبُدْنِ الَّتِي يَتَطَوَّعُ بِهَا أَصْحَابُهَا، لَا الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِهَا، وَإِنَّمَا أَكْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْيِهِ أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا، فَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنَ الْهَدْيِ كُلِّهِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا، كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ زَكَاتِهِ، وَلَا مِنْ كَفَّارَةٍ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، فَأَكَلَ بَعْضَهُ، فَلَمْ يُخْرِجْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ، وَأُحِبُّ لِمَنْ أَهْدَى نَافِلَةً أَنْ يُطْعِمَ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وَقَوْلِهِ {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، الْقَانِعُ: هُوَ السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الزَّائِرُ وَالْمَارُّ بِلَا وَقْتٍ، فَإِذَا أَطْعَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنَ الْمُطْعِمِينَ، فَأَحَبُّ إِلَيَّ مَا أَكْثَرَ أَنْ يُطْعِمَ ثُلُثًا، وَيَهْدِي ثُلُثًا، وَيَدَّخِرَ ثُلُثًا، وَيَهْبِطَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَالضَّحَايَا مِنْ هَذِهِ السَّبِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأُحِبُّ إِنْ كَانَتْ فِي النَّاسِ مَخْمَصَةٌ أَنْ لَا يَدَّخِرَ أَحَدٌ مِنْ أُضْحِيَتِهِ، وَلَا مِنْ هَدْيِهِ، أَكْثَرَ مِنْ [ص: 644] ثَلَاثٍ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّافَّةِ، فَإِنْ تَرَكَ رَجُلٌ أَنْ يُطْعِمَ مِنْ هَدْيِ تَطَوُّعٍ، أَوْ أُضْحِيَّةٍ، فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِلْضَحِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ إِذْ جَاءَهُ قَانِعٌ أَوْ مُعْتَرٌّ أَوْ بَائِسٌ فَقِيرٌ شَيْئًا؛ لِيَكُونَ عِوَضًا مِمَّا مَنَعَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْأَضْحَى. قَالَ: وَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَتَكَلَّمُ فَيَفْرَغُ، فَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَعَادَ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤَخِّرُ وَيُقَدِّمُ، وَكَذَا لَوْ قَدِمَ الْإِمَامُ فَصَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَضَحَّى رَجُلٌ أَعَادَ، إِنَّمَا الْوَقْتُ فِي قَدْرِ صَلَاةِ النَّبِيِّ الَّتِي كَانَ يَضَعُهَا مَوْضِعَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 بَابُ الْعُقُوبَاتِ فِي الْمَعَاصِي قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحَدُّ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ، وَنُسِخَتِ الْعُقُوبَاتُ فِيمَا فِيهِ الْحُدُودُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي الشَّارِبِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي؟» وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَاتٌ، وَأَسْوَأُ السَّرِقَةِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ» ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ. قَالَ: وَمَثَلُ مَعْنَى هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْعُقُوبَةِ لِلزَّانِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا عَنِ الزُّنَاةِ كُلِّهِمُ؛ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، فَحَدَّ اللَّهُ الْبِكْرَيْنِ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ فَقَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: «الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ: " إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا أَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَرَجَمْنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَزَادَ سُفْيَانُ: وَسُئِلَ أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ أَنَّ ابْنَهُ زَنَى بِامْرَأَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا أَنْ يَغْدُوَ عَلَى امْرَأَةِ الْآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا» . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ ابْنُهُ بِكْرًا، وَامْرَأَةُ الْآخَرِ ثَيِّبًا. قَالَ: فَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ اللَّهِ حَدَّ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي الزِّنَا، فَدَلَّ ذَلِكَ مِثْلَ مَا قَالَ عُمَرُ مِنْ حَدِّ الثَّيِّبِ فِي الزِّنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْإِمَاءِ {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، فَعَقَلْنَا عَنِ اللَّهِ أَنَّ عَلَى الْإِمَاءِ ضَرْبَ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ النِّصْفُ إِلَّا لِمَا يَتَجَزَّأُ، فَأَمَّا الرَّجْمُ فَلَا نِصْفَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَرْجُومَ قَدْ يَمُوتُ بِأَوَّلِ حَجَرٍ، وَقَدْ لَا يَمُوتُ إِلَّا بَعْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْحِجَارَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبَادَةَ حِطَّانُ الرَّقَاشِيُّ، وَلَا أَدْرِي أَدْخَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بَيْنَهُمَا، فَزَالَ مِنْ كِتَابِي حِينَ حَوَّلْتُهُ مِنَ الْأَصْلِ أَمْ لَا، وَالْأَصْلُ يَوْمَ كَتَبْتُ هَذَا الْكِتَابَ غَائِبٌ عَنِّي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ نَاسِخٍ مِنْ حَبْسِ الزَّانِيَّيْنِ، وَأَذَاهُمَا، وَأَوَّلَ حَدٍّ نَزَلَ فِيهِمَا، وَكَانَ فِيهِ مَا [ص: 645] وَصَفْتُ فِي أَحَادِيثَ قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ حَدَّ الزِّنَا لِلْبِكْرَيْنِ وَالثَّيِّبَيْنِ، وَأَنَّ مِنْ حَدِّ الْبِكْرَيْنِ النَّفْيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ ضَرْبِ مِائَةٍ، وَنُسِخَ الْجَلْدُ عَنِ الثَّيِّبَيْنِ، وَأَقَرَّ أَحَدَهُمَا الرَّجْمَ، فَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ رَجُلٍ، وَرَجَمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، وَلَمْ يَجْلِدُوا وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَمَاعِزَ بَعْدَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» . قِيلَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ: «خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» ، كَانَ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا أَوَّلَ حَدٍّ حُدَّ بِهِ الزَّانِيَانِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ فَكُلُّ شَيْءٍ جَدَّ بَعْدُ يُخَالِفُهُ، فَالْعِلْمُ يُحِيطُ بِأَنَّهُ بَعْدَهُ، وَالَّذِي بَعْدُ يَنْسَخُ مَا قَبْلَهُ إِذَا كَانَ يُخَالِفُهُ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا هَذَا، وَالَّذِي نَسَخَهُ فِي حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَجَمَهَا أُنَيْسٌ مَعَ حَدِيثِ مَاعِزٍ وَغَيْرِهِ، فَكَانَتِ الْحُدُودُ ثَابِتَةً عَلَى الْمَحْدُودِينَ مَا أَتَوَا الْحُدُودَ، وَإِنْ كَثُرَ إِتْيَانُهُمْ لَهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْوَالِ جَانُونَ مَا حُدُّوا فِيهِ، وَهُمْ زُنَاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَبَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَكَذَلِكَ الْقَذَفَةُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ أَنْ يُجْلَدُوا ثَمَانِينَ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحُدُودِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا» ، ثُمَّ قَالَ: «فَلْيَبِعْهَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ فِي الشَّارِبِ يُجْلَدُ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، ثُمَّ يُقْتَلُ، ثُمَّ حُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ جَلَدَ الشَّارِبَ الْعَدَدَ الَّذِي قَالَ يُقْتَلُ بَعْدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَجَلَدَهُ وَوَضَعَ الْقَتْلَ، وَصَارَتْ رُخْصَةً. وَالْقَتْلُ عَمَّنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي شَيْءٍ أَرْبَعًا، فَأُتِيَ بِهِ الْخَامِسَةَ، مَنْسُوخٌ بِمَا وَصَفْتُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْأَمَةِ بَعْدَ زِنَاهَا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 بَابُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ أَرْضَاهُمَا، عَنْ أَبِيهِمَا، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَخْتَصِيَ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ رَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ إِلَى أَجَلٍ بِالشَّيْءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْإِرْخَاصَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ شَيْئًا يَدُلُّ أَهُوَ قَبْلَ خَيْبَرَ أَمْ بَعْدَهَا، فَأَشْبَهَ حَدِيثَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ عَنِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَكُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ نَاسِخًا، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ يَثْبُتُ، فَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَحَلَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: «هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بَيَانُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا رَوَى إِحْلَالَ الْمُتْعَةِ، سَقَطَ تَحْلِيلُهَا بِدَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ حَيْثُ سُئِلْنَا عَنْهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 بَابُ الْخِلَافِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا مُخَالِفُونَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا مِنْ يَهُودِيَّاتٍ فِي دَارِ الشِّرْكِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ لَهُمْ لَا عَلَى تَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْتَمْتَعُوا عَامَ الْفَتْحِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ، فَقِيلَ لَهُ: الْحَدِيثُ عَامَ الْفَتْحِ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ عَلَى الْأَبَدِ أَبْيَنُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ بِالْإِرْخَاصِ فِي الْمُتْعَةِ، وَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا تَحْرِيمٌ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ دَلَالَةٌ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لَا تَحْرِيمٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نَاسِخٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، الْإِرْخَاصُ فِيهَا أَوْلَى أَمِ النَّهْيُ عَنْهَا؟ قُلْنَا: بَلِ النَّهْيُ عَنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوْلَى، قَالَ: فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قُلْتُ: قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 : 6] ، فَحَرَّمَ النِّسَاءَ إِلَّا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَقَالَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ} [الأحزاب: 49] ، فَأَحَلَّهُنَّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُنَّ إِلَّا بِالطَّلَاقِ، وَقَالَ فِي الطَّلَاقِ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وَقَالَ {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] ، فَجَعَلَ إِلَى الْأَزْوَاجِ فُرْقَةَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ مَنْسُوخًا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِمَا وَصَفَهُ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً مُدَّةً، ثُمَّ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِلَا إِحْدَاثِ طَلَاقٍ مِنْهُ، وَفِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إِبْطَالُ مَا وَصَفْتُ مِمَّا جُعِلَ إِلَى الْأَزْوَاجِ مِنَ الْإِمْسَاكِ وَالطَّلَاقِ، وَإِبْطَالُ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ الَّتِي حَكَمَ اللَّهُ بِهَا فِي الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ إِحْدَاثِ الطَّلَاقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 بَابٌ فِي الْجَنَائِزِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَوَوْا شَبِيهًا بِمَا يُوَافِقُهُ، وَهَذَا لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ قَامَ لَهَا لِعِلَّةٍ قَدْ رَوَاهَا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّ جَنَازَةَ يَهُودِيٍّ مُرَّ بِهَا عَلَى النَّبِيِّ، فَقَامَ لَهَا كَرَاهِيَةَ أَنْ تَطُولَهُ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ تَرْكُهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي الْآخِرِ مِنْ أَمْرِهِ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَاجِبًا؛ فَالْآخِرُ مِنْ أَمْرِهِ نَاسِخٌ وَإِنْ كَانَ اسْتِحْبَابًا، فَالْآخِرُ هُوَ الِاسْتِحْبَابُ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَلَا بَأْسَ بِالْقِيَامِ، وَالْقُعُودُ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ لِأَنَّهُ الْآخِرُ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَقُومُ فِي الْجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 بَابُ الشُّفْعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِثْلَهُ، أَوْ مِثْلَ مَعْنَاهُ لَا يُخَالِفُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 وَبِهِ أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَقُولُ، فَنَقُولُ: لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِمَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلِمْنَا أَنَّ الدَّارَ إِذَا كَانَتْ مُشَاعَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْهَا، فَلَيْسَ يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ، إِلَّا وَلِصَاحِبِهِ نِصْفُهُ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّرِيكِ لِلْبَائِعِ هَذَا الْمَدْخَلَ كَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَسَمَ الشَّرِيكَانِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بَاعَ نَصِيبًا لَا حَظَّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِجَارِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقُهُمَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ غَيْرُ الْمَبِيعِ، كَمَا لَمْ يَكُونَا بِشَرْكَتِهِمَا فِي الطَّرِيقِ شَرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ الْمَقْسُومَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِالشِّرْكِ فِي الطَّرِيقِ شُفْعَةٌ فِي دَارٍ لَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ فِيهَا، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثَانِ ذَهَبَ إِلَيْهِمَا صِنْفَانُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِنَا، أَمَّا أَحَدُهُمَا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 فَإِنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَزَادَ فِي [ص: 647] حَدِيثِ بَعْضِ مَنْ خَالَفَنَا، أَنَّهُ كَانَ لِأَبِي رَافِعٍ بَيْتٌ فِي دَارِ رَجُلٍ، فَعَرَضَ الْبَيْتَ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَالَ: قَدْ أُعْطِيتُ بِهِ ثَمَانَمِائَةٍ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ الَّذِي خَالَفَنَا: أَتَأَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَقُولُ: لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ شُفْعَةٌ، وَلِلْجَارِ الْمُقَاسِمِ شُفْعَةٌ، كَانَ لَاصِقًا أَوْ غَيْرَ لَاصِقٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ الَّتِي بِيعَتْ طَرِيقٌ نَافِذَةٌ، وَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: أَبُو رَافِعٍ يَرَى الشُّفْعَةَ لِلَّذِي بَيْتُهُ فِي دَارِهِ، وَالْبَيْتُ مَقْسُومٌ؛ لِأَنَّهُ مُلَاصِقٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: أَبُو رَافِعٍ فِيمَا رَوَيْتُ عَنْهُ مُتَطَوِّعٌ بِمَا صَنَعَ، قَالَ: وَكَيْفَ قُلْتَ؟ هَلْ كَانَ عَلَى أَبِي رَافِعٍ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَيْتَ بِشَيْءٍ قَبْلَ بَيْعِهِ، أَوَلَمْ تَكُنْ لَهُ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَبِيعَهُ؟ قَالَ: بَلْ لَيْسَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَبِيعَهُ أَبُو رَافِعٍ، قُلْتُ: فَإِنْ بَاعَهُ أَبُو رَافِعٍ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَبِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ لَا يَنْقُصُهُ الْبَائِعُ، وَلَا أَنَّ عَلَى أَبِي رَافِعٍ أَنْ يَضَعَ مِنْ ثَمَنِهِ عَنْهُ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا وَصَفْتُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ كُلُّهُ تَطَوُّعٌ؟ قَالَ: فَقَدْ رَأَى لَهُ الشُّفْعَةَ فِي بَيْتٍ لَهُ، فَقُلْتُ: وَإِنْ رَأَى الشُّفْعَةَ فِي بَيْتٍ لَهُ مَا كَانَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَارَضَ حَدِيثَنَا، بَلْ حَدِيثُ النَّبِيِّ إِنَّمَا يُعَارَضُ بِحَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ، فَأَمَّا رَأْيُ رَجُلٍ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثَ النَّبِيِّ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: أَلَسْتَ تَسْمَعُهُ حِينَ حَكَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ، لَا مَا أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ، قَالَ: بَلْ هَكَذَا حِكَايَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ، قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ لَا يَرَى لَهُ الشُّفْعَةَ، فَتَطَوَّعَ لَهُ بِمَا لَا يَرَى كَمَا يَتَطَوَّعُ لَهُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ مَا يَرَاهُ عَلَيْهِ قِيلَ: فَقَدْ رَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَيْتًا لَمْ يَبِعْهُ بِنِصْفِ مَا أَعْطَى بِهِ، قَالَ: لَا أُرَاهُ يَرَى هَذَا، قُلْتُ: وَلَا أَرَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ شُفَعًا فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنْ أَحْسَنُ أَنْ يَفْعَلَ، وَقُلْتُ لَهُ: نَحْنُ نَعْلَمُ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ، لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنَيَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، قَالَ: فَمَا هُمَا؟ قُلْتُ: أَنْ يَكُونَ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَخْلُ أَكْثَرُهَا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ الشُّفْعَةَ لِكُلِّ جَارٍ، أَوْ أَرَادَ بَعْضَ الْجِيرَانِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ خَرَجَ عَامًّا أَرَادَ بِهِ خَاصًّا إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَوْ إِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ دُونَ الْجَارِ الْمُقَاسِمِ، وَقُلْتُ لَهُ: حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ جُمْلَةٌ، وَقَوْلُنَا عَنِ النَّبِيِّ مَنْصُوصٌ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، قَالَ: فَمَا مَعْنَى الثَّانِي الَّذِي يَحْتَمِلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ؟ قُلْتُ: أَنْ تَكُونَ الشُّفْعَةُ لِكُلِّ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ جِوَارٍ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِحَدِيثِنَا، وَلَا بِمَا تَأَوَّلْتَ مِنْ حَدِيثِكَ، وَلَا بِهَذِهِ الْمَعَانِي، قَالَ: وَلَا يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ، قُلْتُ: أَجَلْ لَا يَقُولُ بِهَذَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرَادَ أَنَّ الشُّفْعَةَ لِبَعْضِ الْجِيرَانِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِجَارٍ لَمْ يُقَاسِمْ، قَالَ: أَفَيَقَعُ اسْمُ الْجِوَارِ عَلَى الشَّرِيكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَعَلَى الْمُلَاصِقِ، وَعَلَى غَيْرِ الْمُلَاصِقِ، قَالَ: فَالشَّرِيكُ يَنْفَرِدُ بِاسْمِ الشَّرِيكِ، قُلْتُ: أَجَلْ، وَالْمُلَاصِقِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِ الْمُلَاصَقَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْجِيرَانِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِوَارِ، قَالَ: أَفَتَجِدُونِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجِوَارِ يَقَعُ عَلَى الشَّرِيكِ؟ قُلْتُ: زَوْجَتُكَ الَّتِي هِيَ قَرِينَتُكَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجِوَارِ. قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ: كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي، يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الْأَعْشَى: [البحر الطويل] أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ ... وَمَوْمُوقَةٌ مَا كُنْتِ فِينَا وَوَامِقَةْ كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ تَغْدُو وَطَارِقَةْ ... وَبِينِي فَإِنَّ الْبَيْنَ خَيْرٌ مِنَ الْعَصَا وَأَنْ لَا تَزَالِي فَوْقَ رَأْسِكِ بَارِقَةْ ... حَبَسْتُكِ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صَاحِبٍ وَخِفْتُ بِأَنْ تَأْتِي لَدَيَّ بِبَائِقَةْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 قَالَ الْشَّافِعِيُّ،: وَرَوَى غَيْرُنَا، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ، يُنْتَظرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَتِ الطَّرِيقُ وَاحِدَةً» . وَذَهَبَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنْ قَالَ [ص: 648] : الشُّفْعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلشَّرِيكِ، وَهُمَا إِذَا اشْتَرَكَا فِي طَرِيقٍ دُونَ الدَّارِ، وَإِنِ اقْتَسَمَا الدَّارَ شَرِيكَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيُقَالُ لَهُ: الشَّرِيكَانِ فِي الدَّارِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ دُونَ الدَّارِ؟ فَإِنْ قَالَ: فِي الطَّرِيقِ دُونَ الدَّارِ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ جَعَلْتَ الشُّفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي لَيْسَا فِيهَا بِشَرِيكَيْنِ بِالشِّرْكِ فِي الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقُ غَيْرُ الدَّارِ، أَرَأَيْتَ لَوَ بَاعَ دَارَهُمَا فِيهَا شَرِيكَانِ، وَضَمَّ فِي الشِّرَاءِ مَعَهَا دَارًا أُخْرَى غَيْرَهَا لَا شِرْكَ فِيهَا، وَلَا فِي طَرِيقِهَا، أَتَكُونُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ أَوْ فِي الشِّرْكِ؟ قَالَ: بَلْ فِي الشِّرْكِ دُونَ الدَّارِ الَّتِي ضُمَّتْ مَعَ الشِّرْكِ، قُلْتُ: وَلَا تَجْعَلُ فِيهَا شُفْعَةً إِذَا جَمَعَتْهُمَا الصَّفْقَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا شُفْعَةٌ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَكَذَلِكَ يَلْزَمُكَ أَنْ تَقُولَ أَنْ يَبْعَثَ الطَّرِيقَ، وَهِيَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَسْمُهُ، فَفِيهَا شُفْعَةٌ، وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِمَ مِنَ الدَّارِ، قَالَ: فَإِنْ قَالَ: فَإِنَّمَا ذَهَبْتُ فِيهِ إِلَى الْحَدِيثِ نَفْسِهِ، قِيلَ: سَمِعْنَا بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَقُولُ: نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظًا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ مُفَسَّرًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» . وَأَبُو سَلَمَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ، وَهُوَ مِنَ الْحُفَّاظِ، عَنْ جَابِرٍ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَيُخَالِفُ مَا رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِيهِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَبَيْنَ الْمُقَاسِمِ مَا وَصَفْتُ جُمْلَتَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ أَوْلَى الْأَحَادِيثِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُهَا إِسْنَادًا، وَأَبْيَنُهَا لَفْظًا عَنِ النَّبِيِّ، وَأَعْرَفُهَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقَاسِمِ وَغَيْرِ الْمُقَاسِمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 647 بَابٌ فِي بُكَاءِ الْحَيِّ عَلَى الْمَيِّتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 648 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ، وَهِيَ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 648 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بِمَكَّةَ، فَجِئْنَا نَشْهَدُهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهَمَا ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَيَّ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ إِذَا بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ، قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ، فَذَهَبْتُ، فَإِذَا صُهَيْبٌ، قَالَ: ادْعُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ سَمِعْتُ صُهَيْبًا يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاأُخَيَّاهُ، وَاصَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ تَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، لَا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ [ص: 649] رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيْنَ دَلَالَةُ الْكِتَابِ؟ قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وَقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] ، وَقَوْلِهِ {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَمْرَةُ أَحْفَظُ عَنْ عَائِشَةَ مِنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَحَدِيثُهَا أَشْبَهُ الْحَدِيثَيْنِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» ، فَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ؛ لِأَنَّهَا تُعَذَّبُ بِالْكُفْرِ، وَهَؤُلَاءِ يَبْكُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَا هِيَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ عَلَى الْكَافِرِ عَذَابًا أَعْلَى، فَإِنْ عُذِّبَ بِدُونِهِ، فَزِيدَ فِي عَذَابِهِ، فَبِمَا اسْتَوْجَبَ، وَمَا نِيلَ مِنْ كَافِرٍ مِنْ عَذَابٍ أَدْنَى مِنْ أَعْلَى مِنْهُ، وَمَا زِيدَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فَبِاسْتِيجَابِهِ لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ فِي بُكَائِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: يَزِيدُهُ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، قِيلَ: يَزِيدُهُ بِمَا اسْتَوْجَبَ بِعَمَلِهِ، وَيَكُونُ بُكَاؤُهُمْ سَبَبًا، لَا أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِبُكَائِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ دَلَالَةُ السُّنَّةِ؟ قِيلَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِرَجُلٍ: «ابْنُكَ هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» ، فَأَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ أَنَّ جِنَايَةَ كُلِّ امْرِئٍ عَلَيْهِ كَمَا عَمَلُهُ لَهُ، لَا لِغَيْرِهِ وَلَا عَلَيْهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 648 بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 649 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 649 أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يُعَدُّ هَذَا اخْتِلَافًا، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمُعَادِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ الْقَوْمُ عُرْبًا، إِنَّمَا عَامَّةُ مَذَاهِبِهِمْ فِي الصَّحَارِي، وَكَثِيرٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ لَا حَشَّ فِيهَا يَسْتُرُهُمْ، فَكَانَ الذَّاهِبُ لِحَاجَتِهِ إِذَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، أَوِ اسْتَدْبَرَهَا، اسْتَقْبَلَ الْمُصَلَّى بِفَرْجِهِ، أَوِ اسْتَدْبَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَرُورَةٌ فِي أَنْ يُشَرِّقُوا أَوْ يُغَرِّبُوا، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ، وَكَانَتِ الْبُيُوتُ مُخَالِفَةً لِلصَّحَرَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهَا كَانَ مَنْ فِيهِ مُسْتَتِرًا لَا يَرَاهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ أَوْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الْمَذَاهِبُ بَيْنَ الْمَنَازِلِ مُتَضَايِقَةً لَا يُمْكِنُ مِنَ التَّحَرُّفِ فِيهَا مَا يُمْكِنُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَلَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ مَا رَأَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُسْتَدْبِرٌ الْكَعْبَةَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا فِي الصَّحْرَاءِ دُونَ الْمَنَازِلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَمِعَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ النَّهْيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ مِنَ اسْتِقْبَالِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ، فَخَافَ الْمَأْثَمَ فِي أَنْ يَجْلِسَ عَلَى مِرْحَاضٍ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ، وَتَحَرَّفَ لِئَلَّا يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ، وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ النَّبِيَّ فِي مَنْزِلِهِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ، فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِحَاجَتِهِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يُرْوَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ خِلَافُهُ، وَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمْ فَرَآهُ رَأَيًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْزُوهُ إِلَى النَّبِيِّ، وَمَنْ عَلِمَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَرَآهُمَا مُحْتَمَلَيْنِ أَنْ يُسْتَعْمَلَا، اسْتَعْمَلَهُمَا مَعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَالَ [ص: 650] تَفْتَرِقُ فِيهِمَا بِمَا قُلْنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خاصَّ الْعِلْمِ لَا يُوجَدُ إِلَّا عِنْدَ الْقَلِيلِ، وَقَلَّمَا يَعُمُّ عِلْمَ الْخَاصِّ، وَهَذَا مِثْلُ حَدِيثِ النَّبِيِّ فِي الصَّلَاةِ جَالِسًا، وَالْقَوْمُ خَلْفَهُ قِيَامٌ وَجُلُوسٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ وَهْرَامَ، عَنْ طَاوُسٍ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُكْرِمَ قِبْلَةَ اللَّهِ، أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ» . قِيلَ لَهُ هَذَا مُرْسَلٌ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ كَحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ مُسْنَدٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ أَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ مِنْهُ لَوْ خَالَفَهُ، فَإِنْ كَانَ طَاوُسٌ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُكْرِمَ قِبْلَةَ اللَّهِ، أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا» ، فَإِنَّمَا سَمِعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ، فَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى إِكْرَامِ الْقِبْلَةِ، وَهِيَ أَهْلٌ أَنْ تُكْرَمَ، وَالْحَالُ فِي الصَّحَارِي كَمَا حَدَّثَ أَبُو أَيُّوبَ، وَفِي الْبُيُوتِ كَمَا حَدَّثَ ابْنُ عُمَرَ، لَا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَبْنُونَ مَسَاجِدَ بِحَطِّ حِجَارَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَنُهِيَ أَنْ تُسْتَقْبَلَ لِلْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ، فَيَكُونُ مُتَغَوِّطًا فِي الْمَسَاجِدِ أَوْ مُسْتَدْبِرًا، فَيَكُونُ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ يُعِينُ الْمُصَلِّي إِلَيْهَا، وَيَتَأَذَّى بِرِيحِهِ، وَهَذَا فِي الصَّحَارِي مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَبِغَيْرِهِ، بِأَنْ يُقَالَ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ؛ وَذَلِكَ أَنْ يَتَغَوَّطَ فِي مَمَرِّ النَّاسِ فِي طَرِيقٍ مِنْ ظِلَالِ الْمَسْجِدِ، أَوِ الْبُيُوتِ، وَالشَّجَرِ، وَالْحِجَارَةِ، وَعَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَمَوَاضِعِ حَاجَةِ النَّاسِ فِي الْمَمَرِّ وَالْمَنْزِلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 649 بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِ الْمَرْءِ مِنْهُ شَيْءٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ الرَّجُلَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَإِنْ ضَاقَ اتَّزَرَ بِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا إِجَازَةٌ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ يَقْدِرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ثَوْبِ امْرَأَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، وَالشَّيْءِ يَطْرَحُهُ عَلَى عَاتِقِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 أَخْبَرَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ بَعْضُهُ عَلَيَّ، وَبَعْضُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا حَائِضٌ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ، وَنَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اخْتِيَارٌ لَا فَرْضٌ؛ بِالدَّلَالَةِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَأَنَّهُ صَلَّى فِي مِرْطِ مَيْمُونَةَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُ عَلَى مَيْمُونَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مِرْطِهَا إِذَا كَانَ عَلَيْهَا فَأَقَلُّ مَا عَلَيْهَا مِنْهُ مَا يَسْتُرُهَا مُضْطَجِعَةً، وَيُصَلِّي النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِهِ قَائِمًا، وَيَتَعَطَّلُ بَعْضُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ يَسْتُرُهَا قَاعِدَةً فَيَكُونُ يُحِيطُ بِهَا جَالِسَةً، وَيَتَعَطَّلُ بَعْضُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتُرَهُ أَبَدًا، إِلَّا أَنْ يَأْتَزِرَ بِهِ ائْتِزَارًا، وَلَيْسَ عَلَى عَاتِقِ الْمُؤْتَزِرِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْإِزَارِ شَيْءٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي ثَوْبٍ فِي دَهْرِنَا أَنْ يَأْتَزِرَ بِهِ، ثُمَّ يَرُدَّهُ عَلَى عَاتِقَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَسْتُرُهَا، وَقَلَّمَا يُمْكِنُ هَذَا فِي ثَوْبٍ فِي الدُّنْيَا الْيَوْمَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلْيَتَوَشَّحْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلْيَأْتَزِرْ بِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِيمَا يُوَارِي عَوْرَتَهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَيْسَتِ السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 بَابُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي [ص: 651] الصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَتَيْتُهُ لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَجَلَسْتُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ أَتَيْتُهُ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ، أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَصْدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَلَّمَ النَّبِيُّ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنَ الْعَصْرِ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ، فَقَامَ الْخِرْبَاقُ، رَجُلٌ بَسِيطُ الْيَدَيْنِ، فَنَادَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ، فَصَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَبَهِذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: إِنَّ حَتْمًا أَنْ لَا يَعْمِدَ أَحَدٌ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِأَنَّهُ فِيهَا، فَإِنْ فَعَلَ انْتَقَضَتْ صَلَاتُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَلَاةً غَيْرَهَا لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ، ثُمَّ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: «وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَهَا، أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، فَتَكَلَّمَ فِيهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» ، وَلِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّمَا تَكَلَّمَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ يُخَالِفُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْكَلَامِ جُمْلَةً، وَدَلَّ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَرَّقَ بَيْنَ كَلَامِ الْعَامِدِ، وَالنَّاسِي لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 بَابُ الْخِلَافِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَاهِيًا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَمَعَ عَلَيْنَا فِيهَا حُجَجًا مَا جَمَعَهَا عَلَيْنَا فِي شَيْءٍ غَيْرَهُ إِلَّا فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَمَسْأَلَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ قَطُّ أَشْهَرُ مِنْهُ، وَمِنْ حَدِيثِ الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَلَكِنْ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخٌ، فَقُلْتُ: مَا نَسَخَهُ؟ فَقَالَ: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الَّذِي بَدَأْتُ بِهِ الَّذِي فِيهِ: " إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ أَنْ لَا تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَالنَّاسِخُ إِذَا اخْتَلَفَ الْحَدِيثَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لَهُ: أَوَلَسْتَ تَحْفَظُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فِي فِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَ: بَلَى، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِذَا كَانَ مَقْدِمُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ، ثُمَّ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ أَتَى جِذْعًا فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِهِ، أَلَيْسَ تَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُصَلِّ فِي مَسْجِدِهِ إِلَّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ مَكَّةَ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَحَدِيثُ عِمْرَانَ يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ بِنَاسِخٍ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَا أَدْرِي مَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: قَدْ بَدَأْنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ الَّذِي لَا يُشْكَلُ عَلَيْكَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعًا. قَالَ الرَّبِيعُ: أَنَا شَكَكْتُ، وَقَدْ أَقَامَ النَّبِيُّ بِالْمَدِينَةِ سِنِينَ سِوَى مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَقْدِمِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَبْلَ أَنْ يَصْحَبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ نَاسِخًا لِمَا بَعْدَهُ، قَالَ: لَا، قُلْتُ لَهُ: لَوْ كَانَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مُخَالِفًا حَدِيثَ عِمْرَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قُلْتَ، وَكَانَ عَمْدُ الْكَلَامِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ فِي صَلَاةٍ، كَهُوَ إِذَا تَكَلَّمْتَ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّكَ أَكْمَلْتَ الصَّلَاةَ، أَوْ نَسِيتَ الصَّلَاةَ، كَانَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَنْسُوخًا، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ وَلَا مَنْسُوخٍ، وَلَكِنْ وَجْهُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الذِّكْرِ، وَأَنَّ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ هَكَذَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَانَ النِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ، وَتَكَلَّمَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الْكَلَامَ مُبَاحٌ بِأَنْ يَرَى أَنْ قَدْ قَضَى الصَّلَاةَ أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ فِيهَا، لَمْ تَفْسُدِ الصَّلَاةُ، قَالَ: فَأَنْتُمْ تَرْوُونَ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ؟ قُلْتُ: فَاجْعَلْ هَذَا كَيْفَ شِئْتَ، أَلَيْسَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَالْمَدِينَةُ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَلَيْسَتْ لَكَ إِذَا كَانَ كَمَا أَرَدْتُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا وَصَفْتُ، وَقَدْ كَانَتْ بَدْرٌ بَعْدَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، قَالَ: أَفَذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَنْهُ الْمَقْتُولُ بِبَدْرٍ؟ قُلْتُ: لَا، عِمْرَانُ يُسَمِّيهِ الْخِرْبَاقَ وَيَقُولُ: قَصِيرُ الْيَدَيْنِ، أَوْ مَدِيدُ الْيَدَيْنِ، وَالْمَقْتُولُ بِبَدْرٍ ذُو الشِّمَالَيْنِ، وَلَوْ كَانَ كِلَاهُمَا ذَا الْيَدَيْنِ كَانَ اسْمًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَافَقَ اسْمًا كَمَا تَتَّفِقُ الْأَسْمَاءُ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ: فَلَنَا حُجَّةٌ أُخْرَى، قُلْنَا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ حَكَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ بَنِي آدَمَ» ، فَقُلْتُ: فَهَذَا عَلَيْكَ وَلَا لَكَ، إِنَّمَا يَرْوِي مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَوَاءً، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْتُ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ خِلَافُهُ، قُلْتُ: فَلَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَنُكَلِّمُكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ قَبْلَ أَمْرِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ، وَيَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ أَنْ يَصْلُحَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا يَصْلُحُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا فِيمَا حَكَيْتُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِأَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُحْكَ أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي مِثْلِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ عَامِدًا لِلْكَلَامِ فِي حَدِيثِهِ، إِلَّا أَنَّهُ حَكَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ وَهُوَ جَاهِلٌ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: هَذَا فِي حَدِيثِهِ كَمَا ذَكَرْتَ، قُلْتُ: فَهُوَ عَلَيْكَ إِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ، وَلَيْسَ لَكَ إِنْ كَانَ كَمَا قُلْنَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ أَقُولُ: إِنَّهُ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ غَيْرُ مُخَالِفٍ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: فَإِنَّكُمْ خَالَفْتُمْ حِينَ فَرَّعْتُمْ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ، قُلْتُ: فَخَالَفْنَاهُ فِي الْأَصْلِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ فِي الْفَرْعِ، قُلْتُ: فَأَنْتَ خَالَفْتَهُ فِي نَصِّهِ، وَمَنْ خَالَفَ النَّصَّ عِنْدَكَ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ ضَعُفَ نَظَرُهُ فَأَخْطَأَ التَّفْرِيعَ، قَالَ: نَعَمْ، وَكُلٌّ غَيْرُ مَعْذُورٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: فَأَنْتَ خَالَفْتَ أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ، وَلَمْ نُخَالِفْ نَحْنُ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَا مِنْ فَرْعِهِ، حَرْفًا وَاحِدًا، فَعَلَيْكَ مَا عَلَيْكَ فِي خِلَافِهِ، وَفِيمَا قُلْتَ: مِنْ أَنَّا خَالَفْنَا مِنْهُ مَا لَمْ نُخَالِفْهُ، قَالَ: فَأَسْأَلُكَ حَتَّى أَعْلَمَ أَخَالَفْتَهُ أَمْ لَا؟ قُلْتُ: فَسَلْ، قَالَ: مَا تَقُولُ فِي إِمَامٍ انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ صَلَّى مَعَهُ: قَدِ انْصَرَفْتَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَسَأَلَ آخَرِينَ، فَقَالُوا: صَدَقَ؟ قُلْتُ: أَمَّا الْمَأْمُومُ الَّذِي أَخْبَرَهُ، وَالَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّهُ صَدَقَ، وَهُمْ عَلَى ذِكْرٍ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ صَلَاتَهُ، فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، قَالَ: فَأَنْتَ تَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى، وَتَقُولُ قَدْ قَضَى مَعَهُ مَنْ حَضَرَ، وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ؟ قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: فَقَدْ خَالَفْتَهُ، قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ حَالُ إِمَامِنَا مُفَارِقَةٌ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَأَيْنَ افْتِرَاقُ حَالَيْهِمَا فِي الصَّلَاةِ وَالْإِمَامَةِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنْزِلُ فَرَائِضَهُ عَلَى رَسُولِهِ فَرْضًا بَعْدَ فَرْضٍ، فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ فَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ بَعْضَ فَرْضِهِ، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: وَلَا نَشُكُّ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَلَا مُسْلِمٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَّا هُوَ يَرَى أَنْ قَدْ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: فَلَمَّا فَعَلَ لَمْ يَدْرِ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ بِحَادِثٍ مِنَ اللَّهِ أَمْ نَسِيَ النَّبِيُّ، وَكَانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 652 ذَلِكَ بَيِّنًا فِي مَسْأَلَتِهِ إِذْ قَالَ: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: وَلَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ مِنْ ذِي الْيَدَيْنِ إِذْ سَأَلَ غَيْرَهُ، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: وَلَمَّا سَأَلَ غَيْرَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ فَيَكُونُ مِثْلَهُ سَأَلَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيُّ رَدًّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْمَعِ النَّبِيُّ رَدًّا عَلَيْهِ كَانَ فِي مَعْنَى ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَدِلَّ النَّبِيُّ بِقَوْلِهِ، وَلَمْ يَدْرِ أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيَ النَّبِيُّ فَأَجَابَهُ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى ذِي الْيَدَيْنِ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِمْ جَوَابُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا أَخْبَرَهُ فَقَبِلَ قَوْلَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا حَتَّى بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ تَنَاهَتْ فَرَائِضُهُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا أَبَدًا، قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: هَذَا فَرْقٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَهُ: هَذَا فَرْقٌ بَيِّنٌ لَا يَرُدُّهُ عَالِمٌ لِبَيَانِهِ وَوُضُوحِهِ، فَقَالَ: فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِكُمْ مَنْ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّجُلُ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يُفْسِدْ صَلَاتَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا الْحُجَّةُ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا، لَا مَا قَالَ غَيْرُنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَالَ: قَدْ كَلَّمْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ فَمَا احْتَجَّ بِهَذَا، وَلَقَدْ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَى هَذَا، فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَعْلَمْتُكَ أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، وَلَا حُجَّةَ لَكَ عَلَيْنَا بِقَوْلِ غَيْرِنَا، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: فَدَعْ مَا لَا حُجَّةَ لَكَ فِيهِ، وَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَخْطَأْتَ فِي خِلَافِكَ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ مَعَ ثُبُوتِهِ، وَظَلَمْتَ نَفْسَكَ بِأَنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّا، وَمَنْ قَالَ بِهِ، نُحِلُّ الْكَلَامَ وَالْجِمَاعَ وَالْغِنَاءَ فِي الصَّلَاةِ، وَمَا أَحْلَلْنَا، وَلَا هُمْ، مِنْ هَذَا شَيْئًا قَطُّ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ الصَّلَاةَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ زَعَمْتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَلَامٌ، وَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ بَنَى، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ حُجَّةٌ إِلَّا هَذَا كَفَى بِهَا عَلَيْكَ حُجَّةً، وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى عَيْبِكُمْ خِلَافَ الْحَدِيثِ، وَكَثْرَةِ خِلَافِكُمْ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 بَابُ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " لَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ قَتْلُ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ أَقَامَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً كُلَّمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنَ الصُّبْحِ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ افْعَلْ» . فَذَكَرَ دُعَاءً طَوِيلًا، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ. قَالَ: وَحُفِظَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنِ النَّبِيِّ الْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا عِنْدَ قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَحُفِظَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ عِنْدَ قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَنَتَ وَتَرَكَ الْقُنُوتَ جُمْلَةً، وَمَنْ رَوَى مِثْلَ حَدِيثِهِ رَوَى أَنَّهُ قَنَتَ عِنْدَ قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَبَعْدَهُ، ثُمَّ تَرَكَ الْقُنُوتَ. فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ فَمَحْفُوظٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَبَعْدَهُ، وَلَمْ يَحْفَظْ عَنْهُ أَحَدٌ تَرْكَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَمَّا مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ تَرْكِ الْقُنُوتِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا أَرَادَ، فَأَمَّا الَّذِي أَرَى بِالدَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ دُونَ الصُّبْحِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، تَعْنِي ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ دُونَ الْمَغْرِبِ، وَتَرْكُ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَاتِ سِوَى الصُّبْحِ لَا يُقَالُ لَهُ نَاسِخٌ، إِنَّمَا يُقَالُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مَا اخْتَلَفَ، فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ فَمُبَاحٌ أَنْ يَقْنُتَ وَأَنْ يَدَعَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَقْنُتْ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ قَبْلَ قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَلَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ قَتْلِ أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، فَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مُبَاحٌ كَالدُّعَاءِ الْمُبَاحِ فِي الصَّلَاةِ، لَا نَاسِخَ وَلَا مَنْسُوخَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 بَابُ الطِّيبِ لِلْإِحْرَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا، تَقُولُ: «أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِيَدِيَّ هَاتَيْنِ لِإِحْرَامِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ الْبَيْتَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ لِحُرْمِهِ وَلِحِلِّهِ، فَقُلْتُ لَهَا: بِأَيٍّ الطِّيبِ؟ فَقَالَتْ: بِأَطْيَبِ الطِّيبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ لِحِلِّهِ وَلِحُرْمِهِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِالْجِعْرَانَةِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ مُقَطَّعَةٌ، يَعْنِي جُبَّةً، وَهُوَ مُضَمَّخٌ بِالْخَلُوقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَهَذِهِ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، فَنَرَى جَائِزًا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَتَطَيَّبَا بِالْغَالِيَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَبْقَى رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، إِذَا كَانَ تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَنَرَى إِذْ رَمَى الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ أَنَّ الطِّيبَ حَلَالٌ لَهُ، وَنَنْهَى الرَّجُلَ حَلَالًا بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ، وَنَأْمُرُهُ إِذَا تَزَعْفَرَ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَنْ يَغْسِلَ الزَّعْفَرَانَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ نَأْمُرُهُ إِذَا تَزَعْفَرَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَبِهِ أَثَرُ الزَّعْفَرَانِ أَنْ يَغْسِلَ الزَّعْفَرَانَ عَنْ نَفْسِهِ لِلْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ تُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ يَأْمُرُهُ بِغَسْلِ الصُّفْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَنْ يَغْسِلَ الصُّفْرَةَ عَنْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ لِكَرَاهِيَّةِ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا كَانَ التَّطَيُّبُ وَهُوَ حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ تَطَيَّبَ حَلَالًا بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ رِيحُهُ مُحْرِمًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَنَأْمُرُ الْمُحْرِمَ إِذَا هُوَ حَلَقَ أَنْ يَتَطَيَّبَ، كَمَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَلْبَسَ عَلَى مَعْنَى إِنْ شَاءَ إِبَاحَةً لَهُ لَا إِيجَابًا عَلَيْهِ، وَنُبِيحُ لَهُ الصَّيْدَ إِنْ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 بَابُ الْخِلَافِ فِي تَطَيُّبِ الْمُحْرِمِ لِلْإِحْرَامِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فِي الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحِلَاقِ، وَقَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَقَالَ: لَا يَتَطَيَّبُ بِمَا يَبْقَى رِيحُهُ عَلَيْهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَّهِنَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا لَا يَبْقَى رِيحُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ لِينُهُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَإِذْهَابِهِ الشَّعِثَ، قَالَ: وَكَانَ الَّذِي ذَكَرَ وَاحْتَجَّ بِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ مُعَاوِيَةَ وَأَحْرَمَ مَعَهُ، فَوَجَدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ الطِّيبَ، وَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَفْقَهُ وَأَحْمَدُ مَذْهَبًا مِنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرُبَّمَا قَالَ: عَنْ أَبِيهِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْهُ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ وَذَبَحْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 قَالَ سَالِمٌ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ بَعْدَ أَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، وَقَبْلَ أَنْ يَزُورَ» . قَالَ سَالِمٌ: وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا دَرَيْتُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ ذَهَبَ مَنْ خَالَفَنَا فِي تَطْيِيبِ الْمُحْرِمِ، اتَّهَمَ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ، فَهِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَثْبَتُ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْ عُمَرَ، يَرْوِيهَا عَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الرِّوَايَةُ [ص: 655] مِنْ حَدِيثِ رَجُلَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تُتَّهَمَ رِوَايَةُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ، جَازَ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ. وَلَيْسَ يَشُكُّ عَالِمٌ إِلَّا مُخْطِئٌ أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، وَقَائِلُ هَذَا يُخَالِفُ بَعْضَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي هَذَا. عُمَرُ يُبِيحُ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ إِذَا رَمَى وَحَلَقَ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَهُوَ يُحَرِّمُ الصَّيْدَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، وَهُوَ مِمَّا أَبَاحَ عُمَرُ، فَيُخَالِفُ عُمَرَ لِرَأْيِ نَفْسِهِ وَيَتَّبِعُهُ، وَيُخَالِفُ بِهِ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَثْرَةِ خِلَافِهِ عُمَرَ لِرَأْيِ نَفْسِهِ وَرَأْيِ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ. قَالَ: وَلَمْ أَعْلَمْ لَهُ مَذْهَبًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ شُبِّهَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ أَثَرَ الصُّفْرَةِ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يُخَالِفُ حَدِيثُ يَعْلَى حَدِيثَ عَائِشَةَ؟ قِيلَ: لَا , إِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ بِالْغَسْلِ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِلصُّفْرَةِ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يَغْسِلَ الصُّفْرَةَ إِلَّا لِمَا وَصَفْتُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْهَى عَنِ الطِّيبِ فِي حَالِ يَتَطَيَّبُ فِيهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِغَسْلِ الصُّفْرَةِ؛ لِأَنَّهَا طِيبٌ، كَانَ أَمْرُهُ إِيَّاهُ بِغَسْلِ الصُّفْرَةِ عَامَ الْجِعْرَانَةِ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ، وَكَانَ تَطَيُّبُهُ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ سَنَةُ عَشْرٍ، فَكَانَ تَطَيُّبُهُ لِإِحْرَامِهِ وَلِحِلِّهِ نَاسِخًا لِأَمْرِهِ الْأَعْرَابِيَّ بِغَسْلِ الصُّفْرَةِ , وَالَّذِي خَالَفَنَا يَرْوِي أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ طَيَّبَتْ مُعَاوِيَةَ، وَنَحْنُ نَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ التَّطَيُّبَ لِلْإِحْرَامِ وَالْحِلِّ، وَنَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِهِمَا , وَهُوَ يَقُولُ مَعَنَا فِي الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يُصْبِحُ جُنُبًا، أَنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ وَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ , وَالتَّطَيُّبَ كَانَ وَهُوَ مُبَاحٌ لِلرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لَا شَكَّ , وَقَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِالْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى حَالِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ إِذَا كَانَ الطِّيبُ قَبْلَهُ كَانَ تَرَكَ قَوْلَهُ؛ لِأَمْرِهِ بِالدَّهْنِ الَّذِي لَا يَبْقَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بِدَهْنٍ غَيْرِ طِيبٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ , وَلَا أَعْلَمُهُ اسْتَقَامَ عَلَى أَصْلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 بَابُ مَا يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ مِنَ الصَّيْدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ مَا فِي وَجْهِي قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، وَسَعِيدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَخَذَ رُمْحَهُ فَشَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا النَّبِيَّ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّمَا هِيَ مَطْعَمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ» . أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، فِي الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟» قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يُخَالِفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَا يُخَالِفُهُمَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبَيَانُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُخْتَلِفَةً فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهْ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ» . أَخْبَرَنَا مَنْ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ النَّبِيِّ هَكَذَا. حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا. قَالَ [ص: 656] الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ أَبِي يَحْيَى أَحْفَظُ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانُ مَعَ ابْنِ أَبِي يَحْيَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ الصَّعْبُ أَهْدَى الْحِمَارَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ حَيٍّ، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صَيْدٌ لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحِلَّ لِلْمُحْرِمِ مَا صِيدَ لَهُ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ صِيدَ لَهُ، كَانَ لَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَقُولُ حِينَئِذٍ لَهُ: «إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» ، وَبِهَذَا قُلْنَا: لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ، قَالَ: وَأَمَرَ أَصْحَابَ أَبِي قَتَادَةَ أَنْ يَأْكُلُوا مَا صَادَهُ رَفِيقُهُمْ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ لَهُمْ وَلَا بِأَمْرِهِمْ، فَحَلَّ لَهُمْ أَكْلُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِيضَاحُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ، أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ حِمَارًا، أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ عَرَضَ فِي نَفْسِ امْرِئٍ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ قَتْلَ الصَّيْدِ فَقَالَ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِيدُوا صَيْدَ الْبَحْرِ، وَأَنْ يَأْكُلُوهُ إِنْ لَمْ يَصِيدُوهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَعَامَهُ، ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ فِي أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَصِيدَ صَيْدَ الْبَحْرِ وَيَأْكُلَ طَعَامَهُ، وَقَالَ فِي سِيَاقِهَا {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، فَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَقْتُلُوا صَيْدَ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا. وَأَشْبَهَ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ صَيْدَ الْبَرِّ فِي حَالَيْنِ: أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ، وَأُمِرَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِأَنْ يَفْدِيَهُ، وَأَنْ لَا يَأْكُلَهُ إِذَا أُمِرَ بِصَيْدِهِ، فَكَانَ أَوْلَى الْمَعَانِي بِكِتَابِ اللَّهِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَوْلَى الْمَعَانِي بِنَا أَنْ لَا تَكُونَ الْأَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ تَصْدِيقَ خَبَرِ أَهْلِ الصِّدْقِ مَا أَمْكَنَ تَصْدِيقُهُ، وَخَاصُّ السُّنَّةِ إِنَّمَا هُوَ خَبَرُ خَاصَّةٍ، لَا عَامَّةٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 بَابُ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 656 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ، قَالَ: وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ: «حَتَّى يَأْذَنَ، أَوْ يَتْرُكَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 656 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِ زَوْجِهَا: «فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي» ، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» ، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ: «انْكِحِي أُسَامَةَ» ، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ. . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ غَيْرُ مُخَالِفٍ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الْمَرْءُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مِمَّا حَفِظْتُ جُمْلَةٌ عَامَّةٌ يُرَادُ بِهَا الْخَاصُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَا يَنْهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فِي حَالٍ يَخْطُبُ هُوَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ نَهْيَهُ عَنْهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيُّ حَالٍ نَهَى عَنِ الْخِطْبَةِ فِيهَا؟ قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَمَّا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ، فَإِنَّ نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِذَا أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَدَّ نِكَاحَ خَنْسَاءَ بْنَتِ خِذَامٍ، وَكَانَتْ ثَيِّبًا، فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا بِلَا رِضَاهَا، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا زَوَّجَ قَبْلَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَوَّجَ بَعْدَ رِضَاهَا كَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا، وَتِلْكَ الْحَالُ الَّتِي إِذَا زَوَّجَهَا فِيهَا الْوَلِيُّ ثَبَتَ عَلَيْهَا فِيهَا النِّكَاحُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَيْنِ لَهَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فِي النِّكَاحِ فِيهِمَا غَيْرَهُمَا، وَفَاطِمَةُ لَمْ تُعْلِمْ رَسُولَ اللَّهِ إِذْنَهَا فِي أَنْ تَزَوَّجَ مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَا جَهْمٍ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَا جَهْمٍ أَنْ يَخْطُبَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَلَا أَحْسَبُهُمَا خَطَبَاهَا إِلَّا [ص: 657] مُفْتَرِقَيْنِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا، وَأَمَةً يُزَوِّجُهَا سَيِّدُهَا، فَخُطِبَتْ، فَلَا نَنْهَى أَحَدًا أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يَعِدَهُ الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ؛ لِأَنَّ رِضَا الْأَبِّ وَالسَّيِّدِ فِيهِمَا كَرِضَاهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، قَالَ: فَقَالَ لِي قَائِلٌ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنِ الْخِطْبَةِ إِذَا رَكَنَتِ الْمَرْأَةُ، فَقُلْتُ: هَذَا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا إِذَا رَكَنَتْ أَشْبَهُ بِالنِّكَاحِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَرَكْنَ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ خَطَبَهَا رَجُلٌ فَشَتَمَتْهُ وَآذَتْهُ، ثُمَّ عَادَ فَتَرَكَتْ شَتْمَهُ وَسَكَتَتْ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَتْ: أَنْظُرُ، أَلَيْسَتْ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ تَكُونَ رَضِيَتْ بِنِكَاحِهِ مِنْهَا فِي الْحَالِ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا تَرَكَتِ الشَّتْمَ فَكَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ مِنَ الرِّضَا، وَإِذَا قَالَتْ: أَنْظُرُ، فَهِيَ أَقْرَبُ مِنَ الرِّضَا مِنْهَا إِذَا تَرَكْتِ الشَّتْمَ وَلَمْ تَقُلْ: أَنْظُرُ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ بَعْضُ هَذَا لَمْ يَسَعْ غَيْرَهُ الْخِطْبَةُ، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هِيَ رَاكِنٌ وَقَرِيبَةٌ مِنَ الرِّضَا، وَمُسْتَدَلٌّ عَلَى هَوَاهَا، لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَإِذَا لَمْ يُجَزْ إِنْكَاحُهَا فَلَا حُكْمَ يُخَالِفُ هَذَا مِنْهَا، إِلَّا أَنْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَإِذَا لَمْ تَأْذَنْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَإِنْ زَوَّجَهَا رُدَّ النِّكَاحُ، وَهِيَ إِذَا أَذِنَتْ بِالنِّكَاحِ فَعَلَى وَلِيِّهَا تَزْوِيجُهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَإِذَا زُوِّجَتْ بَعْدَ الْإِذْنِ جَازَ النِّكَاحُ، وَلَا افْتِرَاقَ لِحَالِهَا أَبَدًا إِلَّا الْإِذْنُ، وَمَا خَالَفَ مَنْ تَرَكَ الْإِذْنَ، وَمَنْ قَالَ: إِذَا رَكَنَتْ، خَالَفَ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَجُزِ الْخِطْبَةُ لِكُلِّ حَالٍ؛ لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ، وَلَمْ يَرُدَّهَا بِكُلِّ حَالٍ؛ لِجُمْلَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يُسْتَدَلَّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَيَأْتِي بِمَعْنًى يُعْرَفُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ زَادَ فِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى يَأْذَنَ، أَوْ يَتْرُكَ» ، لَا يُحِيلُ مِنَ الْأَحَادِيثِ شَيْئًا، وَإِذَا خَطَبَهَا رَجُلٌ فَأَذِنَتْ فِي إِنْكَاحِهِ ثُمَّ تَرَكَ نِكَاحَهَا وَأَذِنَ لِخَاطِبِهَا جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطُبَهَا، وَمَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَجُزْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمِنْ أَيْنَ تَرَى هَذَا كَانَ فِي الرِّوَايَةِ هَكَذَا؟ قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثٌ حَضَرَ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَذِنَتْ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» ، يَعْنِي فِي الْحَالِ الَّتِي سَأَلَ فِيهَا عَلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، فَسَمِعَ هَذَا مِنَ النَّبِيِّ وَلَمْ يَحْكِ مَا قَالَ السَّائِلُ، أَوْ سَبَقَتْهُ الْمَسْأَلَةُ، وَسَمِعَ جَوَابَ النَّبِيِّ فَاكْتَفَى بِهِ وَأَدَّاهُ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» ، إِذَا أَذِنَتْ وَكَانَ حَالُ كَذَا، فَأَدَّى بَعْضَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُؤَدِّ بَعْضًا، أَوْ حَفِظَ بَعْضًا وَأَدَّى مَا يَحْفَظُهُ، وَلَمْ يَحْفَظْ بَعْضًا، فَأَدَّى مَا أَحَاطَ بِحِفْظِهِ، وَلَمْ يَحْفَظْ بَعْضًا فَسَكَتَ عَمَّا لَمْ يَحْفَظْ، أَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ مَا سَمِعَ فَأَدَّى مَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، وَسَكَتَ عَمَّا شَكَّ فِيهِ مِنْهُ، أَوْ يَكُونُ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ دَوَّنَهُ مِمَّنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَقَدِ اعْتَبَرْنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ أَدْرَكْنَا فَرَأَيْنَا الرَّجُلَ يُسْأَلُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ حَدِيثٌ فِيهَا، فَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ بِحَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ يَكُونُ فِيهِمَا عِنْدَهُ جَوَابٌ لِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَيَتْرُكُ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَآخِرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ فِي أَوَّلِهِ تَرَكَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ جَوَابُ السَّائِلِ لَهُ فِي آخِرِهِ تَرَكَ أَوَّلَهُ، وَرُبَّمَا نَشِطَ الْمُحَدِّثُ فَأَتَى بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَخْلُو مَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 656 بَابُ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَالْفِطْرِ لَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ» . وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَصُومُ قَبْلَ الْهِلَالِ بِيَوْمٍ. قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ: يَتَقَدَّمُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَجِبْتُ مِمَّنْ يَتَقَدَّمُ الشَّهْرَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص: 658] قَالَ: «لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صِيَامًا فَلْيَصُمْهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يُصَامَ حَتَّى يُرَى الْهِلَالُ، وَلَا يُفْطَرَ حَتَّى يُرَى الْهِلَالُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَقَدْرُهَا يَتِمُّ وَيَنْقُصُ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ لَا يَصُومُوا حَتَّى يَرَوَا الْهِلَالَ، عَلَى مَعْنَى: أَنْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوَا الْهِلَالَ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَآهُ غَيْرُكُمْ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمْ صَوْمَهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْكُمْ إِتْمَامَهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ، يَعْنِي: فِيمَا قَبْلَ الصَّوْمِ مِنْ شَعْبَانَ، ثُمَّ تَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ عَلَيْكُمُ الصَّوْمَ، وَكَذَلِكَ فَاصْنَعُوا فِي عَدَدِ رَمَضَانَ، فَتَكُونُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكُمُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ صُمْتُمْ كَمَالَ الشَّهْرِ، قَالَ: وَابْنُ عُمَرَ سَمِعَ الْحَدِيثَ كَمَا وَصَفْتُ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ، قَالَ: وَحَدِيثُ الْأَوْزَاعِيِّ: «لَا تَصُومُوا إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» يَحْتَمِلُ مَعْنَى مَذْهَبِ ابْنِ عُمَرَ فِي صَوْمِهِ قَبْلَ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ تَصُومُونَ مُتَطَوِّعِينَ، لَا أَنَّ عَلَيْكُمْ وَاجِبًا أَنْ تَصُومُوا إِذَا لَمْ تَرَوَا الْهِلَالَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ خِلَافَهُ مِنْ أَنْ يَرَى أَنْ لَا يُوصَلَ رَمَضَانُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّوْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ اعْتَادَ صَوْمًا مِنْ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، فَوَافَقَ بَعْضُ ذَلِكَ الصَّوْمِ يَوْمًا يَصِلُ شَهْرَ رَمَضَانَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَخْتَارُ أَنْ يُفْطِرَ الرَّجُلُ يَوْمَ الشَّكِّ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَأَخْتَارُ صِيَامَهُ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ، وَلِهَذَا نَظِيرٌ فِي الصَّلَاةِ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 بَابُ نَفْيِ الْوَلَدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَوْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ وَسَعْدًا اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصَانِي أَخِي إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ: فَاقْبِضْهُ؛ فَإِنَّهُ ابْنِي، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ أَمَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي. فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى شَيْخٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، كَانَ يَسْكُنُ دَارَنَا، فَذَهَبْتُ مَعَهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَأَلَهُ عَنْ وِلَادٍ مِنْ وِلَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: أَمَّا الْفِرَاشُ فَلِفُلَانٍ، وَأَمَّا النُّطْفَةُ فَلِفُلَانٍ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى بِالْفِرَاشِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «انْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ، أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَلَا أُرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أُرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا» . قَالَ: فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُمَيْغِرَ سَبْطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُدَيْعِجَ جَعْدًا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ» . قَالَ: فَجَاءَتْ بِهِ أُدَيْعِجَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَفَى الْوَلَدَ عَنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ لَمْ يَأْمُرْ [ص: 659] وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَحْكَامَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَرَائِرِهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُطْلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ غَيْرَهُ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ أَنْ يَحْكُمَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ أَبَدًا بِغَيْرِ الظَّاهِرِ، وَإِبْطَالُ أَحْكَامِ التَّوَهُّمِ كُلِّهِا مِنَ الذَّرَائِعِ، وَمَا يَغْلِبُ عَلَى سَامِعِهِ وَمَا سِوَاهَا؛ وَلِأَنِّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَعُدُّ أَمْرَ الْمُنَافِقِينَ أَبْيَنَ مِنْ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ لِلْمُلَاعِنَةِ وَهِيَ حُبْلَى: إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، فَتَأْتِي بِهِ عَلَى مَا وَصَفَ أَنَّهُ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ، ثُمَّ لَا يَحُدُّ الَّذِي يُتَّهَمُ بِهِ، وَلَا هِيَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ إِلْحَاقِ النَّبِيِّ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ نَفْيُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ يُخَالِفُ حَدِيثُ نَفْيِ الْوَلَدِ عَمَّنْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ قَوْلَ النَّبِيِّ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا، وَهُوَ أَعَمُّهُمَا وَأَوْلَاهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ مَا لَمْ يَنْفِهِ رَبُّ الْفِرَاشِ بِاللِّعَانِ الَّذِي نَفَاهُ بِهِ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا نَفَاهُ بِاللَّعَّانِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ، وَغَيْرُ لَاحِقٍ بِمَنِ ادَّعَاهُ بِزِنًا، وَإِنْ أَشْبَهَهُ كَمَا لَمْ يُلْحِقِ النَّبِيُّ الْمَوْلُودَ الَّذِي نَفَاهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى غَيْرِ فِرَاشٍ، وَتَرَكَ النَّبِيُّ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ، فَجَعَلَ وَلَدَ الْعَاهِرِ لَا يُلْحَقُ، كَانَ الْعَاهِرُ لَهُ مُدَّعِيًا، أَوْ غَيْرَ مُدَّعٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي إِذَا تَنَازَعَ الْوَلَدَ رَبُّ الْفِرَاشِ وَالْعَاهِرُ، فَالْوَلَدُ لِرَبِّ الْفِرَاشِ، وَإِنْ نَفَى الرَّجُلُ الْوَلَدَ بِلِعَانٍ فَهُوَ مَنْفِيٌّ، وَإِذَا حَدَثَ إِقْرَارٌ بَعْدَ اللِّعَانِ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نُفِيَ بِهِ عَنْهُ بِالْتِعَانِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكَذِبِهِ بِالِالْتِعَانِ كَانَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ مَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ بِكُلِّ حَقٍّ لِآدَمَيٍّ مَرَّةً يُلْزِمُهُ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا أَنْفِي الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ، وَأَجْعَلُ الْوَلَدَ لِزَوْجِ الْمَرْأَةَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَقَوْلُهُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَنَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ رَبِّ الْفِرَاشِ حَدِيثٌ يُخَالِفُ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، قَالَ: وَحَدِيثُ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ثَابِتٌ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ نَفْيِ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، وَالْحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ نَفَى الْوَلَدَ عَنِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ أَوْضَحُ مَعْنًى، وَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةٌ مِنْ حَدِيثِ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نَصَّ الْحَدِيثُ فِي «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَإِنَّمَا هُوَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا وَلَدًا، أَحَدُهُمَا يَدَّعِيهِ لِرَبِّ أَمَةِ الْوَاطِئِ لَهَا بِالْمِلْكِ، وَالْآخَرُ يَدَّعِيهِ لِرَجُلٍ وَطِئَ تِلْكَ الْأَمَةَ بِغَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَالِكِ الْأَمَةِ. أَفَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَلْحَقَهُ بِالْفِرَاشِ بِالدَّعْوَى لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فَوُلِدَ مَوْلُودٌ عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ لَمْ أُلْحِقْهُ بِهِ إِلَّا بِدَعْوَى يُحْدِثُهَا لَهُ، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؟ إِلَّا أَنَّ مَعْقُولًا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ بِالْحَلَالِ وَلَا يَثْبُتُ بِالْحَرَامِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ بِدَعْوَةِ رَبِّ الْفِرَاشِ، وَأَنْ يَكُونَ يَدَّعِيهِ لَهُ مَنْ يَجُوزُ دَعْوَتُهُ عَلَيْهِ، فَحَدِيثُ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْمَرْأَةِ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَفْسِيرٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، وَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمَدَ إِلَى سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فَخَالَفَهَا، أَوْ إِلَى أَمْرٍ عُرِفَ عَوَامٌّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ لَمْ يَعْلَمْ لَهُمْ فِيهِ مِنْهُمْ مُخَالِفًا فَعَارَضَهُ، أَيَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ بِخِلَافِهِ، أَمْ يَكُونُ بِهَا جَاهِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا لِأَحَدٍ كَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْقُضَ كُلَّ حُكْمٍ بِغَيْرِ سُنَّةٍ وَبِغَيْرِ اخْتِلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ صَارَ إِلَى مِثْلِ مَا وَصَفْتُ مِنْ أَنْ لَا يَنْفِيَ الْوَلَدَ بِلِعَانٍ خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، ثُمَّ مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَدَّعِي الْقَوْلَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِبْطَالِ غَيْرِهِ، فَمَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا، وَلَا افْتِرَاقًا فِي هَذَا، أَوْ يَكُونَ رَجُلًا لَا يُبَالِي مَا قَالَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 بَابٌ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمَجْمُوعَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، وَأَبِي بَكْرٍ، وَثَلَاثٍ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْفًا، فَقَالَ: تَأْخُذُ ثَلَاثًا، وَتَدَعُ تِسْعَمِائَةٍ وَسَبْعًا وَتِسْعِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، وَعَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةً، فَقَالَ: تَأْخُذُ ثَلَاثًا، وَتَدَعُ سَبْعًا وَتِسْعِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَاحِدَةً، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ، فَالَّذِي يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ؟ قِيلَ: لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ فِيهِ خِلَافُهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ، قِيلَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَبَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ خِلَافَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْهُ؟ قِيلَ: وَقَدْ يُسْأَلُ الرَّجُلُ عَنِ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ فِيهِ وَلَا يَتَقَصَّ فِيهِ الْجَوَّابَ، وَيَأْتِي عَلَى الشَّيْءِ وَيَكُونُ جَائِزًا لَهُ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ لَوْ قِيلَ: أَصَلَّى النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ذُكِرَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَجَوَابُهُ حِينَ اسْتُفْتِيَ يُخَالِفُ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْتُ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ دَلِيلٍ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فِي تَرْكِ أَنْ تُحْسَبَ الثَّلَاثُ وَاحِدَةً فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَمْرٍ أَبْيَنَ مِمَّا ذَكَرْتُ؟ قِيلَ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَةٍ لَهُ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا شَارَفَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا ارْتَجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا آوِيكِ إِلَيَّ، وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمَئِذٍ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ هَذَا، فَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَجَابَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ سَوَاءٌ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ عَدَدَ الطَّلَاقِ عَلَى الزَّوَاجِ، وَأَنْ يُطَلِّقَ مَتَى شَاءَ، فَسَوَاءٌ الثَّلَاثُ وَالْوَاحِدَةُ وَأَكْثَرُ مِنَ الثَّلَاثِ فِي أَنْ يَقْضِيَ بِطَلَاقِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَكَمَ اللَّهُ فِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ مَرَّتَانِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الثَّلَاثَ، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فَدَلَّ حُكْمُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحَرَّمُ بَعْدَ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ إِلَى الْأَزْوَاجِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَدَثَ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ بِطَلَاقِ ثَلَاثٍ، وَجَعَلَ الطَّلَاقَ إِلَى زَوْجِهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً أَوْ مُفَرَّقَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُنَّ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا كَانُوا مُمَلَّكِينَ عِتْقَ رَقِيقِهِمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ وَاحِدًا أَوْ مِائَةً فِي كَلِمَةٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُهُ لَهَا جَمَعَ الْكَلَامَ فِيهِ أَوْ فَرَّقَهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ لِنِسْوَةٍ لَهُ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ، وَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ، وَأَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ كَذَا، وَلِفُلَانٍ: عَلَيَّ كَذَا، وَلِفُلَانٍ: عَلَيَّ كَذَا، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، جَمِيعُهُ كَلَامٌ، فَيَلْزَمُهُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ مَا يَلْزَمُهُ بِتَفْرِيقِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ مِنْ سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى هَذَا؟ قِيلَ: نَعَمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى [ص: 661] يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَسْمَعُ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رِفَاعَةُ بَتَّ طَلَاقَهَا فِي مَرَّاتٍ، قُلْتُ: ظَاهِرُهُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَتَّ إِنَّمَا هِيَ ثَلَاثٌ إِذَا احْتَمَلَتْ ثَلَاثًا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ، وَلَوْ كَانَتْ عَائِشَةُ حَسَبَتْ طَلَاقَهَا بِوَاحِدَةٍ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى رِفَاعَةَ بِلَا زَوْجٍ، فَإِنْ قِيلَ: أَطَلَّقَ أَحَدٌ ثَلَاثًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ؟ قِيلَ: نَعَمْ، عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ النَّبِيُّ أَنَّهَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِاللِّعَانِ، فَلَمْ أَعْلَمِ النَّبِيَّ نَهَاهُ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ تَحْكِي لِلنَّبِيِّ أَنَّ زَوْجَهَا بَتَّ طَلَاقَهَا، تَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ النَّبِيُّ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَمْ أَعْلَمْهُ عَابَ طَلَاقَ ثَلَاثٍ مَعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي رِفَاعَةَ مُوَافِقًا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ ثَابِتًا، كَانَ أَوْلَى الْحَدِيثَيْنِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ فِيهِ جِدًّا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ لَهُ مُخَالِفًا كَانَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ يَكُونُ نَاسِخًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ فِيهِ جِدًّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 بَابُ طَلَاقِ الْحَائِضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَيْمَنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «لِيَرْتَجِعْهَا» ، فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى نَافِعٍ يَسْأَلُونَهُ: هَلْ حُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ عُمَرَ أَنْ يَأْمُرَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ، دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ: رَاجِعْ، إِلَّا مَا قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ طَلَاقُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ فِي الْمُطَلَّقَاتِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا فِي ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ، وَإِنَّ مَعْرُوفًا فِي اللِّسَانِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: رَاجِعِ امْرَأَتَكَ، إِذَا افْتَرَقَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ شَبِيهٌ بِهِ، وَنَافِعٌ أَثْبَتُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَالْأَثْبَتُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إِذَا خَالَفَهُ، وَقَدْ وَافَقَ نَافِعًا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّثْبِيتِ فِي الْحَدِيثِ، فَقِيلَ لَهُ: أَحُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ تَطْلِيقَةً؟ فَقَالَ: فَمَهْ، أَوَانُ عَجْزٍ، يَعْنِي أَنَّهَا حُسِبَتْ. قَالَ: وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُحْسَبُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، لَمْ يُخَصِّصْ طَلَاقًا دُونَ طَلَاقٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا وَافَقَ ظَاهَرَ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْحَدِيثِ أَوْلَى أَنْ يَثَبُتَ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا مَلَّكَ الْأَزْوَاجَ الطَّلَاقَ، وَجَعَلَهُ إِحْدَاثَ تَحْرِيمِ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ أَنْ كُنَّ حَلَالًا، وَأُمِرُوا أَنْ يُطَلِّقُوهُنَّ فِي الطُّهْرِ، فَطَلَّقَ رَجُلٌ فِي خِلَافِ الطُّهْرِ لَمْ تَكُنِ الْمَعْصِيَةُ إِنْ كَانَ عَالِمًا تَطْرَحُ عَنْهُ التَّحْرِيمَ، ثُمَّ إِذَا حُرِّمَتْ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مُطِيعٌ فِي وَقْتِهِ كَانَتْ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ إِذْ كَانَ عَاصِيًا فِي تَرْكِهِ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَزِيدُ الزَّوْجَ خَيْرًا إِنْ لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ تُحْسَبْ شَيْئًا، وَجْهٌ؟ قِيلَ: لَهُ الظَّاهِرُ، فَلَمْ تُحْسَبْ تَطْلِيقَةً، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لَمْ تُحْسَبْ شَيْئًا صَوَابًا غَيْرَ خَطَأٍ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا الَّذِي طَلَّقَ طَاهِرًا امْرَأَتَهُ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ، أَوْ أَخْطَأَ فِي جَوَابٍ أَجَابَ بِهِ: لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا صَوَابًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 بَابُ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ مِنَ الطَّعَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الْبَيْضَاءُ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» قَالُوا: نَعَمْ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِكَيْلِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ يُخَالِفُ صَاحِبَهُ، إِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الطَّعَامِ، بِيعَ مِنْهُ كَيْلٌ مَعْلُومٌ بِجُزَافٍ، وَكَذَلِكَ جُزَافٌ بِجُزَافٍ؛ لِأَنَّ بَيِّنًا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِنْ صِنْفِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَالْجُزَافُ بِالْكَيْلِ، وَالْجُزَافُ بِالْجُزَافِ مَجْهُولٌ، وَأَصْلُ نَهْيِ النَّبِيِّ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ، إِذَا كَانَ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ فَهُوَ تَمْرٌ بِتَمْرٍ أَقَلَّ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ بِأَقَلَّ مِنْهُ، وَتَمْرٌ بِتَمْرٍ لَا يَدْرِي كَمْ مَكِيلَةُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ الرُّطَبِ إِذَا يَبِسَ فَصَارَ تَمْرًا، لَمْ يُعْلَمْ كَمْ قَدْرُهُ مِنْ قَدْرِ التَّمْرِ، وَهَكَذَا قُلْنَا: لَا يَصْلُحُ كُلُّ رُطَبٍ بِيَابِسٍ فِي حَالٍ مِنَ الطَّعَامِ إِذَا كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَلَا رُطَبٌ بِرُطَبٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ لِأَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ، وَنَظَرَ فِي الْمُتَعَقَّبِ مِنَ الرُّطَبِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ رُطَبٌ بِرُطَبٍ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُمَا يَخْتَلِفُ، لَا يَدْرِي كَمْ نَقَصَ هَذَا وَنَقَصَ هَذَا، فَيَصِيرُ مَجْهُولًا بِمَجْهُولٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ مِنَ الطَّعَامِ مِنْ نَفْسِ خِلْقَتِهِ، أَوْ رُطَبًا بُلَّ بِغَيْرِ مَبْلُولٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، وَهِيَ رُطَبٌ بِتَمْرٍ، كَانَ نَهْيُهُ عَنِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَالْمُزَابَنَةُ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي مَخْرَجُهَا عَامٌّ وَهِيَ يُرَادُ بِهَا الْخَاصُّ، وَالنَّهْيُ عَامٌّ عَلَى مَا عَدَا الْعَرَايَا، وَالْعَرَايَا مِمَّا لَمْ تَدْخُلْ فِي نَهْيِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْهَى عَنْ أَمْرٍ يَأْمُرُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْسُوخًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْعَرَايَا أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلَةِ وَأَكْثَرَ بِخَرْصِهِ مِنَ التَّمْرِ، يَخْرُصُ الرُّطَبَ رُطَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ كَمْ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِخَرْصِهِ تَمْرًا يَقْبِضُ التَّمْرَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا فَسَدَ الْبَيْعُ، كَمَا يَفْسُدُ فِي الصَّرْفِ، وَلَا يَشْتَرِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَايَا إِلَّا مَا كَانَ خَرْصُهُ تَمْرًا أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَلَّ جَازَ فِيهِ الْبَيْعُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا؟ قِيلَ: يَجُوزُ بِمَا أَجَازَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ طَاعَتَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَعَهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ، وَيُرَدُّ بِمَا رَدَّهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. الشَّكُّ مِنْ دَاوُدَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَفِي تَوْقِيتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَازَتَهُ بِمَكِيلَةٍ مِنَ الْعَرَايَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا، فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَيْعُهُ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ وَأَدْخَلَهُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَالْمُزَابَنَةِ، لَكَانَ مَذْهَبًا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا تَكُونُ الْعَرَايَا إِلَّا مِنْ نَخْلٍ أَوْ عِنَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ غَيْرُهُمَا. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَلَا يَجُوزُ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 بَابُ الْخِلَافِ فِي الْعَرَايَا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَمْ يَجِدِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْقَوْلَ بِالْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنَ الشَّبَهِ مَا وَجَدُوا فِي الْمُجْمَلِ مَعَ الْمُفَسَّرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ بِهِمَا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُمْ بَصَرٌ بِمَذَاهِبِهِ، فَيُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْمُجْمَلِ مَعَ الْمُفَسَّرِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: حَلَالٌ، فَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَوَافَقَنَا، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ صَاحِبُهُ الَّذِي خَالَفَهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ حِنْطَةٍ بِحِنْطَةٍ مَبْلُولَةٍ، وَإِحْدَاهُمَا أَكْثَرُ ابْتِلَالًا مِنَ الْأُخْرَى، وَلَا رُطَبٍ بِرُطَبٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ أَظْهَرَ الْأَخْذَ بِالْحَدِيثِ جُمْلَةً، ثُمَّ خَالَفَ مَعْنَاهُ فِيمَا وَصَفْتُ وَقَالَ: وَلَا بَأْسَ بِتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ، وَثَلَاثٍ بِأَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُكَالُ، فَقِيلَ لَهُ: إِذَا كَانَ التَّمْرُ مُحَرَّمًا إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ، فَكَيْفَ أَجَزْتَ مِنْهُ قَلِيلًا بِأَكْثَرَ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا يُكَالُ، فَهَكَذَا كُلُّ التَّمْرِ إِذَا فُرِّقَ قَلِيلًا، وَإِنَّمَا تُجْمَعُ تَمْرَةٌ إِلَى أُخْرَى فَتُكَالُ، وَفِي نَهْيِ النَّبِيِّ «إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ» دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ عَدَدًا بِعَدَدٍ مِثْلِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَدْ أَجَزْتُهُ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَى عَنْهُ إِلَّا مُسْتَوِيًا بِالْكَيْلِ. قَالَ الرَّبِيعُ: قَالَ، يَعْنِي الشَّافِعِيَّ: وَخَالَفُونَا مَعًا فِي الْعَرَايَا فَقَالُوا: لَا نُجِيزُ بَيْعَهَا، وَقَالُوا: نَرُدُّ إِجَازَةَ بَيْعِهَا بِنَهْيِ النَّبِيِّ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ، فَقِيلَ لِبَعْضِ مَنْ قَالَ هَذَا مِنْهُ: فَإِنْ أَجَازَ إِنْسَانٌ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ بِالْعَرَايَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَدْ أَجَازَ بَيْعَ الْعَرَايَا، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، قُلْنَا: هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا كَهِيَ عَلَيْكُمْ فِي أَنْ يُطَاعَ رَسُولُ اللَّهِ، فَنُحِلُّ مَا أَحَلَّ، وَنُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ، أَرَأَيْتَ لَوَ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَتَقُولُونَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يُعْطَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَمَنْ حَلَفَ بَرِئَ، لِمَ تَقُولُونَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي مَحِلَّةٍ: يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحِلَّةِ وَيُغَرَّمُونَ الدِّيَةَ، فَتُغَرِّمُونَ مَنْ حَلَفَ، وَتُعْطُونَ مَنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ الْبَيِّنَةُ، أَفَخَالَفْتُمْ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ؟ قَالُوا: لَا، وَلَكِنَّهُ جُمْلَةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَاصُّ، وَلَمَّا وَجَدْنَا عُمَرَ يَقْضِي فِي الْقَسَامَةِ فَيُعْطِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَيُحَلِّفُ وَيُغَرِّمُ، قُلْنَا: جُمْلَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَجْهَلُ قَوْلَ النَّبِيِّ وَلَا يُخَالِفُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقِيلَ لَهُ: أَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِهِ أَمْ قَوْلُ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَدَلُّ عَلَى قَوْلِهِ، قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي زَعَمْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا بِقَوْلِ نَفْسِ الْقَائِلِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ يَخْفَى عَلَيْنَا قَوْلُهُ، قَالَ: وَكَيْفَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: أُحِلُّ مَا أَحَلَّ مِنْ بَيْعِ الْعَرَايَا، وَأُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ مِنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَبَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ سِوَى الْعَرَايَا، وَأَزْعُمُ أَنْ لَمْ يُرِدْ بِمَا حَرَّمَ مَا أَحَلَّ، وَلَا بِمَا أَحَلَّ مَا حَرَّمَ، فَأُطِيعُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَمَا عَلِمْتُكَ إِلَّا عَطَّلْتَ نَصَّ قَوْلِهِ فِي الْعَرَايَا، وَعَامَّةُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ النَّهْيُ فِي الْمُزَابَنَةِ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا، فَلَمْ يَكُنْ لْلتَّوَهُّمِ هَا هُنَا مَوْضِعٌ، فَنَقُولُ: الْحَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَقَدْ خَالَفَهُ فِي فُرُوعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، قَالَ: وَوَافَقَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي جُمْلَةِ قَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْعَرَايَا، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: لَا تُبَاعُ إِلَّا مِنْ صَاحِبِهَا الَّذِي أَعْرَاهَا إِذَا تَأَذَّى بِدُخُولِ الرَّجُلِ عَلَيْهِ بِتَمْرٍ إِلَى الْجُذَاذِ، قَالَ: فَمَا عَلِمْتُهُ أَحَلَّهَا فَيُحِلُّهَا لِكُلِّ مُشْتَرٍ، وَلَا حَرَّمَهَا فَيَقُولُ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَهَا، وَزَادَ فَقَالَ: تُبَاعُ بِتَمْرٍ نَسِيئَةً، وَالنَّسِيئَةُ عِنْدَهُ فِي الطَّعَامِ حَرَامٌ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنِ النَّبِيِّ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ تُبَاعَ بِدَيْنٍ، فَكَيْفَ جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الدَّيْنَ فِي الطَّعَامِ بِلَا خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْ يُحِلَّ بَيْعًا مِنْ إِنْسَانٍ يُحَرِّمُهُ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَشَرَكَهُمْ صَاحِبُنَا فِي رَدِّ بَيْعِ الْعَرَايَا فِي حَالٍ، وَزَادَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَحَلَّهَا إِلَى الْجُذَاذِ، فَجَعَلَ طَعَامًا بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ وَإِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ الْجُذَاذَ مَجْهُولٌ، وَالْآجَالُ لَا تَجُوزُ إِلَّا مَعْلُومَةً، قَالَ: وَالْعَرَايَا الَّتِي أَرْخَصَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا فِيمَا ذَكَرَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقُلْتُ: مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُحِلُّونَهَا؟ فَقَالَ: فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الرُّطَبَ يَحْضُرُ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ ذَهَبٌ وَلَا وَرِقٌ يَشْتَرُونَ بِهَا، وَعِنْدَهُمْ فَضْلُ تَمْرٍ مِنْ قُوتِ سَنَتِهِمْ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَشْتَرُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 663 بَابُ بَيْعِ الطَّعَامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُسْتَوْفَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرَأْيِهِ، وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «نَهَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُخْتَلِفًا، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْمُفَسَّرِ، وَبَعْضُهَا أُدِّيَ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا أُدِّيَ فِي بَعْضِهِ، قَالَ: فَسَأَلَنِي مُقَدَّمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ يُكْثِرُ خِلَافَنَا، وَيُدْخِلُ الْمُجْمَلَ عَلَى الْمُفَسَّرِ، وَالْمُفَسَّرَّ عَلَى الْمُجْمَلِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، أَمُخْتَلِفَةٌ هِيَ؟ قُلْتُ: مَا يُخَالِفُ مِنْهَا وَاحِدٌ وَاحِدًا، قَالَ: فَأَبِنْ لِي مِنْ أَيْنَ اتَّفَقَتْ وَلَمْ تَخْتَلِفْ؟ قُلْتُ: أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِمُبْتَاعٍ طَعَامًا بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَهُوَ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُبْتَاعُ أَخَذَ مِنْهُ رَأْسَ مَالِهِ، وَكَانَ كَمَنْ لَا بَيْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا» ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ إِذْ قَالَ: أَمَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ فَالطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُعْلَمَ، يَعْنِي حَتَّى يُكَالَ، وَإِذَا اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدِ اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَوْضَحَ مَعْنًى مِنْهُ، فَأَمَّا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَنْ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَ مَنْ سَلَّفَ فِي تَمْرٍ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَنْ يُسَلِّفَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، وَهَذَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْمَرْءِ، وَلَكِنَّهُ بَيْعُ صِفَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَى بَائِعِهَا، وَإِذَا أَتَى بِهَا الْبَائِعُ لَزِمَتِ الْمُشْتَرِي، وَلَيْسَتْ بَيْعَ عَيْنٍ، بَيْعُ الْعَيْنِ إِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ قَبْضِ الْمُبْتَاعِ انْتَقَضَ فِيهَا الْبَيْعُ، وَلَا يَكُونُ بَيْعُ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ فَيَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إِذَا هَلَكَتْ، فَقَالَ: كُلُّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتُ، وَبِهِ أَقُولُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَلَا نَجْعَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَبَدًا، إِذَا وُجِدَ السَّبِيلُ إِلَى أَنْ يَكُونَا مُسْتَعْمَلَيْنِ فَلَا نُعَطِّلُ مِنْهُمَا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ عَلَيْنَا فِي كُلٍّ مَا عَلَيْنَا فِي صَاحِبِهِ، وَلَا نَجْعَلُ الْمُخْتَلِفَ إِلَّا فِيمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ أَبَدًا إِلَّا بِطَرْحِ صَاحِبِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِلَى أَنْ يَجْعَلَهَا مُخْتَلِفَةً فَيَقُولُ: حَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَدُومَ النَّبِيِّ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُسَلِّفُوا فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، وَهَذَا أَوَّلُ مَقْدِمِهِ، ثُمَّ حَكَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَإِنَّمَا صَحِبَهُ بَعْدَ الْفَتْحِ، أَنَّ النَّبِيَّ نَهَاهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَالسَّلَفُ فِي صِفَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَلَا يَحِلُّ السَّلَفُ، هَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَهُ: السَّلَفُ صِنْفٌ مِنَ الْبَيْعِ غَيْرُ بَيْعِ الْعَيْنِ، وَنَسْتَعْمِلُ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، وَنَجِدُ عَوَامَّ الْمُفْتِينَ يَسْتَعْمِلُونَهُمَا، وَفِي اسْتِعْمَالِ عَوَامِّ الْمُفْتِينَ إِيَّاهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ تُلْزِمُهُمْ بِأَنْ يَسْتَعْمِلُوا كُلَّ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا، وَلَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَمَا اجْتَمَعُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ هَذَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُجَّةَ مَعَ مَنِ اسْتَعْمَلَهُمَا دُونَ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَكَذَا الْحُجَّةُ عَلَيْكَ فِي كُلِّ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ تَجْعَلَ الْمُفَسَّرَ مَرَّةً حُجَّةً عَلَى الْمُجْمَلِ، وَالْمُجْمَلَ حُجَّةً عَلَى الْمُفَسَّرِ، فِي الْقَسَامَةِ، وَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالْبَيِّنَةِ [ص: 665] عَلَى الْمُدَّعِي، وَبَيْعِ الْعَرَايَا، وَالْمُزَابَنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَثُرَ مِمَّا أَسْمَعُكَ تَذْهَبُ فِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّتِي أَرَى أَنْ تُقَلِّبَهَا عَنْ طَرِيقِ النَّصِّ، بِأَنَّهَا تُضَادُّ انْتِشَارَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّكَ تَذْهَبُ فِيهَا إِلَى الِاسْتِتَارِ مِنْ كَثْرَةِ خِلَافِ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ لَعَلَّهُ لَا يُبْصِرُ فِي أَنْ قَالَ: ذَلِكَ مِمَّنْ يَعِيبُ عَلَيْكَ خِلَافَ الْحَدِيثِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 بَابُ الْمُصَرَّاةِ: الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ خُفَافٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَبُ، بَلْ لَا أَشُكُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ مُسْلِمًا نَصَّ الْحَدِيثَ فَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ، فَقَضَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِرَدِّهِ بِالْعَيْبِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ: قَدِ اسْتَعْمَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: «رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَحَدِيثُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ وَاحِدٌ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِيمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَاهُمَا، وَفِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ شَيْءٌ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ مُبْتَاعَ الشَّاةِ أَوِ النَّاقَةِ الْمُصَرَّاةِ مُبْتَاعٌ لِشَاةٍ أَوْ نَاقَةٍ فِيهَا لَبَنٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ غَيْرُهُمَا، كَالثَّمَرِ فِي النَّخْلَةِ الَّذِي إِذَا شَاءَ قَطَعَهُ، وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ إِذَا شَاءَ حَلَبَهُ، وَاللَّبَنُ مَبِيعٌ مَعَ الشَّاةِ وَهُوَ سِوَاهَا، وَكَانَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَإِذَا حَلَبَهُ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ، كَثُرَ اللَّبَنُ أَوْ قَلَّ، كَانَ قِيمَتَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَّتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالْعِلْمُ يُحِيطُ أَنَّ أَلْبَانَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةُ الْكَثْرَةِ وَالْأَثْمَانِ، وَأَنَّ أَلْبَانَ كُلِّ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا. قَالَ: فَإِنْ رَضِيَ الَّذِي ابْتَاعَ الْمُصَرَّاةَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ، ثُمَّ حَلَبَهَا زَمَانًا، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهَا عَلَى عَيْبٍ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ، فَإِنْ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ رَدَّهَا، وَلَا يَرُدُّ اللَّبَنَ الَّذِي حَلَبَهُ بَعْدَ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَادِثًا فِي مِلْكِ الْمُبْتَاعِ، كَمَا حَدَثَ الْخَرَاجُ فِي مِلْكِهِ، وَيَرُدُّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لِلَبَنِ التَّصْرِيَةِ فَقَطْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا ابْتَاعَ الْعَبْدَ فَإِنَّمَا ابْتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، وَمَا حَدَثَ لَهُ فِي يَدِهِ مِنْ خِدْمَةٍ، أَوْ خَرَاجٍ، أَوْ مَالٍ أَفَادَهُ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِهِ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ صَفْقَةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ كَلَبَنِ الشَّاةِ الْحَادِثِ بَعْدَ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ فِي مِلْكِ مُشْتَرِيهَا لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ يَشْتَرِيهَا فَتُنْتِجُ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى عَيْبٍ، فَيَرُدُّهَا دُونَ النِّتَاجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ لَهَا أَصْوَافًا، أَوْ شُعُورًا، أَوْ أَوْبَارًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ لِلْحَائِطِ ثَمَرًا إِذَا كَانَتْ يَوْمَ يَرُدُّهَا بِحَالِهَا يَوْمَ أَخَذَهَا أَوْ أَفْضَلَ، وَهَكَذَا وَطْءُ الْأَمَةِ الثَّيِّبِ، قَدْ دُلِّسَ لَهُ فِيهَا بِعَيْبٍ، يَرُدُّهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ وَالْخَرَاجُ وَالْخِدْمَةُ، لَيْسَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفْتُ مِنْ وَطْءِ ثَيِّبٍ لَا يَنْقُصُهَا الْوَطْءُ، وَأَخْذُ ثَمَرَةٍ وَلَبَنٍ وَنِتَاجٍ إِذَا لَمْ يَنْقُصِ الشَّجَرُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَكَذَلِكَ كِرَاءُ الدَّارِ يَبْتَاعُهَا فَيَسْتَغِلُّهَا، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى عَيْبٍ، يَكُونُ لَهُ الْكِرَاءُ بِالضَّمَانِ، وَالضَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ بِهِ الْكِرَاءُ ضَمَانٌ يَحِلُّ لَهُ بِالْبَيْعِ بِكُلِّ حَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ دُلِّسَ لَهُ فِيهِ بِعَيْبٍ مِمَّا وَصَفْتُ أَنْ يُمْسِكَهُ بِعَيْبِهِ وَيَمُوتَ وَيَهْلِكَ، فَيَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ، وَيُعْتِقُ الْمَمَالِيكَ فَيَقَعُ عَلَيْهِمْ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ تَامُّ الْمِلْكِ، جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِيَارًا فِيمَا دُلِّسَ لَهُ بِهِ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِذَا جُعِلَ لَهُ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ فَقَدْ جُعِلَ لَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهُ، فَقَدْ أَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ فِي الشَّاةِ الْمُصَرَّاةِ فَقَالَ: «إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، مَعَ إِبَانَتِهِ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: «إِنْ شَاءَ رَدَّهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَمَّا [ص: 666] مَا ضُمِّنَ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَكُونُ لَهُ خَرَاجُهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْفَعَةُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ حَبْسُهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ - إِذَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَنْفَعَةَ مِنَ الْمَمْلُوكِ لِلَّذِي يَحِلُّ لَهُ مِلْكُهُ الْمَالِكِ الْمُدَلِّسِ - أَنْ يُحِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ يُجْعَلَ لِغَيْرِ مَالِكٍ، وَلِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ حَبْسُ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ، فَيَكُونُ قَدْ أُحِيلَ إِلَى ضِدِّهِ، وَخُولِفَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 بَابُ الْخِلَافِ فِي الْمُصَرَّاةِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمُصَرَّاةِ فَقَالَ: الْحَدِيثُ فِيهَا ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَرَكُوهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَفَتَحْكِي لِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَأَنْتَ تَحْكِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا مِثْلَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلْتُ لَهُ: أَوَتَحْكِي عَنْ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ تَرَكَهُ، فَمَا عَلِمْتُهُ ذَكَرَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْهُمْ يُخَالِفُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا عَنَيْتُ بِالنَّاسِ الْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ قَبْلَنَا، لَا التَّابِعِينَ، قُلْتُ لَهُ: أَتَعْنِي بِأَيِّ الْبُلْدَانِ؟ قَالَ: بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَاحْكِ لِي مَنْ تَرَكَهُ بِالْعِرَاقِ، قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِهِ وَأَصْحَابُهُ؛ قُلْتُ: أَفَتَعُدُّ أَصْحَابَهُ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ عَنْ وَاحِدٍ؟ قَالَ: فَلَمْ أَعْلَمْ غَيْرَهُ قَالَ بِهِ، قُلْتُ: أَنْتَ أَخْبَرْتَنَا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: يَرُدُّهَا وَقِيمَةَ اللَّبَنِ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ، وَلَكِنْ لَا نَقُولُ بِهِ، فَقُلْتُ: أَجَلْ، وَلَكِنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَدْ زَادَ الْحَدِيثَ فَتَأَوَّلَ فِيهِ شَيْئًا يِحْتَمِلُهُ ظَاهِرُهُ عِنْدَنَا عَلَى غَيْرِهِ، فَقُلْنَا بِظَاهِرِهِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى أَرَادَ اتِّبَاعَهُ لَا خِلَافَهُ، قَالَ: فَمَا كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِيهِ؟ قُلْتُ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ فِيهِ بِالْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَا كَانَ الزَّنْجِيُّ يَقُولُ فِيهِ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُهُ يُفْتِي فِيهِ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ مَنْ يُفْتِي بِالْبَصْرَةِ يَقُولُ فِيهِ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ غَابَ عَنْكَ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَانِ، أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَقُولَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ: وَافَقُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ قَوْلَهُمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ: فَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ تَرَكُوا الْقَوْلَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَزَعَمْتَ عَلَى لِسَانِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ مَا قُلْتَ، وَلَمْ يَحْصُلْ فِي يَدَيْكَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ تُسَمِّيهِ غَيْرُ صَاحِبِكَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: وَهَلْ وَجَدْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ يُخَالِفُهُ عَامَّةَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا إِلَى حَدِيثٍ لِرَسُولِ اللَّهِ مِثْلِهِ؟ قَالَ: كُنْتُ أَرَى هَذَا، قُلْتُ: فَقَدْ عَلِمْتَ الْآنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هَكَذَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَرَى حَدِيثَ جَابِرٍ، أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ الْعَتَمَةَ ثُمَّ يَأْتِي بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ الْعَتَمَةَ، هِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ، فَوَجَدْنَا أَصْحَابَكُمُ الْمَكِّيِّينَ عَطَاءً وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِهِ، وَوَجَدْنَا وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ وَالْحَسَنَ وَأَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ وَبَعْضَ مُفْتِيِّ أَهْلِ زَمَانِنَا يَقُولُونَ بِهِ، قُلْتُ: وَغَيْرُ مَنْ سَمَّيْتُ؟ قَالَ: أَجَلْ، وَفِي هَؤُلَاءِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ، قُلْتُ لَهُ: وَلَقَدْ جَهِدْتُ مُنْذُ لَقِيتُكَ، وَجَهِدْنَا أَنْ نَجِدَ حَدِيثًا وَاحِدًا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ خَالَفَتْهُ الْعَامَّةُ، فَمَا وَجَدْنَا إِلَّا أَنْ يُخَالِفُوهُ إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا، قُلْتُ: أَثَابِتٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: مَا لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَحَدٍ وَلَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَكَيْفَ نَرُدُّ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَلَا نَرُدُّ ثَمَنَ اللَّبَنِ؟ قُلْتُ: أَثَبَتَ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيمُ، فَقَوْلُكَ وَقَوْلُ غَيْرِكَ فِيهِ: لِمَ وَكَيْفَ، خَطَأٌ، قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَدَعْ (كَيْفَ) إِذَا قَرَّرْتَ أَنَّهَا خَطَأٌ فِي مَوْضِعٍ، فَلَا تَضَعْهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي هِيَ فِيهِ خَطَأٌ، قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: وَكَيْفَ كَانَتْ خَطَأً؟ قُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَ خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا شَاءَ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَعَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيمُ، وَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 666 (كَيْفَ) إِنَّمَا تَكُونُ فِي قَوْلِ الْآدَمَيِّينَ الَّذِينَ يَكُونُ قَوْلُهُمْ تَبَعًا لَا مَتْبُوعًا، وَلَوْ جَازَ فِي الْقَوْلِ اللَّازِمِ (كَيْفَ) حَتَّى يُحْمَلَ عَلَى قِيَاسٍ أَوْ فِطْنَةِ عَقْلٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْلِ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا بَطَلَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلَانِ: قَوْلُ فَرْضٍ لَا يُقَالُ فِيهِ: كَيْفَ، وَقَوْلُ تَبَعٍ يُقَالُ فِيهِ: كَيْفَ، يُشْبِهُ بِالْقَوْلِ الْغَايَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَالْقَوْلُ الْغَايَةُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، مَعْنًى إِلَّا اثْنَيْنِ؟ قَالَ: مَا هُمَا؟ قُلْتُ: إِنَّ الْخَرَاجَ حَادِثٌ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَلَا يَجُوزُ لَمَّا كَانَ هَكَذَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْمَالِكِ مِلْكًا صَحِيحًا، قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَإِنَّكَ لَمَّا فَرَّعْتَ خَالَفْتَ بَعْضَ مَعْنَاهُمَا مَعًا، قَالَ: وَأَيْنَ خَالَفْتُ؟ قُلْتُ: زَعَمْتَ أَنَّ خَرَاجَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَخِدْمَتَهُمَا، وَمَا مَلَكَا بِهِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ كَنْزٍ وَجَدَاهُ، أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ، يَكُونُ لِسَيِّدِهِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَدَلَّسَ فِيهِ بِالْعَيْبِ، وَلَهُ رَدُّهُ وَالْخِدْمَةُ، وَمَا مَلَكَ الْعَبْدُ بِلَا خَرَاجٍ غَيْرَ الْخَرَاجِ، فَإِذَا قِيلَ لَكَ: لِمَ تَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ الْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ يَكُونُ بِعَمَلِهِ، وَمَا وُهِبَ لَهُ يَكُونُ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ خِدْمَتِهِ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِهِ، لَيْسَ مِمَّا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ صَفْقَةُ الْبَيْعِ، وَزَعَمْتَ أَنَّ أَلْبَانَ الْمَاشِيَةِ وَأَنْتَاجَهَا وَصُوفَهَا، وَثَمَرَ النَّخْلِ، لَا يَكُونُ مِثْلَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْخَرَاجُ لَيْسَ مِنَ الْعَبْدِ، وَتَعَبُ الْعَبْدِ بِالْخَرَاجِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَبِ الْمَاشِيَةِ بِاللَّبِنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ يُؤْخَذُ مِنْهَا، وَكِلَاهُمَا حَادِثٌ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَزَعَمْتَ أَنَّ الْمُشْتَرَى إِذَا كَانَ جَارِيَةً فَأَصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا، فَقِيلَ: أَوَتُنْقِصُهَا الْإِصَابَةُ؟ قَالَ: لَا، فَقِيلَ: الْإِصَابَةُ أَكْثَرُ، أَوْ يَجِدُ أَلْفَ دِينَارٍ رِكَازًا فَيَأْخُذُهَا السَّيِّدُ، وَكِلَاهُمَا حَادِثٌ فِي مِلْكِهِ، فَقُلْتُ: فَلِمَ فَرَّقْتَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ وَطِئَ أَمَتَهُ، فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَتْ أَمَتَهُ حِينَ يَرُدُّهَا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَلَوْلَا أَنَّهَا أَمَتُهُ لَمْ يَأْخُذْ كَنْزًا وَجَدَتْهُ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا مَعْنَى وَطِئَ أَمَتَهُ، وَهِيَ عِنْدَنَا وَعِنْدَكَ أَمَتُهُ، حَتَّى يَرُدَّهَا، قَالَ: فَرُوِّينَا هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، قُلْتُ: أَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ؟ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَا، قَالَ: فَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ: يَرُدُّهَا، وَذَكَرَ عَشْرًا أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: أَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ؟ قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: لَا، قُلْتُ: فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ، وَأَنْتَ تُخَالِفُ عُمَرَ لَوْ كَانَ قَالَهُ؟ قَالَ: أَفَلَيْسَ يُقَبَّحُ أَنْ يَرُدَّ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا بِالْمِلْكِ؟ قُلْتُ: أَيُقَبَّحُ لَوْ بَاعَهَا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَإِذَا جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ، وَالْأَمَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكَ مِثْلُ الْعَبْدِ، وَأَنْتَ تَرُدُّ الْأَمَةَ مَا لَمْ يَطَأْهَا، فَكَيْفَ قُلْتَ فِي الْوَطْءِ خَاصَّةً، وَهُوَ لَا يُنْقِصُهَا: لَا يَرُدُّهَا إِذَا وَطِئَهَا مِنْ شِرَاءٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟ قَالَ: مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ يَنْتَفِعُ مِنْهَا بِمَا وَصَفْتُ، وَيَرُدُّهَا مَعَهُ، قَالَ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ وَافَقَكَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْجَارِيَةَ إِذَا وُطِئَتْ إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا، وَخَالَفَكَ فِي نِتَاجِ الْمَاشِيَةِ، فَقُلْتُ: الْحُجَّةُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 بَابُ كَسْبِ الْحَجَّامِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: قَالَ الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ مُحَيِّصَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَنَهَاهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى قَالَ لَهُ: «أَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ، وَأَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِجَارَةِ الْحَجَّامِ، فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ لَهُ: «أَعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَرَقِيقَكَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمَرَ لَهُ [ص: 668] بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، فَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ لِصِبْيَانِكُمْ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَلَا تُعَذِّبُوهُمْ بِالْغَمْزِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: " احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ لِلْحَجَّامِ: «اشْكُمُوهُ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُخْتَلِفٌ، وَلَا نَاسِخٌ، وَلَا مَنْسُوخٌ، فَهُمْ قَدْ أَخْبَرُونَا أَنَّهُ قَدْ أَرْخَصَ لِمُحَيِّصَةَ أَنْ يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ، وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُجِزْ رَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِمُحَيِّصَةَ أَنْ يَمْلِكَ حَرَامًا، وَلَا يَعْلِفَهُ نَاضِحَهُ، وَلَا يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ، وَرَقِيقُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ فُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَمْ يُعْطِ رَسُولُ اللَّهِ حَجَّامًا عَلَى الْحِجَامَةِ أَجْرًا، إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يُعْطِي إِلَّا مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَمَا يَحِلُّ لِمَالِكِهِ مِلْكُهُ، حِلَّ لَهُ وَلِمَنْ أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ أَكْلُهُ، قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا مَعْنَى نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ وَإِرْخَاصِهِ فِي أَنْ يُطْعِمَهُ النَّاضِحَ وَالرَّقِيقَ؟ قِيلَ: لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْمَكَاسِبِ دَنِيًّا وَحَسَنًا، فَكَانَ كَسْبُ الْحَجَّامِ دَنِيًّا، فَأَحَبَّ لَهُ تَنْزِيهَ نَفْسِهِ عَنِ الدَّنَاءَةِ؛ لِكَثْرَةِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ أَجْمَلُ، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ أَمَرُهُ أَنْ يُعْلِفَهُ نَاضِحَهُ، وَيُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ؛ تَنْزِيهًا لَهُ لَا تَحْرِيمًا عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ذَا قَرَابَةٍ لِعُثْمَانَ قَدِمَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ مَعَاشِهِ، فَذَكَرَ لَهُ غَلَّةَ حَمَامٍ، وَكَسْبَ حَجَّامٍ، أَوْ حَجَّامَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ كَسْبَكَ لَوَسِخٌ، أَوْ قَالَ: لَدَنِيءٌ، أَوْ قَالَ: لَدَنِسٌ، أَوْ كَلِمَةٌ تُشْبِهُ ذَلِكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 بَابُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَبُهُ، وَلَا أُثْبِتُهُ، قَالَ: «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. قَالَ عَمْرٌو: فِي الْأَمْوَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَجُلٍ آخَرَ سَمَّاهُ، لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقَا لِحَاجَتِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَانْطَلَقَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُو الْمَقْتُولِ وَحُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ قَتِيلِكُمْ أَوْ صَاحِبِكُمْ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَحْضُرْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ. فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ بَشِيرٌ: قَالَ سَهْلٌ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ فِي مِرْبَدٍ لَنَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا نَأْخُذُ، وَهِيَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ، أَوِ اقْتِصَارِ الْمُحَدِّثِ عَلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَمَنِ ادَّعَى أَحَدٌ شَيْئًا سِوَى الَّذِي فِي النَّفْسِ خَاصَّةً يُرِيدُ أَخْذَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِدَعْوَاهُ بِحَالٍ فَقَطْ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَى، فَإِذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَا دُونَ الزِّنَا، أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْأَمْوَالِ، قُضِيَ لَهُ بِدَعْوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُقِمْ عَلَى مَا يَدَّعِي إِلَّا [ص: 669] شَاهِدًا وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَ مَالًا أُحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَأُعْطِيَ الْمَالَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَدَّعِي غَيْرَ مَالٍ لَمْ يُعْطَ بِهِ شَيْئًا، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبَيِّنَةُ فِي دَلَالَةِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيِّنَتَانِ: بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ بِعَدَدِ الشُّهُودِ، لَا يَحْلِفُ مُقِيمُهَا مَعَهَا، وَبَيِّنَةٌ نَاقِصَةُ الْعَدَدِ، يَحْلِفُ مُقِيمُهَا مَعَهَا. قَالَ: وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ يُؤْخَذُ بِهَا أُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَأْخُذِ الَّذِي ادَّعَى مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى دَعْوَاهُ فَيَأْخُذَ بِيَمِينِهِ مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَالْحُكْمُ بِالدَّعْوَى بِلَا بَيِّنَةٍ، وَالْأَيْمَانُ مُخَالِفٌ بِالْبَيِّنَةِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاسُ بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ تَضَادَّا، قَالَ: وَمَنِ ادَّعَى مَا لَا دَلَالَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَى دَعْوَاهُ إِلَّا بِدَعْوَاهُ أَحْلَفْنَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا يَحْلِفُ فِيمَا سِوَى الدِّمَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي دَلَالَةٌ تُصَدِّقُ دَعْوَاهُ كَدَلَالَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُضِيَ فِيهَا بِالْقَسَامَةِ، أُحْلِفَ الْمُدَّعُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَاسْتَحَقُّوا دِيَةَ الْمَقْتُولِ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ دَمًا. قَالَ: وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ بَيِّنٌ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصًّا، فَإِنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَخْتَلِفُ، وَإِنَّهَا إِذَا احْتَمَلَتْ أَنْ يَمْضِيَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ أُمْضِيَ، وَلَمْ تُجْعَلْ مُخْتَلِفَةً، وَهَكَذَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُشْبِهُ هَذَا؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وَقَالَ فِي الَّذِينَ يَرْمُونَ بِالزِّنَا {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، فَكَانَ حُكْمُ اللَّهِ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَصِيَّةِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَنْ تُقْبَلَ الْوَصِيَّةُ بِاثْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَجَمِيعِ الْحُقُوقِ اثْنَانِ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَقَالَ فِي الدَّيْنِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الدَّيْنِ يُقْبَلُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا: مُخْتَلِفٌ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ نَاسِخٌ لِبَعْضٍ، وَلَكِنْ يُقَالُ: مُخْتَلِفٌ، عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْتُ: لَا يَقْسِمُ الْمُدَّعُونَ الدَّمَ إِلَّا بِدَلَالَةٍ؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا وَصَفْتُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ مِنْ أَعْدَى النَّاسِ لِلْيَهُودِ؛ لِقَطْعِهَا مَا كَانَ بَيْنَهَا، وَقَتْلِهَا رِجَالِهَا، وَإِجْلَائِهَا عَنْ بِلَادِهَا، وَفُقِدَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَوُجِدَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ قَتِيلًا فِي مَنْزِلِهِمْ، وَدَارُهُمْ مُحَصَّنَةٌ لَا يَخْلِطُهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، فَكَانَ فِيمَا وَصَفْتُ دَلَائِلُ مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ إِلَّا يَهُودُ لِبُغْضِهِمْ، فَعَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْصَارِ أَنْ يَحْلِفُوا وَيَسْتَحِقُّوا، فَأَبَوْا، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَحْلِفَ يَهُودُ فَيُبَرِّئَهُمْ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، فَأَبَوْا، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ، فَإِذَا كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي فِيهَا الْقَتِيلُ أَوْ بَعْضُهَا قَتَلَتْهُ، كَانَتِ الْقَسَامَةُ فِيهِ، وَاسْتَحَقَّ أَهْلُهُ بِهَا الْعَقْلَ لَا الدَّمَ، وَإِذَا أَبَوْا حَلَفَ لَهُمْ مَنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يُبَرَّؤُنَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُبَرَّؤُنَ بِالْأَيْمَانِ، وَمِثْلُ هَذَا وَأَكْثَرُ مِنْهُ تَدْخُلُ الْجَمَاعَةُ الْبَيْتَ، فَيُدْخَلُ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمُ الْقَتِيلُ، فَيَغْلِبُ عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُمْ أَوْ بَعْضَهُمْ قَتَلَهُ، أَوْ يُوجَدُ الرَّجُلُ بِالْفَلَاةِ مُتَلَطِّخَ الثِّيَابِ بِالدَّمِ، أَوِ السَّيْفِ، وَعِنْدَهُ الْقَتِيلُ لَيْسَ قُرْبَهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرُ عَيْنٍ، فَيَغْلِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ هَذَا أَنَّهُ قَتَلَهُ، أَوْ أَخْبَارُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَسْمَعُ خَبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقَتِيلِ، وَأَتَى وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ وَامْرَأَةٌ مِنْ أُخْرَى، أَوْ صَبِيُّ مِنْ أُخْرَى، أَوْ كَافِرٌ مِنْ أُخْرَى، وَأَثْبَتَ كُلُّهُمْ رَجُلًا فَقَالُوا: هَذَا قَتَلَهُ، وَغُيِّبَ، فَأُرُوا غَيْرَهُ فَقَالُوا: لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا، وَمَا كَانَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي فَادَّعَى أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا تَوَاطَؤَا عَلَى الْبَاطِلِ بَعْدَ الْقَتْلِ، فِيمَا لَا يُمَكِنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ وُجُوهٍ مُتَفَرِّقَةٍ اجْتَمَعُوا فَتَوَاطَؤَا عَلَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ قَتَلَهُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَسَامَةٌ، يُحَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَيُبَرَّؤُنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 بَابُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَجَرَّدَ خِلَافَ حَدِيثِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَخَالَفَ بَعْضٌ مَعْنَى الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبْتُ عَلَيْهِ فِيهَا حُجَجًا اخْتَصَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْضَهَا، فَكَانَ مِمَّا رُدَّ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ أَنْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، فَقُلْتُ لَهُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ بِحَالٍ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجُوزَ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، قُلْتُ: فَقُلْهُ، قَالَ: فَقَدْ قُلْتُهُ، قُلْتُ: فَمَنِ الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِمَا؟ قَالَ: عَدْلَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ، فَقُلْتُ: فَلِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقُلْتُ: لِمَ أَجَزْتَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا؟ قَالَ: لِأَنَّ عَلِيًّا أَجَازَهَا، قُلْتُ: فَخِلَافٌ هِيَ لِلْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَقُلْتُ لَهُ: يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يُخَالِفَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: فَإِنْ قُلْتُهُ، فَيُقَالُ لَكَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] إِلَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وَقَالَ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، فَزَعَمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَلَا بِالْمَرْأَةِ، وَأَغْلَقْ بَابًا، وَأَرْخَى سِتْرًا، أَوْ خَلَا بِهَا فِي صَحْرَاءَ وَهُمَا يَتَصَادَقَانِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا، كَانَ لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَخَالَفْتَ الْقُرْآنَ، قَالَ: لَا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مَا قُلْتَ، وَإِذَا قَالَا: لَمْ نَجْعَلْهُ لِلْقُرْآنِ خِلَافًا، قُلْتُ: فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَمْ تَقُولُوا هَذَا فِيهِ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَذَكَرَ لَهُ غَيْرَهُمَا؟ وَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: شَاهِدَيْنِ، وَشَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَتِمُّ بِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى مَنْ أَقَامَ الشَّاهِدَيْنِ يَمِينٌ، لَا أَنَّهُ حَرَّمَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَقَلَّ مِنْهُ، وَمَنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَهُ، فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، كَمَا يَكُونُ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقَّ فَيَنْكُلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الْيَمِينِ، فَيَلْزَمُهُ عِنْدَكَ مَا نَكَلَ عَنْهُ، وَعِنْدَنَا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدَيْنِ، قَالَ: فَإِنَّا نَدْخُلُ عَلَيْكُمْ فِيهَا وَفِي الْقَسَامَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» . قُلْتُ: فَهَذَا الْقَوْلُ خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: بَلْ عَامٌّ، قُلْتُ: فَأَنْتَ إِذًا أَشَدُّ النَّاسِ لَهُ خِلَافًا، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قُلْتُ: أَنْتَ تَزْعُمُ لَوْ أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ أَحْلَفْتَ أَهْلَهَا خَمْسِينَ يَمِينًا، وَغَرَّمْتَهُمُ الدِّيَةَ، وَأَعْطَيْتَ وَلِيَّ الدَّمِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» عَامٌّ، فَلَا يُعْطَى أَحَدٌ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَأَحْلَفْتَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ تُبَرِّئْهُمْ، وَقَدْ زَعَمْتَ أَنَّ فِيَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ، أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بَرِئَ مِمَّا ادُّعِيَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْتَ هَذَا بِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ، قُلْتُ: فَمَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتِ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قَالَ: بَلْ مَنِ احْتَجَّ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: فَقَدِ احْتَجَجْتَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَعَمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» عَامٌّ، قَالَ: مَا هُوَ بِعَامٍّ، قُلْنَا: فَلِمَ امْتَنَعْتَ مِنْ أَنْ تَقُولَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنْهُ أُعْطِيتَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ بِهِ، وَقُلْتَ بِمَا إِذَا كَشَفْتَ عَنْهُ وَوُجِدَ عَلَيْكَ خِلَافُهُ؟ قَالَ: فَقَدْ جَعَلْتُمُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ تَامَّةً فِي شَيْءٍ نَاقِصَةً غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ جَعَلْتُمُ الشَّاهِدَيْنِ تَامَّيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الزِّنَا، وَجَعَلْتُمْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ تَامَّيْنِ فِي الْمَالِ نَاقِصَيْنِ فِي الْحُدُودِ، وَجَعَلْتُمْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَامَّةً بَيْنَهُمْ نَاقِصَةً بَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَشَهَادَةَ الْمَرْأَةِ تَامَّةً فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ نَاقِصَةً فِي غَيْرِهَا، قَالَ: وَاحْتَجَّ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ قَالَ: أَعْطَيْتَهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، قُلْتُ: فَكَذَلِكَ أَعْطَيْتَ فِي قَسَامَتِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: أَحْلَفْتَهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ، قُلْتُ: فَقَدْ يَعْلَمُونَ بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِمَّنْ يَصْدُقُونَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِقْرَارُ الْقَاتِلِ عِنْدَهُمْ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَا يَحْكُمُ بِادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 670 ذَلِكَ، قَالَ: الْعِلْمُ مَا رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ، أَوْ سَمِعُوا بِآذَانِهِمْ، قُلْتُ: وَلَا عِلْمَ ثَالِثَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَإِذَا اشْتَرَى ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَبْدًا وُلِدَ بِالْمَشْرِقِ مُنْذُ خَمْسِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ، فَادَّعَى الَّذِي ابْتَاعَهُ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا، فَكَيْفَ تُحَلِّفُهُ؟ قَالَ: الْبَتَّةَ، قَالَ: يَقُولُ لَكَ: تَظْلِمُنِي، فَإِنَّ هَذَا وُلِدَ قَبْلِي، وَبِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِي، وَتُحَلِّفُنِي عَلَى الْبَتَّةِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُحِيطُ بِأَنْ لَمْ يَأْبَقْ قَطُّ عِلْمًا، قَالَ: يُسْأَلُ، قُلْتُ: يَقُولُ لَكَ: فَأَنْتَ تُحَلِّفُنِي عَلَى مَا تَعْلَمُ أَنِّي لَا أَبَرُّ فِيهِ، قَالَ: وَإِذَا سَأَلْتَ وِسْعَكَ أَنْ تَحْلِفَ، قُلْتُ: أَفَرَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ فَغُبِّيَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَسَأَلَ أَوْلَى أَنْ يُعْلَمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: بَلْ مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ، قُلْتُ: فَقَدْ عِبْتَ يَمِينَهُ عَلَى الْقَسَامَةِ، وَنَحْنُ لَا نَأْمُرُهُ أَنْ يَحْلِفَ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ يُمَكِّنُهُ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْقَسَامَةِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلْتَ بِرَأْيِكَ: يَحْلِفُ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي وَصَفْتَ، قَالَ: فَقَدْ خَالَفَ حَدِيثَكُمُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ بُجَيْدٍ، قُلْتُ: أَفَأَخَذْتَ بِحَدِيثِ سَعِيدٍ وَابْنِ بُجَيْدٍ، فَتَقُولُ: اخْتَلَفَتْ أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ بِأَحَدِهَا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقَدْ خَالَفْتَ كُلَّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَسَامَةِ، قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ؟ قَالَ: هُوَ مُنْقَطِعٌ، وَالْمُتَّصِلُ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَعْلَمُ بِحَدِيثِ صَاحِبِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَالَ: فَكَيْفَ لَمْ تَأْخُذْ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ؟ قُلْتُ: لَا يَثْبُتُ ثُبُوتَ حَدِيثِ سَهْلٍ، بِهَذَا صِرْنَا إِلَى حَدِيثِ سَهْلٍ دُونَهُ، قَالَ: فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ قَالَ: لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ إِلَّا بِلَوْثٍ مِنْ بَيِّنَةٍ، أَوْ دَعْوَى مِنْ مَيِّتٍ، ثُمَّ وَصَفَ اللَّوْثَ بِغَيْرِ مَا وَصَفْتَ، قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتُنَا تَرَكْنَاهُ عَلَى أَصْحَابِنَا، وَصِرْنَا إِلَى أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا بِشَيْءٍ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ، قَالَ: وَأَعْطَيْتُمُ بِالْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ، وَلَمْ تُعْطُوا بِهَا فِي الْجِرَاحِ، قُلْتُ: أَعْطَيْنَا بِهَا حَيْثُ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْجِرَاحُ مُخَالِفَةٌ لِلنَّفْسِ، قُلْتُ: لِأَنَّ الْمَجْرُوحَ قَدْ يَتَبَيَّنُ مِنْ جُرْحِهِ، وَيُدِّلُ عَلَى مَنْ عَمِلَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَبَيَّنُ الْمَيِّتُ ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: فَبِهَذَا لَمْ نُعْطِ بِهَا فِي الْجِرَاحِ كَمَا أَعْطَيْنَا بِهَا فِي النَّفْسِ، وَالْقَضِيَّةُ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» ، أَنَّهُمْ أَحْلَفُوا أَهْلَ الْمَحِلَّةِ وَلَمْ يُبْرِئُوهُمْ، وَإِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَمِينَ مَوْضِعَ بَرَاءَةٍ، وَقَدْ كَتَبْنَا الْحُجَّةَ فِي هَذَا مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَتَبْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا رَأَيْنَاهُمُ ادَّعَوَا الْحُجَّةَ فِي شَيْءٍ إِلَّا تَرَكُوهُ، وَلَا عَابُوا شَيْئًا إِلَّا دَخَلُوا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِي اللهُ عَنْهُ: وَمِنْ كِتَابِ عُمَرَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قِبْطِيٍّ، أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ، قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ: وَايْمُ اللَّهِ، مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَكْثَرَ عِلْمًا مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هَكَذَا كَانَ الشَّأْنُ، وَلَكِنَّ سَهْلًا أَوْهَمَ، مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عَلِمَ لَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ: أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ فَدُوهُ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقَالَ لِي قَائِلٌ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ بُجَيْدٍ؟ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ ابْنَ بُجَيْدٍ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَسْنَا وَلَا إِيَّاكَ نُثْبِتُ الْمُرْسَلَ، وَقَدْ عَلِمْتَ سَهْلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ سِيَاقًا لَا يُثْبِتُهُ إِلَّا الْأَثْبَاتُ، فَأَخَذْتُ بِهِ لِمَا وَصَفْتُ، قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْخُذَ بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ؟ قُلْتُ: مُرْسَلٌ، وَالْقَتِيلُ أَنْصَارِيٌّ، وَالْأَنْصَارِيُّونَ أَوْلَى بِالْعِنَايَةِ بِالْعِلْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ كُلٌّ ثِقَةً، وَكُلٌّ عِنْدَنَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثِقَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 671 بَابُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بَعْضُهَا: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 672 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْضِهِ عَنْهَا» . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُقْضَى فَرِيضَةُ الْحَجِّ عَمَّنْ بَلَغَ أَنْ لَا يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَسَنَّ أَنْ يُقْضَى نَذْرُ الْحَجِّ عَمَّنْ نَذَرَهُ، وَكَانَ فَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ عَلَى مَنْ وَجَدَ إِلَيْهِ السَّبِيلَ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّبِيلِ الْمَرْكَبَ وَالزَّادَ، وَفِي هَذَا نَفَقَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَسَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ مِنَ الْحَجِّ بَدَلًا غَيْرَ الْحَجِّ، وَلَمْ يُسَمِّ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا كَانَ نَذْرُ أُمِّ سَعْدٍ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ نَذْرُ الْحَجِّ، فَأَمَرَهُ بِقَضَائِهِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ قَضَاءَهُ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ نَذْرَ صَدَقَةٍ كَانَ كَذَلِكَ، وَالْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ. قَالَ: فَأَمَّا مَنْ نَذَرَ صِيَامًا أَوْ صَلَاةً ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ عَنْهُ فِي الصَّوْمِ وَلَا يُصَامُ عَنْهُ، وَلَا يُصَلَّى عَنْهُ وَلَا يُكَفَّرُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا فَرَّقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؟ قُلْتُ: قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهَا، فَإِنْ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ عَلَى مَنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْضَى عَمَّنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَجِّ بَدَلًا غَيْرَ الْحَجِّ، وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمَ فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] إِلَى قَوْلِهِ: {مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ؟ قِيلَ: يُطِيقُونَهُ، كَانُوا يُطِيقُونَهُ، ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ، فَعَلَيْهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ، وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ، وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَقْضِيَ الْحَائِضُ، وَلَا يُقْضَى عَنْهَا مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ عَوَامُ الْمُفْتِينَ: وَلَا الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ كَفَّارَةً، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ عَنْ صَلَاةِ كَفَّارَةٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا أَنْ يَقُومَ بِهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَكَانَ عَمَلُ كُلِّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ عَمَلَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ بِعَمَلِ الْحَجِّ عَنِ الرَّجُلِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفَقَةً مِنَ الْمَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: أَفَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَصُومَ عَنْ أَحَدٍ؟ قِيلَ: نَعَمْ، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَأْخُذُ بِهِ؟ قِيلَ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ، مَعَ حِفْظِ الزُّهْرِيِّ وَطُولِ مُجَالَسَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا جَاءَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِغَيْرِ مَا فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَشْبَهَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْفُوظًا، فَإِنْ قِيلَ: أَتَعْرِفُ الَّذِي جَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يُغَلِّطُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ قِيلَ: نَعَمْ، رَوَى أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنَّ الزُّبَيْرَ حَلَّ مِنْ مُتْعَتِهِ الْحَجَّ، فَرَوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَتْ عَلَيْنَا كَبِيرُ مُؤْنَةٍ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ إِذَا اخْتَلَفَ، أَوْ ظُنَّ مُخْتَلِفًا، لِمَا وَصَفْتُ، وَلَا مُؤْنَةَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَالنَّصَفَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا، وَالْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ، وَقَدْ عَارَضَ صِنْفَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ بِحَالِ بَعْضِ مُحَدِّثِيهِ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي غَلَطَ صَاحِبُهُ بِدَلَالَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ، فَسَأَلَنِي مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُبْطِلُ الْحَدِيثَ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ بِضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْجَهَالَةُ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ حَدِيثُهُ، وَالْآخَرُ بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَرُدُّهُ، فَيَقُولُونَ: إِذَا جَازَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُ جَازَ فِي كُلِّهِ، وَصِرْتُمْ فِي مَعْنَانَا، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْحَاكِمَ إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةٌ: عَدْلٌ يَعْرِفُهُ، وَمَجْرُوحٌ يَعْرِفُهُ، وَرَجُلٌ يَجْهَلُ جُرْحَهُ وَعَدْلَهُ، أَلَيْسَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْعَدْلِ، وَيَتْرُكُ شَهَادَةَ الْمَجْرُوحِ، وَيَقِفُ شَهَادَةَ [ص: 673] الْمَجْهُولِ حَتَّى يَعْرِفَهُ بِعَدْلٍ فَيُجِيزَهُ، أَوْ بِجَرْحٍ فَيَرُدَّهُ؟ فَإِنْ قَالَ: بَلَى، قِيلَ: فَلَمَّا رَدَّ الْمَجْرُوحَ فِي الشَّهَادَةِ بِالظِّنَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْعَدْلَ الَّذِي لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: فَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَيْسَ نُجِيزُ لَكُمْ خِلَافَ الْحَدِيثِ، وَطَائِفَةٌ تَكَلَّمَتْ بِالْجَهَالَةِ وَلَمْ تَرْضَ أَنْ تَتْرُكَ الْجَهَالَةَ، وَلَمْ تَقْبَلِ الْعِلْمَ، فَنَقَلَتْ مُؤْنَتَهَا وَقَالُوا: قَدْ تَرُدُّونَ حَدِيثًا وَتَأْخُذُونَ بِآخَرَ، قُلْنَا: نَرُدُّهُ بِمَا يَجِبُ بِهِ رَدُّهُ، وَنَقْبَلُهُ بِمَا يَجِبُ بِهِ قَبُولُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الشُّهُودِ، وَكَانَتْ فِيهِ مُؤْنَةٌ، وَإِنْ غَضِبَ قَوْمٌ لِبَعْضِ مَنْ رَدَّ مِنْ حَدِيثِهِ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ يَعِيبُونَ الْفُقَهَاءَ، وَلَيْسَ يَجُوزُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ رَدُّوا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ بِظِنَّةٍ، أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى غَلَطٍ، أَوْ وَجْهٍ يَجُوزُ بِهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 672 بَابُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بَعْضُهَا: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ، أَوْ قِيمَةِ عَدْلٍ، لَيْسَتْ بِوَكْسٍ وَلَا شَطَطٍ، ثُمَّ يَغْرَمُ لِهَذَا حِصَّتَهُ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: «أَعْتَقَتِ امْرَأَةٌ، أَوْ رَجُلٌ، سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ ثُلُثَهُمْ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ الْمُعْتِقِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ، فَأَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، أَوْ قَالَ: أَعْتَقَ عِنْدَ مَوْتِهِ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ غَيْرَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثَابِتٌ عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَكَانَ حُرًّا يَوْمَ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَتَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ مَا مَلَكَ مِنْهُ، وَرَقَّ مَا بَقِيَ لِأَصْحَابِهِ فِيهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مَمَالِيكُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُمْ فَأَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عِتْقَ بَتَاتٍ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ، فَأَيُّهُمْ خَرَجَ لَهُ سَهْمُ الْعِتْقِ عُتِقَ، وَرُقَّ الْبَاقُونَ، وَلَا يُسْتَسْعَى الرَّقِيقُ، وَلَا الْعَبْدُ يُعْتَقُ بَعْضُهُ فِي حَالٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 بَابُ الْخِلَافِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَالَفَ مَذْهَبَنَا فِي هَذَا بَعْضُ النَّاسِ، فَزَعَمَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَ، أَوْ يُضَمِّنَهُ، أَوْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ، فَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ وَعَابُوا هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ لِلشِّقْصِ لَهُ فِي الْعَبْدِ مُوسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فالْعَبْدُ حُرٌّ، وَيَسْعَى فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ، وَقَالُوا: ثَلَاثَةُ مَمَالِيكَ أَعْتَقَهُمْ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يُعْتِقُ ثُلُثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ قَالَ بَعْضَ هَذَا، بِأَنْ رُوِيَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُعْسِرٌ: يَسْعَى. وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيلَ لَهُ: أَوَثَابِتٌ حَدِيثُ أَبِي قِلَابَةَ لَوْ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ خَالِدٍ؟ فَقَالَ مَنْ حَضَرَ: هُوَ مُرْسَلٌ، وَلَوْ كَانَ مَوْصُولًا كَانَ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ، وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُهُ، فَقُلْتُ: أَثَابِتٌ حَدِيثُكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ فِيهِ الِاسْتِسْعَاءُ، وَقَدْ خَالَفَهُ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ؟ فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: حَدَّثَنِيهِ شُعْبَةُ وَهِشَامٌ هَكَذَا، لَيْسَ فِيهِ اسْتِسْعَاءٌ، وَهُمَا أَحْفَظُ مِنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا كَانَ فِي هَذَا مَا شَكَّكَ فِي ثُبُوتِ الِاسْتِسْعَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَقِيلَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَوِ اخْتَلَفَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ، أَيُّهُمَا كَانَ أَثْبَتَ؟ قَالَ: نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَعَلَيْنَا أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْأَثْبَتِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَعَ نَافِعٍ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِإِبْطَالِ الِاسْتِسْعَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ النَّظَرِ وَالدِّينِ مِنْهُمْ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فِي الِاسْتِسْعَاءِ مُنْفَرِدًا لَا يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ، مَا كَانَ ثَابِتًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَعَارَضَنَا مِنْهُمْ مُعَارِضٌ آخَرُ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِي الِاسْتِسْعَاءِ، فَقَطَعَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ: لَا يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ لِضَعْفِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: نُنَاظِرُكَ فِي قَوْلِنَا وَقَوْلِكَ، فَقُلْتُ: أَوَلِلْمُنَاظَرَةِ مَوْضِعٌ مَعَ ثُبُوتِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرْحِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي حَدِيثَيْ نَافِعٍ وَعِمْرَانَ، قَالَ: إِنَّا نَقُولُ: إِنَّ أَيُّوبَ رُبَّمَا قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْهُ، وَأَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ نَافِعٌ بِرَأْيِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَحْسَبُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ يَشُكُّ فِي أَنَّ مَالِكًا أَحْفَظُ لِحَدِيثِ نَافِعٍ مِنْ أَيُّوبَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَ لَهُ مِنْ أَيُّوبَ، وَلِمَالِكٍ فَضْلُ حِفْظٍ لِحَدِيثِ أَصْحَابِهِ خَاصَّةً، وَلَوِ اسْتَوَيَا فِي الْحِفْظِ فَشَكَّ أَحَدُهُمَا فِي شَيْءٍ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ صَاحِبُهُ، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَوْضِعٌ لِأَنْ يُغَلَّطَ بِهِ الَّذِي لَمْ يَشُكَّ، إِنَّمَا يُغَلَّطُ الرَّجُلُ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ، أَوْ يَأْتِي بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ يُشْرِكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ مَا حَفِظَ، وَهُمْ عَدَدٌ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ، وَقَدْ وَافَقَ مَالِكًا فِي زِيَادَتِهِ: وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ غَيْرُهُ، وَزَادَ فِيهِ بَعْضُهُمْ: وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقَّ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ عَلِمْتَ خَلْقًا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي حَدِيثِ الْقُرْعَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَكَيْفَ كَانَ خِلَافُكَ لَهُ، وَهُوَ كَمَا وَصَفْتَ، وَهُوَ مِمَّا نُثْبِتُ نَحْنُ وَأَنْتَ، أَكْثَرَ مِنْ خِلَافِكَ حَدِيثَ نَافِعٍ، وَمِنْ أَيْنَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تُخَالِفَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعَارِضًا لَوْ عَارَضَكَ فَقَالَ: عَطِيَّةُ الْمَرِيضِ كَعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ، فَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي عِتْقِ الْمَرِيضِ عِتْقَ بَتَاتٍ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَعَلِمْتَ أَنَّ طَاوُسًا قَالَ: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا لِقَرَابَةٍ، وَتَأَوَّلَ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَقَالَ: نُسِخَ الْوَالِدَانِ بِالْفَرَائِضِ، وَلَمْ يُنْسَخِ الْأَقْرَبُونَ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ حُجَّةٌ إِلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ عِتْقَ الْمَمَالِيكِ وَصِيَّةً، وَأَجَازَهَا وَهُمْ غَيْرُ قَرَابَةٍ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَرَبِيًّا، وَالرَّقِيقُ عَجَمٌ، وَعَلِمْتَ أَنَّ حُجَّتَنَا وَحُجَّتَكَ فِي الِاقْتِصَارِ بِالْوَصَايَا عَلَى الثُّلُثِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ دُونَ حَدِيثِ سَعْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيِّنٍ فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَكَيْفَ ثَبَتْنَاهُ حَتَّى أَصَّلْنَا مِنْهُ هَذِهِ الْأُصُولَ وَغَيْرَهَا، وَاحْتَجَجْنَا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَنَا، ثُمَّ صِرْتَ إِلَى خِلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ بِلَا خَبَرٍ مُخَالِفٍ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِي احْتَجَّ عَلَيْهِ بَعْضُكُمْ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ عَطِيَّةَ الْمَرِيضِ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ عِمْرَانَ ثَابِتًا فَقَدْ خَالَفْتَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَلَا حُجَّةَ لَكَ فِيهِ، وَلَكِنَّكَ وَإِيَّاهُ مَحْجُوجَانِ بِهِ؟ قَالَ: فَكَيْفَ يُعْتَقُ سِتَّةٌ، يُعْتَقُ اثْنَانِ، وَيُرَقُّ أَرْبَعَةٌ؟ قُلْتُ: كَمَا يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 674 دَارًا، أَوْ رَقِيقًا لَهُ ثَلَّثَهُمْ، فَيَقْتَسِمُونَ، فَيُنْفِذُ لِلْمُعْطِي بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَهُمْ، وَيُعْطِي الْوَرَثَةَ ثُلُثَيْهِمْ، فَلَمَّا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ مَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ جَمِيعًا أَعْتَقْنَا مَالَهُ فِي بَعْضِهِمْ، وَلَمْ نُعْتِقْ مَالَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ قَوْلُكَ فِي حَدِيثٍ نُثْبِتُهُ نَحْنُ وَأَنْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا وَعِنْدَكَ، غَيْرُ وَاسِعٍ تَرْكُهُ؛ لِفَرْضِ اللَّهِ عَلَيْنَا قَبُولَ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا أَثْبَتْنَا عَنْهُ شَيْئًا فَالْفَرْضُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، كَمَا عَدَلْنَا وَعَدَلْتَ، فَقُلْنَا: فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا كَانَتْ فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ مَيِّتًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، وَكَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ فِي جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ: مَا جَنَى رَجُلٌ فَفِي مَالِهِ، إِلَّا الْخَطَأَ فِي بَنِي آدَمَ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، وَكَمَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الدِّيَاتِ وَغَيْرِهَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الِاتِّبَاعُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ قَوْلُكَ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقَالَ: فَأُكَلِّمُكَ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ، قُلْتُ: أَوَلِلْكَلَامِ فِيهِ مَوْضِعٌ؟ قَالَ: إِنَّكَ خَلَطْتَ فِيهِ بَيْنَ حُكْمِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، قُلْتُ: مَا فَعَلْنَا، لَقَدْ تَرَكْنَاهُ لِنَفْسِهِ وَكَسْبِهِ كَمَا تَرَكْنَاهُ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ مَا قَدَرْنَا فِيهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا، كَمَا نَفْعَلُ لَوْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، قَالَ: أَفَتَجْعَلُونَ مَا اكْتَسَبَ فِي يَوْمِهِ لَهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْأَحْرَارُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَتُوَرِّثُونَهُمْ مِنْهُ وَلَا تُوَرِّثُونَهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، لَمْ يُخَالِفْنَا مُسْلِمٌ عَلِمْنَاهُ فِي أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ فِي الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنَ الرِّقِّ فَلَا يَرِثُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَقُلْنَا: لَا يَرِثُ بِحَالٍ بِإِجْمَاعٍ، وَبِأَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ، قَالَ: أَفَتَجِدُ غَيْرَهُ يُوَرَّثُ وَلَا يَرِثُ، وَيُحَكَمُ لَهُ بِبَعْضِ حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يُحْكَمُ بِبَعْضٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، الْجَنِينُ يَسْقُطُ مَيِّتًا يُوَرَّثُ وَلَا يَرِثُ، وَالْمُكَاتَبُ نَحْكُمُ لَهُ فِي مَنْعِ سَيِّدِهِ بَيْعِهِ وَمَالِهِ بِغَيْرِ حُكْمِ الْعَبْدِ، وَنَحْكُمُ لَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعَبْدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَنْ يُعْطِيَ شَرِيكَهُ قِيمَةَ حِصَّتِهِ وَيَكُونَ حُرًّا، أَتَجِدُهُ أَعْتَقَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا بِأَنْ أَعْطَى شَرِيكَهُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ إِذَا خَرَجَ نَصِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَهُ عَلَى الْمُعْسِرِ وَاسْتَسْعَاهُ، أَمَا خَالَفْتَ رَسُولَ اللَّهِ وَالْقِيَاسَ عَلَى قَوْلِهِ: إِذَا أَعْتَقَهُ فَأَخْرَجْتَهُ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ دَفَعَهَا إِلَيْهِ؟ قَالَ: أَجَعَلَ الْعَبْدَ يَسْعَى فِيهَا؟ قُلْتُ: فَقَالَ لَكَ الْعَبْدُ: لَا أَسْعَى فِيهَا، إِنْ كَانَ الَّذِي أَعْتَقَنِي يُعْتِقُنِي، وَإِلَّا لَا حَاجَةَ لِي فِي السِّعَايَةِ، أَمَا ظَلَمْتَ السَّيِّدَ وَخَالَفْتَ السُّنَّةَ وَظَلَمْتَ الْعَبْدَ إِذْ جَعَلْتَ عَلَيْهِ قِيمَةً لَمْ يَجْنِ فِيهَا جِنَايَةً، وَلَمْ يَرْضَ بِالْقِيمَةِ مِنْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْكَ مَا تَسْمَعُ مِنْ خِلَافِكَ فِيهِ السُّنَّةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 بَابُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، أَحْسَبُهُ قَالَ: وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: «وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا عَامٌّ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ يُرْوَى مُسْنَدًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 بَابُ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ مَا حَكَيْتُ: «وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ الْحُرَّ، أَوِ الْعَبْدَ، قَتَلْتُهُ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ الْكَافِرَ لَمْ أَقْتُلْهُ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَقُلْتُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَاوِيلَ جَمَعْتُهَا كُلَّهَا، جِمَاعُهَا أَنْ قُلْتُ لِمَنْ قُلْتُ مِنْهُمْ: مَا حُجَّتُكَ فِي أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ الْمُعَاهَدِ دُونَ الْمُسْتَأْمَنِ؟ قَالَ: رَوَى رَبِيعَةُ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ وَقَالَ: «أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ» . فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالِفُ هَذَا، أَيَكُونُ هَذَا مِمَّا يَثْبُتُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَمُرْسَلٌ، وَمَا نُثْبِتُ الْمُرْسَلَ، قُلْتُ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا، كَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنِ ادَّعَيْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَجَعَلْتَهُ عَلَى بَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ، وَقُلْتُ لِمَنْ قُلْتُ مِنْهُمْ: أَثَابِتٌ حَدِيثُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حَدِيثُ عَلِيٍّ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الَّذِي ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ، قُلْتُ: وَمَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، قُلْتُ: أَيَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّهُ يُقَالُ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ أُمِرَ الْمُؤْمِنُ بِقَتْلِهِ» ؟ قَالَ: أَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنًا، قُلْتُ: أَفَتَجِدُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ، أَوْ فِي شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي؟ فَقَالَ: أَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ، قُلْتُ: وَأَيْنَ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» ، قُلْتُ: أَيَثْبُتُ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِنْ كَانَ حَدَّثَهُ، أَيَلْزَمُنَا تَأْوِيلُكَ لَوْ تَأَوَّلْتَهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ؟ قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدٍ؟ قُلْتُ: لَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ شَيْءٌ فَنَحْتَاجُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَوْ لَزِمَ مَا كَانَ لَكَ فِيهِ مِمَّا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، قَالَ: كَيْفَ؟ قُلْتُ: لَوْ قِيلَ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَنَى غَيْرَ حَرْبِيٍّ، وَلَيْسَ بِكَافِرٍ غَيْرِ حَرْبِيٍّ إِلَّا ذُو عَهْدٍ، إِمَّا عَهْدٌ بِجِزْيَةٍ، وَإِمَّا عَهْدٌ بِأَمَانٍ، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ، وَكِلَاهُمَا حَرَامُ الدَّمِ، وَعَلَى مَنْ قَتَلَهُ دِيَتُهُ وَكَفَّارَةٌ، إِلَّا بِدَلَالَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرٍ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ. قَالَ: فَمَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: لَوْ كَانَ ثَابِتًا، فَكَانَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَا قَوَدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَهْدِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ غَيْرِ حَرْبِيٍّ، وَلَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، قَالَ: فَإِنَّا ذَهَبْنَا إِلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ ذُو عَهْدٍ لَوْ قَتَلَهُ، قُلْتُ: أَفَبِدَلَالَةٍ؟ فَمَا عَلِمْتُهُ جَاءَ بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفْتُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنَّمَا قُلْنَا قَوْلَنَا بِالْقُرْآنِ، قُلْتُ: فَاذْكُرْهُ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا أَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَهُ، قُلْنَا: فَلَا تَعْدُو هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَلَى جَمِيعِ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا، أَوْ تَكُونَ عَلَى مَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا مِمَّنْ فِيهِ الْقَوَدُ مِمَّنْ قَتَلَهُ، وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهَا خَاصٌّ إِلَّا بِسُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: مَا تَعْدُو أَحَدَ هَذَيْنِ، فَقُلْتُ: أَعَنْ أَيِّهِمَا شِئْتَ؟ قَالَ: هِيَ مُطْلَقَةٌ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ، وَلِلْعَبْدِ ابْنٌ حُرٌّ، أَيَكُونُ مِمَّنْ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ رَجُلًا قُتِلَ ابْنُهُ، وَلِابْنِهِ ابْنٌ بَالِغٌ، أَيَكُونُ الِابْنُ الْمَقْتُولُ مِمَّنْ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَعَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ قَوَدٌ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلِمَ أَنْتَ تَقْتُلُ الْحَرَّ بِالْعَبْدِ الْكَافِرِ؟ قَالَ: أَمَّا الرَّجُلُ يُقْتَلُ عَبْدُهُ، فَإِنَّ السَّيِّدَ وَلِيُّ دَمِ عَبْدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِيُّ دَمِ ابْنِهِ، أَوْ لَهُ فِيهِ وِلَايَةٌ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، فَقِيلَ: أَفَرَأَيْتَ رَجُلًا قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ أَخِي أَبِيهِ، وَلَيْسَ لِلْمَقْتُولِ وَلِيٌّ غَيْرَهُ، وَلَهُ ابْنُ عَمٍّ يَلْقَاهُ بَعْدَ عَشَرَةِ آبَاءٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَيَكُونُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْتُولِ مِنْهُ بِمَا وَصَفْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَذَا الْوَلِيُّ؟ قَالَ: لَا وِلَايَةَ لِقَاتِلٍ، وَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ بِحَالٍ؟ قُلْتُ: فَمَا مَنَعَكَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ عَبْدَهُ، وَفِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ ابْنَهُ؟ قَالَ: أَمَّا قَتْلُهُ ابْنَهُ فَبِالْحَدِيثِ، قِيلَ: الْحَدِيثُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 676 فِيهِ أَثْبَتُ، أَمِ الْحَدِيثُ فِي أَنْ لَا يُقْتَلَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ؟ فَقَدْ تَرَكْتَ الْحَدِيثَ الثَّابِتَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: فَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ عِلَّةٌ، فَكَيْفَ لَمْ تَقْتُلْهُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ، وَلَا وَلِيَّ لَهُ غَيْرَهُ يَطْلُبُ الْقَوَدَ؟ قَالَ: هَذَا حَرْبِيٌّ، قُلْتُ: وَهَلْ كَانَ الذِّمِّيُّ إِلَّا حَرْبِيًّا فَأَعْطَى الْجِزْيَةَ فَحُرِّمَ دَمُهُ، وَكَانَ هَذَا حَرْبِيًّا فَطَلَبَ الْأَمَانَ فَحُرِّمَ دَمُهُ، قَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الْحُكْمَ، أَفَحُكْمٌ هُوَ بَيْنَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَقْتُلُ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ، أَيُقْتَلُ بِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جِرَاحَاتٍ فِيهَا الْقِصَاصُ؟ قَالَ: لَا يُقَادُ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، قُلْتُ: فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ حُكْمَهُ حَيْثُ حَكَمَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، فَعَطَّلْتَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْأَرْبَعَةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَحُكْمًا جَامِعًا أَكْثَرَ مِنْهَا، وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْهُ فِي جُرْحٍ، وَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَقْتُلُ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَمَا تُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَكْثَرُ مِمَّا وَافَقْتَهَا فِيهِ، إِنَّمَا وَافَقْتَهَا فِي النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، ثُمَّ خَالَفْتَ فِي النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ: فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ ابْنَهُ، وَعَبْدَهُ، وَالْمُسْتَأْمَنَ، وَلَمْ تَجْعَلْ مِنْ هَذِهِ نَفْسًا بِنَفْسٍ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: لَا نَرَاكَ تَحْتَجُّ بِشَيْءٍ إِلَّا تَرَكْتَهُ، أَوْ تَرَكْتَ مِنْهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ: فَكَيْفَ يُقْتَصُّ لِعَبْدٍ مِنْ حُرٍّ، وَامْرَأَةٍ مِنْ رَجُلٍ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَعَقْلُهُمَا أَقَلُّ مِنْ عَقْلِهِ؟ قُلْتُ: أَوَتَجْعَلُ الْعَقْلَ دَلِيلًا عَلَى الْقِصَاصِ، فَإِذَا اسْتَوَى اقْتَصَصْتَ، وَإِذَا اخْتَلَفَ لَمْ تَقْتَصَّ؟ قَالَ: فَأَبِنْ، فَقُلْتُ: فَقَدْ يُقْتَلُ الْحُرُّ، دِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَهِيَ أَلْفُ دِينَارٍ عِنْدَكَ، بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَامْرَأَةٍ دِيَتُهَا خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ، قَالَ: لَيْسَ الْقَوَدُ مِنَ الْعَقْلِ بِسَبِيلٍ، قُلْتُ: فَكَيْفَ احْتَجَجْتَ بِهِ؟ فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إِنِّي قَتَلْتُ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ؛ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» ، قُلْتُ: أَفَكَانَ هَذَا عِنْدَكَ فِي الْقَوَدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهَذَا عَلَيْكَ، أَوَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ: «تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» ، أَمَا فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ الْكُفَّارِ لَا تَتَكَافَأُ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقَالَ قَائِلٌ: قُلْنَا: هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ يُقْتَلُ خَطَأً فَجَعَلَ فِيهِ دِيَةً مُسَلَّمَةً إِلَى أَهْلِهِ وَكَفَّارَةً، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمُعَاهَدِ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ الْمُسْتَأْمَنَ فِيهِ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَكَفَّارَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ تَقْتُلْ بِهِ مُسْلِمًا قَتَلَهُ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 بَابُ جَرْحِ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا لِقَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَفْسَدَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَخَذْنَا بِهِ لِثُبُوتِهِ بِاتِّصَالِهِ وَمَعْرِفَةِ رِجَالِهِ، قَالَ: وَلَا يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» ، وَلَكِنَّ «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» جُمْلَةٌ مِنَ الْكَلَامِ الْعَامِّ الْمَخْرَجِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، فَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ» ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَفْسَدَتِ الْعَجْمَاءُ بِشَيْءٍ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَتِ الْعَجْمَاءُ مِنْ جَرْحٍ وَغَيْرِهِ فِي حَالٍ جُبَارٌ، وَفِي حَالٍ غَيْرُ جُبَارٍ، قَالَ [ص: 678] : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى أَهْلِ الْعَجْمَاءِ حِفْظُهَا ضَمِنُوا مَا أَصَابَتْ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا مِمَّا أَصَابَتْ، فَيَضْمَنُ أَهْلُ الْمَاشِيَةِ السَّائِمَةِ بِاللَّيْلِ مَا أَصَابَتْ مِنْ زَرْعٍ، وَلَا يَضْمَنُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَيَضْمَنُ الْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ وَالسَّائِقُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ حِفْظَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَا يُضَمَّنُونَ لَوِ انْفَلَتَتْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا يُشْبِهُ هَذَا الْحَدِيثَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَذَكَرَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا، فَخَطَبَهَا عَلَى أُسَامَةَ وَتَزَوَّجَتْهُ، فَأَحَاطَ الْعِلْمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فِي حَالٍ يَخْطُبُ هُوَ فِيهَا، وَحَدِيثُ «جَرْحِ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» مُطْلَقٌ، وَجَرْحُهَا إِفْسَادُهَا فِي حَالٍ يُقْضَى فِيهِ عَلَى رَبِّ الْعَجْمَاءِ بِفَسَادِهَا، وَمِثْلُهُ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصُّبْحِ جُمْلَةً، وَهُوَ يَأْمُرُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، وَلَا يَمْنَعُ مَنْ طَافَ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 بَابُ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا دَلَالَةٌ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَتَدَارَكَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، فَخَرَجَ فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْطَلَقْنَا لَا نَعْرِفُ إِلَّا الْحَجَّ، وَلَهُ خَرَجْنَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَلَمَّا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَبِالْمَرْوَةِ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْرَامِهِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَلَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ، فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا طَاوُسًا يَقُولُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسَمِّي حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، قَالَ: فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَقَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَكِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَسُقْتُ هَدْيِي، فَلَيْسَ لِي مَحِلٌّ إِلَّا مَحِلِّي هَذَا» ، فَقَامَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ، أَعُمْرَتُنَا لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، بَلْ لِلْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِمَا أَهْلَلْتَ؟» فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَبَّيْكَ إِهْلَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَبَّيْكَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 أَخْبَرَنَا [ص: 679] مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 679 حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكِ؟ قَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ مَا وَصَفْتُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ شَيْءٌ أَحْرَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ، أَوْ مُخْتَلِفًا مِنْ وَجْهٍ لَا يُنْسَبُ صَاحِبُهُ إِلَى الْغَلَطِ بِاخْتِلَافٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمَنْ قَالَ: قَرَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَمُّ مِمَّنْ قَالَ كَانَ ابْتِدَاءُ إِحْرَامِهِ حَجًّا لَا عُمْرَةَ مَعَهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، قَالَ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي شَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا مِنْ وَجْهِ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ قَبِيحًا مِمَّا حَمَلَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا قِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ كَانَ لَهُ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ، ثُمَّ السُّنَّةَ، ثُمَّ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَإِفْرَادَ الْحَجِّ، وَالْقِرَانَ، وَاسِعٌ كُلُّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَشْبَهُ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فِي حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَا يُسَمِّي حَجًّا وَلَا عُمْرَةً، وَطَاوُسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُحْرِمًا يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ قَاسِمٍ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ تُوَافِقُ رِوَايَتَهُ، وَهَؤُلَاءِ تَقَصَّوَا الْحَدِيثَ، وَمَنْ قَالَ: أَفْرَدَ الْحَجَّ، فَيُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إِلَّا وَقَدِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ بِالْحَجِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَحْسَبُ أَنَّ عُرْوَةَ حِينَ حَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجِّهِ، وَذَكَرَ أَنَّ عَائِشَةَ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فِي عُمْرَتِي كَذَا، إِلَّا أَنَّهُ خَالَفَ خِلَافًا بَيِّنًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَصْحَابِهِ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: «وَمِنَّا مَنْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَرَنَ الصَّبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، قِيلَ لَهُ: حُكِيَ لَهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ قَالَا لَهُ: هَذَا أَضَلُّ مِنْ جُمْلَةٍ، فَقَالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، إِنَّ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكَ أَنَّ الْقِرَانَ وَالْإِفْرَادَ وَالْعُمْرَةَ هَدْيٌ لَا ضَلَالٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا؟ قِيلَ: أَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهُوَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَسَعُ وَيَجُوزُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مَا يُخَالِفُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِفْرَادَهُ الْحَجَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَوْلُ حَفْصَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قِيلَ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَتْ حَفْصَةُ مَعَهُمْ، فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا إِحْرَامَهُمْ عُمْرَةً وَيَحِلُّوا، فَقَالَتْ: «لِمَ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟» تَعْنِي: مِنْ إِحْرَامِكِ الَّذِي ابْتَدَأْتَهُ، وَهُمْ بِنَيَّةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ بُدْنِي» ، يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ: حَتَّى يَحِلَّ الْحَاجُّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ نَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ إِحْرَامَهُ حَجًّا، وَهَذَا مِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي تَكَادُ تَعْرِفُ مَا الْجَوَابُ فِيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ دُونَ حَدِيثِ مَنْ قَالَ: قَرَنَ؟ قِيلَ: لِتَقَدُّمِ صُحْبَةِ جَابِرٍ، وَحُسْنِ سِيَاقِهِ لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ، وَقُرْبِ عَائِشَةَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ، وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ مَنْ وَصَفَ انْتِظَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَضَاءَ، إِذْ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ الْحَجِّ قَبْلَ حَجَّتِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، طَلَبَ الِاخْتِيَارَ فِيمَا وُسِّعَ لَهُ فِيهِ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُفِظَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُتِيَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ فَانْتَظَرَ الْقَضَاءَ فِيهِمَا، وَكَذَلِكَ حُفِظَ عَنْهُ فِي غَيْرِهِمَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 679