الكتاب: إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   [[الكتاب مرقم آليا، دروس مفرغة] ---------- شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل صالح آل الشيخ الكتاب: إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل المؤلف: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   [[الكتاب مرقم آليا، دروس مفرغة] شرح العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي والمسمى بـ ((إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل)) شرحها فضيلة الشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد حفيد مفتي الديار السعودية وسليل شجرةٍ مباركة حَمَلَت راية التوحيد والدعوة ابتداءً من أصلها المبارك الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال سماحته ((والسنة عزيزة واتباع طريقة السلف مطلوبة، والواجب على المرء أن يُخَلِّصَ نفسه من هواها، وأن يمتثل ما دلت عليه السنة دون مخالفة)) . بدأ فضيلته بشرحها في مدينة الرياض يوم السبت 13 ذي القعدة 1417هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 : [[الشريط الأول]] : مقدمة : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُواً أحد، واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فهذا الدرس شروعٌ في شَرْحِ مُخْتَصَرٍ في العقيدة؛ مُخْتَصَرٍ مهمّ لأنَّ أهل العلم يُحَبِّذُونَ إقْرَاءَهُ وشرحه ويؤكدون على أهمية ما اشتمل عليه من مسائل الاعتقاد بلفظٍ مُوجَز وبيانٍ حَسَنْ. وهذه العقيدة التي نبتدئ شرحها في هذه الدروس هي عقيدة العالم المحدِّث: أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ، وهي المسماة بالعقيدة الطحاوية نسبةً إليه. وهي عقيدةٌ موافقة في جُلِّ مباحثها لما يعتقده أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة، كما سيأتي في بيانه إن شاء اللهُ تعالى. وهذه العقيدة الطحاوية ذَكَرَ عددٌ من أهل العلم أنَّ أتْبَاعَ أئمة المذاهب الأربعة ارتضوها؛ وذلك لأنها اشتملت على أصول الاعتقاد المُتَّفَقِ عليه بين أهل العلم، وذلك في الإجمال لأنَّ ثَمَّ مواضع اُنتُقِدَت عليه كما سيأتي بيانه. وأبو جعفر الطحاوي من علماء الحديث المعروفين ومن الفقهاء المشهورين أيضاً، وكان شافعياً تَفَقَّهَ على المُزَنِي رحمه الله تلميذ الشافعي، ثم انتقل في الفروع من مذهب الشافعية إلى مذهب الحنفية فصار في المذهب حنفي المذهب إلا أنَّهُ لا يتعصب لقول أبي حنيفة ولا يُقَلِّدُهُ؛ بل صنيع العلماء المحققين أنْ يتابعه فيما ظهر فيه الدليل وأن يأخذ بالدليل إذا خالف قول الإمام. وجرت مناظرة في ذلك، أو جرى حوارٌ في ذلك بين الطحاوي وبين أحد العلماء في مصر من الحنفية، فقال الطحاوي في مسألة بغير قول الإمام أبي حنيفة، فذاك قال له: ألست من أتباع أبي حنيفة؟ قال: بلى، ولكني لا أقَلِّدُهُ؛ لأنَّهُ لا يُقَلِّدُ إلا عصبي - يعني متعصباً -. فقال الآخر وغبي أيضاً - يعني لا يقلد من أهل العلم إلا عصبيٌ أو غبي -. فصارت الكلمة مثلاً في مصر تداولها الناس في مقولة هذين العالمين، وذلك يدل على تحرّي أبي جعفر الطحاوي للحق وعلى ابتغائه له. وهو في الفروع كما ذكرنا حنفي المذهب، وأما في الأصول ففي الجملة هو على مذهب أهل السنة والجماعة أتباع أهل الحديث والأثر إلا في مسائل تَبِعَ فيها مُرجئة الفقهاء. وفي جُمَلِ كلامه في هذه العقيدة يوافق معتقد السلف إلا في المواضع التي ذكر فيها مسألة الإيمان في تعريفه حيث قال (والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان) وقال (وأهله في أصله سواء) وهذه من مقالة المرجئة، وقد ذكر هو في صدر عقيدته هذه أنَّ هذا الُمعتَقَد الذي كتبه هو اعتقاد أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهذا ظاهر فيما ذَكَرَ من مسألة الإيمان. * فنقول: هذا الكتاب -كما سيأتي- كتابٌ مشتملٌ على أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بعبارةٍ حسنة جيدة وبتقريرٍ لها طيِّب، إلا في مسائل انتُقِدَتْ عليه. ولهذا كان بعض مشايخنا عافاهم الله وخَتَمَ لهم برضاه يقول: هذه عقيدة الطحاوي ولا يقال هذه عقيدة أهل السنة والجماعة إذا أُرِيدَ الجميع، لأنّه ثَمَّ مسائل خالف فيها معتقد أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر في الأصول وفي التعبير عن الاعتقاد كما سيأتي بيانه. وهذه العقيدة اهتَمَّ بها علماؤنا لأجْلِ شَرْحِهَا العظيم؛ وهو شَرْحُ ابن أبي العز الحنفي من تلامذة الحافظ ابن كثير صاحب شرح العقيدة الطحاوية المشهور بينكم. على أنَّ هذه العقيدة لها شروحٌ كثيرة، فالماتريدية شَرَحُوهَا بشروحٍ متنوعة، ووجَّهُوا الكلام فيها على معتقد أتباع أبي منصور الماتريدي. ولكن شرح ابن أبي العز وجَّهَهَا توجيهاً سلفيا تابِعَاً فيه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وطريقة ابن القيم - رحمهما الله تعالى - وأجاد في ذلك بحيث صار هذا الشرح مرجعاً في علم الاعتقاد بعامة، ودافع الشارح عن المصَنِّفْ الطحاوي في مواضع مما عبَّرَ فيه بغير ما ينبغي من التعبير أو فيما قرَّرَهُ في مسألة الإيمان، بما هو معروفٌ في موطنه وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى عند التعرض لعبارات المصنف. هذا الكتاب أو هذه الرسالة والنبذة؛ العقيدة الطحاوية فيها كما ذكرنا ذِكْرُ الاعتقاد بعامة ولكنَّهُ أُخِذَ عليه أنه لم يُرَتِّبْهُ، ولهذا وقع الكلام على الصفات مُفَرَّقاً، ووقع الكلام على القدر مُفَرَّقَاً، ووقع الكلام على الإيمان مُفَرَّقاً، وهكذا في نظائر هذه المسائل. فهي كانت شبيهةً بالإملاء على ما جاء في قلب المؤلف رحمه الله وأجزل له المثوبة - دون ترتيبٍ علميٍ يجمَعُ المسائلَ بعضَهَا إلى بعض؛ يجمع النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 ولهذا وَقَعَ كلام الشارح علي بن علي بن أبي العز الحنفي وقَعَ كذلك تَبَعاً للأصل غير مرتَّبْ. وذَكَرَ في أواخر شرحه أنه تَمَنَّى أنْ لو رَتَّبَ هذا الشرح على ترتيب أركان الإيمان، ثم ما يتصل بذلك من الكلام، ليكون أبلغ في الانتفاع؛ فيجعل الكلام في الألوهية مُتَتَابِعَاً، والكلام في الصفات مُتَتَابِعَاً، والكلام في الإيمان مُتَتَابِعَاً، وفي القدر مُتَتَابِعَاً، وفي النبوات مُتَتَابِعَاً إلى آخر ذلك. وهذا لو حصل لكان أنفع وأدعى لاستحضار شرح تلك المسائل. هذه العقيدة أيضا على جلالتها ووَجَازَةِ ألفاظها تحتملُ شرحاً طويلاً كما صنع الشارح ابن أبي العز الحنفي، وتَحْتَمِلُ شَرْحَاً متوسطاً، وتحتمل شرحاً مُخْتَصَرَاً، ولما كُنَّا قد شرحنا عدداً من كتب العقيدة في سِنِيِّنَا التي مَرَّتْ، رأيت -والتوفيق بيد الله - عز وجل - أن أجعل الكلام عليها ليس على طريقة الشارح في الاستطراد في ذكر الشرح وإدخال المسائل بعضها في بعض، ولكن على طريقةٍ مرتبة متعلقة: - أولا: بألفاظ المُصَنِّفْ. - ثانياً: بالمسائل التي أورَدَهَا المُصَنِّفْ. - وثالثا: بتحقيق القول في أنَّ ما ذَكَرَهُ هو مذهب أهل السنة والجماعة. - ورابعا: في أدلة ما ذكره من المسألة. - خامسا: في ذِكرِ تفريعاتِ تلك المسألة على اعتقاد أهل الحديث والأثر. - وسادساً: في ذِكر الأقوال المخالفة؛ أقوال أهل الفِرَقْ، وأدلَّتِهَا والرد عليها. وكما تنظر في هذا التقسيم يحتمل تطويلاً كبيراً، ويحتمل توسطاً، ويحتمل اختصاراً. فأسأل الله - عز وجل - أن يوفقني لما ينفعكم وأن ينفعكم بما تسمعونه إن شاء الله وأرجوا أن يكون منكم الاجتهاد في متابعة الشرح والتَّفْرِيْعْ على هذه المسائل من جهة النظر في الشروح، وكلام شيخ الإسلام وابن القيم وأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى جميعا؛ لأنَّ في بحثك بعد الدرس ومراجعتك للدرس ما يُؤَكِّدُ هذه المسائل ويُبَيِّنُهَا، لأنَّ التطويل والتفصيل قد يُذهِبُ بَعضُه بعضاً عند المبتدئ والمتوسط، لكن إذا راجعت وأكدت على نفسك بالمراجعة المستمرة الأسبوعية كان في ذلك إن شاء الله تعالى خير كثير واستحضارٌ لتلك المسائل. اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فهيِّئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم لا يسير إلا ما يَسَّرْتْ، ولا سَهْلَ إلا ما جعلته سَهْلَاً، أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وسددنا في القول والفهم والعمل إنك على كل شيء قدير. نعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- رحمه الله: هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.   هذه المقدمة اشتملت على مسائل: [المسألة الأولى] : أنَّ هذه عقيدة، والعقيدة فَعِيلَة بمعنى مَفْعُولْ؛ يعني مَعْقُودَاً عليه. والمسائل منقسمة إلى أخبار وأحكام كما قال - عز وجل - {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] . تمت كلمة الله على هذين القسمين: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. والأخبار يجب تصديقها. فما كان مرجعه إلى التصديق والإيمان به ولا دخل للعمليات به فإنه يُسَمَّى عقيدة؛ لأنّ مرجعه إلى علم القلب. فسُمِّي هذا عقيدة لأنه معقودٌ عليه القلب - يعني كأنَّهُ دخل إلى القلب فعُقِدَ عليه فلا يخرج منه من شدة الاستمساك به ومن شدة الحرص عليه - لأنْ لا يخرج أو ينفلت. وهذا اللفظ لفظ (العقيدة) كما ذكرتْ راجعٌ إلى علم القلب؛ لأنه هو الذي يُعْقَدُ الشيء الذي فيه، وأمَّا العمليات فهذه من الإيمان -كما هو معروف- لكن مورِدُهُا عمل الجوارح، لذلك لم تدخل في العقيدة. وهناك ألفاظ مرادفة للعقيدة للدلالة على ما ذكرنا وهي: التوحيد، السنة، الشريعة، وأشباه ذلك: - فمنها ما يكون مختصًّا بالعقيدة كالتوحيد. - ومنها ما يكون لها ولغيرها كالسنة والشريعة، فإنَّ لفظ الشريعة يشمل العقيدة أيضاً؛ لأنَّ الله عز وجل بَيَّنَ لنا أنَّ الأنبياء اجتمعوا على شريعةٍ واحدة فقال - عز وجل - {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، فهذه شريعةٌ أُجْمِعَ عليها بين المرسلين، والمقصود بها التوحيد والعقيدة الواحدة. وتأتي الشريعة ويُرَادُ منها العمليات كما قال - عز وجل - {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال (الأنبياءُ إِخْوة لعَلاّتٍ الدين واحد والشرائع شَتّى) (1) . نخْلُصُ من ذلك إلى أنَّّ التصانيف في العقيدة قد تكون باسم: العقيدة أو باسم التوحيد أو باسم السنة أو باسم الشريعة كما هو موجودٌ فعلاً في تصانيف أئمة أهل السنة والجماعة.   (1) البخاري (3443) / مسلم (6279) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 [المسألة الثانية] : قوله (أهلُ السنَّة والجماعة) أهل السنة والجماعة، هذا لفظٌ أُطْلِقَ في أواخر القرن الثاني الهجري على أتْبَاعِ الأثر والمخالفين للفِرَقْ المختلفة الذين خرجوا عن طريقة الصحابة والتابعين. وأول من استعمله بعض مشايخ البخاري - رحمهم الله تعالى - وجَمَعَ بين لفظين، بين (السنة) و (الجماعة) ؛ لأنَّ هناك من يدَّعِي اتّباع السنة ولكنه لا يكون مع الجماعة، وهناك من يدعو إلى الجماعة بلا اتِّبَاعِ سنة. فصارت طريقة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح مشتملة على شيئين: اتِّبَاعْ السنة والجماعة. وكلٌ منهما في الحقيقة لازمٌ للآخر، فاتّباع السنة هو اتّباع الجماعة، واتّباع الجماعة هو اتّباع السنة، وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَحَّ عنه في الحديث الذي في السنن أنه قال (وَسَتَفْتَرِقُ هذه الأمَّة عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. كُلّهَا فِي النّارِ, إِلاّ وَاحِدَةً. وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) (1) . فصارت الفِرَقْ في النار؛ يعني مُتَوَعَّدَةْ بدخولها في النار، والناجية فرقة واحدة هي الجماعة، وهم المتبعون للسنة الممتثلون لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيين مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (2) ... الحديث. وإذا أُفْرِدَ أهل السنة فقد يُطْلَقُ ويُرَادُ بهم ما يقابل الرافضة والشيعة. لأنَّ لفظ (أهل السنة) يطلق ويراد به ما يخالف التَّشيُّع، ويُطلق ويراد به أهل الحديث والأثر. ولهذا زادوا على السنة (الجماعة) ، مع أنَّ كلاً منهما ملازمٌ للآخر لأجل أن يكون هناك تحديد في الإطلاق، فيكون المراد بالإطلاق ما يخالف الفرق كلها: الرافضة والخوارج والجهمية، المرجئة والقدرية، والجبرية إلى آخر أصول الفرق. وقد ذكرنا لكم في أول شرح الواسطية تفصيل معنى أهل السنة والجماعة، ومعنى الجماعة؛ وجماعة الدين وجماعة الأبدان بما يُرجع في ذلك إليه.   (1) أبو داوود (4596) / الترمذي (2640) / ابن ماجه (3993) (2) أبو داوود (4607) / الترمذي (2676) / ابن ماجه (42) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 [المسألة الثالثة] : أنّ هذه العقيدة التي ذكرها الطحاوي - رحمه الله - بُنيت على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن. وهؤلاء عند أهل الحديث والأثر وافقوا السنة والجماعة في أكثر المسائل، لكنَّهُم خالفوهم في أصلٍ عظيمٍ من أصول الدين ألا وهو الإيمان، ولهذا أُطْلِقَ عليهم مرجئة الفقهاء. فهُم مرجئة لأنَّ كلامهم في الإيمان كلام المرجئة لأنهم أرجَؤُوا العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا (إنّ أهله في أصله سواء) ، وقيل لهم مرجئة الفقهاء؛ لأنهم فقهاء، اشتهروا بذلك. فإذن يظهر من هذا التقديم أنَّ هذا المُؤَلَّفْ مبنِيٌّ على كلام أهل السّنة والجماعة بعامة، وعلى مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان بخاصة. وهذا هو الواقع فِعلاً؛ فإنَّ كلامه في الإيمان هو كلام المرجئة. فإذاً قوله (أهل السنة والجماعة) يُدخِل فيهم المرجئة؛ مرجئة الفقهاء. وهذا منه يدل على أنَّ مدلول (أهل السنة والجماعة) يشمل أهل الحديث والأثر ويشمل الماتُريدية والأشاعرة، وهذا باطل. وهذا القول صَرَّحَ به بعض الشُّرَّاحْ من المتقدمين ومن المتأخرين كالسَّفَّاريني في (لوامع الأنوار) (1) حيث قال في فصلٍ له (اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف؛ أهل الحديث والأثر والأشاعرة والماترودية) . وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ أهل السنة والجماعة هم الذين أخذوا بالسنة والجماعة في كل أصول المسائل. وأعظم المسائل التي حصل فيها الاختلاف أولاً هي مسألة الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام، فخالَفَ فيها الخوارج، كما هو معلوم، ثم تَبِعَ ذلك ظهور المرجئة إلى آخر ما حصل. فإذاً هذه المسألة -مسألة الإيمان- من مسائل الأصول العظيمة فلا يكون من نفاها -يعني من نفى دخول العمل في مسمى الإيمان- على طريقة أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر؛ لمخالفة قولهم للنصوص الكثيرة الدالة على أنَّ العمل من الإيمان كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.   (1) لوائح الأنوار البهية. كما في المنجد في اللغة والأعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 [المسألة الرابعة] : قوله (وما يعتقدون من أصول الدِّين) هذه الكلمة (أصول الدِّين) يُعبَّرُ بها عن العقيدة لأنَّ التعبير عن العقيدة صار فيه اشتراك. فيُعَبَّر عنها -عن العقيدة- عند أهل الحديث بما ذكرنا لك من العبارات: العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة، وعَبَّرَ عنها المخالفون بِعِلْمِ الكلام. والذين تركوا الفلسفة وما أصَّلَهُ علماء الكلام في بيان العقيدة إلى ما دَلَّ عليه كلام مُعَظَّمِيهم كالأشعري والماتريدي عَدَلُوا عن (علم الكلام) إلى (أصول الدين) . لأنَّ كلمة أصول الدين فيها مخالفة للفظ علم الكلام المذموم، وفيها تَوَسُطْ ما بين الألفاظ الشرعية (السنة، العقيدة، التوحيد، الشريعة) وما بين قولهم: علم الكلام. فأَتوا بهذا اللفظ الذي هو بيْن اللفظين. ولهذا نقول هذا اللفظ إن كان دليله ومَأخَذُهُ هو مَأْخَذْ التوحيد والسنة والعقيدة والشريعة فلا بأس باستعماله، ولهذا يستعمله أهل السنة والجماعة، ويريدون به المعنى الصحيح وهو أنَّ (أصول الدين) المقصود بها أصول الإيمان الستة وما يَنْدَرِجُ في ذلك من المسائل الأصلية والتّبَعِيَّة. فكلمة (أصول الدين) كلمة مُرَكَّبَة مُضَافَةْ، ولذلك يقولون هي مُرِكَّبٌ إضافي؛ أُضيف فيه الأصل إلى الدين. و (أصول الدين) كلمة معناها العقيدة. يريدون بكلمة (أصول) ما يخالف الفروع وهي العمليات. وإذا كان اللفظ محدثا أو مُصطَلحاً عليه فنقول لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح إذا كان لم يختص به أهل البدع، فاستعمله طائفة من علماء الحديث والسنة ويعنون به ما دلت عليه الألفاظ الشرعية؛ العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة. فإذن (وما يعتقدون من أصول الدين) يعني المقصود بها أصول الإيمان المعروفة، وما يتصل بذلك من مباحث، وما خالف فيه أهل السنة أهل البدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.   قوله (نقُولُ) هذا لأنه لا يُكْتَفَى في الاعتقاد باعتقاد القلب؛ بل لا بد من قول اللسان. وأعظم قول اللسان وكافِيْهْ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لأنَّ العقيدة الصحيحة اعتقادٌ بالجنان، وقولٌ باللسان حتى يكون الإيمان صحيحاً، ثم امتثال العمليات في الأمر والنهي. وقوله (مُعتَقدينَ) هذه حال من (نقُولُ) يعني أقول حَالَةَ كوني معتقدا هذا الكلام، عاقدا عليه قلبي، غير متردد فيه ولا مرتاب. فـ (مُعتَقدينَ) ولو تأخرت فهي حال من الضمير في (نقُولُ) . وقوله (بتوفيق الله) هذه استعانة بالله - عز وجل - أنْ يوفقه في القول الحق في ذلك. والتوفيق اختلفت فيه التفسيرات بما سيأتي بيانه إن شاء الله مفصلاً في ذكر مسائل القدر، فأهل السنة لهم تفسير للتوفيق وللخذلان، وأهل البدع كلٌ له مَشْرَبُه في تفسير التوفيق والخذلان. قال (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) اشتملت هذه الجملة على ذِكر التوحيد وعلى تفسيره. وكلمة (التوحيد) هذه مصدر: وَحَّدَ، يُوَحِّدُ، تَوْحِيدًا؛ يعني جَعَلَ الشيء واحداُ. قد جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث معاذ (إنّك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يوحدوا الله) (1) ، وجاء أيضا في قول الصحابي رضي الله عنه (فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد) (2) في قوله لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك -التلبية المعروفة في أول الحج-، (فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد) ، فإذاً كلمة (التوحيد) جاءت في السنة. ومعنى التوحيد كما ذكرنا جعل الشيء واحداً في اللغة، فتوحيد الله معناه أنْ تجعل الله واحداً. واحِدْ فيما وحَّدَ الله - عز وجل - نفسه فيه فيما دلت عليه النصوص. والنصوص دلَّت على أنَّ الله واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في إلهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته. فالتوحيد إذاً في الكتاب والسنة راجع إلى توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، توحيد الأسماء والصفات، وهذا على التقسيم المشهور. وقَسَمَهُ بعض أهل العلم إلى تقسيمٍ آخر وهو أنَّ توحيد الله ينقسم إلى قسمين؛ ينقسم: - إلى توحيدٍ في المعرفة والإثبات. - وإلى توحيدٍ في القصد والطلب. وعَنَى بقوله (في المعرفة والإثبات) في معرفة الله - عز وجل - بأفعاله، وهذا هو الربوبية و (الإثبات) له فيما أثبت لنفسه، وهذا هو الأسماء والصفات. وقوله (في القصد والطلب) وهو توحيد الإلهية. وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات جاء في عبارات المتقدمين من أئمة الحديث والأثر، فجاء عند أبي جعفر الطبري في تفسيره وفي غيره من كتبه، وفي كلام ابن بطة، وفي كلام ابن منده، وفي كلام ابن عبد البر، وغيرهم من أهل العلم من أهل الحديث والأثر، خلافاً لمن زعم من المبتدعة أنَّ هذا التقسيم أحدثه ابن تيمية، فهذا التقسيم قديم يعرفه من طالع كتب أهل العلم التي ذكرنا. إذا تقرر ذلك: فمعنى توحيد الربوبية: اعتقاد أنَّ الله واحدٌ في أفعاله سبحانه لا شريك له. وأفعال الله - عز وجل - منها خَلْقُه سبحانه، ومنها رَزْقُهُ وإحياؤه وإماتته وتدبيره للأمر وإغاثته للناس ونحو ذلك يعني أنَّ توحيد الربوبية راجعٌ إلى أفراد الربوبية التي هي السيادة والتصرف في الملكوت. فكل ما رَجَع إلى السيادة والتصرف في الملكوت رجع إلى توحيد الربوبية. فالإيمان بتوحيد الربوبية معناه أنَّهُ إيمانٌ بأنَّ الله وحده لا شريك له هو المتصرف في هذا الملكوت أمْرَاً ونهياً، هو الخالق وحده، وهو الرَّزَاقُ وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده، وهو القابض الباسط وحده في ملكوته، إلى آخر مفردات الربوبية، كما قال - عز وجل - {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس:31] ، فأثبت أَنَّهُم أقروا بالرُّبُوبِيَّة، وأنْكَرَ عليهم أنهم لم يتقوا الشرك به وتَرْكَ توحيد الإلهية. وتوحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العبيد. التوحيد في القصد والطلب؛ بأن يُفْرِدَ العبد ربه - عز وجل - في إنابته وخضوعه ومحبته ورجائه، وأنواع عبادته من صلاته وزكاته وصيامه ودعائه وذبحه ونذره إلى آخر أفراد العبادة بما هو معلوم في توحيد الإلهية.   (1) البخاري (1496) / مسلم (130) (2) مسلم (3009) / ابن ماجه (3074) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وتوحيد الأسماء والصفات: هو جعل الله - عز وجل - واحداً لا مِثْل له في أسمائه وصفاته كما قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وكما قال {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وكما قال - عز وجل - {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] . إذاً قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله) هنا ذَكَرَ التوحيد لأنَّ الخلاف قائمٌ فيه: - ففي الربوبية قام الخلاف مع الدُّهْرِيَةْ والفلاسفة الذين يقولون: إنَّ هذا العالمَ قديم لم يزل، وأنه ليس له خالق، بل وُجِدَ هكذا العالم باتفاق، وغير ذلك من مقالات نُفاة الرب - عز وجل -. وكذلك مخالفة للذين جعلوا الله رباً ولكن جعلوا معه شريكاً في الربوبية، وهم طوائف من الملل مختلفة، وفي هذه الأمة دَخَلَ ذلك في قول غلاة المتصوفة الذين يقولون: إنَّ لهذا العالم فيه من يتصرف فيه من الأولياء والأقطاب الذين لكل بلد قطب يمنع ويعطي فيها ويرزق ويحيي ويميت، إلى آخر ما يعتقدون فيه. - في الإلهية ثَمَّ من خالف. - في الأسماء والصفات ثَمَّ من خالف كما سيأتي تفصيله. هنا سؤال: وهو أنه قَدَّمَ القول في الاعتقاد في الله - عز وجل -، لم؟ والجواب عن ذلك أنه قدَّم ذلك لأمرين: - الأمر الأول: أنّ الإيمان بالله مُقَدَّمٌ على غيره من أركان الإيمان كما قال - عز وجل - {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فَقَدَّمَ الإيمان بالله على غيره، وكما في قوله - عز وجل - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:275] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المعروف (الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ) (1) . - الأمر الثاني: أنَّ الاعتقاد في الله - عز وجل - هو أصل الإيمان، وبه يصير المرء مؤمناً، بالاعتقاد في الله - عز وجل - بالوحدانية بما دَلَّتْ عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمدا رسول الله، وأَنَّ ذلك هو أول واجبٍ على العبيد. وفي هذا مخالفة للذين زعموا أنَّ أول واجبٍ على العبد -ويقدمونه في عقائدهم- أن يَعْرِفَ الله، أو أَنْ يستدل على معرفة الله، أو ما يسمونه بالنظر للتوحيد أو للمعرفة، أو بالقصد إلى النظر. فلما كان أول واجب هو التوحيد قَدَّمَه، مخالَفَةً لمن قال إنَّ أول واجب هو أَنْ تنظر في الدلائل وفي الملكوت لمن كان أهلاً لذلك. قال (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) ، (إنَّ الله واحدٌ) ، لفظ (واحدٌ) هذا من أسماء الله الحسنى، كما قال الله - عز وجل - {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] ، وأيضا من أسمائه الحسنى الأحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . و (واحدٌ) يعني أنه لا شريك له، ولذلك كانت كلمة (لا شريكَ لَهُ) هذه مؤكِّدَة تأكِيْدَاً بعد تأكيد. قال الحافظ ابن حجر وغيره في قوله (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) هذا تأكيد بعد تأكيد لبيان عِظَمِ مقام التوحيد. وكلمة (واحدٌ) هذه راجعة عند أهل الاعتقاد إلى أَحَدِيَّتِه سبحانه. ونقول الصحيح أنه لا فرق بين واحد وأحد. والمتكلمون يُفَرِّقُونَ ما بين الواحد والأحد؛ أو واحد وأحد، فيُرْجِعُون الوَاحِدِيَّةْ للصفات، والأَحَدِيَّة للأفعال. لكن الصحيح أنَّ اسم الله - عز وجل - الواحد يرجع إليه أَحديته سبحانه في الذات وفي الصفات وفي الأفعال؛ في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. قوله (شريكَ لَهُ) هذا تفسير لـ (واحدٌ) وتأكيدٌ له. ولهذا دلَّ قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) على أَنَّ التوحيد أعظم ما يُفَسَّرُ به نَفْيُ الشريك عن الله - عز وجل -، (نقُولُ في تَوحيدِ الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) فالتوحيد يُفسَّر بِضِدِّهِ وهو نفي الشرك كما قال الشاعر: فالضد يظهر حسنه الضد ****** وبضدها تتبين الأشياء فقد لا يستقيم معرفة التوحيد بتفاصيله إلا بالإيقان بِنَفْيِ الشرك بأنواعه. لهذا نقول هنا قوله (لا شريكَ لَهُ) هذا عام يشمل نفي الشريك في الربوبية، ونفي الشريك في الألوهية، ونفي الشريك في الأسماء والصفات. 1 - النوع الأول من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في ربوبيته:- والشَّرِكَة في الربوبية راجِعَةْ إلى جعل المخلوق له من صفات الرب - عز وجل - في صفات الربوبية؛ يعني أنْ يَجْعَلَ للمخلوق تصرفاً. إذا جعل للمخلوق تصرفاً في الكون مما يختص به الله - عز وجل -، فهذا ادِّعَاءٌ للشريك معه في الربوبية. أو أن يعتقد أنَّ الله معه مُعِينٌ أو ظهير أو وزير.   (1) البخاري (50) / مسلم (102) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهذا كله منفي، وكل هذا داخل في الاشتراك في الربوبية، كما قال - عز وجل - {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبإ:22] ، فذكر أنواع الاشتراك في الربوبية: - إما شَرِكَةْ مستقلة {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني استقلالاً. - أو معاونة. - أو اتخاذ ظهير ووزير لله - عز وجل -. وهذه المعتقدات موجودة في طوائف من هذه الأمة. والإيمان بتوحيد الربوبية ونَفْيِ الشَّرِكَةْ في الربوبية على درجتين: أ - الدرجة الأولى: واجبة على كل مُكَلَّف، ومن لم يأتِ بها فليس بموحّد، بل هو مشرك، وهو ما ذكرنا من الاعتقاد بأنَّ الله واحدٌ في ربوبيته؛ في أفعاله سبحانه، فهو الخالق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده - عز وجل -، وهو مُدَبِّرُ الأمور وحده، وهو خالق الخَلق وحده، إلى آخر أفراد ذلك، وهذه واجبة على كل أحد. ب - الدرجة الثانية: وهي مرتبةٌ للخاصة وأهل العلم وهي شهود آثار الربوبية في خَلْق الله - عز وجل -، وهذه بحيث لا يَرَى غير الله - عز وجل - مُؤَثِراً في هذا الملكوت، ولو كان تأثير معلولات عن عِلَلْ، أو تأثير مُسَبَّبَاتْ عن أسباب، فإنّه يَرَى أنْ لا مؤثر في الحقيقة ولا خالق إلا الله - عز وجل -، وينظر لذلك في الملكوت متفكراً، متدبراً. وهذه حال الخاصة وهي مستحبة، وهي لأهل العلم ولأهل الإيمان، وليست واجبة على كل أحد، كما قال سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:190-191] ، وكما وصف الله - عز وجل - بعض عباده بالتفكر والنظر والتدبر في خلق الله - عز وجل -، بل أمر بذلك في بعض الآيات بقوله {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، وكقوله {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} [الأعراف:184] ، وكقوله - عز وجل - {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبإ:46] ، فهذا التَّفَكُرْ في ربوبية الله - عز وجل -، في خلق الله يدل على توحيده في الربوبية، وهو حال الخاصة، كما قال الحسن البصري رحمه الله (عاملنا القلوبَ بالتفكر فأورثها التذكر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحركنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار) (1) . وهذه عند أهل البدع وأهل الكلام مطلوبة وواجبة لمن كان أهلاً لها. فيوجِبُونَ النظر، ويوجبون التفكر، ولا يصح إيمان أحدٍ - عند طائفة منهم- ممن كان أهلا للنظر إلا بالنظر. فلو مات المتأهل للنظر من غير نَظَرٍ لم يكن مؤمنا بربوبية الله - عز وجل -، وإنْ كانت تجري عليه أحكام أهل الإسلام في الدنيا فإنهم لا ُيجرُونَ عليه أحكام أهل الإسلام في الآخرة على تفصيل مذهب أهل الكلام في ذلك. 2 - النوع الثاني من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في إلهيته:- والإلهية معناها العبادة، يعني لا شريك له في عبادته، كما دلت عليها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) . فيعتقد أنَّ الله - عز وجل - ليس معه إله يستحق العبادة، وأنّ كل من أُدُّعِيَ فيه الإلهية وأنه يُعْبَدْ، فإنما عُبِدَ بالبغي والظلم والعدوان والتعدي. وكل من أشرك بالله - عز وجل - فهو ظالمٌ أبشع الظلم وأكبر الظلم؛ لأنه سبحانه توعَّد أهل الشرك بالنار، بل أوجب لهم النار في قوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وكما قال المسيح عليه السلام {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] . لبيان هذا التوحيد وما يتصل به كتب توحيد العبادة المعروفة ومن أعظمها وأشملها كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. 3 - النوع الثالث من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في الأسماء والصفات:- وذلك بأنْ يعتقد أنَّ الله - عز وجل - لا شريك له في كيفية اتصافه بالصفات. يعني لا مُماثِلَ له، ولا مشابه له في كيفية اتصافه بالصفات.   (1) يأتي ذكره (332) (2) سورة النساء في الآيتين:48 و116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وأنه سبحانه لا شريك له في المعنى المطْلَقْ لصفاته سبحانه ولأسمائه، ولا مُشَابِهَ له في المعنى المطلق لأسمائه وصفاته. وأنَّ اشتراك بعض خلقه معه سبحانه في الصفات إنما هو اشتراك في مطلق المعنى وفي أصله لا في المعنى المطلق ولا في كماله ولا في الكيفية. فيعتقد أنَّهُ لا شريك له في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله سبحانه، بل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . لأجل هذا المعنى العام، عَطَفَ عليها المصنف بقوله (ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره) كما سيأتي تفصيل الكلام على هذه المسائل في ذكر معنى هذه الجُمل الثلاث. إذاً هذا إجمالٌ لمعنى التوحيد ونفي الشريك، ويأتي تفصيلها مع بيان كل مسألة: توحيد الربوبية وأبحاثه، توحيد الأسماء والصفات وأبحاثه، توحيد الإلهية وأبحاث توحيد الإلهية. بَقِيَ أن نقول: إنَّ في قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) إنَّ هذه العبارة (لا شريكَ لَهُ) تفسيرها على طريقة أهل السنة ذكرناها. وأمَّا أهل البدع فيقولون في تفسير (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) عبارات مختلفة تجدونها في التفاسير، ويُكْثِرُ منها أهل البدع. فيقولون في تفسير (واحدٌ) : واحد في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شريك له، وواحدٌ في أفعاله لا نِدَّ له. وفي قولهم في أوَّلِهَا (واحد في ذاته لا قسيم له) هذه من التعبيرات المحدثة، وإن كان يمكن أن تَحْتَمِلَ معنَىً صحيحاً؛ لكن التوحيد والأَحَدِيَة تُفسَّرُ بواحديته سبحانه وأحديته في ربوبيته وإلهيته وفي أسمائه وصفاته. وأهل البدع في التوحيد اختلفت عباراتهم؛ وسبب اختلاف عباراتهم في التوحيد أنهم نظروا في تعريف التوحيد إلى حال النصارى وأهل الملل، فَفَسَّرُوا التوحيد بما يخالِفُ ما عليه بعض الطوائف. فقالوا (واحدٌ في ذاته لا قسيم له) يعني نفيا للأقانيم الثلاثة التي هي صُوَرْ لله - عز وجل - مختلفة كما هو اعتقاد النصارى أو طائفة من النصارى، وكذلك اعتقاد السِّنَوِيَّة والذين يقولون أنَّ ثَمَّ إلهين، هو إله واحد لكن له أُقنومان شيءٌ للخير وشيءٌ للشر. والله ـ واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، واحدٌ في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ـ. سيأتي إن شاء الله مزيد بيان لقول المخالفين في تفسير الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فيما نستقبل إن شاء الله تعالى. نكتفي الليلة بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه أنْ يوفقكم لما يحب ويرضى، وأن يزيدني وإياكم من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يختم لنا برضاه، وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأسئلة : س1/ قد يُفهم من الدرجة الثانية من توحيد الربوبية نفي الأسباب أو آثارها؟ ج/ لا يُفْهَم ذلك؛ لأنَّ المقصود أن يرى، أن يشهد آثار الأسماء والصفات، وشُهود آثار الأسماء والصفات، هذا ليس نفياً للأسباب، بل هو جعل الأسباب أسباباً، وعدم مجاوزتها لكونها أسباباً، فيرى أنّ الفاعل هو الله - عز وجل -، وأنه سبحانه أجرى الأسباب بجعلها أسباباً، وأنْتَجَ سبحانه وتعالى عنها مسبباتها، وأنَّ العِلَلْ تُنْتِجُ معلولاتها، وأنَّ المؤثرات تنتج الآثار، إلى غير ذلك مما هو معلوم من اعتقاد أهل التوحيد. س2/ ما نكاد نقرأ كتابا من كتب السنة، كالسنة لعبد الله، واللالكائي، والإبانة إلا ونجد فصلاً أو بابا في طعن الأئمة في أبي حنيفة فما هو السبب؟ وما موقفنا من هذه الآثار؟ ج/ هذا كان في ذلك الزمان لأنَّ أبا حنيفة رحمه الله خالف السنة والآثار في مسائل كثيرة جداً، ورَدَّ عليه أهل السنة والحديث حتى لا يأخذ الناس بكلامه في ذلك، فالتآليف هذه لأجل انتشار مذهب الحنفية في البلاد، فكتبوا ذلك تحذيراً من اتِّبَاعِهِ فيما أخطأ فيه، لكن لمَّا استَقَرَّتْ المذاهب، واستقرت الفرق، وصار أبو حنيفة رحمه الله أحد الأئمة الأعلام الذين يشار إليهم، والذين يُتَّبعون في مسائل الفقه، ترك أهل السنة إيراد ذلك بعد نهاية القرن الخامس، واجتمعوا على عدم ذكرها، بل عَدُّوهُ من الأئمة الأعلام كما عَقَدَ ذلك شيخ الإسلام في كتابه المعروف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وذكر منهم أبا حنيفة رحمه الله. فأخطأ هو في مسائل، وخالف السنة في مسائل، وعُدَّ من مرجئة الفقهاء، لكن ما ورد في تلك الكتب من شتمه ولعنه وسبه أو نحو ذلك، هذا تَرَكَهُ أهل السنة؛ فلم يَصِرْ من شعار أهل السنة أن يُفعَلَ ذلك، كما قرَّرَهُ الأئمة وفي كتبهم وتركوه في مؤلفاتهم بعد نهاية القرن الخامس. س3/ بعض أهل العلم يقسّم التوحيد إلى أربعة أقسام: توحيد الإلهية، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الحاكمية فهل هذا التقسيم صحيح أم لا؟ ج/توحيد الحاكمية داخِلٌ إما في توحيد الربوبية أو في توحيد الإلهية أو فيهما معاً؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل الحكم إليه سبحانه بقوله {إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) ، وقال - عز وجل - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ، ونحو ذلك من الآيات، وكقوله {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] . فالحاكمية من جهة تحاكم الناس هذا فِعْلُ العبد، وفِعْلُ العبد داخلٌ في توحيد الإلهية، ولهذا أَدْخَلَ إمام الدعوة مباحث هذا النوع من التوحيد في (كتاب التوحيد) فعَقَدَ عدة أبواب في بيان هذه المسألة العظيمة المهمة، ولهذا نقول إنَّ إفراده بالذكر لا يصلح؛ لدخوله في توحيد الإلهية، فهو من ضمن مسائله الكثيرة. لكن قد يُقْسَمْ التوحيد عند طائفة من أهل العلم إلى أربعة أقسام ويجعلون الرابع توحيد المتابعة؛ يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يقصدون بهذا التقسيم ما دلَّتْ عليه الشهادتان. فإذا قالوا (توحيد الله) قالوا ينقسم إلى ثلاثة أقسام. وإذا قالوا (التوحيد) بدون الإضافة إلى الله - عز وجل -، جعلوه أربعة أقسام؛ ثلاثة مختصة بالله - عز وجل -، والرابع هو توحيد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنْ لا يُتَّبَعَ في التشريع غير المصطفى صلى الله عليه وسلم.   (1) الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ   هذه الجمل الثلاث وهي قوله (وَلا شيءَ مِثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ، وَلا إلهَ غَيْرُهُ) تفصيلٌ لما يعتقده في توحيد الله - عز وجل -. والتوحيد -كما ذكرنا- منقَسِمٌ إلى الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية. فذَكَرَ هذه الأقسام الثلاث في قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ، وَلا إلهَ غَيْرُهُ) . فقوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) راجِعٌ إلى توحيد الأسماء والصفات والأفعال. وقوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) راجع أو مُثْبِتٌ لتوحيد الربوبية. وقوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) مثبتٌ لتوحيد العبادة والألوهية. وقدَّمَ رحمه الله ما يدل على توحيد الأسماء والصفات بعد ذِكْرِ توحيد الإلهية في قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) ؛ لأنَّ النزاع كائنٌ في توحيد الإلهية وفي توحيد الأسماء والصفات. فَمَعَ أهل الشرك النزاع في توحيد الإلهية، وهو الذي كان النزاع فيه ما بين الرسل وبين أقوامهم. ولهذا قَدَّمَ ما يعتقده بقوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) لأنَّ هذا هو حقيقة النزاع بين الرسل وبين أقوامهم. ثم قال (وَلا شيءَ مثْلُهُ) لأن هذا هو حقيقة النزاع ما بين أهل السنة والجماعة وما بين مخالفيهم من المبتدعة على أصنافهم من المجسمة والمعطلة والنفاة وأشباه هؤلاء. وأيضا قَرَنَ بينهما لأنَّ البدع بريد الشرك، فإنَّ تَرْكَ تنزيه الله - عز وجل - عن مماثلة المخلوقين تؤدي إلى الشرك به - عز وجل -، ولهذا قال من قال من السلف (المعطِّل يعبد عدما والممثل يعبد صنما) (1) . فالتمثيل ثَمَّ اقترانٌ بينه وبين الشرك؛ لأنَّ الممثل اتَخَذَ صورَةً جَعَلَهَا على صفات معينة فصارت صنماً له، كما أنَّ المشركين عبدوا الأصنام واتخذوها آلهة. وأما قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) فهو توحيد الربوبية كما سيأتي ذلك مفصلا. إذاً فترتيب المصنف الطحاوي رحمه الله لهذه الجمل الأربع ترتيبٌ مناسب، وهو مَتَنَقِلٌ بِفَهْمٍ في أمور الاعتقاد وموقف أهل السنة وأهل الإسلام من مخالفيهم. والجملة الأولى في هذا اليوم هي قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) والكلام عليها يكون في مسائل:   (1) مجموع الفتاوى (5/196) / الصواعق المرسلة (1/148) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 [المسألة الأولى] : أنَّ قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) مأخوذٌ من قول الله - عز وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، ومن قوله - عز وجل - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، ومن قوله - عز وجل - {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، ومن قوله سبحانه {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال َإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، وأشباه هذه الأدلة التي تدل على أنَّ الله سبحانه لا يماثله شيء من مخلوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 [المسألة الثانية] : أنَّ قوله (لا شيءَ مثْلُهُ) راجِعٌ لنفي المماثلة. وهذا هو الذي جاء في الكتاب والسنة أنْ يُنْفَى عن الله - عز وجل - أن يُمَاثِلَ أحداً أو شيئاً من خلقه، وكذلك يُنْفَى عن المخلوق أن يكون مُمَاثِلَاً لله - عز وجل -. وإذا كان كذلك، فالمماثلة أو التمثيل أو المِثلِيَّة تُعَرَّفُ بأنها المساواة في الكيف والوصف: والمساواة في الكيفية راجعة إلى أَنْ يكون اتصافه بالصفة من جهة الكيفية مُمَاثِلٌ لاتصاف المخلوق، كقولهم: يد الله كأيدينا وسمعه كأسماعنا وأشباه ذلك. وأما المماثلة في الصفات فهي أن يكون معنى الصفة بكماله التام في الخالق كما هو في المخلوق. إذا تِقِرَّرَ ذلك، فإنَّ اعتقاد المماثلة في الكيفية أو في الصفات على النحو الذي ذكرتُ هذا تمثيل يَكْفُر صاحبه. ولهذا كَفَّرَ أهلُ السنة النصارى، وكَفَّرَ أهلُ السنة المُجَسِّمَة؛ لأنَّ النصارى شَبَّهُوا المخلوق بالخالق، وشَبَّهُوا عيسى بالله - عز وجل -، والمُجَسِّمَة شَبَّهُوا الله - عز وجل - ومثَّلُوه بخلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 [المسألة الثالثة] : الفرق ما بين المماثلة والمثلية وبين التشبيه. ولتقرير ذلك تنتبه إلى أنَّ الذي جاء نفيه في الكتاب والسنة إنما هو نفي المماثلة. أما نفي المشابهة؛ -مشابهة الله لخلقه- فإنها لم تُنْفَ في الكتاب والسنة؛ لأنَّ المشابهة تحتملُ أن تكون مشابهةً تامة، ويحتمل أن تكون مشابهةً ناقصة. فإذا كان المراد المشابهة التامة فإنَّ هذه المشابهة هي التمثيل وهي المماثلة، وذلك منفِيٌ، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] . فإذاً لفظ المشابهة ينقسم: - إلى مُوَافِقٍ للمماثلة، الشَبِيهْ موافِقٌ للمثيل وللمِثِلْ. - وإلى غير موافق. يعني قد يشترك معنى الشبيه والمثيل ويكون المعنى واحداً، إذا أُريْدَ بالمشابهة المشابهة التامة في الكيفية وفي تمام معنى الصفة. وأمَّا إذا كان المراد بالمشابهة المشابهة الناقصة وهي الاشتراك في أصل معنى الاتصاف، فإنَّ هذا ليس هو التمثيل المنفي، فلا يُنْفَى هذا المعنى الثاني، وهو أن يكون ثَمَّ مشابهة بمعنى أن يكون ثَمَّ اشتراك في أصل المعنى. وإذا كان كذلك فإنَّ لفظ الشبيه والمثيل بينهما فرق -كما قَرَّرْتُ لك- ولفظ المشابهة لفظ مجمل لا يُنْفَى ولا يُثْبَتْ. وأهل السنة والجماعة إذا قالوا: إنَّ الله - عز وجل - لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء يعنون بالمشابهة المماثلة. أما المشابهة التي هي الاشتراك في المعنى فنعلم قَطْعَاً أنَّ الله - عز وجل - لم ينفها؛ لأنه سبحانه سَمَّى نفسه بالملك {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، {الْمَلِكُ الْحَقُّ} (1) وسَمَّى بعض خلقه بالمَلِكْ {وَقَالَ الْمَلِكُ} (2) وأشباه ذلك من الآيات، وكذلك سَمَّى نفسه بالعزيز، وسَمَّى بعض خلقه بالعزيز، وكذلك جَعَلَ نفسه سبحانه سميعاً، وأخبرنا بصفة السمع له، والبصر، والقوّة، والقدرة، والكلام، والاستواء، والرحمة، والغضب، والرضا وأشباه ذلك، وأثبت هذه الأشياء للإنسانِ فيما يناسبه منها. فَدَلَّ على أَنَّ الاشتراك في اللفظ وفي بعض المعنى ليس هو التمثيل الممتنِع؛ لأنَّ كلام الله - عز وجل - حق وبعضه يفسر بعضاً. فَنَفَى المماثلة سبحانه بقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وأثبت اشتراكاً في الصفة. وإذا قلتُ اشتراكَاً ليس معنى ذلك أنها من الأسماء المُشْتَرَكَة في الصفات، ولكن أثْبَتَ اشتراكاً في الوصف يعني شَرِكَةً فيه، فإنَّ الإنسان له مُلْكْ والله - عز وجل - له الملك، والإنسان له سمع والله - عز وجل - له سمع، والإنسان له بصر والله - عز وجل - له بصر، وهذا الإثبات فيه قَدْرٌ من المشابهة، لكنَّهَا مُشَابَهَةٌ في أصل المعنى، وليست مشابهة في تمام المعنى ولا في الكيفية. فتحَصَّلَ من ذلك أنَّ المشابهة ثلاثة أقسام: 1 - الأول: مشابهة في الكيفية، وهذا ممتنع. 2 - الثاني: مشابهةٌ في تمام الاتصاف ودلالة الألفاظ على المعنى لكمالها، وهذا ممتنع. 3 - الثالث: مشابهة في معنى الصفة - في أصل المعنى - وهو مطلق المعنى وهذا ليس بمنفي. ولهذا صار لفظ التمثيل، ونفي التمثيل، ونفي المِثْلِيَّة شرعياً؛ لأنه واضح، دلالته غير مجملة. وأما لفظ المشابهة فإنَّ دلالته مجملة فلم يأتِ نفيه. ونحن نقول إنَّ الله - عز وجل - لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء - سبحانه وتعالى -. ونعني بقولنا (لا يشابهه شيء) معنى المماثلة في الكيفية أو المماثلة في تمام الاتصاف بالصفة وتمام دلالة اللفظ على كمال معناه.   (1) طه:114، المؤمنون:116. (2) يوسف:43، 50، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 [المسألة الرابعة] : أَنَّ إثبات الصفات لله - عز وجل - قاعدته مأخوذةٌ من هذه الجملة (وَلا شيءَ مثْلُهُ) . فإثبات الصفات مأخوذ من قوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنفى - سبحانه وتعالى - وأَثْبَتْ. وعند أهل السنة والجماعة أنَّ النفي يكون مُجْمَلَاً (لا شيءَ مثْلُهُ) ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأنَّ الإثبات يكون مُفَصَّلَاً {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . وهذا بخلاف طريقة أهل البدع فإنهم يجعلون الإثبات مُجْمَلَاً، والنفي مُفَصَّلَاً، فيقولون في صفة الله - عز وجل -: إن الله ليس بجسمٍ ولا بشبحٍ ولا بصورةٍ ولا بذي أعضاء ولا بذي جوارح ولا فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن شمال ولا قُدّام ولا خلف وليس بذي دم ولا هو خارج ولا داخل. إلى آخر تصنيفهم للمنفيات، وإذا أتى الإثبات، إنما أثبتوا مُجْمَلَاً. فصار نفيهم وإثباتهم على خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . فطريقة أهل السنة أنَّ النفي يكون مُجْمَلَاً وأن الإثبات يكون مُفَصَّلَاً على قوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . والنفي المُجْمَلْ فيه مدح، والإثبات المُفَصَّلْ فيه مدح. والنفي المُجْمَلْ والإثبات المُفَصَّلْ من فروع معنى استحقاق الله - عز وجل - للحمد. والله سبحانه أثْبَتَ أنه مَحْمُودٌ ومُسَبَّحٌ في سماواته وفي أرضه - عز وجل -، كما قال سبحانه {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وكقوله {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم:18] ، وكقوله {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] ، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1) ، ونحو ذلك. والجمع بين التسبيح والحمد هو جَمْعٌ بين النفي والإثبات؛ لأنَّ التسبيح نفي النقائص عن الله فجاء مُجْمَلَاً، والحمد إثبات الكمالات لله - عز وجل - فجاء مفصلاً. فإثبات الكمالات من فروع حمده ـ، ولهذا صار محموداً - عز وجل - على كل أسمائه وصفاته، وعلى جميع ما يستحقه سبحانه، وعلى أفعاله - عز وجل -. وتنزيهه سبحانه بالنفي - يعني بالتسبيح - أنْ يكون ثَمَّ مُمَاثِلْ له سبحانه وتعالى. فمعنى (سبحان الله) تنزيهاً لله - عز وجل - عن أن يماثله شيء أو عن النقائص جميعاً. والحمد إثبات الكمالات بالتفصيل. فإذاً من نَفَى مُجْمَلَاً وأثْبَتَ مُفَصَّلَاً، فإنه وافق مقتضى التسبيح والحمد الذي قامت عليه السموات والأرض. ومن نفى مُفَصَّلَاً وأثبت مُجْمَلَاً، فقد نافى طريقة الحمد والتسبيح الذي قامت عليه السماوات والأرض. لهذا صارت طريقة القرآن أن يكون النفي مُجْمَلَاً والإثبات مُفَصَّلَاً، وطريقة أهل البدع بعكس ذلك.   (1) الجمعة:1، التغابن:1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 [المسألة الخامسة] : أنَّ قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، الذي هو دليل (وَلا شيءَ مثْلُهُ) ، قد اختلَفَ فيه المفسرون في معنى الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . والكاف هنا، على أي شيء تدل؟ على أقوال: 1 - القول الأول: أنَّ الكاف هذه بمعنى مِثْل، فيكون معنى قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ليس مِثْلَ مِثْلِه شيء، مبالغة في النفي عن وجودِ مِثْلِ المِثْل، فكيف يوجد المِثْلْ، فنَفْيُه من باب أولى. ومجيء الكاف بمعنى الاسم هذا موجود في القرآن وكذلك في لغة العرب: - فأما مجيئه في القرآن -مجيء الكاف بمعنى الاسم، وهي حرف- كما في قوله - عز وجل - {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، فقوله (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) عَطَفَ الاسم على الكاف التي هي في قوله (كَالْحِجَارَةِ) ؛ (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ) ، ومعلوم أنَّ الاسم إنما يُعْطَفُ على الاسم فقوله (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) يعني فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة. - ومجيئه في اللغة أيضاً ظاهر ومحفوظ، كقول الشاعر: لو كان في قلبي كقدر قُلَامَةٍ ****** حبا لغيركِ ما أتتكِ رسائلي فقوله (لو كان في قلبي كقدر قلامة) هذا جَعَلَ شبه الجملة الجارّ والمجرور (في قلبي) مُقَدَّمْ، وجَعَلَ الاسم (كقدر) لكون الكاف بمعنى (مِثْل) ؛ يعني لو كان في قلبي مِثْلُ قَدْرِ قُلَامة. وهذا التوجيه الأول لطائفة من المفسرين في أنَّ الكاف هنا بمعنى (مِثْل) على ما ذكرنا. وهذا التوجيه لهم وجيهٌ وظاهرٌ في اللغة ومستقيمُ المعنى أيضاً في الآية. 2 - القول الثاني: أنَّ الكاف في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذه صلة، وهي التي تُسَمَّى عند النحويين زائدة؛ وزيادتها ليس زيادَةً للفظ، وإنما هو زيادَةٌ لها لكون المعنى زائداً. فليست زائدة بمعنى أن وجودها وعدم وجودها واحد، حاشا وكلا أنْ يكون في القرآن شيء من ذلك، وإنما تُزادْ ليكون مبالغةً في الدلالة على المعنى. فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تكون الكاف صلة ومجيء الصلة في مقام تَكْرَارِ الجملة تأكيداً. كما حَرَّرَهُ ابن جِنِّي النحوي المعروف في كتابه (الخصائص) حيث قال: إنَّ الصلة والزيادة تكون في الجمل لتأكيدها وتكون مقام تكريرها مرتين أو أكثر. أو كما قال. فيكون معنى قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : ليس مِثْلَه شيء، ليس مثله شيء، ليس مثله شيء، وهو السميع البصير. وهذا تفهمه العرب في كلامها. وجاءت الزيادة بالصلة في مواضع كثيرة من القرآن كقول الله - عز وجل - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . فقوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ} يعني: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم. يعني ليس من جهتك وإنما هو رحمة من الله سبحانه وتعالى. وكقوله - عز وجل - {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة:13] يعني: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم، وكقوله {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] في أحد وجهي التفسير. إذا تقرر لك ذلك فإنَّ الوجه الأَوْلى من هذين التفسيرين هو الثاني من كون الكاف صلة زائدة في مقام تكرير الجملة؛ يعني أنَّ النفي أُكِّد فتكون أبلغ من أنْ يُنْفَى مِثْلْ المِثْل؛ لأنه قد يُشْكِلْ في نفي مثل المثل أن يكون (1) : [[الشريط الثاني]] : نفيُ المِثْليِةِ الأولى ليس مستقيماً دائماً، أو ليس مفهوماً دائماً. أما الثاني فإنه واضح من جهة العربية، وواضح من جهة العقيدة، وواضح من جهة دلالته على تأكيد النفي الذي جاء في الآية. هذا خلاصة الكلام على قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) .   (1) انتهى الشريط الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ثم قال رحمه الله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)   ومعنى (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) يعني أنه سبحانه وتعالى لا شيء مما يصح أن يُطلق عليه أنه شيء يعجزه - عز وجل - ويُكْرِثُهُ ويُثْقِلُهُ ولا يكون قادرا عليه، بل هو سبحانه الموصوف بكمال القدرة وكمال العلم وكمال اتصافه بالصفات وكمال القوة، فلذلك لا شيء يعجزه سبحانه وتعالى. (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) فيها تقرير لتوحيد الربوبية كما ذكرنا آنفا؛ لأن نفي العجز لأجل كمال القدرة، كمال الغنى، وكمال قوته سبحانه وتعالى، وهذا راجع إلى أفراد توحيد الربوبية. وفي الكلام على قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 [المسألة الأولى] : أن هذا منتزع من قوله الله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] ، فنفى سبحانه أن ثَمَّ شيءٌ يعجزه في السماوات وكذلك في الأرض، وعلَّلَ ذلك بكونه (عَلِيمًا قَدِيرًا) . ونفي العجز في الآية جاء مُعَلَّلاً بكمال علمه وقدرته؛ وذلك لأنَّ العجز في الجملة: - إما أن يرجع إلى عدم علم، فلأجل عدم علمه بالأمر عجز عنه. - وإما أن يرجع لعدم القدرة، فَعَلِمَ ولكن لا يقدر على إنفاذ ما علم أو ما يريد. - وإما أن يرجع إليهما معا. ولذلك لما قال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} عَلَّلَه بقوله {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، ومن المتقرر في علم الأصول في مسالك العلة من أبواب القياس: أنّ التعليل في القرآن والسنة يُستفادُ من جهات؛ ومنها مجيء (إنَّ) بعد الخبر أو بعد الأمر والنهي. وهنا لما أخبر عن نفسه بعدم العجز، وعلل ذلك بكونه سبحانه عليما قديرا، عَلِمْنَا أنَّ سبب عدم العجز هو كمال علمه سبحانه وكمال قدرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 [المسالة الثانية] : أن هذه الجملة نأخذ منها قاعدة قَعَّدها أئمة أهل السنة والجماعة وهي أنَّ النفي إذا كان في الكتاب والسنة فإنه لا يُراد به حقيقة النفي، وإنما يُراد به كمال ضده. يعني أنّّ كل نَفْيٍ نُفِيَ عن الله - عز وجل -. أنَّ كل نَفْيٍ أُضِيفَ لله - عز وجل - فنُفِيَ عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله في القرآن أو في السنة، فإن المقصود منه إثبات كمال الضِّد. لأنَّ النفي المحض ليس بكمال، فقد يُنفَى عن الشيء الاتصاف بالصفة؛ لأنه ليس بأهلٍ لها، فيقال: فلان ليس بعالم. لأنّه ليس أهلاً لأن يتّصف بذلك، ويقال: فلان ليس بظالم لأنه ليس بقادر أصلا، كما قال الشاعر في وصف قوم يذمهم: قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ****** وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْذَلِ لأنهم لا يستطيعون أصلا أنْ يظلموا أو أن يعتدوا لعجزهم عن ذلك؛ لأن العرب كانت تفتخر بأنّ من لم يَظلِمْ يُظلَم كقول الشاعر وهو زهير: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ****** ومن لا يظلم الناس يظلم فتقرر أنَّ النفي المحض ليس بكمال، ولذلك نقرر القاعدة: أنّ النفي في الكتاب والسنة إنما هو لإثبات كمال الضد. وأخذنا ذلك من قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، فصار النفي نفي العجز عنه سبحانه فيه إثبات كمال علمه وقدرته. وهذا خُذْهُ مطّرِداً في مثله قوله - عز وجل - {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] ، وفي قوله - عز وجل - في أول آية الكرسي {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ} [البقرة:255] ، لكمال حياته وكمال قيوميته سبحانه، {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فيه إثبات كمال قدرته - عز وجل - وكمال قوته، وفي قوله {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] لكمال عدله سبحانه، وفي قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وذلك لكمال اتصافه بصفاته، وفي قوله {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] لكمال استغنائه سبحانه. ففي كل نفيٍ جاء في الكتاب والسنة تأخذ إثبات الصفة التي هي بضد ذلك النفي. ولهذا تُثْبَتُ بعض الصفات وتُثبتُ بعض الأسماء عند طائفة من أهل العلم بألفاظ لم ترد صراحة وأخذوها من النفي الذي جاء في الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 [المسألة الثالثة] : أنّ قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) كما ذكرتُ لك من أفراد توحيد الربوبية. والتمثيل عن العام ببعض أفراده في التوحيد صحيح؛ لأنَّ دِلالة الخاص على العام مؤكَّدةٌ واضحة لا يمكن أن تخرج دلالة الخاص عن الأمر الكلي العام. ولهذا يجيء الإثبات مفصلا كما ذكرنا لأجل أنَّ الإثبات العام لله - عز وجل - في جميع الصفات حق، فيُثْبَتُ في كل موضع بحسبه. فمن مثَّل في موضع ببعض أفراد الربوبية، فإن تمثيله لذلك حق وإنْ لم يُمَثِّل بجميع أفراد الربوبية، بخلاف الأسماء والصفات فإنَّ الأسماء والصفات تُمَثِّل عليها بأنواعها. أهل السنة إذا ذكروا الأسماء والصفات تمثيلاً في هذا المقام فإنهم يذكرون تلك الأسماء والصفات والأفعال التي تدل على أنواع الصفات. فيذكرون مثالاً للصفات الذاتية، ومثالاً للصفات الاختيارية، ومثالاً للصفات الفعلية حتى يكون ذلك عامّا لأجل أن لا يشترك أهل السنة مع أهل البدع في التعبير. فإذا أتى مثلا في إثبات الصفات لا يقولون إننا نثبت صفات الرب - عز وجل - كالحياة والقدرة والسمع والعلم والبصر والإرادة والكلام ويسكتون، لأنَّ هذه السبع هي التي أثبتها الكُلَّابِيَّة والأشاعرة وطائفة، ولا يقولون نثبت الحياة والكلام لله والسمع والبصر ويسكتون، ولكن يذكرون هذا وهذا، فإذا ذكروا هذه السبع يقولون أيضا معها فهو سبحانه سميع بصير أو موصوف بالسمع والبصر والقدرة والكلام والإرادة والحياة والاستواء والنزول والرحمة والغضب والرضا فيجمعون -والوجه واليدان، إلى آخره- فذكر الصفات ما جرى عليه الاتفاق وما لم يجرِ عليه الاتفاق - يعني بينهم وبين أهل البدع - تمييزًا لقول أهل السنة عن غيرهم. وأما في الربوبية لأجل أنه لم يَجْرِ فيها الخلاف فإنه يسوغ أن يمثل لها ببعض أفرادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [المسالة الرابعة] : أنَّ العجز هنا كما في الآية؛ جاء نفيه متعلقاً بالأشياء، ودِلالة الآية على النفي أبلغ وأعظم في قول المصنف (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) ، لأنه جاء في الآية زيادة (مِنْ) التي تنقل العموم من ظهوره إلى النَّصِّيَّة فيه، فقال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44] ، فقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} لو قال: وما كان الله ليعجزه شيء لصَحَّ النفي وصار ظاهرا في العموم، وأما لمَّا قال (مِنْ شَيْءٍ) جاءت زيادة (مِنْ) هذه، لتنقل العموم المستفاد من مجيء النكرة في سياق النفي من ظهوره إلى النَّصِّيَّة فيه. ومعنى الظهور في العموم: أنّه قد يَتَخَلَّفُ بعض الأفراد على سبيل النُّدْرَة. وأما النَّصِّيَّة في العموم: فإنه لا يتخلَّفُ عن العموم شيء. فلما نفى بمجيء النكرة في سياق النفي وجاء بزيادة (مِنْ) التي دلت على انتقال هذه النكرة المنفية من ظهورها في العموم إلى كونها نصاً صريحاً في العموم. إذا تقرر هذا فالمَنْفِيُّ أن يعجزه سبحانه وتعالى هو الأشياء. والأشياء جمع شيء، والشيء الذي جاء في الآية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} ، وفي قوله هنا (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) ، وكذاك في قوله قبل (وَلا شيءَ مثْلُهُ) ، تعريف شيء عندنا: أنّه ما يصح أن يُعْلَمَ أو يَؤُولُ إلى العلم، سواءً كان في الأعيان والذّوات، أو كان من الصفات والأحوال. فكلمة (شيء) في النصوص تُفَسَّر عند المحققين من أهل السنة بأنها: ما يصح أن يُعلم أو يؤول إلى العلم. قولنا (يصح أن يعلم) مما هو موجود أمامك أو ما يؤول إلى العلم لعدم وجوده ذَاتاً ولكنه موجود في القَدَرْ، كقول الله - عز وجل - {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، وقد كان شيئا لكن لا يذكره الناس؛ لأنهم لم يروه، ولكنه شيء يُعْلَمُ في حق الله - عز وجل -، وسيؤول إلى العلم في حق المخلوق والذِّكْرْ. ولهذا في قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ) ، وقوله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) راجع هنا إلى ما هو موجود وإلى ما ليس بموجود من الذوات والصفات والأحوال؛ لأنها جميعا إما أن تكون معلومة، أو تكون آيلة إلى العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال بعدها رحمه الله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) .   وقوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) هذا مُنْتَزَع من قول الله - عز وجل - {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هذه جاءت بها الرسل جميعا؛ جاء بها نوح، وجاء بها هود، وجاء بها صالح، وجاءت بها الأنبياء والرسل جميعا. وهذا في المعنى كقوله - عز وجل - {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:1-2] ، وكقوله - عز وجل - {أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:32] ، وكقوله - عز وجل - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . وفي قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 [المسألة الأولى] : أنَّ هذه الكلمة هي معنى كلمة؛ أو هي مطابقة لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) . وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) معناها (لا إلهَ غَيْرُهُ) . والإله في كلمة التوحيد وفي قوله (لا إلهَ غَيْرُهُ) هذا دخل عليه النفي. فالمَنْفِيُّ جنس الآلهة التي تستحق العبادة، والله - عز وجل - ليس داخلا في هذا النفي -كما سيأتي بيانه في إعراب كلمة التوحيد-. وكلمة (إلا الله) موافقة لـ (غَيْرُهُ) ؛ لأن الغَيرِيَّةْ: - ربما كانت غيرية في الذوات كقولك: ما دخل رجل غيرُ زيد، فهنا ذات الرجال غير ذات زيد. - أو في الصفات كقولهم: جاءكم بوجه غير الذي ذهب به. الوجه من حيث هو واحد لكن من حيث الصفة اختلف. فإذاً الغَيرِيَّةْ قد ترجع إلى غيرية الذات، وقد ترجع إلى غيرية الصفات. وفي النفي (لا إله إلا الله) هنا الإله المنفي هو جنس الآلهة التي تستحق العبادة. * و (إلا الله) ليس هذا مُخْرَجاً من الآلهة؛ لأنه لم يدخل أصلاً فيها حتى يخرج منها لأن النفي راجع إلى الآلهة الباطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [المسألة الثانية] : أنَّ قوله (لا إلهَ غَيْرُهُ) مشتمل على كلمة (إله) وكلمة (الإله) هذه اختلف الناس في تفسيره. - فالتفسير الأول لها: أنّ الإله هو الرب، وهو القادر على الاختراع، أو هو المستغني عمَّا سواه، المفتقر إلى كل ما عداه. وهذا قول أهل الكلام، في أنّ الإله هو الرب؛ يعني هو الذي يَقْدِرُ على الخَلْقِ والاختراع والإبداع، وهو الذي يستغني عمَّا سواه وكل شيء يفتقر إله. كما ذكرنا إليكم مرارا عبارة صاحب السَّنوسية وعبارة أهل الكلام في ذلك. وهذا التفسير بكون الإله هو القادر على الاختراع وهو الرب لأهل الكلام، من أجله صار الافتراق العظيم في فهم معنى كلمة التوحيد وتوحيد العبادة وفي فهم الصفات وفي تحديد أول واجب على العباد. - التفسير الثاني لها: نأتي للجملة هذه [ ..... ] (1) وأنّ الإله، إله (فِعَالْ) بمعنى مَفْعُولْ يعني مَأْلُوهْ. سُمِّيَ إلهً لأنه مألوهٌ. والمألُوهُ مفعول من المصدر وهو الإلهَةْ. والإلهة مصدر أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَهَةً وأُلُوهَةً إذا عَبَدَ مع الحب والذل والرضا. فإذاً صارت كلمة الإله هي المعبود، والإلهة والألوهية هي العبودية إذا كانت مع المحبة والرضا. فصار معنى الإله إذاً هو الذي يُعْبَدُ مع المحبة والرضا والذل. وهذا التفسير هو الذي تقتضيه اللغة؛ وذلك لأنَّ كلمة (إله) هذه لها اشتقاقها الراجع إلى المصدر إلهة، الذي جاء في قراءة ابن عباس في سورة الأعراف {وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَك} [الأعراف:127] يعني ويذرك وعبادتك، وأما مجيؤُها في اللغة فهو كقول الشاعر كما ذكرنا لكم مرارا: لله درّ الغانيات المُدّهِ ****** سبّحن واسترجعن من تألهِ يعني من عبادتي. فالإله هو المعبود، ولا يصح أن يفسَّر الإله بمعنى الرب مطلقاً. لأنَّ الخصومة وقعت بين الأنبياء وأقوامهم، بين المرسلين وأقوامهم في العبودية لا في الربوبية. فالمشركون أثبتوا آلهة وعبدوهم، كما قال - عز وجل - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81-82] ، وكقوله {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] يعني أَجَعَلَ المعبودات معبوداً واحداً. وهذا يدلك على أنَّ هذا النفي في قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) راجعٌ إلى نفي العبادة. وهذا القول الثاني هو قول أهل السنة وقول أهل اللغة وقول أهل العلم من غير أهل البدع جميعاً، وهو المنعقد عليه الإجماع قبل خروج أهل البدع في تفسير معنى الإله. وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) يعني لا معبود بحق إلا الله جل جلاله.   (1) يوجد كلام مقطوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 [المسألة الثالثة] : راجعة إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ما معناها؟ معناها: لا معبود حق إلا الله - عز وجل -. وكما هو معلوم الخبر في قوله (لا) ، خبر (لا) النافية للجنس محذوف (لا إله) ، ثم قال (إلا الله) . وحذْفُ الخبر؛ خبر (لا) النافية للجنس شائع كثير في لغة العرب كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لاَ عَدْوىَ، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُولَ) (1) فالخبر كله محذوف. وخبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا وبشيوعٍ إذا كان معلوما لدى السامع، كما قال ابن مالك في الألفية في البيت المشهور: وشاع في ذا الباب -يعني باب لا النافية للجنس: وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ ****** الخَبَر إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر فإذا ظهر المراد مع السقوط جاز الإسقاط. وسبب الإسقاط؛ إسقاط كلمة (حق) ، (لا إله حق إلا الله) أنّ المشركين لم ينازعوا في وجود إله مع الله - عز وجل -، وإنما نازعوا في أحقِّيةِ الله - عز وجل - بالعبادة دون غيره، وأنّ غيره لا يستحق العبادة. فالنزاع لمَّا كان في الثاني دون الأول؛ يعني لمَّا كان في الاستحقاق دون الوجود، جاء هذا النفي بحذف الخبر لأن المراد مع سقوطه ظاهر وهو نفي الأحقية. في (لا إله) صار الخبر راجعاً أو صار الخبر تقديره حق كما قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:92] ، وفي الآية الأخرى قال - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30] ، فلما قال سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قرن بين أحقّية الله للعبادة وبطلان عبادة ما سواه، دلّ على أن المراد في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو نفي استحقاق العبادة لأحد غير الله - عز وجل -. فإذاً صار تقدير الخبر بكلمة (حق) صوابا من جهتين: - الجهة الأولى: أنّ النّزاع بين المشركين وبين الرسل كان في استحقاق العبادة لهذه الآلهة، ولم يكن في وجود الآلهة. - الجهة الثانية: أنّ الآية بل الآيات دلت على بطلان عبادة غير الله وعلى أحقية الله - عز وجل - بالعبادة دون ما سواه. إذا تقرر ذلك فكما ذَكَرْتُ لك الخبر مقدر بكلمة (حق) ؛ (لا إله حق) . و (لا) نافية للجنس، فنفت جنس استحقاق الآلهة للعبادة. نفت جنس المعبودات الحقّة، فلا يوجد على الأرض ولا في السماء معبود عَبَدَهُ المشركون حق، ولكن المعبود الحق هو الله - عز وجل - وحده وهو الذي عبده أهل التوحيد. وتقدير الخبر بـ (حق) كما ذكرنا لك هو المتعين خلافا لما عليه أهل الكلام المذموم، حيث قدروا الخبر بـ (موجود) أو بشبه الجملة بقولهم (في الوجود) (لا إله في الوجود) أو (لا إله موجود) . وهذا منهم ليس من جهة الغلط النحوي، ولكن من جهة عدم فهمهم لمعنى (الإله) لأنهم فهموا من معنى (الإله) الرب، فنفوا وجود رب مع الله - عز وجل -، وجعلوا آية الأنبياء دليلا على ذلك وهي قوله - عز وجل - {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، وكقوله في آية الإسراء {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42] ، ففسروا آية الأنبياء وآية الإسراء بالأرباب؛ بالرب، ولكن هي في الآلهة كما هو ظاهر لفظها. إذا تقرر ذلك فنقول: إن عبادة غير الله - عز وجل - إنما هي بالبغي والظلم والعدوان والتعدي لا بالأحقية.   (1) البخاري (5707) / مسلم (5920) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 [المسألة الرابعة] : في إعراب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) . (لا) نافية للجنس. (إله) هو اسمها مبني على الفتح. و (لا) النافية للجنس مع اسمها: في محل رفع مبتدأ. وحق: هو الخبر؛ وحق المحذوف هو خبر، والعامل فيه هو الابتداء أو العامل فيه (لا) النافية للجنس على الاختلاف بين النحويين في العمل. و (إلا الله) (إلا) استثناء؛ أداة استثناء. (الله) مرفوع، وهو بدل من الخبر، لا من المبتدأ؛ لأنه لم يدخل في الآلهة حتى يُخرَج منها؛ لأن المنفي هي الآلهة الباطلة، فلا يَدخل فيها -كما يقوله من لم يفهم- حتى يكون بدلا من اسم لا النافية للجنس، بل هو بدل من الخبر. وكون الخبر مرفوعا والاسم هذا مرفوعا، يُبيِّنُ ذلك أن التابع مع المتبوع في الإعراب والنفي والإثبات واحد. وهنا تَنْتَبِهْ إلى أن الخبر لما قُدِّرَ بـ (حق) صار المُثبَتْ هو استحقاق الله - عز وجل - للعبادة. ومعلوم أنّ الإثبات بعد النفي أعظم دلالة في الإثبات من إثباتٍ مجرد بلا نفي. ولهذا صار قوله (لا إله إلا الله) وقول (لا إله غير الله) هذا أبلغ في الإثبات من قول: الله إله واحد، لأن هذا قد ينفي التقسيم ولكن لا ينفي استحقاق غيره للعبادة. ولهذا صار قوله - عز وجل - {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ، وقول القائل (لا إله إلا الله) بل قوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] جمعت بين النفي والإثبات، وهذا يسمى الحصر والقصر، ففي الآية حصر وقصر. وبعض أهل العلم يعبر عنها بالاستثناء المفرّغ وهذا ليس بجيد، بل الصواب فيها أن يقال هذا حصر وقصر، فجاءت (لا) نافية وجاءت (إلا) مثبتة ليكون ثَمَّ حصرٌ وقصرٌ لاستحقاق العبادة في الله - عز وجل - دون غيره. وهذا عند علماء المعاني في البلاغة يفيد الحصر والقصر والتخصيص، يعني أنَّهُ فيه لا في غيره. وهذا أعظم دلالة فيما اشتمل عليه النفي والإثبات. ومعنى كلمة التوحيد وتفصيل الكلام عليها ترجعون إليه في موضعه من كلام أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 [المسألة الخامسة] : على قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) أنَّ هذه الكلمة فيها إثبات توحيد العبادة لله - عز وجل - كما ذكرنا. وتوحيد العبادة لله - عز وجل - لا يستقيم إلا بشيئين كما ذكرنا: بنفي وبإثبات. فالنفي وحده لا يكون به المرء موحداً، والإثبات وحده لا يكون به المرء موحداً، حتى يجمع ما بين النفي والإثبات. نفي استحقاق العبادة لأحد من هذه الآلهة الباطلة، وإثبات استحقاق العبادة الحقة لله - عز وجل - وحده دون ما سواه. وهذا هو معنى الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، فلا يستقيم توحيد أحد حتى يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله. ومن كان إيمانه بالله صحيحا كان كفره بالطاغوت صحيحا، إذ ثَمَّ ملازمة ما بين هذا وهذا. وإثبات توحيد الإلهية على هذا المعنى بين النفي والإثبات يتضمن إثبات توحيد الربوبية؛ لأنَّ كل موحد لله في الإلهية موحد لله - عز وجل - في الربوبية، وكذلك مستلزم لإثبات صفات الكمال لله - عز وجل -؛ لأنه لا يُعبد إلا من كان متصفا بصفات الكمال. هذا خلاصة ما يشتمل عليه قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) . في هذا القدر كفاية وأسأل؛ الله - عز وجل - لي ولكم النور في الدنيا وفي الآخرة والإهتداء التام والأمن التام إنه كريم جواد سميع الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة: س1/الكلام على مسألة التشبيه من حيث الكيفية والمعنى، والأصل نرجوا توضيحها والتمثيل عليها؟ ج/هذه المسألة كما هو معلوم بسطها أهل السنة وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه، وكذلك هو في شروح الواسطية المطولة تذكر هذه المسألة: التشبيه من حيث الكيفية هو التمثيل كقول المجسمة: إن الله جسم كأجسامنا، ويده كأيدينا، وقدمه كأقدامنا، واستوائه كاستوائنا، في كيفية الاستواء مماثل لنا ومشابه لنا. فهذا تشبيه من حيث الكيفية. وتشبيه من حيث تمام المعنى كأن يقول معنى استواء الله هو معنى استوائنا تماما، المعنى في هذا هو هذا، معنى سمع الله هو معنى سمعنا تماما، لا فرق بين هذا وهذا، وهذا أيضا تشبيه مذموم باطل. ولكن المشابهة التي لا تُنفى هي ما كان من جهة الاشتراك في أصل المعنى؛ لأن المعنى كما هو معلوم يوجد كليا في الأذهان، وأما في الخارج فيكون مختلفا بحسب الإضافة والتخصيص، فإذا كان المعنى الكلي هذا له جهتان: جهةُ مطلق المعنى، أقل درجات المعنى، فهذه هي، أو هذا هو القدر المشترك بين كل من اتصف بالصفة، فمثلا في السمع: البعوضة لها سمع، والذباب له سمع، والضأن له سمع، والنمل له سمع، والإنسان له سمع، هؤلاء اشتركوا في أصل معنى السمع؛ لكنهم يتفاوتون فيه بقدر ما هم عليه، بقدر ما يناسب ذواتهم، بقدر ما يناسب أبدانهم، بقدر ما يناسب استعداداتهم التي جعلها الله - عز وجل - لهم، فسمع البعوض ليس هو كسمع الإنسان، وسمع النمل ليس كسمع الإنسان، لكن أصل معنى السمع مشترك بين هذه المخلوقات، فكذلك جنس المخلوقات التي لها سمع نُثبت لها أصل السمع كما هي عليه؛ ولكن سمع الله - عز وجل - يناسب ذاته، كما أن ما بين الإنسان وما بين النمل في السمع قدر مشترك في هذا المعنى؛ معنى السمع ومعنى البصر، فما بين المخلوق وبين الله - عز وجل - هو قدر مشترك في أصل المعنى. أما في تمام المعنى فكل له ما يناسبه؛ فالله - عز وجل - يناسب ذاته العلية العظيمة الجليلة الاتصاف بالصفات الكاملة المطلقة؛ الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص في وجه من الوجوه، والمخلوق له ما يناسب ذاته من نقص وحال. فهذا معنى الكيفية تمام المعنى أصل الاتصاف بالصفات. س2/ كيف نفرق بين الكيفية وتمام المعنى؟ تمام المعنى غير مضاف كلي والكيفية تمثيل: فإذا قلت السمع هو كالسمع صار هذا تمثيلا. وإذا قلت سمعه - عز وجل - أو بصره في كيفية الاتصاف هو ككيفية اتصاف المخلوق بالسمع والبصر صار هذا تكييفا. فإذا قلت السمع والسمع صار هذا تمثيلا، تمثيلا في المعنى. وإذا قلت اتصف بالسمع بكيفية اتصافنا بالسمع، واتصف بالبصر بكيفية اتصافنا بالبصر، صار تجسيما أو صار هذا من جهة الكيفية. لأنَّ السمع إدراك المسموعات، أنت تدرك المسموعات بواسطة أذن وطبلة إلى آخره، والله - عز وجل - إدراكه للمسموعات ليس بكيفية إدراك المخلوق للمسموعات، كذلك البصر؛ عين الله - عز وجل - ليست كعين المخلوق في الكيفية، نثبت لله عيناً كما يليق بجلاله وعظمته؛ لكن لا نقول عينه سبحانه كعين الإنسان في الكيفية؛ فيها سواد، بياض، أو لها حدقة، شبكية إلى آخره. فإثبات المعنى هذا كمال المعنى لله - عز وجل -، والكيفية التمثيل فيها هذا تجسيم وهو من المكفرات، لأنه تمثيل للمخلوق بالخالق. س2/ما رأيك في كتاب المنحة الإلهية في تعريف شرح الطحاوية؟ ج/ ما شفت الكتاب هذا. س3/قولك المنفي جنس الآلهة التي تستحق العبادة؟ ج/المقصود بقول تستحق العبادة في ظن العابدين وإلاّ (لا إله حق) فنفت كلمة التوحيد أحقية الآلهة في العبادة، المقصود بحسب ظنهم، أو نقول المنفي جنس استحقاق الآلهة للعبادة. س4/هذا سؤال في الأصول ومتعلق بكلمة الكاف في {كَمِثْلِهِ} ؟ ج/والجواب عليها تقسيم الألفاظ إلى شرعي ووضعي وعرفي ونقص وزيادة ونقل واستعارة [ ..... ] (1) وكازدياد الكاف في (كَمِثْلِه) . هذا البحث فيه معروف لكن هذا يحتاج إلى بسط آخر. س5/قال أهل السنة كما ذكرتم قاعدة أهل السنة: أن النفي مجمل والإثبات مفصل، وأنَّ أهل البدع عكس لأهل السنة، فما القول عندما يقول أحد من أهل البدع (املأ الكون نفيا ولا تقل بإثبات) فيكون الإثبات عندهم والإثبات مجمل؟ ج/ أنا ما أفهم الكلام -املأ الكون نفيا يعني انْفِ كما تريد (ولا تقل بإثبات) يعني لا تفصل، هذا موافق لقولهم إن النفي مفصل والإثبات مجمل. نكتفي بهذا القدر وصل اللهم وبارك على نبينا محمد. (2)   (1) كلام لم أفهمه. (2) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ   هذه الجمل من هذه العقيدة المختصرة؛ عقيدة الإمام الطحاوي رحمه الله وأجزل له المثوبة، اشتملت على جملة من صفات الله - عز وجل -، وهي ليست راجعة إلى ترتيب معين؛ يعني في ذكر صفاتٍ لله - عز وجل - أو في ذكر قواعد في الصفات، أو فيما يخالف فيه أهل السنة والجماعة غيرهم، إلا في بعضها كما سيأتي، وهذا كما ذكرنا لك من قبل راجع إلى أنه لم يرتّب هذه العقيدة على ترتيب موضوعي منهجي بحيث ينتقل من أنواع الإيمان إلى غيرها وبين أنواع الإيمان يعني أركان الإيمان وهكذا، ولهذا نذكر البيان على كل جملة بحسب ما اشتملت عليه، وفي ذلك إن شاء الله تعالى فوائد. قال رحمه الله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) أراد رحمه الله بذلك أَنْ يُبَيِّنْ أَنَّ الله - عز وجل - منزّهٌ عمّا خَلق، فهو سبحانه خَلَقَ الزمان، والزمان لا يحويه، وكذلك خلق المكان، والمكان لا يحويه، سبحانه وتعالى، وذكر هنا أنّ الله - عز وجل - سبق الزمان، وأيضا سيدوم بعد انتهاء الزمان بلا انتهاء. وهذا المعنى الذي أراده عبَّرَ عنه بتعبير المتكلمين في أبدية الزمان في الماضي وفي المستقبل. وهذا خروج منهم عمّا جاء في النص من التعبير عن أبدية الزمان من الجهتين؛ وذلك أنّ أبدية الزمان يعني أنّ الله - عز وجل - لا يُوصَفُ بأنه ابتدأ في زمان ولا أنه ينتهي في زمان؛ لأن الزمان محدود مخلوق، والله سبحانه وتعالى كان قبل خلقه، وسيبقى سبحانه بلا انتهاء. هذا المعنى يُعِّبُر عنه المتكلمون ويعبر عنه أهل العقائد المختلفة بأنواع من التعبير منها هذا الذي ذكره الطحاوي. ومن المعلوم أن التعبير الذي جاء في الكتاب والسنة هو قول الحق - عز وجل - {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] . وقوله سبحانه {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} هذا في المعنى الذي أراده الطحاوي، لهذا فسَّرَهُ النبي ? في دعائه بقوله (أنت الأول ليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعد شيء) (1) فليس قبل الرب - عز وجل - زمان، وليس بعده سبحانه وتعالى زمان، كما أنه ليس قبله شيء من المخلوقات، ولا بعده أيضا شيء من المخلوقات. وهذان الاسمان (الْأَوَّلُ) وَ (الْآخِرُ) دلاَّ على أنه سبحانه (قَديمٌ -كما ذكر- بلا ابتدَاء) وأنه (دَائمٌ-سبحانه- بلا انْتهاء) . وما جاء في وصف الله - عز وجل - في القرآن وفي سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو الأكمل؛ بل هو الصحيح، وأما ما ذَكَرْ من الوصف، فسيأتي ما فيه في المسائل المتعلقة بهذه الجملة. فإذا ً قوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) من جهة المعنى ومن جهة الدليل عرفتها. والمتكلمون يعنون بكلمة (قَديمٌ) غير ما يُعنَى بها في اللغة. فإنهم يعنون بالقديم الذي تَقَدَّمَ على غيره. والغيريّة هنا مطلقة بلا تقييد فتشمل كل ما هو غير الله - عز وجل - يعني من جميع المخلوقات. فيكون قولهم في وصف الله بأنه (قَديمٌ) أو في أسماء الله بأنه سبحانه القديم يعنون به المُتَقَدِّم على غيره مطلقاً. وهذا التقدم يشمل كل الأزمنة الماضية وزيادة. ولذلك احترز المصنف رحمه الله بقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء) ؛ لأن كونه متقدماً على غيره قد يكون من جهة التقسيم العقلي أنّ له ابتداء سبحانه معروف، وهذا مما لم يأذن الله - عز وجل - لنا بعلمه، ولا تدركه أوهامنا ولا عقولنا ولا قلوبنا فلذلك قال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) وهذا هو معنى كما ذكرت لك اسم الله (الأول الذي ليس قبله شيء) . فإذاً تعبير المتكلمين عن الرب - عز وجل - عن اسمه الأول بكونه قديم وأنه القديم هذا أرادوا به غير المعنى اللغوي. وأما المعنى اللغوي فإنّ القديم هو الذي صار متقدما على غيره، وسيعقبه غيرُه، وقد سبقه غيره، كما قال - عز وجل - {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] وكقوله الحق - عز وجل - {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] ، وأشباه ذلك. والقِدَمْ أو التَقَدُّمْ أو القَدَمْ في اشتقاق هذه المادة في اللغة راجعة إلى ما تقدم على غيره، وهذا في اللغة. ومعلوم أنَّ اللغة موضوعة للأشياء المحسوسة التي رآها، أو عرفها العرب، ولهذا دخل في اسم القديم المخلوقات. وإذا كان كذلك فإنَّ القديم لا يوصف الله - عز وجل - به كما سيأتي في المسائل. إذاً فكلمة (قَديمٌ بلا ابتدَاء) هذه عند المتكلمين لها معنىً غير المعنى في اللغة، ومعناها عند المتكلمين كما ذكرتُ لك هو المتقدم على غيره. وفي اللغة المعنى أخص، المتقدم أو ما كان متقدماً على غيره وتَقَدَّمَهُ غيرُه، وهذا يجوز في اللغة، وهم لم يريدوا هذا المعنى، ولذلك جعلوا القديم من أسماء الله، وجعلوا القِدَمَ صفة للحق - عز وجل -. إذا تبين لك ذلك فقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء) هذا راجع إلى ما سُمِّيَ بالأزلية؛ بأزلية الرب - عز وجل -، وقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء) راجع إلى أبديته - عز وجل -. ولفظ (أزلية) هذا مركب أو منحوت من (لم يزل) ، فلما أرادوا النسبة جعلوها للأزل؛ يعني الزمان الماضي القديم جدا الذي لم يزل، لا يعرف له بداية. فيُقَالُ هم يعبرون بأنه أزلي - عز وجل -، أو أنَّ صفات الرب - عز وجل - أزلية، والتعبير عن هذه الأشياء بما جاء في الكتاب والسنة هو الحق، فلا يُعبَّر عن هذه الأشياء بما لم يرد في الكتاب والسنة؛ لأنه قد يشتمل على باطل، والمرء لا يعلم ذلك، حتى من جهة الاحتمالات العقلية أو الاحتمالات اللغوية. المؤلف احترز فقال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) وهذا فيه احتراز، جعل الجملة حق في نفسها لكن فيها مخالفة، وعَبّر عن الأبدية بقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء) . إذا تبين لك ذلك، فعندهم أنَّ القِدَمْ هو قِدَمْ الذات - يعني عند المتكلمين وعند الأشاعرة وأشباه هؤلاء، والمعتزلة - عندهم القِدَمْ حينما يطلقونه يريدون به قدم الذات، وأما قِدَمْ الصفات فهذا فيه تفصيل. فقوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) يعنون به قِدَمَ الذات، ودائم الذات، أما الصفات فلهم فيها تفصيل، وكأنّ الطحاوي درج على ما درجوا عليه لأنه عبَّرَ بتعبيرهم. إذا تقرر لك ذلك، ففي قوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء) مسائل:   (1) مسلم (7064) / أبو داود (5051) / الترمذي (3400) / ابن ماجه (3873) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 [المسألة الأولى] : اسم القديم: هذا كما ذكرت من الأسماء التي سمَّى اللهَ - عز وجل - بها المتكلمون. فإنهم هم الذين أطلقوا هذا الاسم القديم على الرب - عز وجل -، وإلا فالنصوص من الكتاب والسنة ليس فيها هذا الاسم. وإدراج اسم الله وإدراج القديم في أسماء الله هذا غلط، ولا يجوز، وذلك لأمور. - الأمر الأول: إن القاعدة التي يجب اتّباعها في الأسماء والصفات ألاّ يُتجاوز فيها القرآن والحديث، ولفظ أو اسم القديم أو الوصف بالقدم لم يأتِ في الكتاب والسنة، فيكون في إثباته تعدٍّ على النص. - الأمر الثاني: أنّ اسم القديم منقسم إلى ما يُمدح به، وإلى ما لا يمدح به، فإنّ أسماء الله - عز وجل - أسماء مدح؛ لأنها أسماء حسنى واسم القديم لا يمدح به؛ لأن الله وصف به العرجون، والقديم هذا قد يكون صفة مدح وقد يكون صفة ذم. - الأمر الثالث: أنَّ اسم القديم لا يدعا الله - عز وجل - به، فلا يدعا الله بقول القائل يا قديم أعطني، ويا أيها القديم، أو يا ربي أسألك بأنك القديم أن تعطيني كذا، والأسماء الحسنى يُدْعَى الله - عز وجل - بها فذلك لقوله {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، فالأسماء الحسنى يُدْعَى بها؛ يعني تكون وسيلة لتحقيق مراد العبد، ولهذا لم يدخل الوجه في الأسماء، ولم تدخل اليدان في الأسماء، ولا أشباه ذلك، لأن هذه صفات وليست بأسماء، والأسماء هي التي يُدْعَى الله - عز وجل - بها. وإذا تبين ذلك فننتقل إلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 [المسألة الثانية] : ما ضابط كون الاسم من الأسماء الحسنى؟ الاسم يكون من أسماء الله الحسنى إذا اجتمعت فيه ثلاثة شروط، أو اجتمعت فيه ثلاثة أمور: - الأول: أن يكون قد جاء في الكتاب والسنة، يعني نُصَّ عليه في الكتاب والسنة، نُصَّ عليه بالاسم لا بالفعل، ولا بالمصدر، وسيأتي تفصيل لذلك. - الثاني: أن يكون مما يُدْعَى الله - عز وجل - به. - الثالث: أن يكون متضمِّنا لمدحٍ كاملٍ مطلقٍ غير مخصوص. وهذا ينبني على فهم قاعدة أخرى من القواعد في منهج أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وهي: أنَّ باب الأسماء الحسنى أو باب الأسماء أضيق من باب الصفات، وباب الصفات أضيق من باب الأفعال، وباب الأفعال أضيق من باب الإخبار. واعكس ذلك. فتقول: باب الإخبار عن الله - عز وجل - أوسع، وباب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء الحسنى. وهذه القاعدة نفهم منها أنَّ الإخبار عن الله - عز وجل - بأنه (قَديمٌ بلا ابتدَاء) لا بأس به لأنه مشتمل على معنى صحيح، فلما قال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) انتفى المحذور فصار المعنى حقا، ولكن من جهة الإخبار. أما من جهة الوصف، وصف الله بالقدم فهذا أضيق لأنه لا بد فيه من دليل. وكذلك باب الأسماء وهو تسمية الله بالقديم هذا أضيق فلا بد فيه من اجتماع الشروط الثلاثة التي ذَكَرْتُ لك. والشروط الثلاثة غير منطبقة على اسم القديم، وعلى نظائره كالصانع والمتكلم والمريد وأشباههم لـ: - أولا: لم تَرِدْ في النصوص فليس في النصوص اسم القديم، ولا اسم الصانع، ولا اسم المريد، ولا اسم المتكلم، ولا المريد، ولا القديم، أما الصانع فله بحث يأتي إن شاء الله. - ثانياً: اسم القديم لا يدعا الله - عز وجل - به؛ يعني لا يُتوسل إلى الله به؛ لأنه في ذاته لا يحمل معنىً متعلقا بالعبد فيسأل الله - عز وجل - به، فلا يقول يا قديم أعطني، لأنه لا يتوسل إلى الله بهذا الاسم، كما هي القاعدة في الآية {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، فثَمَّ فرق ما بين التّوسل بالأسماء والتّوسل بالصفات. - ثالثاً: من الشروط: الذي ذكرناه هو أن تكون متضمنةً على مدحٍ كاملٍ مطلق غير مختص. وهذا نعني به أنّ المدح، أنَّ أسماء الله - عز وجل - هي متضمنة لصفات. وهذه الأسماء لابد أن تكون متضمنةً للصفات الممدوحة على الإطلاق. غير الممدوحة في حال والتي قد تذم في حال، أو ممدوحة في حال وغير ممدوحة في حال أو مسكوت عنها في حال. وذلك يرجع إلى أنَّ أسماء الله - عز وجل - حسنى؛ يعني أنها بالغة في الحسن نهايتَه. ومعلوم أن حُسن الأسماء راجع إلى ما اشتملت عليه من المعنى؛ ما اشتملت عليه من الصفة. والصفة التي في الأسماء الحسنى والمعنى الذي فيها لا بد أنْ يكون دالا على الكمال مطلقا بلا تقييد وبلا تخصيص. فمثل اسم القديم، هذا لا يدلّ على مدحٍ كامل مطلق، ولذلك لما أراد المصنف أنْ يجعل اسم القديم أو صفة القِدم مدحا قال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) ، وحتى الدائم هنا قال (دَائمٌ بلا انْتهاء) . لكن لفظ القديم قيّده بكونه (بلا ابتدَاء) وهذا يدل على أن اسم القديم بحاجة إلى إضافة كلام حتى يُجعل حقا وحسنا ووصفا مشتملا على مدح حق. لهذا نقول إنّ هذا الأسماء التي تُطلق على أنها من الأسماء الحسنى يجب أن تكون مثل ما قلنا صفات مدح وكمال ومطلقة غير مختصة، وأمّا ما كان مقيَّدا أو ما كان مختصا المدح فيه بحال دون حال، فإنه لا يجوز أن يطلق في أسماء الله. ولهذا مثال آخر أبْيَنْ من ذلك، مثل المريد والإرادة، فإنَّ الإرادة منقسمة إلى: 1 - إرادة محمودة؛ إرادة الخير إرادة المصلحة، إرادة النفع، إرادة موافقة للحكمة. 2 - والقسم الآخر إرادة الشرّ، إرادة الفساد، إرادة ما لا يوافق الحكمة، إلى آخره. فهنا لا يسمى الله - عز وجل - باسم المريد، لأنّ هذا منقسم، مع أنَّ الله - عز وجل - يريد سبحانه وتعالى، فيُطْلَقْ عليه الفعل، وهو سبحانه موصوف بالإرادة الكاملة، ولكن اسم المريد لا يكون من أسمائه لما ذكرنا. وكذلك اسم الصانع لا يقال أنه من أسماء الله - عز وجل -؛ لأن الصّنع منقسم إلى ما هو موافق للحكمة، وإلى ما هو ليس موافقا للحكمة، والله سبحانه وتعالى يصنع وله الصنع سبحانه، كما قال {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] وهو سبحانه يصنع ما يشاء وصانِعٌ ما شاء كما جاء في الحديث «إِنّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ» (1) سبحانه وتعالى، ولكن لم يُسَمَّ الله - عز وجل - باسم الصانع لأنّ الصُّنع منقسم.   (1) مسلم (6989) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أيضا اسم المتكلم، المتكلم لا يقال في أسماء الله - عز وجل - المتكلم؛ لأن الكلام الذي هو راجع إلى الأمر والنهي، منقسم: إلى أمر لما بما هو موافق للحكمة؛ أمر بمحمود، وإلى أمر بغير ذلك، ونهي عمّا فيه المصلحة؛ نهي عمّا فيه الخير، ونهي عن ما فيه الضر، والله سبحانه وتعالى نهى عمّا فيه الضرر، ولم ينهَ عما فيه الخير، بل أمر بما فيه الخير، ولذلك لم يسمَّ الله - عز وجل - بالمتكلم. هذه كلها أطلقها المتكلمون على الله - عز وجل -، فسموا الله بالقديم، وسموا الله - عز وجل - بالمتكلم، وسموا الله - عز وجل - بالمريد، وسموا الله - عز وجل - بالصانع، إلى غير ذلك من الأسماء التي جعلوها لله - عز وجل -. فإذا تبين لك ذلك فإن الأسماء الحسنى هي ما اجتمعت فيها هذه الشروط، واسم القديم لم تجتمع فيه الشروط؛ بل لم ينطبق عليه شرط من هذه الشروط الثلاثة. والمؤلف معذور في ذلك بعض العذر؛ لأنّه قال (قَديمٌ بلا ابتدَاء) . أمَّا الخالق غير الصانع وذلك لـ: - أولاً:الخالق جاء في النص والصانع لم يأت في النص. - ثانياً: من جهة المعنى الصنع فيه كلفة وليس ممدوحاً على كل حال، والخَلق هذا إبداع وتقدير فهو ممدوح - ثالثاً: الخلق منقسم إلى مراحل، وأمّا الصنع فليس كذلك؛ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24] فالخلق يدخل من أول المراحل، والصنع لا، الصنع ليس كمالا، فممكن أ، يصنع ما هو محمود ويصنع ما هو مذموم، يصنع بلا برء ولا إنفاذ، وقد يصنع شيئا لا يوافق ما يريده. فلهذا اسم الخالق يشتمل على كمال ليس فيه نقص، وأما اسم الصانع فإنه يطرأ عليه أشياء فيها نقص من جهة المعنى ومن جهة الانفاذ، فلذلك جاء اسم الله الخالق ولم يأتي في أسماء الله الصانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 [المسألة الثالثة] : أنَّ قوله (قَديمٌ) و (دَائمٌ) كما ذكرنا عند أهل السنة يُعَبَّرُ عنه بالأول والآخر كما جاء في النص. والله سبحانه وتعالى أوليته عند أهل السنة في ذاته وفي صفاته، وآخِرٌ سبحانه في ذاته وفي صفاته. فهو سبحانه لم يزل متصفا بالصفات، وهو أولٌ بصفاته، وهو سبحانه لن ينقطع اتصافه بصفاته سبحانه وتعالى من الجهة الأخرى. يعني أنَّ آخريته سبحانه آخِرِيَةُ ذاتٍ وصفات، وأوليته سبحانه أولية ذات وصفات. فنقول عِلْمُ الله سبحانه وتعالى أَوَّل، ورحمة الله - عز وجل - أُولى، وخلقه سبحانه أول. يعني اتصافه بهذه الصفات كذاته سبحانه، فهو الأول الذي ليس قبله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وهذا سيأتي له مزيد بيان عند قوله (مَا زالَ بِصِفَاتِهِ قَديماً قَبْلَ خَلْقِهِ، لم يَزدَدْ بِكَوْنِهِم شَيْئاً، لم يكنْ قَبلَهُم مِنْ صِفَتِهِ، وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا) . المقصود أنّ التعبير عن صفات الله - عز وجل - بكونها أُولى والله - عز وجل - أوّل بذاته وصفاته هذا الموافق للنص، أما نقول الكلام القديم أو خَلْقُهُ القديم أو حكمته القديمة وأشباه ذلك فإنّ هذا يَرِد وأيضا يحتمل معنى غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الجملة الثانية قوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) .   وكونه سبحانه (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) ذلك لكمال حياته - عز وجل - وكمال قيوميته. دلّ على ذلك قوله سبحانه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ويدل عليها قوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] في أحد التفسيرين، ويدل عليها قوله - عز وجل - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة:255] وذلك لكمال حياته وكمال قيوميته، وإذا انتفى الأدنى انتفى الأعلى من باب أولى، ولهذا قال (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) سبحانه وتعالى. وأراد المصنف بقوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) أراد شيئين فيما يظهر: - الأول: أن هذا فيه مزيد وصْفْ لله - عز وجل - بكمال الحياة وكمال القيومية - عز وجل -، وتفسير لقوله (دَائمٌ بلا انْتهاء) - والثاني: أنّ بعض أهل البدع زعموا أنَّ بعض صفات الله - عز وجل - تفنى، أو أن بعض آثار أسمائه - عز وجل - يبيد. ونحن نطلق القول بأنه - عز وجل - لا يفنى ولا يبيد سبحانه وتعالى في ذاته وفي أسمائه وصفاته، ولا نقيِّدُ ذلك في الزمن المستقبل بشيء، بل نقول هو على إطلاقه؛ بأنه سبحانه آخر فليس بعده شيء، وأنه لن يزال متصفاً بصفاته بمشيئته وقدرته - عز وجل -. فإذاً قوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ) هذا لكمال ربوبيته سبحانه وكمال اتصافه بالصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ثم قال (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ)   وهذه الجملة الأدلة عليها كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، و «ما شَاءَ الله كَانَ وَما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْنْ» (1) والله سبحانه يشاء الأشياء فتكون كما شاءها - عز وجل -، ولا تخرج مشيئة العبد عن مشيئة الله - عز وجل - للأشياء. و قوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) يريد به المشيئة - يعني لا يكون إلا ما يشاؤه سبحانه - فالإرادة هنا المعني بها الإرادة الكونية. وأراد بهذه الجملة الرد على القدرية الذين يزعمون أنّ الرب - عز وجل - أراد طاعة المطيع، وأراد إيمان المؤمن؛ أراد إيمان المكلف، ولكن المكلف أراد الكفر وأراد المعصية فكان ما لم يرد الله - عز وجل -، وهذا قول الذين يقولون إنّ العبد يخلق فعل نفسه كما هو قول المعتزلة وطوائف أيضا من القدرية. يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه وأنّ الله - عز وجل - لا يخلق فعله، فيحصل في الكون ما لا يريده - عز وجل - لأن الله سبحانه لا يريد الكفر ولا يريد الضلال ولا يريد المعصية. وهذا القول باطل كما ذكرنا لك لأن الإرادة المراد بها هنا الإرادة الشرعية. وهنا نخلص في هذه الجملة إلى مسائل:   (1) أبو داود (5075) / سنن النسائي الكبرى (9840) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 [المسألة الأولى] : أنه أراد بقوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) أراد بالإرادة هنا المشيئة. والإرادة؛ إرادة الله - عز وجل - منقسمة إلى: - إرادة كونية - يعني فيما يحصل في كون الله - عز وجل -. - وإرادة شرعية. فأما الإرادة الكونية فكثيرة في النصوص وهي مرادفة للمشيئة، فمشيئة الله هي الإرادة الكونية، فإذا قلنا شاء الله كذا؛ يعني أراده كونا. أما المشيئة فلا تنقسم إلى مشيئة كونية وإلى مشيئة شرعية؛ بل هي نوع واحد، هو مشيئة في كونه، أما الشرع فإنما يوصف بإرادة شرعية. وهذا يعني أنّ الإرادة الكونية التي هي المشيئة هي التي لا يخرج أحد عنها. فقد يقع الشيء مأذونا من الله - عز وجل -؛ شاءه الله سبحانه وتعالى كوناً وقَدَرَاً، ولكنه لم يُرده شرعاً ولم يُرده ديناً. فتختلف الإرادتان إذا تعلقت بمعصية العاصي وكفر الكافر. فمِن جهة معصية العاصي وقعت بإرادة الله الكونية لكنها لم تقع بإرادة الله الشرعية، والله سبحانه قال {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] وقال سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وفي المشيئة قال - عز وجل - {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:29] وهذا راجع إلى عِلم الله - عز وجل - فيهم بأنه سبحانه ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن سبحانه وتعالى. {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} يعني في عِلم الله - عز وجل - فيما لم يقع، ولن يقع، لو وقع، ولو شاءه كيف يكون. فإذاً صارت مشيئة الله - عز وجل - هي الإرادة، والإرادة مرتبطة بالعلم وبالحكمة. وهذا خلاف الإرادة الشرعية فإنَّ الإرادة الشرعية مطلوبة من العبد؛ أَمْرْ. أَمَرَ بكذا، وَنَهَى عن كذا، فصار المأمور به والمنهي عنه مراداً له شرعا. إذا تبين هذا فإذن قولنا (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) هذا راجع إلى الإرادة الكونية فقط. والذين لم يفرقوا ما بين الإرادتين وقع منهم الغلط في معصية العاصي وضلال الكافر فيما سيأتي بيانه إن شاء الله في موضعه من مباحث القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [المسألة الثانية] : أن قوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ) فيه تداخل ما بين إرادة الله - عز وجل - وإرادة العبد. وإرادة العبد هي مشيئته، وهي خارجة عن رؤية الحكمة. وأما إرادة الله - عز وجل - الكونية فهي منظور فيها بالحكمة. فالله سبحانه يريد بما يوافق الحكمة، والعبد يريد ما لا يوافق الحكمة وقد يريد ما يوافق الحكمة. وإذا كان كذلك فإرادة الله - عز وجل - بالعبد موافقة للحكمة سواء تَعَلَّقَتْ بالمعين أو تَعَلَّقَتْ بالمجموع. وهذا يعني أنّ إرادة العبد فيما يريده خارجة عن مقتضى حكمة الله - عز وجل -؛ إذا أراد شيئا في نفسه له - يعني له بخصوصه -. والله - عز وجل - يريد من العبد ما يوافق حكمته، فقد تجتمع الإرادتان فيما فيه حِكمَةٌ لله - عز وجل -، وقد تختلف الإرادتان فيما كان يريده العبد ولا يوافق حكمة الله - عز وجل -. وهذا يعني أنَّ العبد قد يتجه بإرادته إلى شيء فيُصرَفُ عنه لعدم موافقته لحكمة الله - عز وجل - في نفسه؛ يعني فيما يتعلق بالعبد أو فيما يتعلق بالمجموع. والله - عز وجل - قد يريد الشيء كوناً، ولا يكون إلا ما يريد لموافقته للحكمة في خصوص العبد في نفسه، أو ظهور الحكمة في نفسه أو لظهور الحكمة في المجموع- يعني في غيره -. ولهذا نقول ما من شيء يريده الله سبحانه وتعالى في ملكوته إلا وهو موافق للحكمة، والشر ليس إلى الله - عز وجل -؛ بل الله سبحانه لا يوصف أو لا يضاف إليه إلا الخير. وأما العبد فقد يريد الشيء ويكون بالنسبة له شراً فيخرج من هذه الجهة عن كونه موافقا للحكمة -يعني حكمة العبد ومصلحته-، ولكنه بالنسبة لفعل الله - عز وجل - وإرادته يوافق الحكمة التي هي منظور فيها إلى المجموع. وهذا يعني أنَّ إرادة الله - عز وجل - في ملكه إنما تكون على وفق الحكمة، وحكمة الله هي القاضية لهذه الأشياء جميعا في الإرادات. وهذا فيه رد على طوائف كثيرة من المبتدعة في مسائل القدر يأتي بيانها مفصلاً إن شاء الله في موضعها في تعريف الظلم والعدل، وفي التحسين والتقبيح، وفي أيضا الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وفي وقوع المعصية ووقوع الكفر، وفي فعل العبد بنفسه. وهذه مسائل كبيرة تحتاج إلى بيان وتفصيل في موضعها. المقصود من ذلك أنّ قوله (لا يكونُ إلا ما يُريدُ) هذا موافق لما -أو تضيف عليها عبارة- أنّ ما يريده موافق لمقتضى الحكمة المطلقة سواء وافقت العبد المعين أو وافقت المجموع. فالله سبحانه الشر ليس إليه كما وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الدعاء (وَالشّرّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (1) ففعله سبحانه خير محض، وقد يأذن بالشر المضاف إلى العبد، ولا يكون شرا بالنسبة لإرادته سبحانه، فالله لا يريد ظلما للعباد، ولا يريد شرا بالعباد، وإنما العباد أرادوا ذلك بأنفسهم، وإذا وقع ذلك فإنما يقع بالإضافة إلى فعل العباد، وليس مضافا إلى الله سبحانه لأنّ فعله سبحانه خير محض.   (1) مسلم (1848) / أبو ادود (760) / الترمذي (3422) / النسائي (897) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قال في الجملة بعدها (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ)   هذا يَرُدُّ به على المجسمة والمعطلة جميعا. (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني أنّ تفكير المُفَكِّرْ ونظرَه بخياله لا يمكن أن يبلغ بخياله وفِكْرِهِ وصف الله - عز وجل - ولا كُنْهَ ذاته سبحانه وتعالى، فليست الأفهام مَوضُوعَةٌ لإدراكه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] سبحانه. و (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني مهما فكَّر العبد فلن يبلغ كُنْهَ ذاته سبحانه ولا كُنْهَ اتصافه بصفاته - عز وجل -، ولا يمكن للأفهام مهما عَلَت أن تدرك ذلك. ففيه رد على المجسمة الذين جعلوا الله - عز وجل - جسما كالأجسام. وفيه رد على المعطلة الذين جعلوا الله - عز وجل - مُعُطَّلاً عمَّا وَصَف به نفسه، لأنه شبَّهُوا أولاً، ثُمَّ عطلوا ثانياً، فقام بقلوبهم في صفات الله أنها على صفة شيء معين، فمنعوا ذلك، فدخلوا بأوهامهم وأفهامهم في تحديد كُنْه الاتصاف بالصفة، ثم عطلوا ونفوا ثانياً. وفيه رد على المتصوفة؛ غلاة المتصوفة أيضا، وهي الطائفة الثالثة الذين زعموا أنَّ العبد بالرياضة قد يبلغ إلى مرتبة يرى فيها الرب - عز وجل -، وأنه يمكن إذا فَنِيَ عن المحسوسات أن يدرك بوهمه غير المحسوسات - يعني الغيبيات -، وهذا هو الذي يسمونه الفناء بالدرجة العليا عندهم، وهو أنه يفنى عن المخلوق ويبقى في رؤية الخالق - عز وجل -. إذا تبين ذلك، ففي قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [المسألة الأولى] : أنَّ القاعدة العقلية المتفق عليها بين العقلاء والحكماء أنَّ معرفة الإنسان تنشأ شيئاً فشيئاً، وهذا قد جاء في القرآن في قوله تعالى (1) : [[الشريط الثالث]] : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ، فمعرفة الإنسان باتفاق العقلاء والحكماء واتفاق أهل الشرع أنها إنما تكون شيئاً فشيئاً، وهذا هو الذي يسمى عند الفلاسفة نظرية المعرفة، أو نظرية حصول المعارف، وهي كما قلنا تأتي شيئا فشيئا. وهي مبنية على قسمين: - القسم الأول: أنَّ هناك أشياء يدركها بحواسه؛ باللمس، بالبصر، بالشم، بالذوق، بالسماع، بحواسه يدرك، وهذا نوع من تحصيل المعارف، نوع من المعارف يحصل للإنسان بحواسه، وهذا أول ما يبدأ بها الصغير. - القسم الثاني: ما يحصل بعقله وإدراكه، وهذا مبني على المقارنة. وهذا القسم الثاني مبني على الأول، وهو أنه يقارن الأشياء مع ما أحسها. فالمحسوسات التي أدركها بعينه وبشمّه وبذوقه وبسمعه وبلمسه للأشياء، هذه تسمى ضرورية؛ لأنَّ وجودها لا يحتاج إلى برهان. وغيرها مما يَحْصُلُ به المعرفة، إنما يكون منسوباً عنده لهذه الأشياء. فيرى مثلاً هذا العمود، فيراه بإحساسه ذا حجم، ثم يرى عموداً آخر أصغر منه، فيراه مختلفاً عنه في الطول، فعقد المقارنة وقال هذا أصغر من هذا، ثم عقد المقارنة فقال هذا أكبر من هذا، عقد المقارنة بين الألوان فقال هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، عقد المقارنة بين الأشياء الحرارية فقال هذا بارد وهذا متوسط وهذا دافئ وهذا حار إلى آخر ذلك. وهذا نتحصَّلُ منه على القاعدة المتفق عليها بين القائلين بنظرية المعرفة، وهي صحيحة شرعاً على القَدْرْ الذي ذكرتُ لك بأنه لا يمكن للوَهَم - وهم الإنسان - ولا يمكن لفهمه أن يدرك شيئا ولا أن يبلغه وهَمه وفهمه إلا: - إذا رآه. - أو أحس بأحد الحواس. - أو رأى ما يماثله ويشابهه فيقيس عليه. - أو رأى ما يقيسه عليه ولو لم يَرَ ما يماثله أو يشابهه إذا أمكنه القياس. فمثلا نذكر صفة حيوان ما، إذا قيل لك هناك حيوان اسمه (القَلَعَ) - أَيُ اسْمْ - فأنت مباشرة تتصور ولو لم تعرف حقيقته، أنه ما دام أنه حيوان يمكن أن تقيس وتُخْرِجْ بعض الصفات لأننا ابتدأنا وقلنا حيوان، فإذا قلت إنه أكبر من الفيل ذهبت إلى شيء آخر، إذا قلت أنه أصغر من الفيل بَدَأَتْ تَتَحَدَدْ وتَقْرُبْ عندك؛ لأنك أدركت هذه الأشياء بما رأيت، أو بما يمكنك أن تقيس عليه. ولهذا نقول لا يمكن لأحد أن يدرك شيئاً ولا أن يَتَحَصَّلَ منه على معرفة يبلغها وهمه ويدركها فهمه: - إلا إذا رآه. - أو رأى مثيله وشبيهه. - أو رأى ما يقاس عليه. المثيل والشبيه، مثلاً تقول أكلنا خبزاً في بلد كذا، ما دام ذكرت الخبز. نحن أكلنا الخبز هناك، إذا قلنا لك الخبزة طولها ثلاثة أمتار طولها نأخذها ونقطعها، تعرف أنَّ الخبز دقيق أوبر إلى آخره، فعرفت مثيله أو شبيهه، فيمكن أن تدرك الآخر برِؤيتك لما يدخل معه في الشبه أو في المثلية. الله سبحانه وتعالى لم تُدْرِكْهُ الحواس سبحانه وتعالى، ولم يُرَ مثيل له أو شبيه له، ولم يُرَ ما يمكن أنْ يقاس الحق عليه - عز وجل -. ولذلك دخول المعرفة أو إدراك المعرفة أو حصول المعرفة بالله - عز وجل - لا يمكن أن تكون بالأوهام أو الأفهام أو بالأقيسة أو بما تراه. ولهذا احتاج الناس إلى بَعْثَةْ الرسل تُبَيِّنْ لهم صفة ربهم - عز وجل - وصفة خالقهم؛ لأنه - عز وجل - لم يُر، ولم يُدْرَكْ مثله، ولا ما يشبهه سبحانه، ولا يمكن أيضا أن يُقَاسْ على شيء، لذلك كان لابد من بعثة الرسل لبيان ذلك. وهذا يعني أنه سبحانه (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) كما ذكر المصنف. فإذاً قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) مُنْطلِق من مسألتين كبيرتين ذكرتهما لك في هذه المسألة.   (1) انتهى الشريط الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 [المسألة الثانية] : أنَّ (الأوْهَامُ) و (الأفْهَامُ) هذه عَبَّر عنها بقوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) في (الأوْهَامُ) ، وفي (الأفْهَامُ) قال (ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) . وهذا راجع إلى أن الوهَم - يعني ما يتوهمه الإنسان - غير ما يفهمه. فالوهم راجع للخيال، والفهم راجع للأقيسة والمقارنات. ولهذا الرب - عز وجل - لا يمكن تَخَيُّلُهْ، ولا يمكن أيضا أنْ يُفَكَّرَ فيه فَيُدْرَكْ. وهذا معنى قول الله - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] سبحانه وتعالى. (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) سبحانه، هنا الأبصار يأتي معنى البصر؛ هو سبحانه لا يحيط به البصر إذا رآه أهل الإيمان في الآخرة. وفي الدنيا لا تدركه الأبصار أيضاً التي هي الرؤى والعيون، وكذلك الأبصار التي هي الأفهام والأوهام لا تدركه - عز وجل -. فالفهم إذاً منقطع، والوهم إذاً منقطع. ولهذا قال بعض السلف (ما خطر ببالك فالله - عز وجل - بخلافه) ، لم؟ لأنه ذَكَرْتُ لك أنّه لا يمكن أنْ يخطر ببالك ولا أن تتخيل إلا شيء مبني على نظرية المعرفة من قبل، وهذا مقطوعٌ يقيناً. إذاً فصار الأمر أنّ إثبات الصفات لله - عز وجل - بأنواعها مع قَطْعْ الطَّمع في بلوغ الوهَم لها من جهة الكيفية والكُنْه، وكذلك من جهة إدراك الأفهام لتمام معناها، فمن الجهتين: -كنه الصفة (الكيفية) - وكذلك تمام المعنى. هذا لا يمكن أن تبلغه الأوهام، ولا أن تدركه الأفهام. نقف عند هذا القدر وهذه الجمل في أولها، مثل ما ذكرت لك راجع إلى مسائل مختلفة لا ينتظمها زِمَامْ، ويأتي بعد ذلك المسائل العقدية بتفصيلها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الأسئلة : س1/ يقول على القاعدة التي ذكرتم؛ وهي أنَّ الاسم إذا كان منقسماً فإنه لا يطلق على الله، فماذا يقال في اسم الباسط والقابض، فإن هذين الاسمين منقسمين فالبسط يكون للخير وقد يكون للشر, وكذلك القبض قد يكون للخير وقد يكون للشر؟ ج/هذا سؤال جيد، وجوابه راجع إلى معرفة أنّ الأسماء الحسنى منها ما لا يكون كمالا إلا مع قرينه، مثل الخافض الرافع، فالرافع لما اقترن بالخافض صار كمالاً مثل القابض الباسط، الله - عز وجل - قال {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} [البقرة:245] القابض الباسط سبحانه وتعالى، الضار النافع - عز وجل -، فثَمَّ من الأسماء الحسنى ما لا يكون دالاً على الكمال بمفرده، ولا يسوغ التعبيد له، مثل الضار هو من الأسماء الحسنى، ما نقول عبد الضار وأشباه ذلك، مثل المميت، المحيي المميت، ما نقول عبد المميت؛ لأن هذه الأسماء تطلق على وجه الكمال وتكون حسنى مع قرينتها، لهذا تجد أنها ملازمة للاسم القرين. لهذا نقول الباسط صار كمالا بالقابض، فيطلق منفردا لأن كماله باسم الله القابض، والقابض أيضا هو كمال باسم الله الباسط لكنه لا يُعَبَّدُ له كما يعبد للباسط، ومثله النافع والضار، الضار كماله بالنافع والنافع كماله بالضار، لأنه يدل على القهر والجبروت لله - عز وجل -، وكذلك المحيي المميت. وهذا يأتينا عند قوله إن شاء الله (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) . س2/ لماذا تقولون أنّ عقيدة أهل السنة والجماعة من عقيدة التابعين، ونجد كثيرا من التابعين قد غلط في الأسماء والصفات؟ فهل نقول عقيدة الصحابة ولا نقول عقيدة التابعين؟ ج/ أولاً من حيث الأدب في السؤال ما يناسب لطالب العلم أن يسأل بقوله (لماذا تقولون؟) لأن هذا فيه منافاة لأدب المتعلم مع المعلم، هذه واحدة. ثانياً أنَّ قوله (نجد كثيرا من التابعين قد غلط في الأسماء والصفات) التابعون إذا أراد بالذين غلطوا في الأسماء والصفات من أدركوا الصحابة، فليس هؤلاء من التابعين للصحابة بإحسان، لهذا قال - عز وجل - {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] ليس كل من تبع فجاء تابعا للصحابة يكون محمودا. لهذا نقول عقيدة الصحابة والتابعين. المراد بالتابعين الذين أثنى الله عليهم بأنهم تبعوهم بإحسان، أما الذين تبعوا الصحابة زمانا وخالفوهم عقيدة، وابتدعوا في الأسماء والصفات أو في القدر أو في الإيمان، كالخوارج والمرجئة والقدرية وأشباه هؤلاء، هؤلاء لا يدخلون أصلا في التابعين بإحسان، خير الناس قرن الرسول ? ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، والمراد من كان منهم على الحق. إن أراد السائل بعض الغلط المروي عن التابعين من أهل السنة؛ يعني ممن تبع الصحابة بإحسان، فإنه لا يقال أنهم غلطوا في الأسماء والصفات، وإنما حصل بعض العبارات التي يُنازعون فيها؛ لأنهم اجتهدوا، لكن لا يقال إنهم غلطوا في ذلك، ولكن يقال لهم اجتهدوا فينسب إليهم اجتهادهم ولا يعابون لا يعتبرون غلطوا، ما فيه مسألة يقال غلطوا فيها في الصفات؛ التابعين بإحسان، ولا غلطوا في الأسماء؛ لأنه إن غلط في هذا الأمر في أصل من أصول الصفات أو من الأسماء فإنه لا يكون من التابعين بإحسان. س3/ ورد في الحديث (نعوذ بِوَجْهِك الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِك الْقَدِيمِ) (1) ؟ ج/ هذا معروف في البحث، السلطان هنا المقصود به الخَلْقْ؛ يعني الملكوت أو يُقْصَدْ به الصفة المتعلقة بذلك، وهذا فيه بحث زيادة على ما ذكرت، ولكن هذه الكلمة لا تعني أن القديم من أسماء الله - عز وجل -، أو أنه من صفاته سبحانه؛ لأنه وُصِفَ به سلطانه سبحانه «أَعُوذُ بِوَجْهِ الله الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ» سلطان الله القديم الذي هو صفة تدبيره سبحانه، وهذه ليست راجعة إلى الاسم القديم الذي يدل على الذات، كما هو معلوم أن الأسماء تدل على الذات وتدل على الصفات. س4/ ما الفرق بين الصفات والأفعال في قولك باب الصفات أضيق من باب الأفعال؟ ج/ يعني قد يكون هناك أفعال تضاف إلى الله - عز وجل -، ولا نشتق منها صفة نصف بها الرب - عز وجل -، فباب الأفعال أضيق من باب الصفات، فليس كل فعل أطلق أو أضيف إلى الله - عز وجل - من فعله سبحانه نشتق منه صفة من الصفات، وكذلك ليس كل ما جاز أن يُخبَر به عن الله - عز وجل - جاز أن نجعله اسما له سبحانه، أو أن نجعله صفة له سبحانه، وكذلك ليس كل صفة له - عز وجل - يجوز أن نشتق منها اسم، مثل مثلا الصُّنع الله - عز وجل - قال في آخر سورة النمل {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فالصنع هذا صفة (صُنْعَ اللَّهِ) ، (صُنْعَ اللَّهِ) هذا صفة لكن لا يجوز أن نشتق منها الصانع، لأنه كما ذكرنا الشروط لا بد أن تكون: 1 - أولا: جاءت في الكتاب والسنة. 2 - ثانياً: أن يكون يدعى بها، واسم صانع لا يدعى به الرب - عز وجل -، لا نقول يا صانع اصنع لي كذا؛ لأنه لا يتوسل إلى الله به.   (1) أبو داود (466) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 3 - ثالثاً: أنه ليس مشتملا على مدح كامل مطلق غير مختص. مثال للأفعال مثل {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، وهنا {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) جاء إضافة الأفعال هذه إلى الله - عز وجل -، ما نقول نشتق منها صفة فيوصف الله بالمكر ويوصف الله بالاستهزاء وأشباه ذلك، هذا غلط؛ لأن باب الأفعال كما ذكرنا أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أضيق؛ لأن المكر منقسم (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) جاء هنا إضافة (يَمْكُرُ) إلى الله - عز وجل - (يَمْكُرُ اللَّهُ) لكن المكر صفة منقسمة إلى: - المكر الذي هو بحق، وهو ما دلّ على كمال وقهر وجبروت وهو المكر بمن مكر به سبحانه، أو مكر بأوليائه، أو مكر بدينه، هذا .... حق. - وإلى مكر مذموم وهو ما كان على غير وجه الحق [ ..... ] (1) كذلك، ما نقول إنَّ من صفة الله الاستهزاء، كذلك الملل لا نقول من صفات الله الملل، وأشباه ذلك «إِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا» (2) أُطلق الفعل لكن لا نشتق منه الصفة؛ لأن الصفة منقسمة، كذلك من الصفة إلى الاسم، وهذا فيه قواعد ذكرها ابن القيم رحمه الله في أول (بدائع الفوائد) . نقف عند هذا نسأل الله التوفيق والسداد.   (1) - كلام غير واضح (2) البخاري (5861) / مسلم (1863) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مُؤْنَةٍ.   هذه الجمل التي سمعنا من هذا المتن العظيم -الذي هو متن العقيدة الطحاوية- متصلة بما قبلها، والكلام فيما تقدَّم كان عن وصف الله - عز وجل - بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال. فقال رحمه الله تعالى في وصفه سبحانه وتعالى (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْركُهُ الأفْهَامُ، وَلا يُشْبِهُ الأنَامَ) وهذه كما ذكرنا لك فيما سلف عامة في جميع الصفات وأنّ صفات الحق - عز وجل - لا تشبه صفات الأنام بالقيد الذي ذكرناه لك مُفَصَّلَاً فيما سلف. وبعدها ذَكَرَ جملة من ما يُفارق به وصف الله - عز وجل - صفة المخلوق فقال بعد قوله (وَلا يُشْبِهُ الأنَامَ) (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ، خَاِلقٌ بِلا حَاجَة، رَازقٌ بلا مَؤُونَة، مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ) . وهذه الصفات هي صفاتٌ وأسماء للحق - عز وجل -، فإنّ صفة الحياة ثابتةٌ له - عز وجل -، وكذلك صفة القيومية وصفة الخلق والرَّزق والإماتة والبعث له سبحانه. وهو سبحانه المحيي والحي وهو القيوم - عز وجل - كما قال سبحانه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وكما قال {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1-2] ، وكذلك صفة الخَلق وصفة الرَّزق وغير ذلك من الصفات. فأسماء الله - عز وجل - كما هو معلوم مشتملة على صفات، وصفات الحق - عز وجل - مباينة لصفات المخلوق من جهات: 1 - الجهة الأولى: أنّ الرب - عز وجل - يتصف بالصفة على وجه الكمال، والمخلوق يتصف بالصفة على وجه النَّقص. 2 - الجهة الثانية: أنَّ الرب - عز وجل - صفاته متلازمة؛ لأنه سبحانه له الكمال المطلق، وله الصفات العُلا الكاملة من كل وجه، وأما المخلوق فصفاته غير متلازمة بل قد يكون فيه جملة من صفات النقص، ويكون ثَمَّ فيه بعض الصفات التي هي كمال في حقه، وإن كانت في الجملة لا يتصف بها إلا لنقصٍ فيه. 3 - الجهة الثالثة: أنّ اتصاف المخلوق بالصفات وإن كان في أصل المعنى مشتركة مع صفات الحق - عز وجل - لكنه اتصف بها على وجه الحاجة إليها، وأما الرب - عز وجل - فهو متصف بصفاته لا على وجه الحاجة إلى آثار الأسماء والصفات؛ فمثلا المخلوق يُقدِّرُ أو يُقِيْمُ الأشياء لحاجته، ويخلق ما يخلق لحاجته، والله سبحانه وتعالى (خَاِلقٌ بِلا حَاجَة) ويَهَبُ المخلوقُ ويَرْزُقُ لحاجته، والله سبحانه وتعالى يهب ويرزق ويُعطي وهو الغني - عز وجل - {أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وهكذا في بقية الصفات. فإذاً اتصاف المخلوق بالصفات التي يشترك فيها من حيث أصل المعنى مع الرب - عز وجل - هو اتصاف على سبيل النقص، وهذا الاتصاف مع ضَمِيْمَةِ ما سبق أنْ ذكرنا لك فيما سلف لا يشبه فضلا أن يماثل صفات الرب - عز وجل -. لهذا فصَّل الطحاوي رحمه الله بعد قوله (وَلا يُشْبِهُ الأنَامَ) بعض صفات الحق - عز وجل - التي يتصف بها وفارق بها صفة المخلوق الذي ربما اتصف بتلك الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فقال رحمه الله (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ)   وكونه - عز وجل - حياً، هذا دلَّ عليه العقل ودلَّ عليه السمع؛ يعني دل عليه الكتاب والسنة. وقبل ورود الكتاب والسنة فالعقل يدلُّ على أنَّ الله - عز وجل - موجود لكثرة الدلائل وتواترها وتتابعها على وجود الحق - عز وجل -. وكونه سبحانه وتعالى موجوداً يدل باللازم الذي لا انفكاك منه على أنّه حي سبحانه وتعالى، وحياته - عز وجل - تدل على أنه متصف بصفات كثيرة. فإذاً صار اسم الله (الحيّ) يدل عليه العقل قبل ورود السمع. وكذلك اسم الله (القيوم) وصفة القيومية له - عز وجل - هذه أيضاً يدل عليها العقل ويدل عليها السمع لأنه سبحانه هو الذي أقام الأشياء. فكونه هو الخالق للأشياء يدل عقلاً أنه هو الذي أقامها وأنّ قيومِيَّتَهَا به - عز وجل -. إذا كان كذلك فنقول هذان الاسمان (الحي) و (القيوم) قد قيل فيهما -وهو قول قوي، وله حظ من الترجيح- أنهما اسما الرب - عز وجل - الأعظمان. فالاسم الأعظم الذي إذا دُعي به الرب - عز وجل - أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى كما جاء في الحديث، هو في سورة البقرة وسورة آل عمران، وفيهما قول الله - عز وجل - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) . وهذا له معنى وذلك أنَّ الحي والقيوم بلوازمه؛ بلوازم اسم الحي وما يلزم من اسم القيوم يقتضي جميع الأسماء التي هي من أفراد الربوبية والصفات التي هي من أفراد الربوبية. ولهذا عُلِّقَ إعطاء السائل سؤله في هذين الاسمين الأعظمين؛ لأنَّ إجابة السُّؤَّال وإعطاء الداعي ما دعا هذا متعلق بربوبية الله - عز وجل -، فإذا انضم إليها إدانة العبد وإقراره بتوحيد الإلهية وأن الله - عز وجل - لا إله إلا هو، صار هذا الدعاء (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) متضمناً لتوحيد الإلهية ولتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات. لهذا فإن اسم الحي واسم القيوم هما اسما الله الأعظمان اللذان إذا دُعي بهما أجاب وإذا سئل بهما أعطى، في قول قوي مرجَّح لأحد القولين في اسم الله الأعظم. إذا تبين لك ذلك ففي قوله (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ) مسائل:   (1) البقرة:255، آل عمران:2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 [المسألة الأولى] : أنّ صفة الحياة صفةٌ مُشتَرَكة بين كل مخلوقات الله - عز وجل -. وكل حياة لها ما يناسبها، حتى الجماد له حياة تناسبه؛ حتى الشجر والحجر له حياة تناسبه. وإنما سمي جماداً لأنه جامد في الظاهر؛ ليس له حركة ظاهرة، وإلا فإنه ليس بميت يعني لا حراك فيه ولا حياة، وإنما هو: - ميت باعتبار عدم الحركة. - وجماد باعتبار عدم الحركة. ولهذا فإنَّ اشتراك المخلوقات مع الرب - عز وجل - في هذا الاسم وفي صفة الحياة هذا اشتراكٌ في أصل المعنى فكل له حياة تناسبه، على حسب القاعدة المعروفة: وهي أن الصفات بما يناسب الذوات. فإثبات الصفات إثبات وجود لله - عز وجل - لا إثبات كيفية، وصفات المخلوقات تناسب ذواتهم الوضيعة الضعيفة الفقيرة. وهذا ظاهر أيضاً في صفتي السمع والبصر كما قد قرَّرْنَاهُ لكم مِراراً في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فإنّ صفة السّمع وصفة البصر مشتركة بين أكثر الكائنات الحية، وكذلك الحياة فهي مُشْتَرَكَة بين جميع الكائنات الحية، منها ما حياته بالروح والنفس، ومنها ما حياته بالنماء، ومنها ما حياته خاصة به كالصخور والتراب، وأشباه ذلك ولهذا كان ? يقول كما رواه مسلم في الصحيح «إني لأعلم حجرا بمكة ما مررت عليه إلا سلَّم علي (1) . فإذاً إثبات هذه الصفة واسم الحي لله - عز وجل - يدل على نفي التعطيل بجميع أنواعه، ويدل على إبطال التجسيم بجميع أنواعه. ولهذا صار اسماً عظيماً مختصاً بالرب - عز وجل - على وجه الكمال، لأنَّ المخلوق يعرف أنَّ حياته قصَّة قليلة يريد زيادتها فلا يستطيع، يريد أن يكون في وَصْفِهِ بالحياة أكمل من وصف غيره فلا يستطيع، فدلَّ على ظهور نقصه في الصفة المشتركة بينه وبين جميع المخلوقات. المقصود من هذا إنَّ في إثبات صفة الحياة لله - عز وجل - إبطال للتعطيل وإبطال للتجسيم على الوجه الذي ذكرته لك، وهو ظاهر في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث، أما الحديث فهو في مسلم (6078) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 [المسألة الثانية] : الله - عز وجل - قال {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وذلك لكمال حياته ولكمال قيوميته - عز وجل -. وقوله هنا (حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ) دلَّتا على القاعدة المقرَّرة عند أهل السنة والجماعة وهي: *أنَّ وصف الرب - عز وجل - بالنفي ليس مقصوداً لذاته وإنما هو لإثبات كمال ضد ما نفى. لهذا سبحانه أثبت الكمال له ثم نفى ليدل على إثبات الكمالات له - عز وجل -، فلمَّا قال {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ليدل على أنَّ قول {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} لكمال حياته ولكمال قيوميته، فنفى لتأكيد الإثبات. وهذه هي القاعدة المقررة عند أهل السنة والجماعة فيما يُنفَى في القرآن وفي السنة عن الله - عز وجل - إنما هو لإثبات كمال ضده من صفات الحق - عز وجل - كما في قوله سبحانه {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] لكمال عدله، وكما في قوله سبحانه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم:64] لكمال علمه سبحانه وحِفظِهِ سبحانه وقيوميته، وكقوله {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ] الإخلاص] وأشباه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 [المسألة الثالثة] : أنَّ اسم القيوم لله - عز وجل - واسم الحي هذان الاسمان مُتَعَلِّقانِ بخلقه - عز وجل -، يعني أنَّ لهما الأثر في خلقه سبحانه، وكل حياةٍ تراها في خلقه فهي من آثار حياته - عز وجل -، وكل صلاح أو فعل تراه في خلقه فهو من آثار قيوميته - عز وجل -. واسم القيوم مبالغة لإثبات كمال قيامه سبحانه وتعالى على الوجه المطلق بنفسه وبخلقه، فلفظ القيوم، اسم القيوم يدل على أنه سبحانه كامل فيما يختاره سبحانه وتعالى لنفسه من الصفات التي تقوم بمشيئته واختياره وقدرته، وكذلك له الكمال فيما يقيم به خلقه - عز وجل -. وإذا تبيَّن ذلك فإن قول المؤلف (قَيُّومٌ لَا يَنَامُ) راجع إلى الآية {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} وذلك لكمال حياته، {وَلَا نَوْمٌ} وذلك لكمال قيوميته - عز وجل -. ففسَّر القيوم بأنه الذي لا ينام، وهذا كما ذكرت لك ليس تفسيراً لمعنى القيوم، فإنَّ معنى القيوم أنّهُ الذي قام بنفسه وأقام غيره، فليس ثَمَّ شيء إلا والله - عز وجل - مُقيمٌ له على وجه ما تقتضيه حكمة الرب - عز وجل -. فإذا تبيَّن ذلك فإنَّ اسم القيوم لله - عز وجل - واسم الحي له سبحانه وتعالى لهما أثر في إجابة السؤال. وهذا الأثر مرتبط بقاعدة كلية في ارتباط الإجابة بحسن السؤال، ولهذا قال - عز وجل - {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} [الأعراف:180] فدعوة الله - عز وجل - بأسمائه يعني بما يناسب مقصودك من الأسماء. وكل [ ..... ] لك في حياتك فهو من آثار اسم القيوم، لأنك تحتاج ما تقيم به حياتك، وكل ما تُقيمُ به حياتك إنما هو من القيوم - عز وجل -، فإذا أقامك - عز وجل - على شيء أو أقام لك شيئاً فإنه سبحانه القيوم الذي هو {قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] سبحانه وتعالى. لهذا فإنَّ فقه الدعاء مرتبط بفقه الأسماء والصفات، فكلما كان العبد أعرف بأسماء الله وصفاته وآثارها في خلقه، كُلَّما كان أعرف وأعلم بسؤال الله بها وباستحضاره لمعنى ذلك كان ذلك أرجى لقبول الدعاء وحصول المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 [المسألة الرابعة] : أنَّ اسم الحي واسم القيوم بلازمهما تدل على بقية صفات الرب - عز وجل -، لأنَّ الحياة مستلزمة لكثير من الصفات، والقيومية مستلزمة لكثير من الصفات. لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم في هذا الباب (إنَّ الصفات التي أثبتها الأشاعرة أو أثبتها غيرهم من أهل البدع وزعموا إثباتها بالعقل أنَّهُم قَصَّروا في ذلك لأنَّ العقل بالتلازم واللزوم يُثْبِتُ صفات كثيرة لله - عز وجل - أكثر من السبعة التي أثبتها طائفة منها بالعقل) . لهذا اسم الحي يستلزم صفات كثيرة، واسم القيوم يستلزم صفات كثيرة، لذا ينبغي أن يُتَاَمَّل هذا الموضع من جهة أنَّ حياة الرب - عز وجل - واسم الرب - عز وجل - (الحي) ، وقيومية الرب - عز وجل - واسمه القيوم يستلزمان عقلاً عدداً كبيراً جداً من الصفات لله - عز وجل -. وهذا موضع يُحْتَجُّ به على من يُثبِتُونَ الصفات بالعقل لأنَّ حياته سبحانه ثابتة عقلاً عند الجميع وكذلك قيوميته سبحانه ثابتة عقلاً عند الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قال بعدها (خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مُؤْنَةٍ)   وكما قال فيما سبق (حَيٌّ لَا يَمُوتُ) قال هنا (خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مُؤْنَةٍ) . و (خَالِقٌ) اسم فاعل من الخَلْقْ، فالخَلْقْ مصدر خَلَقَ الشيء يَخْلُقُهُ خَلْقَاً. واسم الخالق لله - عز وجل - هو على مقتضى اللغة يشمل مراتب: 1 - المرتبة الأولى لصفة الخلق واسم الخالق: التقدير: فإنَّ الخلق في اللغة هو التقدير كما قال - عز وجل - {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وقال سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] تقدير الشيء على وفق علم المُقَدِّر. وفي هذا قول الشاعر: فأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ ****** وبعض القوم يخلق ثم لا يَفْرِي (تَفْرِي ما خَلَقْتَ) يعني تقطع ما قدرت من الأمر أو من الصناعة. (وبعض القوم -لعجزه- يخلق) يعني يقدر، (ثم لا يَفْرِي) وهذه المرتبة ثابتة لله - عز وجل -، فهو سبحانه المُقَدِّر للأشياء {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} خَلَقَ كل الأشياء فقدَّرَها، فخَلْقُهُ كان مشتملاً على تقديرها شيئاً فشيئاً أو تقدير ما يصلح لها. هذا وتقديره سبحانه للأشياء بلا حاجة لهذا التقدير. فالمخلوق يُقَدِّر خشية ألا يصل إلى ما يريد، فإنَّ تقديره للأشياء شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى نهايتها وحتى يكون ما يريد على وفق ما قدَّرْ أو على وفق ما يريده، فيحتاج إلى التقدير ليتم الأمر. والله سبحانه حين قدَّر لا لحاجته لذلك، بل هو سبحانه يُجْرِي الأشياء وفق (كن فتكون) على وفق حكمته سبحانه بمشيئته الكونية، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فكونه سبحانه قدَّر الأشياء لا لحاجة إلى التقدير، ولكن ليكون ذلك موافق لحكمته سبحانه، ولله الحكمة البالغة كما خلَقَ السموات والأرض في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها - عز وجل - بمباشرة الأمر لها بكن فتكون مرة واحدة. 2 - المرتبة الثانية لصفة الخلق واسم الخالق: هو تصوير الأشياء: وتصوير الأشياء هو خَلْقٌ لها لأنها أعظم من التقدير العام، فإذا صوَّر الأشياء فقد خلقها كما قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6] وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه قال ? (إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً مضغة ثم أربعين يوماً علقة)) ... إلخ، فجعل هذه المراتب داخلة في الخلق، وهذا يدل مع دلالات كثيرة على أنَّ التصوير خلق، وحين [ ..... ] لا لحاجته سبحانه للتصوير بأنه لم ينفذ أمره إلا إذا صور كما يفعل الإنسان فإنه يصور الشيء الذي يريده بمعنى يركب أعضاءه بأن يجعل هذا مع هذا لأنه لن يتم إلا بهذا، ولو لم يفعل هذه الخطوة لا تتم له الخطوة التي بعدها لأنه بحاجة إلى ذلك. فإذاً التصوير عند المخلوق لحاجته إليه، والله سبحانه وتعالى يخلق مُصَوراً لا لحاجته إليه، فهذه داخلة في قول المؤلف رحمه الله (خالق بلا حاجة) 3 - المرتبة الثالثة لصفة الخلق واسم الخالق: هو البرء: البرء، برء ما صور وهو إنفاذه على آخر مراحله وجعله خلقاً سوياً يريده الرب - عز وجل -، ولهذا قال في آخر سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24] ، وهو سبحانه وتعالى حين خَلَقَ وبَرَءَ البرية وصوَّرَها وجعلها على هذا المنوال وعلى اختلافها: الإنسان، الملائكة، الحيوان على ظهر الأرض وبطن الأرض والماء وفي السماء إلى آخر ذلك ليس لحاجته لهم ولا لأنه يستكثر بهم بل لابتلائهم ولإقامة هذا الملكوت على العبودية. فإذاً قول المؤلف رحمه الله (خَاِلقٌ بِلا حَاجَة) هذا لكمال غناه سبحانه وتعالى وكمال حمده سبحانه كما قال - عز وجل - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] ، وكما قال ? في الحديث القدْسي (قَالَ اللهُ تعَالَى: يَا عِبَادِي إِنَّي؛ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) (1) إلى أن قال (فإنَّكم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرَّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي) وقد قال - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . وكذلك قوله (رَازقٌ بلا مَؤُونَة)   (1) مسلم (6737) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكونه سبحانه يرزق بلا نفقة يُنْفِقُهَا تُنْقِصُ مما عنده سبحانه، وبلا تعب، فهو سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، وما يفتح للناس من رحمة فإنه لا ممسك لها، وقد قال سبحانه وتعالى {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] ، وقال - عز وجل - {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وفي حديث أبو ذر المعروف قال (أَرَأَيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السّمَاوَاتِ والأرض, فَإِنّهُ لَمْ يَغِضْ ممّا فِي يَمِينِهِ شَيْئًا) (1) ، وهذا لا شك أنه صفة الرب - عز وجل -. أما المخلوق فإنه إذا رَزَقْ فإنه يَرْزُقْ بكلفة وتعب، ويرزق لحاجته أن يرزق، ويرزق أيضاً لمؤونة تنقص وتزيد، والله سبحانه له الملك الأعظم في ذلك. فتَبَيَّنَ أَنَّ معنى قوله (رَازقٌ بلا مَؤُونَة) يعنى بلا كلفة ولا مشقة، أو بلا مؤنة يأخذ منها فتحتاج إلى أن تُمَوَّنَ، بل هو سبحانه لا يُنْقِصَ ما يُعْطِي خلقه من ملكه شيئاً، ولا يزيد فيه شيئا، بل هو سبحانه الرازق بلا مؤونة سبحانه وتعالى. نكتفي اليوم بهذا القدْر، ونكمل إن شاء الله تعالى الأسبوع القادم.   (1) البخاري (4684) / مسلم (2356) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الأسئلة : س1/ هل يوصف المخلوق بكونه خالقا للأشياء؟ ج/ الجواب: لا، خلْق الأشياء هذا مختص بالرب - عز وجل -، فهو سبحانه وتعالى الذي يخلق الأشياء. أما أن يوصف بكونه خالقا، فنعم، لكن لا يقال خالق للأشياء، الأشياء بيد الله - عز وجل -، لكن يخلق ما يناسب، كما قال سبحانه {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ، ويُعنى بالخلق هنا التقدير أو التصوير أو ما يناسبه، ولهذا قال ? في الحديث الذي رواه البخاري وغيره (مَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقوا حَبّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) (1) فأثبت لهم خلقا قال (يَخْلُقُ كَخَلْقِي) ، ثم نفى عنهم خلقا فقال (فَلْيَخْلُقوا حَبّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) ، فدلّ على أنّ المخلوق يخلق أشياء؛ بمعنى يصورها أو يقدرها، أما برء الأشياء، أو برء الأمور؛ بمعنى إخراج الصور يعني فيها حياة فهذه لله - عز وجل -. أما تصنيع الجمادات فهذا نوع من الخلق؛ لأنه تقدير وتصوير. س2/ يستدل أهل التعطيل والتجسيم بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] على باطلهم، وقد رد أهل السنة والجماعة بردود عليهم في ورود الكاف والمِثل في الآية، فما هو وجه استدلال المعطلة والمجسمة؟ وما هو الرد الصحيح والوجه الصحيح من ردود أهل السنة في زيادة الكاف؟ ج/ سبق أن ذكرناه أظن مفصلاً في الدرس الماضي، أو الذي قبله، أظن في أول الدروس، أو عند قوله ولا يشبهه شيء أو (وَلا يُشْبِهُ الأنَامَ) ، أو في أوله عند قوله (وَلا شيءَ مثْلُهُ) (2) . المقصود أن استدلال المبتدعة بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مَصِيرٌ منهم إلى أن المثلية هنا قد تكون ناقصة، فيكون هناك مطلق التشابه منفيا، وهذا سيكون مطلق التشابه منفيا، وقد ذكرنا لكم أنّ المراد هنا المماثلة والمماثلة منفية في كل حال، والمشابهة في الكيفية أو في كمال المعنى؛ يعني في المعنى المطلق أيضا منفي، وأما المشابهة في مطلق المعنى وهو أصله الذي حصل به الاشتراك فإن هذا ليس منفيا؛ لأن هذا أثبته الرب - عز وجل -. س3/ ما هو أفضل كتاب شرح الأسماء الحسنى واعتنى بمعناها؟ ج/ أحسن ما أُلف في ذلك فيما أعلم كتاب (النهج الأسمى) لأحد طلبة العلم في الكويت محمد الحمود، وهو من أنفع ما كتب في ذلك، ويليه ما فرقه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في كتبه من معاني الأسماء والصفات. س4/ هل الله - عز وجل - محتاج إلى عبادة العابد كما قال {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56-57] ، فهو لا يحتاج سبحانه للرَّزق ولا للإطعام ولكن أثبت العبادة؟ ج/ ما أدري ما وجه السؤال. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) اللام هنا هذه لام (كي) لام الحكمة وليست لأجل الحاجة. س5/ هل يقال إنَّ الصفات الذاتية راجعة إلى صفة الحياة، والصفات الفعلية راجعة إلى صفة القيومية؟ ج/ لا، لا يقال ذلك من مثل صفة الرحمة ذاتية باعتبار وفعلية أيضا، ولكنها راجعة أيضا لقيوميته، فهو سبحانه أقام خلقه على الرحمة. س6/ كيف نعرف أن نفي صفة من صفات النقص تدل على الكمال المطلق؟ ج/ أي نفي جاء في الكتاب والسنة؛ نفي صفة عن الله - عز وجل - فالمراد من هذا النفي إثبات كمال الضد؛ لأنَّ النفي المجرد ليس مدحاً وليس كمالاً، نفي الصفة عن المتصف أو عمن يتصف بها أو عمن يقال أو تنسب إليه قد يكون لنقصه ولعجزه؛ لعدم علمه أولعدم قدرته، فيقال مثلا فلان لا يسيء إلى أحد؛ لأجل أنّه ضعيف، حتى الكافر المشرك المعاند لا يسيء إليه لضعفه، ويقال فلان مثلاً ليس كثير الكلام قد يكون لعجزه عن الكلام بما ينفع، ولهذا قال الشاعر في ذم قبيلة من القبائل: قُبَيِّلَة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل (قبيلة لا يخفرون بذمة) لعجزهم، والعرب كانت تفتخر بالاعتداء وبالقوة، فهو نَفَى عنهم صفة لأجل عجزهم عنها فقال (ولا يظلمون الناس حبة خردل) لعجزهم ولهذا إذا نفى الرب - عز وجل - عن نفسه صفة دلَّ ذلك على كمال ضد هذه الصفة، فمثلاً قوله تعالى {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255] هذا نفي يدل على كمال حياته سبحانه وتعالى، لا لأرقه مثلاَ أو لاهتمامه بخلقه أو لعدم إرادة تركهم حتى لا يفسد الملك أو نحو ذلك، بل (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) لكمال حياته، كذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] لكمال علمه وإحاطته. {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] لكمال غناه سبحانه وتعالى، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] لكمال أَحديته سبحانه، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وهكذا في غير ذلك من الصفات.   (1) البخاري (7559) (2) ذكره الشيخ تحت شرح (وَلا شيءَ مثْلُهُ) في المسألة الخامسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مُؤْنَةٍ، مُمِيتٌ بِلَا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلَا مَشَقَّةٍ، مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا، لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي"، لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ، وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .   هذه تكملة وصِلَة لما تقدم الكلام عليه من بيان معاني جُمَلِ هذه العقيدة النافعة؛ عقيدة العلامة أبي جعفر الطحاوي رحمه الله. ووقفنا عند قوله (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ) وهذا كالجمل التي قبله، فيها إثبات كمال الرب - عز وجل -، وأنه في كمالاته وصفاته غير مماثل لخلقه، بل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . فذَكَرَ فيما تقدم جملة من صفات الرب - عز وجل - وأنه في اتصافه بتلك الصفات لا يماثل المخلوق الذي إذا اتصف بصفة فهو لحاجته لمقتضى تلك الصفة ولضعفه ولافتقاره، والله جل جلاله متَّصِف بصفات الكمال التي مرجعها إلى أنه سبحانه هو الغني الحميد. هو الغني غير محتاج لمقتضى صفاته وغير محتاج سبحانه لأثر تلك الصفة. بل هو سبحانه وتعالى فيما يفعل، يفعلُ لحكمة لا لحاجة - عز وجل -. فخَلْقُهُ سبحانه وتعالى للخلق بلا حاجة، ورَزْقه سبحانه وتعالى لهم لحاجتهم إليه لا لحاجته سبحانه وتعالى إليهم، كما مرّ معنا على حد قول الله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُم الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . وجميع صفات الكمال ترجع إلى صفة الغنى وصفة الحمد له سبحانه، وإلى هذين الاسمين العظيمين الغني والحميد، سواءٌ في ذلك صفات الجلال، أو صفات الجمال، صفات الربوبية، أو الصفات التي ترجع إليها معاني العبودية للرب جل جلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قال هنا (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ)   يعني أنّه سبحانه يميت من شاء أنْ يُمِيتَهُ، ويُفْقِدَ من شاء أن يُفقده الحياة، لا لخوف من هذا الذي أفقده الحياة أن يعتدي على مقام الربّ - عز وجل -؛ ولكن لحكمته سبحانه. فهو الذي أحيا وأمات، وهو الذي أفقر وأغنى سبحانه لحكمته البالغة العظيمة. فهو فيما يُحيي لم يُحيِ لحاجة، وفيما أمات سبحانه ما أمات لمخافة؛ بل هو سبحانه الذي يحيي ويميت لحكمة بالغة. فقال هنا (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) والمخلوق البشر أو غير البشر يعتدي بالإماتة على من يخاف من شره. وهذا دليل النَّقص في المخلوق؛ لأنه لمَّا لم يكن دافعًا عن نفسه إلا بهذا الفعل صارت في المخلوق هذا من صفات النقص في أنه يميت لمخافته. وهذا لا يدخل فيه معنى مشروعية الجهاد لأنَّ هذا لمعنىً آخر لا يتعلق بالمخلوق، بل يتعلق بحق الله - عز وجل - وإقامة دينه وإعلاء كلمته. فهذا معنى قوله (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) . وأنه سبحانه (بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ) باعث الخلق بعد موتهم سواءٌ في ذلك بَعْثُ المكلَّفين أو بَعْثُ غير المكلَّفين بلا مشقة تلحقه سبحانه، {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ، وهذا لكمال صفات الرب - عز وجل -. إذا تبين لك ذلك، فإنَّ في هذه الجملة من كلامه مسائل أعني قوله (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) فيها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 [المسألة الأولى] : أنَّ (مُمِيتٌ) اسم فاعل من (أمات) المتعدي. والاسم للرب - عز وجل - المميت، هو سبحانه المحيي المميت. والمميت صفة كمال مع قرينتها المحيي. المميت اسم كمال مع قرينه المحيي، فهو سبحانه الموصوف بكونه أحيا وأمات - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 [المسألة الثانية] : معنى (مُمِيتٌ) أي خَلَقَ الموت، فيمن شاء سبحانه، يعني جعل من شاء مِنْ خَلْقِهِ ميِّتاً بعد أن كان حيا. والموت عند جمهور أهل السنة ومن وافقهم من غيرهم مخلوق موجود. وهو الذي يعبِّرون عنه بأن الموت صفة وُجودية وذلك لقول الله - عز وجل - {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فجعل الموت مخلوقا وتَسَلَّطَ عليه الخلق، وهذا يدل على أنه موجود، (خَلَقَ الْمَوْتَ) وخَلْقُهُ يدل على أنه صفة وُجودية. وكذلك ما جاء في السنة من أحاديث كثيرة فيها أن الموت يؤتى به يوم القيامة على هيئة كبش فيذبح على قنطرة بين الجنة والنار (1) ، فهذا يدل على أنَّ الموت موجود وله صفة الوجود. وهذا له أدلة أيضا كثيرة تدل على ما ذكرنا من أنَّ الموت ليس عدما للحياة، وإنما هو وجودٌ لصفةٍ ليست هي الحياة. فالحياة وصف صفة، وهو وجود لصفة أخرى، وهذه الصفة الأخرى هي الموت. هذا هو الذي قرره جمهور أهل السنة. وقال غير أهل السنة من الفلاسفة وبعض من وافقهم من أهل السنة وهو قول أهل الكلام فيما ذكروه في كتبهم الخاصة بالكلام، قالوا في تعريفهم للموت: الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يكون حيّا. وهذا التعريف تجده في كثير من كتب التفسير التي ينحو أصحابها منحى أهل الكلام، حتى إنَّ بعضها المنتسبين لمنهج السلف ظنَّ أنَّ هذا التعريف يمشي فنقل بعض النقولات فيها هذا التعريف. وهذا هو تعريف أهل الكلام والفلاسفة يقولون: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا. ويجيبون عن الآية في قوله {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} بأنّ الخلق هنا بمعنى التقدير، فيكون عندهم معنى الآية الذي قدّر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. وهذا مصيرٌ منهم إلى أن الموت عدمٌ محض. وهذا خلاف الأدلة الكثيرة من السنة وأيضا من القرآن التي تدل على أنَّ الموت حياة أخرى. ولهذا نقول لمن مات إنه في الحياة البرزخية وليس في عدمٍ. فحياة الإنسان متعلقة بروحه ومتعلقة بجسده. وحياة الجسد بحلول الروح فيه، فإذا فارقت الروح الجسد صار الجسد عديم الحياة. لذلك تنتثر أجزاؤه في التراب ويذهب. وأما الروح وهي داخلة في جملة تسمية الإنسان إنسانا، أما الروح فهي مخلوقة للبقاء لا للعدم. لهذا إذا قيل ماتَ يعني صار جسمه للعدم أو صار جسمه للفناء، وأما روحه فهي للبقاء، لكن لها حياة تخصُّها. والجسد عند أهل السنة في القبر له تَعَلُّقْ بالروح؛ فإنَّ الحياة البرزخية للروح عند أهل السنة، والجسد تبع لها؛ تبع للروح، ليست الحياة للروح فقط؛ بل هي للروح والجسد تابع. عكس الحياة الدنيا؛ فإن الحياة فيك الآن للجسد والروح تبع، فيألم الجسد فتألم الروح، وهكذا يسعد الجسد فتسعد الروح إلى غير ذلك من التفصيل. وأما بعد الحياة البرزخية يعني بعد الموت، فإنَّ الموت حالة، صفة وُجِدَتْ أدَّت إلى انفصال الروح عن البدن، فصارت الروح بالموت لها حياة تخصُّها، وصار البدن بالموت له صفة تخصه، وبين هذا وهذا تَعَلُّقْ. يدلُّكَ هذا على صحة ما اختاره أئمة أهل السنة بما دلتهم عليه الأحاديث وظاهر القرآن من أنَّ الموت صفة توجد وليس عدماً محضاً، بل هو موجود له خصائصه. والموت في الآية مخلوق {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} . وقولهم إنَّ الموت والحياة هنا تَسَلَّط عليها الفعل (خلق) فيكون بمعنى التقدير، نقول هذا غير مستقيم لأنه علَّلَ ذلك بعده بقوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وحُسْنُ العمل إنما يكون بعد الوجود، ولهذا قدَّمَ الموت على الحياة؛ لأنّ الموت يكون بعده الجزاء على حُسن العمل، ولِما جاء في السنة من الأدلة.   (1) لما رواه الشيخان: البخاري (4730) / مسلم (7360) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي ? قال (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِى يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 [المسألة الثالثة] : أنّ الموت متعلِّق - يعني إماتة الرب - عز وجل - - متعلقة بكل شيء، كما قال سبحانه {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فكل شيء كُتب عليه الموت، فلا بد أن يموت، (كُلُّ شَيْءٍ) يعني مما حَلَّتْهُ الحياة بالروح فلا بد أن يفنى. وهناك ما اسْتُثْنِيَ مما يموت وذلك في قوله - عز وجل - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] . والاستثناء هنا في قوله {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} اختلف فيه أهل العلم على عدة أقوال ترجعون إليها في التفسير: منها أن يكون المستثنى أرواح الشهداء؛ لأنَّ الشهداء أحياء بنص الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169-170] الآيات في آل عمران. وهذا هو أظهر الأقوال؛ أنَّ المُسْتَثْنَى أرواح الشهداء، فيكون عموم قوله - عز وجل - {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} على ظاهره في أنه سَيَهْلِكُ كل شيء إلا الرب - عز وجل -. وهذا قد جاء في تفسير قوله تعالى {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} إلى قوله {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:14-16] ؛ لأنّ الرب - عز وجل - إذا أمات الملائكة المقربين نادى (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ؟ ثم أجاب نفسه العَلِيَّةْ بقوله جل جلاله (الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، ثم قال {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] . وهذا يدلّ على أنَّ المخلوقات جميعاً ضعيفة محتاجة إلى ربها. فكل من استحضر صفة الموت الذي سيحل به وسيحل أيضا بغيره من المخلوقات، فإنه يظهر له عِظَمْ الرب - عز وجل - الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، وأنه سبحانه وتعالى هو المحيي المميت، وأنه هو - عز وجل - هو الواحد الأحد الغني الكامل في صفاته ونعوت جلاله وعظمته. وأمّا قول الطحاوي (بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ) فهذا فيه صفة البعث لله - عز وجل - وفي موضعه سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر مسائل البعث والنشور بتفصيلاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا. لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي". لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ. وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .   قوله (مَا زالَ بِصِفَاتِهِ قَديماً قَبْلَ خَلْقِهِ ... ) إلى آخره، أراد به أنه - عز وجل - لم يزل بصفاته؛ متصفاً بصفاته قبل أن يخلُق الخلق، فصفاته سبحانه ثابتة له قبل وجود المخلوقات المنظورة، التي تراها الآن، والتي لا تُرَى مما هو موجود. قال (مَا زالَ بِصِفَاتِهِ قَديماً) وهذا فيه بحث مرّ معكم في اسم القديم أو في وصف الله - عز وجل - بالقِدم. وقوله (قَبْلَ خَلْقِهِ) أراد به أنَّه سبحانه ما اتَّصَفَ بالصفات هذه بعد أن خَلَقَ الخلق كما سيأتي في قوله (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي) . (1) : [[الشريط الرابع]] : ثم قال (لم يَزدَدْ بِكَوْنِهِم شَيْئاً، لم يكنْ قَبلَهُم مِنْ صِفَتِهِ) تركيب هذه الجملة كالتالي: لم يزدد شيئا - عز وجل - من صفاته، لم يزدد شيئا بكونهم - يعني بوجودهم وإيجادهم وخلقهم - لم يزدد شيئاً. وهذا الشيء وُصِفْ بأنه لم يكن قبلهم من صفته. يعني أنّ الرب - عز وجل - ما ازداد شيئاً لم يكن عليه سبحانه قبل أن يخلقه؛ بل هو سبحانه بصفاته قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقْ وبعد أن خَلَقَ الخلق؛ لأنه لا يجوز أن يُعَطَّل الرب - عز وجل - من صفاته؛ لأنَّ تعطيل الرب من صفاته نقص، والله سبحانه متنزه عن النقص بأنواعه. وهذا الكلام منه مع ما بعده متصل ولذلك سنذكر ما يتعلق به من المسائل متتابعاً بعد بيان معنى هذه الجمل الآتية: قال (وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا) يعني أنّ صفات الرب - عز وجل - كما أنه لم يزل عليها وهو أولٌ بصفاته فهو أيضا - عز وجل - آخرٌ بصفاته سبحانه وتعالى. فصفات الرب - عز وجل - أبدية أزلية لا ينفك عنه الوصف في الماضي البعيد ولا في المستقبل، بل هو سبحانه وتعالى لم يزدد بخلقه شيئا لا في جهة الأولية ولا في جهة الآخرية، بل هو سبحانه وتعالى لم يزل بصفاته أولاً سبحانه وآخراً. قال (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي") أراد بذلك أنه - عز وجل - من أسمائه الخالق ومن صفاته الخلق قبل أن يَخْلُقْ، فلم يَصِرْ اسمه الخالق بعد أن خَلَقَ؛ بل هو اسمه الخالق - عز وجل - قبل أن يَخْلُقْ، ولم يكن اسمه الباري بعد أن بَرَأَ الخليقة بل اسمه الباري قبل أن يبرأ الخليقة. لهذا قال بعدها (له معنى الرُّبُوبيَّةِ ولا مَرْبُوبَ، ومعنى الخالق ولا مخلُوقَ) فقبل أن يكون سبحانه خالقا للخلق، يعني قبل أن يكون ثَمَّ مخلوق هو خالق. وقبل أن يكون ثَمَّ مربوب هو - عز وجل - الرب سبحانه وتعالى. قال (وكما أنَّه مُحيِي الموْتَى بَعْدَما أَحْيَا، استحقَّ هَذَا الاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهم) فهو سبحانه المحيي قبل أن يكون ثَمَّ مَيْتْ، قبل أن يُمِيتَ الموتى هو المحيي، وكذلك هو المستحق لاسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير. هذه الجمل مترابطة في الدِلَالَة على المعنى الذي ذكرته لك. وهذا المعنى الذي دلّ عليه كلام الطحاوي يرتبط به مسائل مهمة جداً في هذا الموضع. وهذا الموضع مما يظهر منه أنّ الطحاوي رحمه الله خالف ما عليه أهل الحديث والأثر في هذه المسألة العظيمة. وذلك أنَّ أصول هذه المسألة قديمة في البحث بين الجهمية وبين المعتزلة وبين الكلابية والأشاعرة وبين الماتريدية وبين أهل الحديث والأثر، والمذاهب فيها متعددة. ولهذا نُبَيِّن ما في هذه الجمل من مباحث على مسائل إيضاحاً للمقام.   (1) انتهى الشريط الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 [المسألة الأولى] : أنّ الناس اختلفوا في اتصاف الله - عز وجل - بصفاته هل هو مُتَّصِفٌ بها بعد ظهور آثارها، وأسماء الرب - عز وجل - سُمِّيَ بها بعد ظهور آثارها أم قبل ذلك على مذاهب: 1 - المذهب الأول: هو مذهب المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم مِنْ أنَّه - عز وجل - لم يَصِرْ له صفات ولا أسماء إلا بعد أن ظهرت آثارُها، فلما خَلَقَ صارت له صفة الخلق، وصار من أسمائه الخالق. وذلك على أصل عندهم، وهو أَنَّ أسماء الله - عز وجل - مخلوقة، فلما خَلَقَ سَمَّاهُ الناس الخالق، وخَلَقَ له اسم الخالق. فعندهم أَنَّ الزمان لما ابتدأ فيه الخلق أو الرَّزق أو الإنشاء صار بعده له اسم الخالق، وقبل ذلك لم يكن له هذا الاسم ولم تكن له هذه الصفات. فقبل أن يكون ثَمَّ سَامِعْ لكلامه فليس هو سبحانه مُتَكَلَّمَاً، فلما خَلَقَ سامِعاً لكلامه، خَلَقَ كلاما - عند المعتزلة والجهمية - فأسمعهم إياه، فصار له اسم المتكلم أو صفة الكلام، لمَّا خلق مَنْ يسمع كلامه. كذلك صفة الرحمة على تأويلهم الذي يؤولونه أو أنواع النِّعَم، والمنعم والمحيي والمميت كل هذه لا تطلق على الله عندهم إلا بعد أن وُجد الفعل منه على الأصل الذي ذكرته لكم عنهم أنَّ الأسماء عندهم والصفات مخلوقة. 2 - المذهب الثاني: هو مذهب الأشاعرة والماتريدية ومذهب طوائف من أهل الكلام في أنّ الرب - عز وجل - كان مُتَّصِفَاً بالصفات وله الأسماء، ولكن لم تَظْهَرْ آثار صفاته ولا آثار أسمائه بل كان زمناً طويلا طَويلا مُعَطَّلاً عن الأفعال عز وجل. له صفة الخلق وليس ثَمَّ ما يخلقه، له صفة الفعل ولم يفعل شيئاً، له صفة الإرادة وأراد أشياء كونية مؤجلة غير مُنجزة وهكذا. فمن أسمائه عند هؤلاء الخالق، ولكنه لم يخلق، ومن أسمائه عندهم أو من صفاته الكلام ولم يتكلم، ومن صفاته الرحمة بمعنى إرادة الإنعام وليس ثَمَّ مُنْعَمٌ عليه، ومن أسمائه المحيي وليس ثَمَّ من أحيا، ومن أسمائه الباري وليس ثَمَّ بَرْأْ، وهكذا حتى أَنْشَأَ الله - عز وجل - وخَلَقَ - عز وجل - هذا الخلق المنظور الذي تراه من الأرض والسموات وما قصَّ الله علينا في كتابه، ثُمَّ بعد ذلك ظهرت آثار أسمائه وصفاته. فعندهم أنَّ الأسماء والصفات متعلقة بهذا العالَمْ المنظور أو المعلوم دون غيره من العوالم التي سبقته. وقالوا هذا فِراراً من قول الفلاسفة الذين زعموا أنَّ هذا العالم قديم، أو أَنَّ المخلوقات قديمة متناهية أو دائمة من جهة الأولية؛ من جهة القدم، مع الرب - عز وجل -. 3 - المذهب الثالث: هو مذهب أهل الحديث والأثر وأهل السنة؛ أعني عامة أهل السنة وهو أنّ الرب - عز وجل - أَوَّلٌ بصفاته، وصفاته سبحانه وتعالى قديمة، يعني هو أوَّلٌ سبحانه وتعالى بصفاته. وأنه سبحانه كان من جهة الأولية بصفاتهِ -كما عبر الماتن هنا بقوله (كانَ بصفاته) . وأنّ صفات الرب - عز وجل - لابد أن تظهر آثارها؛ لأنه سبحانه فَعَّالٌ لما يريد. والرب - عز وجل - له صفات الكمال المطلق، ومن أنواع الكمال المطلق أنْ يكون ما أراد سبحانه وتعالى. فما أراده كوناً لابد أن يكون. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ومن مذهب أهل السنة والحديث والأثر أنّه سبحانه يجوز أن يكون خَلَقَ أنواعاً من المخلوقات وأنواعاً من العوالم غير هذا العالم الذي نراه. فجنس مخلوقات الله - عز وجل - أعمّ من أن تكون هذه المخلوقات الموجودة الآن، فلا بد أن يكون ثَمَّ مخلوقات أوجدها الله - عز وجل - وأفناها ظَهَرَت فيها آثار أسمائه وصفاته - عز وجل -. فإنَّ أسماء الرب - عز وجل - وإنّ صفات الرب - عز وجل - لابد أن يكون لها أثرُها؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد. فما أراده سبحانه فَعَلَهُ، وَوَصَفَ نفسه بهذه الصفة على صيغة المبالغة الدالة على الكمال بقوله {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (1) ، فما أراده سبحانه كان. وهذا متسلسل -كما سيأتي بيانه- في الزمن الأول، يعني في الأولية وفي الآخرية فهو سبحانه (وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا) . وهذا منهم -يعني من أهل الحديث والأثر والسنة- هذا القول منهم لأجل إثبات الكمال للرب - عز وجل -. وقول المعتزلة والجهمية فيه تعطيل للرب عن أسمائه وصفاته. يعني أنَّ الله - عز وجل - كان بلا صفات وبلا أسماء، وأنَّه لمَّا فَعَلَ وُجِدَت صفات الرب - عز وجل -، وهذا نسبة النقص لله - عز وجل - لأنّ الصفات هي عنوان الكمال، والله سبحانه وتعالى كمالاته بصفاته. أمّا قول الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم، فهذا أيضاً فيه وصف الرب - عز وجل - بالنقص؛ لَأَنَّ أولئك يزعمون أنه متصف ولا أثر للصفة. ومعلوم أَنَّ هذا العلم المنظور الذي تعلقت به عندهم الأسماء والصفات، هذا العالم إنما وُجِدَ قريباً.   (1) هود:107، البروج:16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فوجوده قريب وإن كانت مدته أو عمره طويل لكنه بالنسبة إلى الزمن بعامة -الزمن المطلق- لا شك أنه قريب لهذا قال ? (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) (1) - عز وجل -. فالتقدير كان قبل أن يخلق هذه الخلائق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهي مدة محدودة، والله - عز وجل - لا يَحُدُُّه زمان، فهو أول سبحانه وتعالى ليس قبله شيء - عز وجل -. وفي هذا إقرار لأنه من جهة الأولية يتناهى الزمان في إدراك المخلوق، وننتقل من الزمان المنسوب إلى الزمان المطلق، وهذا تتقاصر عقولنا عنه وعن إدراكه. وأما هذا العالم المنظور فإنه مُحْدَثٌ وحدوثه قريب. ولهذا نقول إن قول الآشاعرة والماتريدية بأنه كان متصفاً بصفات وله الأسماء، ولكن لم تظهر آثارها ولم يفعل شيئاً إلا بعد أن أَوْجَدَ هذا العالم، نقول معناه أَنَّ ثَمَّ زماناً مطلقاً طويلاً طويلاً جداً ولم يكن الرب - عز وجل - فاعلا، ولم يكن لصفاته أثر ولا لأسمائه أثر في المربوبات. ولا بد أنَّ الله - عز وجل - له سبحانه وتعالى من يعبده - عز وجل - من خلقه، ولا بد أن يكون له - عز وجل - مخلوقات؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد، وهذه صفة مبالغة مطلقة في الزمن كله؛ لأنَّ (ما) اسم موصول وأسماء الموصول تعم ما كان في حيّز صلتها. بَقي أنْ يقال إن قولهم (أراد ولكن إرادته كانت مُعَلَّقَة غير مُنْجَزَة) ونقول هذا تحكم؛ لأن هذا مما لا دليل عليه إلا الفرار من قول الفلاسفة ومن نحا نحوهم بِقِدَمِ هذا العالَم المنظور. وهذا الإلزام لا يلزم أهل الحديث والسنة والأثر لأننا نقول إنَّ العوالِمْ التي سبقت هذا العالم كثيرة متعددة لا نعلمها، الله - عز وجل - يعلمها. وهذا ما قِيلَ إنَّهُ يُسَمى بقِدَمِ جنس المخلوقات، أو ما يسمى بالقِدم النوعي للمخلوقات، وهذه من المسائل الكبار التي نكتفي في تقريرها بما أوردنا لكَ في هذا المقام المختَصَرْ. المهم أن يتقرر في ذهنكَ أنَّ مذهب أهل الحديث والأثر في هذه المسألة لأجل كمال الربّ - عز وجل -، وأنَّ غَيْرَ قولهم فيه تنقّص للرب - عز وجل - بكونه مُعَطَّلاً عن صفاته أو بكونه سبحانه وتعالى مُعَطَّلَاً أن يفعل وأن تظهر آثار أسمائه وصفاته قبل خَلْق هذا العالم المعلوم أو المنظور.   (1) مسلم (6919) / الترمذي (2156) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 [المسألة الثانية] : أنّ الطحاوي رحمه الله كأنّه يميل إلى المذهب الثاني؛ وهو مذهب الماتريدية. وهذا من أغلاط هذه العقيدة التي خالف فيها مؤلفها منهج أهل الحديث والأثر. هذا ظاهِرُ كلامه كما اعترف به الشارح. ومن شَرَحَ هذه العقيدة من الماتريدية قرّروا هذا الكلام على أنَّ كلامه موافق لكلام أبي منصور الماتريدي والأشعري ومن نحا نحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 [المسألة الثالثة] : وهي متصلة بهذا البحث، وهذا البحث من أصعب المباحث التي ستعرض لك في شرحنا لهذه العقيدة، لكن نعرضها بشيء من الوضوح والاختصار، وهو ما يسمى بمسألة التسلسل. والتسلسل معناه: أنه لا يكون شيء إلا وقبله شيء تَرتَّبَ عليه، أو لا يكون شيء إلا وبعده شيء ترتب عليه. والتسلسل على اعتبارات: * الجهة الأولى المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في صفات الرب - عز وجل -. وللناس في التسلسل المتعلق بصفات الرب - عز وجل - مذاهب: 1 - المذهب الأول: من قال إنَّ الرب - عز وجل - يمتنع تسلسل صفاته في الماضي، ويمتنع تسلسل صفاته في المستقبل: فلا بد من أمد يكون قد ابْتَدَأَ في صفاته أو قد ابْتَدَأَتْ صفاتُه، ولا بد أيضاً من زمن تنتهي إليه صفاته، وهذا هو قول الجهمية -والعياذ بالله- وقول طائفة من المعتزلة كأبي الهذيل العلاَّف وجماعة منهم. 2 - المذهب الثاني: هو أنَّ التسلسل في الماضي ممتنع، والتسلسل في المستقبل لا يمتنع: يعني أنَّ الاتصاف بالصفات لا بد أن يكون له زمن ابتدأ فيه، وهذا الزمن قريب من خلق هذا العالَم الذي تعلّقت به الأسماء والصفات أو الذي ظهرت فيه آثار الأسماء والصفات، وفي المستقبل هناك تسلسل في الصفات يعني عدم انقطاع للصفات، وهذا هو قول أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية. 3 - المذهب الثالث: المذهب الثالث هو مذهب أهل السنة والحديث وهو أنّ التسلسل ثابت في الماضي وثابت في المستقبل، وثبوته في الماضي غير متعلق بخَلقٍ تَتَسَلْسَلُ فيهم الصفات أو تظهر فيهم آثار الصفات، بل يجوز أو نقول بل تتنوع التعلقات باختلاف العوالم، وفي المستقبل - يعني في الآخرة- هو - عز وجل - آخر بصفاته سبحانه وتعالى، فهناك التسلسل في جهة المستقبل. مقتضى القسمة أن يكون ثَمَّ قسم رابع: وهو أنه لا تسلسل في المستقبل وهناك تسلسل في الماضي. هذا مقتضى السبر والتقسيم في القسمة، وهذا لا قائل به من المذاهب المعروفة، يعني لا يُعْرَفُ أنَّ أَحَدَاً قال بهذا القسم. * إذا تبين لك ذلك، فهذه المسألة بُحثَتْ أولا -مسألة التسلسل- قبل بحث المسألة الأولى التي ذكرناها لكم من جهة مذاهب الناس في الصفات وتعلقها بالخلق - يعني الثلاثة المذاهب التي ذكرناها - فلما بُحِثَ التسلسل نتج منه البحث الأول. ولهذا إذا أردت أن تفهم جهة التسلسل تفهم أثرها الذي ذكرته لك في الأول؛ لأنَّ كُلاًّ من هاتين المسألتين مرتبطٌ بالمسألة الأخرى. * الجهة الثانية المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل: التسلسل في المخلوقات: والتسلسل في المخلوقات للناس فيه مذهبان فيما أعلم: 1 - المذهب الأول: تسلسل في الماضي، وهذا ممتنع عند عامة الناس إلا الفلاسفة الذين قالوا إنه لا عَالَم إلا هذا العالم، وأنَّ هذا العالم لم يزل في الماضي، وأنه ما من عِلَّة فيه إلا وهي مُؤَثرة لمعلول فيه أيضاً، وأنَّ هذا العالم ترتب التسلسل فيه الآخر عن الأول والثاني عما قبله وليس ثَمَّ غيره. نقول إنَّ هذا من هذه الجهة عامة الناس عدا الفلاسفة على ما ذكرنا، يعني اتفق عليها المعتزلة وأهل السنة على أَنَّ التسلسل؛ تسلسل المخلوقات في الماضي أنه ممتنع إلا قول الفلاسفة. والفلاسفة كما هو معلوم من قالوا بهذا القول خارجون عن الملة؛ لأنهم يرون قِدَمَ هذا العالم مُطْلَقَاً، وأَنَّ المؤثر فيه الأفلاك بِعِلَل مختلفة يبحثونها. 2 - المذهب الثاني: في المستقبل التسلسل في المخلوقات غير ممتنع عند الجمهور إلا في خلاف جهم وبعض المعتزلة في أنّ تسلسل الحركات والمخلوقات في المستقبل أيضا ممتنع وأنهم لا بد أن يصيروا إلى عَدَمٍ أو إلى عدم تأثير؛ إمّا عدم محض أو عدم تأثير. * الجهة الثالثة المُعْتَبَرَة في بحث التسلسل؛ تسلسل الأثر والمؤثر والسبب والمُسَبَّبْ والعلة والمعلول: وهذا لابد من النظر فيه وأيضا نقول أشهر المذاهب فيه اثنان: 1 - المذهب الأول: مذهب نفاة التعليل والعِلَلْ والأسباب الذين يقولون لا أثر لعلةٍ في معلولها، ولا أثر لسببٍ في مُسَبَبْ، وإنما يفعل الله - عز وجل - عند وجود العلة لا لكونها علة. وهذا هو مذهب نفاة التعليل، كقول الآشاعرة، القدرية، وابن حزم، وجماعات. 2 - المذهب الثاني: أنَّ الأسباب تُنْتِجُ مُسبَّباتِها ويتسلسل ذلك، وأَنَّ العلة تُنْتِجُ معلولاً ويتسلسل ذلك - يعني جوازاً - ولكن ذلك كله بخلق الله - عز وجل - له، وأنّ التسلسل في الآثار ناتجا عن المؤثرات ليس لذاتها بل لسنة الله - عز وجل - التي أجراها في خلقه {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 [المسألة الرّابعة] : قوله (وكما كانَ بصفاته أزَليًّا، كذلك لا يزالُ عَلَيْها أبديًّا) ، وهذا القول في قوله (كانَ بصفاته) هذا حق؛ لأنَّ أهل السنة يعبرون عن الله - عز وجل - بأنه سبحانه وتعالى بصفاته. فيعبرون بالباء المقتضية للمصاحبة؛ لأن الله - عز وجل - لم تنفكَّ عنه صفاته. (وكما كانَ بصفاته) سبحانه وتعالى فلم يكن سبحانه وتعالى ولا صفة، بل كان بصفاته. والباء هنا للمصاحبة؛ يعني أنه سبحانه وتعالى كان أزلياً بصفاته التي هو - عز وجل - موصوف بها. والمعتزلة وأشباههم يعبِّرون في مثل هذه المسائل عن الصفات بالواو، فيقولون: الله وصفتُه، الله وعلمه، والله وقدرته، الله وحِلمه، الله ورحمته، الله وقهره، وهكذا. فيُعَبِّرُونَ بالواو لِأَنَّ الصفة عندهم منفكة عن الموصوف، فعندهم الصفة غير ملازمة للموصوف وليست قائمة به. ولهذا بَحَثَ الشارح عندك هل الصفات غير الذات؟ والاسم هل هو عين المسمى ونحو ذلك، عَرَضَ لذلك بما نستفيده من بحثه لأنه نوع من الاستطراد. لكن ننبهك إلى أنَّ قوله (كانَ بصفاته) هو الاستعمال الذي يستعمله أهل السنة، ولا نقول الله - عز وجل - وقدرته مثلاً، أو نقول الله - عز وجل - وعلمه، هذا استعمال الواو في هذا المقام لا يسوغ، بل تُستعمل الباء، فنقول الله - عز وجل - بعلمه، الله سبحانه وتعالى بقدرته؛ لأن الباء تدل على المصاحبة؛ لأن هذه الصفات قائمة بذات الرب - عز وجل -. قوله (أزَليًّا) مرّ معنا البحث فيه وأنه منحوت من كلمة (لم يزل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [المسألة الخامسة] : قوله في آخر الكلام (ذلك بأنَّهُ على كلِّ شَيْءٍ قديرٌ، وكلُّ شَيْءٍ إليهِ فَقِيرٌ، وكلُّ أمْرٍ عَلَيْهِ يَسيرٌ. لا يحتاجُ إلى شَيْءٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) هذا تعليل لما مرّ. (ذلك بأنَّهُ على كلِّ شَيْءٍ قديرٌ) على إحياء الموتى وعلى إفنائهم، وعلى رَزق المخلوقات وجميع ذلك. وقوله (ذلك بأنَّهُ على كلِّ شَيْءٍ قديرٌ) تتعلق به المسألة الخامسة هذه. وهي أنّ أهل السنة يجعلون قدرة الرب - عز وجل - متعلقة بكل شيء، واسم الله القدير متعلق بكل شيء، وقدرة الله - عز وجل - غير محصورة، بل هو سبحانه قادر على ما شاء وعلى ما لم يشأ - عز وجل -. وهذا هو مذهب أهل الحديث والسنة، وبه جاء القرآن العظيم، فكلّ ما في القرآن تعليق القدرة بكل شيء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45] ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133] ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحو ذلك من الآيات التي فيها تعليق القدرة بكل شيء. أهل البدع وأهل الكلام يُعلِّقون القدرة بما يشاؤه الرب - عز وجل -. فيقولون تَعَلُّقْ قدرة الرب - عز وجل - بما يشاؤه. ولذلك ترى أنه يعدلون عما جاء في القرآن، بقول {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إلى قولهم والله على ما يشاء قدير؛ لأن القدرة عندهم متعلقة بما شاءه الله وليست متعلقة بما لم يشأه. فعندهم قدرة الله تتعلق بما شاء أن يحصل أما ما لم يشأ أن يحصل فإنه لا تتعلق به القدرة. فإذا قيل هل الله قادر على أن لا يُوجَدْ إبليس؟ فيقولون: لا غير قادر. هل الله قادر على أن لا توجد السموات؟ يقولون: لا، غير قادر. لأنّ القدرة عندهم متعلقة بما شاءه - عز وجل -، وما لم يشأه في كونه وفي ملكوته مما لم يحصل بعد أو مما حصل خلافه فإنّ القدرة غير متعلقة به. * ولذلك فيقول قائلهم: ليس في الإمكان أبدع مما كان. لأنَّ القدرة عندهم متعلقة بما شاءه الله - عز وجل -. وهذا القول باطل بوضوح وذلك لدليلين: 1 - الدليل الأول: فإن الذي جاء في القرآن كما ذكرنا لك، تعليق القدرة بكل شيء في الآيات التي ذكرت لكم طرفا منها. 2 - الدليل الثاني: أنَّ الله - عز وجل - قال في سورة الأنعام {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] ، ولما نَزَلَتْ هذه الآية تلاها ? فقال {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال ? (أعوذ بوجهك) ثم تلا {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال ? (أعوذ بوجهك) ثم تلا {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال ? (هذه أهون) (1) . والله - عز وجل - لم يشأ أن يبعث على هذه الأمة عذابا من فوقها أو من تحت أرجلها، فيُهْلِكَكُم بسَنَةٍ بعامّة، بل جعل بينهم بأسهم شديد، لحكمته سبحانه وتعالى العظيمة العلية. فدلت الآية على أنّ قدرة الله - عز وجل - تتعلق بما لم يشاء أن يحصل {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} ، وهذا لم يشأه الله - عز وجل - ومع ذلك تعلقت به القدرة. * وهذه من الكلمات التي يكثر عند أهل العصر استعمالُها فليتنبه أنها من آثار قول أهل الاعتزال. في بعض الأحاديث جاء (والله على ما يشاء قادر) و (إني على ما أشاء قادر) (2) وهذا الجواب عنه معروف بأنه متعلق بأشياء مخصوصة، وليست تعليقا للقدرة بالمشيئة، أو أن يقال قدرته على ما يشاء لا تنفي قدرته على ما لم يشأ - عز وجل -. نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله - عز وجل - لي ولكم التوفيق والسداد. في هذا القدر كفاية وإن شاء الله نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله وفقكم الله جميعا. (3)   (1) البخاري (4628) / الترمذي (3065) (2) مسلم (481) (3) 7 انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا   شرع الطحاوي رحمه الله في ذكر بعض صفات الرب - عز وجل - المتعلقة بقدره السابق، وبمشيئته العامة، وأنه سبحانه ذو العلم الكامل المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، وأنه سبحانه الذي أجرى كل شيء على وفق ما أراد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهذه المسائل التي سمعتم والجمل متصلة ببحث القَدَرْ، والمؤلف الطحاوي لم يجمع الكلام في القَدَرْ في موضع واحد، بل فرقه في نحو ثلاثة مواضع. ولهذا كان من عيوب هذه الرسالة أنها جرت على وفق ما تيسر لمؤلفها، والترتيب ينفع المُتَلَقِّي لكن بالنسبة لنا سنجري على وفق ما جرى هو عليه، ونذكر ما يفيد إن شاء الله في كل موضع بحسبه. قال هنا (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) قال (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) هو سبحانه خلق المخلوقات عالماً بها غير جاهل بما هي عليه ومتى يؤول إليه أمرها. وأورد هذه الجملة الطحاوي مخالفاً أهل الاعتزال الذين لا يجعلون العلم مصاحباً لصفات الله - عز وجل - ولأفعاله. وعِلْمُ الله سبحانه وتعالى صفة ملازمة، هو سبحانه وتعالى عالم بعلمٍ، وخالق بعلمٍ، وقادر بعلم، ورحيم بعلمٍ، يرحم من يشاء عن علمٍ، وهذا العلم صفته - عز وجل - الملازمة له لا تنفك عنه. وعلمه سبحانه أَوَّلْ، قبل خلق الخلق كان عالِمَاً، بما يصلح لهم وما تقتضيه حكمته فيهم. لهذا قال (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ففي هذا رد على المعتزلة من جهة الصفات، وفيه ردّ أيضا على القدرية - أعني بهم الذين ينفون علم الله السابق، القدرية الغلاة نفاة القدر - الذين يقولون إنَّ العلم حَدَثَ بعد وجود الأشياء فهو سبحانه عَلِمَ بعد وقوع الأشياء، فَخَلَقَ الخَلْقْ فَفَعَلَ الناس فَعَلِمَ - عز وجل - ذلك. واستدلوا على هذه النِّحلة بقوله - عز وجل - {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، وبقوله - عز وجل - في تحويل القبلة {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها تعليل بعض الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية وحصول الأشياء بأن يعلم الله - عز وجل - ذلك. قال - عز وجل - في هذه الآية {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} . فزعموا أنّ هذه الآيات وأشباه هذه الآيات تدلّ على أنه - عز وجل - لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تقع. وأهل السنة مثبتون لعلم الله - عز وجل - الكُلِّي بالأشياء ولِعِلْمِ الله - عز وجل - التفصيلي بأجزاء الأشياء وحوادثها المفردات. وإذا عُلِّلَ شيء في القرآن أو في السنة لكي يعلم الله - عز وجل - ذلك الشيء فإن معناه عندهم - بما دلت عليه الأدلة - معناه حتى يَظْهَرَ عِلْمُ الله في الأشياء في هذه الأمور ليقع حسابُه وليقع تعذيبه أو تنعيمه أو نحو ذلك، يعني إظهار ما تنقطع به الحجة. فقوله سبحانه {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} يعني إلا ليظهر علمنا فيمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه؛ لأنَّ الله - عز وجل - لو آخذ العباد، وآخذهم وحاسبهم على علمه السابق فيهم لكان لهم حجة. فهو سبحانه جعل هذه الأشياء مع علمه السابق بما سيفعله العباد لكي يظهر علمه فيهم. فجاء إذاً هنا (لكي) في قوله (لِنَعْلَمَ) حتى يظهر العِلْمُ فيكون ذلك حجة على الناس. وهذا ظاهر بَيِّنْ أنَّ علم الله سبحانه وتعالى للأشياء قبل وقوعها، قال سبحانه {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحج:70] ، هذا وفي الآية الأخرى {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت:52] ، وهذا يدلك على أنَّ الله سبحانه وتعالى عَلِم قبل الكتابة، والكتابة متأخرة على العلم، وهذا الذي يجعلنا نقول أنّ علم الله - عز وجل - أول بالأشياء. وهنا يُقَيَّدُ ذلك بعلم الله - عز وجل - بما أراده سبحانه وتعالى. فإذا أراد الله - عز وجل - شيئاً علم تفصيلاته، وخلق المخلوقات وخلق الأشياء بعلمه؛ يعني على وَفق علمه سبحانه وتعالى بها، وهو عالم بها غير جاهل بها. ولهذا قرأتم أو قرأ بعضكم ما في مناظرات المعتزلة مع أهل السنة في أنَّ المعتزلة يقولون في أسماء الله - عز وجل - إنه سبحانه مثلاً عالم بغير علم، وخالق بغير خلق، وحي بغير حياة، وهكذا، يجعلون الصفات مخلوقات منفصلة. فعندهم العلم هو المعلومات. فتعلقت الصفات التي يثبتونها بالمعلوم فصار عالماً، لا لعلم حدث فيه. وذلك فرارا منهم من مسألة حدوث مفردات العلم. لأنَّ العلم له مفردات وإذا حلت المفردات؛ - يعني عَلِمَ هذه - معناه أنه حل به عِلْمٌ بهذا الشيء الذي حصل، أو تعلق به خَلْقُ هذا الشيء، فكأنه - عز وجل - صارت له صفة لم تكن له من قبل. وهذا يستلزم والتركيب، والتركيب يستلزم الجسمية، والجسمية تنافي ألوهية الرب - عز وجل - كما هو مقرر في موضعه. المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ظاهر. معناه أنه خلق سبحانه المخلوقات وهو عالم بها، وهو - عز وجل - عَلِمَ قبل خلقها، وأيضا يعلمها بعد خلقها. ثم قال رحمه الله تعالى (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) يعني قَدَّرَ للخلق أقداراً، وذلك لقول الله - عز وجل - {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، ولقوله سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وقال سبحانه وتعالى أيضا {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] ، والإيمان بِقَدَرِ الله - عز وجل - هذا ركن من أركان صحة الإيمان، فهو واجب لأنَّ التكذيب به باطل كما سيأتي مفصلاً في موضعه. فقول المؤلف (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) يعني أنه جعل للمخلوقات أقداراً، لا تُحَصِّل المخلوقات ما هي عليه بلا ترتيبٍ سابق، بلا تقدير سابق. وهذا يشمل أشياء -يعني تقدير الأقدار لهم- يشمل أشياء: 1 - الأول: تقدير ما به تمام خلقهم، فإنَّ الله - عز وجل - قَدَّرَ لكل مخلوق خِلقَةْ يكون عليها، ووصوله إلى غاية هذه الخِلْقَة أيضا يحتاج إلى تقدير، فالجنين لا يخرج من بطن أمه إلا وقد سبقه تقدير تفصيلي لكل المراحل التي سيمر بها وما يَعرِضُ له من كمال أو نقص، كما قال - عز وجل - {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] . 2 - الثاني: أنَّ مقادير المخلوقات مُقَدَّرَة في الصفات التي تكون عليها المخلوقات من الغرائز والأحوال التي يسميها الآخرون الأعراض، فكل الأعراض التي تَعرِضُ على الذوات الله - عز وجل - قَدَّرَهَا، فَقَدَّرَ الألوان بتفصيلاتها، وقَدَّرَ الصفات من الحرارة واليبوسة، وقَدَّرَ الذكاء، وقَدَّرَ تفصيلات الحياة التي في المخلوق بجميع أحواله، سواء في ذلك المخلوقات التي حياتها بالروح، أو المخلوقات التي حياتها بالنماء، أو المخلوقات الجامدة عن الحركة الظاهرة. 3 - الثالث: قَدَّرَ الله - عز وجل - على المكلَّفين من مخلوقاته ما هم عليه من الشقاوة ومن السّعادة ومن الهدى ومن الضلال، ولهذا قال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2-3] ، فَرَتَّبَ الهداية بعد التقدير لأنه عنى بالتقدير هنا المرتبتين الأُوليين؛ لأنه جعلها بعد قوله {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} يعني جعل الخلق على نهايته يعني سَوَّاه، يعني جعله على نهايته المقدرة له، ثم قال {وَالَّذِي قَدَّرَ} يعني لِمَا خلق من الأشياء الغريزية والخلقية فهدى للطريقين. إذا تبين لك ذلك فالله سبحانه وتعالى قَدَّرَ للأشياء المقادير، وتعبير المؤلف بقوله (قَدَّرَ لهمْ) هذا مناسب من لو قال: قَدَّرَ عليهم أقدار لأنَّ التقدير لهم يشمل ما سيكونون عليه من خير أو شر. إذا تبين هذا ففى قوله (وَقَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 [المسألة الأولى] : القَدَرْ معناه في اللغة: تهيئة الشيء لما يصلح له، فإذا هيأت شيئاً لما يصلح له فقد قَدَّرْتَهُ. وتقول أُقَدِّر أن يكون كذا وكذا، يعني هَيَّأْتَ هذا الأمر على أن يكون كذا وكذا، فتكون داخلاً في هذا الأمر بتقدير، إذا دخلت فيه بتهيئة. وهذا هو المعنى اللغوي العام كما قال سبحانه {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:10] ، والآيات في هذا كثيرة {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، ونحو ذلك. أما في الشرع فالقَدَرْ: سرّ الله - عز وجل - الذي لم يُطْلِعْ عليه أحداً، لم يُطْلِعْ عليه ملكاً مُقَرَّبَاً، ولم يُطْلِعْ عليه نبياً مرسلاً، بل هو سر الله - عز وجل -، الذي لا يعلمه على وجه الكمال أحد. وتعريف القَدَرْ اختلف فيه الناس، وحتى تعريفه عند المنتسبين للسنة مُخْتَلِفْ. لكنه عُرِّفْ بتعريف أُخِذَ من مراتب القدر التي جاءت الأدلة على مفرداتها. فقيل في تعريف القدر عند أهل السنة: إنه علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته لذلك في اللوح المحفوظ قبل خلقها وإيجادها، ومشيئته النافذة الشاملة، وخَلْقُهُ - عز وجل - لكل ما قدَّر، أو خَلْقُهُ - عز وجل - لكل شيء. وهذا يشمل المراتب جميعا وسيأتي ذكر مراتب القدر ودرجاته في موضعه فيما نستقبل من هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 [المسألة الثانية] : أنّ القَدَرْ - لَمَّا كان هذا أول موضع فيه - يجب أن يُبْحَثْ من جهة النصوص فقط؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صحّ عنه أنه قال (إذا ذُكر القدر فأمسكوا) (1) يعني فأمسكوا عن الخوض فيه بما لم يَدُلَّكُمْ عليه كلام الله - عز وجل - أو كلام نبيكم ?. فإذا تكلمنا في القَدَرْ أو خاض المرء فيه بعقله وفهمه فيجب أن لا يَتَعَدَّى ما دلت عليه النصوص، وذلك لأن تجاوز ما دلت عليه النصوص في باب القَدَرْ بسببه ضَلَّ الناس. وهذا الخوض يسبّب الضلال، إذا تَعَرَّضَ الناظر لأمور تسبب له الضلال في القدر -: 1 - الأمر الأول: الخوض في أفعال الله - عز وجل - بالتعليل. إذا خاض في أفعال الله - عز وجل - بالتعليل الذي يظهر له دون حجة فإنه يضل، لأنّ أفعال الله - عز وجل - صفاته سبحانه وتعالى، وهي مرتبطة عندنا بعلل توافق حكمة الربّ - عز وجل -، والمخلوق لا يفهم من تعليل الأفعال إلا بما أدركه أو بما يصل إليه إدراكه. بما أدركه يعني يرى مثيله، علَّلَ هذا بهذا لأنه مرّ عليه، أو أدْرَكَهُ بما شاهد، أو أنَّهُ يصل إليه إدراكه بالمعلومات المختلفة التي يُقَدُِّّرَها. وقد قدمنا لكم أنّ الأساس في صفات الله - عز وجل - أنه لا يُدرَكُ كيفية الاتصاف بالصفات، كما لا يُدرَكُ كمال معرفة حكمة الله ولا كمال التعليل. (2) ولهذا من خاض في التعليلات، في الأفعال بالعِلَلْ، فإنه لابد أن يخطئ إذا تجاوز ما دلَّ عليه الدليل. والعلل قسمان: عِلَلْ كونية وعِلَلْ شرعية. وأفعال الله مُعَلَّلَةْ لاشك: أفعال الله في ملكوته مُعَلَّلَةْ وأفعال الله - عز وجل - في شرعه - يعني أحكام الله - عز وجل - في الشرعية مُعَلَّلَةْ، يعني الشرعيات في الغالب مُعَلَّلَةْ -. إذا تبين لك ذلك فإن الخوض في التعليلات، في الأفعال بالعِلَلْ هو سبب ضلال الفِرَقْ المختلفة في باب القَدَرْ، هو سبب ضلال القدرية المشركية، وهو سبب ضلال القدرية الغلاة النافية للعلم، وهو سبب ضلال القدرية المتوسطون أو المعتزلة؛ لأنَّ الفِرَقْ الرئيسية في القَدَرْ ثلاث كما سيأتي بيانه: - قدرية مشركية: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] . - وقدرية غلاة: نفاة العلم الذين قالوا إنَّ الأمر أُنُفْ ولا يَعْلَمُ الأشياء. - وقدرية متوسطة: وهم المعتزلة في باب القَدَرْ الذين لم ينفوا كل مراتب القَدَرْ، لم ينفوا العلم السابق كما سيأتي تفصيله في موضعه. وكل هذه الفرق خاضوا في مشيئة الله وإرادته والتعليلات بعقولهم، فَلَمَّا لم يفهموا التعليل ضلوا، كما قال شيخ الإسلام في تائيته القدرية: وأصلُ ضلالِ الخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ فإذاً الأمر الأول من أسباب الضلال في هذا الباب الخوض في الأفعال. لِمَ أغنى؟ ولِمَ أفقر؟ ولِم أصحّ؟ لِمَ خلَقَ هذا الشيء على هذا النحو؟ لِم أعطى؟ لِم شرع؟ لِم جعل هذه الأمة كذا وهذه الأمة كذا؟ لِم جعل الأرض كذا؟ لِم جعل الجنة كذا؟ لِم جعل مصير هذا كذا؟ إلى آخره، كل هذا إذا خاض فيه العبد فإنه باب ضلال لأنّ القَدَرْ سر الله - عز وجل -. 2 - الأمر الثاني: قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال المخلوقين، أو جعل ميزان تقدير الله على وجه الكمال والصحة هو ميزان تقدير المخلوقين. فإنَّ العباد إذا نظروا في فِعْلِ المخلوق وفي تقديره وتصرفاته فإنهم يجعلون الصواب والكمال في حق المخلوق على نحوٍ ما، فإذا نقلوا هذا الذي أدركوه في المخلوق إلى فِعْلِ الله - عز وجل - فإنه أتى بابٌ كبير من أبواب الضلال - يعني حصل باب كبير من أبواب الضلال -. كما حصل للقدرية من المعتزلة وأشباههم، فإنهم قاسوا أفعال الله بأفعال خلقه، فأوجبوا على الله - عز وجل - فعل الأصلح بما عهدوه من فعل الإنسان، وأوجبوا على الله - عز وجل - العدل ونفوا عنه الظلم بما عهدوه من فعل الإنسان. ولهذا قالوا إنَّ الله - عز وجل - يجب عليه فعل الأصلح، وأنه يَحسُنُ في فعل الله كذا، ويقبح كذا، فما حسَّنَتْهُ عقولهم بما رأوه في البشر حَسَّنُوهُ في فعل الله، وما قبَّحَتْهُ عقولهم من أفعال المخلوقين قَبَّحُوهُ في فعل الله، فنفوا أشياء عن الله - عز وجل - ثابتة له لأجل هذه المسائل الثلاثة التي ذكرتها لكم: - مسألة التحسين والتقبيح. - مسألة الصالح والأصلح. - مسألة الظلم والعدل. فهذه المسائل الثلاث هي أعظم أبواب ضلال القدرية، ولهذا يجب أن لا يَدْخُلَ فيها المكلف إلا بما دلت عليه النصوص. والأصل في هذا أَنَّ الله سبحانه لا يُشَبَّهُ بِخَلْقِهِ في أفعاله ولا في صفاته، كما قال سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .   (1) المعجم الكبير (2/ 1427) (2) راجع (45) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 3 - الأمر الثالث: مما ينبغي مراعاته في بحث القَدَرْ وإذا قرأت في هذا الباب، أنَّ العلماء الذين تكلموا في مسائل القَدَرْ من المتقدمين من علماء السلف، فصنفوا فيه كابن أبي داوود، بل قبله ابن المبارك، ومن كَتَبَ في ذلك في مصنفات مستقلة، أو ضمن كتب السنة الأخرى، أو من صَنَّفَ من المتأخرين في هذا الأمر يجب أن تَنْظُرَ إلى كلامه على أنه قابل للأخذ والرد إذا دخل في أمرٍ عقلي لا دليل عليه. إذا دخل في أمر عقلي لا دليل عليه من كلام الله - عز وجل - أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتوقف؛ لأننا وجدنا أَنَّ طائفة من الناس أخذوا كلام من وثقوا به من أهل العلم في مسائل القَدَرْ على أنه مُسَلَّمْ لَمَّا كان منتسبا إلى السنة؛ لكنه خاض باجتهاده في بعض المسائل من جهة العقل، فيأتي الناظر فلا يدرك كلامه على وجه التمام، أو يكون ذاك مخطئا فيتابعه هذا وينسبه إلى السنة. والسنة في باب القَدَرْ هي ما دل عليه القرآن وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فحسب، وما زاد عنه فيجب الإمساك عنه. قد يحتاج طالب العلم إلى التفصيل العقلي بما دلت عليه النصوص والالزامات، بما علم من النصوص في مقام الرد على المخالفين، لا في مقام التقرير. فإذاً ينبغي أن يُفْهَمْ كلام أهل العلم على مرتبتين: - المرتبة الأولى: مقام تقرير مسائل القَدَرْ. -هذا واحد-. - والمرتبة الثانية: مقام الرد على الخصوم في القَدَرْ. فإذا كان المقام مقام تقرير للاعتقاد الصحيح في القَدَرْ فلا يجوز أن يُتَجَاوَزَ القرآن والسنة، لا يجوز أن يُتَجَاوَزَ كلام الله - عز وجل - وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن القدر سر الله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 [المسألة الثالثة] : أنَّ الفِرَقْ في باب القَدَرْ -قبل أن نخوض أو نبحث هذا الموضوع نعطيك تصور عام وسيأتي له تفصيل-، فالفِرَقْ في هذا الباب المنتسبة للأمة ثلاث فِرَقْ: - الفرقة الأولى: القَدَرِيَّة. - الفرقة الثانية: الجبرية. - الفرقة الثالثة: أهل السنة والجماعة. والقدرية طوائف كثيرة منهم الغلاة، ومنهم المتوسطون. وقولنا عنهم قَدَرِيَّة، نعني به نفاة القَدَرْ، ننسبهم للقدر؛ لأنهم نفوه، قال أهل العلم عنهم قَدَرِيَّة لأنهم نفوا القَدَرْ: - منهم من نفى العلم - منهم من نفى عموم المشيئة. - أو عموم خلق الله - عز وجل - لكل شيء - ومنهم الجبرية الذين قالوا إنّ العبد مجبور. * وهؤلاء الذين قالوا إنَّ العبد مجبور: - منهم الغلاة كالجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون هو كالريشة في مهب الريح. - ومنهم المتوسطون الذين قالوا هو مجبور في الباطن ومختار في الظاهر وهم الماتريدية والأشاعرة. والمؤلف الطحاوي ينتمي في الجملة في المسائل المُشْكِلَة إلى الماتريدية، ولهذا ينبغي أن يُنتبه لكلامه في المواطن ذات الزلل كمسألة القَدَرْ، هل قرَّرَهَا على وجه الجبر أم على وجه كلام أهل السنة والجماعة كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 [المسألة الرابعة] : نختم بها قوله (قَدَّرَ لهمْ أَقْدَارًا) أنَّ هناك ألفاظاً تستعملها الطوائف جميعا في مبحث القَدَرْ، ولكل طائفة قصد ومصطلح في استعمالها، وهذه يجب عليك أن تنتبه لها. مثال ذلك - ستأتي مفصّلة في موضعها إن شاء الله تعالى -. مثال ذلك (مسألة الكَسْبْ) ، فإنَّ الكسب عند أهل السنة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند المعتزلة له معنى. فَلَفْظٌ واحد يرد في كتب أهل السنة، ويرد في كتب الأشاعرة والماتريدية، ويرد في كتب المعتزلة، وكل له في هذا المقام اصطلاحه ومعناه. كذلك (نفوذ المشيئة، مشيئته نافذة) ، هذا عند المعتزلة له معنى، وعند الأشاعرة والماتريدية له معنى، وعند أهل السنة له معنى، نفوذ المشيئة، عموم المشيئة، شمول المشيئة. فالقدرية يعنون بذلك معنى - يعني المعتزلة ومن نفوا القَدَرْ - والجبرية يصرفونه لمعتقدهم، وأهل السنة يذكرونه على ما دلت عليه النصوص. المقصود من هذه المقدمات دخول لك في هذه المباحث المهمة؛ لأننا في تقرير هذه العقيدة الطحاوية نريد أن ننتقل بكَ من سرد المعلومات التفصيلية فقط في معتقد أهل السنة إلى ما يفتح لك آفاقا في رؤية كتب أهل العلم في الاعتقاد بعامة؛ لأننا الأصل أنَّ الذين يحضرون معنا سبق أن حضروا كتب كثيرة يعني كالواسطية وما قبلها في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة. فتنتبه إلى أَنَّ الألفاظ في باب القَدَرْ متشابهة لكن المعاني مختلفة. إذا قرأت كتاباً من كتب التفسير في الآيات التي فيها عموم المشيئة، في الهدى والضلال، في عموم خلق الله - عز وجل -، الله خالق كل شيء، في التفضيل، إذا قرأت كلاما لمفسر سلفي قد يستعمل العبارات التي يستعملها الأشعري أو يستعملها المعتزلي، وكل له اصطلاحه، ولهذا قال من قال عن كتاب "الكشّاف" للزمخشري إنه دسّ فيه مذهب المعتزلة في الصفات وفي القَدَرْ وهو أعظم بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير. هذه المسائل بتفصيلاتها تأتي إن شاء الله تعالى في مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال رحمه الله بعد ذلك (وَضَرَبَ لهم آجَالاً)   ضرب لهم آجالاً، الآجال جمع أجل. وضَرْبُ الآجال معناه: أنه - عز وجل - جعل لكل شيء أجلاً ينتهي إليه فما من شيء إلا وله أجل ينتهي إليه المراد من خلقه. فالسماوات لها أجل والأرض لها أجل تنتهي إليه، وهكذا مخلوقات الله - عز وجل -، ومنها ما جعل الله - عز وجل - له أجل يعلمه سبحانه ولا يعلمه العباد قد يطول جدا وقد لا يكون له نهاية، بعلم الله سبحانه وتعالى له. الآجال غير الأعمار فالعمر أخص من الأجل، ولهذا قال من قال من أهل العلم إنَّ الأجل في القرآن لا يقبل التغيير {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] ، {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49] في الأمم، وقال - عز وجل - في العمر {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] ، وهذا يدلك على أنَّ الله سبحانه وتعالى ضَرَبَ آجَالاً وجعل أعماراً. والجمع بين هذا وهذا عند طائفة من المحققين من أهل العلم أنَّ الأجل لا يقبل التعديل ولا التغيير، وأما الأعمار فهي قابلة لذلك، بأسباب أناط الله - عز وجل - بها التغيير في قَدَرِهِ السابق، كما قال سبحانه {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] . فإذاً أجَلْ العباد، أجَلْ المخلوقات، أجَلْ الأمم هذا هو الذي في اللوح المحفوظ، لا يقبل التغيير، ولا يقبل التبديل، جعله الله - عز وجل - على هذا النحو على ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وأما الأعمار فإنها تقبل التغيير. وقَبُولها للتغيير لما في التقدير السنوي للعباد؛ لأنَّ القَدَرْ منه قدر عام وهو الأصل العظيم، وهو ما جاء في قوله ? (قدر مقادير الخلائق قبل أن يخل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) (1) هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ. ومنه تقدير خاص، التقدير الخاص يختلف فيه تقدير لكل مخلوق في رحم أمه، وثَمَّ تقدير سنوي في ليلة القدر، وثَمَّ تقدير يومي أيضا لما يفعله العباد. إذا تبين ذلك فإنَّ التقدير الذي يقبل التغيير هو ما في صحف الملائكة. وهذا الذي يُحْمَلُ عليه قول الله - عز وجل - {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] . بعض أهل العلم في التفسير فَهِمَ الآية أنَّ معناها وما يعمر من مُعَمَّرٍ ولا يُنقص من عمر مُعَمَّرٍ آخر إلا في كتاب، وأنّ تعمير المعمر يكون بسببٍ قد قُدِّر هو والتعمير معا، فيكون قد عُمِّر، لا بالنسبة إلى أنه كان عمره ليس بطويل فأطيل فيه. وهذا يخالف ما جاءت به السنة الصحيحة من قول المصطفي ? (من سرَّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه) (2) ، وبقوله ? فيما صح عنه (ولا يزيد العمر إلاّ البِر) (3) . قال هنا (من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره) يعني أنَّ زيادة الأرزاق منوطة بسبب، وأن تعمير المعمَّر زيادة في عمره، نَسْءُ الأثر هذا مربوط بسبب، وهذا هو الذي ارتبط بالأعمار، بالآثار. أما الآجال فلا، الآجال لا تقبل تغييراً، لأنها هي الموافقة لما في اللوح المحفوظ، يعني الأجل الذي إليه النهاية، أما العمر فهذا يقبل التغيير. ولهذا صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى في سورة الرعد {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] أنه في صحف الملائكة، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] يعني اللوح المحفوظ وهذا واضح. فقول المؤلف رحمه الله (وَضَرَبَ لهم آجَالاً) يعني ما كان من التقدير السابق قبل خلق السماوات والأرض.   (1) سبق ذكره (61) (2) البخاري (2067) / مسلم (6687) (3) الترمذي (2139) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قال (ولم يَخْف عَليهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم. وَعَلِمَ ما هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُم وأَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ، ونَهَاهُم عَنْ مَعْصِيتِه)   (لم يَخْف عَليهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم) هذا عام يعني من الطاعات ومن المعاصي، من الخير ومن الشر، مما سيعملون، ومما لم يعملوه لو عملوه كيف يكون، فإنه سبحانه وتعالى يعلم أحوال الخلق على وجه التفصيل، فيما سيعملون وفيما لم يعملوه، ومثاله قول الله - عز وجل - {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) [فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81] . إذاً فالله سبحانه وتعالى تَعَلق علمه بكل شيء. قال (لم يَخْف عَليهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُم. وَعَلِمَ ما هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهُم) لم؟ لأنه سبحانه بكل شيء عليم، كما قال - عز وجل - {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله (كُلِّ شَيْءٍ) هذا عموم لا يخرج منه شيء، والأشياء كما فسّرناها لكم قبل ذلك جمع شيء، والشيء ما يصح أن يعلم أو يؤول إلى العلم. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعني بكل ما يصح أن يُعْلَمْ أو ما يؤول إلى أن يُعْلَمْ (1) : [[الشريط الخامس]] : هو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى، لهذا قال علماؤنا، عِلْمُ الله - عز وجل - متعلق بكل شيء: عَلِمَ ما سيكون عَلِمَ ما لا يكون. عَلِمَ ما قَدَّرَ ألا يكون، لو حصل كيف يكون. فهذه الثلاث فيها مخالفة للقدرية والمعتزلة في مذاهبهم. عَلِمَ ما سيكون وما لم يكن، يعني والذي لا يكون أيضاً عَلِمَهُ - عز وجل -، لأنه اختار أن يكون الأمر على نحو كذا، وهو عَلِمَ ما سيكون والذي لا يكون أيضاً عَلِمَهُ - عز وجل -، وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما قال - عز وجل - {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] . قال رحمه الله بعد ذلك (وأَمَرَهُم بِطَاعَتِهِ، ونَهَاهُم عَنْ مَعْصِيتِه) هذا تعليق للأشياء بالأمور الشرعية. يعني أنَّ الخَلْقَ والعِلْمْ والتقدير السابق وضَرْبْ الآجال هذا نافذ فيهم، ومع ذلك أَمَرَهُمْ سبحانه بطاعته ونهاهم عن معصيته - عز وجل -. وهذا الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية أراد منه مخالفة المعتزلة في أَنَّ الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي أنه جاء عقلياً وليس شرعياً، ولكن الحق أنَّهُ إنما جاء في الشرع لا في العقل. لبسط هذه المسائل تفصيل يأتينا إن شاء الله في موضعه. هذه كلها الذي قدمناه من أول العقيدة إلى الآن وإلى قوله (وإنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) هذه كلها مقدمات ما دخلنا في تفصيل الكلام على معتقد أهل السنة والجماعة في مواضعه. لذلك أنا أرجئ الكلام على تفصيلات القَدَرْ ومسائله في موضعه حتى يكون لك في مكانه مجتمعاً غير ما ذكرناه في هذا الموضع.   (1) انتهى الشريط الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الأسئلة : فيه كثير من الاخوة سألني في المسائل التي كنا تكلمنا فيها الأسبوع الماضي كمسألة التسلسل؛ التسلسل الماضي والمستقبل وحلول الحوادث، وكلام الشارح أيضا في هذا الموضع، في هذا الموطن، والمسألة يعني شائكة لكن ما ذكرته لك هو الحد الأدنى في فهمها، فينبغي أن لا تكثر من الخوض فيها لأنها عسرة بعض الشيء. س1/ يقول: ما أفضل كتاب تكلم عن القدر وتعريفه ومراتبه وجميع ما يتصل به؟ ج/ أفضل كتاب: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم ومن الكتب المعاصرة كتاب القدر للدكتور عبد الرحمن المحمود كتاب قرّب فيه المسألة لطالب العلم فهو كتاب نافع في هذا الباب جداً. س2/ ألا نستفيد من قوله سبحانه {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39-38] , ألا نستفيد منه تغيير الأجل لقوله سبحانه (يَمْحُوا) ؟ ج/ لا، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) يعني ما في صحف الملائكة أما الآجال فهي ثابتة. س3/ (لا يرد القدر إلا الدعاء) (1) ؟. ج/ هذا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح. س4/ ذكرتم في الدرس السابق أنَّ الخلق في اللغة يشمل مراتب منها التقدير، فأرجو إيضاح هذه المرتبة بتفصيل أكثر؟ ج/ لعلك ترجع إليها لأنها تحتاج إلى تفصيل. س5/ ذكرتم في الدرس السابق أن صفات الله سبحانه وتعالى متلازمة وله الكمال المطلق، معنى قولكم متلازمة؟ وهل تجوز هذه العبارة (إن الله على ما يشاء قدير) ؟. ج/ أما كون الصفات متلازمة فنعم الصفات بعضها ملازم للآخر، أو الصفة تدل على الصفة الأخرى بالتلازم؛ يعني لا يُتَصَوَّرْ أن صفة الرحمة بلا صفة الحياة، ولا يُتَصَوَّرْ أن هناك صفة قهر بلا صفة القدرة ولا يُتَصَوَّرْ أن هناك صفة علم بلا صفة إرادة، ولا أن هناك صفة كلام بلا صفة إرادة وملك وقوة. إذاً فصفات الله - عز وجل - متلازمة، لهذا أهل العلم لما تكلموا على الأسماء الحسنى قالوا إنَّ الاسم من أسماء الله الحسنى يدل على: مسماه ومعناه جميعا بالمطابقة. ويدل على أحدهما بالتضمن. ويدل على الصفة الأخرى أو على الاسم الآخر باللزوم، كما هو معروف في موضعه. قال هل تجوز هذه العبارة (إن الله على ما يشاء قدير) كنا ذكرنا لكم تفصيلات الكلام عليها، (على ما يشاء قدير) هذه عبارة الأشاعرة وأشباههم؛ لأنهم علَّقُوا القدرة، قدرة الله - عز وجل - بما يشاؤه، وأما ما لم يشأه فعندهم أن الله - عز وجل - ليس بقادر عليه، هذا كلام الأشاعرة. المعتزلة علقوا القدرة بما هو مقدور له، وما لم يكن مقدورا له فليس بقادر عليه، يعني عندهم أنَّ ثَمَّ أشياء ليست بمقدورة لله - عز وجل -، فليس بقادر عليها. مثل الظلم، أصل الظلم هو ليس قادر عليه، لم؟ لأنه ليس ظالما فليس بمقدور له - عز وجل - أن يظلم - عز وجل -. وعندنا الله - عز وجل - قادر على كل شيء، ما يشاؤه وما لم يشأه، والظلم لم يشأه سبحانه بل حرَّمه على نفسه (إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا) (2) . إذن فتعلُّقْ القدرة، هذه مسائل تعلق الصفات، يعني القدرة لها مُتَعَلَّقْ، العلم له متعلَّق -عند الطوائف جميعا- الكلام له متعلق، الرحمة لها متعلق، وهكذا فتعلق الصفات هذه تختلف فيها الفرق المختلفة، وهو معلوم في موضعه. المقصود أن قول القائل إن الله على ما يشاء قدير هذا من البدع التي لا تجوز، وقائلها ينبه على مخالفته بما جاء في القرآن {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . س6/ هل أوضحتم ثمرة الخلاف المرتبة الناتجة عن الاختلاف لكون الموت صفة وجودية أو عدمية؟ ج/ المقصود الكلام على هل الموت صفة وجودية أو صفة عدمية؟ هذا متعلق بحياة الروح والعذاب والنعيم، هذا الخلاف بين أهل السنة وبين الفلاسفة الذين يقولون إن الموت عدم أو الموت حياة، يعني هل أن الموت حياة جديدة أو هو عدم حياة وزوالها؟ الفلاسفة لهم مذهب في هذا، في أن الموت هنا موت البدن، الروح هذه تذهب إلى مكان لها ثم تعود في جسد جديد تناسبه، فعندهم الموت عدم الحياة، انتهى. عندنا لا، الروح كل روح مستقلة، روح المكلف هذه باقية، خُلقت للبقاء، لا تنتقل من فلان إلى فلان كما هو قول الفلاسفة ومن شابههم، بعض من ينطق بهذه الكلمة يعني بأن الموت صفة عدمية قد لا يستحضر أو قد لا يقول بهذا المذهب، لكن هو من أنشأ هذا الكلام ويقول بهذا المذهب من أن الأرواح محدودة والأجساد متعددة فالأرواح تتنقل فيها. يعني مثلا عندهم نعيم الروح، كيف روح منعمة؟   (1) الترمذي (2139) / ابن ماجه (90) (2) سبق ذكره ص 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يقول الروح تعذب بمصيرها في جسد حياته شقاء، يعني الآن فلان مثلا- أعوذ بالله ما نريد أن نقلق أسماعكم بهذا الباطل نعوذ بالله منه - لكن ما من مسأله نتكلم عنها إلا ولها ثمرات، يعني في العقيدة ما فيه خلاف لا ثمرة له، خذها كلية. س7/ كيف عرف ميل الإمام الطحاوي إلى مذهب الأشاعرة في مسألة اتصاف الله بصفاته؟ ج/ لا، ليس في مسألة الصفات، مسألة التسلسل. س8/ هل يصح أن يقال إن العلم بالله لا يكون إلا بالعلم النظري، لا الضروري؟ ج/ يعني يصح مع أحد الاعتبارات، لكنه قد يصل العكس إلى أن يكون علمه بالله ضروريا ما يحتاج معه إلى استدلال، صار واضحا عنده بحيث لا يحتاج منه إلى نظر، نَظَرَ واسْتَقَرَ الإيمان في قلبه واتضح له حتى صار عنده وجود الحق - عز وجل - ضرورة لا يحتاج إلى استدلال، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10] أصبح ضروريا؛ لأن الضروري هو ما لا يُحْتَاجُ له إلى استدلال، والنظري ما يحتاج في إثباته إلى نظر واستدلال. س9/ ذكرت أن الروح لها صفة البقاء، فكيف نوفق بين هذا وبين المراد من المستثنى عند قوله تعالى (إلا من شاء الله) وهل معنى هذا أن أرواحهم غير ميتة؟ ج/ لا، ما لها علاقة (إلا من شاء الله) في الاستثناء يعني أرواح الشهداء أو أشبه ذلك، الأرواح لا يحلها الموت، تجتمع في الصور فيُنفخ فيه فتعود إلى الأجساد. س10/ هل الموت عرض أو عين؟ أو عرض يقلبه الله عينا؟ ج/ الموت صفة إذا سَمَّيْتَ الصفات أعراض فلا بأس، الموت حياة جديدة؛ حالة فيها حياة جديدة، يعني سمي الانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية سمي موتا، هو انتقال إلى حياة جديدة، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وكذلك كل مؤمن حي عند ربه يرزق. هل الموت عرض أو عين؟ أو عرض يقلبه الله عينا؟ في الآخرة يؤتى بالموت على صفة كبش فيكون قد قُلِبَ إلى عين. س11/ هل لابد أن يكون لله مخلوقات ليوصف بالخلق أو أنه يوصف بالخلق ولو لم يخلق شيئا أبدا؟ ج/ هذا سؤال في غير مكانه لأنه سبحانه وتعالى خالق وله مخلوقات، ولم يزل سبحانه وتعالى خالقا - عز وجل - يعني هذه صفة ملازمة له سبحانه. س12/ هل ابن حزم من أهل السنة والجماعة؟ ج/ لا، ابن حزم ليس سنيا بل له مذهب خاص، ابن عبد الهادي وغيره يعتبرونه من الجهمية، طائفة تعتبره من الفلاسفة يعني خليط، هو في العقيدة مخلّط لا يتبع مذهب من المذاهب عنده تجهم، وعنده أشعريات، وعنده فلسفة يعني مختلط. س13/ ما هو الرد على من استدل بحديث (إن أول شيء خلقه الله القلم) (1) على عدم التسلسل في الماضي بالنسبة للمخلوقات؟ ج/ الأخ سألني قبل الصلاة أظن عن ذلك، وقلت اترك المسألة إلى وقت آخر، وحديث (إن أول شيء خلق الله القلم) هذا لفظ، واللفظ الآخر المعروف (إن أول ما خلق الله القلم) (2) أول هنا بمعنى حين، إنه حين خلق الله القلم قال له أكتب، لماذا فسرنا بهذا التفسير؟ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة) (3) هذا التقدير هل هو راجع إلى العلم علم الله؟ الجواب: لا؛ لأن عِلْمَ الله ما يُعَلَّقْ بقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، إذاً يتعلق بالكتابة، كتب الله مقادير الخلائق قبل خلقها بخمسين ألف سنة، هذا الحديث (إن أول ما خلق الله القلم قال له أكتب) وفي رواية (فقال له أكتب) هنا يعني خلق القلم فأمره بالكتابة؛ يعني التقدير، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فالمراد من الحديث أنَّ الله - عز وجل - خلق القلم فأمره بكتابة المقادير فوْر خلقه له، هذا الذي نفهمه مع حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأن التقدير هناك لابد أن يكون للكتابة، والأولية هنا إن كانت أولية مطلقة قبل المخلوقات يعني وُجد قلم وليس ثم مخلوق البتة، فقوله (فقال له أكتب) تقتضي الترتيب (خلق فقال) وهذا يعني أنه هناك زمن طويل ما بين خلقه وما بين ابتداء الكتابة، وهذا يشوش على الموضوع. إذن فهذا الحديث فُهِمَ منه منع التسلسل في الماضي كما هو معلوم، وأن أول المخلوقات القلم وهذا عند المحققين كشيخ الإسلام وابن القيم الذين ضمّوا الأحاديث في هذا الباب وفهموها مع صفات الله - عز وجل - وما دل عليها من الآيات وكلام السلف، فهموا أن القلم في هذا الحديث أوليته هنا بالنسبة إلى الكتابة، فحين خُلق القلم كتب، (إن أول ما خلق الله القلم قال له أكتب) أو (فقال له أكتب) يعني حين خلق القلم قيل له أكتب فجرى بما هو كائن على قيام الساعة، فالحديث ليس في أولية المخلوقات، الأولية بالنسبة لغيرها وإنما الأولية من جهة التقدير والكتابة.   (1) المستدرك (3840) (2) أبو داود (4700) / الترمذي (2155) (3) سبق ذكره (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ولهذا تنازع العلماء مع ورود هذا الحديث، تنازعوا في أول هذه المخلوقات من هذا العالم المعلوم في الكتاب والسنة. هل أول المخلوقات من هذا العالم المعلوم العرش أو القلم؟ والصواب أنّ العرش كان قبل لأنه في حديث عمرو بن العاص قال صلى الله عليه وسلم (قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) صار عندنا خلق للقلم كتابة المقادير، وجود العرش على الماء، وهذا هو الذي عقده ابن القيم في النونية بقوله: والناس مختلفون في القلم الذي *** كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده *** قولان عند أبى العلا الهمداني والحق أن العرش قبل لأنه *** عند الكتابة كان ذا أركان والمسألة فيها بحث أطول من هذا نرجئه إلى وقته إن شاء الله تعالى. وفقكم الله ونلتقي إن شاء الله على خير وتقوى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (1)   (1) انتهى الشريط الخامس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 : [[الشريط السادس]] : وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى، وإنَّه خَاتمُ الأنبياءِ، وإِمَامُ الأتْقِيَاءِ، وسيِّدُ المرسَلينَ، وحَبيبُ ربِّ العالَمين، وكُلُّ دَعْوى النُّبوةِ بَعدَهُ فَغَيٌّ وَهَوى، وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّةِ الوَرَى بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء.   قول المصنف رحمه الله (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) إلى قوله (بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء) . هذه الجملة من كلامه من التوحيد، وذلك أنَّهُ قال في أول الكلام - يعني في أول هذه العقيدة- (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ اللهَ واحدٌ لا شريكَ لَهُ) ثم مضى في ذلك وأتى إلى مقام الرسالة والكلام على النبوة فقال (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) ، فهي معطوفة على قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) . و (إِنَّ) هنا مكسورة لأنها معمول القول، ومن المعلوم في النحو أنّ (إِنَّ) تُكْسَرْ إذا كانت تُقَدَّرُ مع ما بعدها بجملة؛ يعني أنَّ (إِنَّ) مع ما دخلت عليه تُقَدَّرُ بجملة. فلذلك تُكسر إذا كانت بعد كلام يُقَدَّرْ ما بعده بجملة. ومعلوم أنَّ القول له مَقُولْ، ومَقُولُ القول جُمَلْ وليس بمفردات، وهذا بخلاف فتح الهمزة في (أَنَّ) فإن القاعدة فيها أنها تفتح إذا كانت في تقدير المفرد أو المصدر، كما هو مقرر في النحو كما هو معلوم لكم جميعا. المقصود أنَّ قوله (وإِنَّ مُحَمَّداً) هذا بكسر همزةِ (إِنَّ) ؛ لأنها مقول القول في أول الرسالة وهو قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله) . وبحث الرسالة والنبوة هو من توحيد الله - عز وجل -، ووجه ذلك: 1 - الوجه الأول: أنَّ توحيد الله - عز وجل - يُطْلَقْ ويُعْنَى به العقيدة بعامة، فكل العقيدة بأركان الإيمان تدخل في توحيد الله، فتوحيد الله - عز وجل - هو الإيمان، وهو المشتمل على أركان الإيمان الستة، والكلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من ضمن ذلك. 2 - الوجه الثاني: أنّ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هي طريق التوحيد؛ لأنَّ توحيد الله - عز وجل - لم يُعْلَمْ إلا عن طريق الرسل، وفي ذلك تقريرُ أنَّ العقول لا تستقل في معرفة توحيد الله - عز وجل - وما يتضمنه ذلك وما يستلزمه ذلك؛ بل إنّه لا بد من بعثة رسلٍ وأنبياء للبيان {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] . وبَعْثَةُ الرسل بها عُلِمَ حق الله - عز وجل - وتوحيده؛ توحيد الإلهية، وبها عُلِمَ نعت الله - عز وجل - وأسماؤه وصفاته الكاملة الجليلة. فإذاً بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبعثة الرسل جميعا هي طريق توحيد الله - عز وجل - ولهذا قال هنا (نقُولُ في تَوحيدِ الله [مُعتَقدينَ بتوفيق الله] : إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) واستمر ومرّ حتى قال (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) يعني (ونقُولُ في تَوحيدِ الله: إِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) . وهذه الجملة من كلامه رحمه الله فيها تقرير عقيدة عظيمة، وهي أنَّ صلى الله عليه وسلم جُمِعَتْ له أوصاف ونعوت ومراتب: - فمنها أنه عبد. - ومنها أنه نبي. - ومنها أنه رسول. - ومنها أنه خاتَم الأنبياء والمرسلين. - ومنها أنه حبيب رب العالمين وخليله. - ومنها أنّ بعثته عامة للجن والإنس، وكافة الورى. وسيأتي بيان هذه الجمل والصفات في شرح كل جملة بما تقتضيه. نخصُّ الآن من هذه الجمل المتعلقة بالنبوة قولَه (وَإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) ذكر ثلاث مقامات لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقوله (إِنَّ مُحَمَّداً) بدون أوصاف زائدة كسيدنا محمد ونحو ذلك فيه إتّباع لما جاء في الأحاديث الكثيرة من ذكر التعبد باسم النبي صلى الله عليه وسلم مجرداً عن وصف السيادة وغير ذلك، وهذا هو المسنون والمشروع كما في دعاء المصلي في التحيات إذا جلس للتشهد وأشباه ذلك، وكما في قول المؤذن، وكما في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي غيرها. فالسنة التي جاءت بها الأحاديث الكثيرة وعَمَلْ السلف أنّ مقام المصطفي صلى الله عليه وسلم أرفع ما يوصف به أنْ يوصف بمقام العبودية والنبوة والرسالة، وذلك لأنَّ الله - عز وجل - وصف نبيه بذلك في أعلا المقامات وفي أَجَلِّهَا، فقال سبحانه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا} [الإسراء:1] ، فوصفه في هذا المقام العظيم وهو مقام الإسراء وما تبعه من المعراج إلى رب العالمين بأنه أسرى بعبده، وقال سبحانه في وصف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتذلله {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] فقال سبحانه في المعراج وقُرْبِ محمد صلى الله عليه وسلم من رب العالمين قال {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] . وهذا الوصف -وصف العبودية الخاصة- هو أعلا المقامات التي يوصف بها الإنسان، فإذا زاد عليه وصف النبوة ووصف الرسالة كان ذلك أعلا الكمال. ولهذا يَعْظُم العبد بتحقيق كمال العبودية لله - عز وجل -. وتحقيق كمال العبودية إنما هو في الأنبياء والمرسلين. فإذاً وصف محمد صلى الله عليه وسلم بأنه (عَبْدُهُ المصطَفى) هذا فيه رفعٌ له وإكرام للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الله - عز وجل - هو الذي رضي له هذا الوصف وهذا النعت وهذا المقام. وهذا هو الذي ينبغي على من يكتب ويصنف أو يخطب أو يحاضر أن يتَّبِع السنة في الألفاظ، فنقول (وإن محمدا عبده المصطفى) دون زيادة لسيدنا وأشباه ذلك وإن كان هو صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين كما ذكر، هنا وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. قال (إِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) والاصطفاء هو الاختيار، ومحمد صلى الله عليه وسلم اُصْطُفِيَ للرسالة. وهذا اللفظ مأخوذ من قوله تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] . فكل مُرْسَلٍ مُصْطَفَى لأن الله اصطفاه يعني اختاره وقرَّبَهُ لمقام الرسالة ولمقام العبودية الخاصة. قال (ونبيُّه المجْتَبى) والاجتباء هو الاختصاص. اجتباهم {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ} [الأنعام:87] ، هذا معناه الاختصاص؛ يعني جعله نبياً فاجتباه، جعله حبيباً له وخليلاً ومختاراً ومختصاً بالمقامات العالية. والوصف الثالث قال (ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) وهذا مأخوذ من قوله تعالى {إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:27-28] . هذا البيان لمعاني تلك الكلمات نُتبِعُهُ بأنَّ هذا الكلام، هذه الجمل من المصنف فيها تقريرٌ لعقيدة عامة وهي أنّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ ونبي ورسول، وأنّه خاتم الأنبياء، وأنّ كل دعوة للنبوة فغيٌّ وهوى. وهذا من جملة ما يدخل في أركان الإيمان، فلا يصح إيمان عبد حتى يعتقد بأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم عبدٌ نبيٌ رسول، وأنه خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين، وأنه لا تصح دعوى للنبوة بعده، وكل دعوة للنبوة بعده فكذب وضلال وغيٌّ وهوى، إلى آخر ما سيأتي في بيان تلك الجمل. وهذه الجملة فيها تقرير لـ: أنَّ النبوة مختلفة عن الرسالة، وأنَّ النبوة تسبق الرسالة كما قال (ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ [المُرْتَضَى] ) . وهذا هو المعروف عندكم فيما هو مقرر من أنَّ محمد صلى الله عليه وسلم نُبِأَ (بإقرأ) وأُرْسِلَ (بالمدثر) . فالنبوة مرتبة دون مرتبة الرسالة، كما سيأتي. وجَعْلْ العطف متغايراً أولى من جَعْلِهِ -يعني متغايراً في الذات- أولى من جَعْلِهِ متغايراً لفظي؛ يعني أنَّ المصنف الطحاوي يرى أنَّ النبوة غير الرسالة وأنَّ النبي غير الرسول، وهذا هو الحق كما سيأتي بيانه. هذه الجملة فيها تقرير ما ذكرت من العقيدة العامة المعروفة، ويدخل تحتها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 [المسألة الأولى] : تعريف النبي والرسول. والنبي والرسول لفظان موجودان في لغة العرب، فتعريفهما في اللغة يؤخذ من موارده في اللغة. وهو أنَّ: النبي: مأخوذ من النَّبْوَة وهي الارتفاع وذلك لأنَّه بالإيحاء إليه وبالإخبار إليه أصبح مرتفعاً على غيره. والرسول: هو من حُمِّل رسالةً فبُعث بها. ولهذا نقول إنَّ كلمة نبي جاءت في القرآن في القراءات على وجهين؛ يعني على قراءتين متواترتين: الأولى (النبي) بالياء. والثانية (النبيء) ، (يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ) . والفرق ما بين (النبي) و (النبيء) أنَّ النبيء هو من نُبِّئَ. وكلا الأمرين حاصل في النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل نبي، فهو مرتفع ولأجل ذلك فهو نبي، وهو مُنَبَأٌ ولأجل ذلك فهو نبيءٌ. ولهذا نقول إن كلمة (نبي) صارت من الرفعة لأجل (نبيء) لأجل أنه نبيء؛ يعني أنه نُبِّئَ فصار في نَبْوَةٍ وارتفاع عن غيره من الناس. أما في الاصطلاح -التعريف الاصطلاحي للنبي والرسول- فهذا مما اختلف فيه أهل العلم كثيراً، والمذاهب فيه متنوعة: 1 - المذهب الأول: قول من قال إنه لا فرق بين الرسول والنبي، فكل نبي رسول وكل رسول نبي. 2 - المذهب الثاني: أنَّ النبي والرسول بينهما فرق، وهو أنَّ النبي أدنى مرتبةً من الرسول فكل رسول نبيٌ وليس كل نبيٍ رسولاً. 3 - المذهب الثالث: أنَّ النبي أرفع من الرسول، وهو قول غلاة الصوفية وأنَّ الرسول دون النبي. & المذهب الأول: قال به طائفة قليلة من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين، ومنهم من يُنْسَبُ إلى السنة. & والمذهب الثاني: وأنَّهُ ثَمَّةَ فرق بين النبي والرسول وأنَّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، هذا قول جمهور أهل العلم وعامة أهل السنة، وذلك لأدلةٍ كثيرة استدلوا بها على هذا الأصل مبسوطة في مواضعها، ونختصر لكم بعضها: @ الدليل الأول: قوله - عز وجل - في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] قال سبحانه هنا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} : 1 - ووجه الاستدلال أنَّ الإرسال وهو فعل (أَرْسَلْنَا) وقع على الرسول وعلى النبي، فإذاً الرسول مرسل والنبي مرسل؛ لأنّ هذا وقع على الجميع. 2 - وجه الاستدلال الثاني أنه عطف بالواو فقال (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) ، والعطف بالواو يقتضي المغايرة؛ مغايرة الذات أو مغايرة الصفات، وهنا المقصود منه أنَّ الصفة التي صار بها رسولاَ غير النعت الذي صار به نبياَ، وهو المقصود مع تحقق أنَّ الجميع وقع عليهم الإرسال. 3 - والوجه الثالث من الاستدلال أنه عطف ذلك بـ (لَا) أيضا في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} ، ومجيء (لَا) هنا في تأكيد النفي الأول؛ في أول الآية وهو قوله (وَمَا أَرْسَلْنَا) ، فهي في تقدير تكرير الجملة مَنْفِيَّةً من أولها، كأنه قال: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا أرسلنا من قبلك من نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. @ الدليل الثاني: أنَّ النبوة ثبتت لآدم عليه السلام، فآدم كما صح في الحديث (نبي مُكَلَّم) (1) وأن هناك أنبياء جاؤوا بعد آدم عليه السلام كإدريس وشيث وكغيرهما. وإدريس ذكره الله - عز وجل - في القرآن، والرسل أولهم نوح عليه السلام. وجعل الله - عز وجل - أولي العزم من الرسل خمسة، وجعل أولهم نوحا عليه السلام. فهذا يدل على أنّ آدم عليه السلام لم يحصل له وصف الرسالة، بل جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم «آدم نبي مُكَلَّمْ» ، ووُصف نوح بأنه رسول، ووُصف إدريس بأنه نبي، فدل هذا على التفريق بين المقامين. @ الدليل الثالث: الذي أورده أصحاب هذا القول ما جاء في حديث أبي ذر من التفريق ما بين عدد الأنبياء وعدد المرسلين، فجُعِلَ عدد الأنبياء أكثر من مائة ألف؛ مائة وأربعة وعشرين ألف أو نحو ذلك، وجُعل عدد الرسل أكثر من الثلاثة مائة بقليل؛ بضعة عشرة وثلاثمائة رسول. والله - عز وجل - قص علينا خبر بعض الرسل وحجب عنا قَصص البعض الآخر فقال - عز وجل - {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] ، وهذا الحديث -حديث أبي ذر- حسّنه بعض أهل العلم وإن كان إسناده عند التحقيق فيه ضعف؛ لكن فيه جمل صحيحة وهو حديث طويل رواه ابن حبان غيره. وثَمَّ أدلة أخرى في هذا المقام، قد لا تكون دالة بوضوح على المراد. إذا تبين لكَ ذلك، وأنَّ الصحيح هو قول الجمهور وهو أن ثمة فرقاً بين النبي والرسول، فما تعريف النبي وما تعريف الرسول في الاصطلاح؟ قلنا إنَّ النبي يقع عليه الإرسال؛ ولكن لا يسمى رسولاً عند الإطلاق.   (1) المسند (5/22342) / المعجم الكبير (7871) / مصنف ابن بي شيبة (35933) / شعب الإيمان (130) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والرسول يقع عليه الإرسال وهو الذي يسمى رسولا عند الإطلاق. والله - عز وجل - جعل ملائكة مرسلين، وإذا قلنا الرسول فلا ينصرف بالإطلاق على المُبَلِّغ للوحي جبريل عليه السلام. والله - عز وجل - أرسل الريح وأرسل المطر وأرسل أشياء من العذاب، ولا يقع عند الإطلاق أنْ يقال هذه مرسلة أو هذه رسالة الله أو هذه الأشياء رسول من إطلاق المفرد وإرادة الجمع به. ولهذا نقول قد يقال عن هذه الأشياء كما جاء في القرآن، قد يقال عنها إنها مرسلة {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، ولكن إذا أُطلق لفظ الرسول فلا ينصرف إلى من أُرْسِلَ من الملائكة وإنما ينصرف إلى من أرسل من البشر. وهذا يدل على أنَّ الفرق قائم ما بين النبي وما بين الرسول، وأنّ النبي إرساله خاص وأنَّ الرسول إرساله مطلق. فلهذا نقول دلّت آية سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} على أنّ كلا من النبي والرسول يقع عليه إرسال. فما الفرق بينهما من جهة التعريف؟ الجواب: أنَّ العلماء اختلفوا على أقوال كثيرة في تعريف هذا وهذا، ولكن الاختصار في ذلك مطلوب: وهو أنَّ تعريف النبي–وهي مسألة اجتهادية-: النبي هو من أَوْحَى الله إليه بشرعٍ لنفسه أو أَمرَه بالتبليغ إلى قوم موافقين؛ يعني موافقين له في التوحيد. والرسول: هو من أَوْحى الله إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه إلى قوم مخالفين. وتلحظ أنَّ هذا التعريف للنبي وللرسول أَنه لا مَدْخَلَ لإيتاء الكتاب في وصف النبوة والرسالة، فقد يُعطى النبي كتاباً وقد يعطى الرسول كتاباً، وقد يكون الرسول ليس له كتاب وإنما له صحف {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] ، وقد يكون له كتاب. فإذاً من جَعَلَ الفيصل أو الفرق بين النبي والرسول هو إيتاء الكتاب، وحي جاءه بكتاب مُنَزَّلْ من عند الله - عز وجل -، فهذا ليس بجيد، بل يقال كما ذكرت لك في التعريف أنَّ المدار على: -النبي مُوحَى إليه، والرسول موحى إليه. -النبي يوحى إليه بشرع أو بفصلٍ في قضية؛ شرع يشمل أشياء كثيرة، -وكذلك الرسول يوحى إليه بشرع. -النبي يُوحى إليه لإبلاغه إلى قوم موافقين أو ليعمل به في خاصة نفسه كما جاء في الحديث (ويأتي النبي وليس معه أحد) (1) ، الرسول يُبعث إلى قوم مخالفين له. ولهذا جاء في الحديث أن (العلماء ورثة الأنبياء) (2) ولم يجعلهم ورثة الرسل، وإنما قال (وإن العلماء ورثة الأنبياء) ، وذلك لأنّ العالم في قومه يقوم مقام النبي في إيضاح الشريعة التي معه، فيكون إذاً في إيضاح شريعته، في إيضاح الشريعة يكون ثَمَّ شَبَه ما بين العالم والنبي، ولكن النبي يُوحى إليه فتكون أحكامه صواباً؛ لأنها من عند الله - عز وجل -، والعالم يوضِحُ الشريعة ويعرض لحُكْمِهِ الغلط. يتعلق بهذه المسألة بحث أنَّ الرسول قد يكون متابعاً لشريعة مَنْ قَبْلَهْ، كما أنَّ النبي يكون متابعاً لشريعة مَنْ قَبْلَهْ. فإذاً الفرق ما بين النبي والرسول في إتباع الشريعة -شريعة مَنْ قَبْلْ- أَنَّ النبي يكون متابعا لشريعة مَنْ قَبْلَهْ، والرسول قد يكون متابعاً -كيوسف عليه السلام جاء قومه بما بعث به إبراهيم عليه السلام ويعقوب-، وقد يكون يُبْعَثُ بشريعة جديدة. وهذا الكلام؛ هذه الاحترازات لأجل أنَّ ثمة طائفة من أهل العلم جعلت كل مُحْتَرَزٍ من هذه الأشياء فرقا ما بين النبي والرسول. فإذاً كما ذكرت لكم: - الكتاب قد يُعطاهُ النبي وقد يُعطاهُ الرسول. - بَعْثُهُ لقوم موافقين أو مخالفين هذا مدار فرق ما بين النبي والرسول. - الرسول قد يبعث بشريعة مَنْ قَبْلَهْ بالتوحيد بالديانة التي جاء بها الرسول لمن قبله، لكن يُرْسل إلى قوم مخالفين، وإذا كانوا مخالفين فلا بد أن يكون منهم مَنْ يُصَدِّقُهُ ويكون منهم من يُكَذِّبُه؛ لأنه ما من رسول إلا وقد كُذِّب، كما جاء في ذلك الآيات الكثيرة.   (1) البخاري (5705) / مسلم (549) (2) أبو داود (3641) / الترمذي (2682) / ابن ماجه (223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [المسألة الثانية] : نبوة الأنبياء هل هي واجبة أو ممكنة؟ الصواب أنَّ نبوة الأنبياء وإرسال الرسل مما جعله الله - عز وجل - على نفسه، كما قال سبحانه {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] . وقد اختلف الناس في ذلك: $ فقالت طائفة إرسال الرسل جائز. $ وقالت طائفة إرسال الرسل واجب على الله - عز وجل -. $ وقالت طائفة إرسال الرسل ونبوة الأنبياء لا يقال فيها جائزة ولا واجبة بل هي تبع للمصلحة. $ وكما ذكرنا أنّ قول أهل السنة في ذلك: أنَّ إرسال الرسل جعله الله - عز وجل - حجة على الناس كما في الآية، ولا يُطلق القول بوجوبها ولا بإمكانها أو جوازها أو ردِّ ذلك، بل يُتَّبع في ذلك النص الوارد لأنّ أفعال الله - عز وجل - والإيجاب عليه والتحريم إنما يكون من عنده - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 [المسألة الثالثة] : نبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بما تَحْصُل؟ وكيف يُعْرَفُ صدقهم؟ وما الفرق ما بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو رسول أو من يأتي بالأخبار المغيبة أو يجري على يديه شيء من الخوارق؟ والجواب عن ذلك: أنَّ المتكلمين في العقائد نظروا في هذا على جهات من النظر. ونُقَدِّمُ قول غير أهل السنة، ونُبَيِّنْ لكم قول السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة. وهي من المسائل التي يقل تقريرها في كتب الاعتقاد مُفَصَّلَة. فنقول: إنَّ طريقة إثبات نبوة الأنبياء وإرسال الرسل للناس فيه مذاهب: 1 - المذهب الأول: أنَّ الرسل والأنبياء لديهم استعدادات نفسية راجعة إلى القوى الثلاث والصفات الثلاث وهي السمع والبصر والقلب، فإنه يكون عنده قوة في سمعه، فيسمع الكلام؛ كلام الملأ الأعلى، وعنده قوة في قلبه، فيكون عنده تخيلات أو يتصور ما هو غير مرئي، وعنده بصر أيضا قوي يبصر ما لا يبصره غيره. وهذه طريقة باطلة، وهي طريقة الفلاسفة الذين يجعلون النبوة من جهة الاستعدادات البشرية، لا من جهة أنها وحي وإكرام واصطفاء من الله جل جلاله. 2 - المذهب الثاني: قول من يقول إنَّ النبوة والرسالة طريق إثباتها والدليل عليها هو المعجزات. وهذا قول المعتزلة والأشاعرة وطوائف من المتكلمين، وتبعهم ابن حزم وجماعة، وجعلوا الفرق ما بين النبي وغيره هو أنَّ النبي يجري على يديه خوارق العادات. فمنهم من التزم -وهم المعتزلة وابن حزم- في أنَّه ما دام الفرق هو خوارق العادات وهي المعجزات فإذاً لا يُثْبَتُ خارقٌ لغير نبي. فأنكروا السحر والكهانة، وأنكروا كرامات الأولياء، وأنكروا ما يجري من الخوارق؛ لأجل أن لا يلتبس هذا بهذا وجعلوا ذلك مجرد تخييل في كل أحواله. وأما الأشاعرة فجعلوا المسألة مختلفة، وسيأتي تفصيلها في موضعها إن شاء الله عند كرامات الأولياء. 3 - المذهب الثالث: هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح فيما قرره أئمتهم وهو أنَّ النبوة والرسالة دليلها وبرهانها متنوع، ولا يُحصرُ القول بأنها من جهة المعجزات الحسية التي تُرى أو تجري على يدي النبي والولي. فمن الأدلة والبراهين لإثبات النبوة والرسالة: - أولاً: الآيات والبراهين. - ثانياً: ما يجري من أحوال النبي في خَبَرِهِ وأمره ونهيه وقوله وفعله مما يكون دالاًّ على صدقه بالقطع. - ثالثاً: أنَّ الله - عز وجل - ينصر أنبياءه وأولياءه ويمكِّن لهم ويخذل مدعي النبوة ويُبيد أولئك ولا يجعل لهم انتشارا كبيرا. وهذه ثلاثة أصول. @ أما الأول: فمعناه أنَّ من قَرَّرَ نبوة الأنبياء عن طريق المعجزات، فإننا نوافقهم على ذلك؛ لكنَّ أهل السنة لا يجعلونه دليلاً واحداً، لا يجعلونه دليلاً فرداً؛ بل يجعلونه من ضمن الدلائل على النبوة. وهذا الدليل وهو دليل المُعْجِزَات -كما يُسَمَّى- يُعَبِّرْ عنه أهل السنة بقولهم الآيات والبراهين، وذلك لأنَّ لفظ (المُعْجِزْ) لم يرد في الكتاب ولا في السنة، لفظ (المُعْجِزَةْ) وإنما جاء في النصوص الآية والبرهان {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12] ، وقال {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:32] ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] ، ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أنَّ ما يؤتاه الأنبياء والرسل إنما هو آيات وبراهين. وبعض أهل العلم جعل لفظ المُعْجِزْ نتيجة في أنَّ آية النبي وبرهان النبوة مُعْجِزْ، لكن لفظ الإعجاز فيه إجمال. وذلك لأنه مُعْجِزٌ لمن؟ فيه إجمال وفيه إبهام. فإعجاز ما يحصل لمن هو معجز؟ فإذا قلنا مُعْجِزْ لبني جنسه فهذا حال، مُعْجِزْ لبني آدم فهذا حال، معجز للجن والإنس فهذا حال، معجز لكافة الورى فهذا حال. ولهذا جعل المعتزلة والأشاعرة في الخلاف ما بينهم في المعجزات جاءت من هذه الجهة: أَنَّ لفظ معجز اختلفوا فيه، معجز لمن؟ كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله. ولهذا نعدل عن لفظ الإعجاز إلى لفظ الآية والبرهان. ونقول الآية والبرهان التي يؤتاها الرسول والنبي للدِّلالة على صدقه تكون معجزة للجن والإنس جميعاً. فما آتاه الله - عز وجل - محمدا صلى الله عليه وسلم يكون مُعْجِزَاً للجن والإنس جميعا، كما قال تعالى {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] . أما إعجاز بعض الإنس دون بعض، أو الإنس دون الجن، فهذا هو الذي يدخل في الخوارق ويدخل في أنواع ما يحصل على أيدي السحرة والكهنة وما أشبه ذلك. أما الفرق ما بين الآية والبرهان الدال على صدق النبي مع ما يؤتاه أهل الخوارق، أنَّه هل هو معجز عامة الجن والإنس أم لا؟ فإن كان معجز لعامة الجن والإنس فهو دليل الرسالة والنبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 هذه الآيات والبراهين التي آتاها الله - عز وجل - محمدا صلى الله عليه وسلم أنواع: + النوع الأول منها القرآن وهو حجة الله - عز وجل - وآيته العظيمة على هذه الأمة، فتَحَدَّى الله - عز وجل - به الجن والإنس، ولم يستطيعوا ذلك مع أنهم متميزون في الفصاحة والبلاغة وأشباه ذلك. فإذاً الآية والدليل الأول هو القرآن العظيم وهو الحجة الباقية. + النوع الثاني آيات وبراهين سمعية؛ يعني تكون دالة من جهة ما يُسمع، ومن ذلك: تسبيح الحصى، تسبيح الطعام على عهده - صلى الله عليه وسلم - كما روى البخاري في الصحيح أن ابن مسعود قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) + النوع الثالث آيات وبراهين راجعة إلى البصر وهو ما يُبْصَرُ من أشياء لا تحصل لغيره؛ بل هي آية وبرهان على عجز الثقلين عن ذلك، مثل نبع الماء ما بين أصابعه، ومثل حركة الجمادات وأشباه ذلك. + النوع الرابع أدلة وبراهين فيها نُطْقُ ما لم يَنْطِقْ وهذه تشمل الأول المسموعة، وتحرك ما لم يتحرك بالعادة ويشمل حركة الجمادات، وشعور من لا يُعرف بشعورِهِ وهذه إنما يُخْبِرُ عنها نبي وتحصل للرسل والأنبياء، مثل (حنين الجذع) (2) وتسليم الحجر وأشباه ذلك هذا نوع وهو الآيات والبراهين (3) @ أما الثاني هو أنَّ الرسول يأتي بخبر وأمر ونهي وللرسول قول وفعل، فهذه خمسة أشياء. وهذا النوع من الدلائل أهم من الدلائل التي ذَكَرْتُ لك فيما قبل عدا القرآن فهو أعظم الأدلة؛ وذلك أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بأخبار -هذه تَصْدُقْ على جميع النبوات والرسالات-: - جاء بخبر عن الله - عز وجل -، وهذا الخبر: منه ما يتعلق بالماضي، ومنه ما يتعلق بالحاضر، ومنه ما يتعلق بالمستقبل. - وجاء بأمر ونهي، وهذا الأمر والنهي هو ما يدخل في الشريعة، والأوامر متنوعة والنواهي متنوعة. - وجاء بأقوال هو قالها في التبليغ وأفعال له. وكل هذه بمجموعها تدل للناظر على أنَّ من قال وأخْبَرَ عن الله وفَعَلَ وأَمَرَ ونَهَى فإنه صادق فيما قال؛ لأنّ كلَّ مدَّعٍ للخبر والأمر والنهي وله أقوال وله أفعال وليس على مرتبة النبوة فلابد أن يظهر لكل أحد أن يظهر كذبه فيما ادعاه وتناقضه في أقواله وأفعاله وضَعْفُ أمْرِهِ ونَهْيِهِ وعدم إِصْلَاحِهِ وأشباه ذلك. ولهذا محمد صلى الله عليه وسلم جعل الله - عز وجل - له الكمال فيما أخبر به، وفيما أمر به، وفيما نهى، وفي أقواله وأفعاله، فَجَعَل إتِّباعه في الأقوال والأفعال إتِّباعاً مأمورا به {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وجعل ما يخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخبر الله - عز وجل -؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ونحو ذلك. فاستقام أمره صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور الخمسة، ولم يُعْرَف أنَّ أحداً طعن في شيء من هذه الأشياء واستقام على طعنه ولم يستسلم؛ بل كُلُ من طعن في واحد من هذه الأشياء فإنه آل به أمره إلى الاستسلام، أو أن يكون طعنه مكابرة دون برهان. لهذا نقول إن هذا الدليل من أعظم الأدلة التي تُفَرِّقُ ما بين الرسول والنبي الصادق وما بين مُدّعي النبوة، فإنّ الرسول له أحوال كثيرة يُسْمَعْ في أقواله، يُرَى في أفعاله، أوامره ونواهيه جاءت بماذا؟ أخباره جاءت بماذا؟ ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أخْبَرَ عن أشياء حدثت في الماضي لم يكن العرب يعرفونها، وجاء تصديقها من أهل الكتاب وما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم كتب أهل الكتاب، وجاء بأخبار عما سيحصل مستقبلاً، وجاء بأخبار عما سيحصل بين يدي الساعة وحصلت بعده صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً، منها ما حصل بعد موته سريعا، ومنها ما يحصل شيئا فشيئا، ومنها ما سيحصل بين يدي الساعة، وكل هذه الأخبار في تصديقها دالة على أنه لا يمكن أن يُعْطَاهَا إلا نبي. كذلك ما أمر به صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه فهو موافق للحكمة البالغة التي يعرفها أهل الدين ويعرفها أهل العقل الراجح، حتى إنَّ الحكماء شهدوا في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر بأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي شريعة ليس فيها خلل لا من جهة الفرد في عمله ولا من جهة التنظير في المجتمع بعامة. وكذلك ما في أفعاله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم له المقام الأكمل في التخلص من الدنيا والبعد عن الرَّفْعَة - يعني والترفع على الناس - بل كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس في هديه وفي تواضعه وفي قوله وفي عمله صلى الله عليه وسلم، وكان أكمل الناس في عبادته، وكلُّ دعوى لمن ادَّعَى النبوة فلا بد أن يظهر فيها خلل في هذه الأشياء.   (1) البخاري (3579) / الترمذي (3633) (2) البخاري (3585) / الترمذي (505) / ابن ماجه (1414) (3) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أيضا هو صلى الله عليه وسلم تحدّى الناس في قوله فيما أتى به، وأخذ يدعو كما يظهر لك من قصة هرقل مع أبي سفيان وسؤالات هرقل لأبي سفيان، وأخذ يدعو غير ملتفت لخلاف من خالف، والناس يزيدون وأعداؤه ينقصون، وهذا مع تطاول الزمن ونصره الله - عز وجل - له، فإنَّ هذا دليل على صدقه فيما أخبر وفي أمره ونهيه وقوله وفعله صلى الله عليه وسلم. @ أما الثالث -كما ذكرنا- هذه جنس أجناس الأدلة أنَّ الله - عز وجل - هو صاحب الملكوت وهو ذو الملك والجبروت، وهو الذي يَنْفُذُ أمره في بريته، فمحال أن يأتي أحد ويَدَّعِي أنه مرسل من عند الله، ويصف الله - عز وجل - بما يصفه به، ويذكر الخبر عن الله وأسمائه ونعوته، ثم هو في مُلْكِ الله - عز وجل - يستمر به الأمر إلى أن يُشَرِّع ويأمر وينهى وينتشر أمره ويغلب من عاداه ويسود في الناس ويُرفع ذكره دون أن يعاقب، ولهذا قال - عز وجل - في بيان هذا البرهان {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] ، لو كانت الدَّعْوَةُ في ملك الله - عز وجل - وهذا يَدَّعِي أنه مُرْسَلٌ ونبي ويأتي بأشياء يقول هي من عند الله، فإنّ مالك الملك لا يتركه وحاله بل ربما جعل ذلك ابتلاءً وامتحانا للناس، ولكن لا يُنْصَرْ وتكون شريعته هي الباقية ويكون ذكره هو الذي يبقى، ويكون خبره عن الله وعن أسمائه وصفاته ودينه وشرعه وعن الأمم السالفة وعما يحصل هو الذي يبقى في الناس، فإنَّ هذا مخالف لقول الله - عز وجل - (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) والمشركون لما كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] ، لأنّ السُّنَّةَ ماضية عند العقلاء أن الذي يَدَّعِي عن الله - عز وجل - فإنما يُتَرَبَصُ به الهلاك والإفناء. {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} فجاء البرهان {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] ، لأنّ هذا برهان صحيح، فتربصوا فإنِّي معكم من المتربصين {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} وقد صدقتم في هذا البرهان لأنه لو كان كما تقولون كاذب فإنه يُتَرَبَصُ به ريب المنون وأن يُهْلِكَهُ الله - عز وجل - وأن يجعله مخليا وأن يجعله عبرة لمن اعتبر. فالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين جعلهم الله - عز وجل - حملةً لرسالته وشَرَّفَهُم ورَفَعَ ذِكْرَهُمْ ونَصَرَهُم بين الناس، ولهذا تجد أنَّ الرسالات هي الباقية في الناس، رسالة موسى عليه السلام ورسالة إبراهيم ورسالة عيسى عليه السلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحدة منها دخلها من التحريف ما دخلها، فأتباع إبراهيم حرَّفُوا في دينهم حتى أصبحوا على غير ملة إبراهيم، وأتباع موسى من اليهود الآن على غير دين موسى، وأتباع عيسى عليه السلام الآن على غير دين عيسى، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حفظهم الله - عز وجل - وجعل منهم طائفة ظاهرين بالحق يقومون به إلى قيام الساعة. هذا ما يتعلق بالمسألة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 [المسألة الرابعة] : أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بشر يجوز في حقهم ما يجوز في حق البشر مما هو من الِجِبِلَّةْ والطبيعة، ولهذا في القرآن يكثر وصفهم بأنهم بشر وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم بشر لكن يُوحَى إليه. وأما من جهة الذنوب والآثام أو نجعل البحث هذا يعني رأس المسألة منقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول من حيث الأمراض والعاهات: فعند أهل السنة والجماعة أنَّ الرسل والأنبياء يُبتَلَونَ ويمرضون مرضاً شديداً، وعند الأشاعرة أنهم يمرضون ولكن بمرض خفيف ولا يمرضون بمرض شديد. هذا غلط بَيِّنْ فإنّ ابن مسعود دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني أراك تُوعَكَ - يعني فيك حمى شديدة - قال (أجل إني أُوعَكَ كما يوعك رجلان منكم) قال ابن مسعود: ذلك بأن لك أجرين؟ قال (نعم) (1) إلى آخر الحديث، والأنبياء يُضَاعَفُ عليهم أو يشتدّ عليه البلاء بأنواع. فإذاً من جهة الأمراض والأسقام التي لا تؤثر على التبليغ وصحة الرسالة فإنهم ربما أُبْتلُوا في أجسامهم وأبدانهم بأمراض متنوعة شديدة. -القسم الثاني، من جهة الذنوب: الذنوب أقسام: فمنها الكفر وجائز في حق الأنبياء والرسل أنْ يكونوا على غير التوحيد قبل الرسالة والنبوة. والثاني من جهة الذنوب، فالذنوب قسمان كبائر وصغائر: - والكبائر جائزة فيما قبل النبوة، ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بعد النبوة والرسالة أو تَقَحَّمَها عليهم الصلاة والسلام بخلاف من أجاز ذلك من أهل البدع. - أما الصغائر فَمَنَعَ الأكثرون فِعْلَ الصغائر من الأنبياء والرسل، والصواب أَنَّ الصغائر على قسمين: أ - صغائر مؤثرة في الصدق؛ في صدق الحديث وفي تبليغ الرسالة وفي الأمانة، فهذه لا يجوز أن تكون في الأنبياء، والأنبياء منزهون عنها؛ لأجل أنها قادحة أو مؤثرة في مقام الرسالة. ب - والثاني من الأقسام صغائر مما يكون من طبائع البشر في العمل أو في النظر أو في ما أشبه ذلك، أو من جهة النقص في تحقيق أعلا المقامات وأشباه ذلك، فهذه جائزة، ولا نقول واقعة؛ بل نقول جائزة، والله - عز وجل - أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] الآية، فالنبي صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.   (1) البخاري (5647) / مسلم (6724) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 [المسألة الخامسة] : هي أنّ الرسول والنبي فيهم شروط أو أوصاف عامة جاءت في القرآن والسنة: أولا أَنَّ الرسول يكون ذكراً وكذلك الأنبياء ذكوراً، فليس في النساء رسولة ولا نبية، وإنما هم ذكور. الثاني أنهم من أهل القرى يعني ممن يسكنون القرى ويتَقَرَّون ويجتمعون، وليسوا من أهل البادية يعني ممن يبدون كما جاء في آية يوسف. الثالث أنَّ الرسول لابد أن يُكَذَّب، فلم يأتِ رسول إلا وكُذِّب كما قال - عز وجل - {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] . مباحث النبوة والرسالة كثيرة متنوعة، وهذه يعني بعض المسائل المتعلقة بها، وقد لا تجد ذلك مجموعاً في موضع واحد. ولاشك أَنَّ هذا البحث، خاصة دلائل النبوة بحث مهم، واعتنى به أئمة السنة والسلف، وصنف فيه عدد من العلماء في دلائل النبوة وفي آيات وبراهين النبي محمد صلى الله عليه وسلم. نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله (وإنَّه خَاتَمُ الأنبياءِ، وإِمَامُ الأتْقِيَاءِ) إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الأسئلة : س1/ يقول ذكرتم أنَّ العطف بالواو يقتضي المغايرة فهل فَصَّلتم أكثر وكيف تكون المغايرة في قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ؟ ج/ أنا ذكرتُ لك أنَّ المغايرة نوعان: مغايرة في الذات، ومغايرة في الصفات. مغايرة في الذّات: تقول هذا قلم وكتاب، هذان قلم وكتاب، خُذ القلم والكتاب، معلوم أنَّ القلم شيء في ذاته والكتاب شيء في ذاته، دخل محمد وخالد، هذا شيء وهذا شيء، فالعطف بالواو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه في هذه الأمثلة؛ مغايرة ذات، هذه ذات وتلك ذات، هذا له حقيقة وهذا له حقيقة، هذا له ماهية وهذا له ماهية. النوع الثاني من المغايرة مغايرة في الصفات: أن يكون المعطوف والمعطوف عليه في الدلالة على مسمى واحد، ولكن يكون ثمة فرق ما بين الصفات، كما ذكر في المثال قوله تعالى {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1] ، الكتاب المبين هو القرآن، لكن العطف في اختلاف الصفات، فالقرآن سمي قرآنا لأنه صار مقروءا، وسمي كتابا مبينا لأنه يُكتب فيستبين به كل شيء كما قال {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] . فإذاً حقيقة المصحف في كونه قرآنا غير حقيقة المصحف في كونه كتاباً، فهذا وصف له وهذا وصف له كما ذكرنا في الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج:52] ، فالنبي والرسول قد يجتمعان في شخص واحد فيكون الرسول والنبي العطف لتغاير الصفات، يكون مقام النبوة غير مقام الرسالة كما نقول في نبينا صلى الله عليه وسلم نبئ بإقرأ وأرسل بالمدثر، وقد يكون هنا الرسول والنبي في الفرق ما بين الذاوت، الرسول واحد أحد المرسلين والنبي المقصود به نبي آخر، وهكذا في نظائرها. مثل هذه المباحث ترجعون فيها إلى كتب اللغة ومن أمْثَلِها في الحروف كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام وأمثل الكتب في حروف المعاني. الكتب التي في دلائل النبوة منها كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم وقد طبع مختصرا في مجلدين معروف، ودلائل النبوة للبيهقي، ودلائل النبوة للبغوي، وفي كتب الحديث أبواب أو كتب تتعلق بدلائل النبوة. س2/ ما معنى قول بعض السلف النبوة العلم والعمل، وهل هذا صحيح أم لا؟ ج/ الجواب أنّ هذا القول ليس بقول لبعض السلف بل قاله ابن حبان صاحب الصحيح وغُلِّطَ في ذلك وهُجِرَ بسبب هذه الكلمة؛ فإنه سُئِلَ عن النبوة فقال النبوة العلم والعمل. وهذا كقول الفلاسفة؛ لأنَّ الفلاسفة عندهم أنَّ النبوة ليست اصطفاء واجتباءً واختيارا إنما هي كسبية يكتسبها الحكيم، هذا لما سئل ابن حبان رحمه الله وقيل له ما النبوة؟ فقال: العلم والعمل اتُّهِمَ بالفلسفة وكان رحمه الله ربما طالع بعض كتبها ولذلك صَنَّفَ كتابه في الصحيح على التقاسيم والأنواع، قالوا إنه تأثر بما في المنطق من الترتيبات ونحو ذلك، التقاسيم والأنواع كتاب ابن حبان معروف انه غير موجود ولكنه رتبه الفارسي ابن بلبان، وهو المطبوع رتّبه على الأبواب، ولكن نفس كتاب ابن حبان ليس على هذه البابة، لكن الواقع أن ابن حبان سليم مما رمي به رحمه الله فإنَّ تصنيفه للكتاب ليس مأخذه مأخذاً فلسفياً، ولكنه رأى طلاب العلم يعتمدون على ما في الكتب وتركوا الحفظ فصنف لهم كتابا جمع فيه صحيح السنة -بحسب رأيه، بحسب اجتهاده في التصحيح- وجعله غير مُبَوَّبٍ على الأبواب المعهودة حتى يُحْفَظْ رغبة في الحفظ وتوجيه الناس إلى الحفظ وإلزام الطلبة بالحفظ، ومعلوم أن حسن الظن بأهل العلم هذا أولى من إساءة الظن بهم. وأما قوله النبوة العلم والعمل يعني أنّ النبوة فيها كمال العلم وكمال العمل، وهذا كما هو معروف في ذكر الشيء بأعظم صفاته كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج فقال (الحج عرفة) (1) يعني مع بقية الأركان والشروط، فلا يَنْفِي أن النبوة وحي من الله - عز وجل - وأنها اصطفاء وأنّ النبي هو من أوحي إليه ونحو ذلك، لا ينفي ذلك وإنما ذكر الصفة التي يبلغها النبي؛ كمال العلم وكمال العمل، وهذه ليست إلا في الأنبياء، رحمه الله، لكن ليس بقولٍ هذا للسلف فلينتبه لذلك. س3/ أشكل عليَّ قولك: النبي قد يكون على غير التوحيد قبل الرسالة؟ ج/ نعم النبي قد يكون على غير ذلك، فيصطفيه الله - عز وجل - وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك، قد يكون غافلا. س4/ لم تذكروا ما إذا كان هناك رسول من الجن أولا؟   (1) الترمذي (889) / النسائي (3016) / ابن ماجه (3015) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ج/ الصواب إن الجن ليس فيهم رسول وإنما الجن تبع للإنس في الرسالة، كما قال - عز وجل - {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] ، صرفهم الله جل علا إلى محمد حتى يسمعوا الرسالة {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ} فالصارف هو الله - عز وجل - والمصروفون هم الجن لسماع الرسالة، قال {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍا} [الأحقاف:29-30] الآية، فدلّ على أنهم متبعون لموسى قبل ذلك، متبعون للأنبياء، فلما جاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خوطبوا بذلك، فهذا هو الصحيح في الآية، وأما قوله {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] ، المقصود التغليب لأنَّ الجنسين جنس واحد في التكليف. س5/ أرجو بيان بعض الكتب التي بحثت هذا الموضوع؟ ج/ إنَّ هذا الموضوع تَفَرَّقَ في بيان الآيات في تفسير الآيات التي فيها ذكر النبوة والرسالة والآيات والبراهين، وشيخ الإسلام ابن تيمية كتب كتابة عظيمة في هذا الباب خاصة في المعجزات والآيات والبراهين والفرق بين النبوة والرسالة في كتابه النبوات، لكنه طويل يحتاج إلى اختصار من طالب علم يقربه لطلاب العلم. س6/ ما رأيكم في عبارة أشرف الأنبياء؟ ج/ هذه العبارة ما جاءت في الأحاديث، والشرف متنوع، الشرف نوعان: - شرف كسبي. - وشرف نَسَبي. وهذا من حيث تقسيم الشرف؛ يعني في تعريفه. الشرف النَّسَبي: هذا النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنّ الله اصطفى من قريش كنانة) (1) إلى أن قال (فأنا خيار من خيار من خيار) . الشرف الكسبي أو شرف النبوة: هو الكمال، كمال العبودية، كمال الصفات. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه كمال الصفات؛ الصفات الكاملة التي صار بها أكمل من غيره -وإن كنا لا نقول إنه أفضل من غيره في جهة الموازنات- لكن هو اجتمعت فيه صفات الكمال، ولهذا الناس يأتون يوم القيامة إلى كل أولي العزم من الرسل فيمتنعون من إجابتهم -في حديث الشفاعة المعروف- ويأتون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها، فقد كَمَّلَهُ الله - عز وجل - بصفات لم يجعلها في غيره صلى الله عليه وسلم. فإذاً الشرف هنا شرف الصفات، ولهذا يقول أهل العلم وأشرف الأنبياء والمرسلين. وحدثني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد رحمه الله وكان من مشايخنا العباد الزهاد رحمه الله ورفع درجته في الجنة، أنه كان يقرأ على شيخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وكان يقول هذه الكلمة والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين فقال له أحد الإخوان هذه ما جاءت؛ يعني كيف تقول أشرف الأنبياء والمرسلين، فعظمت عليه، يقول فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي أنا أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين، وهذه لها حُكم المنامات التي هي للبشرى، وإلا المعنى كما ذكرت لكم صحيح. 6س/ هل أرسل للعرب رسول غير محمد صلى الله عليه وسلم؟ ج/ الجواب: لا. نكتفي بهذا القدر وأسأل الله لي ولكم التوفيق وصلى الله وسلم على ونبينا محمد.   (1) مسلم (6077) / الترمذي (3605) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بسم الله الرحمن الرحيم قبل البدء بعض الاخوة اقترح أن يكون أول الدرس خمس دقائق أسئلة إما فيما مضى أو في غيره؛ لأجل أن يحضر الذين يصلون في أماكن بعيدة، فما أدري، الحق لكم يا الذين تحضرون مبكرين، هو مناسب أو لا؟ الذي عنده أنه غير مناسب يرفع يده، الذي يرى أنه غير مناسب يرفع يده. فكان إجماعا. طيب، فيه أسئلة عندك، انتهت؟ طيّب. س1/ قال: ظهرت قبل فترة أشرطة تكلمت بالتفصيل على ما وقع بين الصحابة من فتن، واسم هذه السلسلة قصص من التاريخ الإسلامي، فما رأيكم فيها؟ ج/ لم أستمع لها ولكن ذُكِرَ لي من عدد من الإخوة أنَّ عليها ملاحظات، والذي ذكر لي ذلك كان يوردها ويناقش على الأشرطة فإذا كانت لا توافق طريقة أهل السنة فيما وقع بين الصحابة من شجار وجب منعها حينئذ. ذكر الأخ أنّ سماحة الشيخ يقول أنه منعناها، فالحمد لله. فهذا شيء طيب. س2/ هل تارك العمل بالكلية مسلم؛ تارك الأركان وتارك غيرها من الواجبات والمستحبات والأعمال الظاهرة بالجوارح؟ ج/ الجواب: أنَّ العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان؛ يعني أنَّ الإيمان يقع على أشياء مجتمعة وهي الاعتقاد والقول والعمل، ولذلك من ترك جنس العمل فهو كافر؛ لأنَّهُ لا يصحّ إسلام ولا إيمان إلا بالإتيان بالعمل. س3/ هل يُتَصَوَّر وجود مطلق الانقياد في القلب ولا يظهر له أثر على الجوارح؟ ج/ والجواب: أنَّ هذا فرع المسألة التي قبلها، فإنَّ الانقياد في أصله عقيدةً واجب وهو من عمل القلب، ولا يصح الإيمان حتى يكون الانقياد ظاهراً على الجوارح؛ يعني حتى يعمل. س4/ ما هو التوجيه الصحيح للحديث الذي في مسلم «لم يعمل خيرا قط» ؟ ج/ وردت عدة أحاديث بهذا اللفظ، فينبغي أن يُحْضِرَ النص لأنَّ لكلٍ جوابه. س5/ هل يشترط في مسائل العقيدة معرفة الدليل حتى للعامي، وهل يسوغ التقليد في مسائل العقيدة؟ ج/ هذا بحث يطول سبق أن تكلمنا عليها أظن في بعض الشروح، ويأتي إليه بحث إن شاء الله في هذا الكتاب شرح العقيدة الطحاوية بإذنه تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وإنَّه خَاتِمُ الأنبياءِ   تكلمنا على الجمل الأولى وهي قوله (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى) صلى الله عليه وسلم. ووقفنا عند قوله (وإنَّه خَاتِمُ الأنبياءِ) وهذه الجملة فيها تقرير أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم به خُتمت النبوة، (وإنَّه خَاتِمُ الأنبياءِ) يعني الذي خَتَمَهُمْ فصار خاتِما لهم، ليس بعده أحد. وهذا مُجْمَعٌ عليه بين طوائف هذه الأمة جميعاً حتى الطوائف الخارجة أو الفرق الخارجة عن الثنتين والسبعين فرقة كالجهمية والرافضة وأشباه هؤلاء من المتقدمين فإنهم مقرون بأن بَعثة محمد صلى الله عليه وسلم بها خُتمت النبوة وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. فهذا إجماع، وقد ادَّعَتْ طوائف خلاف هذا؛ ادَّعت طوائف من المعاصرين كالقاديانية وأشباههم خلاف هذا. وبعض المتقدمين أشار إلى أنَّ النبوة قد لا تُختم وهذا سيأتي له البحث إن شاء الله فيما نعرض من مسائل، ولكن لا يُنْسَبُ إلى طائفة عامة، ولكن قد يكون نُسِبَ إلى بعض الأشخاص أو بعض الأفراد المنتسبين إلى الفلسفة أو الغلو أو أشباه ذلك. فقول المؤلف رحمه الله (وإنَّه خَاتِمُ الأنبياءِ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم هذا كما قلنا مجمع عليه لدلالة القرآن والسنة على ذلك ولإجماع أهل السنة عليه، قال ربنا - عز وجل - {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، قرأ قوله {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} عاصم وحده من بين القرّاء بفتح التاء؛ (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ، وقرأ الباقون من السبعة (وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ) وبأحد القراءات كان يقرأ الطحاوي ولذلك اخترنا الكسر على الفتح لاتباع الآي قراءة الآية على ما يقرأ به المصنف رحمه الله. * وهذا موضوع يحتاج من طلاب العلم إلى التنبه إليه وإلى التنبيه عليه، وهو أنَّ كثيرين إذا نشروا كتباً أو حققوا رسائل ضبطوا الآيات بما يقرأ به المحقق أو يقرأ به الباحث. وهذا غلط؛ لأنَّ حق المؤلف أن تُورِدَ الآية بحسب قراءته، فإذا عُرِفَتْ قراءته التي كان يقرأ بها، فإنه تُورَدُ الآية على نحو ما كان يقرأ، فإن كان يقرأ بحفص فتُثبت على حفص، وإن كان يقرأ بأبي عمر أُثْبِتَتْ كذلك، وإن كان يقرأ على قراءة نافع فتثبت كذالك، وهكذا. فينبغي التنبه في ذلك؛ لأنَّ بعض العلماء يُورِدُ آية ويذكر وجه الاستدلال، وقد لا يذكره فيقع إشكال في أنَّ وجه الاستدلال أو أنَّ الدليل لا يطابق القضية التي تُبْحَثْ، وذلك من جهة أنَّ الناظر أو المحقق أو الناشر أورَدَ الآية على نحو ما يقرأ هو، ولذلك يقع في إشكال. وهذه بالمناسبة قضية كبيرة فالذين نشروا كتباً متنوعة أو ينشرون ينبغي لهم العناية بهذا الأمر. وأعظم منها إذا نشروا تفسيرا للقرآن فإنهم قد يجعلون التفسير بقراءة ليست هي قراءة المؤلف، كما في عامَّةِ طبعات ابن كثير، فإن ابن كثير الحافظ المفسر لم يكن يقرأ بقراءة حفص عن عاصم، وكما في غير ذلك. وكذلك في كتب السنة، كتب الحديث، معلوم أنها روايات، والروايات مختلفة لكتب الحديث، فالبخاري له روايات متعددة، وأبو داوود له روايات قد تكون عن أبي داوود نفسه وقد تكون عن من تلقى عنه باختلاف، فيأتي الناشر ويثبت نصاً للكتاب يخالف النص الذي شرح عليه الشارح، ولهذا كل النشرات أو الطبعات لكتاب فتح الباري ليست موافقة لرواية صحيح البخاري المثبت معها، فإنَّ الحافظ ابن حجر رحمه الله لم يشرح البخاري على واحدة من الروايات المثبتة طبعاً مع نسخ فتح الباري وهذه المسألة ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا عليها. وخُذْ ما جَرَّهُ الأمر في صحيح مسلم حيث أدخل بعض الناشرين التبويب في داخل صحيح مسلم، وكأَنَّ مسلماً رحمه الله هو الذي بَوَّبَ صحيحه، ومعلوم أنَّ مسلما رحمه الله لم يبوّب كتابه وإنما جعله كتبا، وأما التبويب الداخلي فإنه من صنع الشراح فلا ينبغي لطالب العلم أن يقول رواه مسلم في كتاب صفة القيامة باب كذا، أو في كتاب الصلاة باب كذا، لأنَّ التبويب ليس من صنعه والكتب (1) . : [[الشريط السابع]] : ينبغي أن تُرَاعَى أيضا هل ذَكَرَهَا في أولها أو لم يذكرها. المقصود من هذا أنَّ الله - عز وجل - قال {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، وفي القراءة الأخرى التي قرأ بها ستة من السبعة القراء {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ} ، وفي هذه الآية دِلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خُتٍمَتْ به النبوة. وخَتمُ النبوة يدل على خَتم الرسالة من باب أولى عند من يقول إنَّ الرسول أرفع رتبة من النبي وأنَّ كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. وهو من قبيل دِلَالَة المساواة عند من يقول إنَّ الرسول والنبي بمعنى واحد. والآية تدل على التفريق؛ لأنه قال {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ} . وفي السنة دلَّت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ بعثته بها خُتِمتْ الرسالات والنبوات، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال من حديث ثوبان (إِنّهُ سَيَكُونُ كَذّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلّهُمْ يدّعي أَنّهُ نَبِيّ -أو كُلّهُمْ يَزْعَمُ أَنّهُ نَبِيّ-، ولا نَبِيّ بَعْدِي) (2) ، وأيضا دل قوله صلى الله عليه وسلم في ما في الصحيح (إنّه لاَ نَبِيّ بَعْدِي) (3) على ذلك، ودل أيضا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه بعض أصحاب الصحيح وبعض أصحاب السنن؛ بل هو في مسألة ستأتي ليس فيها لفظ الختم. المقصود أنَّ الأدلة من السنة التي فيها ذِكر ختم النبوة كثيرة متنوعة دالة على ما دلت عليه الآية من أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم به خُتِمَتْ النبوة وكما ذكرنا لكم أنَّ هذا إجماع. إذا تبين ذلك ففي هذا البحث مسائل:   (1) انتهى الشريط السادس. (2) البخاري (3609) / مسلم (7526) (3) البخاري (3455) / مسلم (4879) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 [المسألة الأولى] : أنَّ قوله - عز وجل - {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، بكسر التاء، هو فاعل من خَتَم، خَتَمَ الشيء يختِمه فهو خاتِم له؛ يعني جاء آخراً فخَتَمَهُ فهو الآخر منهم. وهذا دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم (وأنا العاقب) (1) يعني الذي لا نبي بعده، وأما قوله - عز وجل - {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بالفتح ففسره العلماء على أوجه منها: - أنَّ الخاتَم في هذا {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ} أنه كالطَّابَعِ على مسألة النبوة، والطَّابَعْ على الشيء يأتي آخر ما يأتي، فالذي يُرْسٍلْ الرسالة يجعل الخاتَم آخر شيء، فتكون دلالة {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} دالة على أنه هو الآخر؛ لأنَّ الخاتم إنما يأتي آخره. - وفيه أيضا أنَّ الخاتم هو زَيْنُ الشيء وما يُتَزَيَنُ به، فهو البارز حلية وزينة وفضلا. وهذا الوجه ذكره الشوكاني وغيره. فدلّ هذا على أنَّ القراءتين {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتِمَ النَّبِيِّينَ} ، والقراءة الأخرى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} أنَّ دلالتهما على ختم النبوة واحداً، وأنَّ قراءة {وَخَاتَمَ} تزيد على القراءة الأخرى بزيادة معنى وفضل دِلالة.   (1) البخاري (3532) / مسلم (6251) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 [المسألة الثانية] : أنَّ مسألة ختم النبوة الكلام فيها راجع إلى بعض الكلام في مسألة النبوة والنبي والرسول التي مرت معنا. وذلك أنَّ مِنْ الأفراد المنتسبين إلى الفلسفة وإلى الصوفية الغالية مَنْ قال إنَّ النبوة مُكْتَسَبَة. وإذْ تُكْتَسَبْ النبوة بأشياء: - منها أشياء علمية. - ومنها أشياء عملية. - ومنها استعدادات ومواهب فطرية. كما قد يكون غير الأنبياء مساوين لهم في تلقي الأوامر وتلقي الوحي كما يزعمون. وهذا القول لا يُنْسَبُ إلى طائفة معروفة بحيث يقال إنَّ الفلاسفة قالوا هذا أو إنَّ الصوفية قالوا هذا؛ بل ربما وُجد عند بعض أفرادٍ منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 [المسألة الثالثة] : أنّ الكلام على ختم النبوة هو الكلام نفسه على ختم الوحي، فإنَّ النبوة إنما كانت بالوحي. فمن ادَّعَى أنه يسمع كلام الله - عز وجل - فقد ادَّعَى أنه يُوحَى إليه. وانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم دالٌ على أنَّ الوحي لا يكون لأحد بعده صلى الله عليه وسلم. فلهذا كفَّرَ طائفة من المحققين من أهل السنة من ادَّعَى أنه يوحى إليه وأنه يسمع كلام الله - عز وجل - مباشرة أو بواسطة جبريل ونحو ذلك؛ لأنَّ حقيقة سماع الوحي هي حقيقة النبوة. فإذاً من ادَّعَى أنَّهُ يوحى إليه فقد ادَّعَى أَنَّهُ نبي، ولو نفى النسبة عن نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 [المسألة الرابعة] : أنَّ ادِّعَاء الوحي كفر كدعوى النبوة، وهذا باتفاق أهل السنة. فمن ادَّعَى أنه يُوحَى إليه فقد ادَّعَى منزلة النبوة، وهذا يدخل في عدم التصديق بختم النبوة وبالكذب على رب العالمين، وهذا هو الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 [المسألة الخامسة] : أنّ ختم النبوة وكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتِم الأنبياء وخَاتَمَهُم لا يعارض نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فإنّ نبوته عليه السلام كانت قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نزل فالنبوة السابقة ملازمة له عليه السلام، ولكنه يأتي مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم حاكماً بشريعته، قاتلاً الخنزير، كاسراً الصليب، واضعاً الجزية على النصارى واليهود، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال (لَيُوشِكَنّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ عيسى بْنُ مَرْيَمَ حَكَما عدْلا. فَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَكْسِرُ الصّلِيبَ, وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ) (1) . وإذا نزل عليه السلام جَعَل إمام هذه الأمة منها وصلى مأموماً صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك (إمامكم منكم تَكْرِمة الله لهذه الأمة) (2) . فلا يُنْظَرْ من ادَّعَى بطلان تقرير ختم النبوة بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فإن نبوته والوحي إليه كان سابقا لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا نزل في آخر الزمان فإنه ينزل حاكماً بالشريعة، حاكماً بالقرآن، مؤمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوحى إليه بشيء جديد. الحديث الذي ذكرتُ لكم أُنسِيْتُه، جاء الآن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبياءِ قبلي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى دَاراً فََحَسَّنَهَا وزينها إلا مَوْضِعَ لَبِنَةِ منها, فَجَعَلَ النّاسُ يطوفون بهذه الدار، ويقولون ما أحسنها ما أجملها لو كملت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وبي ختم النبيون) (3) صلى الله عليه وسلم.   (1) البخاري (2222) / مسلم (406) (2) مسلم (412) (3) البخاري (3535) / مسلم (6101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال المؤلف رحمه الله بعدها (وإِمَامُ الأتْقِيَاءِ، وسيِّدُ المرسَلينَ)   فكونه صلى الله عليه وسلم إماماً يعني أنه يُؤْتَمُّ به. والأتقياء هم صفوة هذه الأمة. وفي قوله هذا إبطال لقول من قال: إنّ من الأتقياء من قد يخرج عن الائتمام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كقول بعض غلاة الصوفية من أهل الزندقة الذين رأى بعضهم أنَّهُ يَسَعُهُ الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وَسِعَ الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام. فكل تقي جاء بعده صلى الله عليه وسلم فلا يكون تقياً إلا بالإتمام بمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الإتمام يكون بالإتباع كما قال - عز وجل - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ، وقال - عز وجل - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . والأتقياء جمع تقي، والتقي هو من حَصَّلَ التقوى. والتقوى في القرآن جاءت على ثلاث مراتب: 1 - المرتبة الأولى: أن يتقي العذاب المؤبد بتحقيق التوحيد؛ بالإتيان بالتوحيد وبنبذ الشرك وتركه، يعني بالإسلام، وهذه هي التي جاءت في مثل قول الله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} فخوطب الناس جميعا بالتقوى؛ يعني باتقاء العذاب المُخَلَّدْ بالإيمان بتوحيد الله - عز وجل - وبترك الشرك والبراءة منه ومن أهله. 2 - المرتبة الثانية: أَنَّ المتقي هو الذي يفعل الواجب ممتثلاً ويترك المحرم ممتثلاً، وهذه هي مرتبة المقتصدين الذين جاء فيهم قول الله - عز وجل - {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، من تَرَكَ المحرم امتثالاً وأتى بالواجب امتثالاً فهو من المتقين؛ لأنَّهُ اتَّقَى العذاب، والعذاب يكون يترك الواجب أو بفعل المحرم. 3 - المرتبة الثالثة: أن يتقي الله - عز وجل - بترك صغائر الذنوب وبترك ما به بأس وبترك ما لا بأس به حَذَراً مما به بأس، وهذه هي تقوى الله حق تقاته، كما قال - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ، يعني خُوفُوهُ واحذروه حق الخوف والحذر، وهذه المرتبة إنما هي للسابقين بالخيرات الذين يتركون المكروهات ويَسْعون في كل المستحبات. قال بعدها رحمه الله (وسيِّدُ المرسَلينَ) . قوله (وسيِّدُ المرسَلينَ) معناه أنه صلى الله عليه وسلم هو المقدم في المرسلين وهو أفضلهم؛ لأنَّ السيادة فرع الفضل بكمال الصفات المحمودة في السيد. (وسيِّدُ المرسَلينَ) من السيادة كما ذكرنا، والسيادة معناها يجمع أموراً، ومنها أن يكون أمره نافذاً وأن يكون المرجع هو. وهذا إذا قيل في محمد صلى الله عليه وسلم (وسيِّدُ المرسَلينَ) بهذا المعنى؛ يعني أنه هو المرجع فبالنظر إلى شيئين: 1 - الأول: قوله صلى الله عليه وسلم (أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ) (1) وولد آدم داخل فيهم المرسلون. 2 - الثاني: أنَّ رجوع الأمر إليه بالنسبة إلى الأنبياء يكون في عَرَصَات القيامة؛ حيث يذهب الناس إلى آدم ثم إلى نوح إلى آخره، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم يطلبون منه تعجيل الحساب، فيقول (أنا لها، أنا لها، فيخر تحت العرش فيحمد الله) (2) إلى آخر الحديث. وهنا في معنى السيادة كما ذكرنا، في معنى السيادة التفضيل. ولهذا بَحَثَ الشارح هاهنا ابن أبي العز مسألة التفضيل بين الأنبياء في هذا الموضع؛ لأنَّ من فروع السيادة أو من أسباب السيادة الفضل. وكون النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين حق -كما ذكرنا- للدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم (أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ) . إذا تبين ذلك ففي المسألة مسائل:   (1) مسلم (6079) / أبو داود (4673) / الترمذي (3148) / ابن ماجه (4308) (2) البخاري (7510) / مسلم (500) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 [المسألة الأولى] : أنَّ التفضيل بين الأنبياء جاء به النص كما قال - عز وجل - {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ، والرسل كثيرون وأفضلهم أولو العزم من الرسل وهم خمسة: نوح ثم إبراهيم، -يعني في الزمان- نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء ذكرهم في سورتي الأحزاب والشورى. وهؤلاء الخمسة أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد فُضِّل إبراهيم بالخُلّة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] ، والله - عز وجل - جعل محمدا صلى الله عليه وسلم خليلاً له، فَفَضْلُ إبراهيم جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفُضِّل موسى بالتكليم ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضا مُكَلَّمْ كما في حديث المعراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 [المسألة الثانية] : أنَّ الفضل والتفاضل والتخيير بين الأنبياء له حالتان: حالة عامة وحالة خاصة. - فالحالة العامة: يجوز فيها ذلك بمعنى أن يقال محمد صلى الله عليه وسلم أفضل المرسلين سيد المرسلين، أشرف الأنبياء والمرسلين. - وأما في مقابلة نبي بحسب شخصه في مقابلة نبي بذاته: فهذا يكون خصوص فلا يجري التفضيل على وجه الاختيار، ولهذا جاء في السنة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعَقون يومَ القِيامةِ فأكونُ أولَ مَن يُفِيقُ, فإِذا أنا بموسى آخذٌ -أو قال باطش- بقائمةٍ من قوائم العرشِ, فلا أدرِي أأفاقَ قبلي أم جُوزِيَ بصَعقةِ الطّور) (1) فقوله صلى الله عليه وسلم هنا (لا تخيروني على موسى) وفي رواية (لا تفضلوني على موسى) (2) دلّ على عدم جواز التفضيل الخاص.   (1) مسلم (6302) (2) البخاري (3414) / مسلم (6300) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 [المسألة الثالثة] : أنَّ هذا البحث وهو بحث التفضيل بين الأنبياء جاءت فيه أحاديث، منها هذا الحديث (لا تفضلوني على موسى) ، (لا تخيروني على موسى) ، ومنها حديث عام (لا تَخَيَّرُوا بين الأنبياء) (1) ، ومنها حديث خاص بيونس عليه السلام وهو قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى) (2) وفي رواية قال (من قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب) (3) ، وهذا اختلفت فيه أنظار العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتفضيل وما جاء في القرآن من قوله تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ، وأحسن الأجوبة على ذلك أن يقال: 1 - أولا: أنَّ قوله (لا تخيروني على موسى) هذا قاله لسبب قصة وردت، وهو أنَّ اليهودي والمسلم اختلفا فافتخر اليهودي على المسلم بموسى، والمسلم ردّ على اليهودي ولطمه؟ فإذاً يكون النهي إذا كان التفضيل الخاص جاء على جهة العصبية والحمية والفخر، ولهذا جاء في الحديث (أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ) (4) ، فدلّ على أنَّ التفضيل إذا كان مورده الفخر والعصبية فإنه يمنع منه. 2 - ثانياً: أنَّ جهات الفضل متنوعة، والتفضيل من جهة الجنس؛ جنس الفضائل سائغ، ومن جهة كل فَضيلة بحسبها متعدد، ولهذا يقال إنَّ تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم من جهة مجموع الفضائل، ولا يُنَصَّ على أَنَّهُ أفضل من غيره من الرسل في كل فضيلة عند جميع الرسل؛ يعني من حيث النظر العام. 3 - ثالثاً: أن يقال إنَّ التفضيل بين الأنبياء لا حاجة إليه؛ لأنَّ الأنبياء والرسل رسالتهم واحدة، والله - عز وجل - وَصَفَ المؤمنين بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله، والرسل وَصَفَهُم النبي عليهم الصلاة والسلام بقوله (الأنبياء إخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى) (5) ، وتَوَلِّي الرسل جميعاً فرض، ومحبتهم جميعاً فرض، فإذاً الدخول في التفضيل دخول فيما لا طائل تحته، فالواجب أن يُبْقَى في ذلك على النص وهو ما ذكرناه أولاً من التفضيل العام دون التفضيل الخاص. أما قوله صلى الله عليه وسلم (من قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب) فهذا لأجل أَنَّ بعض الناس قد يظن أَنَّ يونس عليه السلام فعل ما يُلامُ عليه، وأَنَّهُ عُوقِبَ بأن كان في البحر وفي بطن الحوت، ثم قال: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، فقال إنَّ هذه الكلمة ربما تكون لمن فعل شيئاً يُلَامُ عليه وعوقب، فقال: إنَّ يونس بن متّى قالها لأنَّهُ فَعَلَ ما فعل. وهذا في الحقيقة غلط؛ لأنه لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى، كما قال صلى الله عليه وسلم، فيَتْرُكْ الدعاء بهذا الدعاء العظيم {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فهذا قد دعا به آدم عليه السلام، ودعا به موسى عليه السلام، ودعا به غيرهما من الأنبياء والمرسلين. فإذاً هذا الدعاء وحال يونس بن متّى ليس فيها نص في حقه عليه السلام - أعني يونس بن متّى عليه السلام -، فإذاً لا ينبغي أن يقال إنَّ فلانا أفضل من يونس من جهة الاستحباب، لا ينبغي أن يقال ذلك، يعني لا ينبغي أن يقال إن محمداً أفضل من يونس بن متّى على جهة الاستحباب، والدليل دلّ على عدم الجواز فيمن يقوله لنفسه فلا يجوز لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى. والنبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، وهو أكمل الخلق عليه السلام. هذا البحث ربما لم تظهر حاجتُه لكن بحَثَه العلماء في هذا الموضع؛ لأنَّ هناك مِن مَن يعتقد الكمال في الوَلاية من يظن أنّ حالتَه أرفع من حالة يونس بن متّى عليه السلام.   (1) البخاري (4638) (2) البخاري (3395) / مسلم (43) (3) البخاري (4604) / الترمذي (3245) / ابن ماجه (4274) (4) سبق ذكره (95) (5) سبق ذكره (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال رحمه الله بعد ذلك (وحَبيبُ ربِّ العالَمين)   فوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه (حَبيبُ ربِّ العالَمين) ، والمحبة، محبة رب العالمين، محبة الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه متحققة، وإنما نُظِرَ في مسألة الخُلَّة. والمحبة لفظ عام يدخل تحته مراتب في اللغة، وأعلى مراتب المحبة الخلّة. فالتعبير بـ (حَبيبُ ربِّ العالَمين) عند المصنف مال إليه لأجل ما ورد في بعض الأحاديث (أنّ إبراهيم عليه السلام خليل الله ومحمد حبيب رب العالمين) (1) . والجواب أنَّ الاقتصار على مرتبة المحبة العامة للنبي صلى الله عليه وسلم هذا قصور؛ لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم هو حبيب رب العالمين وهو خليل رب العالمين أيضاً. فإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن كما قال - عز وجل - {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] ، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم خليل الله كما ثبت ذلك في السنة، قال صلى الله عليه وسلم (لَوْ كُنْتُ مُتّخِذاً أحدًا خَلِيلاً لاَتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، إِنّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرحمن -أو قال خَلِيلُ اللهِ-) (2) فدل هذا مع أحاديث أُخَرْ في الباب على أنَّ المحبة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفوقها مرتبة الخلة ثابتة له صلى الله عليه وسلم. إذا تبين ذلك ففي هذه الجملة مسائل:   (1) الترمذي (3616) / سنن الدارمي (47) (2) مسلم (1216) / ابن ماجه (141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 [المسألة الأولى] : أنَّ المحبة بمراتبها التي تضاف إلى رب العالمين - عز وجل - إنما هي ما ورد. - وبعض الناس غَلَوْا في ذلك فوصفوا الله - عز وجل - بكل مراتب المحبة، وهذا باطل وغلو. - وبعضهم جفا كالجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم فنفوا المحبة بمعناها الظاهر وما يكون من مراتبها؛ فنفوا حقيقة محبة الله لعبده ونفوا حقيقة اتخاذ الله - عز وجل - لعبده خليلاً، وأوَّلوا ذلك كما سيأتي في مواضعه في بيان أصولهم في الصفات. وأهل السنة والجماعة بين هاتين الطائفتين فلم يغلو في المحبة؛ يعني في محبة الله لعبده ولم يكونوا من الجفاة في ذلك، بل سلكوا الأصل الذي أصَّلُوهُ وأنَّ هذه المسائل تبع لما ورد في النصوص. فمن المراتب، مراتب المحبة التي جاءت في النصوص وتُثبت لله - عز وجل -: - الإرادة الخاصة التي هي بمعنى المحبة. - والمحبة بلفظها. - والمودة. - والخلة. وما ثبت من غير ما ذكرت هذه التي أذكرها الأربعة: إرادة، المحبة، المودة، الخلّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 [المسألة الثانية] : أنَّ من ألفاظ المحبة التي هي من مراتبها لفظ (العشق) . وهذا اللفظ استعمله طائفة من أرباب السلوك فيما بين العبد وبين ربه، فقالوا: إنّ الله يُعشَقُ ويَعْشَقْ، وقالوا: إنني -يعني المتكلم الذي تَكَلَّمَ- أعشق الله - عز وجل -. ولفظ العِشْقْ هو من مراتب المحبة -كما هو معلوم-؛ ولكنه يُمْنَعْ في إطلاقه من العبد على ربه ومن الرب للعبد، وذلك لأمور: 1 - الأول: أنّ لفظ العشق لم يرد في النصوص لا في الكتاب ولا في السنة، لا من جهة العبد لربه ولا من جهة الرب لعبده، فيمتَنِعُ إطلاق هذا اللفظ واستعماله في المحبة لأجل الاتّباع. 2 - الثاني: -وهو تعليل لفظي أيضا- أنَّ لفظ العشق إنما تستعمله العرب فيما إذا كان لصاحبه شهوة في المعشوق، ومعلوم أنّ الشهوة إنما تكون لمن يَنكِح أو يُنكَح يعني للرجل أو المرأة. فإذاً استعمال اللفظ في حق الله - عز وجل - ممتنع لفظاً؛ لأنه لا يستعمل هذا اللفظ إلا في ذلك المعنى. 3 - الثالث: في رد لفظ العشق واستعماله- من جهة المعنى، وهو أَنَّ العشق فيه من جهة العبد، أو في إطلاقه على من وُصِفَ به فيه تعلُّق بالإرادة وبالإدراك. فلا عشق يحصل إلا وهو مُؤَثِرٌ في الإرادة بإضعافها ومؤثر في الإدراك بحصول خلل فيه. ولهذا أجمع أهل اللغة في أنَّ معاني العشق لابد أن يكون في آثارها ما هو نوع اعتداء: إما على النفس، وإما على الغير. - اعتداء على النفس بإضعاف الإدراك أو بإضعاف الإرادة. - واعتداء على الغير بأنه لو أشعره بذلك فتعاشقا لصار عنده ضعف في الإدراك وضعف في الإرادة. والله - عز وجل - لا يجوز أنْ يُقال في محبته إنها تُنْتِجُ ضعفاً في الإرادة أو ضعفاً في الإدراك؛ بل محبة الله - عز وجل - تبلغ بالعبد -يعني محبة العبد لربه- تبلغ بالعبد كمال الإرادة المطلوبة المحمودة وكمال الإدراك المطلوب المحمود؛ يعني في الإيمان، ولهذا امْتَنَعْ أنْ يوصف الله - عز وجل - بأنه يعشق عبدَه أو أن العبد يعشق ربَّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قال رحمه الله بعدها (وكُلُّ دَعْوى النُّبوةِ بَعدَهُ فَغَيٌّ وَهَوى، وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء)   وهذا فيه تقرير أنًّ كل دعوى للنبوة بعده صلى الله عليه وسلم فهي ضلال وكذب كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان (وَإِنّهُ سَيَكُونُ بعدي كَذّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلّهُمْ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، وإنه لا نَبِيّ بَعْدِي) (1) فكل دعوى للنبوة كذب ولا شك؛ للإجماع المنعقد على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرت لك من قبل. قوله (وَهَوى) يعني أنها ناشئة عن الهوى وليس ثَمَّ شبهة فيها، يعني من ادَّعَى النبوة فلا شبهة له، وإنما هي هوىً مُجَرَّدْ فلن ينزل عليه وحي ولن يكون معه معجزات -معجزات نبوة من عند الله- وإنما هي هوى، وقد يُسَخِّر الشياطين لنفسه فتعينه ببعض الخوارق إلى آخر ما ذكرنا في البحث السابق في الدرس الماضي. (دَعْوى النُّبوةِ بَعدَهُ -صلى الله عليه وسلم- فَغَيٌّ وَهَوى) يعني وكفر. والذي يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو أنه يُوحَى إليه أو أنه رسول فإنه كافر يجب قتله. وهل يستتاب فتقبل توبته إن تاب؟ هذا مبني على خلاف العلماء في قبول توبة الزنديق. والذي يُرَجَّحُ في هذا أنه لا تُقْبَلُ توبته ظاهراً، فإن كان صادقاً في الباطن فإنَّ الله - عز وجل - يقبل توبته، لكن ظاهراَ لا تُقْبَلُ توبته بل يجب قتله. وهذا هو الراجح وهو الصحيح، فيُقْتَلُ لما ادَّعَاهُ من النبوة ولو قال إني تبت ظاهراَ. وذلك لأنه قد يَدَّعِي ثانٍ وثالث ورابع وخامس كل يَدَّعِي النبوة والرسالة ثم يقول: تبتُ فيكون في ذلك خلل في الأمة. فإذاً الزنديق الذي يُظْهِرُ الكفر، يسب الله - عز وجل - أو يسب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو يَدَّعِي النبوة أو أشباه هذه الأشياء أو يَدَّعِي الوحي، فهذا يُقْتَلُ على كل حال ولا تقبل توبته. الجملة الأخيرة قال رحمه الله (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء) قوله (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى) يعني أنه صلى الله عليه وسلم هو المبعوث إلى الجن والإنس أجمعين. وبعثته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن جميعاً ذَكَرَ عدد من أهل العلم الإجماع عليها، فنُقل عن ابن عبد البر وعن ابن حزم في [الفِصَل] أنهم ذكروا الإجماع على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس، وذكرها تقي الدين السُبْكِي أيضا في رسالة خاصة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم. والدليل على ذلك - يعني على عموم بعثته - الدليل على قول المؤلف (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى) أدلة كثيرة من القرآن ومن السنة: فمن القرآن: 1 - الدليل الأول: قوله - عز وجل - {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، والإنذار بلغ الجن كما في آيات أخر، فإذاً هو نذير للجن وللإنس. 2 - الدليل الثاني: قوله - عز وجل - {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ، والعالَمُون اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، وخرج من ذلك الملائكة على الصحيح كما سيأتي، فيكون من العام المخصوص، والعام المخصوص دالّ على ما بقي بعد التخصيص كما هو معلوم، فيكون كل الجن والإنس داخلين في لفظ العالمين ولم يُستثنوا ولم يخرجهم دليل فيبقون داخلين في عموم النِّذارة. وهذا الدليل أعْتُرِضَ عليه بأن قوله - عز وجل - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لأنَّ هذا هو القرآن وليس هو بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وإنْ كان وجها لاحتمال رجوع الضمير في قوله (لِيَكُونَ) للقرآن في قوله في أوله (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ- يعني القرآن- لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) فهذا الوجه وإن كان محتملاً؛ لكنه خلاف الأَولَى، والأَولَى عند أهل العربية أَنَّ الضمير يرجع على أقرب مذكور وهو قوله {عَلَى عَبْدِهِ} ، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ -عبدُه- لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) . 3 - الدليل الثالث: قوله - عز وجل - في سورة الأحقاف {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29-30] ، إلى آخر الآيات. 4 - الدليل الرابع: قوله - عز وجل - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] يعني للجن وللإنس. 5 - الدليل الخامس: قوله - عز وجل - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1-2] ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس جميعاً دلَّت عليها هذه الأدلة. قال بعض العلماء إنها في القوة وفي عدم الاعتراض ممن خالف مُرَتَّبَة في قوتها بحسب ترتيب المصحف، فأقواها آية الأنعام، ثم آية الفرقان، ثم الأحقاف ثم الرحمن ثم آية الجن، وهذا وجيه. والأدلة من السنة أيضاً على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس كثيرة معروفة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعِثت للناس كافة) (2) على لغة من يُدخل الجن في لفظ الناس، وسيأتي زيادة بيان لذلك. وثبت أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال (بعثت للأحمر والأبيض) (3) قال بعض العلماء يدخل في قوله الأحمر الجن لأنهم مخلوقون من نار، والنار صائرةٌ إلى الحمرة أو لونها مائل إلى الحمرة. وغير ذلك من الأدلة التي تدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس. أما عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للإنس جميعاً، للناس جميعاً فثَمَّ آيات كثيرة. إذا تبين ذلك في معنى قول المصنف وفي دليله، وأنَّ هذه المسألة ذَكَرَ عليها غير واحدٍ الإجماع فثمَّ في هذه الجملة مسائل:   (1) سبق ذكره ص (89) (2) البخاري (335) / النسائي (432) (3) لم أجده بهذا اللفظ وإنما وجدت (بعثت إلى كل أحمر وأسود) وهو في مسلم (1191) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [المسألة الأولى] : أنَّ قوله - عز وجل - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام:130] قوله {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} هذا على جهة التغليب لأنَّ الجن والإنس اجتمعا في شيء وافترقا في أشياء. فاجتمعا في التكليف، فلذلك صحَّ أن يشتركا في التثنية {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} لاشتراكهما في أصل التكليف {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ِ} [الذاريات:56] والاشتراك في الجنس ولو اختلف النوع فإنه يُبقي الدلالة الأغلبية صحيحة. وقال بعض السلف: إنَّ الجن يكون منهم رسل. ولكن هذا القول ضعَّفَهُ جماعة كثيرون من أهل العلم من التابعين فمن بعدهم. قال ابن عباس رضي الله عنه (الرسل من الإنس ومن الجن النُّذُر) (1) . أخذ هذا من قوله تعالى {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] .   (1) تفسير ابن كثير (الأنعام:130) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 [المسألة الثانية] : أنَّ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قيل فيها إنها تشمل الملائكة، وذلك لعموم قوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وهذا ليس بجيد، هذا القول ليس بجيد؛ بل يترجح أنّه غلط وذلك لأمور: 1 - الأول: أنّ قوله - عز وجل - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} هذا فيه الإنذار، والملائكة مقيمون على عبادة الله - عز وجل - وعلى توحيده وعلى تسبيحه كما قال صلى الله عليه وسلم (أَطّتْ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ قائم أو مَلَكٌ سَاجِد أو مَلَكٌ راكع) (1) فالملائكة موحدون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، الملائكة عُبَّادْ لله - عز وجل -، الملائكة متقربون إلى لله - عز وجل -، ومن كانت هذه حاله فلا يصلح له الإنذار. ولهذا قوله - عز وجل - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ليس فيه دليل لمن ذهب إلى أنّ بَعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للجميع؛ لأن الآية فيها تعليق بالإنذار والملائكة لا يُنْذَرُون. 2 - الثاني: أنَّ الملائكة جنسُهم أو نقول منهم من أتى بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام، وأمَرَهُ أن يُبَلِّغها للناس، ودخول الآمِرْ في مثل هذا في الأمر يحتاج إلى دليل؛ لأنّ الأصل أنّ الآمِرْ إذا أَََمَرَ غيره فإنه لا يدخل في الأمر، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُعلن الرسالة للناس جميعا بل للثقلين، فإدخاله -إدخال جبريل- عليه السلام يحتاج إلى دليل. 3 - الثالث: أنّ الملائكة {يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5] ، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، وهم أنصار الأنبياء يُرْسِلُهُم الله - عز وجل - إليهم لنصرتهم وهم أولياؤهم، وهذا يدل على أنهم خارجون عن الاتِّباع؛ لأنهم لو كانوا تابعين لصارت نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مُتَعَيِّنَة بلا أمر لأجل عَقْدِ نُصْرَةْ الرسالة. قال هنا (المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّةِ الوَرَى) ، (وكَافَّةِ) هذه في إضافتها للورى - الوَرَى يعني الناس- صحيحة، وجاءت في لغة قليلة عن العرب، واستعملها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي صحيحة، خلافا لمن قال إنَّ (كَافَّة) لا تُسْتَخْدَمْ إلا منصوبة على وجه الحال - يعني أن تكون حالاً - كما قال - عز وجل - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبإ:28] فالأصل أن تكون منصوبة حال، ويجوز أو في لغة قليلة استُعْمِلَتْ مضافة. قوله (بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء) هذه الأربع أوصاف وأسماء للقرآن. وبهذا نختم هذا الدرس. أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. مباحث النبوة سبق أن ذكرنا لكم أنها لم تُجْمَع في كتاب عام لكل مباحث الأنبياء تعريف النبي والرسول والمعجزات والبراهين وختم النبوة والرد على المخالفين في كل ما يتعلق بالنبوات، ولا شك أنَّ الحاجة داعية إلى ذلك، فهذه مباحث قد لا توجد في كتاب مجموع، لهذا حبذا لو يتوجه إلى هذا البحث بجمع كل مسائل النبوة، بعض طلبة العلم حتى يكون تناوله يسيرا في أيدي إخوانهم من طلبة العلم. نكتفي بهذا القدر.   (1) الترمذي (2312) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الأسئلة : س1/ ما حكم تكفير الكافر المعين والحكم عليه بالخلود في النار بعد الممات، وما معنى قول أهل السنة ولا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له، إلى آخره؟ ج/ الجواب: أنَّ قول أهل السنة ولا نشهد لأحد بجنة ولا بنار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني من هذه الأمة من المنتسبين للقبلة، أما المشرك الأصلي أو الكافر اليهودي أو النصراني فإنه يستصحب الأصل الذي كان عليه؛ فإذا مات على الكفر فإننا نقول هو كافر ومات عليه وهو من أهل النار، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) (1) أبشر بالنار، هذا لا يدخل في قول أهل السنة لأنَّ المقصود من ذلك أهل القبلة، لا نشهد لمعين بجنة من أهل القبلة ولا لمعين من أهل القبلة بنار، إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم في الذين يدخلون الجنة وفي الذي غلّ وفي الذي قتل نفسه؛ وجَعَ نفسه بحديدة ونحو ذلك، من شهد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنار من أهل القبلة فنشهد عليه بالنار وأما المشركون والكفار من أهل الكتاب فلا كرامة لهم فإذا ماتوا شهدنا عليهم بالنار وكفَّرْنَاهم في حياتهم وبعد مماتهم، ولا يقال في حقهم لا نكفر إلا من بلغته الحجة أو لا نشهد عليهم بالنار إلا من قامت عليه الحجة ونحو ذلك، كما بينا ذلك مرة في هذا المسجد حينما رددت على صاحب مقالة كفرية. س2/ هل الملائكة أفضل أم الأنبياء؟ ج/ يأتينا البحث مطولا إن شاء الله في آخر العقيدة الطحاوية، والجواب باختصار الأنبياء أفضل من الملائكة. س3/ هل يُقال أن أفضل الصحابة أبو بكر وأفضل أمة محمد عيسى عليه السلام؟ ج/ الجواب أنَّ عيسى عليه السلام نبي من الأنبياء ومن أولي العزم من الرسل، وأيضا يصدق عليه حد الصحابي، ولذلك يُلْغِزُ بعض العلماء يقول مَن مِن هذه الأمة من هو أفضل من أبي بكر؟ فيقال عيسى عليه السلام، من جهة أنه لقيه، لقي النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به وآمن به وإذا نزل يكون مؤمنا وحاكما بشريعة محمد. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) ابن ماجه (1573) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. الأسئلة: س1/ ما هو الفرق بين الفعل لله والصفة لله، ما هو الفرق بين الاسم والمسمّى مع الأمثلة؟ وحبذا ذِكر المرجع الذي تكلم عن هذه المسألة؟ ج/ الجواب: الفرق بين أفعال الله وصفاته أنَّ الأفعال مشتملة على صفة وعلى زمن؛ لأنَّ الفعل يشتمل على حدث وعلى زمن، والحدث هذا وصف، ولما كان كذلك كان الفعل المضاف إلى الله - عز وجل - لا يدلّ على الصفة التي اشتمل عليها هذا الفعل بإطلاق، بل قد يوصف الله - عز وجل - بها وقد لا يوصف؛ لأنّ باب الأفعال أوسع بمن باب الصفات. مثاله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] ، فاستواء الله - عز وجل - صفة أخذناها من فعل استوى؛ لأنَّ استوى مشتمل على حدث وهو الاستواء (الصفة) ، ومشتمل على زمن وهو الماضي، ويُثبَتْ الاستواء هنا صفة لله - عز وجل - كما يليق بجلاله وبعظمته لأنه متضمن كمالا، فيقال من صفات الله الاستواء على العرش. مثال الثاني {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] ، (يَمْكُرُ اللَّهُ) هذا فعل مضارع مشتمل على حدث على صفة وهو المكر؛ يعني على مصدر وهو المكر، ومشتمل على زمن وهو المضارع؛ لكن لا يقال هذا الفعل يدلّ على إثبات صفة المكر؛ لأنّ صفة المكر ليست دائما صفة كمال، فلهذا قال أئمة أهل السنة رحمهم الله تعالى: إنَّ باب الأفعال أوسع من باب الصفات؛ فقد يضاف الفعل إلى الحق - عز وجل - ولا تُثْبَتُ الصفة التي تضمنها هذا الفعل، كما أنَّ باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ فقد تطلق الصفة على الله - عز وجل - ولا يطلق الاسم. من مثل الاستواء والمستوي، وممثل المكر بحق والماكر وأشباه ذلك. إذاً ثَمّ فرق بين أفعال الله - عز وجل - وبين صفاته من هذه الجهة. أما من جهة قيامها جميعا بالله - عز وجل - فالصفة قائمة بالله - عز وجل - ولها أثر في الخارج، لها أثر مثل صفة الخلق لها أثر في المخلوق، صفة الرحمة لها اثر في المرحوم، وهكذا، والفعل في تعقله بالله - عز وجل - قد يكون متعديا وقد يكون لازما. وللمسألة مزيد تفصيل المقصود أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وأنه لا يطرد القول بالمساواة بيت الفعل القائم بالله - عز وجل - وبين الصفات القائمة بالله - عز وجل -. س2/ما هو الفرق بين الاسم والمسمى؟ الاسم والمسمى إذا اجتمعت فيُعْنَى بها بحث كلامي بحث عند أهل الكلام ودخل فيه أهل السنة رداً على أهل الكلام وبيانا للحق فيها، وإلا فبحث الاسم والمسمى ليس من البحوث الموجودة في الكتاب والسنة ولا في كلام الصحابة رضوان الله عليهم، وإنما الكلام فيها حادث؛ لكن جرّ إلى الكلام فيها أنَّ المعتزلة خاضوا في ذلك توطئةً لنفي الصفات ولتحريف الأسماء لله - عز وجل -. وتلخيص المسألة: أنّ الاسم مثل: الرحمن، الرحيم، الكريم، ونحو ذلك، المسمى بهذا الاسم هو الله - عز وجل -، محمد المسمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكأس اسم المسمى هو هذا الذي ترى. فإذاً الاسم دلالة عامة والمسمى انطباق هذا الاسم على العين أو على الذات. إذا تبين ذلك، فإن المسألة التي اختلفوا فيها هي: قولهم هل الاسم عين المسمى أم أنَّ الاسم غير المسمى؟ وهذه المسألة مبسوطة وطويلة الذيول؛ لكن اختصار القول فيها أنَّ مذهب الأئمة أنَّ الاسم لا يطلق القول بأنه عين المسمى ولا أنه غير المسمى؛ بل المسألة فيها تفصيل في دلالة الاسم على المسمى وأنَّ الأسماء مختلفة؛ لأنّ كل اسم يدل على المسمى وزيادة صفة، فهو يدل على الذات ويدل على الصفة التي تضمنها هذا الاسم، كما ذكرنا لكم الرحيم تدل على ذات الله - عز وجل - المتصفة بالرحمة، والذين قالوا إن الاسم هو عين المسمى جعلوا أنه لا فرق بين الأسماء في دلالتها على المسمّى فجعلوا العليم هو الرحيم مطابقة، وجعلوا الملك هو الودود، ونحو ذلك، بدون تفرقة بين الاسم والصفة، يعني جعلوا أنَّ الأسماء دالة على الذات كما قال المعتزلة عليم بلا علم، رحيم بلا رحمة، وهكذا وهلم جرّاً. والمسألة فيها طول لكن هذا بيان لأصلها. س3/ يتعرض كثير من الشباب لبعض الشبهات من خلال دراسته للعقيدة والفِرَقْ، أرجو حل هذه المشكلة كيف يتعامل الشخص مع هذه الشبهات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ج/ لاشك أن هذا داء وكثير من المسائل يرغب المُعلِّم ربما في تفصيلها للخاصة من طلاب العلم، لكن لأجل حضور من ليس مستواه مهيئا لتلقي العلم العالي فإنه يُحجم، فذِكْرُ المسائل العقدية وذكر التفصيل وكلام أهل الفرق والشبهة وردها حقيقة في الأصل أنه لا يناسب المبتدئ في طلب العلم بل لابد أن يتلقاه من علم أصول أهل السنة والجماعة وفهم مذهبهم وطريقتهم وسنتهم في ذلك بعد قراءته الكتب الأولى، لهذا نوصي دائما بالمنهجية، إذا علم مذهب أهل السنة والجماعة من خلال مثلاً لمعة الاعتقاد كمنهج عام في تقرير مسائل الإيمان بأجمعها؛ عرف مذهبهم في الإيمان، مذهبهم في الصفات، مذهبهم في الأسماء، في القدر، في الغيبيات، في الصحابة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في ولاة الأمر، وهكذا المسائل التي يعرضونها، في القدر، في اليوم الآخر، فيما يُعْرَضْ، عَلِمَ قول أهل السنة، بعد ذلك ينتقل إلى مرحلة تلي ذلك؛ حتى لا يطَّلِع على بعض الشبهات فيظن أن هذه مؤثرة على مذهب أهل السنة والجماعة، فيُعْرَضْ له شيء من التفصيل من الزيادة بقول أهل البدع مع الرد عليهم، ثم يترقى حتى يتوسع في ذلك. فلهذا من رأى أن حضوره لمجالس العلم التي فيها تفصيل يورد عليه الشبهات فينبغي له أن لا يحضر وأن يبتدئ العلم من أوله وأن لا يعرض نفسه للشبهة لأن الشبهة ربما استحكمت فأثرت س4/ هل الرافضة والجهمية ليستا من الاثنين والسبعين فرقة وكيف؟ ج/ أما الجهمية فأهل السنة جميعا على أنهم ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة ليسوا من فرق الأمة. وأما الرافضة فجمهور أهل السنة على خروجهم من الثنتين والسبعين فرقة، والمقصود من الرافضة الغلاة؛ غلاة الشيعة الذين يلعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، والذين يتدينون بسب الصحابة ويُبْغِضُون بعض أمهات المؤمنين ويقذفون عائشة ونحو ذلك، من معتقداتهم المعروفة. س5/ ما حكم قول البعض شاءت الأقدار، ساقته الأقدار، اقتضته حكمة الله، شاءت إرادة الله، ونحو هذه العبارات؟ ج/ شاءت الأقدار، الأقدار جمع قدر، والقدر تبع المقدِّر وهو الله - عز وجل -، والذي يشاء القدر هو الله سبحانه وتعالى، فقول القائل شاءت الأقدار وأشباه ذلك، فإنّ هذا غلط لأن الأقدار ليس لها مشيئة، المشيئة لله - عز وجل - هو الذي شاء القدر وشاء القضاء سبحانه وتعالى. وساقته الأقدار هذه محتملة، محتملة لهذا وهذا، وتجنبها أولى. اقتضت حكمة الله، هذه صحيحة لا بأس بها استعملها أهل العلم؛ لأن الاقتضاء خارج عن الشيء؛ يعني حكمة الله نشأ عنها شيء هو مقتضاها، اقتضت حكمة الله أن يكون كذا وكذا؛ يعني من القضاء الذي حصل؛ يعني أن ما حصل موافق لحكمة الله - عز وجل -. شاءت إرادة الله، هذا أيضا مثل ما سبق فإنّ الإرادة الكونية هي المشيئة، فقول القائل شاءت إرادة الله كقوله شاءت مشيئة الله وهو تكرار لا وجه له. ونرجئ بقية الأسئلة إلى وقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله، منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً، وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً، وَصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حَقًّا، وأَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوقٍ ككلام البَرِيَّةِ، فمن سمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر]   هذه الجمل من كلام الطحاوي رحمه الله اشتملت على: - تقرير قول السلف وأئمة الحديث والسنة وأهل السنة والجماعة والأثر في مسألة القرآن وكلام الله عز وجل. - وأنّ القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. - وأنّ القرآن ليس بمخلوق. - وأنّ من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر. - وأنّ من زعم أن القرآن كلام البشر فهو كافر لتواتر كلام (1) . : [[الشريط الثامن]] : الله - عز وجل - على ذلك بقوله {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] . وهذه المسألة وهي مسألة القرآن وكون القرآن كلام الله - عز وجل - منزل غير مخلوق، هذه أكبر المسائل التي اختلف فيها المنتسبون إلى القبلة. ولأجلها وكثرة الكلام فيها سُمِّي أهل الكلام بأهل الكلام. فهي مسألة شرَّقت وغرَّبت في القرن الثاني الهجري، وكثر الكلام فيها وإثبات ذلك ونفيه؛ يعني إثبات أنَّ القرآن كلام الله وأنَّ الله يتكلم حقيقة وما أشبه ذلك، والكلام في نفي ذلك، حتى صارت عنوانا على الانحراف في التوحيد بما سمي بعلم الكلام. ومذهب أهل السنة والجماعة الذي دلّت عليه النصوص من القرآن والسنة ودل عليه إجماع سلف هذه الأمة هو ما ذكره الطحاوي فيما سمعت وهو قوله (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله، منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً، وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً، وَصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حَقًّا) . وهذه الجمل إلى آخرها اشتملت على مسائل؛ يعني اشتملت على موضوعات: 1 - الموضوع الأول: أنّ القرآن كلام الله. 2 - الموضوع الثاني: أنه ليس بمخلوق. 3 - الموضوع الثالث: أنَّ من زعم أنَّ القرآن كلام البشر فهو كافر. الموضوع الأول هي قوله (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله ... ) إلى آخره، هذه نذكر فيها بعض التعريفات المهمة لتصورها ولتصور مذهب أهل السنة والجماعة فيها: أولا قوله (القرآن) بل قبل ذلك نقول قوله (وإِنَّ القرآنَ) هذه الكلام في كسر همزة (إِنَّ) كالكلام في كسر الهمزة قبلها في قوله (وإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى) يعني: نقُولُ في تَوحيدِ الله: إِنَّ القرآنَ كَلامُ الله لأنّ توحيد الله هو الإيمان، والكلام في القرآن كلام في ركن من أركان الإيمان وذلك أنَّ الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه. فالكلام في القرآن وأنه كلام الله كلامٌ في التوحيد؛ في توحيد الله تعالى. * التعريفات: قال (وإِنَّ القرآنَ كَلامُ الله) القرآن في اللغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآناً، فالقرآن مصدر قرأ، كما قال الشاعر في وصف عثمان رضي الله عنه: ضَحَّوا بِأَشْمَطَ عُنوانُ السُّجُودِ بِهِ ****** يُقَطِّعُ الليل تسبيحاً وقرآناً يعني قراءة، رضي الله عنه. وأما في الاصطلاح: فالقرآن اسم لكل كتاب يُتلى أنزله الله - عز وجل - على نبي من أنبيائه. وذلك يدل على أنّ تخصيص القرآن بالاسم بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كتخصيص الدين الذي أنزل عليه بالإسلام. فالقرآن هو الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ الإسلام هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنْ اشْتَرَكَ في الإسلام دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وكذلك القرآن. دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه وصح (ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يقرأ القرآن يجهر به يتغنى به) (2) فدَلَّ هذا على أنَّ قِراءة النبي لما أنزل عليه والتغني بذلك على أن هذه القراءة للقرآن كما نصَّ عليه الحديث. وهذا موافق لقولهم لأنَّ أصل كلمة قرآن مصدر لـ قَرَأَ يَقْرَأْ قراءة وقرآناً، لكن هي لما فيه شرف ومنزلة. (كَلامُ الله) هذا اللفظ الثاني، كلام الله هو صفة من صفاته. والكلام أصله في اللغة: ما سُمِعَ من الأقوال وتَعَدَّى قائله. وهذا مأخوذ من اشتقاق المادة أصلاً، مادة (الكاف واللام والميم) . فإنَّ (كَلَمَ) هذه تدل على قوة وشدة في تصريفاتها وتفريعاتها في لغة العرب كما حرَّرَ ذلك العلامة ابن جني في كتابه (خصائص اللغة) . وهذا يدل على أنَّ حديث النفس لا يسمى في اللغة كلاماً، وعلى أنَّ القول الذي يسمعه صاحبه دون غيره -يعني ما يجريه على نفسه- لا يسمى كلاماً - يعني في اللغة -، أو يحرك به لسانه لا يسمى كلاماً حتى يُسمِعَ غيره. وهذا يدل عليه من حيث الاشتقاق الأكبر والأوسط أنَّ هذه الأحرف الثلاثة هذه (كَلَمَ) حيثما فَرَّقْتَهَا لا تدل على خفاء ولا تدل على لين ولا تدل على رخاوة؛ بل هي تدل على قوة وصلابة وشدة. فخذ مثلا كَلَمَ بمعنى جَرَحَ. وكَلَّمَ بمعنى تحدّث. وقلب هذه الكلمة مَلَكَ فيه قوة. ولَكَمَ فيه قوة. وكمُلَ فيها قوة. فحيث تَصَرَّفت هذه المادة وقَلَّبْتَهَا مُسْتَخْدِمَاً الاشتقاق الأكبر أو الاشتقاق الأوسط فإنَّ هذا يدل على قوة وشدة، ولا يدل على خفاء ورخاوة ولين، وهذا أصل مهم في هذا الباب في فهم معنى الكلام لغة. وسيأتي مزيد تفصيل عند الرد على قول الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة. قوله (كَلامُ الله) الكلام صفة من صفات الله وإضافته إلى الله - عز وجل - هنا إضافة صفة إلى متصف بها. والذي جاء في القرآن والسنة أنَّ ما يضاف إلى الله - عز وجل - نوعان: 1 - النوع الأول: إضافة مخلوقات إلى الله سبحانه، أعيان قائمة بنفسها، وهذا كإضافة البيت (بيت الله) ، وإضافة الناقة {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] ، وإضافة العبد {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:19] ، وكل هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ولكن هذه الإضافة لتخصيصها بالله - عز وجل - تدل على شرف المضاف إلى الله - عز وجل - -، يعني على شرف البيت، شرف الناقة، شرف محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - النوع الثاني: معاني وليست بأعيان، معاني لا تقوم بنفسها،مثل الرحمة لا يوجد أمامنا شيء يسمى رحمة مستقل عن من يقوم به، لا يوجد عندنا شيء يسمى كلام مستقل عن متكلم أو سامع، هذه المعاني والصفات إذا أُضيفت إلى الله - عز وجل - فإنها إضافة صفة إلى متصف بها، وهذا أخذ بقواعد اللغة العربية. قال بعدها (منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) هذه الكلمة (منْهُ بَدَا بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) أوردها لاستعمال طائفة من أئمة أهل السنة والحديث والأثر لهذه الكلمة، وهو أنهم قالوا: القرآن كلام الله مُنَزَّلٌ غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فاستعملها كما استعملها الأئمة من قبله. قوله (منْهُ بَدَا) بدأ منه، (مِنْ) هنا ابتدائية. و (مِنْ) لها استعمالات كثيرة في اللغة، ومنها أن تكون للابتداء، وقد جمع الناظم في حروف المعاني، جَمَعَ معاني (مِنْ) في اللغة العربية،جمعها في اثني عشرة معنى، وهي تزيد عن ذلك فقال: أتتنا من لتبيين وبعض ****** وتعليل وبدءٍ وانتهاء وزائدة وإبدال وفصل ****** ومعنى عن وعلى وفي وباء فأول معاني (من) التبيين ثم التبعيض والتعليل والبدء، هذه رتبها. ومعنى (من) الابتدائية أن يكون الفعل بدأ من المُسْنَدِ إليه. وقوله هنا (منْهُ بَدَا) يعني أنه ابتدأ من الله - عز وجل -، يعني من الله ابتدأ. فيعني بـ (مِنْ) أن ابتداءه كان من الله - عز وجل -. وهذا دلت عليه آيات كثيرة كقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، وكقوله {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وغير ذلك كما سيأتي بيانه. قوله (بَدَا) هكذا بلا همز (منْهُ بَدَا) تفسيرها يعني ظهر، (منْهُ بَدَا) يعني كان ابتداء ظهوره وخروجه من الله - عز وجل -. ويقال فيها أيضا (منْهُ بَدَأَ) ، بَدَأَ بالهمز يعني به الابتداء، منه ابتدأ، وأن الله سبحانه هو الذي بدأه، لم يُبْتَدَأْ تنزيله من غير الله - عز وجل -؛ بل نَزَلَ من الله ابتداءً. قال (بلاَ كَيْفِيَّة قَوْلاً) تقدير الكلام أو سياق سبر الكلام؛ المراد منه: منه بدا قولاً بلا كيفية. يعني منه بدا؛ لم يبتدئ منه معناً ولكن بدأ منه قولاً، ظَهَرَ وخَرَجَ القرآن منه قولاً. فهو كلامه وقد ظهر وخرج أو ابتدأ منه قولاً. ففي قوله قولاً إخراجٌ لمن ادعى أنه معنى من المعاني جُعِلَ في نفس جبريل. قوله (بلاَ كَيْفِيَّة) يعني بلا كيفية معقولة، وإلا فإنَّ كلام الله - عز وجل - لاشك أنَّ له كيف ولكن الكيف غير معقول. فيَصْدُقُ على هذا قول الإمام مالك في الاستواء: إنّ الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول. قال (وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) (أنْزلَه) يعني الإنزال من الله - عز وجل -. والإنزال في القرآن والسنة جاء على نوعين: 1 - النوع الأول: إنزال مطلق وهذا يكون من الله - عز وجل -، وقد يُذْكَرْ من الله وقد لا تُذْكَرْ فيكون الإنزال المطلق من الله - عز وجل -. 2 - النوع الثاني: أن يكون إنزالاً مقيداً؛ يعني أنه يُقَيَّدُ ابتداء الإنزال من شيء مخلوق، {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ} [ق:9] ، فصار هنا ابتداء الإنزال أو التنزيل من السماء، ونحو ذلك من الآيات التي فيها التنزيل المقيد. إذاً قوله (وأنْزلَه على رَسُولِهِ) هذا لأجل أنّ الآيات فيها ذكر التنزيل، والتنزيل مطلق منه - عز وجل -، كقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، وكقوله {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] . وفي آية الشعراء هذه قوله (عَلَى قَلْبِكَ) لأنَّ القلب به تتميز المُدْرَكَاتْ المسموعة أو المُدْرَكَاتْ المرئية أو المُدْرَكَاتْ المعقولة، فذِكْر القلب في آية الشعراء لأجل تمييز المُدْرَكَاتْ بأنواعها؛ تمييز المسموعة عن المسموع، وتمييز المرئي عن المرئي، وتمييز المعقول عن المعقول وهكذا. وكذلك قوله {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وكذلك قوله {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ، والآيات في هذا الباب كثيرة متنوعة. قال (وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) والوحي هنا المقصود به أنَّ الإنزال كان وحياً. (أنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) أُوحِيَ على محمد صلى الله عليه وسلم. والوحي في اللغة -يعني تعريف الوحي في اللغة-: إلقاء الخبر أو العلم في خفاء وسرعة. ولهذا سُمِّيَت الكتابة وحياً وسُمِّيَت الإشارة وحياً، وهكذا، وهذا بحث معروف في اللغة واضح. والوحي من جهة الاصطلاح: اختلفت التعاريف فيه بحسب اصطلاح مذهب القائل. ولهذا تجد في كثير من كتب التفسير تعريف للوحي لا ينطبق على مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الكلام، وربما نقله من لا يحسن. فإذاً لابد من معرفة تعريف الوحي في الاصطلاح - يعني عند أهل السنة والجماعة -. فعُرِّف الوحي اصطلاحاً عند أهل السنة والجماعة: هو إِعلامُ النبي بشيء إما بكتاب أو برسول أو بمنام أو بإلهام. وفي كلٍ مِنْ هَذِهِ خلاف لبعض المخالفين. قال (وَصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حَقًّا) يعني آمن به المؤمنون. قال (وأَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة) قوله هنا (أَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة) استعمل لفظ (بالحقيقة) ردًّا على قول من قال إنه كلام الله تعالى مجازاً كما هو قول المعتزلة وغيرهم. هذا من جهة استعمال لفظ الحقيقة بما اسْتُعْمِلَتْ فيه عند أهل هذه البحوث. قال (ليس بمخلوقٍ ككلام البَرِيَّةِ) يعني أنَّ الله سبحانه تكلم بهذا الكلام وهو صفته ليس بمخلوق؛ بل هو وحي منزل،كلام الله - عز وجل - صفته، وأما المخلوق فهو كلام البرية. إذا تبينت لك هذه التعاريف سنقف عند هذا، ونرجع إلى تقرير ما اشْتَمَلَتْ عليه. هذه الجمل فيها تقرير: - أنّ القرآن كلام الله - عز وجل -. - وأَنَّهُ منه بدأ. - وأَنَّهُ وحي. - وأَنَّهُ كلامه حقيقة. - وأَنَّهُ ليس بمخلوق. وهذه المسائل التي ذُكِرَتْ هي التي قررتها الأدلة في الكتاب والسنة بحيث إنه من نَظَرَ فيها أيقن أَنّ كل قول خلاف هذا القول فهو باطل. ولبيان ذلك سنقول: الكلام على ما اشتمل عليه كلامه السابق ينتظم في مسائل:   (1) انتهى الشريط السابع. (2) البخاري (7544) / مسلم (1883) / أبو داود (1473) / النسائي (1017) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 [المسألة الأولى] : نشأة القول بخلق القرآن أو أنَّ كلام الله مجاز وأشباه ذلك؛ ما منشأ القول بهذه المسألة؟ ولم خالف المخالفون في ذلك؟ من المعلوم أنَّ أول من تَكَلَّمَ في هذه المسألة هو الجعد بن دِرْهَمْ وضُحِّيَ به؛ ضَحَّى به خالد القسري، وكان يقول إنَّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، كما رواه البخاري في خلق أفعال العباد. هذه المسألة تطورت عند الجهمية وعند جهم بخصوصه فَأَصَّلَ لها أصلاً. وهو أنه نظر في أصل الدين فوجد أنه مبني على إثبات وجود الله - عز وجل - -وانتبه! معي في سياق ما أذكرباختصار- نظر أنَّ أصل الدين مبني على إثبات وجود الله - عز وجل -. وقد ابْتُلِيَ هو بطائفة من منكري وجود الإله ـ، وحَيَّرُوهْ فيما أوردوا عليه من الأسئلة. فقالوا له: أقم لنا برهاناً عقلياً على أَنَّ الله ـ أو على أنَّ هذا الخَلْقَ له رب وله خالق وأنه موجود. فتحير ونظر في هذه المسألة، ثم قال لهم: وجدتها. فأقام البرهان بما يسمى عند أهله بحلول الأعراض في الأجسام. وهو أصل الانحراف في مذهب الجهمية ثم المعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية. ولهذا السلف يَنْسِبُونَ كل من انحرف في الصفات إلى جهم فيقولون هو جهمي؛ لأنَّه ما انحرف إلا بموافقته لجهم في هذا الأصل الذي أصَّلَهُ وانحرف به عن منهج السلف. وهذه المسألة أو هذا البرهان الباطل - هو ليس ببرهان بل هو دليل باطل - قال في تقريره: إنَّ الجسم تحُلُّ فيه الأعراض -الجسم هو المتحيز: كتاب متحيز، كرسي متحيز، مبنى متحيز، إلى آخره- الأجسام تحل فيها الأعراض. والأعراض مثل البرودة، الحرارة، مثل الارتفاع، الانخفاض، مثل الطول العرض العمق، مثل الحركة فيه والتحرك إلى آخره، هذه الأشياء مَعْلُومٌ أنها لا توجد بنفسها وإنما وُجِدَتْ بالجسم. والجسم حَلَّتْ فيه هذه الأعراض دون اختياره، فبهذا صار هذا الجسم جسماً محتاجا إلى العَرَض، لأَنَّ العرض وحده لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالأجسام. وحلول الأعراض بالأجسام دلَّ على أنَّها مخلوقة وعلى أنَّهَا محتاجة لهذه الأشياء التي تميزها عن غيره وتصلح معها للوجود. فلهذا صار الجسم قابلاً لحلول الأعراض فيه. وصار إذاً الجسم محتاجاً لغيره فصار إذاً مخلوقا مُوجَدَاً. إذا تبين هذا، قالوا له هذا دليل صحيح في أنَّ الجسم لم يُوجِدْ نفسه - يعني الجسم المعين، العين المعينة هذه - لم يوجد نفسه وأنه موجود واقتنعوا بهذا البرهان مع أنه في حقيقته غير مقنع وغير مستقيم، فأثبت لهم وجود خالق، وجود رب لهذه الأشياء. فلما نظروا في هذا قالوا له: هذا دليل صحيح، فصِفْ لنا ربك. كان جهم فَقِيْهاً عنده علم بالكتاب والسنة، ولما سألوه هذا السؤال، نظر في الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة فتحيّر في أنّه لو أثبت هذه الصفات لعادت على هذا الدليل الذي لم يجد غيره في إثبات وجود الله عادت عليه بالإبطال. لأنه وَجَدْ في الكتاب والسنة أنَّ من الصفات الاستواء، من الصفات العلو، من الصفات الرحمة، من الصفات الانتقام، من الصفات الإعطاء، من الصفات الغضب، من الصفات الرضا إلى آخره، وهذه كلها معاني لا تقوم بنفسها، وهي تأتي وتذهب يعني من حيث هي. فلهذا قال إنه لو قال لهم إنَّ صفات الرحمن - عز وجل - هي التي جاءت في الكتاب والسنة على ظاهرها فإنه يعود إلى أن سيقال له: إذاً فالذي يتصف بهذه الصفات هو محتاج، إذاً هو مثل الجسم فهو جسم كالأجسام. فلهذا قال لهم إنَّ الله سبحانه لا صفة له إلا صفة الوجود المطلق. وعلى هذا الأصل مشى جهم في نفي الكلام ونفي جميع الصفات، حتى أسماء الرحمن - عز وجل - يفسرها بالآثار المخلوقة. جاء بعده المعتزلة فقالوا هذا البرهان صحيح، ولكن ثمّ صفات دلّ عليها العقل لا يمكن أن يكون الرب - عز وجل - موجوداً دون هذه الصفات. جاء الأشاعرة وقالوا كلام المعتزلة صحيح لكن الصفات أكثر من الثلاث التي أثبتها المعتزلة فهي سبع وتؤول إلى عشرين عندهم. بعد ذلك جاء الماتريدية وقالوا الصفات ثمان، لابد من زيادة على السبع صفة التكوين وهكذا. إذاً منشأ الضلال في هذه المسألة هو هذا البرهان الباطل على وجود الله - عز وجل - الذي جعل فيه دليل الأعراض هو الدليل على حدوث الأجسام، ومنه أبطل وصف الله - عز وجل - بصفاته ونفى الكلام. ولهذا مسألة الكلام هي أعظم المسائل التي بُحِثَ فيها لأنه ورثها جهم من الجعد بن درهم وكانت أصل المسائل التي يفكر فيها من جهة الصفات، فلما أقام برهانه صارت هذه المسألة أو هذه الصفة من أوائل الصفات التي نفاها لأجل إقامة برهانه واستقامته. إذا تبين لك ذلك فثَمَّ تعبيرات مختلفة عن منشئ الضلال في هذه المسألة-وكلها حق-: فتارة تجد من يقول إنَّ منشأ الضلال هذه المسألة هو أنَّ إثبات صفة الكلام يستلزم التجسيم، وهي راجعة إلى ما ذكرنا. ومنهم من يقول إنَّ صفة الكلام المضافة إلى الله صفة تشريف يعني إضافة تشريف لا إضافة صفة إلى موصوف. وهذان القولان هما اللذان ذكرهما الشارح ابن أبي العز في هذا الموضع - يعني شبهة الذين قالوا إنَّ كلام الله - عز وجل - مخلوق -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 [المسألة الثانية] : أنّ الناس اختلفوا في مسألة الكلام هذه إلى أقوال كثيرة يهمك منها عدد -يعني لا نستوعب الأقوال لأنها طويلة وبعضها لا فائدة منه-: 1 - المذهب الأول: قول أهل السنة والجماعة وهو الذي سمعت؛ وهو: - أنَّ القرآن كلام الله - عز وجل - سمعه منه جبريل فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم فسمعه منه محمد صلى الله عليه وسلم وأسمعه الناس وتلاه عليهم. - وأنه منه بدأ - عز وجل - وإليه يعود. - وأنَّ كلام الله ـ يُسْمَعْ، وإذا كان جبريل قد سَمِعَهْ ونَزَّلَهْ فإذاً هو صوت، سمعه بصوت وليس معناً قُذِفَ في داخل جبريل أو أَخَذَهُ من اللوح المحفوظ. - وأنَّ كلام الله سبحانه هو كلامه حيث وُجِدْ، وأنه إذا تُليَ فالكلام كلام الباري والصوت صوت القاري، فهو كلامه الموجود في المصاحف، وهو كلامه الموجود الذي يسمع في تلاوة التالي، وهو كلامه الذي يُسْتَدَلُ به إلى آخره، لا يخرج من هذه الحالات عن كونه كلام الله - عز وجل -. وهذا هو الذي قُرِّرْ في هذا الموضع من الطحاوية. 2 - المذهب الثاني: مذهب الجهمية وهو أنَّ الله سبحانه لا يوصف بكلام أصلاً وليس بمتكلم ولا بذي كلام، فيُسْلَبُ عنه هذا الوصف، ويُفَسَّرْ الكلام بمخلوق منفصل يقال له كلام. فَخَلَقَ الله هذا القرآن وسمَّاهُ كلاماً له، فيكون كلام الله - عز وجل - خَلْقَاً من خلقه. 3 - المذهب الثالث: مذهب المعتزلة وهو شبيه بمذهب الجهمية إلا أنهم قالوا إنَّ القرآن مخلوق خَلَقَهُ الله - عز وجل - في نفس جبريل، فعبّر به جبريل أو نَقَلَ جبريل ما خُلِقَ في نفسه، فهو مخلوق في نفس جبريل، وكلام الله - عز وجل - يُخْلَقْ في أحوال مختلفة؛ من جهة كلام موسى خُلِقَ في الشجرة ويُخلق في كذا، ويُخلق في كذا إلى آخر قولهم. فإذاً يتفقون على أنه مخلوق مع الجهمية ويجعلون زيادة عليهم أنه مخلوق في موضع يناسبه. وهذا منهم فقه أعظم من فقه جهم؛ لأنه حتى لا يُعَارَضْ عليهم بأنَّ القرآن تنزيل وأنه أُنْزِلْ، فقالوا إنه أُنْزِلَ ولكنه خُلِقَ في نفس جبريل أو في رُوع جبريل. 4 - المذهب الرابع: هو مذهب الكُلاّبية أتباع ابن كلاب؛ بل مذهب ابن كلاب نفسه وأتباعه من الأشاعرة وغيرهم، وهو أنَّ كلام الله - عز وجل - مَعْنَىً واحداً وكُتُبُ الله تعبير عن هذا المعنى الواحد فتارة يُعَبَّرُ عنه بالعربية فيسمى قرآن وتارة يُعَبَّرُ عنه بالسريانية فيسمى إنجيل وتارة يُعَبَّرُ عنه بالعبرانية فيسمى توراة، وهكذا. فإذاً هو معنى وليس ثَمَّ صوت يُسْمَعْ ولا كلام حقيقة، ولكنه معنىً قائم بنفس الرب - عز وجل - ألقاه في روع جبريل فنزل به جبريل، عَبَّرَ عنه جبريل بهذه التعبيرات المختلفة. 5 - المذهب الخامس: هو مذهب الفلاسفة وطائفة من الصوفية، وهو أنّ كلام الله - عز وجل - هو ما يُفاضْ أو ما يُفِيضُهُ على النفوس من المعاني الخيّرة، معاني الحكمة، وهذه الإفاضة قد تكون مباشرة منه إلى العقل الفَعَّالْ -عندهم-، والعقل الفَعَّالْ يفيضه على النفوس حسب استعداداتها، وقد تكون هذه الإفاضة منه - عز وجل - مباشرة على قلب الرجل، كقول طائفة من الصوفية، وقد تكون هذه الإفاضة في وقائع مختلفة. المقصود من هذا تقريب للمذاهب المشهورة في هذه المسألة، وإلا فثَمَّ مذاهب أخرى لهذه المسألة، وكما ذكرت لك فإن هذه المسألة من كُبْرَياتْ المسائل التي تكلم فيها الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 [المسألة الثالثة] : أدلة أهل السنة والجماعة على قولهم وردّ استدلال المخالفين، بل أولاً أدلة أهل السنة والجماعة على قولهم. فكما سمعت المسألة فيها أشياء: - ففيها أنَّّ القرآن كلام الله وهذه أدلتها كثيرة معلومة لكم، ومنها قوله - عز وجل - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] . وقوله (منْهُ بَدَا ... قَوْلاً) هذا دليله قوله - عز وجل - {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، وقوله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42] ، قال {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ثم وَصَفَهْ، ثم قال {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . * ولهذا حَرْفْ (مِنْ) هذا من الأحرف المهمة في تقرير العقائد السلفية، فينبغي لطالب العلم أن يعتني به في كتب النحو وكتب المعاني؛ لأنه يفيد فيما ذكرنا في مواضع كثيرة، يفيد في هذا الموضع وفي غيره من المواضع. قال (بلاَ كَيْفِيَّة) يعني أَنَّ الكيف غير معقول، وهذا يدل عليه قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . (وأنْزلَه على رَسُولِهِ وَحْياً) يعني أنّ القرآن وحي وهذا أمر ظاهر متواتر معروف للجميع. قال (وأَيْقَنُوا أنَّه كلامُ الله تعالى بالحقيقة) هذه الكلمة دليلها قوله - عز وجل - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، فتكليم موسى أُكِّد بالمصدر فقال (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) قال علماء العربية إنَّ تأكيد الفعل بالمصدر يدل على إرادة حقيقته وألا يراد به غير الظاهر والحقيقة. هذا القول من باب التنزل معهم بحسب لغتهم، وإلا فإنَّ استعمال الحقيقة والمجاز في هذا الموضع لا يصلح تأسيساً، وإنما إذا كان في الرد على المخالفين فلا بأس به من باب حدثوا الناس بما يعرفون. قارِن بين هذه الآية وبين قوله {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، فإذاً كلام الله - عز وجل - الذي تكلم به هو حقيقة جَمْعَاً بين الآيتين آية براءة وآية سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [المسألة الرابعة] : أقوال أهل البدع نخصّ منها قول المعتزلة وقول الأشاعرة، أما الأقوال الأُخَرْ الجهمية والفلاسفة هذه نطويها. 1 - قول المعتزلة مشهور وهو أنَّ القرآن مخلوق: استدلوا بدليل عقلي -كما ذكرنا-، وهو أنه لو أُثْبِتَ الكلام وأن الكلام يُسْمَعْ فمعنى ذلك أنَّ الرب - عز وجل - جسم؛ لأنَّ الكلام لا يصدر إلا بِتَغَيُّر وهذا التغير إذا حلّ في شيء فإنه يدل على أنه جسم، على الذي ذكرنا لك من قولهم. وهذا القول يدلهم على أنَّ الرب - عز وجل - يجب أن يُنَزَّهَ على جميع المظاهر الجسمية بأنواعها لأنَّ وصفه - عز وجل - بأنه جسم كفر. وهذا القول يُرَدُّ عليه من جهتين: @ الرد الأول: أنَّ ذِكْرْ صفة الكلام لله - عز وجل - وارتباط الجسمية بها، هذا ليس بصحيح؛ وذلك أنّ المقدمة التي بُنِيَ عليها هذا القول هي البرهان بما سموه حلول الأعراض في الأجسام. وهذا البرهان لم يدل عليه القرآن ولا السنة؛ بل دلّ القرآن والسنة على بطلانه، وذلك من جهة أنَّ الجسم موجود بأعراضه، وأنه إذا كان العَرَضُ يحِلُّ في الجسم فدل على أنَّ الجسم غَيْرُ مُخْتَارْ لحلوله. لاحظ معي، إذا كان الجسم يحل فيه العرض، والجسم لم يختر حُلُولْ العَرَضِ فيه فَدَلَّ على أنه محتاج، لا ينطبق على الصورة التي فيها الكلام. لأنّ من قال إنّّ القرآن كلام الله تكلّم به، فلو قيل إنه عرض فيقال اتصافه به كان بمشيئته وقدرته واختياره ـ، فخالف من هذه الجهة البرهان. فدل: - أولاً: على أنَّ البرهان في نفسه غير صحيح على هذه المسألة - يعني تطبيق البرهان غير صحيح في مسألة الكلام-. - ثانياً: دَلَّ على أنهم حينما أصّلوا البرهان لم يطبقوه على وجه الصواب في الصفات فجعلوا الجِسْمِيَّةَ والعَرَضِيَّة متلازمة دائما مع الحاجة، وهذا فيه نظر كما ذكرت لك. @ الرد الثاني: أنَّ النصوص دَلَّت على أَنَّ القرآن كلام الله - عز وجل -، وعلى أَنَّ الله يتكلم، وعلى أَنَّ هذا أُكِّدَّ بمؤكدات، ومجموع هذه النصوص، إذا أريد تأويلها فإنه: - أولاً: لا يستقيم في كل المواضع. - ثانياً: أنه يلزم منه نفي الصفات التي وصف بها المعتزلة رب العالمين. * أما الأول: فلا يستقيم في كل موضع، فمثل ما قالوا في قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، قالوا إنَّ معناه {كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بأنّ معنى كلم الله موسى يعني أنه سَمِعَ كلامه المخلوق في الشجرة، وهذا السماع أُكِّدَّ في حق موسى لأنه سمع كلاماً تكليماً. يعني أنَّ التكليم ليس تأكيداً للفعل الذي بدا من الله - عز وجل - ولكنه لإحساس موسى بما سمع، وقال بعض الناس في هذا {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} يعني جَرَّحَهُ بأظافير الحكمة تجريحا، أخذوه من كَلَّمَ يعني جَرَّحَ. وقد جاء بعض المعتزلة إلى أبي عمر بن العلاء -وهو أحد القُرَّاء الذين جعلوا قراءتهم معتمدة على النحو- فقال له في هذا الموطن: اقرأ (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) قال: هبني قرأت ذلك فما تصنع بقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، وما تصنع بقوله تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] . وهذا يدل كما ذكرنا لك على أنه لا يستقيم مع الآيات الأخر. 2 - قول الأشاعرة: وهذا هو أخطر الأقوال لأنَّ قول المعتزلة جمهور الأمة يقول بخلافه يعني جمهور المنتسبين للقبلة يقولون بخلافه في زماننا هذا، ما فيه من يقول بقول المعتزلة إلا ثلاث طوائف: الرافضة والإباضية أو الخوارج والزيدية. قول الأشاعرة ذكرنا لكم أنَّ كلام الله معنىً وأنَّ القرآن أُلْقِيَ في نفس جبريل فَعَبَّرَ عنه. وهذا القول منهم لا شك أنه أخص من قول المعتزلة. ولذلك تجد أنَّ الأشاعرة هم الذين أخذوا زمام الرد على المعتزلة في خلق القرآن في القرون المتوالية بعد زمن السلف كالإمام أحمد والبخاري والأئمة هؤلاء تولوا الرد وعثمان بن سعيد وغيره ومن صنف. لكن من رد على المعتزلة بردود عقلية وتوسّع في ذلك هم الأشاعرة وبينهم وبينهم مناظرات. ولأجل خلاف المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة كان أهل الحديث والأشاعرة في أول الأمر متفقين غير مختلفين حتى حدثت فتنة ابن القُشَيْرِيْ المعروفة في أواخر القرن الخامس، فصارت المنابذة العظيمة ما بين الأشاعرة وأهل السنة. فكان الأشاعرة لا يعلنون مذاهبهم في كل المسائل على التفصيل حتى حدثت الفتنة. المقصود من هذا أنَّ الأشاعرة ردوا على المعتزلة في خلق القرآن. وأَصْلُ مذهب ابن كُلَّابْ في هذه المسألة أنه توسط ما بين قول أهل الحديث -لأنه خالط أهل الحديث- وما بين قول المعتزلة فأتى بهذا الشيء الذي هو: أَنَّ القرآن معنى لأنَّ الذي من أجله قيل إنَّ القرآن مخلوق هو أنَّ كلام الله - عز وجل - أصوات وحروف وأنه يُسْمَعْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فقال: ننفي هذه ونبقي كلام الله - عز وجل - غير مخلوق وأنه على حقيقته؛ ولكن نقول هو معنى دون لفظ، دون سماع. إذا تبين ذلك فنأخذ من هذا تفصيل وهو: أنَّ دِلالة الكلام في اللغة على اللفظ والمعنى فيها مذاهب: 1 - مذهب أهل السنة والجماعة وأهل الحديث والأثر: أنَّ الكلام والقول إذا أُطلق، يعني إذا قيل الكلام كلام فلان،قول فلان،قول الله - عز وجل - فإنه يراد به شيئان معاً دون تَفْرِيقً بين والواحد والآخر؛ يراد به اللفظ والمعنى جميعاً. 2 - مذهب المعتزلة: وهو أنَّ الكلام هو في المعنى وفي اللفظ مجاز. 3 - مذهب الكلابية: وهو أنَّ الكلام للمعاني ولكن الحديث إخْرَاجُهُ هذا دليلٌ عنه. واستدلوا على هذا بقول الأخطل في الشعر المشهور المعروف عندهم في الاستدلال: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً والكلام على هذا البيت ورد الإحتجاج به إلى آخره مرّ معنا في الواسطية فنحيلكم عليها؛ لأنه معروف مشهور كررناه أكثر من مرة. نرجع على أصل المسألة وهو أنَّ الكلابية والأشاعرة قالوا إنَّ الكلام معنى. كلام الله - عز وجل - معنى، ألقاه في روع جبريل. وهذا لأجل أنهم أصَّلُوا تأصيلات، ومنها أنَّ الكلام لا يدل على الإخراج وإنما يدل على ما قام في النفس، كما استدلوا بهذا البيت. لهذا ذكرت لكم في أول الكلام تعريف كَلَّمَ وكَلَمَ وهذه المادة واشتقاقها ليبطل معه قول من قال إنَّ الكلام معنى، فإنَّ اللغة دَلَّت على أَنَّ الكلام لابد أن يكون لفظاً ومعنى. وحتى كلمة لفظ تدل على شيء ملفوظ مفرد. وما أحسن قول المعري وإن كان ليس مجال احتجاج قال: من الناس من لفظه لؤلؤٌ يُبَادِرُهُ اللَّقْطُ إذ يُلْفَظُ وبعضهم قوله كالحصى يقال فيُلْغَى ولا يُحْفَظُ يعني (من الناس من لفظه لؤلؤ) اللفظ لابد أن يُلْفَظْ، يُخْرَجْ، فكيف يكون الكلام والقول في الداخل دون الخارج؟ وكيف يكون المعنى يُدَلْ عليه في الإنسان بلا لفظ؟ وإذا كان ثَمَّ لفظ فإذاً ثَمَّ معنى، واللفظ لابد أن يُلْفَظْ ويُخْرَجْ. فدل ذلك على أَنَّ قولهم بأَنَّ الكلام معنىً وأَنَّ هذا هو الأصل فيه، هذا لاشك أنه مُعَارَضٌ باللغة في تأصيلاتها أو اشتقاقاتها وأيضا مُعَارَضٌ بالنصوص التي سقنا لك بعضا منها. الكلابية ورثهم أبو الحسن الأشعري والماتُرِيدي في الكلام في هذه المسألة: - تارة يعبرون عنه بقولهم الكلام صفة نفسية. - وتارة يعبرون عنه بأن كلام الله - عز وجل - قديم؛ يعني قبل أن يخلق الخلق، قبل أن يوجد شيء، تَكَلَّمَ بكلام قديم وانتهى. - تارة يعبرون عنه بأنه معنى قائم بالنفس. - وتارة يعبرون عنه بأنه عبارة، يعني القرآن عبارة عن كلام الله؛ يعني عُبِّر به عن كلام الله. إذا تبين لك ذلك، فحاصل معتقد هذه الطوائف -الكلابية الأشاعرة والماتريدية- أنّ القرآن قديم كلام الله - عز وجل - قديم. يعني تَكَلَّمَ الله - عز وجل - به في الأزل ثم لما أراد إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم قام ما تكلم به في الأزل به معنى فألقاه في رُوعِ جبريل فنزل به جبريل وعبّر عنه، وإلاّ فكلام الله عندهم ليس بالعربية وليس بالسريانية وليس إلى آخره لتنزهه عندهم اللغات. إذا تبين ذلك، فمن أحسن الردود عليهم ما استشكله الآمدي. والآمدي من حذاق الأشاعرة المعروفين ومن الأذكياء. قال: إني نظرت في هذا القول وهو أنَّ كلام الله قديم، وأنَّ القرآن قديم، وأنه حين أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم إنما أُوحِيَ بالعبارة وبما أُلْقِيَ في نفس جبريل، فأشكل علي أنَّ القرآن فيه آيات كثيرة فيها التعبير عنه بلفظ الماضي {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، وهل كان ثَمَّ مُجَادِلَة؟ وهل كان ثم زوج؟ وهل كان ثَمَّ صوت حتى يسمع الله؟ قال {قَدْ سَمِعَ اللهُ} فإذا كان الله - عز وجل - قال هذا القول في الأزل ولا زوجة ولا مُجَادِلَة ولا قول، فما الذي سمع؟ فيلزم منه أنَّ قوله {قَدْ سَمِعَ} وكل أفعال الماضي في القرآن أنها غير مطابقة للواقع، وهذا هو الكذب. وهذا لاشك أنه ردٌ منطقيٌ جميل لأنه يلزمهم على أصولهم ولا فرار لهم منه. إذا تبين لك ذلك، فنقول خلاصة الرد على هذه الطوائف يكمن في أشياء: @ الرد الأول: الاستدلال باللغة في معنى كَلَّمَ في معنى الوحي، هذا واحد. @ الرد الثاني: الاستدلال بالنصوص من القرآن والسنة التي فيها الإضافة، والقاعدة الفرق ما بين إضافة المخلوقات وإضافة المعاني. @ الرد الثالث: أنه يُرَدْ ما استدلوا به من أنواع الأدلة مثل ما أَصَّلُوهُ في أَنَّ الكلام يدل على المعنى فقط في اللغة، وأنّ الوحي يكون بالمعنى والإلقاء في الروع، وغير ذلك من الاستدلالات، مثل قولهم يلزم التشبيه يلزم التجسيم إلى آخره. @ الرد الرابع: بقول الآمدي في التفريق ما بين الماضي والحاضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أطلنا عليكم، والكلام يطول لأنَّ هذه المسألة فيها طول يعني، وأكثر المسائل وأعظم المسائل بحثاً وتفصيلات هي هذه. على العموم نقف عند هذا؛ لأنَّ الوقت تأخر، ونكمل إن شاء الله تعالى المسائل في الدرس القادم. الحقيقة دائماً إذا أوضحت أو أردنا مثل هذا، الواحد يتألم من جهة، وهو أنَّ مثل هذا الكلام لا ينبغي أن يُقَرَّرْ مثل مذاهب الفرق وأقوال الأقوام؛ لكن لابد منه لأنه مع الأسف مجتمعات المسلمين وبلادنا بخاصة وكل من سيصلهم هذا الكلام عن طريق الأشرطة، المجتمعات اختلطت، فصار فيها من أتباع الفرق جميعاً ولا يحسن أن يبقى طالب العلم السني السلفي عَرِيَّاً عن قوة الحجة وقوة الدليل وعن فهم كلام الناس في ذلك؛ لأنه قد يقال إنكم لا تفهمون تقلدون إلى آخره،فإذا فهم المسائل وضبطها واستطاع أن يرد على أولئك فقد نصر الحق، إضافة على أنَّ كتب التفسير المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة أكثر من كتب التفسير السلفية، فأكثر كتب التفسير والحديث وإلى آخره شروح الحديث يعني، وكتب الأصول كلها على منهج الأقوام؛ لا تجد كتابا في الأصول من الكتب المتقدمة إلا ما شذّ أثبت مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الكلام، حتى كتب الحنابلة تجد فيها ضلال في هذه المسألة؛ لأنهم وافقوا الأقوام في أن القرآن عبارة أو معنى ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الأسئلة : س1/ هذا يسأل عن أدلة المعتزلة عن مرادهم؟ ج/ أدلة المعتزلة كثيرة، مما استدلوا به أنَّ الله - عز وجل - قال {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] ، ونحو ذلك فذكر الجَعْلْ، والجَعْلْ قالوا هو بمعنى الخلق {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] ، يعني خلق، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] ، يعني خلق وهكذا، والجواب على كلامهم معروف وهو أنَّ الجعل في اللغة إذا تعدى إلى مفعول واحد صار بمعنى خلق، وإذا تعدى إلى مفعولين صار بمعنى صيّر (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) يعني صيّرناه قرآنا عربيا يعني غير خلقناه، والآيات على هذا كثيرة وهذا من أضعف حججهم لأنها منقوضة باللغة. س2/ ما رأيكم فيمن قاس الكلام على الاستواء؟ ج/ ذكرت لكم في إشارة أو ربما إني ما ذكرتها؛ لكن منهج السلف في الكلام أنَّ الكلام قديم النوع حادث الآحاد؛ يعني أصل صفة الكلام لم يزل الله ـ متصفا بها سبحانه وتعالى، واتصافه بالكلام أول ـ، اتصافه بالكلام أزلي، ولذلك يقولون كلام الله - عز وجل - قديم النوع حادث الآحاد. وكلامه نوعان - عز وجل -: كلام كوني قدري: وهذا الذي به تكون الأشياء ويتصرف ـ في ملكه وهو الذي جاءت فيه الاستعاذة: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. وفي مثل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، ونحو ذلك من الآيات هذه الكلمات الكونية القدرية. والنوع الثاني من كلام الله - عز وجل - الكلام الشرعي الديني وهو الذي تَعَبَّدَ الناس - عز وجل - أن يعملوا به في العمليات وأن يصدقوا بأخباره. طبعاً هذا منهج الأشاعرة يقولون هذا قديم؛ كله قديم. س3/ هل القرآن الكريم حروفه ومعانيه مكتوب في اللوح المحفوظ؟ ج/ نعم، كما قال سبحانه {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، وقال - عز وجل - {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:75-78] الله - عز وجل - جَعَلَ القرآن في اللوح المحفوظ مكتوباً قبل أن يتكلم به فما في اللوح المحفوظ هذه مرتبة الكتابة، مرتبة الكتابة لا علاقة لها بالكلام كما أنَّه سبحانه جعل في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء وفيه ثَمَّ تقدير سنوي وتقدير عمري وتقدير يومي إلى آخره، فكذلك جعل الله - عز وجل - كلامه الذي هو القرآن، جعله في اللوح المحفوظ تكرمَةً له ويصان، يعني مجموعاً كاملاً، ثم هو - عز وجل - تكلم به فسمعه منه جبريل. ولهذا نقول إنَّ ترتيب الآيات في السور توقيفي، وكذلك ترتيب السور توقيفي، ما يجوز أن نقول الترتيب اجتهادي، لأنه هكذا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت به العرضة الأخيرة الموافقة لما في اللوح المحفوظ والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في أول الأمر البقرة ثم النساء ثم آل عمران كما جاء في حديث حذيفة وغيره، فهذا في الأمر الأول، ثم لما كَمُلَ القرآن وتمت آياته وعُرِضَ على النبي صلى الله عليه وسلم، عَرَضَه النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل في العرضة الأخيرة على هذا الترتيب والصحابة كتبوه على ما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم. ولهذا كانت إذا جاءت آية قال صلى الله عليه وسلم (اجعلوها بعد آية كذا وقبل آية كذا) كما هو معروف. س4/ هل نزل القرآن من الله إلى جبريل منطوقاً أو مكتوباً؟ ج/ لا، منطوقاً يعني مسموعاً سمعه جبريل، أما المكتوب فلا علاقة لجبريل عليه السلام به، هذا من أقوال الأشاعرة أنهم قالوا إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، وقاله السيوطي وغيره، وهذا باطل لأن الكتابة لا علاقة لجبريل بها، جبريل سمع فأدى. س5/ من سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وأن يطلب له المغفرة من الله بعد موته، هل هذا شرك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ج/ الجواب نعم، هو شرك اكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُدعى بعد موته، فطلب الدعاء من الميت، وطلب الدعاء بالإغاثة أو الاستسقاء؛ يعني أن يدعو الله أن يغيث، أو أن يدعو الله أن يغفر، أن يدعو الله أن يعطي ونحو ذلك، هذا كله داخل في لفظ الدعاء والله - عز وجل - قال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] ، والذي يقول إنّ هذه الصورة وهي طلب الدعاء تخرج عن الطلب الذي به يكون الشرك شركا فإنه ينقض أصل التوحيد كله في هذا الباب، فكل أنواع الطلب؛ طلب الدعاء يعني طلب الدعاء من الميت، طلب المغفرة من الميت، أو طلب الدعاء من الميت أن يدعو الله أن يغفر، أو طلب الإغاثة من الميت أو طلب الإعانة أو نحو ذلك كلها باب واحد هي طلب، والطلب دعاء فداخلة في قوله تعالى {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] ، وفي قوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، وفي قوله {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] ، ونحو ذلك من الآيات، فالتفريق مضاد للدليل، ومن فهم من كلام بعض أئمتنا التفريق أو أن هذا طلب الدعاء من الميت أنه بدعة لا يعني أنه ليس بشرك بل هو بدعة شركية؛ يعني ما كان أهل الجاهلية يفعلونه، وإنما كانوا يتقربون ليدعوا لهم، لكن أن يُطْلَبَ من الميت الدعاء هذا بدعة ما كانت أصلا موجودة لا عند الجاهليين ولا عند المسلمين فحدثت فهي بدعة ولاشك، ولكنها بدعة شركية كفرية وهي معنى الشفاعة، إيش معنى الشفاعة التي من طلبها من غير الله فقد أشرك؟ الشفاعة طلب الدعاء، طلب الدعاء من الميت هو الشفاعة. نكتفي بهذا القدر نلتقي إن شاء الله، وفقكم الله لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (1)   (1) انتهى الشريط الثامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 : [[الشريط التاسع]] : الأسئلة: س1/ قال: ما حكم سب الدهر؟ ج/ سب الدهر محرم؛ لأنه إيذاء لله - عز وجل -، كما قال - عز وجل - في الحديث القدسي (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) (1) ، فسب الدهر بمعنى أن يَتَنَقَّصَهَ أو أن يَنْسُبَ إليه الأفعال القبيحة وأشباه ذلك، هذا في الواقع لا يتوجه إلى الدهر؛ لأنَّ الله يُقَلَّب الدهر، الدهر ليس يفعل شيئا، وإنما يتوجه إلى من جعل الدهر على هذه المثابة، ومن جعل الدهر بهذه الصفة وهو الله - عز وجل -، لهذا قال (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) ، فمسبة الدهر حرام وإيذاء لله - عز وجل -. وقوله - عز وجل - في الحديث القدسي (وأنا الدهر) لا يُفهم منه أنَّ الدهر من أسماء الله - عز وجل -؛ بل يعني أنَّ الذي سب الدهر وقعت مسبته على الله - عز وجل -؛ لأنَّ الله ـ هو الذي يُصرِّف الدهر كيف يشاء. إذا تبين ذلك وقد ذكرنا مرارا أنّ وصف الدهر بأوصاف مما يقع فيه من الأوصاف المشينة ليست مسبّة للدهر، فقول القائل هذا يوم أسود أو هذا الشهر شهر نحس أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بمسبة للدهر لأن هذا وصف لما يقع في الدهر لما يقع في اليوم أو لما وقع فيه، لما يقع في الشهر أو لما وقع فيه، وهذا كما قال - عز وجل - {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، وقال سبحانه {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16] فوصف الله - عز وجل - الأيام التي عذب بها الكفرة أنها أيام نحيسة، فمثل هذا ليس بسب للدهر؛ لأنه وصف لما وقع فيه بالإضافة إلى المخلوق. س2/ قال: هل يدخل في سب الدهر قول القائل الدهر باطل والزمان غدار ونحو ذلك؟ ج/ الجواب: نعم لأنَّ هذا من التنقص، وهذا من سب الدهر؛ لأنَّ الدهر لا يبغي على أحد ولكن الذي دَبَّرَ الدهر وقَدَّرَ فيه ما قَدَّرَ هو الله - عز وجل -. س3/ هل آية الرجم المعروفة تعتبر من كلام الله، غير أنها منسوخة ولا يجوز التعبد بتلاوتها؟ ج/ الجواب: نعم، كل آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من كلام الله - عز وجل -، سواء أكانت باقية أم كانت منسوخة، كما قال - عز وجل - {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، وفي القراءة الأخرى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فالآية التي نُسِخَتْ قرآن ولكن نُسِخَتْ تلاوتها والتعبد بذلك، وحكمها منسوخ، وهذا إذا كانت منسوخة، وأما إذا لم تكن الآية منسوخة فإنه قد تُترك آية بغير النسخ كما قال {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . س4/ يستخدم بعض الكُتاَّب ألفاظ منسوبة إلى القرآن كقولهم: (قال القرآن) ، أو (تحدث القرآن) ، (فَنَّدَ القرآن هذه الشبهة) ، هل يصح الحكم عليها بأنها متفرعة عن القول بخلق القرآن؟ ج/ الجواب: لا؛ لأنّ هذه الكلمات جرت على ألسنة كثير من أئمة أهل العلم السابقين، يقولون قال القرآن، ورد القرآن ونحو ذلك، فينسبون الفعل إلى القرآن، ومعلوم أنَّ القرآن كلام الله - عز وجل -، ففي الحقيقة القائل هو الله - عز وجل -، كأنهم قالوا قال الله في القرآن، تحدث الله في القرآن، وردّ الله في القرآن، وأشباه ذلك. س5/ كان من الردود على المعتزلة في الدرس الماضي أنهم إذا أرادوا تأويل صفة الكلام فإنه يترتب عليه نفي الصفات التي أثبتها المعتزلة، مع أنه قد تقرر في كثير من الدروس أنَّ المعتزلة لا يثبتون أي صفة من الصفات، فما الجواب؟ ج/ الجواب: أنَّ الذي قَرَّرْنَاهُ وهو المعروف أنَّ المعتزلة يثبتون ثلاثة صفات، وأنَّ الذين لا يثبتون إلا صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق هم الجهمية. وكل من أثبت صفة من الصفات ونفى الباقي فإنه يُطْعَنْ بإثباته على ما نفاه. مثلا يقال لمن أثبت صفة الوجود قالوا إنَّ الله - عز وجل - ليس له إلا صفة الوجود فقط؛ الوجود المطلق، يقال له: لم نفيتَ غيرها من الصفات؟ لم نفيت صفة العلم؟ لم نفيت صفة الكلام؟ لم نفيت صفة المحبة؟ بل سيقول: إنَّ هذه الصفات تستلزم المشابهة التمثيل أو التشبيه، فيقال: لم؟ فيقول: لأن المخلوق يتكلم، فكيف نقول إنَّ الله يتكلم والمخلوق يتكلم، معناه فيه تشبيه. يقول: إنَّ الله يحب والمخلوق يحب معناه أنَّ هذا فيه تشبيه. فكذلك يقال: الصفة التي أثبتها وهي الوجود أيضا مشتركة، فالمخلوق موجود وتقول الله - عز وجل - موجود. المعتزلة يثبتون القدرة لله - عز وجل -، والمخلوق عنده قدرة، فما الفرق ما بين ما أثبت وما بين ما نفى؟   (1) البخاري (4826) / مسلم (6000) / أبو داود (5274) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الوجود أيضا مشترك فيه التشبيه، إذا قلنا إنَّ وجود الصفة من حيث هي في المخلوق وفي الله - عز وجل - أنَّ هذا تشبيه فإذاً الوجود فيه تشبيه، فالله - عز وجل - موجود والبشر موجودون، إذاً ثَمَّ تشبيه، فالصفة التي أثبتها فيها تشبيه وهو يريد أن ينفي التشبيه أن ينفي الصفات الأخرى لأجل التشبيه. كذلك نأتي للأشاعرة نقول أنتم أثبتم سبع صفات السمع والبصر والعلم والكلام والإرادة إلى آخره، فنقول لم أوَّلتم صفة الوجه؟ لم أوَّلتم صفة اليدين؟ لم أوّلتم صفة الغضب، صفة الرضا، صفة المحبة، صفة الرحمة، إلى غير ذلك، يقولون؛ لأنّ هذه تستلزم التشبيه، فنقول: كذلك صفة السمع تستلزم التشبيه، كذلك صفة البصر تستلزم التشبيه، كذلك صفة الإرادة؛ الله - عز وجل - يريد والإنسان يريد، لماذا نقول إن هذا فيه تشبيه؟ يجيب الجميع منهم على اختلاف فرقهم بأن إرادة الله - عز وجل - مختلفة عن إرادة المخلوق، بأن قدرة الله - عز وجل - مختلفة عن قدرة المخلوق. نقول إذاً نقول في باقي الصفات مثل هذا الأصل فكلام الله - عز وجل - يختلف عن كلام المخلوق ورحمة الله تختلف عن رحمة المخلوق فإثبات الصفات إثبات وجود؛ إثبات لفظ ومعنى لا إثبات كيفية، فلا اشتراك في الكيفية، الله - عز وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فكما أنه سبحانه له سمع يليق بجلاله وعظمته فكذلك له بصر يليق بجلاله وعظمته، له كلام يليق بجلاله وعظمته، وسمع الإنسان وبصر الإنسان وكلام الإنسان هذا يليق بحال الإنسان. فإذاً الاشتراك في أصل الصفة، أما الكيفية وتمام المعنى فهذه لا اشتراك فيها. فإذاً كل مؤول للصفات من الفِرَقْ يلزمه التناقض، كل من أول يلزمه التناقض؛ بل سيما أهل البدع دائماً في التناقض؛ لأنه يتناقض، ولو أعملوا القاعدة أننا نسلم للقرآن والسنة وما قاله السلف والصالح لما صار التناقض في أبواب الاعتقاد أبدا، ولكنهم تارة يثبتون وتارة يتأولون بعقولهم لأنهم خلطوا قولا سنيا وآخر عقليا. س6/ هل معنى قول من قال إن! َ القرآن مخلوق أنه مثل أعضائنا وغير ذلك من المخلوقات؟ ج/ الجواب: لا، يقولون القرآن مخلوق؛ يعني أنّ الله سبحانه خَلَقَ هذا الكلام وسماه قرآن، أو أنّ الله - عز وجل - خلقه في نفس جبريل فعبر جبريل بذلك، ليس أن! َ ثَمَّ شيء مخلوق يعني له صفته ويُمَسْ ويُحَسْ مثل الأعضاء، لا، خَلَقَ هذا الشيء يعني أنه ليس صفة،له خلقه في نفس جبريل وعبر جبريل عما وجده في نفسه. س7/ كيف نوفق بين كون الله تكلم بالقرآن وأنَّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ؟ ج/ الجواب: أنَّ مرتبة الكتابة أو جهة الكتابة للقرآن غير جهة الكلام، فالله - عز وجل - يعلم ما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14] ، فالله سبحانه يعلم أنَّ هذا القرآن -هذا الكلام- سينزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ هذا الذي سينزله مكتوباً في القرآن تشريفاً له وتعظيماً لمكانة هذا القرآن ولأنه حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، أما التكلم فكلام الله - عز وجل - بالقرآن إنما هو حين أراد أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم، أو حين أراد أن ينبهه. أما نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا فهذا أيضا عند من قال به نزول مكتوب لا نزول مسموع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فمن سمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر   قد مضى الكلام في الدرس الماضي عن كلام الله - عز وجل -، وعلى أنَّ القرآن كلام الحق ـ، وعلى أنّ القرآن كلام الله - عز وجل - بحروفه ومعانيه، وأنّ الله سبحانه تكلم به، فمنه بدأ وسمعه منه جبريل عليه السلام، فبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم لنا إبطالَ قول من قال إنَّ القرآن مخلوق، أو أنَّ القرآن عبارة عن كلام الله، أو من قال إنَّ كلام الله - عز وجل - نفسي وكلام الله - عز وجل - قديم، ونحو ذلك من أقوال أهل البدع والضلالات؛ من أقوال المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة وغلاة الصوفية، وتقدم لنا ذلك مختصرا في أوجه الرد على أولئك. وفي مسألة الكلام النفسي ذكرنا بعض الأوجه، وسبق أن تقدم لنا في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية سبق ردود مزيدة على ما ذكرنا، وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على من قال بالكلام النفسي في تسعين وجها، في رسالة مطبوعة سميت (بالتسعينية) ؛ لأنها اشتملت على تسعين وجها تردّ قول من قال إن كلام الله - عز وجل - نفسي؛ يعني أنه لم يتكلم بصوت يُسمع وإنما ألقى ما أراده في رُوعِ جبريل. قال الطحاوي رحمه الله (فمن سمِعَهُ-يعني القرآن- فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.) هذه الجمل مشتملة على تقرير مسألة عظيمة وهي أنَّ كلام الله - عز وجل - لا يشبه قول البشر. وكيف يشبه قول البشر وهو كلام الباري - عز وجل - الذي لا يشبه بصفاته البشر. فالبشر لهم صفاتهم في كلامهم وفي سمعهم وبصرهم وإدراكاتهم وأعضائهم، والله - عز وجل - له صفاته في كلامه وفي سمعه وبصره وجميع صفاته فلا يشبه في صفاته -التي منها كلامه- لا يشبه صفات البشر. فمن قال عن القرآن إنه قول بشر، أو إنه مخلوق، أو هو قول جبريل، أو نحو ذلك وليس بقول الله - عز وجل -، أو أنه كلام جبريل وليس بكلام الله - عز وجل - فإنّ هذا كافر بالله العظيم؛ لأنَّ من قال إنّ القرآن كلام بشر فإنَّ هذا كفر، كما قال سبحانه {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:25-26] لقول الوليد. إذا تبين لك ذلك فإنهم قالوا أيضاً -أي المشركون- قالوا: إنما يُعَلِّمُه بشر كما قال سبحانه {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ، فالذين أبوا هداية [ ..... ] وأبوا الإذعان له وصفوا القرآن بصفات: - قال بعضهم: هو كِهانة. - وقال بعضهم: هو شعر. - وقال بعضهم: هو قول البشر. - وقال بعضهم: أساطير الأولين. وكل هذه الأقوال يعلمون أنما هي لتنفير الناس عن قبول هذا القرآن، فلقد تواعد كما هو معلوم في القصة ثلاثة من كفار قريش ألا يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل قبل ذلك وكُلُّهُم كان يُرَادْ بالقرآن، ذهب أحد هؤلاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يسمع قراءته للقرآن، ولما ذهب وجد فلاناً وفلاناً فإذا بهم ثلاثة يسمعون القرآن لما له من سلطان على نفوسهم، ثم لما رجعوا تقابلوا في الطريق، فتواعدوا ألا يسمعوا مرة أخرى لهذا القرآن؛ لأجل أن لا يراهم بعض العامة وبعض الناس فلا يقبل قولهم في رد القرآن، ثم لما جاء من الليلة الثانية اجتمعوا أيضاً ثم صارت أيضاً ثالثة حتى رأوا أنهم لابد أن يتفارقوا على ذلك، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت: 26 -27] . كذلك لما أُرْسِلَ الوليد أو عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في شأن القرآن وأن يترك هذا الأمر، قال له: يا محمد إنْ أردت ملكا ملَّكناك، وإنْ أردت مالاً جمعنا لك من المال ما تكون به أغنى العرب، وإن أردت نساء نظرنا في أجمل نساء العرب فأتينا بهن إليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فقال صلى الله عليه وسلم له هذا الذي عندك، اسمع، فتلا عليه صدر سورة فصلت {حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1-4] ومر صلى الله عليه وسلم في التلاوة حتى بلغ قوله تعالى {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] . فالتفت إليه الرجل فقال حسبك الآن، فرجع إلى قومه. فلما رأوه مقبلاً، قالوا لقد أتاكم فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فلما حضر، قالوا ما عندك يا فلان؟ قال: إني سمعت كلاماً ليس هو بالشعر، وليس هو بالكهانة، وليس هو بالكلام الذي نألف، إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطُلاوة -أو طَلاوة أو طِلاوة مثلثة- وإنَّ أسفله لمورق، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يُعلا عليه. فتبيَّنَ بذلك أنَّ أولئك الذين قالوا هو كهانة وهو شعر وهو قول البشر أنهم هم الذين ردوا على أنفسهم {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] . هذه المسألة يمكن أن نمرّ عليها فيما ذَكَرْ بشيء من التقرير العام كما فعل الشارح؛ لكن هذه المسألة متصلة ببحث عظيم، وهو بحث (دلائل النبوة) ؛ لأنَّ كون القرآن لا يشبه كلام البشر ولا يشبه قول البشر هو المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن وأنَّ القرآن مُعْجِزْ. وهذه ولاشك مسألة مهمة قلّ بل نَدَرَ أن تَتَعَرَّضَ لها كتب العقائد، ولها صلة ببحث دلائل النبوة فهي في التوحيد؛ لأنَّ صلتها تارة بدلائل النبوة من كون القرآن مُعْجِزاً ودليلاً على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه منزل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله - عز وجل - وهو أنَّ القرآن لا يشبه كلام البشر وأنَّ كلام الله - عز وجل - ليس ككلام البشر. فلا بأس إذاً أن نقرر هذه المسألة وهي المسألة الموسومة بإعجاز القرآن؛ لأجل ندرة الكلام عليها في كتب العقائد مُفَصَّلَة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذه الدروس المختصرة. لتقرير هذه المسألة وهي مسألة إعجاز القرآن، وقد تكلم فيها أنواع من الناس من جميع الفرق والمذاهب، نجعل البحث فيها في مسائل، نقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 [المسألة الأولى] : أنَّ لفظ الإعجاز لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في القرآن وفي السنة أنّ ما يعطيه الله - عز وجل - للأنبياء والرسل وما آتاه محمد صلى الله عليه وسلم هو آية وبرهان على نبوته. فلفظ المعجزة لم يأتِ كما ذكرنا من قبل في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظٌ حادث ولا بأس باستعماله إذا عُنِيَ به المعنى الصحيح الذي سيأتي. الذي جاء في القرآن الآيات والبراهين؛ لكن العلماء استعملوا لفظ الإعجاز لسبب، وهو: أنَّ القرآن تَحَدَّى الله - عز وجل - العرب بأن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، فلما تَحَدَّاهُمْ فلم يَغْلِبُوا، ولم يأتوا بما تَحَدَّاهُمْ به، فدل ذلك على عجزهم، وذلك بسبب أنَّ القرآن مُعْجِزٌ لهم فلم يأتوا بمثله، قال - عز وجل - {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، وقال - عز وجل - {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:13-14] . إذا تبين ذلك فالتحدي لمَّا وَقَعَ وعَجِزُوا، وهم يريدون أي وسيلة لمعارضة القرآن وإثبات أنه قول البشر، {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} ، ائتوا بمثله، {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} ، لما عَجِزُوا سَمَّى العلماء فِعْلَهُمْ ذلك أو عجزهم سموه: مسألة إعجاز القرآن؛ لأجل التحدي وعجز الكفار أن يأتوا بمثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 [المسألة الثانية] : أنَّ كلام الله - عز وجل - هو المُعْجِزْ، وليس أنَّ الله - عز وجل - أعْجَزَ لأجل السماع، أعْجَزَ لما أنزل القرآن. والفرق بين المسألتين أنَّ الإعجاز صفة القرآن، ولكن لا يقال أنَّ الله - عز وجل - أعْجَزَ البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن؛ لأنَّ هذا القول يتضمن، بل يدل على أنهم قادرون لكنَّ الله - عز وجل - سلبهم القدرة على هذه المعارضة. فإذاً الإعجاز والبرهان والآية والدليل في القرآن نفسه لم؟ لأنه كلام الله - عز وجل -، ولا يقال إنَّ الله - عز وجل - أعْجَزَ الناس، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو صرفهم عن ذلك، كما هي أقوال يأتي بيانها. فإذاً تنتبه على أنَّ تعبير أهل العلم في هذه المسألة أنَّ القرآن آية، فآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآية رسالته القرآن. بل محمد صلى الله عليه وسلم لمَّا سَمِعَ كلام الله - عز وجل - خاف صلى الله عليه وسلم، فلما فَجَأَه الوحي وهو بغار حراء فأتاه جبريل فَقَالَ له: اقْرَأْ، قَالَ (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) ، قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] (1) إلى آخر ما أُنْزِلْ في أول ما نبئ النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجُف بها فؤاده؛ لأنَّ هذا الكلام لا يشبه كلام أحد، ولم يتحمله صلى الله عليه وسلم لا في ألفاظه ومعانيه ولفظه، ولا في أيضا صفة الوحي والتنزيل، فما استطاع صلى الله عليه وسلم أن يتحمل ذلك فرجع بهن -يعني بالآيات- يرجف بها فؤاده صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة. إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء الوحي لم يتحمل هذا الذي جاءه، لم؟ لأنه كلام الله - عز وجل -، وأما كلام البشر فإنه يتحمله لما سمع منه.   (1) البخاري (3) / مسلم (422) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 [المسألة الثالثة] : أقوال الناس في إعجاز القرآن. مسألة إعجاز القرآن -كما ذكرنا- لها صلة بدلائل النبوة. والقرآن مُعْجِزْ لمن؟ للجن والإنس جميعاً؛ بل معجز لكل المخلوقات، لم؟ لأنه كلام الله - عز وجل -، وكلام الله - عز وجل - لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معْجِزَاً، راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان. فاختلف الناس في وجه الإعجاز لأجل أَنَّ إعجاز القرآن دليل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في أقوال: 1 - القول الأول: ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام، قالوا: إنَّ الإعجاز في القرآن إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرِفُوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله - عز وجل -، لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفهم جميعاً عن معارضته. وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تَمْلِكُ هؤلاء جميعا وهي قوة الله - عز وجل -. فإذاً الصَّرْفَةْ التي تسمع عنها، القول بالصَّرْفَةْ؛ يعني أنَّ الله صَرَفَ البشر عن معارضة هذا القرآن، وإلا فإنَّ العرب قادرون على المعارضة. وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنّظّام وجماعة بما هو معلوم. وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين: - الدليل الأول سمعي نقلي من القرآن. - والدليل الثاني عقلي. @ أما الدليل الأول وهو الدليل القرآني: فهو قول الله - عز وجل - {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، فالله - عز وجل - أثْبَتَ أَنَّ الإنس والجن لو اجتمعت على أنْ تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معيناً في الإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك؛ لأنَّ اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء. فالله - عز وجل - بيّنَ أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معيناً وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن. فأثْبَتَ لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون مع قُدَرِتهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معيناً على المعارضة. وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصَّرْفَةْ. @ أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي: أنَّ الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أنَّ الإعجاز يُنْسَبْ ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله - عز وجل -. فلا يقال إعجاز الله بالقرآن، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن. فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أنَّ القرآن مُعْجِزٌ في نفسه، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة. لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن. فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصْفٌ للقرآن علمنا بُطلان أن يكون الإعجاز صفة لقدرة الله - عز وجل -؛ لأنّْ من قال بالصرفة بأنّْ الله سلبهم القدرة هذا راجِعٌ الإعجاز -يعني تعجيز أولئك- راجع إلى صفة القدرة وهذه صفة ربوبية. فإذاً لا يكون القرآن مُعْجِزَاً في نفسه، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله - عز وجل - على ذلك. وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء. لهذا المعتزلة المتأخرون ذهبوا على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأنَّ قولهم لا يستقيم لا نقلاً ولا عقلاً. 2 - القول الثاني: من قال القرآن مُعْجِزٌ بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنَّ البلاغيين يُعَرِّفُونَ الفصاحة بقولهم: فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه ومن غرابته فالقرآن مشتمل على أعلا الفصيح في الألفاظ. ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع كلام العرب في خطبهم وأشعارهم، وجدوا أنَّ كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات ولا في خطب العرب ولا في نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائماً في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأنَّ العرب عاجزون. وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ القرآن اسم للألفاظ والمعاني، فالله - عز وجل - تَحَدَّى أن يُؤْتَى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعاً وبصورة الكلام المتركبة. فإذاً كونه مُعْجِزَاً بألفاظه نعم لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها. 3 - القول الثالث: من قال إنَّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مثل ما يقول الجاحظ وغيره؛ يعني فيما ساقه في كتاب الحيوان يقول: الشأن في المعاني أما الألفاظ فهي ملقاة على قارعة الطريق. يعني أنَّ الألفاظ يتداولها الناس؛ لكن الشأن في الدِلالة بالألفاظ على المعاني. وهذا لاشك أنه قصور لأنَّ القرآن كما ذكرنا مشتمل على فصاحة الألفاظ وعظمة المعاني جميعاً. (1) 4 - القول الرابع: من قال إنَّ القرآن مُعْجِزٌ في نظمه، ومعنى النظم هو الألفاظ المتركبة والمعاني التي دلت عليها الألفاظ وما بينها من الروابط. يعني أَنَّ الكلام يُحْتَاجُ فيه إلى أشياء، يُحْتَاجُ فيه إلى ألفاظ وإلى معانٍ في داخل هذه الألفاظ يُعَبَّرُ بها، يُعَبَّرُ بالألفاظ عن المعاني وإلى رابط يربط بين هذه الألفاظ والمعاني في صور بلاغية، وفي صور نحوية عالية، وهذا المجموع سماه أصحاب هذا القول النَّظم. وهذا هو مدرسة الجُرجاني المعروفة، العلامة عبد القادر الجرجاني فيما كتب في دلائل الإعجاز وفي أسرار البلاغة. وهذا القول لَمَّا قال به الجرجاني وهو مسبوق إليه من جهة الخطّابي وغيره يعني في كلمة، هو أراد به الرد على عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني، فإنه ألف كتاب المغني وجعل مجلداً كاملا في إعجاز القرآن، وردّ عليه بكتاب دلائل الإعجاز وأنَّ الإعجاز راجع إلى اللفظ والمعنى والروابط؛ يعني إلى النظم،نظم القرآن جميعا، المقصود بالنظم يعني تآلف الألفاظ والجمل مع دلالات المعاني البلاغية واللفظية وما بينها من صلات نحوية عالية. وهذا القول قول جيد؛ ولكن لا ينبغي أن يُقصر عليه إعجاز القرآن. 5 - القول الخامس: من قال إنَّ إعجاز القرآن فيما اشتمل عليه. فالقرآن اشتمل على: - أمور غيبية لا يمكن أن يأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأمر الماضي وبأمر المستقبل. - واشتمل القرآن أيضا على أمور تشريعية لا يمكن أن تكون من عند النبي صلى الله عليه وسلم. - واشتمل القرآن على هداية ومخالطة للنفوس لا يمكن أن تكون من عند بشر. وهذا قول لبعض المتقدمين وجمع من المعاصرين بأنَّ القرآن محتمل على هذه الأشياء جميعاً. ولكن هذا القول يُشْكِلْ عليه أَنَّ إعجاز القرآن الذي تُحُدِّيَت به العرب، والعرب حينما خوطبوا به،خوطبوا بكلام مشتمل على أشياء كثيرة، وكان التحدي واقعاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة أو بعشر سور مثله مفتريات كما زعموا، وهذا يؤول إلى ما تميزت به العرب، وهو مسألة البلاغة وما تميزوا به من رِفعة الكلام وفصاحته وبلاغته. والعرب لم تكن متقدمة عارفة بالأمور الطبية ولا بالأمور الفلسفية ولا بالأمور العقدية ولا بالغيبيات، وليس عندهم معرفة بالتواريخ على تفاصيلها ونحو ذلك، حتى يقال إنَّ الإعجاز وقع في هذه الجهة؛ لكنهم خوطبوا بكلام من جنس ما يتكلمون به -يعني من جهة الألفاظ والحروف-؛ لكنهم عجزوا عن الإتيان بذلك لأنه كلام الله - عز وجل -. 6 - القول الأخير –والأقوال متنوعة؛ لأنَّ المدارس كثيرة-: أنَّ القرآن مُعْجِزْ لأنه كلام الله - عز وجل -، وكلام الله - عز وجل - لا يمكن أن يشبه كلام المخلوق. وهذا القول هو الذي ذكره الطحاوي هنا،قال (عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته-التي منها القرآن- ليسَ كالبشر) . وهذا القول الذي أشار إليه لم يَتَفَرَّعْ إليه شارحوا هذه الرسالة سواء من السلفيين أو من المبتدعة من الماتريديين وغيرهم- في تقرير هذه المسألة، وهو من أرْفَع وأعظم الأقوال؛ بل هو القول الحق في هذه المسألة: أنَّ كلام الله - عز وجل - لا يمكن أن يشبه كلام البشر. خذ مثلاً فيما يتميز به المخلوقات ترى فلاناً فتقول هذا عربي، وترى آخر فتقول هذا أوروبي، وترى ثالثا فتقول هذا من شرق آسيا، لم؟ لأنَّ الصفة العامة دَلَّتْ على ذلك، ولو أَخَذَ الآخِذْ يُعَدِّدُ أشياء كثيرة متنوعة دلته على أَنَّ هذه الصورة هي صورة عربي، وهذه الصورة صورة أوروبي، هذه الصورة الخَلقية صورة من شرق آسيا وهكذا. فإذاً الصورة العامة بها تتفرق الأشياء، فالذي يدل على الفرقان ما بين شيء وشيء، وأهمها الصورة العامة له. كلام الناس –إذا انتقلنا من الصورة الخَلقية- كلام الناس يختلف بعضه عن بعض. قول الصحابة إذا سمعنا كلاما نقول هذا من قول الصحابة أو من قول السلف؛ لأنَّ كلامهم لا يشبه كلام المتأخرين، كما قال ابن رجب (كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة) . فكلام السلف له صورة عامة تعلم أنَّ هذا من كلام السلف، فلو أتينا بكلام إنسان معاصر وبكلمات له كثيرة وقارناها بكلام السلف لاتضح الفرق. فإذاً المخلوق البشر في كلامه متباين.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام ابن تيمية، ترى كلام الشيخ محمد ابن عبد الوهاب في تقريره تقول هذا ليس بكلام مثلاً النووي، إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس هو كلام أبي حنيفة وهكذا. فإذاً الكلام له صورة، له هيئة من سَمِعَهَا مَيَّزَ هذا الكلام. وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي بأنَّ كلام الله - عز وجل - لا يشبه كلام البشر. إذا تبين ذلك فإنَّ كلام الله - عز وجل - صِفَتُهُ، فهذا القرآن من سَمِعَهُ أيقن أنه ليس بكلام البشر. ولهذا بعض الأدباء الغواة مثل ابن المقفع والمعري ونحو ذلك أرادوا معارضة القرآن بصورة أدبية فظهر؛ بل افْتَضَحُوا في ذلك فَغَيَّرُوا منحاهم إلى مَنْحَى التأثير إلى ما أشبه ذلك في كتبهم المعروفة وهي مطبوعة. أرادوا المعارضة من جهة المعاني، من جهة الألفاظ، أن يأتوا شيء لكنهم افتضحوا لأنَّ كلام البشر لا يمكن أن يكون مثل كلام الله - عز وجل -. العرب عندهم معرفة بالبيان، هم الغاية في البيان، هم الغاية في معرفة الفصاحة، هم الغاية في معرفة تركيب الكلام؛ لكنهم لما سمعوا القرآن ما استطاعوا أن يعارضوه لم؟ لأنَّ الكلام لا يشبه الكلام، لا يمكن، لا يمكن أن يعارضوا؛ لأنَّ كلام الله - عز وجل - لا يشبه كلام المخلوق. إذا تبين لك ذلك، فنقول إذاً: ما نُقَرِّرُهُ هو أنَّ وجه الإعجاز في كلام الله - عز وجل - هو أَنَّ كلام الله ـ لا يشبه كلام البشر، ولا يماثل كلام البشر، وأنَّ البشر لا يمكن أن يقولوا شيئاً يماثل صفة الله - عز وجل -، والناس لا يستطيعون على اختلاف طبقاتهم وتنوِّع مشاربهم أن يَتَلَقَّوا أعظم من هذا الكلام، وإلا فكلام الله - عز وجل - في عظمته لو تَحَمَّلَ البشر أعظم من القرآن لكانت الحجة أعظم؛ لكنهم لا يتحملون أكثر من هذا القرآن. لهذا تجد التفاسير من أول الزمان إلى الآن وكل واحد يُخْرِجُ من عجائب القرآن ما يُخْرِجُ، والقرآن كنوزه لا تنفذ ولا يفتر على كثرة الرد لا من جهة التِّلاوة ولا من جهة التفسير. إذا تبين لك ذلك فكلام الطحاوي هذا من أنْفَسْ ما سمعت وأصح الأقوال في مسألة إعجاز القرآن وهو أنَّ الكلام لا يشبه الكلام. إذا تبين هذا فنقول: كلام الله - عز وجل - في كونه لا يشبه كلام البشر، له خصائص. فأوجه إعجاز القرآن التي ذَكَرَهَا من ذَكَر، نقول هي خصائص لكلام الله - عز وجل - أوجبت أن يكون كلام الله - عز وجل - ليس ككلام البشر. مثل ما يقول الواحد: هذا الشعر موزون، هذا البيت فيه كسر، لماذا؟، حرف واحد نقص قال فيه كسر، أو هذا البيت ما يمكن أن يكون كذا، لماذا؟ في هيئته العامة؛ لكن له برهان يأتيك، يقول لأنه كذا، وكذا، وكذا. فلان بخصاله، دلنا بصفاته، حركاته تصرفاته على أنه ليس بعربي، هذه القضية العامة لم؟ له أدلة عليها؛ لكن هذه الخصائص العرب وما تميزوا به عن غيرهم. يقول هذا الحديث ضعيف أو هذا الحديث معلول، ما وجه علته؟ مثل ما قال أبو حاتم وغيره ممن تقدمه: إنَّ أهل الحديث يعرفون العلة كما يعرف صاحب الجوهر الزيف من النقي. أنت ترى هل هذا ألماس نقي أو ليس بنقي؟ يأتيك صاحب الخبرة ويقول هذا ألماس ليس بنقي، أنت ترى ما تعرف تُفَرِّقْ هل هذا نقي؟ هذا الكتاب طبعته طبعة حجرية، الذي لا يعرف ما يعرف، هذا الكتاب مطبوع في روسيا كيف عرفت أنه مطبوع وليس عليه اسم البلاد؟ هذا الكتاب مطبوع في بلدة كذا في الهند لماذا؟ عنده البرهان ولكن الصفة العامة هي هذه. لهذا نقول وانتبه لهذا حتى تخلص من إشكال عظيم في هذه المسألة -مسألة إعجاز القرآن- لتنوع الخطاب فيها وتنوع المدارس فيها نقول: إنّ كلام الله - عز وجل - ليس ككلام البشر، وكلام الله - عز وجل - له خصائص ميزته عن كلام البشر. ما هذه الخصائص؟ كل ما قيل داخل في خصائص القرآن: - أولاً: القرآن كلام الله - عز وجل -، واشتمل القرآن على ألفاظ العرب جميعاً. تجد القرآن فيه كلمات بلغة قريش، وفيه كلمات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه بلغات كثيرة بلغة حِمْيَر، {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] ، قال ابن عباس (السمود: الغناء بلغة حمير) (1) . بعض قريش خَفِيَ عليها بعض الكلمات مثل ما قال عمر رضي الله عنه لما تلا سورة النحل في يوم الجمعة -يعني في الخطبة-، تلا سورة النحل فوقف عند قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:47] ، نظر فقال: ما التخوف؟ (2) فسكت الحاضرون، فقام رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين التخوّف في لغتنا التَّنَقُّص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تخوّف الرَّحْلُ منها تامِكاً فردا كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ   (1) انظر تفسير الطبري (النجم:59) (2) انظر تفسير البيضاوي (النحل:47) / تفسير روح المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 تنقص، يعني {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} يعني يبدأ يتنقص شيئاً فشيئاً، ينقصون عما كانوا فيه من النعمة شيئاً فشيئاً، حتى يأتيهم الأجل، عمر القرشي خفيت عليه هذه الكلمة؛ لأنها بلغة أخرى. هل يستطيع أحد من العرب أن يحيط بلغة العرب جميعاً؟ لا يمكن، أن يحيط بلغة العرب جميعاً بألفاظها وتفاصيلها لا يمكن. ولهذا تجد في القرآن الكلمة بلغة مختلفة، وتجد فيه التركيب النحوي بلغة من لغات العرب، فيكون مثلاً على لغة حِمْيَرْ في النحو، أو على لغة [سَدُوسْ] في النحو، أو على لغة هذيل في النحو. فإذاً الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية في القرآن تنوَّعت ودخل فيها كل لغات في العرب. هذا لا يمكن أن يكون من كلام أحد، لا يستطيع أن يحيط هذه الإحاطة إلا من خَلَقَ اللغات وهو رب العالمين. - ثانياً: الألفاظ، كما ذكرنا ألفاظ القرآن بلغت الأعلى في الفصاحة، والقرآن كله فصيح في ألفاظه، والفصاحة راجعة إلى الكلمات جميعا؛ الأسماء والأفعال والحروف، حتى {الم} فصيح. إذاً من خصائص القرآن التي دلت على إعجازه أنَّ ألفاظه جميعاً فصيحة، وما استطاع أحد من العرب الذين أنزل عليهم القرآن أن يعيبوا القرآن في لفظٍ مما فيه كما عابوا كلام بعضهم بعضاً، بل قال قائلهم: إنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطُلاوة. إلى آخر كلامه. - ثالثاً: من خصائصه المعاني، المعاني التي يتصورها البشر عند قول كلامه لابد أن يكون فيها قصور. فإذا تكلم البشر في المعاني العَقَدِيَة فلابد أن يكون عنده لاشك قصور، إذا تكلم في المعاني التشريعية لابد أن يظهر خلل، إذا تكلم في المعاني الإصلاحية التهذيبية لابد أن يكون فيها خلل، ولهذا قال - عز وجل - {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . فإذاً تَنَوُّعُ المعاني على هذا الوجه التام بما يناسب المعاني الكثيرة التي يحتاجها الناس يدل على أنَّ هذا كلام الله - عز وجل -؛ يعني أنه صفته. هذه خصائص كلام الله - عز وجل -، فلو قيل تقديراً: إننا سنصف القرآن الذي هو كلام الله - عز وجل - وبه فارق كلام البشر فَسَتُعَدِّدْ هذه جميعا. فهي خصائص أو أوجه للإعجاز بها صار القرآن معجزاً بجميعها، لا بواحدة منها. - رابعاً: أنَّ القرآن فيه النَّظم مثل ما قال الجُرْجَاني وهو من أحسن النظريات والكلام في إعجاز القرآن من جهة البيان. القرآن فيه القِمَّةْ في فصاحة الألفاظ وفي البلاغة. البلاغة مُتَرَكِّبَةْ من أشياء؛ مُتَرَكِّبَةْ من ألفاظ ومن معاني ومن روابط -الحروف التي تربط بين الألفاظ والمعاني وتصل الجمل بعضها ببعض-. فالقرآن إذاً من أوجه إعجازه أو من صفاته وخصائصه أنَّ نظمه - يعني أنَّ ترتيب الكلام والآيات فيه وترتيب الجمل في الآية الواحدة - يدل على أنَّه الغاية في البيان، ولا يمكن لبشر أو لا يمكن للجن والإنس لو اجتمعوا أن يكونوا دائما على أعلى مستوى في هذا النظم. ولهذا تجد أنَّ تفاسير القرآن حارت في القرآن، حتى التفاسير المتخصصة في النحو تجده ينشط في أوله تجده يعجز في آخره، ما تجده ينشط، آخر تجده في البلاغة يريد أن يبين بلاغة القرآن فيُجَوِّدْ في موضع ثم بعد ذلك تأتي مواضع يكسل، ما يستطيع أن يُبِينْ عن ذلك. ولهذا قال من قال من أهل العلم: العلوم ثلاثة: علم نضج واحترق. وعلم نضج ولم يحترق. وعلم لم ينضج ولم يحترق. والثالث هو التفسير، لم ينضج ولم يحترق؛ لأنه على كثرة المؤلفات في التفسير وهي مئات فإنها لم تأتِ على كل ما في القرآن، لم؟ لأنَّ الإنسان يعجز، يعجز المبَيَّن أن يُبَيَّن عن كل ما في القرآن. إذاً نظرية النظم التي ذكرها عبد القادر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة -على تفصيل ما فيها- لا شك أنها دالة على صفة من صفات القرآن. - خامساً: أنَّ القرآن له سلطان على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام. ولكن القرآن له سلطان على النفوس بما تميز به من كلام الله - عز وجل -؛ لأنه كلام الله - عز وجل -، مثل ما صار السلطان على ذلك المشرك؛ يعني أنه يُرْغِمْ الأنوف. وقد كان مَرَّةً أحد الدعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت: كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قرعها للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟ فقال: هي القرآن. وهذا لاشك إذا سمعت القرآن تجد له سلطان على النفس ينبئ النفس على الاستسلام له، إلا لمن ركب هواه. هذا السلطان تجده في أشياء: ~ أولاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أنَّ آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- لم تُجْعَلْ آيات العقيدة على حِدَا، وآيات الشريعة على حدا؛ الأحكام، وآيات السلوك على حدا، إلى آخره؛ بل الجميع كانت هذه وراء هذه، فآية تخاطب المؤمنين، وآية أخرى تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس، وآية فيها العقيدة، وآية فيها قصص الماضين، وآية تليها فيها ما سيأتي، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وآية فيها التشريع، وثم يرجع إلى آية أخرى فيها أصل الخلق قصة آدم، وهكذا في تنوع. وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأنَّ الأنفس متنوعة. بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، تارة تتأثر بالمثل، تارة تتأثر بالقصة، تارة هي مُلْزَمَة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد. فَكَوْنُ هذه وراء هذه وراء هذه تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواع ما تتأثر به. وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خَلَقَ هذه النفس البشرية، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . فتجد أنَّ القرآن يحاصرك، فأيُّ إنسان أراد أن يفر لا يمكن أن يفر من القرآن، ستأتيه قوة بآية فيها وصف الكافرين، آيات فيها قوة في وصف المنافقين، آيات فيها قوة في وصف المؤمنين، آيات فيها العقيدة، فيها الماضي، فيها الحاضر، فيها النبوة، فيها الرسالة، فيها الدلائل، فيها حال المشركين، إلى آخر [ ..... ] ما يحصر على النفس الحية والعقل الواعي الذي يتحرك وعنده همة يحصر عليه الهروب. وهذا لا يمكن أن يحصره في أنواع النفس البشرية الواحدة إلا من خَلَقَ هذه النفس وتَكَلَّمَ بهذا القرآن لإصلاحها، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] . فكيف إذاً بأنواع الأنفس المختلفة، هذا الذي يَصْلُحُ له الترغيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له الترهيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له وصف الجنة، وهذا الذي ينشأ عنده الإيمان بالحب وإلى آخره، وذلك الذي ينشأ عنده الإيمان بالجهاد، ونحو ذلك. ~ ثانياً: تنوع الأنفس وخطاب القرآن للناس جميعاً على تنوع أنفسهم هذا دليل على أنَّ هذا القرآن له سلطان على النفوس. أيضاً تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ يعني رنات الكلام. بعض الناس عنده شفافية في التأثر باللحن، بالرنات، بالصعود والنزول في نغمة الكلام، هذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له. لَبيد بن رَبيعة صاحب معلقة وصاحب ديوان مشهور، قيل له: ألا تنشدنا من قصائدك، لم وقفت عن الشعر؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران. لأنَّ هذا الشيء هو له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال - عز وجل - {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42] ، وقال سبحانه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] . - سادساً: أنَّ القرآن فيه الفصل في أمور الغيبيات، فَثَمَّ أشياء في القرآن أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وكان أميا صلى الله عليه وسلم، ما لم يَظْهَرْ وجه بيانها وحجتها في كمال أُطْرِهَا إلا في العصر الحاضر، وهو ما اعتنى به طائفة من الناس وسموه الإعجاز العلمي في القرآن. والإعجاز العلمي في القرآن حق؛ لكن له ضوابط، توسَّعَ فيه بعضهم فخرجوا به عن المقصود إلى أنَّ يجعلوا آيات القرآن خاضعة للنظريات، وهذا باطل؛ بل النظريات خاضعة للقرآن لأن القرآن حق من عند الله والنظريات من صنع البشر لكن بالفهم الصحيح للقرآن. فثَم أشياء من الإعجاز العلمي حق لم يكن يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم على كمال معناها وإنما علموا أصل المعنى، فظهرت في العصر الحاضر في أصول من الإعجاز العلمي. الإعجاز الاقتصادي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز العَقدي أشياء تكلم عنها الناس في هذا العصر -ما نطيل في بيانها- وكل واحدة منها دالة على أن هذا القرآن من عند الله - عز وجل - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] . - سابعاً: أنّ القرآن من صفاته أنّ الإنسان المؤمن كلما ازداد من القرآن ازداد حباً في الله - عز وجل -، وهذا راجع إلى الإيمان، وراجع إلى أنَّ صفة القرآن فيها زيادة في الهدى والشفاء للقلوب. فالأوامر والنواهي والأخبار التي في القرآن هي هدى وشفاء لما في القلوب، كما قال سبحانه {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] ، وهذا سلطان خاص على الذين آمنوا في أنه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور في المسائل العلمية وفي المسائل العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لهذا ما تأتي فتنة ولا اشتباه إلا وعند المؤمن البصيرة لما في هذا القرآن؛ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] . فإذاً صفة كلام الله - عز وجل - في أنَّ المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعلم حدوده ويعلم معانيه، أنَّ عنده النور في الفصل في المسائل العلمية والعملية، وهذه لا يُلقاها إلا أهل الإيمان {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] ، {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، وهذا أيضا سلطان خاص يزيد المؤمن إيمانا. لهذا إذا تليت على المؤمن آيات الله - عز وجل - {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، زادتهم إيماناَ لما فيه من السلطان على النفوس. إذا تبين لك ذلك فكلام الله - عز وجل - قديم النوع حادث الآحاد. والقرآن من الحادث الآحاد وقت التَّنَزُّل كما قال - عز وجل - {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:2-3] إلى آخر الآيات. يعني أنّ الله - عز وجل - تَكَلَّمَ به. وكلام الله - عز وجل - أوسع من الكلام بالقرآن. والقرآن جاء على هذا النحو؛ لأنه الذي يتحمله الإنسان، الإنس والجن لا يتحملون أكثر من هذا، وإلا لصار عليهم كَلَفَة وعَنَفَة. بهذا يتبين لك ما ظهر لي من تحصيل أقوال أهل العلم في هذه المسألة العظيمة التي خاض فيها المعتزلة، وخاض فيها الأشاعرة، وقل بل نَدَرْ من أهل السنة من خاض فيها على هذا النحو، بل لا أعلم من جمع فيها الأوجه على هذا النحو في كتب العقائد؛ بل تجدها متفرقة في كتب كثيرة في البلاغة، وفي الدراسات في إعجاز القرآن، وفي التفسير، وفي كتب متنوعة. وما أجمل قول الطحاوي رحمه الله رحمة واسعة (أَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر) وهذا هو الحق فالقرآن بصورته وهيئته وصفته لا يمكن أن يشبه قول البشر، حتى في رسمه وتنوع آياته وسوره لا يمكن أن يشبه قول البشر. أسال الله - عز وجل - أن يغرس الإيمان في قلوبنا غرسا عظيما، وأن يجعلنا من أوليائه الصالحين، وأن يهيئ لنا من امرنا رشداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الأسئلة : س1/يقول نريد أن نرجع إلى مرجع في مسألة إعجاز القرآن؟ المسألة طويلة الذيول وما ذكرت متفرق بين مراجع كثيرة. س2/ ما هي عقيدة أبي العتاهية؟ ج/ رحم الله أبا العتاهية، فهو من الصالحين، ولا تسل عن شيء ليس فيه مصلحة، أبو العتاهية شاعر من الشعراء الزهاد وشعره وديوانه مطبوع. س3/ هل يوجد في القرآن ألفاظ أعجمية، وما معنى {حم} ، {المر} ؟ ج/ الجواب: الكلمات الأعجمية في القرآن، أعجمية الأصل لكنها عربية الاستعمال، ومعلوم أنّ العرب لما استعملوا هذه الكلمات صارت عربية كالسندس والإستبرق وأشباه ذلك؛ لأنها لم تأت على أوزان العرب. فأهل العلم في هذه المسألة لهم قولان: - منهم من ينفي وجود الكلمات الأعجمية أصلاً. - ومنهم من يقول هي موجودة لكنها بالاستعمال صارت عربية، وهذا هو الصحيح. أما الأحرف المقطعة في أوائل السور {الم} ، {الر} ، {حم} فهي دالة على إعجاز القرآن، فالحجة فيها عظيمة {الر} ، {الم} فصيحة ألفاظُها؛ يعني هذه الأحرف من حيث الاستعمال، ودالة على أعظم أنواع الإعجاز، أو على دليل عظيم من أدلة الإعجاز، كيف؟ {المر} ، {حم} ، {كهيعص} هذه الأحرف هي الأحرف التي بها يتكلم العرب وينشئون بها الكلام الذي يفاخرون به، فأشعار العرب من هذه الأحرف، وكلمات العرب وخطب العرب من هذه الأحرف، وما تفاخروا فيه من البيان والبلاغة والخطاب والفصاحة إنما هو مكوَّن من هذه الأحرف. فالله - عز وجل - في أول بعض السور افتتحها بالأحرف المُقَطَّعَة لينبه أنّ هذا القرآن كلماته وآياته من هذه الأحرف التي بها تنشئون كلامكم البليغ الذي تتحدون به، فَهَيَّا استعملوا هذه الأحرف في إنشاء كلام مثل هذا القرآن. ولهذا تجد أنَّ الأحرف المقطعة في افتتاح السور أغلبها والغالبية العظمى منها يكون بعد ذكر الأحرف المقطعة ذكر الكتاب والقرآن، لا تجد سورة فيها ذكر الأحرف المقطعة إلا وفيها ذكر القرآن، والأغلب أن تكون بعد الأحرف المقطعة مباشرة. خُذ مثلا {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] ، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1-2] ، {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [1-2] ، {حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1-2] ، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] ، {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد:1] ، إذاً فكلما ذُكِرَتْ الأحرف ذُكِرَ بعدها الكتاب، وتارة تكون بعد ذلك كسورة مريم {كهيعص} يأتي ذكر القرآن بعدها. فإذاً إيراد هذه الأحرف المقطعة في أوائل السور لتحدي العرب في تكوين كلام من هذه الأحرف التي يكونون منها كلامهم وينشئون بها خطبهم وأشعارهم وأن يعارضوا القرآن بمثل هذا الكلام. س4/ ما رأيكم بمن يقول إنَّ الله ليس له لغة بدليل أنه يخاطب جميع البشر كلٌ حسب لغته؟ ج/ نقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللغة اصطلاحية، اللغة من آيات الله {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] ، البشر احتاجوا للغات ليتفاهموا بينهم، الله - عز وجل - هو الذي خلق البشر وخلق لغات البشر وجعل اختلاف الألسن دليلاً على عظم الباري - عز وجل -. الله سبحانه أعظم من أن يقال فيه إنه يتكلم بكل اللغات، أو أنه ليس له لغة أو نحو ذلك. الله - عز وجل - أعظم وأجل من ذلك أو نحو ذلك، {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]ـ. س5/ ما رأيك بقول الشخص للآخر لك خالص شكري؟ ج/ الجواب: نبهنا عليه مرارا أنّ الشكر عبادة؛ الشكر عبادة لله - عز وجل -، أمر الله بها {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ، {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ، ولما أمر الله - عز وجل - به فهو عبادة عظيمة من العبادات التي يتقرب إلى الله - عز وجل - بها، والعبادات من الدين، والدين الخالص لله - عز وجل -، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] ، فلا يجوز أن يقال لأحد: لك خالص شكري لأنَّ خالص الشكر لله سبحانه وتعالى، أو: لك خالص تحياتي. مع خالص تحياتي أو: خالص تقديري. هذه كلها لله - عز وجل -، خالص التحيات وخالص التقدير والقدر والتعظيم، وخالص الرجاء، ومثل ما يقول وفيك خالص رجائي، الرجاء والشكر، ومثل هذه الأشياء هي عبادة وخالصها لله - عز وجل -. فلا يجوز أن يقول القائل مثل ما هو شائع في كثير من الرسائل والمكاتبات وتقبل خالص شكري وتقدري؛ لأن هذا إنما هو لله - عز وجل -. فالشكر الخالص لله، يقال للبشر ولك عظيم شكري، أو يقال له مع عظيم شكري لك، مع جزيل شكري، ونحو ذلك، نعم يُشْكَرْ البشر على ما يقومون به من أنواع الخير، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) (1) ، فالذي لا يشكر الناس لا يشكر الله - عز وجل -. أسأل الله ـ أن يتقبل مني ومنكم، وأن يزيدنا من العلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (2)   (1) أبو داود (4811) / الترمذي (1954) (2) انتهى الشريط التاسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 : [[الشريط العاشر]] : الأسئلة: س1/ ما حكم تعليق المشيئة على أمر متأكِدٍ أنه واقع كقوله هذا فلان الواقف أمامك إن شاء الله، كذلك حكم تعليقها على أمر قد حصل وانتهى؛ كقوله أكلتم إن شاء الله؟ ج/ المشيئة في استعمال المسلم على درجتين: الدرجة الأولى: أنه يُقْصَدُ بها حقيقة التعليق؛ يعني أنَّ ما سيفعله مُعَلَّق بمشيئة الله كما قال - عز وجل - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23-24] ، فإذا كان الأمر يُعَلَقُ على المستقبل فإنه يتأكد استعمال المشيئة، يعني أن يُعَلَّق الأمر على مشيئة الله؛ لأنَّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الدرجة الثانية: أن تكون (إن شاء الله) لتأكيد تحقق الأمر بمشيئة الله؛ لأنَّ الأمر وقع ووقوعه ليس بمشيئتي ولكن بمشيئة الله، فلا بأس أن يُؤَكَدَ أي أمر وقع بكلمة (إن شاء الله) ويقصد بها أنه تحقق ووقع بمشيئة الله - عز وجل -، وعلى هذا جاء في القرآن قول الله - عز وجل - {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] ، بعد أن دخلوا، وكقوله - عز وجل - {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح:27] . بالمناسبة بتعليق المشيئة: الكلمة المعروفة التي تروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لما حض الناس على جهاد التتر، فقال (إنكم منصورون) فقال له أحد القضاة (قل إن شاء الله) قال (إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا) ، يعني أنتم منصورون والنصر بمشيئة الله يتحقق، وهذا لأجل أن الله - عز وجل - وعد عباده ووعده حق أن ينصرهم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:59] ، وقال - عز وجل - {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، وقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] ، ونحو ذلك من الأدلة. س2/ ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المكروهات وترك المستحبات، مثل أن يترك الإنسان النوافل بعد الصلاة، فإذا حاجه أحد قال: هذا بقضاء الله وقدره؟ ج/ القدر لا يجوز الاحتجاج به على المعايب، فإذا كان ثَمَّ فِعْلْ للإنسان فيه عيب من ترك فريضة أو فعل محرم، أو من ترك نافلة أو فعل مكروه، فإنه لا يجوز أن يحتج على ذلك بالقدر. وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصايب؛ إذا أصيب الإنسان بمصيبة عَلَّقَ ذلك بقدر الله - عز وجل -؛ لأنه في تعليقه للقدر تطمئن النفس ويكمل الإيمان والهدى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ، ما شاء الله كان، قدر الله وما شاء فعل، هذا في المصائب. أما في المعايب فإنَّ هذا من وسائل الشيطان؛ لأنَّ الاحتجاج بالقدر على المعايب ليس فيه في الحقيقة حجة، بل حجة على صاحبه الذي احتج به؛ لأنَّ الإنسان مُخَيَرْ هل يعمل هذا أو يعمل الأمر الثاني؟ فكونه اختار أحد الأمرين بإرادته التي توجهت إلى أحد الأمرين، وبقدرته التي توجهت إلى أحد الأمرين، فإن احتجاجه بالقدر حينئذ احتجاج للخروج من التَبِعَة؛ لأنه كان عنده إرادة، ولو صح الاحتجاج بالقدر في المعايب ما بقي معنى للتكليف ولا للحساب؛ لأنّ هذا هو معنى قول الجبرية. س3/ ما الفرق بين معجزات الأنبياء القرآن وهل معجزات الأنبياء معجزة بنفسها كالقرآن أم لا؟ ج/ معجزات الأنبياء ومنها معجزات المصطفي صلى الله عليه وسلم، ذكرنا أنها آيات وبراهين ودلائل، فلفظ المعجزة لفظ حادث، ولهذا تارة يقع الإشكال في توجيه بعض الأمور؛ لأنه يُنْتَقَل من استعمال العلماء لها في أحد معانيها أو في كثير من معانيها إلى أن تُجعل حقيقة شرعية عامة، وهذا يُنتبه له، فإنَّ كلام العلماء تقرير للحقائق فإذا كان الاستعمال الاصطلاحي لهم في الألفاظ لم يأت في القرآن ولا في السنة فينبغي أن يُجْعَلَ بِقَدَرِه، وألا يُزاد على ما استعملوه فيه، ولهذا لفظ المعجزة -كما ذكرنا لكم- لم يأت في القرآن ولا في السنة، وإنما فُهِمَ ذلك فهما وهذا الفهم صحيح إذا قُدِّرَ بَقَدَرِهِ الشرعي ولم يُنتقل عنه إلى ما لم يأت به دليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ولهذا نقول آيات الأنبياء والبراهين الدالة على صحة رسالاتهم وعلى أنهم مرسلون من عند الله وأنَّ ما جاؤوا به حق، هذه كلها دليل صدقها في نفسها؛ لأنها شيء خارج عن قدرة الإنس والجن في ذلك الزمان جميعا، فكل معجزة، كل آية، كل برهان، اقترن بدعوى النبوة فهو خارج عن قدرة الإنس والجن جميعا، في النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي جميع الأنبياء والمرسلين؛ لأننا نقول إنَّ كل نبي يُخَاطَبُ به؛ يعني يُخَاطَبُ برسالته الإنس الذين بعث فيهم وكذلك يُخَاطَبُ برسالته من سمع رسالته من الجن، فلهذا يقع الإعجاز وتقع الحجة بأن تكون الآية والبرهان خارجا عن مقدور الإنس والجن جميعا. وهذا هو في آيات وبراهين الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، وكذلك في القرآن، فكلها آية وبرهان حجته في نفسه قاطِعٌ في نفسه لمعارضة المعترض. وتدبر هذا في جميع الآيات التي أوتيها الأنبياء والمرسلون عليهم صلوات الله وسلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ، بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ، كما نَطق به كتابُ ربِّنا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ. وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا، فإنَّهُ مَا سَلِم في دينه إلاَّ مَنْ سَلَّمَ لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسُولِه صلى الله عليه وسلم، وردَّ علْمَ ما اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلى عَالِمِهِ.   هذه المسألة مسألة عظيمة جداً، وهي مسألة رؤية الرب - عز وجل - في الجنة. ورؤية الله - جل جلاله - في جنات النعيم هي أعلا ما يَلتذُّ به أهل الجنة، فأهل الجنة أعلا نعيمهم رؤية وجه الله - عز وجل -، وذلك لأنه منتهى الجمال؛ ولأنّ في الرؤية الرضا، ولأنّ في الرؤية الإكرام، ولأنّ في الرؤية صلاح القلب برؤية محبوبه - عز وجل -. فكل أنواع الجمال التي يتعلق بها المتعلقون إنما هي بعض جمال صفات الرب - عز وجل -؛ يعني أنها شيء من جمال الصفات، كما أن رحمة الله - عز وجل - منها جزء يتراحم به الناس. وكذلك جمال الحق - عز وجل - في ذاته وصفاته وأفعاله من جماله أفاض على هذا الوجود، فصارت الأشياء جميلة لما أفاض عليها - عز وجل - من جماله ـ، كما قال ابن القيم رحمه الله: وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان فكل جمال يطمع إليه الطامع وتتعلق به نفس المُتَعَلِّقْ من جمال مخلوقات الدنيا أو من أنواع الجمال والتلذذ في الجنة فإنه ليس بشيء عند الرؤية والتلذذ بمن أفاض ذلك الجمال، وأفاض تلك اللذات على من شاء من خلقه. ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّ الرؤية لله - عز وجل - هي الغاية التي شَمَّرَ إليها المشمرون. فإذا كانت الجنة غاية في تشمير المشمر وفي تَعَبُّد العابد، فإنَّ أعلى نعيم الجنة وأعظم نعيم الجنة أن يرى المؤمنون ربهم - عز وجل -، كما قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، نظرت إلى الرحمان فاكتست الوجوه نظرة وجمالا وبهاء وحسنى تبارك ربنا وتعالى. قال (والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) يعني أنَّ الرؤية ثابتة، وهي حق لا مِرْيَة فيه، ولا شك فيه، وهي حق لأهل الجنة فأهل الجنة يرون ربهم - عز وجل - ويتلذذون بذاك النعيم. قال (بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ) فنفى الإحاطة؛ لأنَّ رؤية الله - عز وجل - لا يمكن أن تكون بإحاطة للمرئي، كما قال سبحانه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] ، فرؤية الله - عز وجل - رؤية عيان؛ لكن لا يمكن أن يُحَاطَ بالله - عز وجل - رؤية كما لا يمكن أن يحاط بالله - عز وجل - علماً {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، ولكن أصل العلم بالله - عز وجل - ثابت، وكذلك الرؤية لا يحاط بها فلا تُدْرَكْ؛ لا تُدْرِكُ الربَّ - عز وجل - الأبصار، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، ولكن أصل الرؤية موجود. فالمنفي إذاً في الآيات الإحاطة، وهذا ليس في الرؤية وحدها ولكن في كل صفات الله - عز وجل -؛ فإنَّ الله سبحانه بذاته وبصفاته لا يحاط به علماً ولا يحاط بالله - عز وجل - إدراكاً ورؤية. قال (ولا كَيْفيَّةٍ) يعني لا تُكيَّفُ رؤية الناس لربهم - عز وجل -؛ وإنّما هي حق على ما جاء في الأدلة، والكيفية منفية؛ لأنَّ رؤية الناس لله - عز وجل - -يعني بالناس المؤمنين في الجنة- فإنَّ رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الجنة تبع لصفاته، وصفات الرب - عز وجل - لا تُعْرَفُ كيفيتها. فرؤية الرائي للرب - عز وجل - في دار النعيم والخلود والسعادة ليست رؤية إحاطة ولا تُكَيَّفْ بكيفية: - لأنَّ الله - عز وجل - في علوه لا يُعْلَمُ كيف ذلك. - ولأنَّ الله - عز وجل - في رؤية المؤمنين إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك. - ولأنَّ الله - عز وجل - في كشف الحجاب الذي يحجبه عن رؤية الخلق إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك. فربنا أعلى وأعظم مما يدور في الذهن أو مما يحوم عليه الخاطر أو يتوهمه المتوهم. فلذلك نُثْبِتُ الرؤية دون نظر في كيف تكون هذه الرؤية، لكنها رؤية بالعيان رؤية بالعينين ليست رؤية قلب، وإنما هي رؤية عينين، كما سيأتي ذلك في الأدلة. وكما استدل المصنف رحمه الله بقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) ذكرنا لكم أنَّ هذا من الذي استعمله أهل العلم كثيراً أن يُنْسَبَ القول والنطق والكلام للقرآن يعنون بذلك من تكلم به وهو الرب - عز وجل -، فقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) لا بأس به ويستعمله كثير من أهل العلم من المحققين والأئمة. قال - عز وجل - ( {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ) هذه الآية فيها إثبات رؤية أهل الجنة للرب - عز وجل - وأنَّ وجوه من رأى الرب - عز وجل - ستكون (نَاضِرَةٌ) يعني حَسَنَة بَهِيَّة تعلوها النُّضرة والنَّضرة، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (نضّر الله امرَأً -امرؤا- سمع مقالتي فأداها كما سمعها) (1) الحديث، دعا له بنضارة الوجه يعني بالحسن والبهاء والزينة والجمال وهذا إنما هو لأهل الإيمان. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني يوم القيامة تلك الوجوه ناضرة حسنة بهية، وتلك الوجوه {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ناظرة إلى الرب - عز وجل -؛ يعني رائية ربها - عز وجل -، تنظر الوجوه إلى الرب - عز وجل -. ووجه استشهاد المصنف بآية سورة القيامة من ثلاثة وجوه: 1 - الوجه الأول: أنَّ النظر عُدِّي بـ (إِلَى) ، وتعدية النظر بـ (إِلَى) تفيد أنَّ معناه الرؤية -كما سيأتي بيان ذلك في المسائل-. قال ناظرة إلى ربها، وناظرة،والنظر يأتي لمعاني فإذا عدي بـ (إِلَى) كان المراد رؤية العِيَان. 2 - الوجه الثاني: أنه جَعَلَ النظر إلى الرب - عز وجل - مضافاً على الوجوه، فجعل الوجوه هي التي تنظر إلى ربها، قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالوجوه ناظرة إلى ربها، ومحل الرؤية والنظر في الوجه هو العينان. 3 - الوجه الثالث: أنه قال {يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، والنضرة: وهي الحسن والبهاء والسرور والحبور الذي يعلو الوجوه والاطمئنان، هذا إنما يكون بالرؤية لأنها منتهى النعيم واللذة، لا من الانتظار الذي لا يُدْرَى هل بعده نعيم أم بعده غير ذلك. فكون الأوجُهْ بالنظر صارت ناضرة، يعني حَسَنَة بَهِيَّة دَلَّ على أَنَّ هذا إنما هو الرؤية لأنه أثر الرؤية، وأما مجرد الانتظار فليس كل مُنْتَظِرٍ للرب - عز وجل - يُنضَّر وجهه، بل مِنَ المُنتظِرْ مَنْ يكربس في جهنم والعياذ بالله، وسيأتي مزيد بيان أوجه الاستدلال في المسائل إن شاء الله تعالى. قال (وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ) (تَفْسيرُهُ) يعني تفسير النظر إلى الرب - عز وجل - عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ. التفسير هنا يراد به أحد نوعي التفسير: وذلك أنَّهُ جَعَلَ الرؤية حق ونفى في الرؤية التي هي حق ويثبتها: الإحاطة والكيفية. فدل على أنَّهُ يُثْبِتُ معنى الرؤية الذي يعلمه السامع للكلام من ظاهر الكلام. فلما نفى الإحاطة والكيفية دلَّ على أَنَّ قوله (الرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) أَنَّ الرؤية على ظاهرها. وهذا هو المعنى الأول للأشياء، هو المعنى المتبادر للذهن في الصفات. نقول هذا على ما يتبادر إلى الذهن، فصفة الرحمة معروفة، وصفة الكلام معروف إلى آخره. والنوع الثاني من التفسير هو التفسير لتمام المعنى وللكيفية. فإنَّ تمام المعنى والكيفية لا يعلمها إلا الله - عز وجل -، كما قال سبحانه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، على مَنْ وَقَفَ هنا، فأراد بالتأويل الذي هو التفسير تمام المعنى والكيفية. فإذاً تفسير النظر إلى وجه الله الكريم، تفسير النظر إلى الرب الكريم - عز وجل - بتمام معناه لا نعلمه، تفسيره على ما أراده الله تعالى، هو حق، وتمام المعنى لا نعلمه كيف ذلك. كيف تُعْطَى العيون القدرة. النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أرأيت ربك؟ قال (نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ) ؟ (2) وقال (رَأَيْتُ نُوراً) (3) كما في الصحيح من حديث أبي ذر، وموسى عليه السلام سأل ربه قال {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] ، قالت طائفة من السلف: كَشَفَ الله - عز وجل - من الحجاب قدر هذه؛ أنملة واحدة، فساح الجبل، فَرُدَّ طلب الرؤية على موسى لأنَّهُ لن يقدر على ذلك،كذلك قال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (4) . فإذاً الناس ليس عندهم القدرة على الرؤية، فكيف تكون عندهم القدرة على الرؤية؟ وكيف تكون قُواهُم؟ وكيف تكون قُدَرُهُم؟ وكيف يُعطون؟ وعلى أي حال تكون الرؤية وتفسير ذلك على تمام معناه؟ هذا كله لا يُعْلَمْ كما قال (تَفْسيرُهُ) -يعني بتمام معناه بما يزيد على إثبات الرؤية وأنها حق - على ما أراد الله تعالى وعلمه، لا ندخل في ذلك متأولين ولا متوهمين، كما ذكر بعد ذلك. وهذه الكلمة تشبه ما ذكره ابن قدامة وغيره عن الإمام أحمد وعن الإمام الشافعي في الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات؛ صفات الرب - عز وجل -، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى. وهذه استدل بها بعض أهل التأويل على أنهم - يعني الإمامين - يعنون بذلك التأويل. لا كيف فلا نكيف الصفات. ولا معنى لا نثبت المعنى بل نفوض المعنى والكيفية. وهذا ليس بمراد، بل المراد من قولهم لا كيف ولا معنى أنَّ إمرار الصفات كما جاءت معناه إثبات الصفات على ما دل عليه ظاهر الكلام؛ لأنَّ الصفة لا تُثْبِتُهَا إلا بما دل عليه ظاهر الكلام. ونفي الكيفية عن الصفة يعني الكيفية التي نحا إليها المجسمة. ونَفْيُ المعنى بقولهم لا كيف ولا معنى؛ يعني المعنى الذي ذهب إليه المؤؤلة الذي يخالف ظاهر الكلام، ويخالف الإمرار كما جاءت. فإذاً الإمرار كما جاءت بما يُفْهَمْ، فمن كيَّف فقد صار مجسماً أو صار مكيفاً، ومن تأول المعنى فقد دخل في الكلام بما يخرج اللفظ عن ظاهره. لهذا قول القائل لا كيف ولا معنى؛ يعني لا كيف كما يقول المجسمة ولا معنى كما يقول المؤولة بما يُخْرِجُ تلك الآيات والأحاديث عن ظاهرها المتبادر منها من إثبات صفات الرب - عز وجل - والأمور الغيبية بعامة، وهذا كما قال هنا (تَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ) . قال (وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - بالتواتر. عُدَّ ذلك متواترا في أكثر من عشرين حديثاً جاءت عن المصطفي صلى الله عليه وسلم في إثبات الرؤية، بأحاديث متنوعة، مختلفة في ألفاظها وفي طرقها عن عدد كبير من الصحابة، فهي متواترة. ولهذا كَفَّرَ طائفة من أهل السنة من أنكر رؤية الرب - عز وجل - لأنه إنكار للمتواتر من القرآن وللمتواتر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال (فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) . (لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا) يعني نُخْرِجْ هذا الظاهر بتأويل. (ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) بما يجعل للرؤية كيفية مُعَيَّنَة، فَنُثْبِتْ الرؤية بكيفية أو لأجل الكيفية ننفي الرؤية كما ذهب إليه المعتزلة وكما ذهب إليه المجسمة. فالمعتزلة توهموا أنَّ الرؤية تكون بكيفية فنفوا، والمجسمة توَهَّمُوا أَنَّ الرؤية تكون بكيفية فأثبتوها على تلك الكيفية. إذا تبين لك هذا المعنى العام لكلام الماتن رحمه اللهففي هذه المسألة العظيمة، مسألة الرؤية مسائل:   (1) أبو داود (3660) / الترمذي (2656) / ابن ماجه (230) (2) مسلم (461) / الترمذي (3282) (3) مسلم (462) (4) مسلم (79) / ابن ماجه (195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 [المسألة الأولى] : أنَّ المؤمن في تَعَلُّقِهِ بربه - عز وجل - في عبادته سبحانه بأنواع العبادة القلبية والعملية يرى أنّ الإنعام عليه بأن يكون من أهل الجنة هذا أعظم الإنعام؛ لأنَّ من دخل الجنة قد رضي الله عنه ومَتَّعَهُ بملاذِّها وحبورها وسرورها وأفاض عليه الزيادة وهي رؤية وجه الله الكريم. ومن أحب تَعَلَّقَ بالمحبوب، وإذا تَعَلَّقَ القلب بالمحبوب لم يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يلقى محبوبه راضياً عنه متمتعاً بلذة النظر إليه ومحادثته وتحيته، كما قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:43-44] ، فهذا أعلى أنواع التمتع. والقلب إذا خشع لله - عز وجل - وتلذذ بتلاوة القرآن وبالصلاة، وعلم أنَّ هذه من اللذات الحاضرة التي هي التلاوة والصلاة، فكيف بأعظم اللذات وهو رؤية الرب - عز وجل - وهي الغاية كما ذكر العلماء التي شَمَّرَ إليها المُشَمِّرُون، الذين تعلقت قلوبهم بالرب - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 [المسألة الثانية] : أنَّ أهل السنة والجماعة جعلوا الرؤية حق، والرؤية بالعينين. وهذه الرؤية جاءت فيها آيات كثيرة وأحاديث متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل التفسير من الصحابة والتابعين على القول بالرؤية، ولم ينكرها أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ومن الأدلة على أنَّ الرؤية حق: قول الله - عز وجل - {لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] ، وقوله - عز وجل - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ،وقوله - عز وجل - {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ، وقوله - عز وجل - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ،وقوله - عز وجل - عن الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ،وقوله - عز وجل - {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، ونحو ذلك من الأدلة. وكذلك الأدلة التي فيها ذِكْرُ لقاء الله - عز وجل - كلها صالحة للاحتجاج بها على رؤية الله سبحانه، كقوله سبحانه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، فَسَّرَهَا طائفة من العلماء من السلف فمن بعدهم بأنَّ لقاء الله برؤيته وهو المعروف لغة. وكذلك في قوله - عز وجل - {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44] قال ثَعْلَبْ -وهو من علماء اللغة المبرزين العارفين-: أجمع أهل اللغة على أنَّ اللُّقْيَا هاهنا هي الرؤية، وذلك لأنَّه لا يمكن ملاقاة وتحية وخطاب باللغة إلا برؤية، والأدلة على ذلك متنوعة، في كل دليل فيه ذكر الرؤية لله - عز وجل - أو فيه ذكر اللقاء، أو ما فُسِّرَ بالسنة برؤية الله - عز وجل -. وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكما ذكرت لكم الأدلة كثيرة جداً بلغت مبلغ التواتر، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم (إِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ يوم القيامة كَمَا تَرَوْنَ البدر ليلة التمام لاَ تُضَامّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) (1) . والحديث الآخر قال فيه صلى الله عليه وسلم (هل تَرَوْنَ الشمس في وسط النهار، هل تُضَامّونَ فيها؟) قالوا: لا. قال (هل تَرَوْنَ القمر ليلة الْبَدْرِ، هل تُضَامّونَ فيه؟) قالوا: لا. قال (فإِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ كما تَرَوْنَ الشمس وسط الظهيرة لا تُضَامّونَ فيها وكما تَرَوْنَ القمر ليلة التمام لا تُضَامّونَ فيه) (2) . وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، من حديث صهيب ا، قال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل (الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم) (3) . وأيضا في الباب قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة (جنتان من ذهب وما فيهما، وجنتان من فضة وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا أن يُكشف الحجاب) (4) . نسأل الله سبحانه المنّ والكرم لرؤيته - عز وجل -، وأن يغفر لنا ذنوبنا وآثامنا، وأن نلقاه وهو راض عنا، سبحانه إنه جواد كريم. هذه الآيات والأحاديث فيها تقرير لقول أهل السنة واضح الدِلالة. ولا نخوض في ذلك بتقرير الأوجه اللغوية لما ذُكر لأنه بتكاثرها وتواردها بلغت مبلغ القطع في هذه المسألة، حيث إنَّ المسالة ليست بخفية حتى قال الإمام أحمد لمن قال له إنَّ فلاناً ينكر الرؤية قال: كافر، كافر. يعني لأنَّ هذه لا تحتمل التأويل، وليس ثَمَّ فيها شبهة.   (1) البخاري (554) / مسلم (1466) / أبو داود (4729) / الترمذي (2551) / ابن ماجه (177) (2) مسلم (469) / الترمذي (2554) / ابن ماجه (179) (3) مسلم (467) / الترمذي (2552) / ابن ماجه (187) (4) البخاري (4878) / مسلم (466) / ابن ماجه (186) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 [المسألة الثالثة] : أنَّ قول أهل السنة في الرؤية؛ أنَّ الرؤية حق لأهل الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة. والرؤية التي للمؤمنين هي رؤية سرور وتلذذ وإكرام. واختلف أهل السنة في رؤية الله - عز وجل - في الموقف: - هل هي للمؤمنين وحدهم. - أم للمؤمنين والمنافقين. - أم للناس جميعا، على ثلاثة أقوال. وكل الأقوال في مذهب أهل السنة - يعني قال بها طائفة -. وكما قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: إنَّ الخلاف في هذه المسألة -يعني هل يرى الكفار ربهم يوم القيامة أو لا يرونه؟ هل يراه المنافقون أو لا يرونه؟ - لا ينبغي أن تكون من المسائل التي يُشَدَّدُ فيها الخلاف؛ بل الأمر فيها خَفِي، هذا نص عبارته. والمذاهب فيها كما ذكرت لكم ثلاثة: - فجمهور أهل السنة والحديث على أنَّ الرؤية للمؤمنين في عرصات القيامة. - وقال طائفة (1) للمؤمنين والمنافقين، وممن ذهب إلى ذلك ابن خزيمة كما نصًّ عليه في كتاب التوحيد - القول الثالث: أنَّ الرؤية للجميع، للمؤمنين والمنافقين والكفار. واستدلوا على ذلك بأنَّ الكافر يُحْجَبْ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، قالوا: فكونه حُجِبَ يومئذ دلَّ على أنَّه قبل ذلك لم يكن محجوباً؛ لأنَّ الكلام في الآخرة، وأما في الدنيا فالكل محجوب عن رؤية الرب - عز وجل -. وهذه الأقوال جَمَعَتْ النظر في الرؤية. ويبقى أنَّ رؤية الرب - عز وجل - نوعان: 1 - النوع الأول: رؤية إكرام ولذة ونعيم وإنعام وحبور وسرور، فهذه للمؤمنين في الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة، فهي من الطمأنينة لهم. 2 - والنوع الثاني رؤية حساب وتقرير وتعريف، فهذه هي التي يمكن أن يقال: إنها مرادة في حديث المنافقين فيما ثبت في الصحيح (أنَّ الله - عز وجل - يأتي الأمة وفيه منافقوها، ثم يأتيهم في غير الصورة التي رأوها من قبل، ثم يأمرهم بالسجود فلا يسجدون، فيقولون نحن هنا حتى يأتي ربنا، ثم بعد ذلك يكشف الرب عن ساق، فيعرفونه فيسجد المؤمنون، ويبقى من لم يكن مخلصا في الدنيا يريد أن يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا) (2) فهذا يدل على أنّ هذه الرؤية رؤية تعريف ورؤية حساب وهذا النوع من الرؤية لا ينبغي أن يكون الخلاف فيه؛ لأنَّ الحديث دل عليه. فإذاً الرؤية التي نقول: إنه أجمع أهل السنة على أنها للمؤمنين هي رؤية التنعم والتلذذ، وفي ضمن ذلك رؤية التعريف. وأما رؤية الله - عز وجل - للتعريف والحساب فهذه كُلٌ يراه بحسب حاله والله أعلم بكيفية ذلك وتفسيره. أما الكفار فعامة أهل العلم إلا من شذَّ وقلَّ يقولون إنَّ الكافر لا يرى الله - عز وجل - لا رؤية تعريف ولا رؤية تلذذ من باب أولى؛ لأنَّ الكافر محل العذاب والنكال. وأجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، بأَّن هذا استدلال بالمفهوم، بمفهوم (يَوْمَئِذٍ) ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وهم محجوبون في الدنيا عن الرؤية وكذلك محجوبون في الآخرة عن الرؤية. وكلمة (يَوْمَئِذٍ) ، ليس لها مفهوم كما قال - عز وجل - {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وكما في قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] ، وفي آيات كثيرة عُلِّقَتْ أشياء تحصل يوم القيامة بـ (يَوْمَئِذٍ) ، وقد يكون جنسها أو بعض أفرادها يحصل في الدنيا إما بالعموم أو بالخصوص. المقصود من رد الاستدلال أنه كلمة (يَوْمَئِذٍ) ليس لها مفهوم، لا نفهم منه أنهم حُجِبُوا يومئذ فمعنى ذلك أنهم قبل ذلك يعني قبل الحجب يومئذ لم يكونوا محجوبين، بل كانوا محجوبين ثم صاروا محجوبين لكن توعَّدَهُم بين حالهم بقوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيم) ، فحُجِبوا ثم صاروا صالين للجحيم.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر. (2) البخاري (7439) / مسلم (472) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 [المسألة الرابعة] : مذاهب الناس في الرؤية متعددة، منها -يعني من خالف قول أهل السنة- أشهرها مذهبان: 1 - المذهب الأول: مذهب من منع الرؤية وتأَوَّلَ كل النصوص الواردة في ذلك: وهم المعتزلة، قبلهم الجهمية، والخوارج بعامة، والإمامية من الروافض؛ بل الروافض بعامة؛ لأنَّ الزيدية ينكرون الرؤية كقول المعتزلة. وهذا القول له حججه واستدلالاته ستأتي. 2 - المذهب الثاني: مذهب من أثبت الرؤية ولكن قال: الرؤية ليست إلى جهة، وإنما تكون إدراكاً، وهذا هو قول الأشاعرة ومن نحا نحوهم. فردُّوا قول المعتزلة في أنَّ الرؤية ممتنعة بإثباتها، ووافقوهم في أنَّ ليس على العرش رب وأنَّ الله سبحانه ليس في جهة - جهة العلو - فقالوا الرؤية لا إلى جهة. وكيف تكون رؤيةً إذاً وليست إلى جهة؟ أما قول المعتزلة والخوارج، ويُشْهِرُ هذا القول في زمننا هذا طوائف الروافض والزيدية والإباضية من الخوارج ويستدلون له. فمن أدلتهم: 1- قوله - عز وجل - حينما سأل موسى عليه السلام الرؤية {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] ، إلى آخره، قالوا: وجه الاستدلال أنَّه نَفَى رؤية الله - عز وجل -، وموسى الكليم أحق الناس بالرؤية، والنفي بلن يفيد التأبيد. *والجواب عن هذه الحجة التي أدلى بها أوائل المعتزلة من شابههم إلى يومنا هذا: أنَّ النفي بلن في اللغة لا يفيد التأبيد، وإنما يفيد النفي المجرد. وأما من قال إنه يفيد التأبيد وهو الزمخشري في الكشاف وفي كتابه المفصل في النحو فإنه باطل، وردَّه ابن مالك في الكافية الشافية بقوله: ومن رأى النفي بلن مؤبدا ****** فقوله اردد وسواه فاعضدا وردَّهُ أيضا ابن هشام في أوضح المسالك قال: ولا تفيد تأبيد النفي خلافا لمن قاله. ويدل على ذلك أنَّ الله - عز وجل - قال {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95] يعني الموت، فقال (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) فنَفَى بالتأبيد بكلمة (أَبَدًا) وباستعمال (لَنْ) نفى التمني، وأثبت أنهم يتمنونه يوم القيامة قال - عز وجل - {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يعني ليميتنا ربك قال (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) ، فدل على أنَّ نفيه بـ (لَنْ) وبكلمة (أَبَدًا) لم يفد التأبيد المستغرق للدنيا والآخرة معا. فإذاً أفاد: أولاً: أنَّ قوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أنه لَمَّا استعمل (أَبَدًا) دلَّ على أنَّ (لَنْ) لا تفيد التأبيد. ثانياً: على أنَّ كلمة لن لَمْ تُفِدْ التأبيد؛ لأنهم تمنوا الموت في الآخرة، فدلت على أنها تفيد النفي في الدنيا. 2 - ومن أدلتهم أنهم قالوا: إنَّ النظر في القرآن وفي اللغة يفيد الانتظار، وهو أصله، وليس أصل النظر الرؤية، فالآيات التي فيها ذكر النظر تفيد الانتظار. فقوله - عز وجل - {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا} (1) يعني فهل ينتظرون وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ؛ يعني منتظرة الفرج، ويستدلون عليه بقول الشاعر: وجوهٌ يوم بدرٍ ناظراتٌ ****** إلى الرحمن يأتي بالفلاحِ ناظرات إلى الرحمن، قالوا معناها منتظرات. * وهذا القول في الاستدلال بمعنى النظر والإتيان عليه بهذا الشاهد اللغوي ليس على ما قالوا، وذلك أن اللغة فيها أفعال تختلف بالتعبير كثيرة جداً، فيكون للفعل معانٍ متعددة مختلفة بأنواع التعبير، ومنها فعل: انْتَظَرَ ونَظَرَ، ومصدر ذلك واسم الفاعل ناظراً. وتبيين ذلك أن يُقالَ -كما أوضحه الشارح وغيره من أهل اللغة- أَنَّ كلمة النظر وما اشْتُقَّ منها: - تارَةً تتعدى بنفسها فيكون المعنى الانتظار؛ يعني تصل إلى المفعول بنفسها فيكون معناه الانتظار. - وتارَةً تتعدى بـ (في) فيكون المعنى التفكر والاعتبار. - وتارَةً تتعدى بـ (إلى) فيكون المعنى الرؤية، وقد يكون مع الرؤية الانتظار بحسب السياق، لكن لا يمكن أن تتعدى بـ (إلى) ويكون انتظاراً بلا رؤية، لا يمكن، ولم يأتِ في أي شاهد في لغة العرب ولا في القرآن ولا في السنة أنَّ النظر يتعدى بـ (إلى) ويكون معناه الانتظار المجرد من الرؤية،بل النظر إذا تَعَدَّى بـ (إلى) صار معناه الرؤية، وقد يكون على قِلَّةْ مع الرؤية الانتظار، وهذا له نظائر في اللغة يطول الكلام ببيانها. فإذاً قوله - عز وجل - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، كونه عدّى اسم الفاعل (نَاظِرَةٌ) الذي يعمل عمل فعله عداه بـ (إِلَى) دل على أنَّ المراد الرؤية، وكونه أضاف النظر إلى الوجوه التي هي مكان الرؤية دلّ على أنَّ الرؤية تكون بآلة في هذا الوجه وهي العينان.   (1) فاطر:43، محمد:18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 3 - من أدلتهم أيضا قوله - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، قالوا: فَنَفَى الإدراكَ، ونَفْيُ الإدراك مستلزم لانتفاء الرؤية. & والجواب أنَّ هذا غلط كبير؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراك لا يستلزم انتفاء الرؤية، فإنَّه قد ترى الشيء ولا تدركه؛ يعني لا تحيط به، فهذه السماء نراها ولا أحد يشك في أنه يرى السماء، ولو قلت لأي أحد يرى السماء: هل تدرك السماء رؤية وتحيط بها؟ فسيكون جواب كل أحد: لا، يعني لا يدركها رؤية، وإنما يرى منها ما يمكنه أن يرى وكما قال - عز وجل - {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61-62] ووجه الدلالة أنَّهُ نفى الإدراك، ومع نَفْيِ الإدراك أثبت الله - عز وجل - الترائي وهو رؤية كل جمع لآخر فقال {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ} هذا الجمع رأى الجمع وذاك الجمع رأى الجمع ومع ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فقال موسى (كَلَّا) يعني لن نُدْرَكْ يعني لن يُحاطَ بنا. فنَفْيُ الإحاطة لا يستلزم أن تُنْفَى الرؤية؛ بل نَفْيُ الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية نقيض ما قالوا، وهو الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية. الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية أنَّ نفي الإدراك ليس كمالاً، والقاعدة المعروفة أنَّ كل نفي في القرآن فكماله بإثبات ضده، فربنا - عز وجل - قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وذلك لكمال سعته سبحانه وتعالى وكمال علوه وكمال استغناه عن خلقه، إلى غير ذلك من أفراد صفات الجلال للرب - عز وجل -. فلا يقال إنه لا يُدْرَك ويكون المراد كمالاً إلا وأَصْلُ ذلك ثابتاً، وهو أنه في محل من يُرَى أو في محل الرؤية. مثال ذلك أنك لو قلتَ: إنني لم أر العقل، ولم أر الفهم، ولم أر القلب، ولم أر السمع، ولم أر الإبصار، وهكذا الصفات ولم أر الرحمة، ولم أر الرأفة، إلى آخرها، فإنَّ نفي هذه الرؤية ليس كمالاً في أنَّ هذه الأشياء تُرى، ولكنك عجزت. لأنك متى ما قلت في شيء إنك تراه أو لا تدركه رؤيةً فإنما يكون كمالاً إذا كان في محل ما يمكن أن يُرَى. أما الأشياء التي لا تُرَى أصلاً فإنه ليس من الكمال أن تَنْفِي الرؤية عنها. فكونك تنفي الرؤية عن الرحمة لا يعد هذا كمالا في الرحمة، وإنما هكذا وُجِدَتْ، كونك تنفي الرؤية عن الإبصار والإدراك لا يدل على كمال فيها. فإذاً دَلَّ نَفْيُ الإدراك عن الرب - عز وجل - أنَّ نَفْيَ الإدراك لأجل أنه عظيم - عز وجل - فإنه يُرَى، ولكنه لا يُدْرَكْ. والإدراك ينقسم إلى قسمين: - إدراكٌ بِرُؤْيَةٍ - وإدراك بعلمه والإدراك بعلم: نَفَاهُ الله - عز وجل - في قوله سبحانه {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] . وإدراك الرؤية: نفاه الله - عز وجل - في هذه الآية. وهذه الآية في إدراك الرؤية لا في إدراك العلم، دلَّ عليها قوله بعد النفي {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] . فكونه سبحانه {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يعني يراها، وخَصَّ الإدراك بإدراك الأبصار لأنَّ الأبصار هي محل نَفْيِ الإدراك السابق، فقال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، فلما قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} دَلَّنَا على أَنَّ المنفي هو إدراك الرؤية لا إدراك العلم. والأدلة التي استدلوا بها متنوعة كثيرة، لا نُشْغِلُكُم بها معروفة وهذه المسألة من أطول المسائل التي فيها الكلام، لكن دائماً المؤمن أحق بالحجة من غيره، وفهم الحجة يكون بالأناة، تتأنى في فَهْمِ احتجاج أهل السنة، فإننا -ولله الحمد- بتجرد لا نعلم مسألة قال فيها أهل السنة قولاً واستندوا فيها إلى الأدلة، ويكون ثَمَّ فيها شبهة لا في الأصول -أصول صفات الرب - عز وجل - - ولا في الغيبيات بعامة؛ لأنَّ قولهم مُبَرَّأْ من الهوى، لا يدخلون متوهمين بأهوائهم ولا متأولين بآرائهم وقلوبهم، وإنما يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وإنما هم مستسلمون لنصوص الوحي، كما سيأتي إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله تعالى. من العجيب أنَّ الحجج عند المعتزلة يحتجون بما ذكرنا ويَرُدُّونَ حُجَجَ أهل السنة على حسب أقوالهم بتفسير النظر كما قلنا بأنها ناظرة يعني منتظرة، إلى آخر ما ذكرت لكم. لكنهم إذا أتت السنة والأحاديث في تفسير الآيات وفي إثبات الرؤية وهي بالغة مبلغ التواتر فإنهم يشرحون ولا يستطيعون حتى الإبانة عن وجه ربها. يعني أنهم يقلقون ولا يحسنون إبانةً ولا تَفْقَهُ لهم قولاً. وقد سمعت كلام بعضهم، سمعته بأُذُنَيَ وقرأت كلام بعضهم أيضاً بعينيَّ فما أحسنوا جواباً ولا خَلَصُوا إلى قول يردُّونَ به الأدلة من السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لهذا قال طائفة من المحققين من أهل السنة: إنَّ تأويل نصوص المعاد والبعث والقبر والصراط والجنة والنار ونحو ذلك - ما يحصل يعني في عرصات يوم القيامة وما يحصل في السماء- أسهل بكثير من تأويل آيات وأحاديث الرؤية؛ لأنها بلغت مبلغ التواتر وأُكِدَتْ بأنواعٍ من التأكيدات، وبُيِّنَتْ بأنواعٍ من البيان بما يقطع معه السامع أنَّ المراد بها ظاهرها على حقيقتها حتى عند قول من يجيز القول بالمجاز أو التأويل الذي ينحو إليه ألئك، فإنَّ هذه لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على غيرها بقطع. فإذن الحجة فيها قوية وقاطعة وإنما هو الهوى، نسأل الله - عز وجل - السلامة والعافية، ولكن يجب على المؤمن الموحد أن يعلم الأدلة ووجه الحجة حتى يدلي بحجته في تلك المسائل. أما قول الأشاعرة في المسألة وهو أنهم قالوا يُرَى إدراكاً لا إلى جهة فإنه عجيب. فإنَّ قول المعتزلة في نفي الرؤية أقرب إلى العقل من قول الأشاعرة - يعني إلى عقل وفهم السامع - خلافاً لقول الشارح إنَّ قول الأشاعرة أقرب إلى العقل من قول من نفى. بل الحقيقة العكس: من نَفَى الرؤية لأنه لا يثبت العلو قال ما دام أننا لا نثبت العلو فالرؤية لا يمكن أن تكون إلا إلى جهة. الإنسان كيف يرى؟ لابد إلى جهة يراه، أما يرى شيئاً ليس أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وليس بأعلى منه ولا أسفل منه فكيف يراه؟ وأين يراه؟ لا شك أنَّ هذا العقل يرده. ولهذا نقول قول الأشاعرة إنه يُرَى لا إلى جهة؛ يعني لا يُرَى في جهة العلو ويُرَى إدراكاً، فإنَّ هذا ولو كان إثباتاً للرؤية فهو غير مقبول عقلاً ولا مقبول سمعاً. والواجب إثبات النصوص التي جاء فيها ذلك وإثبات ما دلت عليه من أنَّ الرؤية تكون على ما أخبر الله - عز وجل -، وأنَّ الله سبحانه يطَّلع إلى أهل الجنة وأنه يكشف الحجاب فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى الرب - عز وجل -، وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وأنَّ عرش الرحمن فوق الجنة؛ يعني سقف الجنة، وهكذا في أدلة كثيرة. فمن نفى علو الرحمن - عز وجل - وقال هو –سبحانه- في كل مكان، فكيف يُقْبَلُ إثباته للرؤية؟ لاشك أنَّ قول الأشاعرة عجيب وليس لهم حجة من جهة سمعية ولا من جهة عقلية، إلا شيئاً واحداً وهو أنهم أبطلوا: نفي علو الله - عز وجل -؛ وأنّه سبحانه في كل مكان وفرَّعُوا عليه أنَّ الرؤية لمَّا جاءت بها الأدلة قالوا يُرَى لا إلى جهة وهذا باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 [المسألة الخامسة] : أنَّ رؤية المؤمنين في الجنة لربهم - عز وجل - عامة بالإنس والجن، للرجال وللنساء، وللملائكة أيضاً، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] ، فالملائكة في الجنة يعني طائفة منهم في الجنة، وفي الجنة المؤمنون من الجن والإنس ومن الرجال والنساء، ولم يدلَّ دليل على اختصاص الرؤية بالرجال دون النساء ولا على اختصاص الرؤية بالإنس دون الجن، وهذه فيها أقوال: 1 - القول الأول: من قال: إنَّ الرؤية للإنس دون الجن، وهذا خلاف الصواب كما ذكرنا؛ لأنَّ الآيات عامة في الرؤية في كل مؤمن فمن دخل الجنة رآه. 2 - القول الثاني: إنَّ الرؤية للرجال دون النساء، واستدلوا على ذلك بقوله - عز وجل - {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] وأنَّ القصر في الخيام يدل على عدم خروجهن من ذلك. * والصواب أنَّ الرجال والنساء من المكلفين من الجن والإنس يرون ربهم - عز وجل - إذ كانوا من أهل الجنة. وأمَّا الاستدلال بالآية فعجيب لأنَّ: @ أولاً: الآية أولاً في الحور، والحور خلق ينشؤهن الله - عز وجل - إنشاءً في الجنة وليسوا من المكلفين في الدنيا. @ ثانياً: أنَّ الله - عز وجل - قال {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] وقال - عز وجل - في الآية الأخرى {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} ، فمن نعيم أهل الجنة أنهم يتمتعون هم وأزواجهم على الأرائك فيتكئون وينظرون، وإخراج النساء من الاتكاء ضده الآية وكذلك إخراجهم من النظر ضده الآية. لهذا نقول غلط من قال إنَّ الرؤية للرجال دون النساء، فالنساء يرون ربهم - عز وجل - كما يراه الرجال؛ لأنهم مكلفون متعبدون، والنعيم عام للإنسان الذي يدخل الجنة من الرجال والنساء جميعاً، نسأل الله الكريم من فضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 [المسألة السادسة] : رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وهل حين المعراج رأى ربه أم لا؟ اختلف فيها أهل العلم على أقوال: 1 - القول الأول: من ينفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه - عز وجل -؛ يعني بعينيه. 2 - القول الثاني: من يثبت الرؤية إما بالقلب أو بالعينين. 3 - والقول الثالث: التوقف. والتوقف لا ينبغي أن يكون قولاً؛ لكن هكذا قيل. & أما القول الأول: وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فهذا هو القول الذي عليه الجماهير، ولمَّا قال مسحوق لعائشة رضي الله عنها: إنَّ قوما يقولون إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فقالت عائشة: لقد قَفّ شَعْرِي -يعني وقف شعري- مما قلتَ، وهذا مما يدل على: - تعظيم الصحابة لربهم - عز وجل -. - وأنهم قَدَرُوهُ سبحانه حق قدره. - وأنَّ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم مهما علت وعظُمَتْ فإنه يعلمون عظمة الرب - عز وجل - وعظيم صفاته ـ. قالت: لقد قَفّ شَعْرِي مما قلت، من زعم أَنّ مُحمداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ. وفي حديث أبي ذر عند مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قال (رَأَيْتُ نُوراً) ، وفي الرواية الأخرى قال (نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ) ؟ (1) قوله (رَأَيْتُ نُوراً) يعني الحجاب، فإنَّ الله - عز وجل - نور وحجابه نور. (رَأَيْتُ نُوراً) يعني رأى الحجاب، ولم ير الرب - عز وجل -. ولهذا في الرواية الثانية قال (نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ) ؟ يعني ثَمَّ نور حاجب فكيف أراه؟ وهذا هو الصحيح لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، بل لا يرى أحدٌ ربه بعينيه في الدنيا. & أمَّا القول الثاني: من قال إنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه أو بقلبه وهو منسوب إلى ابن عباس وقاله طوائف قليلة من الناس، فهذا بناء على آية سورة النجم، والاستدلال بها فيه نظر. & أما القول الثالث: التوقف فلا يصلح؛ لأنَّ الحديث دال على نفي الرؤية مع كلام عائشة ك. نكتفي بهذا القدر، وثَمَّ مسائل كثيرة في رؤية الله - عز وجل - نرجئها أو نطويها، والمسألة من أراد المزيد فيها فليراجعها في مظانها. أسأل الله سبحانه أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (2)   (1) سبق ذكره (142) (2) انتهى الشريط العاشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 : [[الشريط الحادي عشر]] : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة س1/ يقول ذَكَرَ العلماء أَنَّ لفظ الجلالة أصله إله فأدخلت الألف واللام وحذفت الهمزة وأدغمت اللام في التي تليها، والسؤال هو: ألا يتنافى هذا مع كون أسماء الله عظيمة؟ ج/ لفظ الجلالة واسم الله: اختلف العلماء فيه؛ هل هو مشتق أم هو غير مشتق؟ والخلاف واسع. والذي يرجحه جمع كثير من المحققين وهو المعتمد عند أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى أنَّ لفظ الجلالة مشتق، ومعنى كونه مشتقاً أنَّ اسم الله دال على المعبود بحق دلالة مطابقة؛ يعني أنَّ كلمة الله أصلها الإله والإله هو المعبود. أما الذي يقول أنه ليس بمشتق فيقول: إنَّ الله علم على الذات -ذات الرب - عز وجل -- وليس فيه معنى. والقاعدة عامة عندنا أنَّ اللغة في الأسماء لابد أن تكون دالة على معاني. فالاسم يكون دال على معنى، أسماء الله الحسنى دالة على معاني فيها فليس ثَمَّ اسم ليس له دلالة على معنى، والدلالة على المعنى تارة تكون دلالة جامدة وتارة تكون دلالة مشتقة. وهذا في اسم الله الأعظم أو اسم الله (الله) لفظ الجلالة العظيم هذا مشتق من إله؛ لأنَّ العرب تُسَهِّلْ في مثل هذا كثيراً. والبحث فيه بحث نحوي وصرفي وأَكْثَرَ العلماء منه. المقصود من الجواب أنَّ اسم (الله) مشتق ولا ينافي هذا تعظيم لفظ الجلالة؛ لأننا كما نقول إنَّ الجبار يتنوع إلى عدة معاني أو يدل على عدة معاني ومشتق من كذا واسم الله العظيم مشتق واسم الرحمن مشتق من الرحمة، وهكذا. فالذين يقولون إنَّ الاشتقاق ينافي التعظيم هذا ينخرم الكلام فيما أوردوه بجميع الأسماء الحسنى، فأسماء الله الحسنى كلها مشتقة، والاسم (الله) مشتق من الألوهة وهي العبادة؛ لأنَّ الله عَلَمٌ على المعبود بحق. [ ..... ] ؟ (1) هذا بحث آخر؛ يعني هل تظن أنَّ أسماء الله - عز وجل - هي قبل اللغات؟ لا، اللغات دالة على أسماء الله - عز وجل - وصفاته، كما تدل اللغات على أشياء أخر، ولا يعني هذا أنها مُواضَعَةْ؛ أنَّ الناس اصطلحوا عليها، ليس كذلك؛ لأنَّ الله - عز وجل - {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [البقرة:31] ، فالأسماء ومن ضمنها أسماء الله - عز وجل - مُعَلَّمَةْ، وكذلك في اللغات دلالة الكلمة على أنها اسم من أسماء الله هذا بالتعليم، وليس العباد الذين يضعون أسماء لله - عز وجل -، فهذا لا يعني أنَّ أسماء الله - عز وجل - بالمواضعة -يعني بالاصطلاح-، الناس وضعوها واشتقوا هذا من هذا إلى آخره، يعني أنهم هم الذين فعلوا ذلك، لا، أسماء الله - عز وجل -، الله سبحانه لم يزل له الأسماء الحسنى والصفات العلا قبل أن يخلق الخلق. [ ..... ] ؟ هذا على كل حال بحث لغوي طويل، لا أظن يسع مثل هذا المقام أن يُفَصَّل فيه. اللغات في نشأتها، كيف نشأت اللغات؟ اللغة العربية كيف نشأت؟ هل آدم عليه السلام كان يتكلم باللغة العربية؟ ما قبل إبراهيم عليه السلام هل كان يتكلم باللغة العربية؟ نوح عليه السلام هل كان يتكلم باللغة العربية؟ الله - عز وجل - جَعَلَ من آياته اختلاف الألسن والألوان، فَأَصْلُ اللُّغات أسماء عَلَّمَهَا ربُّنا - عز وجل - آدم، ثم حَصَلَ هناك أنواع من الاشتقاق وتداخل الناس لما تفرقوا في اللغات. اللغات بعضها يأخذ من بعض، وعند العلماء المعاصرين يعني علماء اللغة، علماء فقه اللغة وخاصة اللغات السامية دَلَّتْهُم البحوث والكتابات القديمة التي وجدوها في الجدران وفي الآثار القديمة على أَنَّ مجموعة من الكلمات كانت مشتركة ما بين اللغات، وهذا طبعاً يدل على أَنَّ أصل اللغات واحد، وهذا لا شك فيه، ثم بعد ذلك بدأت تتوسع اللغات وتختلف. فلهذا جاء في الحديث «أول من فُتِقَ لسانه عن العربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» (2) . إذاً فُتِقَ اللسان، من الذي فَتَقَ اللسان؟ يعني هذه القواعد التي أوردها العلماء -قواعد النحو- هذا استنتاج، لا يُتصور أَنَّ العرب اجتمعت في مؤتمر عام وقالت بنضع القواعد في لغتنا، هذا غير موجود. كذلك أغرب منه في العلل والاشتقاق. ولهذا قال بعض العلماء في العلل الضعيفة هذه أضعف من علة نحويّ؛ لأنها مستنتجة. مثلاً: تقول: محمد قادم، ثم تقول: لمحمد قادم، ثم تقول: إنَّ محمدا لقادم. (محمد قادم) خبر أُكِّدَ باللام الأولى في الجملة الثانية (لمحمد قادم) . واللام هذه لام التأكيد، لام الابتداء لها حق الصدارة. (إنَّ محمداً لقادم) ، هنا أُخّرَتْ ولذلك سميت إيش؟ المزحلقة؛ لأنها زُحْلِقَت من المبتدأ حين كانت فيه (لمحمد قادم) إلى الخبر فصارت (إن محمدا لقادم) . هنا لماذا حصل هذا؟   (1) مداخلة من احد الطلبة (2) لم أجده بهذا اللفظ وإنما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقة ثم جعل كتابا واحدا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصول حتى فرق بينه ولده إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما) المستدرك (4029) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يأتي النحاة ويوجِّهُونَ ذلك، وثَمَّ كتب كثيرة في علل النحو لا تُحْصَى، وهي عدة مدارس في تعليل الأحكام النحوية. من تعليلاتهم يقولون: إنَّ العرب من عادتها أن تكرم الضيف، فلما أتت اللام ضيفاً على محمد قادم كان لها حق الصدارة، فلما أتى الضيف الجديد إنَّ تأخرت اللام؛ لأنها كانت في الجملة موجودة فتأخرت. يعني هذه كلها التماسات. كذلك إذا قال لماذا (كَانَ) نصبت الخبر ورفعت الاسم؟ لأنها مشبهة بالفعل وهي فعل ماضي ناقص، وكذلك أخواتها. (إن وأخواتها) : إنَّ وأَنَّ وليس إلى آخره، هذه لماذا انعكست فيها القضية؛ مُخالِفةً لـ (كان) ؟ لأنها تَقَعَّدَت (كان) وهذه وهذه بعضها يشبه بعضاً، يعني (كان وأخواتها) و (إن وأخواتها) بالدخول على الجملة الاسمية، فَفَرَّقُوا بينها. إذاً كل هذا نخلص منه إلى شيء مهم جداً في علم اللغة وهو أنَّ صنعة العلوم إنما أتت بعد انتهاء اللغة. فإذاً هي التماس. فإذا قال لك العالم: إنَّ كلمة (الله) كانت إله ثم أُدْخِلَتْ فإنَّ هذا من جهة التحليل، وليس أنَّ العرب صنعت ذلك على مراحل؛ لكن هذا من جهة التحليل. يقول لك: ولكثرة الاستعمال صارت كذا، يعني هذا من جهة التحليل. يعني اعكس المسألة وقل: لأنَّ لفظ الجلالة الله موضوع لكثرة الاستعمال فجاء على لفظ الله ولم يأت على لفظ الإله؛ لأنَّه موضوع لكثرة الاستعمال. * وهذه انتبه لها قاعدة في اللغة. ولهذا يخطئ بعض الذين يعتنون بمباحث الاشتقاق ويستغربون بعضها من هذه الجهة، فيظنون أنَّ العرب اجتمعت ووضعت للغتها قواعد. والصحيح الذي لا ينبغي المحيد عنه: أنه ليس ثَمَّ وَضْعْ في اللغة، وعِلْمُ الوَضْعْ الذي يُسَمَّى علم الوضع إنما هو تقريب للعلوم التي صُنِّفَت في هذه الأمة، وليس هو وَضْعْ العرب، فإنَّ العرب ما اجتمعت، العرب متفرقة، العرب كانت في اليمن ثم تَفَرَّقَت، والعرب القديمة - العرب العاربة- ثم العرب المستعربة تفرقت، واللغة بدأت تتدرج وتنمو وتصل إلى مراحل في نموها. فاللغة مثل الإنسان، اللغة مثل الإنسان، مرَّ به طفولة، ثم مرَّ به شباب، ثم مرّ به فتوة وقوة ثم يمرُّ به اكتهال إلى آخره، فهذه اللغات تمر بهذه المراحل. أما اللغة العربية فثبتت وقويت ولم تمر بها فترة الكهولة التي تُسَمَّى فترة الكهولة؛ لأنَّ فيها القرآن، القرآن هو الذي أبقاها حية قوية في شبابها. فلهذا كل ما تراه من التعليلات عند النحويين أو الذين يعتنون بالنحو ويوغلون فيه بحثاً فيما يستبعدون أو يقبلون هي كلها في ظنهم أنَّ المسألة ليست هكذا وإنما هي هكذا. ما كان فيه إله، وكيف يكون فيه إله؟ أو كيف يشتق هذا من هذا؟ والعرب ما اشتقت هذا من هذا، وإنما الوضع الأول هو كذا. الوضع الأول في الأسد هو كذا، الوضع الأول في الجناح هو في الطائر، من الذي يقول هذا؟ كل هذا من الذي يقوله؟ يقولون الجناح للطائر من الذي قال أنَّ الجناح للطائر؛ من؟ هل ثَم برهان؟ لذلك يأتون عند قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] يقولون هنا استعارة؛ لأنَّ الجناح للطائر واستعير للإنسان، استعارة يعني مجاز. طَيِّبْ من الذي قال إنَّ العرب وضعت الجناح للطائر،؟ لا يوجد. * فإذاً تنتبه لأنَّ من أوغل في المباحث اللغوية دون معرفة لأصولها والتحقيق فيها قد تدخل عليه إشكالات في العقيدة. لهذا اعتنى المعتزلة بالمباحث اللغوية لصدّ كثير من الناس عن الحق في مسائل الاعتقاد، ظنّاً منهم أنهم حققوا المسائل العقدية. فانتبه إلى هذه القاعدة: وهي أنّه لا يُتَصَوَّرْ في القواعد التي وُضعت في هذه الأمة -القواعد العلمية- في النحو أو في الأصول أو في أي فن من الفنون أو في المصطلح أنها وضعت هكذا باجتماع واتفق العلماء على هذا، لا، هي التماس. ولهذا المجتهد إذا بلغ في الاجتهاد مبلغاً عظيماً وصارت عنده آلات الاجتهاد له أن يخالف. ابن جرير الذي ذكرتَ أنتَ المثال عنه، ابن جرير لا يمثل مدرسة البصريين في النحو، ولا يمثل مدرسة الكوفيين في النحو، وإنما له مدرسة مستقلة في تفسيره؛ تارَةً يذهب إلى هؤلاء وتارة يذهب إلى هؤلاء، عندما يملي عليه الراجح وما يسمعه وما يحفظه من كلام العرب. كذلك في القراءات ليس عنده شيء اسمه قراءات سبع ولا قراءات عشر، وإنما عنده قراءات أنصاف –اذا كنت اطلعت على التفسير-. لماذا يصنع هذا؟ لأنَّه لا يتقيد بمصطلحات أهل العلم وبمواضعات أهل العلم. نحن إذا تقدمنا في العلم ترى أنَّكَ تمرُّ على العلم، وترى أنَّ العلم يسبح في قرون، يسبح في القرون هكذا بين مد وجزر، في التواليف، وفي صنيع أهل العلم. لكن هل هذا هو العلم أو هو وَضْعْ لقواعد العلم؟ هو وَضْعْ لقواعد العلم؛ لأنَّ العلم موجود قبل ذلك، العلوم موجودة قبل ذلك؛ العلوم اللغوية والشرعية والحديث كلها موجودة قبل ذلك، وإنما وَضَعُوا القواعد. ووَضْعُ القواعد هذا هل هو إجماع أو اجتهاد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 اجتهاد؛ ليس ثَمَّ قواعد علم من العلوم مُجْمَع عليها، وإنما تجد في العلم ما هو مُجْمَعٌ عليه: في النحو فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في الفقه فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في المصطلح فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في الأصول ثَمَّ مسائل مُجْمَعٌ عليها، وتجد أنَّ المسائل المجمع عليها في كل فن قليلة. إذاً ننتبه إلى أنَّ التعليلات التي ترد في العلوم المختلفة إنما هي التماس هذه [ ..... ] ولذلك من أتى يُحَلَّلُ لك هي التماس، وقد يكون صاحبه مصيباً في التماسه وفي تعليله، وقد لا يكون كذلك. مثلاً البحث المشهور عند قوله تعالى {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وفي قراءة سبعية متواترة {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} . طيب (إِنَّ) ما تنصب الاسم، لماذا ما صارت (إنَّ هذين لساحران) ؟ بدؤُوا يُعَلِّلُون فمنهم من يخطئ، يقارن، هذا غلط علمي كبير، لماذا؟ لأنك تُحَكِّمْ قواعد وضَعَهَا النحاة على الحق المطلق الذي هو القرآن؛ لأنها قراءة متواترة فهي الحق، يجب أن تبحث في القواعد لا العكس، فالقواعد اصطلاحية. يأتي في مسند أبي يعلى في مطالعتي عند حديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ هذان لشيطانان» (1) في الحديث الذي في المتن قال «إنَّ هذين لشيطانان» - أنا لدي بحث على الآية، وأعرف كلام المحققين عليها وما يتعلق بها. استغربت: «إنَّ هذين لشيطانان» ليس هو اللفظ وإنما لأجل أنه يَخْرِمُ القاعدة جَعَلَهَا هكذا، وإذا به في الحاشية يقول: في الأصل «إنَّ هذان لشيطانان» وهذا يخالف القاعدة النحوية فغيرتها إلى (إنَّ هذين لشيطانان) . طبعا سيطرة القواعد النحوية على الحق المطلق، سيطرة القضايا الاصطلاحية كلها على الحق المطلق هذه قضية كبيرة في العلم وفي نشأة العلوم وتوسع العلوم، فطالب العلم ينبغي له أن يرتقي في هذه المسائل ولا يعجل. فمسائل الاشتقاق في أسماء الله - عز وجل - هي من هذه البابة، فينبغي أن يُنظر إليها نظراً.   (1) مسند أبي يعلى (2588) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ - عز وجل - وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ   هذه الجمل من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله جاءت بعد الكلام على الرؤية؛ رؤية الرب - عز وجل - في الجنة في العرصات فيما سبق لنا شرحه في الدرس الماضي. وأيضاً بعد هذه الجمل التي سمعنا تكلم عن الرؤية متعلقاً بهذا البحث حيث قال (وَلا يَصحُّ الإيمانُ بالرُّؤْية لأهْل دارِ السَّلامِ لِمن اعْتَبَرَهَا مِنْهُم بِوَهْمٍ أوْ تأوَّلَها بِفَهْمٍ) إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الدرس القادم. هذه الجمل التي سمعنا تشتمل على أصل عظيم من أصول الدين الذي تميز به أهل السنة والجماعة في مسائل العقيدة بعامة وفي مسائل العمل. والعقيدة والعمل مبناهما واحد من جهة الإيمان، وذلك أَنَّ العقيدة والعمل الجميع يُعْمَل به ويُعْلَم من جهة أنَّه من الله - عز وجل - ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. فالكل كلمة الله ـ، كما قال - عز وجل - {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا} يعني في الأخبار. {وَعَدْلًا} في الأمر والنهي، {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} . فالشريعة بابها واحد ولا تفريق ما بين باب الاعتقاد وبين باب العمل -يعني الأبواب العلمية والأبواب العملية- من جهة مصدر التلقي وهو الكتاب والسنة، ما كان من الوحي. لهذا قال هنا رحمه الله (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ - عز وجل - وَلِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) وذلك أنَّ أمور العقيدة في الاعتقاد، وأمور الفقه في العمل لابد أن يكون ثَمَّ إشكال في عِلَلِهَا أو في القناعة بها ولا مَجال في ذلك في الإيمان إلاَّ أن يكون على ظهر التسليم والاستسلام. وهذا ينبني على مسألة عظيمة من مسائل الاعتقاد والعمل وهي: أنَّ الدّين قائم على البرهان. والأمور التي يتعاطاها النّاس ثلاثة: - أمور عاطفية؛ يعني برهانها العاطفة، الغرائز، يعرف الجوع، يعرف العطش، يعرف الخوف، يعرف الرحمة بعاطفته وفطرته. - والنوع الثاني برهان عقلي وهي الأمور التي يتعاطاها بعقله فيقيس ويُعَلِّل ونحو ذلك من الأمور العقلية، وهي التي خدمها المنطق بشكل عام. - والنوع الثالث من البراهين: البراهين الدّينية، والبرهان الدّيني مبني على مقدمة، وهي مقدمة الاستسلام لمصدر التلقي. ولهذا لا يصحّ أن يُخْلَطَ بين هذه البراهين، فالدّين ليس مصدره العقل وليس مصدره العاطفة، وإنما مصدره نوع من البراهين، وذلك لم يتكلم عليه الفلاسفة ولا المناطقة وهو البرهان الديني المبني على مقدمات دينية بحتة. وهذه المقدمات الدينية الشرعية في التصديق بها مبنية على براهين متنوعة: التصديق بوجود الله، استحقاقه للعبادة، التصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالرسل، الآيات التي أوتيها، البراهين، فيما ذكرنا لك كل هذه براهين. وهذه البراهين عقلية في أولها ودينية في ثانيها؛ يعني أنّنا حين نستسلم سنستسلم للبرهان الذي استسلمت له الأمم التي قبلنا. فالصحابة رضوان الله عليهم رَأَوا هذه البراهين واستسلموا لها بصدق عن قناعة وعن ديانة، ثُمَّ بعد ذلك تَبِعَهُم من تَبِعَهُم في التسليم لأنهم سلَّموا، ثُمَّ تَبِعَهُم من بعدهم في التسليم لأنَّ من قبلنا سلَّم في كثير من الدلائل. ويبقى الدليل العام للشريعة في العقيدة وفي الفقه وهو أنه ما كان في كتاب الله - عز وجل - أو في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو حق وهو البرهان. وما قبل هذا البرهان ثَمَّ براهين أُخر لا مجادلة في هذه الملّة -يعني في أتباع الفرق- على صحة هذا البرهان من الكتاب ومن السنة؛ لأنَّ الجميع يُقرّون بهذا البرهان ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق. فإنه هو برهان؛ لكن هل هو البرهان الأول أو هو البرهان الثاني؟ هل يُسَلَّط العقل على الكتاب والسنة أم لا يُسَلَّط والعقل تبع؟ ونحو ذلك. هو جاء من جهة الخلط ما بين أنواع البراهين الثلاثة التي ذكرتها لك. هذه مقدمات بين يدي المسائل. العقلانيون خَلَطُوا بين أنواع البراهين الثلاثة، فجعلوا البرهان العقلي والبرهان الديني واحد؛ بل جعلوا البرهان العقلي متسلطا على البرهان الديني، وظنّوا أنه إذا تسلَّط عليه وسُلِّط عليه عُرفت صحة الشرع لأنَّ العقل به عُرف الشرع. وهذا ليس بصحيح كما سيأتي في رد هذه المقالة. الطحاوي رحمه الله استحضر القسمين معاً: استحضر مسائل العقيدة ومسائل الفقه، وجعل هذه الكلمات مناسبة لهذا البحث -بحث الرؤية-. ولهذا قال (فإنَّهُ مَا سَلِم في دينه إلاَّ مَنْ سَلَّمَ لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسُولِه صلى الله عليه وسلم) يعني أنَّه بدأ من حيث إنَّ الكتاب والسنة هما البرهان، بدأ من هذه، فإذا صدَّقت وأيقنت أنَّ الكتاب والسنة هما الحق المطلق؛ لأنّها من عند الله - عز وجل - -فالسنة وحي-، فإذاً الرجوع في البرهان والدليل سيكون إلى الكتاب والسنة، وإذا كان ثَمَّ شك أو ثَمَّ تردّد فإنّ المرء لا يَسْلَمُ في دينه؛ لأنَّ العقول لأنّ البراهين كما ذكرنا لك ثلاثة: - برهان عاطفي. - وبرهان عقلي. - وبرهان ديني. $ والبرهان العاطفي لا ينضبط -فعواطف الناس مختلفة-. $ البرهان العقلي لا ينضبط؛ لأنّ القائل حينما قال -وهم العقلانيون من المعتزلة والأشاعرة وجماعات- حينما قالوا: العقل ينبغي أن يُقدّم على الشرع، فالعقل هنا غير منضبط، العقل عقل من؟ هل ثَمَّ عقل واحد أُجْمِعَ عليه في النظر إلى الأشياء؟ لا، في النظر إلى الكونيات ليس ثَمَّ عقل واحد عند الفلاسفة، اختلفوا في النظر إلى الطبيعيات في الأرض. الذين قدّسوا العقل اختلفوا في مقتضيات ذلك. اتّفقوا على قاعدة: العقل، لكن عقل من؟ هل اجتمعوا؟ لا، ولذلك اختلف أصحاب المدرسة العقلية إلى أنواع شتّى: فالجهمية من أصحاب المدرسة العقلية. والمعتزلة من أصحاب المدرسة العقلية. والأشاعرة أيضا من أصحاب المدرسة العقلية إلى حد ما، ونحو ذلك. ولكنهم مختلفون في عقولهم وإدراكاتهم. إذاً فإذا كان البرهان العاطفي غير منضبط، والبرهان العقلي غير منضبط، فإذاً البرهان الديني يجب أن يبدأ من المستوى أو يبدأ من المقدمة التي هي ثابتة بيقين. وهذه المقدمة الثابتة بيقين هي الكتاب والسنة؛ لأنَّ الكتاب وحي الله - عز وجل -، وآمنا بذلك عن برهان، وبراهين سبق أن ذكرنا لكم ذلك في الكلام على الإعجاز وبرهان النبوة في الكلام على معجزات وبراهين وآيات الأنبياء. فإذاً المقدمة التي يُتَّفَقُ عليها ويمكن أن يُجْمَعْ عليها هي التّسليم والاستسلام للكتاب والسنة. فإذا كان كذلك كان البرهان الذي يصحّ أن يقال إنه يُتَّفَقُ عليه بلا خلاف هو برهان الكتاب والسنة. ولهذا إذا جاء إشكال في الاعتقاد تُرجِعُهُ إلى التّسليم لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فالكتاب والسنة برهان صحيح، فإذا لم تُدْرَكْ العلة فإنّ ذلك ليس معناه أنّه خلل في البرهان إنما هو خلل في التلقي، خلل في إيضاح ذلك البرهان، أو لأنّ البرهان الذي هو الدّليل لم يوضح لنا هذه الأسرار. كذلك في أمور العبادات الصلوات ليش خمس؟ ليش أربع؟ الفجر ثنتين ثلاث، لماذا الحجّ على هذه الصفة؟ لماذا الطهارة على هذه الصفة؟ كل هذه مبنية على مقدمة من التّسليم، وهو التسليم للكتاب والسنة. فلهذا هذا البحث الذي ذكره الطحاوي في هذه الجمل يسمّيه بعض المعاصرين تسمية حديثة وهي: وحدة مصدر التلقي فمصدر التّلقي من أهمّ المسائل التي يجب أن يُبْحَثَ فيها، فإذا اختلفت أنت وأناس على شيء، فلا بد أن يكون هناك مرجعية في البرهان حتى تنطلقوا منها. أيضا مرجعية في التلقي، والأمة -كما قلنا- لا يمكن أن يَصْلُحَ لها إلا أن تتلقّى من الحق المطلق والبرهان المطلق، الذي هو البرهان الديني، الذي هو الكتاب وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما وضح فيهما وما أُبِينَ فيهما وجب اعتقاده والعمل به، وما اشتبه على الفرد -لأنه ليس في الشريعة مُشْتَبَه مطلق كما سيأتي في المسائل- إذا اشتبه على الفرد وجب عليه التسليم. قال (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) يعني إذا اشتبه عليك شيء تَرُدَّهُ إلى عالمه؛ لأنَّ الله - عز وجل - قال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7] ، دلَّت الآية على أَنَّ القرآن مشتمل على مُحْكَم وعلى متشابه وعلى أنّ أهل العلم يقولون آمنا بالمتشابه. ما اشتبه عليه عِلْمُهُ فإنه يَرُدُّهُ إلى عالِمه إلى الله ـ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. قال (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) يعني أنَّ من خاض في مسائل الإيمان والإسلام ومسائل الشريعة والعقيدة في الفروع والأحكام، إذا خاض فيها مدقِّقَاً ليس مستسلماً، وإنما مناقشاً في كل مسألة؛ لم؟ فإنه يُحجب عنه الإيمان. لأنَّ هذا الدين؛ بل الأديان بعامة مبنية على الاستسلام للغيب. لهذا أول إيمان في القرآن هو الإيمان بالغيب {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] ، فأصل الدين الذي جاء من عند الله هو الإيمان بالغيب والإيمان بالله - عز وجل - بالجنة والنار والملائكة وبمسائل القدر إلى غير ذلك؛ باليوم الآخر بالكتب السّابقة، كل هذه مسائل غيب. فإذاً (لاَ تَثْبتُ قَدَمُ الإسلام إلاَّ على ظَهْرِ التَّسْليم والاسْتِسْلاَمِ) فَشَبَّه التسليم والاستسلام بالأرض الصّلبة التي من وَطِئَهَا فإنه لا تَزِلُّ قدمه بل تثبت؛ لأنها أرض قوية صلبة. أمَّا غير التسليم والاستسلام في مسائل العقيدة وفي مسائل العمل فإنها أرض دحض؛ مزلة أقدام وإنها موطن متعثر للأقدام لمن وطئها ورضي بها. لهذا نقول: إذا تبين لك ذلك فإنَّ هذه الكلمة أو هذه الجمل التي مرت معنا فيها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 [المسألة الأولى] : أنَّ الناس في تلقّي الشريعة -الناس؛ يعني هذه الأمة، الفرق جميعاً- انقسموا إلى أقسام: 1 - القسم الأول: من كان عقلياً محضاً؛ يعني جعل العقل حَكَماً على الشريعة، وجعل الشريعة تابعة للعقليات. 2- القسم الثاني: من جعل الشريعة خالية من البرهان العقلي البتة؛ بل الشريعة جميعاً عندهم ليس فيها عِلَل ولا تعليل بقسميها العقيدة والشّريعة. 3 - القسم الثالث: من توسّط بين الفئتين، وقال: إنَّ الشّريعة في العقيدة، في الأمور الغيبية وكذلك في العمليات: العقل مفيد فيها، والعقل خادم للشريعة وليس حَكَمَاً عليها، فنستفيد من العقل: بيان العلل والأحكام وفهم الشريعة واستخراج الأسرار؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل القرآن لقوم يعقلون. هذه الثلاث مدارس كبيرة: - المدرسة الأولى: يمثلها الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في أصول مباحثهم. - والمدرسة الثانية: يمثلها الظاهرية في الفقه وكذلك في الاعتقاد، ويمثلها الأشاعرة والماتريدية في مسائل الأسباب. - والمدرسة الثالثة: منهج أهل السنة والجماعة. ولتفصيل هذه المدارس الثلاث بحوث تطول نرجئها إلى مواضعها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [المسألة الثانية] : أنَّ التسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم هو تسليم للحق المطلق. والبراهين التي يتعاطاها الناس في العقليات وفي مصدر التلقي هذه البراهين تختلف -كما ذكرت لك تنقسم إلى أقسام ثلاثة-. والتسليم يعني أنَّ البرهان الديني الشرعي يقين وأنَّ البرهان العقلي ناقص وأنَّ البرهان العاطفي فطري. معنى ذلك أنَّ البرهان الديني يقيني في مُقَدِّمَاته، نصل إلى صدق الكتاب وصدق السنة بمقدمات. [ ..... ] (1) . [ ..... ] البرهان العقلي يعتمد على أشياء: - الأول منها يعتمد على الحس. - والثاني يعتمد على التجربة. - والثالث يعتمد على تصديق اللاحق بالسابق. 1 - النوع الأول من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (الحس) : فالله - عز وجل - جعل للإنسان أعضاء: سمع، بصر، لسان؛ يعني جعل له حواسّاً كما قال سبحانه {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ، فهذه الثلاث هي التي يسميها الفلاسفة والمناطقة يسمّونها وسائل تحصيل المعرفة. هذه وسائل ضرورية حِسِّيَّة؛ يعني بعينك حَصَلَ لك البرهان، بسمعك حَصَلَ لك البرهان، بيدك لمست الشيء حَصَلَ لك البرهان. فالمعرفة جاءت من براهين ضرورية مُحَسَّة ليست خارجة عن المحسوس. ولذلك ما يُجادل أحد في هذا بهذه البراهين إلا طائفة لا يُعبأ بها يجادلون في الضروريات. ثُمَّ بعد ذلك بُنِيَتْ المعرفة بالحسيات من طريق المقارنة بين هذه المعلومات التي جاءت بالوسائل الحسية. يعني نأتي نقول: هذا طويل، هذا العمود طويل، الآخر ليس في طوله. عرفنا حجم هذا وطوله بالعين، فصار الحجم وصار الطول مُدرَكاً محسوسا بأمر ضروري، ثم بعد ذلك يُنسب له الشيء آخر، فإذا رأينا ما هو أقل منه قيل هذا أقصر، ما هو أطول منه قيل هذا أطول، فيأتي أحد وينازعك يقول القصير أطول من الطويل، لا يُقبل، لماذا؟ لأنه المقارنة ما بين هذا وهذا حَصلت بمقدمات يقينية؛ لأنَّ المقدمات الحسية يقينية، مُقَدِّمَة العين أنها حَسَّت بهذا أنه أطول من ذاك، ما يمكن يأتي يجادل ويقول لا هذا أطول، يعني القصير أطول من الطويل؛ لأنَّ هذا شيء مُدْرَك بالعين، وهذا ينتج في كل المقدمات الحسّية. وانتبه لمسألة المقدمات الحسّية؛ لأنها أقوى البراهين اللي هي الضروريات، أقوى البراهين. تشرب ماء تقول هذا بارد يأتي آخر ويقول -إذا كان بارد جداً- يأتي آخر ويقول: هذا حار يغلي. لا يمكن، لماذا؟ لأنَّ البرهان عليه الحسّ. فلان مثلا ملتحي، يأتي آخر، يقول: لا هذا حالق لحيته. هذا لا يمكن أن يكون ثَمَّ لأنَّ البرهان حسّي. كذلك السمع يقول هذا صوت إنسان، قال الآخر: لا هذا صوت مثلاً إيش؟ صوت سيّارة مثلا، لا يمكن، هذا يتكلم لماذا؛ لأن البرهان جاء سمعي. وهذه تعتمدها هذه النقطة لأنها تفيد في قضية الاستسلام. هذا البرهان الحسي هو الذي بنى عليه طائفة من الناس الكلام على نظرية المعرفة وتكلّموا فيه. قلنا اعتمدوا على الحس -يعني أهل العقل-: اعتمدوا على الحس، وعلى التجربة، وعلى تقليل أو متابعة اللاحق للسابق. 2 - النوع الثاني من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (التجربة) : فما يَصْلُحُ للتجربة تَكُونُ التجربة برهاناً صحيحاً له؛ لكن ما لا يَدْخُلُ تحت التجربة، كيف تكون التجربة برهانا صحيحا له؟ ونقول الله - عز وجل - جَعَلَ الأشياء على قسمين: - قسم لا تدخله الأهواء لتُغَيِّرْ حقائقه. - وقسم يدخله الهوى ليُغَيِّرَهُ. والله - عز وجل - جعل كلماته تامّة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ما لا يدخله الهوى لم تأتِ الشرائع ببيانه، وهو غاص فيه الفلاسفة، وغاص فيه العلماء، وغاص فيه الباحثون. لم تأتِ الشرائع ببيانه؛ لأنه لا يدخله الهوى، واحد زائد واحد يساوي اثنين يساوي ثلاثة يساوي أربعة. لم تأتِ به الشرائع؛ لأنَّ هذا الله - عز وجل - خَلَقَ الأشياء واحد زائد واحد يساوي اثنين، خَلَقَ الله - عز وجل - الجبل فيه من المكونات كذا وكذا، خَلَقَ الله - عز وجل - الجاذبية على هذا النحو وقوانين الجاذبية على هذا النحو، لا يمكن لهذه الأشياء أن تدخلها الأهواء. ولهذا لم تتعرّض لها الشرائع، ولم تتعرض لها الديانات، وتُرِكَ إستنتاجها والبحث فيها للناس؛ لأنَّ هذه سيصلون إليها بالتجربة، سَيُخَطَّأ المخطئ وسيُصَوَّبْ المصيب؛ لأنّ الشيء ماثل أمامهم، ليس لهم هوى في أن يجعلوا معامل الجاذبية كذا يزيدون واحد ولا ينقصون واحد من عشرة ما لهم. الهوى ما يدخل في هذه المسائل. إذاً قلنا إنَّ الشرائع جاءت لما فيه إخراج الإنسان من داعية هواه. فالأشياء التي يَتَحَكَّمُ فيها الهوى جاءت الرّسالات لها.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يَتَحَكَّمُ الهوى في علاقات الناس بعضهم ببعض، يَتَحَكَّمُ الهوى في العبادة، واحد يريد أن يخرج من التّكاليف، يريد أن يعمل ما يشاء، يفعل ما يشاء، يقتل، يسرق، يفعل ما يشاء، الهوى يدخل في حرّية الإنسان، يدخل في هل يتعبّد أم لا يتعبّد؟، في علاقته بأهله، في علاقته بمجتمعه، في علاقته بأسرته، إلى آخره، هذه أشياء يدخلها الهوى؛ لهذا جاءت الشريعة بضبطها. إذاً فنقول: التجربة في العقليات صحيحة لكن فيما لا يَدْخُلُهُ الهوى، أما ما يَدْخُلُهُ الهوى فلا تصح التجارب فيه، لابد أن يُتلقَّى من حَكَمٍ يفرض على الأهواء لا تتنازع فيه ويسلمون له، ولهذا قال - عز وجل - {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71] ؛ لأنَّ الأهواء غير منضبطة، والحق واحد لا يخضع لهوى. تجارب المجربين تصلح إذاً فيما يمكن عمل التجارب عليه لكن الأمور الكونيةمثل الغيب هل ثَم سلطان للتجربة عليها؟ لا، الأمور الكونية لا مجال للتجربة عليها ولهذا قال من قال من العلماء المعاصرين في الأمور الدنيوية -الغربيين وغيرهم من الحذاق-: إنَّ المرء كلما أوْغل في العلم بالكونيات كلما ازداد معرفة بأنَّ فيها أسرارا لا تُدْرَكْ. ولهذا الأمور الكونية صعب أن تخوض فيها بإدراكٍ تام، تجارب لكن ستبقى تجارب، وإذا كانت ليست مُسَلّمات، فإذاً لا يمكن أن نُخضع لها الحق المطلق. 3 - النوع الثالث من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (أنَّ المتأخر يسلّم للسابق) : أنظر مثلاً للمعتزلة، المعتزلة في أصلهم سَلَّمُوا للفلاسفة بصحّة أنواع البرهان العقلي، فإذاً ثَمَّ تقليد. المتأخرون سلّموا لمن قبلهم، الأشاعرة سلّموا للأولين في البرهان، إذاً ثَمَّ تقليد. فقولهم برهان عقلي، وهذا عقل؛ لأنَّ الشرائع مبنية على التقليد، هذا غير صحيح منطقياً؛ لأنه أيضاً أهل البرهان العقلي يسَلِّمُونَ لأوائلهم بصحة في البرهان. فيبتدئ من برهان الأشعري، الأشعري مثلاً بدأ ووصل إلى شيء، فيبتدئ أصحابه من النقطة التي وصل إليها، وينطلقون منها. فإذاً قولهم العقليات تُخْلِي من التقليد ومن التسليم ومن الاستسلام وتطلق الحرية، فهذا غير صحيح. لأنَّهُ ما من أحد إلا ويُسَلِّمُ لمقدمات من سبقه، فإذا كان التسليم لبشر ليس معصوماً من الخطأ، فالتسليم لمن هو معصوم من الخطأ من جهة البرهان أَوْلَى. فإذا كانت المسألة مسألة تسليم واستسلام، فالتسليم لمن لا يُخْطِئْ أَوْلَى. لهذا تجد أنَّ من المتأخرين -حتى في العصر الحاضر من أهل العقليات- تجد أنهم يحيلونك على شيء؛ لكن هذا الشيء بنوه على التقليد، يقولون طبعا هو كذا، طبعا في عُرْفِ من؟ لماذا هذا صار طبعاً؟ لأنه شيء غير مشكوك فيه لماذا صار غير مشكوك فيه؟ إذا كان المرجع إلى حس فلا مجادلة إلى الحسيات. إذا كان المرجع على أمور تجريبية أو إلى نظريات فإنَّ الذي يُحيل الأمور في الاستسلام على الدّين أَوْلى فيمن يحيل الأمور في الاستسلام على أصحاب العقليات. ذلك لأنَّ أصحاب العقليات يُقَلِّدُ بعضهم بعضاً، أما أصحاب الديانات فصحيح نقول المتأخر يسلم للأول براهينه ولكنه يصل إلى برهان يقيني هو الكتاب والسنة. وأما تقليد العقليات فإذا كانت راجعة إلى أشياء صحيحة فهذا تسليم لاشك فيه ما نجادل فيه؛ لكنهم في كثير من مباحثهم يتابع المتأخر الأول. أنظر مثلاً إلى قضية ترتيب الأفلاك، الناس قرون بل آلاف منذ بدأ اليونان الكلام على ترتيب الأرض والشمس والكواكب السبعة في الكون وهم على نحو ما، إلى وقت قريب تَغَيَّر. هذه الأمم آلاف السنين التي مَرَّت من الفلاسفة والفلكيين الإسلاميين والفلكيين اليونان والمدرسة الرومانية إلى آخره، هذه الأمم والمدرسة الهندية في الأمور العلمية والفلك، التتابع في الطب كذلك، كلّ هذه ألم يسلم المتأخر للأول؟ سَلَّمَ له، وظَهَرَ الآن أَنَّ تلك الأشياء جميعاً غير صحيحة، لماذا كانت غير صحيحة؟ لأنهم -كما ذكرنا لك- وضعوا تجارُباً؛ لكن التجارُب صارت على أمور خارجة عن حيز التجربة الذي يُنتج نتائج صحيحة. فهذه مسألة عظيمة ما نحب نطيل فيها، هذه المسألة راجعة إلى البرهان الحقّ في أنَّ أقوى البراهين هو البرهان الديني. لذلك نقول لك: هذه الثلاثة من الأشياء العقلية: - البرهان الحسي نقول صحيح، ما فيه إشكال فيه، وكل المعرفة قامت على هذه البراهين الحسية. - برهان التجربة منقسم إلى ما يكون ثَمَّ تجربة ناجحة فيه، وما لا تنجح فيه التجربة. - برهان متابعة اللاحق للسابق، هذا أيضاً لابد يخضع للدراسة لأنه قد يكون الأول مخطئاً في برهانه العقلي، كما هي كثير من الأمور العلمية والنظرية، فضلا عن أمور الغيبيات والإلهيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 إذاً نستخلص من هذه المسألة الثانية إلى أنَّ أنواع البراهين الثلاثة، من قال البرهان العقلي، هذا تجده عند جميع العقلانيين حتى في العصر الحاضر، وكثير من الناس تعجبه البراهين العقلية، ولكن عندما تخوض في صحة البرهان تجد أشياء. فإذاً نقول: المنطق أو العقل منقسم على ثلاثة أقسام: - شيء حسي. - تجربة. - فيه أشياء فيها تقليد. كيف عرفت أنّ هذا المنطق؟ قال: فلان، فيحيله على من قبله، فإذاً تكون المناقشة مع من قبله. إذاً تبقى المسألة خاضعة للبحث والرد. أما المصدر المُتَيَقّن بمقدماته هو مصدر الكتاب والسنة كما ذكرتُ لك: - وبرهان كون الكتاب من عند الله - عز وجل - تَقَدَّمْ. - برهان وجود الله - عز وجل - معروف. - برهان النبي؛ برهان النبوة متقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [المسألة الثالثة] : في قوله (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) كلمة (الاشتباه) و (المشتبه) معناها ما لا يُدْرَكُ معه العلم ويُقابَلْ ما بين المُحْكَمْ والمتشابه. والله - عز وجل - جعل القرآنَ مُحْكَمَاً ومتشابهاً؛ يعني صَيَّرَ القرآن مُحْكَمَاً ومتشابهاً. والقرآن يصحّ أن يقال: - إِنَّهُ مُحْكَمٌ كله. - وإِنَّهُ متشابهٌ كله. - وإِنَّهُ محكم ومتشابه. فالقرآن منه محكم ومنه متشابه، والقرآن محكم كله، والقرآن متشابه كله، بكل قسم باعتبار. @ أما كونه مُحْكَمٌ كله: فالله - عز وجل - بيَّن أَنَّهُ أحكم القرآن كما قال {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] ، فالقرآن مُحْكَمٌ كله {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] ؛ يعني المحكم في أحد أوجه التفسير. @ وأما كونه متشابهٌ كله: فكما قال سبحانه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] ، فالقرآن كله متشابه؛ لكن هذا بمعنى أنَّ بعضه يشبه بعضاً. لأنَّ المسائل محدودة وبعضه يشبه بعضاً: هذا قصص في سورة وقصص في سورة وقصص في سورة، هذا الكلام على الإيمان والإيمان والإيمان، والكلام على الجنة والنار في سور مختلفة، في صفات الله، وأسماء الله - عز وجل - فهو متشابه. @ وأما كونه منه محكم ومنه متشابه: وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي في هذا الموضع قال (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) . (منه محكم) يعني ما معناه واضِحٌ للجميع. (ومنه متشابه) ما يشتبه معناه على البعض. وإذا تبين ذلك فليس ثَمَّ في القرآن إذاً متشابه على كل أحد، ليس ثَمَّ في القرآن متشابه مطلق. نقول هذه المسألة متشابهة بمعني أنَّه لا أحد يعلمها، أي في القرآن آية لا أحد يعلم معناها هذا مستحيل لأنَّ الله - عز وجل - جعل القرآن محكماً كله، وجعل منه محكم ومنه متشابه، والراسخون في العلم يعلمون المتشابه الذي هو المعنى. أما المتشابه النسبي فنعم، هذا المتشابه النسبي ما معناه؟ معناه أنَّهُ ما من شيء إلا ويشتبه عليّ أو عليك أو على فلان، فليس ثَمَّ أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلِمَ كل شيء، عَلِمَ كل القرآن، عَلِمَ كل السنة، لابد أن يشتبه عليه شيء، بمعنى أن يستسلم لبعض الشريعة فإنه لا يعلم المعنى. وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال عند قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] قال: (أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (1) . مثلاً: عند قوله تعالى {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] كم عِدَّةْ أصحاب الكهف؟ متشابهة؛ يعني أنا لا أعلم، أنت لا تعلم، ابن عباس رضي الله عنه حينما جاء إلى هذه الآية قال (أنا من القليل الذي يعلمه) (2) ، لأنَّهُ متشابه نسبي. فإذاً الذي يقول إنَّ في القرآن متشابه مطلق على كل أحد، هذا غير موجود لا في العقائد ولا في العمليات. لكن هناك متشابه على الجميع وهو الكيفيات؛ كيفيات الأشياء، كيفيات الغيبيات. ولهذا قال كثير من السلف إنَّ الوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ؛ يعني تأويل الآيات، تأويل المتشابه المحكم ما يعلمه إلا الله في أمور الكيفيات، في أمور تمام المعنى، في الجنة جاءت صفتها نعلم معنى الأنهار ومعنى الشجر؛ لكن كيفية ذلك هذا مشتبه علينا. لذلك نقول: الاشتباه نسبي، أما الاشتباه المطلق لا يوجد. فإذا كان كذلك: لزم أن نَرُدَّ علم ما اشتبه علينا إلى عالمه، نقول الله اعلم. لهذا قال من قال من أهل العلم (إذا ترك العالم الله أعلم أُصِيْبَتْ مقاتله) ، وفي رواية قال: (إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) (3) ، لأنَّهُ لابد أن يشتبه عليه شيء. إذا تقرر لك ذلك: فإنّ الاشتباه الحاصل يكون في العقيدة وفي الشريعة. فكلّ ما لا تعلم عِلّتَه أو حكمته أو السِّر فيه فهو متشابه، فَسَلِّم للشريعة، سلِّم للكتاب والسنة الحق وأيقن بذلك ورُدَّ ما اشتبه إلى عالمه. مثلاً في العقائد يأتينا أنواع الاشتباه.   (1) مصنف ابن أبي شيبة (30107) (2) المعجم الأوسط (6/175) وانظر تفسير الطبري لسورة الكهف (8/205) / ابن كثير (3/107) / البغوي (1/161) (3) حلية الأولياء (7/274) عن سفيان بن عيينة قال (إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 في العقائد في مسائل الغيبيات، واحد يشكل عليه في مسائل الغيبيات أشياء: أمر الجنة، أمر النار، أمر الناس كيف يعذّبون في النار بعد الموت، تأتيك أسئلة، تأتيك أسئلة كثيرة، هذه الأسئلة، الرؤية مثل التي ذكر، كيف يرى الفرد المؤمن بقواه المحدودة يرى الرب - عز وجل - الذي السموات مطويات بيمينه وهو سبحانه وسع كل شيء رحمة وعلما، كيف يكون؟ ما يتحمل العقل ذلك، العرش كيف أنّ السموات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس، كيف أنَّ الكرسي وسع السموات والأرض؟ كيف الماء وكان عرشه على الماء؟ تأتي مثل هذه الأسئلة لا تدركها. فإذا جاء عدم الإدراك في مسائل الإيمان بالغيبيات فيجب أن تُسَلِّم إلى عالمه. في القدر لم كان كذا؟ لم قضى الله كذا؟ لم أغنى الأغنياء؟ لم أفقر الفقير؟ لماذا أمرض؟ لماذا أصاب بكذا؟ إذا بدأت الأسئلة فيأتي بِدْأْ الاعتراض ويُحرم المرء كما سيأتي في الجملة التالية. فإذاً تحتاج إلى الاستسلام في العقائد أعظم الاستسلام؛ لأنها مبنية على الغيبيات. والأمور الغيبية برهانها إذا استسلمت للبرهان فصدقه، الأمور الغيبية مبنية على برهان، هل هو البرهان للغيبي نفسه؟ لا، هو برهان لبرهان الغيبيات. برهان الغيبيات هو القرآن والسنة. عندنا برهان لصحة القرآن والسنة، هذا برهان واضح صحيح؛ لكن البرهان على الغيبيات بأفرادها ما عندنا. لكن عندنا برهان على البرهان الأصلي وهو الكتاب والسنة. بالنسبة لأمور العبادات والفقه تأتي مسائل العلل؛ التعليلات. الشريعة مُعَلَّلَة ولاشك، والله - عز وجل - جعل الأحكام الشرعية منوطة بعللها. لكن من العلل ما ظهر ومنه ما لم يظهر، لهذا تجد أنَّ بعض العلماء يُعَبِّرْ عن مسائل العلل في العبادات بأنَّ علته قاصرة، فتجده تارةً يقول (فإنَّ العلة تعبدية) ، كما أنَّ هناك علل معروفة. فإذاً إذا جاءتك المجاهيل في أمور العبادات فإنك تُسَلِّم دون خوف؛ لأنه ثَمَّ أشياء تغيب عن العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 [المسألة الرابعة] : قوله (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) التسليم والاستسلام هما دين الإسلام. فإنَّ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. فإذاً دين الإسلام هو دين الاستسلام. ولهذا كل الأنبياء دينها الإسلام يعني دينها الذي دعت إليه الاستسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، نوح عليه السلام بُعِثَ بالإسلام، وعيسى بُعِثَ بالإسلام، وموسى عليه السلام بُعِثَ بالإسلام، الذي هو الدين العام؛ لكن الشرائع مختلفة (1) . ودين محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُعِثَ به هو الإسلام العام الذي اشترك فيه مع جميع الأنبياء والمرسلين والإسلام الخاص الذي هو شريعة الإسلام. كل هذه لا تَثْبُتُ إلا على قدم التسليم والاستسلام. يعني أنَّ من لم يستسلم فهو شاك والشاك ليس بمسلم. لأنَّ أصل الديانة مبنية على التسليم، فإذا شك في أمر يجب الإيمان به، فإنَّ الإيمان يجب أن يكون عن يقين. لا تنفع (لا إله إلا الله) إلا بيقين، لا تنفع (محمد رسول الله) إلا بيقين، لا ينفع الإيمان بالجنة والنار إلا بيقين كما جاء في حديث عبادة «وأن الجنة حق وأن النار حق (2) » ، فلا بد من اليقين بذلك بدون تردد. فإذا جاء الشك والارتياب وعدم التسليم والاستسلام، هذا معناه أنَّ الإسلام غير قائم. وقد يكون الشك في بعض الناس لطلب الحقيقة، فهو يبحث عن جواب، السؤال هذا لا يقدح في دينه؛ لأنه قد يعرض للمرء؛ لكن يجب أن لا يُظْهِرَهُ بل يكتم ذلك ويسأل عنه من يثق بعلمه حتى يزيل الشبهة، فمعنى ذلك أنَّ عدم الاستسلام والتسليم ينقسم إلى قسمين: 1 - القسم الأول: الشك المستمر الذي يستكين له صاحبه، وهذا خلاف اليقين الواجب، وهذا ليس بمسلم، عنده الشك في الغيبيات وعنده الشك في الجنة، شك في النار، شك في صدق الرسالة، شك في القرآن، هذا ليس بمسلم. 2 - القسم الثاني: عنده شك في بعض الأفراد؛ مسألة في السنة، مسألة في القرآن، فليس الشك في الأصل وإنما عنده شك في الأفراد، فهذا يجب عليه أن لا يستسلم لهذا الشك، وأن يبحث عمّن يزيل عنه الشبهة. نكتفي بهذا.   (1) ذكر الشيخ هذه المسألة في الشريط (51) بتفصيل (2) البخاري (3435) / مسلم (149) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الأسئلة س1/ هل يكون اتباع ما لا علة عقلية له أعظم أجراً من اتّباع ما دل النقل والعقل عليه؟ ج/ لا، من كان بالتسليم وبالبرهان فهو أعظم، والتسليم والبرهان، البرهان بأنواعه. س2/ كيف يكون البرهان بالتجربة في أمور العقيدة؟ ج/ الدرس ما أدري فُهِمْ أو ما فهم. المقصود العقيدة هذه برهانها ديني والذي قد قلنا حس وتجربة ومتابعة هذا هو (البرهان العقلي) واضح؟ هذا تأصيل مهم في منهج التلقي ومعرفة الدليل والاستسلام له لأنه ما يسوغ لطالب علم العقيدة بالخصوص أن يكون غير مُبَرْهَنْ، العقيدة ليست قضايا نظرية! لا، برهانية لكن نوع من البرهان، برهانية واضحة مثل هذه اللّمبة التي أمامنا مثل الشمس في رابعة النهار، ما عندنا شك في ذلك؛ لكنها بأنواع البرهان الذي ذكرت. نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الحمد لله الذي مَنَّ على عباده بالهداية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: الأسئلة س1/ هذا سائل يقول: ذكر ابن التّين في شرحه للبخاري في مسألة إثبات اليدين لله - عز وجل -: أنَّ يدي الله - عز وجل - لا توصف بأنها جارحتان وذكر خِلافاً، فهل إثبات اليدين يقتضي كون أنهما جارحتان، أرجو توضيح ذلك؟ ج/ الجواب أنَّ معتقد أهل السنة والجماعة مبني على متابعة الكتاب والسنة، وعلى أن لا يُتجاوز القرآن والحديث، نُمِرَّ ما جاء على ظاهره لا نتجاوز القرآن والحديث، فإثبات صفة اليدين لله - عز وجل -، هذا لأنها جاءت في القرآن وفي السنة، كما قال - عز وجل - {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وكما قال - عز وجل - في سورة ص {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وكما قال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ونحو ذلك من الآيات، وفي السنة أيضا أحاديث كثيرة في هذا الباب. فإذا تَقَرَّرَ ذلك، فإثبات صفة اليدين لله - عز وجل - لا يُتجاوَزْ فيه ما جاء في الكتاب والسنة، فلا نقول اليدان جارحتان، ولا نقول اليدان كأيدينا، ونحو ذلك مما فيه مجاوزة، اليد معروفة كلّ يعقل معنى اليد؛ لكن لا تُشَبَّهْ يد الرحمن - عز وجل - بيد عباده؛ بل على قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فإثبات الصفات إثبات وجود وإمرار على ظاهرها لما اشتملت عليه الصفة من المعنى، لا إثبات كيفية، فلا نَدْخُلُ في الصفات متوهمين بأوهامنا ولا مجتهدين بآرائنا؛ لأنَّ الباب باب غيبي لا يخاض فيه بالآراء والأوهام، وهكذا كل صفات الرب - عز وجل - مثل صفة الوجه صفة العينين وصفة السمع والبصر وصفة الإتيان والمجيء والاستواء والرحمة والرضا والغضب، وسائر صفات الرب - عز وجل - كلها تُثْبَتْ؛ لأنها جاءت في النصوص جاءت بالحق المطلق بالكتاب والسنة، وما لم يأت بالكتاب والسنة فلا نثبته ولا نطلقه على صفات الله - عز وجل - إذْ ذلك زيادة على ما عُلِّمْنَا، والله - عز وجل - قال ناهيا {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فمن زاد على ما جاء في النصوص في الصفات فقد قفا ما ليس له به علم. (1) : [[الشريط الثاني عشر]] : س3/ قال في سؤاله: إذا ثَبَتَتَ لله تعالى صفة بلفظ معين، فهل يجوز أن يُطْلَقَ على الله - عز وجل - مُرَادف هذه الصفة، مثل قول بعض العامة الله يشوف، يريدون أنه يرى؟ ج/ هذا إذا كان من باب الخبر فلا بأس؛ لكن من باب إثبات الصفة فلا يجوز لأنَّ الصفات توقيفية. س4/ ما هو التسلسل الواجب والممتنع والممكن؟ ج/ هذا ذكرناه فيما مضى في أول شرح العقيدة الطحاوية ويمكن أن ترجع إلى شرح الطحاوية ففيها تفصيل ذلك. س5/ ذكرتم مسألة مهمة في تقعيد العلوم، ولكن هل لكم أن تنبهوا الطلاب إلى أنّ معرفة هذه لا تعني تطاولهم على القواعد وعدم الاعتداد بها لأدنى سبب؟ ج/ نعم هذه التي ذكرناها ليس تعليما لها؛ ولكنه تنبيه لمَّا سأل السائل عن مسألة لفظ الجلالة هل الأسماء هي قديمة إلى آخره. س6/ هل التّرضي على أهل الشجرة دعاء لهم بأن يرضى الله عنهم أو تقرير رضا الله - عز وجل -؟ ج/ هذا سؤال جيد وهو مبني على أنَّ قول القائل: رضي الله عنه، رحمه الله. هذا دعاء في أصله، فإذا كان قد أُمْتُنَّ عليهم بذلك من الرب - عز وجل - فالترضي معناه التحقيق تحقيق ذلك والدخول في تأكيده؛ لأنَّ الله سبحانه منَّ عليهم {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] . س8/ الحروف المقطعة هل هي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، أو يوجد من يعلمه من العلماء؟ ج/ الحروف المقطعة اختلف أهل العلم فيها إلى اثني عشرة قولاً، وهذه الأقوال جماعها قولان: الأول أنه يُعْلَمُ معناها. والثاني أنه لا يُعْلَمُ معناها. ومن قال يُعْلَمُ معناها اختلفوا فيها إلى أقوال، والصحيح أنَّ معناها معلوم معروف، وأنه لا يقال لا يُعْلَمُ معناها؛ لأنها ذُكِرَتْ -كما بينتُ لكم مرارا- للتحدّي، فهذه الأحرف المقطعة ليست أوائل كلمات، وليس مجموعها يدل على أسماء الله - عز وجل -، وليست أسماء للسور كما هي أقوال مختلفة في المسألة، وإنما هذه الأحرف المقطعة هي الأحرف التي يُنشئ بها العرب كلامهم، والتي بها يُفاخرون في إنشاء الأشعار وإنشاء الخطب، فإذا كان كذلك فهذا القرآن من هذه الأحرف، تكَلَّمَ الله - عز وجل - بالقرآن بلسان عربي مبين، فإذا كان كذلك، فتكلموا بمثل هذا القرآن أو بمثل عشر سور مثله، أو بمثل سورة، والجميع عجزوا عنه، ولهذا هذه الأحرف المقطعة الصحيح أنه لا يقال لا يعلمها إلا الله؛ بل هذه الأحرف المقطّعة جُعِلَتْ في صدر السّور للتحدّي؛ تحدّي الكفار أن ينشئوا مثل هذا القرآن الذي هو من هذه الأحرف.   (1) انتهى الشريط الحادي عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمَانِ، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، زَائِغًا شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.   قوله (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمَانِ) هذه الجملة فيها النهي عن أنْ يتعدى المؤمن ما عُلِّمَهُ في الكتاب والسنة وأن يقتصر عليه. وذلك لأنَّ ما لم يُعَلَّم إياه من أمر التوحيد والإيمان والعقيدة فإنَّ الخير فيما عُلِّمناهُ، والتعدي على ما عُلِّمناه فيه خوض فيما لم يأتِ لنا به علم وهذا منهيّ عنه، كما قال - عز وجل - {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] ، فشيء في أمور الغيبيات لم يرد النص في الكتاب ولا في السنة فإنه يُسْكَتُ عنه ولا يُتَكَلَمُ فيه، وإذا كان معارضاً لما في الكتاب والسنة فيُرَدْ؛ لأنَّ الحق فيما قال ربنا - عز وجل - وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم. فقوله (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) يعني ما لم يأتِهِ به علم، رام شيئاً، أراد علماً لم يأتنا فيه علم وهو الدليل البرهان من الكتاب والسنة. (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) كما ذكرنا لكم أنَّ ثمة أشياء قد تشتبه فواجب على المسلم أن يُسَلِّم بما جاء في النص من الأمور الغيبية، فإذا لم يقنع بالتسليم الفهم، ورام شيئاً محظوراً عنه ودخل في أقوال وعقليات وآراء فإن هذا الذي فَعَل يَحْجِبُهُ عن خالص التوحيد. قال (حَجَبَهُ مَرَامُهُ) وهو طلبه لشيء لم يرد فيه العلم. (عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ) . (خَالِصِ التَّوْحِيدِ) يعني كامل التوحيد، التوحيد الذي لا شيء يُكَدِّره. خالص: الشيء الخالص الذي لا شيء يكدّره، صافي خالص وسامي. فمن بحث في أشياء لم يأت بها العلم الشرعي لم يأت بها الدليل فإنَّ توحيده ناقص، وهذا يدلّ على أنَّ من خاض في المُشَكِّكاتْ واستمر معها مُتَشكّكاً ولم يُسَلِّم فإنه لابدّ وأن يُحجب عن خالص التوحيد. ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في تائيته القدرية: وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ خاضوا في شيء لم يأت لهم به خبر ولم يأت لهم به دليل، فخاضوا في أفعال الله - عز وجل -. فكل من خاض في أشياء غيبية لم يأت بها الدليل فإنه يُحْجَبُ عن خالص التوحيد. ولهذا واجب في مسائل الإيمان أن لا يُتَجَاوَزْ فيها ما جاء في الأدلة، واجب في مسائل القدر أن لا يُتَجَاوَزْ فيها ما جاء في الكتاب والسنة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح «إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا» (1) يعني أمسكوا عن أن تخوضوا في هذه الأشياء في غير ما عُلِّمْتُمْ. فمن خاض في شيء لم يُعَلَّمْهُ فإنه يُحْجَبُ عن خالص التوحيد؛ لأنه قد يقوده ذلك إلى الشك وعدم الاستسلام. قال (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) المعرفة في كلام أهل العلم تتناوب مع العلم. إذا قيل المعرفة فيراد بها العلم، ولهذا قَسَمَ طائفة من العلماء التوحيد إلى قسمين: - توحيد المعرفة والإثبات. - توحيد القصد والطلب. وتوحيد المعرفة والإثبات يعني توحيد العلم؛ يعني التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الطلبي الإرادي. والمعرفة إذا كانت بذلك بهذا المعنى فلا بأس بذلك. ونبهتكم مرارا على أنَّ كلمة المعرفة جاءت بمعنى العلم في السنة كما روى أصحاب الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم عرفوا ذلك» (2) يعني علموا ذلك وأقرّوا به ونحو ذلك، هذا من المعنى الجائز الذي ورد. وأكثر ما جاء في القرآن بل كل ما جاء في القرآن أنَّ المعرفة أضيفت لمن يُذَمْ وليس لمن يُمْدَحْ، كما قال - عز وجل - {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] ، وكما قال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذا سبق بيانه. فإذاً قوله (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) يعني وصافي العلم، فالعلم الصافي لا يؤتاه إلا من سَلَّم. وهذا أمر عجيب لأنَّ العلم الشرعي وخاصَّة التوحيد يؤتاه العبد بشيئين سلوكيين من أعمال القلوب: 1 - الأمر الأول: أنْ لا يعترض، فإذا اعترض حُجِبْ. 2 - والأمر الثاني: أن يعمل، فإذا تعلم الإخلاص عَمِلَ به، تُفتح له من أبواب الإيمان والعلم بالإيمان والإخلاص ما لا يُفتح للآخرين؛ بل المرء نفسه يجد في حاله في تارات من حياته أو تارات من طلبه للعلم مرةً يُفْتَح له لإخلاص كان عنده وصدق وعمل صالح كان عنده، ومرات يُحْجَبْ عنه كثير من أنواع الإخلاص وأنواع العلوم القلبية والأعمال القلبية. فهذان الأمران مهمان: - الأول عدم الاعتراض. - والثاني العمل بمفردات التوحيد ومفردات الإخلاص. فصفاء العلم يكون بهذين الشيئين. حتى الأمور العملية -أمور الصلاة، الأحكام الفقهية من العبادات في المعاملات وغير ذلك-، إذا علمت شيئا فَسَلَّمْتَ للدليل، وسَلَّمْتَ لكلام أهل العلم، فعَمِلْتَ بذلك أورثك الله - عز وجل - ثباتاً في هذا العلم الذي عَلِمْتَهُ وفهماً لِمَا لم تعلم، كما قال بعض السلف (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) (3) وقد قال - عز وجل - في سورة النساء {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] . {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} إذا فعل المرء ما يُوعَظ به؛ يعني في القرآن والسنة خير أن تعمل ما وُعِظْتَ به وأشد تثبيتا للإيمان وللعلم. ولهذا عدم الاعتراض في أمور العقائد والتوحيد على النصوص يُعْطَى العبد به نور ويَخْلُصْ توحيده وتصفى معرفته وعلمه ويَصِحَّ إيمانه كما ذكر رحمه الله. وكذلك في الأمور العملية إذا عَمِلَ بعد العلم وسَلَّم ولم يعترض فإنه يصفى من جهة العمل ويكون إيمانه وعمله داعياً له إلى العلم وإلى الازدياد من العمل. نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا وإياكم من أهل صحة الإيمان وصفاء العلم. قال (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، زَائِغًا شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.) وهذا كثير في الذين عرضت لهم الشكوك وساروا معها ولم يقنعوا بما دلهم عليه الكتاب والسنة. فإنهم يبقون متشككين حائرين ليسوا مؤمنين وليسوا كفاراً، تارة يَنْزَعُ إلى هؤلاء بِشَكِّهِ، وتارَةً يكون مع أهل الإيمان بتصديقه، وتارَةً يعرض له التكذيب، وتارَةً يعرض له التصديق، تارَةً يعرض له الإقرار وتارَةً يعرض له الإنكار، فليس في قلبه يقين للحق، ليس في قلبه علم لا شك فيه؛ بل هو متردد بل هو ذو ريب وذو شك، والله - عز وجل - وصف المنافقين بأنهم لا يزالون في ريبهم فقال سبحانه {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45] . * ننبه إلى أنَّ قوله (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ .... مُوَسْوَسًا تَائِهًا) ونحو ذلك، الوسوسة هذه لها حالات إذا عَرَضَتْ فلم يتكلم بها العبد، وحَكَّمَ العلم على قلبه فإنَّ هذه الوسوسة دليل الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ فقيل له (إن أحدنا ليجد في نفسه أشياء لا يتجاسر أن يتكلم بها) قال «أو قد وجدتم ذلك، ذلك صريح الإيمان» (4) يعني أنَّ الشيطان إذا لم يتمكن من العبد إلا أَنْ طَرَحَ في قلبه بعض الوساوس فهذا يدل على أنَّه لم يستطع عليه؛ بل هو مؤمن وهذا دليل صريح الإيمان الذي في القلب. لكن هذا في حق من؟ من تعْرِضُ له هذه الأشياء ثم ينفيها بالعلم، فإنَّ كل أحد لا يسلم من هذه العوارض التي تأتي والشكوك أو الوساوس التي يُلقيها الشيطان لكن صاحب العلم ينفيها ولا يستأنس لها، وأما الذي يستأنس لها ويسير معها ويبحث متشككاً حائراً كما ذكرنا ولم يستسلم فإنَّ هذا هو الذي وُصِفَ هنا بقوله (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ) إلى آخره. هذه المسائل التي سمعتموها وما سيأتي تأصيلية، في مسائل التلقي والموقف من العقل، والاستسلام للنص، ووحدة مصدر التلقي، وأنَّ العقيدة مأخوذة بالاستسلام، ونحو ذلك والمباحث العقدية يأتي بعد ذلك بقية ما أورده المصنف. ثم قال رحمه الله (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ) هذا سبق أن ذكرنا الرؤية رؤية الرب - عز وجل - والمباحث فيها والرد على أهل الزيغ فيها وتقرير مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث في ذلك، سبق أن ذكرنا ذلك بتفصيل.   (1) تقدم ذكره (68) (2) البخاري (7372) (3) حلية الأوليا (6/163) عن عبد الواحد بن زيد قال (كان يقال من عمل بما علم فتح الله له ما لا يعلم) . (4) مسلم (357) / أبو داود (5111) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال هنا (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ، إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ)   (دَارِ السَّلَامِ) التي هي الجنة {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام:127] ؛ لأنَّ فيها السلامة بجميع أنواعها؛ السلامة في البدن والسلامة في القلب، والسلامة في الخواطر، حتى اللغو لا يسمعون وحتى كما قال {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية:11] ، حتى ما يُؤذي السمع فلا يُسْمَعْ، وخرير الأشجار وحركة الأوراق ألحان في الجنة، فكل ما فيها سلام، وتحية أهلها السلام. قال (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ) يعني أنَّ الإيمان بالرؤية فرض؛ لأنَّ الله - عز وجل - ذكرها في كتابه وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فهي عقيدة الإيمان بها فرض، فمن تأول الرؤية فلا يصح إيمانه. وهذا ليس للرؤية فحسب، بل كل من تأَوَّلَ شيئاً من الغيبيات فلا يصح إيمانه به، لأنَّ الإيمان بالأمور الغيبية إيمانٌ بما دلَّ عليه ظاهر اللفظ، إيمانٌ بما دلَّ عليه ظاهر الصفة، إذ كانت قاعدة السلف أمِرُّوهَا كما جاءت لا يُتجاوز القرآن والحديث. قال (لِمَنِ اعْتَبَرَهَا بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ) . (اعْتَبَرَهَا بِوَهْمٍ) من تخيَّل شيئاً ما. (أَوْ تَأَوَّلَهَا) يعني سلَّط على نصوص الرؤية التأويل. قال في التعليل (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ) . يعني أنَّ تأويل الرؤيا وتأويل الصفات الحق هو ترك التأويل وهذا يأتي بيانه في المسائل. فتأويل الصفات هو ما تؤول إليها حقائقها، والعقل والقلب لا يدرك الغيبيات، فلذلك عدم إدراكه للغيبيات يدلُّ على أنها على ظاهرها. فقوله هنا (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ) إلى آخره علَّلَهُ بقوله (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ) يعني إلى الرب - عز وجل - من الصفات جميعاً تأويلُ ذلك الحق هو (تَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ) . وهذه الجملة من كلامه واضحة المعنى فيما ذكرت لك لكن ينبني عليها لفهم مراده مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [المسألة الأولى] : التأويل لغةً: هو ما تؤول إليه الأشياء، آلَ الأمر إلى كذا؛ يعني صار إلى كذا، والتأويل هو إِيَالُ الأشياء إلى نحو ما، هذا في اللغة. تأويل الرؤية: ما تَؤُولُ إليه الرؤية، تأويل الطاعة ما تَؤُولُ إليه الطاعة {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35] يعني وأحْسَنُ عاقبة، أَحْسَنُ مآلاً. فإذاً كلمة تأويل هذه اسم مصدر: آلَ الشيءُ، يَؤُولُ، إِيَالَاً، وتَأْويْلَاً، فَإِيَالُهُ؛ نهايته تسمى تأويله. والكل يشترك في المعنى الأول اللغوي الذي ذكرته لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 [المسألة الثانية] : التأويل في استعمال أهل العلم أو فيما جاء في الكتاب والسنة وفيما جرى عليه كلام العلماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- القسم الأول: التأويل بمعنى التفسير. تأويل كذا يعني تفسيرَه، {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي} [يوسف:100] يعني هذا تفسير {رُؤْيَاي} . و [ذهب] قول العلماء في تفسير القرآن (قول أهل التأويل) ؛ مثل ما يستعمل الإمام ابن جرير في تفسيره ويكثر منه، فيقول (قال أهل التأويل) يعني أهل تفسير القرآن. 2- القسم الثاني: تأويل الأخبار وتأويل الأمر والنهي. تأويل الخبر ما تؤول إليه حقيقة الخبر. يعني أنه إذا ذُكِرَ شيء لك فأُخْبِرْتَ به فتَأْوِيْلُهُ حينما تراه كما قال - عز وجل - {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} يعني تأويل ما ذَكَرَ الله في سورة الأعراف من خبر يوم القيامة من الجنة والنار {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ} [الأعراف:53] إلى آخر الآية. قوله {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} يعني ما يؤول إليه حقيقة الخبر وهو ما سيراه الناس. فتأويل كل خبر في الأمور الغيبية هو حقيقته التي هي عليه. فتأويل الجنة هو حقيقة الجنة، تأويل النار حقيقة النار. فهذه الأخبار التي أَخْبَرَ الله - عز وجل - بها من الغيبيات تأويلها هي حقائقها في الأمور الغيبية، ولهذا قال - عز وجل - {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] على من وقف عند لفظ الجلالة. لأنَّ أَحَدَاً لا يعلم التأويل إلا الله؛ يعني تأويل المتشابه. يُعنى بهذا التأويل ما تؤول إليه حقائق هذه الأشياء، يعني ما هي عليه وهذه لا يعلمها إلا الله. لا يعلم حقيقة الصفات إلا الله، لا يعلم حقيقة الجنة والنار إلا الله، لا يعلم حقيقة يوم القيامة إلا الله، لا يعلم حقيقة ما في السماء إلا الله، لا يعلم حقيقة الصراط وأحوال البرزخ إلا الله - عز وجل -. فهذه الحقائق لا يعلمها إلا الله؛ لكن المسلم يعلم المعاني في الأمور الغيبية، أُخبرنا في الأمور الغيبية بأشياء لها معنى فنعتقدها، وأما حقيقة ما هي عليه بكمالها من جهة المعنى والكيفية، هذه لا يعلمها إلا الرب - عز وجل -. لهذا صَحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّهُ قال (ليس في الجنة من دنياكم إلا الأسماء) (1) . يعني أنك تعرف أصل المعنى، أما الحقائق فالمسألة ليست بمقدور الناس أن يفهموا حقيقة ما في الجنة. حقائق الأخبار إذاً، حقيقة الخبر من جهة تمام المعنى ومن جهة كيفية الأمور الغيبية هذه لا يعلمها إلا الله. فيكون الوقف عند الآية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} . والراسخون في العلم لا يعلمون تأويل الأخبار بمعنى حقائق الغيبيات على ما هي عليه من جهة الكيفية ومن جهة تمام المعنى. أمَّا الأمرُ والنهي: فالله - عز وجل - أَمَرَ بأوامر ونَهَى عن نواهي: فتأويل الأمر امتثاله، وتأويل النهي الانتهاء عنه؛ لأنَّ الله - عز وجل - قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] ؛ يعني وأحسن امتثالاً لأمر الله - عز وجل - وأحسن عاقبة. فإذاً كل من أُمِرَ بِأَمْرٍ فتأويلُ الأمْرِ؛ يعني ما تؤول إليه حقيقة الأمر هو أنْ يمتثله. فمن لم يمتثل فلم يستسلم للأمر ولم يطع في ذلك. تأويل النهي هو ما تؤول إليه حقيقة النهي وهو امتثاله - امتثال النهي يعني أن يجتنب النهي؛ أي ما نُهِيَ عنه. ثم يزيد على الأمرين: - في الامتثال بالأوامر عاقبة أو جزاء الامتثال. - وفي الإنتهاء جزاء الانتهاء عما نهي عنه بالنواهي. فإذاً التأويل بالأمر والنهي يشمل شيئين: - الأول: أن يمتثل الأمر ويجتنب النهي. - والثاني: ما سيراه في الآخرة من جزاء الأمر، وما امتثله، ومجازاة العبد على انتهائه عن ما نهي عنه. 3 - القسم الثالث التأويل بمعنىً حادث لم يأتِ في القرآن وفي السنة. وهو أنْ يُصرَفْ دليل عن ظاهره لِحُجَّة. وهو صحيح إذا كان بضابطه الذي ضبطه به أهل العلم. ويُعَبِّرْ عنه الأصوليون بقولهم: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة. وهذا للأصوليين فيه تفصيلات حيث أنَّه ينقسم إلى ثلاثة أقسام. لكن هذا المعنى من التأويل صحيح، يعني أنَّ النصوص ربما صُرِفَ اللفظ إلى غيره، صُرِفَتْ دلالة الدليل إلى آخر لدليل آخر لقرينة.   (1) انظر تفسير الطبري (البقرة/25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 [المسألة الثالثة] : هذا التأويل الأخير هو الذي به تسلَّط (1) [ ..... ] [ ..... ] وأوَّلوها بالتأويلات. فنصوص الرؤية حَرَّفُوهَا وسَمَّوا تحريفهم تأويلاً. ونصوص إثبات الصفات من الوجه واليدين والرحمة والرضا من الصفات الذاتية والصفات الفعلية جميعا حَرَّفُوهَا وسمَّوا تحريفهم لها تأويلاً. وهذا هو الذي أراده الطحاوي بقوله (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكُ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ) ؛ لأنَّ تأويلهم له كان باطلاً، وحقيقة التأويل أن يُتْرَكْ التأويل. يعني التأويل المطلوب شرعاً أن يُترك التأويل، وهذا يحتاج على تطبيق. فالتعريف، عَرَّف الأصوليون التأويل بأنه صرف اللفظ -يعني الذي جاء بالدليل- عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة. هنا القرينة لابد أن تَدُلَّ على أنَّ الظاهر غير مراد حتى يُمكن أن يُصرَفْ اللفظ عن ظاهره لأنّ الظاهر هو الأصل. فإذا أردنا أن نُؤَوَّلْ الظاهر لابد من قرينة. هذه القرينة هي التي بها قلنا الظاهر غير مراد. فأتوا بهذه القرينة وسَلَّطُوهَا على نصوص الصفات. فقالوا في الرؤية مثلاً: الرؤية ظاهرها يقتضي التجسيم، يقتضي التحيز، يقتضي التشبيه - رؤية الرب - عز وجل --، يعني أنَّهُ يكونُ مُتَحِيِّزَاً حتى يمكن أن يراه الناس، لابد أن يكون في جهة حتى يمكن أنَّ الناس يروه، لابد أن يكون في مقابلة العينين حتى تراه العينين، وهكذا. فلَّمَا كانت هذه القرينة العقلية عندهم وهي أنَّ الله - عز وجل - لا يشبه المخلوق ولا يماثل المخلوق، قالوا: إذاً الرؤية تُؤَوَّل لأنَّ معناها الظاهر غير مراد قطعاً؛ لأنَّ فيه تمثيلاً وتشبيهاً لله بخلقه. وهذا ينطبق على جميع الصفات، فيمكن أن تُطَبِّقْ هذه القاعدة على كل ما أُوِّلَ من النصوص في الصفات والأمور الغيبية سواءً كان في الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية. ونناقش هؤلاء -وأنا أريد منكم أن تتابعوا معي؛ لأني أريد كلمة مهمة لبناء ما بعدها عليها-: هؤلاء جاءوا بشيءٍ سَمَّوهُ قرينة فحَكَّمُوهُ على النص، فسَمَّوا هذا الذي فَعَلُوهُ تأويلاً. ونحن بقاعدة الأصوليين -بتعريف الأصوليين- نناقشهم، هل طبقتم التأويل حقا؟ أم أنكم عملتم شيئاً سَمَّيتُمُوهُ تأويلاً؟ القاعدة ما عليها غبار، القاعدة صحيحة. فنقول هنا (صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة) : لصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لابد أن يكون الظاهر الذي صُرِفَ عنه معلوم المعنى حتى نصرفه إلى غيره؛ ونقول هذا الظاهر الأول غير مراد لأنَّهُ لا يصلح، حتى يمكن أن نصرفه. وهذا في التقعيد واضح. صفات الرب - عز وجل - في ظاهرها المتبادِرْ منها أصل المعنى، وليس ظاهراً في الكيفية وليس ظاهراً في كل المعنى. إذاً فعندنا في النص ثلاثة أشياء: - عندنا أصل المعنى الذي نفهم به، نفهمه من اللغة. - وعندنا كمال المعنى، تمام الصفة، كمال معنى الصفة. - وعندنا ثالثا الكيفية. فإذاً ظاهر النص مشتمل على أصل المعنى؛ يعني على إثبات الصفة من حيث الوجود، صفة الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا فيه إثبات صفة الرحمة؛ لكن ما هو كمال معنى الرحمة؟ ليس واضحاً في النص، إِذْ النصوص فيها أصل إثبات الصفة. فإذاً صرف اللفظ عن ظاهره المتبادِرِ منه إلى غيره لقرينة، هم لم يصرفوا الظاهرَ، وإنما صَرَفُوا شيئاً تَوَهَّمُوهُ زيادةً على الظاهر. فالظاهر يجب الإيمان به والاستسلام له. فهم تَوَهَّمُوا للظاهر شيئاً زائداً على دلالة النص، توهموا تمام معنىً وتوهموا كيفيةً. فإذاً لم يقتصروا على الأمر الأول؛ وهو أنَّ النص جاء في الصفات وفي الأمور الغيبية لأصل المعنى وإنما توَّهَمُوا كيفية، فقالوا: كيف أن الإنسان يرى الله - عز وجل - بعينيه؟ معناه أنَّ الله - عز وجل - يكون متحيز، وسوف يكون في جهة، وسوف يكون إلى آخره من الأمور الباطلة. ونقول هذه زائدة على النص. فإذن التأويل الذي سُلِّطَ على النص في الحقيقة سُلَّطَ على ما في الأوهام ولم يُسلَّط على النص، فإنكم تَخَيَّلْتُم أنَّ النص يشمل الثلاث هذه جميعاً: في أصل المعنى وفي تمامه وفي الكيفية، ثُمَّ سَلَّطْتُم التأويل عليها. فسلطتم إذاً التأويل ليس على اللفظ وإنما على ما تَوَهَّمْتُمُوهُ من اللفظ. فإذاً قاعدة التأويل في الحقيقة لم تُطَبَّقُوهَا وإنما طبَّقتم ما في أذهانكم. لهذا نقول: إنَّ إثباتَ الصفة هو إِثْبَاتُ وجودٍ لمعنى وليس إثبات تمام المعنى أو الكيفية. فالقرينة التي بها تَسَلَّطُوا على النص هي قرينة المماثلة أو المشابهة. فيقولون: هذا يقتضي التمثيل، يقتضي التشبيه، يقتضي التجسيم، فلذلك يُؤَوَّلْ.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فالقرينة عندهم عقلية بحتة وليست نصاً، القرينة عقلية في أنَّ هذه الأشياء ظاهرها يماثل صفات المخلوقين، يشابه صفات المخلوقين، فلذلك يجب أن نَنْفِي هذا الظاهر. وهذا في الحقيقة ليس هو ظاهر النص. ظاهر النص ليس فيه الكيفية، ظاهر النص ليس فيه كمال المعنى. وإنما ظاهر النص الذي يجب الإيمان به أنَّ فيه أصل اتصاف الله - عز وجل - بالصفة. فنؤمن بأنَّ الله - عز وجل - ذو وجه - عز وجل -، وأنه سبحانه مُتَّصِفٌ بصفة السمع. لكن كيف يسمع؟ يسمع دبيب النملة على ظهر الصخرة الملساء. كيف حصل هذا السمع؟ تمام معنى السمع لا نستطيع أن ندخل فيه، وإنما نقول الله - عز وجل - موصوفٌ بصفة السمع وله من هذه الصفة كمالها؛ كمال هذه الصفة، الكمال المطلق. لكن هل نستطع أن نخوض في تفصيلاته؟ لا نستطيع. كذلك صفة الوجه، صفة اليدين، إلى غير ذلك من الصفات. فإذاً هو إِثْبَاتُ وجود لا إثبات كيفية، إثبات اتصاف بالصفة لا إثبات كيفية. فإذاً الذين سَلَّطُوا القرينة سَلَّطُوهَا بشيءٍ مُتَوَهَّمْ، فلهذا لا يَصِحُّ أن يُقَال إنهم طَبَّقُوا قاعدة التأويل، بل هم حرَّفوا؛ لأنهم جعلوا للنص دِلَالَة بأوهامهم خلاف دلالة النص، ثم بعد ذلك سلطوا عليها تأويلهم. لهذا قال طائفة من أهل العلم (كل مُؤَوِّلْ مُمَثِّلْ، كل مُؤَوِّلْ مُشَبِّهْ) . لأنه لا يمكن أن يُؤَوِّلْ إلا وقد قام في قلبه من دِلَالَةِ النص التشبيه أو التمثيل، هذا واحد. الأمر الثاني نقول لهم: إذا لم تُسَلِّمُوا بذلك وقلتم: إنَّ تأويلنا كان لأصل المعنى وليس لما قام في أوهامنا وفي أذهاننا. فنقول يلزم من ذلك أن تُأَوِّلُوا صفة السمع، يلزم من ذلك أن تُأَوِّلُوا صفة البصر، يلزم من ذلك أن تُأَوِّلُوا صفة الكلام، فما الفرق بين صفة الكلام لله - عز وجل - وصفة السمع والإرادة والحياة وصفة الرحمة؟ ما الفرق بينها؟ ما الفرق بين هذه الصفات وبين صفة اليدين؟ فإذاً في صفة السمع: للمخلوق سمع، فالمشابهة حاصلة بحسب أفهامهم. فالنص الذي به أَثْبَتُّمْ صفة السمع والبصر وصفة الكلام هو النص الذي أُثْبِتَتْ به سائر الصفات. فلِمَ لم تتعرضوا لهذا بتأويل وتَعَرَّضْتُم للآخر بتأويل؟ إنْ كان الآخر أخذتم كما قلتم أصل المعنى فأوّلتم، فهذه أنتم أخذتم أصل المعنى فيلزمكم التأويل. إذاً فالحاصل من هذا أنَّ كل مؤول لا يصح أن يقال إنه مُؤَوِّل؛ بل هو مُحَرِّفْ لأَنَّ التأويل لا ينطبق على قاعدته، لا ينطبق على هذه الحالة. فالنصوص الغيبية بابها باب واحد، تطبيق القاعدة الأصولية التي هي التأويل لا يصلح على هذه المسائل، المسائل الغيبية لما ذكرته لك. تتميم للمسألة، إذاً قول الطحاوي هنا دقيق للغاية يُتنبه لقوله، قَالَ (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكِ التَّأْوِيلِ) . إذا أردت أن تُطَبِّقْ قاعدة التأويل فتخرج منها وسَتَسْتَنْتِجْ منها أنَّ التأويل تَرْكُ التأويل. كيف؟ إذا قلنا إنَّ القرينة غير ممكنة؛ لأنَّ هذا المعنى غيبي، فإذاً سينتج منه أنَّ القاعدة غير منضبطة. فإذاً التأويل سَيُؤَدِّيْكَ إلى ترك التأويل؛ لأنَّ القاعدة غير جائية وسارية في مسائل الغيبيات. وهذه كلمة دقيقة منه رحمه الله (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ تَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ) لأنك لو طَبَّقْتَ قاعدة التأويل نَتَجَ منها تَرْكُ التأويل. التأويل: يعني أن تترك التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [المسألة الرابعة] : مِثْلُ التأويل في تسليطه على نصوص الغيبيات ما يسمى بالمجاز. والتأويل والمجاز يُستخدَمَانِ في مباحث الصفات والأمور الغيبية بعامة، يستخدمها أهل البدع الذين لم يُسَلِّمُوا للنصوص دِلَالَتِهَا. (المجاز) لم يأتِ هذا اللفظ لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة ولا في كلام التابعين ولا في كلام تبع التابعين. يعني انقضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يُستعمل هذا اللفظ، فلفْظُهُ حادث. والألفاظ الحادثة بحسب الاصطلاح: - إن كان هذا المصطلح أُسْتُخْدِمَ في شيءٍ سليم، في شيء مقبول شرعاً، فلا بأس به إذ لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح، مِثْلْ ما قالوا التأويل هو كذا وكذا فَعَرَّفُوهُ، ومثل ما تَعَارَفُوا على أشياء كثيرة في العلوم. ولهذا اسْتَعْمَلَ لفظ المجاز بعض العلماء في معاني صحيحة؛ فَكَتَبَ أبو عبيدة مَعمَر بن مثنى كتاباً سَمَّاهُ مجاز القرآن، وتجد في ألفاظ لابن قتيبة أيضاً ذِكْرَاً للمجاز -للمجاز العام-؛ يعني المجاز المقبول؛ وله هو نَظَرْ في المجاز لا نَعْرِضُ له الآن. إذاً هذا تاريخ اللفظ أنَّ اللفظة حادثة ما كانت مستعملة. ماذا يُقْصَدْ بلفظة (مجاز) من حيث اللغة؟ المجاز يعني: ما يجوز، هذا في اللغة. ولهذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28] ، قال: مَجَازُهُ علا على العرش، وهذا يعني أَنَّهُ معناه في اللغة؛ يعني ما تُجِيْزُهُ اللغة. يعني هذا مجازه اللفظي في اللغة وما أجازته العرب من المعنى. إذا نظرت لذلك وجدت أَنَّ استعمال من استعمل لفظ المجاز غير استعمال المُحَرِّفين. لهذا نقول: المجاز عند أهل التّحريف عَرَّفُوهُ بما يلي: قالوا: المجاز هو نقل اللفظ من الوضع الأول إلى وَضْعٍ ثانٍ لعلاقة بينهما. وعَرَّفَهُ آخرون بقولهم: المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وُضع له. مثاله عندهم، يقول مثلا: أَلْقَى فلان عَلَيَّ جناحه. فمجاز الجناح هنا قالوا: الجناح يعني كنفه ورعايته ويده إلى آخره. قالوا: أصل الجناح للطائر، جناح الطائر. فلما اسْتُعْمِلَ في الإنسان صار استعمال اللفظ لغير ما وُضِعَ له، لهذا سَمَّوهُ مَجَازَاً. إذا تبين لك ذلك فنقول: أولاً قولهم في تعريف المجاز: إنَّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له مَبْنِيٌّ على أنَّ الألفاظ موضوعة لمعاني. ومن الذي وَضَعَ المعنى أو اللفظ للمعنى؟ من الذي وضع؟ يقولون العرب وَضَعَتْ. التعريف الأول -وهو المشهور عند الأصوليين- المجاز نقْلُ اللفظ من وضع أول إلى وضع ثاني. يعني أنَّ العرب وضعت للألفاظ شيئاً ثم نقلته من الوضع الأول إلى الوضع الثاني. هذا التصور مبني على خيالٍ في أصله. وهو أنه يُطَالَب من عَبَّر هذا التعبير بأن يقال له: من الذي وَضَع الوضع الأول؟ هذا أَوَّلَاً في التعريف لهذا لا تدخل مع الذين يبحثون في المجاز أصلاً، يعني في الغيبيات أما في الأمور الأدبية، هذا الأمر سهل؛ يعني الخلاف الأدبي سهل. لكن إذا أتى المجاز في الأمور الغيبية والصفات فَنَاقِشْهُ في التعريف. الآن ما هو تعريف المجاز؟ استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له، أو نَقْلُ اللفظ من الوضع الأول إلى الوضع الثاني. هذا الوضع الأول والوضع الثاني كيف عرفنا أَنَّ هذا هو الوضع الأول؟ الجواب: لا سبيل إلى الجواب. ليس ثَمَّ أحد يمكن أن يقول هذا اللفظ وُضِعَ لكذا، إِذْ معنى ذلك أَنَّ العرب اتفقت، عَقَدَتْ مُؤْتَمَرَاً، اجتمعت جميعاً وقالت: الآن نحدد لغتنا في الوضع الأول. هذا السقف السماء وضعها الأول هو ما علا. الأرض هي هذه هذا الوضع الأول. السَّيْرُ، جَرَى، مَشَى، معناه كذا. جَنَاحْ هُوَ لهذا الطائر، حَمَامْ هو لهذا الطائر، وهكذا. فَيُتَصَوَّرْ من التعريف أنَّ العرب اجتمعت وجَعَلَتْ لكل لفظٍ معنىً في لغتها. وهذا خيال؛ لأنّ من عَرَفَ ودرس نشأة اللغات لا يمكن أن يتصوّر أنَّ اللغة العربية نشأت على هذا النّحو. لهذا نقول: أولاً التعريف غير صحيح، لأنَّ الوضع الأول يَحْتَاجُ إلى برهان لإِثْبَاتِ أَنَّهُ وَضْعٌ أول. أَثْبِتْ لي أَنَّ هذا هو الوضع الأول ولا بأس. ولا سبيل إلى الإثبات. لهذا نقول: إنَّ المعاني في اللغة العربية كثيرٌ منها كُلِّيَّةْ. وكلما ذهبت إلى المعنى الكلي كلما كنت أحْذَقْ وأَفْهَم للغة. وهذا ما جرى عليه العالم المحقق ابن فارس في مقاييس اللغة، كتاب سماه (معجم مقاييس اللغة) جَعَلَ الكلمات لها معاني كلية ثم تندرج التفريعات تحت المعنى الكلي، وليس وضعاً أول ثم وضعاً ثانيا، وهذا حقيقة وهذا مجاز، ليس كذلك. إذا تبين ذلك فنقول: لفظ التأويل ولفظ المجاز يُسْتَعْمَلَانِ كثيراً. الظاهر: يقابله التأويل. والحقيقة: يقابلها المجاز. فيُقَال هذا حقيقة وهذا مجاز، ويُقَالْ هذا ظاهر وهذا تأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ولا يقال في التأويل مجاز وللمجاز تأويل، لا، التأويل يختلف عن المجاز كما ذكرته لكم مراراً. المجاز كتطبيق لأجل أن تفهم كيف يطبقون المجاز على قاعدتهم وكيف أنَّ هذا الكلام الذي طبقوه غير جيد غير صحيح. يقولون مثلاً: الرحمة مجاز عن الإنعام. طيب مجاز عن الإنعام يعني أنَّ لفظ الرحمة وضعته العرب للمخلوق للإنسان. فلما أسْتُعْمِلَ في صفات الرب - عز وجل - نَقَلُوهُ من الوضع الأول إلى وضع ثانٍ وهو الإنعام لأنَّ العرب استعملت الرحمة بمعنى الإنعام. فإذاً الرحمة تشمل رحمة الأم بولدها، ورحمة الوالد بولده، ورحمة الإنسان بمن يتعرض لشيء أمامه من المكروهات، وتشمل الإنعام. رَحِمَهُ يعني أنْعَمَ عليه. قالوا الإنعام هذا وضع ثاني والرحمة التي يجدها الإنسان في نفسه هذا الوضع الأول. ففي صفات الرب - عز وجل - لا نقول إنه متصف بالرحمة لم؟ قالوا لأنَّ الرحمة لا تحصل إلا بضعف، إلا بانكسار، وهذا منزه عنه الرب - جل جلاله -. فإذاً نقلوا من الوضع الأول إلى وضعٍ ثانٍ لعلاقة. العلاقة بينهما هي مناسبة هذا لله - عز وجل -. يعني الإنعام مناسب في هذا وفي هذا. العلاقات عندهم في المجاز نحو ثلاثين علاقة، وأُلِّفَتْ فيها كتب، يعني من باب الذكر وليست مهمة. طيب، عندكم الرحمة بمعنى الإنعام، والرحمة حينما فسرتموها قلتم الوضع الأول في الإنسان لماذا؟ الرحمة هذا اللفظ وُجِدَ مع الإنسان، أليس كذلك؟ وُجِدَ مع الإنسان، أحَسَّ بهذا الشيء الذي في نفسه وهذا الشيء سُمِّيَ رحمة. فهل هذه الرحمة حينما وُضع لها هذا المعنى هي في لغة العرب أو هي في اللغات جميعاً؟ الجواب أنها في لغة العرب؛ يعني من حيث لفظ (رحمة) . وأما المعنى المُشْتَرَكْ لهذه الصفة فهذا عام في جميع اللغات؛ يعني موجود في كل لغة ما يدل عليه. اللغة هل تضع الأشياء محدودة أو كلية؟ اللغة المفروض فيها أنها تجعل الألفاظ للمعاني الكلية، لا لمعانٍ محدودة. فنأتي للرحمة فنقول الإنسان عنده هذه الرحمة، وَجَدَ هذه الصفة في نفسه فَسَمَّاهَا رحمة. لكن لا يوجد تعريف في أي كتاب من كتب اللغة للرحمة بتعريف جامع مانع محدود. كذلك الرأفة، كذلك الوُد، كذلك المحبة، ونحو ذلك، فالمعاني النفسية هذه الموجودة في داخل نفس الإنسان هذه لا يوجد تعريف محدّد لها حتى في كتب اللغة. إذاً فهي ليست موضوعة لما يحسُّهُ الإنسان، وهي إذاً موضوعة لمعانٍ كلّية تشمل هذه الصفة. ولهذا نجد أنّ كل الصفات المعنوية لا يمكن تعريفها. لو أتاك أحد وقال عرف لي هذه الرحمة التي في قلبك؟ لا يُحْسِنْ حتى هؤلاء الذين يَحْكُمُون بالمجاز وبالتأويل لا يُحْسِنُونَ أَنْ يُعَرِّفُوا الرحمة بشيءٍ جامعٍ مانع. هات الرحمة بتعريف جامع؟ فيُفَسِّرْ الرحمة بأثر الرحمة، فيُفَسِّرْ الرأفة بأثر الرأفة، فيُفَسِّرْ المحبة بأثر المحبة. لكن كل إنسان في أي لغة إذا طَرَقَ سمعه الرحمة هو يعرف مدلول الرحمة بما يجده في نفسه. إذاً فالمعاني النفسية هذه التي هي ليست ذوات هذه كليات، والكليات ليست مفردات، الكليات للجميع. فإذاً جَعْلُ الكلية اللغوية مُفْرَدَاً في حال الإنسان، وجَعْلُ هذه المفْرَدَةَ وضْعَاً أول هذا لاشك أنه ليس له دليل في اللغة وليس له أيضاً برهان وهو تَحَكُّم. فإذاً لكل شيء يناسبه. إذا قلت للعربي رحمة الطير، الطير حينما رَحِمَ، هل كانت الرحمة في الإنسان واستعار للطَّيْرِ الرحمة؛ أي جَعَلَهَا في الطير مجازاً؟ الجواب: لا، يقول لا، الطير فيه رحمة، طيب هذا المعنى الكلي بين الطير والإنسان هل كان في الوضع الأول خاصَّاً بالإنسان ثم عُدِّيَ أو كان للجميع؟ فإن قال للإنسان وحده فإنه لن يقوله؛ لأنه لا يُسَلَّمْ له. وإن قال للإنسان والطير وللحيوان فيما يَرْحَمْ، قيل له فإذاً العرب وضعت هذا اللفظ بالوضع الأول للجميع لهذين فقط، أو وضعت كُلِّيَّة فَطُبِّقَتْ على الإنسان والحيوان وعلى الطير؟ فَمُؤَدَّى الأمر أَنَّ هذه الكلمات مبنية على برهانين: 1 - البرهان الأول: معرفة نشأة اللغات، وأنَّ الوضع الأول للأشياء في الإنسان أو في الطير فقط أنَّ هذا غير جارٍ؛ لأنه ما يُتَصَوَّرْ -كما قلت لك خَيَالٌ أنَّ العرب اجتمعت ووضعت هذه الأشياء على هذا النحو-. 2 - البرهان الثاني: أن يُقَال المعاني الكلية المشتركة هذه لها تعريف عام لُغَوِي، وإذا كان لها تعريف عام، ووجودها في الإنسان تمثيل، ووجودها في الطير تمثيل ووجودها في الأم من الحيوان لولدها تمثيل، وهكذا، فإذاً القضية الكلية أو التعريف الكلي لا يُسَلَّط عليه المجاز بالأمثلة. هذه القضية كبيرة بلا شك، ولابد منكم لمن أراد التحقيق في علوم العقيدة وفي علوم اللغة أن ينتبه إلى هذه المسألة؛ وهي نشأة اللغات. كيف نشأت اللغات؟ كيف نشأت اللغة العربية؟ في اللغة العربية أتى العرب موجودون فكانت أمامهم لغة؟ لا، الأسماء عُلَّمها آدم {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 هذه الأسماء هل كانت باللغة العربية؟ لا، كانت بلغة، ثم بعد ذلك تداخل أولاد آدم تنوعت لغاتهم، اكتسبوا أشياء من الأصوات، اكتسبوا أشياء من الرؤية. كلمة كانت بسبب الصوت مثلاً. مِثْلْ كلمة جَرَّ، جَرَّ هذه أنْتَ لو حَمَلْتَ جذع شجرة تحتاجه في إيقاد النار، تأتي به من مكان بعيد عن المكان الذي تطبخ فيه، تسمع صوته في الأرض بهذه الكلمة جَرْرْرْرْ، فتسمع هذه. مثل كلمة خرير؛ خرير الماء هذا الصوت. مثل كلمة وسوسة الصوت هذه الوسوسة مأخوذة بالسمع. إذاً اللغة تَشَكَّلَت من أشياء، ومَنْ دَرَسَ نشأة اللغات يقول: إنَّ البرهان على الوضع الأول الذي أعْتُمِدَ عليه بالمجاز ممتنع. وأنا أريد الحقيقة من باب طلب الحق أن يأتي باحث ممن يبحث في اللغة ويُثبت لي هذا الوضع الأول كيف جاء؟ كيف تواضعت العرب على أنّ الكلمة بهذا المعنى في الإنسان المحدَّدْ أو في الحيوان إلى آخره. خذ مثلا كلمة جناح. جناح في اللغة فيها دِلَالَة على المَيْلْ، ميل واستطالة في الميل؛ يعني مَالَ وثَمَّ زيادة واستطالة في الميل، ليس ميلاً خفيفاً لكن فيه استطالة، لهذا قال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] ، {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [الممتحنة:10] ؛ يعني لا إثم عليكم لأنَّ الإثم ميل واستطالة. إذاً فتسمية جناح الطائر بجناح، هل هو لأنهم أطلقوا على هذا الجزء؛ يعني قَسَّمُوا الطائر إلى أجزاء، وقالوا هذا سَمُّوهُ جناح، أو هو لمعْنىً كلي موجود قبل وَجَدُوهُ في هذا الجزء من الطائر فَسَمَّوهُ بِهِ. هم عندهم الميل، رأوا أَنَّ جناح الطائر فيه استطالة وميل، يمتد يستطيل ويميل إلى آخره، نفس الجناح، لكن جسم الطائر ثابت، لكن هذا الذي يذهب ويجيء هذا الجناح، فسمّوا هذا الجناح بهذا الاسم. طيب جاء في الإنسان: الإنسان فيه أيضاً شيء يميل وهو اليد، فاليد تميل. إذاً اليد أيضا جناح، ولذلك قول الله - عز وجل - {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] ، كما قال المفسرون اخفض لهما جناحك الذليل، ليست استعارة وليست مجازاً وإنما اليد جناح؛ لأنها فاعلة وتذهب وتجيء، ولهذا قال - عز وجل - في قصة موسى عليه السلام {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:32] . {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} الجناح ما هو؟ اليد ليست استعارة لأنها المعنى الكلي. إذن في هذه المسائل تطول. يعني العنق سُمَّيَ عنق يعني هكذا أم ثَمَّ معاني نشأت منها اللغات ثم تَوَسَّعَتْ؟ لهذا نقول اللغة كليات جاءت أمثلة عليها تطبيقات في الواقع، قواعد عامة. لهذا من عَرَفَ أَقْيِسَةَ اللغة فَهِمَ حقيقتها، أما وجود وضع أول يُبْنَى عليه المجاز فهذا غير ممكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الأسئلة س1/ لو ذكرتم كتباً تكفي طالب اللغة تتحدث عن نشأة اللغات؟ ج/ نشأة اللغات فيها كتب كثيرة ليست سليمة؛ يعني لم أر كتاباً سليماً في جملة تفاصيله، لأنه لا يخلو كل باحث من خلفيات عنده ومُقَرَّرَات سابقة تسيطر عليه في بحثه ذاك. لكن من أحسنها أو مما يطلعك على ذلك كتاب اسمه (مولد اللغة) للشيخ مصطفى الغلاييني وثَمَّ كتب أخرى. س2/ أول درس لي في العقيدة هو هذا الدرس في الطحاوية ولم أدرس الواسطية وغيرها، فبماذا تنصحني؟ ج/ إذا كان هذا أول درس فصعب؛ لأنه راعيت في هذا الشرح من انتقل معنا من الواسطية إلى الطحاوية لذلك يُذكَرْ أشياء فيها مباحث لم تذكر فيما قبل؛ ما نكرر المعلومات تماما، إنما نزيد بعض المسائل. فأنا أوصي الأخ الذي هذا أول درس له أن يبتدئ مع أحد أهل العلم في كتاب لمعة الاعتقاد، وينتقل منه إلى الواسطية، ثم بعد ذلك ينتقل إلى شرح الطحاوية. س3/ هل اللغات توقيفية أم اصطلاحية؟ ج/ فيها عدَّة أقوال والصحيح أنَّ الأسماء المطلقة توقيفية، الأسماء اللغوية بدون أن نقول بلغة فلان، بلغة العرب، أو باللغة السريانية، وهكذا. الأسماء مطلقاً توقيفية لقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أمَّا بعد ذلك التداخل والتوسع، فما يوجد برهان واضح، واللغة تنمو، وإذا كان المعنى الكلي موجود فكل ما يُذْكَر مثال لأنَّ المعنى الكلي يختلف باختلاف الإضافة. مثلا عندك السمع، السمع هذه كلمة عامة، صحيح، السمع معروف لو أردت أن تعبر عن السمع تقول إدراك المسموعات واضح، وأيضا فيه إشكال لأنك رجعت بتعريف السمع إلى المسموع، واضح، المسموع رجعنا بالمسموع إلى السمع، صار فيه دور، لذلك لا يصح تعريفاً على طريقة المناطقة وإنما هو تقريب، إذا قلنا السمع إدراك المسموعات، سمع الإنسان يصح أن يطلق عليه سمع، سمع البعوضة يصح أن يطلق عليه سمع، الإنسان في سمعه تلحظ فيه أذن، وفيه صماغ، وفيه الغضاريف الزائدة هذه التي يتلقى بها، هذا وسيلة حصول السمع؛ لكن البعوضة ما فيها شيء عندها سمع. فإذن الكلية الحاصلة وهو إدراك المسموع موجود، لكن تمام المعنى بالنسبة للإنسان يناسب ذاته، الكيفية مختلفة، ما يناسب البعوضة أو الذبابة من السمع يناسبها بقدْرها، آلة السمع عندها مختلفة عن آلة السمع عندنا، البصر في بعض الحيوانات تبصر بإيش؟ بالذبذبات أو لا؟ يعني بإرسال الأصوات، يعني عندها إحساس آخر قلنا تبصر؛ لأنها تدرك المبصرات، إذا جاءت للشيء مالت عنه، وهي ليس لها ما تبصر. إذاً كيف الاتصاف بالصفة، كيفية الاتصاف بالصفة، هذا لا يجوز أن يُجْعَلَ حَكَمَاً على المعنى الكلي، فالمعنى الكلي ما يشمل هذه الصفات المشتركة بين الكائنات، بل المعاني المشتركة العامة، هي تأتي في الإنسان تطبيقا، يطبقها على نفسه، يطبقها على الحيوان، وإنما تختلف من حيث كمال المعنى ومن حيث الكيفية مثل ما مثلت لك. ولهذا قال طائفة من أهل العلم في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، أنَّ الله - عز وجل - نَبَّهَ على السمع والبصر في هذا لأجل اشتراكه بين كل الكائنات الحية، الكائنات الحية لها سمع ولها بصر ومع ذلك أثبته لنفسه مع قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنَّه موجود ووَصَفَ الله به نفسه، فمعنى ذلك أنه إثبات صفة لا إثبات مشابهة أو كيفية. س4/ هل يصح إطلاق لفظ العارف أو قاضي القضاة على العَالِمْ؟ ج/ أما لفظ العارف فلا بأس به، استعمله أئمتنا في بعض كلامهم، قال بعض العارفين، قال فلان العارف بالله، على قلة، والأحسن أن يترك. وأما لفظ قاضي القضاة فهو محرم؛ لأنَّ قاضي القضاة هو الرب جل جلاله. س5/ ما رأيكم في من قال ليس لله مكان؟ ج/ هذا باطل، المكان ما يُطْلَقْ ولا يُنْفَى لأنه ما جاء في الكتاب والسنة، وإنما نقول الله - عز وجل - مستوٍ على عرشه بما وصف به نفسه. هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (1)   (1) انتهى الشريط الثاني عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 : [[الشريط الثالث عشر]] : الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الأسئلة: س1/ ما معنى هذه العبارة: لا يُستعمل في العلم الإلهي قياس تمثيلي أو شمولي وإنما يستعمل قياس الأَوْلى. ج/ هذه الأقيسة الثلاث مستعملة عند المناطقة: - قياس التمثيل. - وقياس الشمول. - وقياس الأولى. والتمثيل والشمول يقتضي الاشتراك في الجنس؛ لأنَّ المثال هو أحد أفراد الجنس، وأمَّا القياس الذي يصح أن يُطَبَّقَ في صفات الله - عز وجل - وفيما يليق به جل جلاله وهو قياس الأولى. يعني أن يقال كُلُّ كمال في المخلوق فالله - عز وجل - أوْلَى به؛ لأنَّ الله سبحانه متصف بصفات الكمال المطلق، وإذا في المخلوق نوع كمال يناسبه فالله - عز وجل - له الكمال المطلق. مثاله: الغِنَى كَمَالٌ في حق المخلوق -يعني عند الناس-، وكذلك سلامته في حكمته وإدراكه، وهذا كمال في حقه، كذلك قدرته كمال في حقه، كذلك سمعه وبصره وسلامة آلاته هذا كمالٌ في حقه، وهكذا، فهذه الصفات التي في المخلوق التي تكون فيه كمال، فهي تُثْبَتُ لله - عز وجل -؛ لأنَّ الله سبحانه أولى بالكمال، وأولى بنَفْيِ النقص عنه - عز وجل -. ومن الأمثلة التي تُشْكِلْ على بعض الناس في هذا الباب هو أَنْ يُقَال أنَّ الله - عز وجل - نَفَى عنه الولادة، فقال {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] ، فليس له ولد لأنه غير محتاج إليه، والمخلوق الولد في حقه كمال؛ إذ العقيم ليس بكامل عند الناس. وهذا ليس مُتَّجِهَاً ولا مُعَارِضَاً للقاعدة؛ لأنَّ المخلوق صار الولد في حقه كمالاً لحاجته إليه، فهو يستكثر بالولد ويستقوي به لحاجته إليه؛ لأنه قد ينتفع منه بأنواعِ الانتفاع، والولد في حق المخلوق نقص، ولهذا يُنْفَى عن الله - عز وجل -، وليس كمالاً كما قد يُظن. المقصود أنَّ عبارات (القياس التمثيلي، والقياس الشمولي، وقياس الأَوْلى) من عبارات المناطقة أصحاب المنطق وعلم الكلام، ولا يصح استعمالها عند أهل السنة والجماعة إلا في قياس الأوْلى دون غيره. س2/ ذكر أحد طلبة العلم أنَّ التوراة الإنجيل والزبور ليست كلها محرفة؛ بل أغلبها، لذا اختلف العلماء في مس الجنب لها، ويجوز الحلف بها؛ لأنها من كلام الله، وكلام الله عز وجل صفة من صفاته. السؤال: هل هذا الكلام صحيح؟ وهل يجوز الحلف بالتوراة والإنجيل والزبور؟ أرجو التوضيح. ج/ أولاً التوراة والإنجيل والزبور التي أُنزِلَتْ على موسى وعيسى وداوود هذه كلام الله - عز وجل -؛ لكن هذا المُنَزَّل على هؤلاء الأنبياء الموجود الآن لا يُتَيَقَّنْ أنَّهُ ذلك المنزل؛ بل قد يكون الموجود اختلط به كلام الله - عز وجل - وكلام علمائهم وزيادات باطلة من التحريفات، والعلماء اختلفوا هل وقع التحريف في هذه الكتب من جهة المعنى أو من جهة الألفاظ؛ يعني هل حُذِفَتْ بعض الأشياء وأُبْدِلَتْ بأخرى وحُرِّفَتْ بنقص، بحذف، ثم زيادة أشياء من كلام الناس، أم كان التحريف في المعنى فقط، فهم حَرَّفُوا من جهة المعنى مع بقاء الأصل، على ثلاثة أقوال لأهل العلم. والصواب منها أنَّ التوراة والإنجيل فيها وفيها: - فيها ما هو من كلام الله. - وفيها ما هو من إضافات الناس الباطلة. - وفيها ما حُرِّف لفظه. . - وفيها ما حُرِّف معناه. اجتمعت فيها كل أنواع التحريف؛ تحريف اللفظ وتحريف المعنى وترك الأحكام، وهذا له تفاصيل في محلها. س3/ ما المراد بالغِل في قوله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ؟ ج/ الغل هو الحقد والضغينة التي تتخلل النفس والفؤاد، وأصل هذه المادة في اللغة -مادة غلّ- لما يكون مُتَخَلِّلَاً للشيء، ولهذا قيل للغُل الذي يُغَلُّ به -تُغَلُّ به الرقبة- {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} [يس:8] سُمِّي غُلاًّ لأنَّ الرقبة تتخلله وهو أيضاً يتخلل الرقبة يحيط بها، وكذلك يقال أيضاً للماء الذي يجري بين السواقي من هذه المادة، ويسمى الماء الغليل وأشباه ذلك. فالمقصود أنَّ هذه المادة تدور على التغلل، وعلى التسلل، فلهذا الحقد والضغينة إذا كانت مُتَسَلِلَةً في النفس محيطة بها سميت غِلًّا، كما قال هنا {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} ، ويدعو أهل الإيمان ربنا {لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، فأهل الجنة ليس في قلوبهم غل ولا حسد ولا ضغينة؛ بل هم أحباب متآخون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ   هذا رد على الطائفتين: طائفة المؤولة المحرّفة وطائفة المجسمة. المجسمة شَبَّهُوا، والمُأوِّلَة أو المُحَرِّفَة نَفَوا. فهؤلاء نفوا الصفات والمجسمة مثَّلُوا، فمن كان مُمَثِّلَاً أو مُحَرِّفَاً فقد زَلَّ ولم يصب التنزيه. ولهذا نقول: إنَّ قوله (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) أنَّ هذا تحذير حتى للمُوَحِّدْ. لا يخطر ببالك أنَّ الله - عز وجل - في صفته ثَمَّ مُشَابَهَة بينه وبين صفة الخلق، وكل ما خطر بباك فالله - عز وجل - بخلافه، لا من جهة تمام الصفة ولا من جهة الكيفية، وإنما نثبت كمال الصفة، الكمال المطلق؛ لكن كيف هذا الكمال حدود هذا الكمال؟ لا نستطيع ذلك. قال رحمه الله (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) هذه العبارة مُقَرِّرَةْ لقاعدة عامة من قواعد أهل السنة والجماعة: أنَّ صفات الرب - عز وجل - يجب أن لا يُسَلَّطَ عليها النفي، ولا أن يُعْتَقَدَ فيها التشبيه؛ بل يجب على المسلم في إثباته للصفات أن يَتَوَقَّى نفيها بدرجاته، وأن يَتَوَقَّى التشبيه؛ فلا يُثبِتْ مُشَبِّهاً ولا ينفي مُعَطِّلاً. قال (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) لأنه ليس على الطريق الحق، فكلّ من تَعَرَّضَ للصفات بنفي أو بتشبيه فإنّه ليس بموحّد. قال (لَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) يعني لم يُصِبْ التوحيد وتنزيه الرب - عز وجل - عمّا لا يليق بجلاله وعظمته. وهذا الأصل معلوم في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة: منها قول الله - عز وجل - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص] . وقال سبحانه {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] . وقال أيضا - عز وجل - {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم:27]ـ. {لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يعني له النعت الأعلى والوصف الأعلى. و {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يعني يُسَامِيه يُمَاثِلُهُ يُشَاِبُهُه في كمال أسمائه وما تضمنته من الصفات، فهو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . إذا تبين لك هذا المعنى العام لهذه الجملة فقوله (النَّفْيَ) و (التشْبِيهَ) و (التنْزِيهَ) هذه ألفاظ تحتاج إلى شرح، ونتناولها في مسائل: 1 - (النفي) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [المسألة الأولى] : أنَّ النفي يشمل أشياء: - أَنْ ينفي صفات الله - عز وجل - كلها. - أو أَنْ ينفي أكثرها. - أو أَنْ ينفي بعضا منها @ فالذين نفوا كل الصفات هم الجهمية. @ والذين نفوا أكثر الصفات هم المعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية. @ والذين نفوا بعض الصفات طوائف كثيرون من المفسرين ومن شُرَّاح الأحاديث، يَغْلَطُونَ فيُثْبِتُونَ في موضع ويناقضون أنفسهم فينفون في موضعٍ آخر. فإذاً النفي من جِهَةِ أصله فيه هذه الدرجات، والدرجة الأخيرة وهي نَفْيُ بعض الصفات فأكثر ما يَغْلَطُ فيه من غَلِطَ من المفسرين وشُرَّاح الحديث في الصفات التي هي من جهة صفات الأفعال. وهذه يعني الصفات الاختيارية مثل: الرضا والغضب والنزول والمَقْتْ والأَسَفْ وأشباه ذلك من الصفات. فالصفات الاختيارية قَلَّ من ينْهَجُ فيها منهج السّلف الصالح؛ وذلك لأنَّ الباب بابٌ واحدٌ في الصّفات الذّاتية وفي الصّفات الفعليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 [المسألة الثانية] : - النفي تارَةً يَتَوَجَّهْ لأصل الصفة. - وتارَةً يَتَوَجَّهْ لظاهر الصفة. - وتارَةً يَتَوَجَّهْ لكيفية الصفة. - وتارَةً يَتَوَجَّهْ إلى معنى الصفة. 1 - المرتبة الأولى توجهه لأصل الصفة: ينفي أَصْلَاً اتصاف الله - عز وجل - بالسمع، ينفي أَصْلَاً اتصاف الله - عز وجل - بالحكمة، ينفي أَصْلَاً اتصاف الله - عز وجل - بالعلم، وهكذا. 2 - المرتبة الثانية توجهه لظاهر الصفة: فيقولون نثبت الصفة لكن ظاهرها غير مراد، كيف؟ يقولون: نثبت الاستواء لكن ليس على ظاهره، فالاستواء له معنى غير المعنى الظاهر المتبادر منه، له معنى آخر. وهؤلاء على فرقتين: - منهم من يقول: المعنى كيت وكيت. - ومنهم من يقول: المعنى لا أحد يعلمه. فأما الأوّلون فهم المؤولة. وأما أصحاب القول الثاني فهم أهل التجهيل الذين يسميهم العلماء المُفَوِّضَة، يُثْبِتُونَ لكن يُفَوِّضُونَ كل الصفة لله - عز وجل -، لا يعلمون لها معنى، ولا يعلمون لها كيفية، جميع الصفة منفية؛ يعني مثبتة لكن منفي العلم بها. 3 - المرتبة الثالثة توجُّهُهُ لكيفية الصفة: هذا النّفي الذي يَتَّجِه إلى كيفية الصفة هذا واجب، وهو منهج أهل السنة والجماعة فإننا ننفي العلم بالكفية؛ لأنَّ الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنُثْبِتْ الصفة مع نفينا للكيفية. وهذا المعنى ليس مراداً في قوله (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) ؛ بل هذا نَفْيٌ واجب وهو أن نَنْفِي عِلْمَنا بالكيفية. فالكيفية لا يعلمها إلا الله - عز وجل -، كما قال - عز وجل - {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] . 4 - المرتبة الرابعة توجُّهُهُ لمعنى الصفة: والنفي المتجه للمعنى هذا يُثْبِتُ كثيرون الصفة لكن ينفون المعنى؛ يقولون ليس لها معنى، ليس لها معنى مطلقا؟ فاسم الرحيم هو العليم، والرحمة هي العلم؛ لكن لَمَّا تَعَلَّقَتْ إرادة الله بالمُعَيَّن فَرُحِمَ سُمِّي هذا التَّعَلُّق رحمة، لما تَعَلَّقَتْ به قُدْرَة سُمِّيَ ذلك قدرة إلى آخره. فيقولون هي من جهة قيامها بذات الرب - عز وجل - شيء واحد، ولذلك ننفي أن يكون لهذه الصفات معاني متعددة، وهذا يشترك فيه جملة من أصحاب المذاهب المختلفة. فقوله إذاً (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) يدل على أنَّ ترك النفي مطلوب وواجب، وهو ألا تُنْفَى أصل الصفات، وألا يُنْفَى الظاهر، وألا يُنْفَى العلم بالمعنى؛ بل يُنْفَى شيء واحد وهو الكيفية دونما سواها. 2 - (التَّشْبِيهَ) : التشبيه مصدر شبَّهَهُ بغيره تَشْبيهَاً، أو شَبَّهَ الشيء بكذا تشبيهاً. فالتشبيه: هو جعل المخلوق مشابهاً لله - عز وجل -، أو جعل الله - عز وجل - مُشَابِهَاً في صفاته للمخلوقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 [المسألة الثالثة] : التشبيه مراتب أيضا: 1 - فالمرتبة الأولى التشبيه الكامل وهو المساوي للتمثيل: يعني أن يقول يده كيدي، كقول المجسمة والعياذ بالله، وصورته كصورتي والعياذ بالله، وأشباه ذلك، فهذا تشبيه كامل؛ يعني شَبَّهَ الله - عز وجل - بالمخلوق من جهة الصفة في الكيفية وفي المعنى. وهذا كفر بالله - عز وجل - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} والمُشَبِّهُ يَعْبُدُ صَنَماً، الممثل يَعْبُدُ صنماً. فهو تَخَيَّلَ في نفسه صورة للرب - عز وجل - فجَعَلَهَا عليه. وهذا كما قلنا لكم لا يمكن أن يكون لله - عز وجل - في ذاته وصفاته شيء يَتَخَيَلُهُ العبد أو يتصوره؛ لأنَّهُ كل ما خطر ببالك فالله - عز وجل - بخلافه، كل ما جاء في بالك فالله ـ بخلافه. لأنَّ المعرفة واستقبال المعارف والإدراكات في الإنسان ستأتي شيئاً فشيئاً. وهو أصلاً جاء من غير إدراك. والله - عز وجل - جعل له السمع والبصر والفؤاد ليدرك. فإذاً كل المُدْرَكَات في الإنسان مَجْلُوبَةٌ له من واقع ما رَأَى، ومن واقع ما سمع، أو من واقع ما قارن. والشيء الذي لم يره ولم يسمعه وليس ثَمَّ ما يُقَارَنُ به، فكيف تحصل له معرفته؟ ولذلك تجد أنَّ الإنسان لا يمكن أنْ يَتَصَوَرْ شيء ما رآه أو رأى مثيلاً له أو رأى ما يُقَاسُ عليه؛ ما يجتمع هو وإياه في أشياء. ما يمكن أن يتصوَّرَ شيء لم يره أصلاً أو لم ير مثيلا له. لكن لو رأى ما يُقَاسُ عليه ممكن، لو رأى مثيلاً له ممكن. مثلا تقول الإنسان الياباني مختلف في صورته عنَّا لكن يبقى التَخَيُّلْ العام عندك أنه ما دام أنه إنسان فهو على هذه الصفة. تقول مثلا الخبز في بلدٍ له شكل غريب، أنت لا تتصور هذا الشكل لكن تعرف الخبز ما هو من حيث الصفة؛ لأنك تعرف أنَّ ذاك سيكون في مادته مشابِهَاً لهذا الذي عرفته. لو ذُكر لك شيء غريب، مثلا في بلد من البلاد رأينا بناءً عجيباً جداً، ممكن أن تتصور البناء على نحو ما إذا كنت رأيت شبيهاً له أو ما يقاس عليه؛ أو مُرَكَّبَات هذا البناء وطريقة البناء وأنه أَدْوَار مثلاً. مَثَلَاً: شُرِحَ لك عن الأهرامات من صفتها كذا وكذا، يمكن أن تتصور لأنَّكَ رأيت مثيلاً له، رأيت ما يُقَاسُ عليه، رأيت ما يمكن أن تُعْقَدَ مقارنة فتصل على نوع إدراكٍ لذلك. أما الرب - عز وجل - وتقدست أسماؤه وصفاته فلا يقاس بخلقه ولم يُرَ مثيلاً له - عز وجل - ولا يُقَارَنْ بشيء، ولذلك كل ما يخطر في البال إنما هو من جَرَّاءِ إدراكات مختلفة لا يمكن أن يكون منها حقيقة الرب - عز وجل -. ولهذا كل ما خطر في بالك فالله - عز وجل - بخلافه، فإذا استرسل مع هذا وشَبَّهْ فإنّه يعبد صنماً. يعني تَخَيَّلَ في نفسه صورة وهيأ له إلهاً يكون على نحو ما فَعَبَدَهُ. ولهذا قال أئمة السلف (المشبه يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً) . هذا التشبيه الكامل هو التّمثيل وهذا التمثيل أو التشبيه: - قد يكون في الذات بأجمعها. - وقد يكون في صفة من الصفات. قد يقول: الله ـ مثلي، على صفتِي -والعياذ بالله- وهذا كفر. أو يقول: يده كَيَدي، وسمعه كسمعي، وعينه كعيني وأشباه ذلك وهذا أيضا كفر بالله - عز وجل -. 2 - المرتبة الثانية التشبيه في بعض الصفة، لا في الكيفية ولكن في المعنى: فيقول: الكيفية لا نعلمها لكن معنى الصفة في الله - عز وجل - هو معناها في المخلوق. وهذا أيضاً مما ينبغي تَجَنُّبُه؛ لأنَّ صفة الرب - عز وجل - معناها في حقه كامل لا يعتريه نقص من وجه من الوجوه، وأما في المخلوق فهو فيه الصفة ولكنها ناقصة تناسب نقص ذاته. ولهذا يقال في مثل هذا: إنَّ الله - عز وجل - له الكمال المطلق في صفة السمع، والمخلوق متصف بالسمع، أو تقول لله - عز وجل - سمع وللمخلوق سمع وليس السمع كالسمع؛ يعني في أصل المعنى موجودٌ سمع وسمع؛ لكن في تمام المعنى وكماله مختلف ليس الاتصاف في الله - عز وجل - مثل الاتصاف في المخلوق. 3 - المرتبة الثالثة تشبيه العكس وهو تشبيه المخلوق بالخالق والعياذ بالله: وتشبيه المخلوق بالخالق، يعني أن يَجْعَلَ للمخلوق صفة من صفات الله - عز وجل -. مثل أن يُغِيثْ أو أنَّهُ يسمع وهو غائب، أو أنَّ له قدرة أو أنَّ له تصرف في الكون أو أشباه ذلك. وهذا كحال عُبَّاد الأصنام والأوثان والقبور وعُبَّاد عيسى والملائكة وعُبَّادْ الأولياء، كلهم على هذه الصفة، يجعلون للمخلوق بعض صفات الله - عز وجل -. وهذا لاشك أنه تشبيه وهو في حد ذاته من جهة التشبيه كفر لمن اعتقده. فمن وَصَفَ المخلوق بصفة الله - عز وجل - من تصريف الكون أو يقولون فلان من الأولياء له ربع الكون يتصرّف فيه أوله نصف الكون يتصرف فيه، أو فلان المَلَكْ له التَّصَرُّفْ في الملكوت بنفسه فَيُطْلَبْ منه ويُسْتَغَاثْ به ويُسْأَلْ أو يُلْجَأْ إليه ونحو ذلك، من الأموات أو من الغائبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فكل هذا تشبيه للمخلوق بالخالق وتمثيل للمخلوق بالخالق وهو شرك بالله - جل جلاله -. لهذا لم يُطلق أكثر السلف نفي التشبيه، وإنما أطلقوا نفي التمثيل؛ لأنَّ الله - جل جلاله - قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ولفظ التشبيه لم يرد فيه النفي في الكتاب ولا في السنة فيما أعلم، وإنما ورد لفظ التمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وفرق ما بين التمثيل وبين التشبيه: - فالتمثيل: معناه المساواة هذا مثل هذا؛ يعني يساويه في صفة أو في صفات. - أما التشبيه فهو من التَّشَابه، وقد يكون التشابه كاملاً، فيكون تمثيلاً، وقد يكون التشابه ناقصاً فيكون في كلّ المعنى أو في أصل المعنى على نحو ما فَصَّلْتُ لك (1) . فإذاً إذا قيل لا نُشَبِّه فلا يندرج في ذلك إثبات أصل المعنى، يعني التشابه في المعنى. لأنه لا يستقيم إثبات الصفات إلا بمشابَهَةٍ في المعنى، ولكن ليس مُشَابَهَة في كل المعنى، ولا في الكيفية؛ لأن هذا تمثيل. * فلهذا لا يُطلق النفي للتشبيه، لا نقول التشبيه منتفيا مطلقاً، كما يقوله من لا يحسن، بل يقال التمثيل منتفٍ مطلقا. أما التشبيه فنقول: التشبيه منتف؛ فالله ـ لا يماثله شيء ولا يشابهه شيء. وينصرف هذا النفي للتشبيه في الكيفية أو في تمام المعنى في كماله. 3 - (التنزيه) : (التَّنْزِيهَ) يعني تنزيه الرب - عز وجل - عما لا يليق بجلاله وعظمته. قال (لَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) فالذي لم يَحْذَرْ النفي ولم يَحْذَرْ التشبيه، فإنه يَزِلُّ ولن يصيب تنزيه الرب - عز وجل - عما لا يليق بجلاله وعظمته. والتنزيه هو التسبيح؛ فمعنى ذلك أنَّ من نَفَى أو شَبَّهَ فإنَّهُ لم يُسَبِّح الله - عز وجل - كما يليق بجلاله وعظمته. لأنَّ معنى سبحان الله هو: تَنْزِيهَاً لله، والكون كله يردد سبحان الله وبحمده، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] . فإذن من الواجب أن يُنَزَّهْ الله - عز وجل - عما لا يليق بجلاله وعظمته. ولهذا نقول: إنَّ اتقاء النفي والتشبيه هو طريق التنزيه والتسبيح الحق لله - عز وجل -. فالمعتزلة الجهمية والمبتدعة من الأشاعرة والكلابية وسائر الطوائف التي نفت بعض الصفات هؤلاء لم يُنزِهُوا الرب - عز وجل - عن ما لا يليق بجلاله وعظمته بل وقعوا في شيءٍ من عدم التنزيه. لذلك قال (وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) يعني لم يُنَزِّهْ سواءً أَكَانَ مُرَادُهُ التنزيه فَأَخْطَأَ أو هو في الحقيقة لم يُنَزِّهْ؛ لأنه ما نَزَّهَ الله - عز وجل - عما لا يليق بجلاله وعظمته؛ لأنَّ الله سبحانه له الكمال المطلق في الاتصاف بالصفات. فمن لم يثبت جميع الصفات، فهو لم يُثْبِتْ الكمال المطلق، فمعناه أنَّهُ نقص حمده لله - عز وجل - ومعنى ذلك أنه لم يُنَزِّهْ الله - جل جلاله - عما لا يليق بجلاله وعظمته. وهذه الجملة عظيمة من كلام الطحاوي رحمه الله (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، -يعني من سائر طوائف الضلال- زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) وإن زَعَمَ أنه يُنَزِّهْ فإنه لم يُصِبْ، وهذا يكثر في المعطلة وفي المؤولة وفي النفاة، يقولون: نفينا وأوَّلنا وعَطَّلْنَا لأجل التنزيه. وهذا يُرَدُّ عليهم بأنَّ ما فعلتموه هو وصف لله بالنقائص، وليس تنزيها للرب ـ.   (1) راجع المسألة الثالثة (الشريط 1/ص 16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ثم علل ذلك ب قوله (فَإِنَّ رَبَّنَا - عز وجل - مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ.)   هذا أخذه من قول الله - عز وجل - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } [الإخلاص] . قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، (أَحَدٌ) يعني واحد في أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله، فليس له شريك في ملكه، وليس له مثيل في صفاته وأفعاله، وليس له ند في فردانيته وفي صَمَدانيته عز وجل. ولهذا بعدها جاء بأنواع التوحيد قال {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} يعني الذي تَصْمُد إليه المخلوقات بأجمعها في طلب ما ينفعها ودفع ما يضرها. فإذاً في قوله {اللَّهُ الصَّمَدُ} إثبات توحيد الإلهية. قال {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وهذا فيه إثبات التفرد بالربوبية. قال {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وهذا فيه توحيد الأسماء والصفات، فلا أحد يكافئه ويماثله، فلذلك هو - عز وجل - أحد في أسمائه وصفاته وأفعاله جل جلاله. قال (فَإِنَّ رَبَّنَا - عز وجل - مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ) يعني أَنَّهُ متوحد في صفاته. (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) يعني أنَّ كل نَعْتْ يُنْعَتْ به الرب - عز وجل - على أساس أنه منفرد فيه، فهو سبحانه فرد في أسمائه وصفاته وذاته، فهو سبحانه وِتْرْ وفرد، وصفاته هو فيها سبحانه فَرْدْ فلا يماثله شيء ولا يشاركه فيها أحد - جل جلاله -. إذا تبين لك ذلك فالصفة والنعت هنا غايَرَ بينهما قال (مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) ، والصفة والنعت في اللغة متقارب. وهو لم يُرِدْ التفريق ما بين الصفة والنَّعْتْ لأنَّ الله سبحانه له الصفات العلى وله النعوت العلى، له المثل الأعلى. والصفة والنعت هي المثل في القرآن في قوله {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم:27] ؛ يعني له النعت والصفة العليا ـ، أما المخلوق فله الوصف الأدنى الذي يناسب ذاته الوضيعة الضعيفة المحتاجة. صفات الرب - عز وجل - ونعوته تنقسم إلى أقسام باعتبارات مختلفة: & فتنقسم باعتبار قيامها بالرب - عز وجل - إلى قسمين: - إلى صفات ذات. - وإلى صفات فعل. @ القسم الأول صفات الذات: وهي التي لا ينفكُّ ربنا - عز وجل - عن الاتصاف بها، لم يزل موصوفَاً بها وهو متصف بها دائماً، مثل الوجه والعينين واليدين، مثل الرحمة والسمع والبصر، فإنَّ الله سبحانه لم يزل ذا وجه وذا سمع وذا بصر ـ، وكذلك في صفاته الذاتية، ومنها صفة الرحمة، فالله - عز وجل - متصف بصفة الرحمة وهي ملازمة له ـ. @ القسم الثاني صفات الأفعال: وصفات الفعل لله - عز وجل - يسميها بعض الناس من أهل العلم الصفات الاختيارية، وهي التي يفعلها ربنا - عز وجل - تارة ولا يفعلها تارة، صفات الفعل هي التي تقوم بالرب - عز وجل - بمشيئته وقدرته ـ. وهذه الصفات التي هي الصفات الاختيارية أَوَّلُ من نفاها بخصوصها الكُلَّابية، وتبعهم على ذلك أبو الحسن الأشعري؛ يعني ابن كُلَّابْ أَوَّلْ من نفاها ثم تبعه أصحابه ثم تبعهم أبو الحسن. & من جهة أخرى نَقْسِمْ الصفات إلى قسمين: - إلى صفات جلال. - وإلى صفات جمال. @ القسم الأول صفات الجلال: هي الصفات التي فيها نعت الرب - عز وجل - بجلاله وعظمته وقهره وجبروته ـ، وهي التي تجلب في قلب الموحد الخوف منه ـ، مثل صفة القوة، القدرة، القهر، الجبروت وأشباه ذلك. صفات الجلال يعني من تأمَّلها أجَلَّ الله - عز وجل - وهابه وخافه ـ. @ القسم الثاني صفات الجمال: وصفات الجمال هي الصفات التي تبعث في قلب الموحد [ .... ] الرب - عز وجل - والأنس به وبلقائه وبمناجاته وبالإنابة إليه، وهذه صفات كثيرة لله - عز وجل -، مثل صفة الرحمة والرأفة والمغفرة وقَبُول التوبة والسلامة؛ اسم الله السلام، والمؤمن وأشباه ذلك. فإذاً صفات العَظَمَة هذه يقال لها صفات جلال، وصفات ونعوت الرحمة والمحبة يقال له صفات جمال، هذا اصطلاح لبعض علماء السنة وهو اصطلاح صحيح. ولهذا في الختمة التي تُنسبُ لشيخ الإسلام ابن تيمية رجَّحَ طائفة من أهل العلم أن تكون لشيخ الإسلام لورود هذا التقسيم فيها، وهو قوله في أولها ((صدق الله العظيم المُتَوحّدُ بالجلال لكمال الجمال تعظيما وتكبيرا)) . ولا أعلم من أَشْهَرَ هذا التقسيم قبل شيخ الإسلام ابن تيمية -يعني تقسيم الصفات إلى صفات جلال وجمال. وفي هذه الختمة جُمَلْ معروفة في الاستعمال عن شيخ الإسلام دون غيره. وابن القيم رحمه الله بحث صفات الجلال والجمال في بعض كتبه. & التقسيم الثالث للصفات: - صفات ربوبية. - وصفات ألوهية. هذا باعتبار التوحيد؛ يعني رجوع الأسماء والصفات إلى نوعي التوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. @ القسم الأول صفات ربوبية: وهو ما كان من أفراد الربوبية: مثل المُلْكْ والهيمنة والانتقام والقدرة والقوة والإحاطة وأشباه ذلك. @ والقسم الثاني صفات الألوهية: وهي التي وحَّد العبد ربه - عز وجل - بها مثل اسم الإله وما فيه، مثل الصمد وأشباه ذلك مما فيه توجه من العبد إلى الرب جل جلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قال بعدها (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ.) (1)   هنا ذَكَرَ هذه الألفاظ متابَعَةً لما جرى عليه المتكلمون في زمنه. وهو ذّكَرَهَا بعد إثبات، فأثبت الصفات ثم نَفَى. وقاعدة أهل السنة والجماعة: أنَّ النفي يكون مُجْمَلَاً وأنَّ الإثبات يكون مُفَصَّلَاً. ففي قوله هذا نوع مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة؛ لكن كلامه محمول على التنزيه بعد الإثبات. والتنزيه بعد الإثبات يُتَوَسَّعُ فيه لأنَّ طريقة أهل البدع أنهم يُنَزِّهُون أو ينفون بدون إثبات. ينفون مفصلا ولا يثبتون. ولكن المؤلف أثْبَتَ مُفَصَّلاً ونَفَى وكان في نفيه بعض التفصيل. ولهذا نقول: عند الاختيار لا نقول هذا الكلام (تعالى ربنا عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء ونحو ذلك) عند الاختيار لا نقوله كما ذكرت لك وذلك أنَّ هذه الألفاظ فيها مخالفة من أوجه: 1 - الوجه الأول: أنَّ هذا نفي مُفَصَّل، وهو مخالف لطريقة أهل السنة؛ لأنَّ طريقتهم مأخوذة من قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنَفَى مُجْمَلَاً وأثْبَتَ مُفَصَّلَاً. 2 - الوجه الثاني: أنَّ هذه الكلمات لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة، فلهذا الذي لم يَرِدْ لا يَحسُن أن ننفيه ولا أن نُثْبِتَه؛ لأنَّ طريقتنا هو اقتفاء الكتاب والسنة. فلفظ الحد والغاية والركن والأعضاء والأدوات والجهات، كل هذه ما جاءت في القرآن ولا في السنة، فلذلك لا نثبتها ولا ننفيها. * وليس معنى النفي أَنَّهَا مُحْتَمِلَة، فإذا قال أهل السنة (لا ننفيها) لا يُفهم منه يعني أنَّ معناها محتملة، لا؛ ولكن لا ننفيها لأننا لا نتجاوز القرآن والحديث، هذا أمر غيبي كيف نتجاسر عليه بدون دليل. فلذلك نقول لا نُثْبِتْ إلا بدليل ولا ننفي إلا بدليل. فإذاً استعمال هذه الألفاظ لا يسوغ، والمؤلف يُؤَاخَذْ -رحمه الله- في استعماله هذه الألفاظ؛ لأنها من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة. طبعا الحد والغاية متقارب في أن يكون له حد ينتهي إليه اتصافه بالصفة، وفي هذا مسألتان:   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 [المسألة الأولى] : أنَّ طائفة من العلماء لما ذَكَرُوا الاستواء على العرش لله - عز وجل - سُئِلُوا: بحدٍّ؟ قالوا: بحد. وهم طائفة من أئمة أهل السنة كابن المبارك والثوري وجماعة من الأئمة، وهذا يُوَجَّه بأنَّ استعمالهم لفظ (الحد) مع أنه لم يأتِ في الكتاب والسنة لأجل أن يبطلوا دعوى الجهمية في أنَّ الله في كل مكان. وإذا احتاج المُوَحِّد لبيان عقيدته في المناظرة إلى كلمات تُوضِح الأمر فإنه لا بأس باستعمالها للمصلحة؛ لكن لا تُثْبَتُ عقيدةً مُستقِلة. يعني إذا جاء أحد يقول: ما هي عقيدتك؟ فلا تقل: عقيدتي أنَّ الله مستوى على عرشه بحد. إنما نقول: هو - عز وجل - مستوٍ على عرشه. إذا احتيج إلى ذلك في مقامه فقد يُقال ذلك؛ لأنَّ لفظ (بحد) يعني أنه ليس مختلطاً بخلقه - جل جلاله -. فهو سبحانه الحدود والغايات التي تنتهي إليها صفاته كما قال (تَعَالَى عَنِ) ، لأنَّ الله سبحانه ليس لصفاته حد يعلمه البشر. قال (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) يعني المعلومة (وَالْغَايَاتِ) المعلومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 [المسألة الثانية] : يُشْكِلْ على هذا ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وغيره وهو قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الرب - عز وجل - «حِجَابُهُ النّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (1) ، فهل معنى ذلك أنَّ البصر محدود بالخلق؟ والجواب عن ذلك: أنَّ هذا إحالة على -يعني في قوله «مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» - في أنَّ الإحراق إحراق السبحات لما انتهى إليه البصر. والبصر لا ينتهي لحد، فكذلك الإحراق لا ينتهي لحد. فإذاً هو بناء شيء على شيء، فلا يُثْبَتْ الثاني لأجل ورود الأول بل الثاني مَنْفِي فكذلك الأول نقول ليس له حد. «مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» الله - عز وجل - ينْفُذُ بصره في جميع بريته ـ، وكل ما سواه - عز وجل - مخلوق. فإذاً بصره ينتهي في جميع مخلوقاته، فإذاً لو كَشَفَ الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل مخلوقاته. فإذاً هذا ليس فيه إثبات الحد والغاية، وإنما هذا فيه إثبات أنه - عز وجل - مُطْلَق في اتصافه بصفاته لا حد؛ يعني لذلك يُثبت؛ بل نقول: هو سبحانه كامل في صفاته.   (1) سبق ذكره (132) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قال (وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ)   هذه الألفاظ الثلاث -الركن والعضو والأداة-، هذه راجعة إلى الصفات الذاتية يعني مثل اليد، القدم، العينين ومثل الوجه إلى آخره، فهذا ينفي أن يكون هذا عضو أو ركن أو أداة أو نحو ذلك؛ لأنَّ هذه الأشياء في المخلوق فينزّه الرب - عز وجل - عنها، هذا مراده. وكما ذكرت لك المُقَرَّرْ أنَّ هذه الأشياء لا تُقال لا نفياً ولا إثباتاً؛ بل لا نذكر ذلك؛ لأن الله سبحانه أعظم من أن يُنفى عنه استعمال هذه الألفاظ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . قال (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) . (الْمُبْتَدَعَاتِ) يعني المخلوقات. وقوله (كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) سائر في اللغة تستعمل بمعنى بقية، ولذلك قيل لبقية الشراب سؤر. فكلمة سائر يعني البقية، تقول مثلا أتاني محمد وسائر الإخوان. يعني وبقية الإخوان. لكن هنا استعملها بمعنى (كل) (كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) يعني ككل المخلوقات. المخلوقات تحويها الجهات الست. (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ) الجهات الست ما هي عندهم؟ الجهات الست أمام وخلف ويمين وشمال وأعلى وأسفل. هذه الجهات الست مخلوقة، وهذه المخلوقة لا تحوي الرب - جل جلاله -؛ بل الله ـ فوق مخلوقاته. لكن ما من مخلوق من هذه الجهات الست إلا وهو نسبي إضافي ليس مطلقاً. فما من شيء إلا وأمامه شيء، وهو أمام شيء، وهو يمين شيء وثَم شيء آخر يمين، وهكذا. مثل ما نقول: نحن الآن أسفل -يعني في أرض المسجد-؛ لكن بالنسبة لمن تحتنا -في الْقَبُوْ مثلا إذا كان فيه قَبُوْ- نحن فوق مثلاً، واحد ساكن في أدوار الدور الأول فوق الدور الأرضي فهو أعلى؛ لكن هو بالنسبة للدور الثاني أسفل. إذاً الجهات هذه ليست مطلقة، وإنما هي نسبية. فتقول: يمين، ليس ثَمَّ يمين مطلق في حياة المخلوقات وإنما هو يمين إضافي. لا تقل شمال مطلق إنما هو شمال إضافي. أمام مطلق إنما هو أمام إضافي؛ يعني نسبي تَنْسُبُه إليك وتَنْسِبُه إليك. تقول أمامي، أمام فلان، يمين فلان إلى آخره. ولهذا الجهة -جهة العلو- إذا نسبتها للمخلوق فثَمَّ جهة لنا هي حال وثَمَّ جهة لمن هم في الجهة الثانية من الأرض هي لها حال أخرى، فنحن جهة العلو عندنا فوق، وجهة السُّفل هم، وهم بالعكس يعني الذين في الجهة الثانية من الأرض. إذاً فجهة العلو وجهة السُّفل هذه نسبية لك، تقول: هذا أعلى، ليس هذا هو العلو المطلق هذا العلو المنسوب إليك. والذي في الجهة الثانية من الكرة الأرضية العلو هو المنسوب إليه. فإذن هذه أمور نسبية في الجهات. فإذا أردت المطلق فثَمَّ شيء واحد فقط وهو العلو المطلق على جميع المخلوقات، غير منسوب لطائفة من المخلوقات أو لبعض المخلوقات، وهو علو الرب جل جلاله. * إذاً فنقول: هذه الجهات الست إذا أريد بها النسبي، فنقول نعم الله سبحانه وتعالى لا تحويه الجهات النسبية؛ يميني وفوقي وأمامي وشمالي وإلى آخره، لا تحويه. لكن المطلق لا نقول تحوي ولا ما تحوي؛ لأنَّ الله سبحانه فوق مخلوقاته، والمخلوقات هذه محتاجة إليه، لكن له العلو المطلق، هو سبحانه - عز وجل - كلتا يديه يمين، اليمين المطلق ليس النسبي، وهو سبحانه وسع كل شيء، واسع ـ. فإذاً تنتبه إلى أنَّ هذه المخلوقات نسبية وليست مطلقة. فإذاً قوله (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ) ليس في هذا مَنْحَى من منحى أهل البدع في نفي العلو، لا؛ لكن هذه يعني بها الجهات الست النسبية كسائر المخلوقات. كل مخلوق لابد أن يكون محصور بهذه الجهات؛ يعني أعلى أسفل يمين شمال والثاني كذلك والثالث كذلك. وهذه مسألة مهمة تفيدك في كل ما يوصف الرب - عز وجل - به لا تقسه بالمخلوق؛ اجعله مطلقاً. مثل الآن مسألة النزول «ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر (1) » أو «في النصف الآخر من الليل» أو «آخر كل ليلة» على اختلاف الروايات والألفاظ. هذه ثلث الليل هل هو منسوب لك أو منسوب للزمان المطلق؟ هنا ننسبه للزمان المطلق، الذي يدخل فيه الزمان النسبي بالنسبة للمخلوق الواحد. كذلك جهة العلو أنت تدعو ربك - عز وجل - إلى أعلى، ونعلم أنه فوقنا ـ، ومن هو في الجهة الثانية هو فوقه أيضا وهو في جهة أخرى، نحن مثلا نتجه كذا وهو في الجهة الثانية من الأرض يتجه عكس الاتجاه، أليس كذلك؟ لكن هذا علو نسبي وهذا علو نسبي. وإذا أردت العلو المطلق فتأمل قول الله - عز وجل - {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] ، وتأمل أنَّ السموات السبع الأرض بالنسبة لها صغيرة، والسموات السبع بالنسبة للكرسي صغيرة، والكرسي بالنسبة للعرش أيضا كحلقة ألقيت في ترس صغير. فإذاً كلها تتلاشى، ويبقى الإطلاق في الزمان وفي المكان بما يجعل معه أنَّ تَصَوُّرْ العبد لما يوصف الله - عز وجل - به نسبياً يجني على نفسه ويدخل في النفي أو التشبيه. فيجب أن يكون ما يؤمن به الموحد من صفات الله - عز وجل - على ما جاء في الكتاب والسنة، وكل ما جاء هو على الإطلاق، لا على ما تعرفه أنت من نفسك. والإطلاق اللائق بالله - عز وجل - يدخل فيه ما يختص بالمعيَّن من المخلوقين، تبارك ربنا وتعاظم وتقدس ـ وسع كل شيء رحمة وعلماً، وكان الله بكل شيء محيطا جل جلاله وتقدّست أسماؤه. نقف عند هذا والأسبوع القدم إن شاء الله من قوله (وَالمِعْرَاجُ حقٌّ) . وأسأل الله سبحانه أن ينفعنا وإياكم في هذه العقيدة، وأن يجعلنا صالحين مصلحين، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن.   (1) البخاري (1145) / مسلم (1808) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الأسئلة : س1/ يا شيخ، قلنا المخلوق له ملك، والله ـ له ملك، وملك الإنسان مقيد، وأنَّ ملك الله مطلق، هل هذا صحيح؟ ج/ ملك الله مطلق في الأشياء، صحيح، ملك الإنسان مقيد، صحيح. س2/ هل الفرد اسم لله؟ ج/ لا، ليس من الأسماء الحسنى الفرد، لكن الإخبار عن الله - عز وجل - بأنه فرد موافق لاسم الله الصّمد والأحد وأشباه ذلك. س3/ قلتَ نفي الكيفية واجب، فهل نفي الكيفية هو الواجب أم تفويض الكيفية؟ ج/ الجواب أنَّ النفي؛ يعني نفي الكيفية المعقولة، نفي العلم بالكيفية، أما اتصاف الرب - عز وجل - بالصفات بكيف، هو سبحانه في صفاته متصف بها بكيف بكيفية، لكن نعلمها؟ لا نعلمها. فإذاً النفي يتوجه إلى العلم بالكيفية، لا إلى وجود الكيفية. س4/ ذكرت أنَّ صفة الرحمة صفة جمال، فهي اختيارية وذكرت أنها ذاتية؟ ج/ ما ذكرت أنَّ صفة الرحمة اختيارية، التقسيمات غير متساوية، هذه تنتبه لها في العلوم جميعاً، إذا قسمنا الصفات إلى ذاتية وفعليه، ثم باعتبار آخر -يعني باعتبار نوعها- إلى جلال وجمال، لا يعني أنَّ الجلال هي الذاتية والجمال هي الاختيارية، لا، هذا تقسيم آخر. مثل ما نقول مثلا: شرك أكبر وأصغر، شرك ظاهر وخفي، مُو معنى الكبر والأصغر، أن الخفي هو الأصغر، الخفي منه أكبر مثل شرك المنافقين. مثل غَلَطِ من غَلِطَ، تقسيم الكفر إلى كفر أكبر وأصغر، ثُم قُسِّمَ باعتبار آخر إلى كفر اعتقاد وكفر عمل، فظُنَّ أن كفر العمل هو الكفر الأصغر، وأنّ كفر الاعتقاد هو الكفر الأكبر، هذا ليس بصحيح، فمن فَهِمَ من كلام ابن القيم رحمه الله في تقسيم الكفر إلى أكبر وأصغر، ثُمَّ إلى كفر اعتقاد وكفر عمل: إن العمل هو الأصغر. هذا ليس بصحيح، حتى على كلام ابن القيم؛ لأنّ العمل هذا تقسيم باعتبار المورد، مورده يكون من جهة الاعتقاد، ومورده يكون من جهة العمل، فكفر العمل منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر -كما نبهنا عليه مرارا-، يعني في التقسيمات تنتبه. مثل ما يقسّم الأصوليون الواجب مثلا، يقولون: الواجب ينقسم إلى واجب موسَّع وواجب مضيَّق، طيب. ثم يقسمون باعتبار آخر إلى واجب عيني وواجب كفائي. ثم يقسمون القسمة الثالثة إلى: واجب معيّن وواجب مخيّر، مثل [خصال] الكفارة. فإذاً هناك تقسيم، التقسيم باعتبارات مختلفة، وإذا علمت التقسيم مع جهة اعتباره فهمت العلم، أما التقسيم هذا مطلقَاً بدون أن تفهم جهة اعتبار التقسيم فهذا يُحدث لَبْسا. س5/ هل الإنسان إذا رأى ربه في المنام تكون الرؤية صحيحة؟ ج/ مثل ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت الليلة ربي في أحسن صورة (1) » ، يرى المؤمن ربه - عز وجل - في صورة إيمانه بالله، فإذا كان إيمانه بالله كاملا رأى صورة حسنة أحسن الصور، وإذا كان إيمانه بالله ناقصا رأى صورة تناسب إيمانه؛ لكن ما يرى في المنام الرب - عز وجل - على ما هو عليه جل جلاله. س6/يسأل عن وصف اليمين والشمال لله - عز وجل -. ج/ هذا جاء في حديث رواه مسلم (2) وأثبته طائفة من أهل العلم. والصواب عندي عدم إثبات صفة الشمال لله - عز وجل -. س7/ ذكرتَ في هذا الدرس: صفة العين مع عدم وروده، فما وجه ذلك؟ ج/ كيف صفة العين مع عدم وروده؟!! الله - عز وجل - متصف بهذه الصفة كما قال سبحانه {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، وقال سبحانه {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، والجمع هذا يُراد به المثنى؛ لأن لغة العرب إذا أضافت المثنى إلى ضمير تثنية أو إلى ضمير جمع جَمعت المثنى، كما في قوله تعالى {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] ، مع أنَّ لهما قلبين: قلب عائشة وقلب حفصة، {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أصل الكلام: فقد صغى قلباكما. لكن لما كانت التثنية تضاف إلى ضمير التثنية أو الجمع فيجمع الأول. وقد ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافئة -أو طافية روايتان-، وإن ربكم ليس بأعور جل جلاله» (3) ، العَوَر في اللغة هو ذهاب أحد ما له منه اثنان؛ يعني أحد العينين؛ هذا العور، عينان ذهبت إحداهما قيل عَوَر، فلهذا الدجال وصف بأنه أعور قال (وإن ربكم ليس بأعور) ؛ يعني لا يشتبه عليكم الدجال له عين واحدة، والله سبحانه ليس بأعور؛ يعني له عينان. ومن قال إنَّ الآية {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فيها إثبات الأعين لله - عز وجل -، فهذا باطل من جهتين: الجهة الأولى: الإجماع فإنَّ أهل السنة أجمعوا على أن الله موصوف بصفة العينين. والجهة الثانية: أنَّ الأعين مخالفة لقوله (وإن ربكم ليس بأعور) ؛ لأن لفظة أعور في اللغة تدل على ذهاب إحدى العينين، فتكون الإضافة {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} هي إضافة مثنّى إلى مجموع فجمع لأجل هذه الإضافة كما هو مقرّر في لسان العرب يعني في لغة العرب. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد.   (1) الترمذي (3234) (2) مسلم (7228) (3) مسلم (444) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] . فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ- حَقٌّ.   هذه الجملة من كلامه اشتملت على تقرير الإسراء والمعراج، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ به من مكة إلى بيت المقدس، وأنه عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء في اليقظة إلى حيث شاء الله - عز وجل - من العلو. وهذه المسألة من المسائل الغيبية؛ يعني أنَّ حقيقة الإسراء وحقيقة المعراج من الغيب الذي لم يُعلم إلا من جهته صلى الله عليه وسلم. يعني أنَّ الله - عز وجل - أسْرَى بِنَبِيِّهِ، ثم عَرَج به إلى السماء، فالعقل لا يدلّ على ذلك ولا يستلزمه، وإنما ذلك سُلِّمَ به وكان حقًّا من جهة أن الله - عز وجل - أخبر به في كتابه وأخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به واجب، وهو حق لا مِرْية فيه. وثَمَّ كما سمعت ارتباط ما بين الإسراء والمعراج. والإسراء والمعراج معنيان مختلفان. - فالإسراء: هو المشي في الليل، سَرَى أي مشى في الليل، وأسرى أي مشى ليلاً. - والمعراج: فهو مِفْعَال من العروج، وهو اسمٌ للآلة التي عليها عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم. والإسراء: هو الانتقال ليلا من مكة إلى بيت المقدس، وكان على دابة بين البغل وبين الحمار تسمى البُرَاق، والعروج إلى السماء فكان على آلة، على سُلَّمٍ خاص وهو المعراج. فإذن الإسراء اسم للفعل، والمعراج اسم للآلة التي عليها سار صلى الله عليه وسلم إلى السماء. إذا كان كذلك، فالإسراء وهو المشي ما بين مكة إلى بيت المقدس ليلاً في ساعات معدودة ثم الرجوع، هذا أمر غيبي عجيب، لهذا الإيمان به واجب بتفاصيله التي وردت، فيكون له أصل الكلام على الغيبيات. فما جاء فيه يُصدَّق دون تعرض للعقل فيه؛ يعني أنَّ العقل لا مَسْرَح له في الأمور الغيبية فكل ما جاء فيه حق دون تفكير فيه من جهة العقل؛ هل هذا يمكن عقلا أو لا يمكن. كذلك المعراج وهو أبلغ في كونه غيبياً، فإن آلة العروج وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع يُستَفْتَحُ له من سماء على سماء إلى أن بلغ سدرة المنتهى إلى أن كلَّم الرحمن - جل جلاله -، هذا أمر غيبي،،ففي أصله وفي تفاصيله مندرِج عليه قاعدة الغيبيات عند أهل السنة والجماعة. إذاً فهذا الذي ذكره الطحاوي أصل في الإيمان بالإسراء والمعراج، وأنَّ الإسراء والمعراج أمران غيبيان، وإذا كان غيبيين فلا يُتعرَّضُ لهما ولا لما جرى فيهما بتأويل أو تحريف يخالف ظاهر ما دلت عليه النصوص. فالنص من الكتاب والسنة دلّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُسْرِيَ به ليلاً في وقتٍ قصيرٍ ما بين مكة إلى بيت المقدس. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ جبريل جاءه وهو مضطجع في الحطيم، فأخذه فشَقَّ صدره ما بين ثغرة نحره إلى شِعرته إلى أسفل بطنه، وكان أثر المَخيط يظهر في صدره صلى الله عليه وسلم، فلمَّا شقّه أخرج قلبه وجِيء بطست فيه الإيمان والحكمة، طست من ذهب، قال صلى الله عليه وسلم «فغُسِلَ قلبي به وحُشي إيمانا وحكمة» (1) ، وكان هذا لأجل أن يستعد صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الغريب؛ وهو أنه يقطع هذه المسافة الطويلة في الأرض في وقت وجيز ثم يُصْعَد به إلى السماء فيحتاج إلى قلب خاص. ومعلوم أنَّ الإنسان إذا خاف أو استغرب فَأَوَلُ ما يتأثّر قلبُه. فإذا كان قلبه لا يتأثّر من الاختلاف، فإنه يتحمل بدنه ذلك بما أعدَّ الله - عز وجل - له في ذلك. قال «ثم أخذني جبريل فإذا دابة بين البغل والحمار، فقال: أركب فركبت، ثم سرنا إلى أن وصلنا بيت المقدس» إلى آخر الحديث. فهذه الصفات وما جاء فيه مما حصل له في بيت المقدس من لقاء الأنبياء ومن صلاته فيه -يعني صلاته في بيت المقدس- ومن كونه صار إماما، واجتماع الأنبياء له، وكونه صلى الله عليه وسلم أمَّهُم كل هذا وما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الأمور الغيبية التي تجري عليها قاعدة أهل السنة والجماعة في الأمور الغيبية بأنه: 1 - يُسَلَّمُ بها. 2 - يُؤمَنُ بها. 3 - ألا يُتعَرَض لها بتأويل يصرفها عن ظاهرها، أو بتحريف يصرفها عن حقائقها. فنؤمن بها على ما جاء، من جنس جميع الأمور الغيبية التي أخبرنا بها - عز وجل -، أو أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم. [قال (وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ) .] (فِي الْيَقَظَةِ) يعني ليس في المنام. (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) يعني بجسده يعني بروحه، فنفهم من قوله (وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ) أنه عروج بالرّوح والجسد معاً. وقوله (فِي الْيَقَظَةِ) أنها ليست في المنام. وقوله (وَقَدْ أُسْرِيَ وَعُرِجَ) نفهم منه أنهما متلازمان كما قررتُ لك سالفا. [قال (إِلَى السَّمَاءِ) ] والمقصود بـ (السَّمَاءِ) جنس السماء وهي السموات. [قال (ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا) ] يعني مما فوق السماء السابعة. [قال (وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ) ] يعني من تكليمه ومن أنه رأى صلى الله عليه وسلم أشياء لم يرها غيرُه صلى الله عليه وسلم وما حباه الله - عز وجل - به. [قال (وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى) ] في شأن الصلاة وفي غيره. [ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ) ] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} هذه قد تُفهَم على أنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بفؤاده، يعني من حيث صياغة المؤلف. وقد يُفْهَمْ أنه أراد الاستشهاد بالآية {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} يعني ما رآه في أثناء الوحي من الأنوار والآيات العظام.   (1) مسلم (434) / الترمذي (3346) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المعراج -كما ذكرتُ لك- آلة العُروج وقد جاء وصفها لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صلَّى في بيت المقدس أخذه جبريل، قال «فوجدتُ سُلَّمين أحدهما ذهب والآخر فضة، فقال لي جبريل: اصعد فصعدتُ» ، وجاء في بعض الروايات أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في المعراج «وهذا هو الذي يشخص إليه البصر حين تفارق الروح البدن» (1) يعني أنَّ هذا المعراج آلة خاصة يُعرج بالبدن وبالروح في السماء بها. فهي إذاً آلة من جنس الآلات الله - عز وجل - أعلم بحقيقتها. إذا تبين ذلك في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج، على هذا الوجه الإجمالي فثَم هاهنا مسائل:   (1) مسند الحارث – زوائد الهيثمي (27) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 [المسألة الأولى] : أنَّ الإسراء والمعراج يُربطان معا، وأهل العلم مختلفون في هل تَكَرَّرَ الإسراء والمعراج، أم كانا مرة واحدة، على أقوال كثيرة، وأهمها قولان: 1 - القول الأول: أنَّ الإسراء والمعراج لم يكونا إلا مرة واحدة. 2 - والقول الثاني: أنَّ الإسراء وقع مرتين، والمعراج وقع مرة واحدة، وهذا هو اختيار الحافظ ابن حجر. والقول الأول أوْلى، وهناك من قال إنَّ المعراج تَكَرَّرَ وأنَّ الإسراء تَكَرَّرَ ثلاث مرات أو أربع مرات. وسبب الاختلاف في تكرر وقوعه هو اختلاف الروايات، فكلما جاءت رواية فيها مُخَالَفة لرواية أخرى مع ثقة النقلة قالوا: إنَّ هذا يُحمل على تعدد الوقوع. ولكن هذا ليس بجيد ولا بصحيح حيث المنهج؛ لأنَّ الإسراء كما هو ظاهر الآية وقع مرة واحدة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] . وقد يكون ثَمَّ احتمال في بعض الروايات أنَّ الإسراء وقع مرتين؛ لكن الأقرب لظاهر الأدلة أنَّ الإسراء والمعراج وقعا مرة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 [المسألة الثانية] : متى وقع الإسراء والمعراج؟ 1 - القول الأول: وهذا عليه أكثر أهل العلم على أنَّ الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة، على تباين بينهم في هل السنة تحديداً أم السنة تقريبا؟ - فقال بعضهم سنة إلا شهر. - وقال بعضهم سنة إلا شهرين. - وقال آخرون ثمانية أشهر قبل الهجرة. - وقال آخرون عشرة، إلى آخره. وإذا تبين هذا الاختلاف في كونه قبل الهجرة بسنة لهذا القول، فإنّ معه عدم تحديد وقوع الإسراء والمعراج في شهر رجب. واشْتَهَرَ عند المؤرخين، أصحاب السير أنَّ الإسراء والمعراج وقعا في رجب؛ ليلة السبعة والعشرين. وهذا إنما هو عند طائفة من أهل السّير، وأما أهل العلم المحققون من المحدثين والفقهاء ومن المفسرين فإنهم لا يحملون ذلك على الوقوع في شهر رجب بظهور، وإنما يقولون وقع قبل الهجرة بسنة. ومعلوم أنَّ الهجرة كانت في شهر ربيع الأول، وإذا كان كذلك فقولهم قبله بسنة يعني أنّ الإسراء والمعراج لم يقع في رجب. والأكثرون من أهل العلم على أنه أكثر من سنة: سنة وشهرين، سنة وثلاثة أشهر ونحو ذلك، والقليل من قال إنه ثمانية أشهر. هذا قول أنه كان قبل سنة. 2 - القول الثاني: أنه كان قبل ثلاث سنين. 3 - القول الثالث: أنه كان قبل خمس سنين، واستدلّوا على ذلك بأنَّ خديجة صلّت وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين أو بخمس سنين، قالوا: كيف تصلي وإنما فُرضت الصلوات في ليلة المعراج؟ فكونها صلت يدلّ على أن المعراج وقع في حياتها، وهي ماتت قبل الهجرة بثلاث أو بخمس سنين. والجواب عن هذا: أنَّ الصلاة كانت مفروضة ركعتين ركعتين؛ ركعة أول النهار وركعة آخر النهار، كما قالت عائشة رضي الله عنها (فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأُقرت صلاة السفر) (1) . فخديجة رضي الله عنها كانت تصلي؛ ولكن لم تكن الصلاة المفروضة؛ الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج.   (1) البخاري (350) / مسلم (1602) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 [المسألة الثالثة] : الإسراء والمعراج هل وقعا بجسد النبي صلى الله عليه وسلم أم بروحه؛ يعني بجسده وروحه، أم بروحه فقط، أم كانا مناما؟ اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك: - فقالت طائفة: كان الإسراء والمعراج بروحه. - وقال آخرون: بل بروحه وبجسده. ولم يقل أحد منهم: إنَّ الإسراء والمعراج كانا مناما، فلهذا لا يسوغ أن يُنْسَبْ هذا القول للسلف؛ بل قاله بعض العلماء الذين لم يُدَقِّقوا الفرق بين قول من قال: إنه روح وبين أن يكون مناماً. والصواب الذي عليه عامة أهل السنة؛ أكثر أهل السنة: أنه كان بجسده وروحه معاً في الإسراء والمعراج، ولم يقل أحد من المنتسبين لأهل العلم -فيما أعلم-: إنه أُسري بجسده وروحه وعرج بروحه فقط، وإنما ثَمَّ اتفاق ما بين الإسراء والمعراج؛ لأنه لم يقل أحد أنه ذهب ونام في بيت المقدس. (1) : [[الشريط الرابع عشر]] : إذاً نقول: الصواب أنَّ الإسراء والمعراج كانا بروحه وجسده معاً. ويدلُّ على ذلك أدلة منها: 1- أنَّ الله - عز وجل - قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] قوله {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} العبد: اسم للجسد والروح معاً، وليس اسماً للروح، وإنما الروح تُخَصُّ بالإضافة، فيقال: روح العبد، «روح عبدي فلان» ، كما جاء في بعض الأحاديث، وكذلك الجسد يُخَص، فيقال: جسد فلان، أو جسد عبدي فلان؛ يعني إذا كان من الله - عز وجل -. أما إطلاق لفظ العبد أو الإنسان فإنه يكون لمجموع الروح والجسد. فإذاً في قوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دليل على أنَّ الإسراء كان بالروح والجسد معاً، وإذا كان في الإسراء كذلك، فالمعراج كان بهما جميعا. 2- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه كان مضطجعاً في بيته، أو في بيت أم هانئ، ففُرِج السقف فنزل جبريل، وفي رواية (أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا في الحطيم) (2) -في الصحيحين- فأخذه جبريل فشق صدره ما بين ثُغرَةِ نحره إلى أسفل بطنه، استخرج قلبه إلى آخره، وهذه إنما تكون للجسد، ولا معنى للإسراء بالجسد بدون روح، فصار ثَمَّ تلازم ما بين الإسراء بالجسد والروح معاً. إلى أدلة أخرى في هذا المقام معروفة.   (1) انتهى الشريط الثالث عشر. (2) البخاري (3887) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 [المسألة الرابعة] : أنَّ الإسراء والمعراج اختلفت فيها الأحاديث. فمن الأحاديث ما أُفرد فيه الإسراء دون المعراج، ومنها ما أُفرد فيه المعراج دون الإسراء، وهي في الصحيح وفي غيره. وما جرى في الإسراء وما جرى في المعراج يؤخذ من مجموع الأحاديث؛ يعني أن تُجمع الرّوايات الصحيحة التي جاءت في الإسراء وجاءت في المعراج، ويُنْظَرْ ما حدث في الإسراء والمعراج. يعني أنَّ بعض الروايات -مثلاً فيما رواه البخاري في صحيحه- قال «فأتاني جبريل فأخذني فأركبني على البراق فعرجت في السماء-أو فعرج بي إلى السماء- فاستفتح» وهذا فيه نقص؛ لأنَّ العروج في السماء إنما كان بعد الذهاب إلى بيت المقدس. وفي بعض الروايات فيها نقص. المقصود أنَّ الإسراء والمعراج تنوعت الروايات فيه، ونبَّه أهل العلم على أنَّ أحد الروايات في الإسراء والمعراج -مما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه أنَّ فيها خلطاً، وهي رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر في البخاري وفي غيره. ومسلم رحمه الله حينما ذكر الرواية في صحيحه أشار إلى رواية شريك بن عبد الله عن أنس، وقال: فزاد ونقص -يعني شريكاً- فزاد ونقص وقَدَّمَ وأَخَّرَ ولم يسق روايته، وفي روايته أغلاط عند أهل العلم، خالف فيها مجموع أهل العلم الذين رَوَوا ذلك عن الصحابة. إذاً فمسألة الروايات بها يُعلم ما حصل. وبالنسبة للمعراج رواية الإسراء فيها يعني الإسراء والمعراج معاً؛ يعني مجموع الروايات، فيه أنَّ فيه وصف الدابة، وفيه تسميتها بالبُراق. وتسمية هذه الدابة بالبُراق لأمرين: الأول: أنها في سرعتها كالبرق، وقد جاء في وصفها أنها -يعني البراق أو أنَّ الدابة- تضع حافرها حيث ينتهي بصرها، ومعلوم أنَّ الإسراء كان بالليل ومعنى ذلك أنها تبصر ليلاً وأنَّ سرعتها عظيمة، فلذلك كان من أوجُهِ تسميتها بالبراق أنَّ سرعتها كالبرق. 2 - الثاني: أنَّ لها بريقاً، ولذلك جاء في وصفها أنها دابة بيضاء بين البغل والحمار، ذلك لأنَّ لها بريقاً والبريق يؤخذ من البياض. النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء به مرَّ على أشياء كثيرة حتى وصل إلى بيت المقدس. قال طائفة من أهل العلم: ارتبط الإسراء بالمعراج مع أنَّهُ لا رابط بينهما من جهة العروج إلى السماء فإنه يمكن أن يكون العروج إلى السماء من مكة، ارتبط الإسراء بالمعراج لأمورٍ؛ يعني لِحِكَمْ فيما استظهروه: 1- الحكمة الأولى: أن يطلع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره على الأرض على أشياء تكون أقوى لحجته إذا سأله المشركون، ولو عُرِجَ به إلى السماء مباشرة فإذا سألوه فلن يكون عنده ما يُقَوِّي حجته عليهم بهذا الأمر، ولهذا لما رجع سألوه فأخبرهم عن خبر قافلة، فلما رجع أهل القافلة سألوهم فقالوا: نعم حصل كذا وكذا. 2- الحكمة الثانية: أنَّ فيها إظهاراً للترابط ما بين مكة وما بين بيت المقدس، وأنَّ بيت المقدس كان قبلة وأنَّ مكة كانت قبلة، فلم يَتَوَجَه أتباعُ الأنبياء إلا إلى: بيت المقدس وإلى مكة المكرمة -يعني إلى الكعبة-. 3- الحكمة الثالثة: أن يظهر فضل محمد صلى الله عليه وسلم حيث يلتقي بالأنبياء في بيت المقدس ثم يصلي بهم. وقد جاءت روايات مختلفة صحيحة في دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى. ففيها أنه دخل فقال له جبريل صَلِّ ركعتين، فصلى ركعتين أو صلى جبريل ركعتين، ثم وجد الأنبياء ووجد صفوفاً خلفه فصف معهم، ثم قَدَّمَه جبريل عليه السلام فصلى بهم. ففي هذا إظهار لفضله صلى الله عليه وسلم ولمكانته ومَزِيَّتِهِ بالإمامة على سائر الأنبياء صلى الله عليه وسلم. أيضا مما يذكر في الإسراء أنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بموسى في قبره. قال -كما رواه مسلم - «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (1) . وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح، وطائفة من أهل العلم قالوا: إنَّ في هذا الحديث شذوذاً أو نكارة ولم يقبلوه، والأكثرون على قَبوله؛ يعني أن هذا الحديث صحيح، وابن القيم رحمه الله وجماعة ممن يميلون إلى أنَّ فيه مقالاً. أيضا مما حدث في الإسراء أنَّ أهل العلم اختلفوا في الدَّابة: هل رُبِطَتْ أم تُرِكَتْ؟ فأنكر طائفة أن تكون رُبِطَتْ في الصخرة. وقَبِلَ هذه الرواية أكثر أهل العلم فقالوا: إنَّ جبريل وَخَزَ الصخرة فانثقبت فربط الدابة فيها. أما المعراج فلما عُرج به صلى الله عليه وسلم أتوا إلى السماء الأولى فاستفتح جبريل. فقيل له: أمعك أحد؟ قال: نعم. قيل من؟ قال: محمد بن عبد الله. فقيل له: (أَوَقَدْ بعث؟) أو (أَوَقَدْ أرسل؟) أو (أَوَقَدْ أوحي إليه؟) فقال: نعم، فَفُتِحْ له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلما ولجنا السماء وجدتُ فيها آدم عليه السلام -يعني السماء الأولى- إلى آخره، فقيل لي: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه.   (1) مسلم (6306) / النسائي (1631) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال: فسلمت عليه، ثم ردَّ علي السلام، فقال: مرحباً بالابن الصالح والعبد الصالح. ثُم عَرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح -يعني حصل مثل الذي حصل؛ من معك؟، أَوَقَدْ أرسل؟ إلى آخره- فوجد في السماء الثانية عيسى عليه السلام ويحيى وهما ابنا خالة. ثُم إلى السماء الثالثة وجد فيها يوسف. ثُم السماء الرابعة وجد فيها إدريس. ثُم السماء الخامسة وجد فيها هارون. ثُم السماء السادسة وجد فيها موسى عليهم جميعا السلام. ثُم السماء السابعة وجد فيها إبراهيم، وكل يقول له مرحباً بالأخ الصالح والعبد الصالح، إلا آدم وإبراهيم فيقولان: مرحبا بالابن الصالح والعبد الصالح. ولما مَرَّ على موسى عليه السلام وسلم عليه ورد عليه موسى، قال صلى الله عليه وسلم: فلما انصرفت أو فلما ذهبت إذا بموسى عليه السلام يبكي فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي أَنْ بُعِثَ غلام من بعدي يكون من يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي. ثُم لقي إبراهيم الخليل عليه السلام في السماء السابعة، قال: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى، فإذا نبتُهَا مثل قلال هجر وإذا ورَقُهَا مثل آذان الفيلة. قال: ثم رفع لي نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت: فقيل لي النهران الباطنان من الجنة والنهران الظاهران النيل والفرات. ثم أُتِيْتُ بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فشربت الإناء من اللبن، فقيل لي: هُدِيت للفطرة أو هذه الفطرة فيك وفي أمتك. أو كما قال صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث. المقصود أنَّ هذا حديث المعراج وما فيه، هذه إحدى الروايات والروايات في ذلك كثيرة، باختلاف أماكن الأنبياء، واختلاف المقالة، اختلاف ما حصل وكذلك في ما حصل في السماء السابعة. إذا تبين ذلك فثَمَّ كلام هنا على لُقْيا النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 [المسألة الخامسة] : هل لقي النبي صلى الله عليه وسلم أجسادَ الأنبياء مع أرواحهم؟ أم إنه صلى الله عليه وسلم لقي أرواحهم دون أجسادهم؟ العلماء لهم في ذلك قولان: 1- القول الأول: قال طائفة من أهل العلم: لَقِيَ أرواحا وأجساداً، واستدلوا على ذلك بدليلين: - الدليل الأول: أن هذا هو الظاهر من الجَمْعْ - يعني من أنهم جُمِعُوا له وأنه كلّم آدم وكلّم فلان وكلّم فلان إلى آخره. - والدليل الثاني: أنه جاء في أحد الروايات قوله (وبُعِثَتْ لي الأنبياء) وبَعْثَةُ الأنبياء له، تدلُّ على أَنَّ ذلك خاص في ذلك الموقف الخاص. 2- القول الثاني: أن ذلك إنما هو للأرواح دون الأجساد حاشا عيسى عليه السلام فإنه رُفِعَ إلى السماء بروحه وجسده. وفي إدريس قولان؛ إدريس عليه السلام في السماء الرابعة فيه قولان، هل كان رفعه للسماء الرابعة بروحه فقط أم كان بروحه وجسده؟ وفي ذلك خلاف عند المفسرين وعند أهل العلم مأخوذ أو تجده عند قوله تعالى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] في قصة لا تثبت؛ يعني في قصة لسبب الرّفع لا تثبت. * والأظهر من القولين عندي أنَّ ذلك كان بالأرواح دون الأجساد خلا عيسى عليه السلام؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين التقى بالأنبياء وصلوا معه صلى الله عليه وسلم: - إما أن يُقال صَلَّوا معه بأجسادهم، وقد جُمِعَت أجسادهم له من القبور، ثم رَجعت إلى القبور وبقيت أرواحهم في السماء. - وإما أن يُقال هي بالأرواح فقط؛ لأنَّهُ لقيهم في السماء. ومعلوم أنَّ الرّفع إنما خُصَّ به عيسى عليه السلام إلى السماء رَفْعاً حيّاً، وكونهم يُرْفَعُون بأجسادهم وأرواحهم إلى السماء دائماً ولا وجود لهم في القبور، هذا لا دليل عليه؛ بل يخالف أدلة كثيرة أنَّ الأنبياء في قبورهم إلى قيام الساعة. فمعنى كونهم ماتوا ودُفنوا أنَّ أجسادهم في الأرض، وهذا هو الأصل. ومن قال بخلافه قال هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه بُعِثَتْ له الأنبياء فَصَلَّى بهم ولقيهم في السماء. وهذه الخصوصية لابد لها من دليل واضح، وكما ذكرت لك فالدليل التأمُّلي يعارضه. وعلى كل هما قولان لأهل العلم من المتقدمين والمتأخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 [المسألة السادسة] : النبي صلى الله عليه وسلم حين رُفع إلى ما فوق السماء السابعة، ورأى البيت المعمور، ورأى سدرة المنتهى، رأى أشياء من آيات الله الكبرى، كما قال - عز وجل - {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] . والنبي صلى الله عليه وسلم رأى هذه الأشياء بقلبه ورآها بعينه، كما قال - عز وجل - {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، فصار للفؤاد رؤية، وقال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فصار للبصر رؤية. لهذا نقول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لآياتِ رَبِّهِ الكبرى لما فوق السماء السابعة وفي السماء السابعة وما رأى صار بشيئين: بالبصر وبالقلب جميعاً، ولا يقال بالبصر وحده ولا يقال بالفؤاد وحده؛ بل رأى بهما جميعاً. وهذا يعني أنَّهُ قد يكون ثَمَّ أشياء رآها ببصره وقلبه جميعاً، وثَمَّ أشياء رآها بفؤاده دون بصره. لهذا قال من قال من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - بفؤاده، وهذا يجرنا إلى المسألة المشهورة: هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه أم لا؟ في قولين للصحابة: - منهم من قال: رأى ربه. - ومنهم من قال: لم يره. كما هما قولان لعائشة وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. * والصحيح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه وإنما سمع كلامه، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟؟ قال «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ» (1) ؟ يعني ثَمَّ نور وهو الحجاب، حجاب الرب - عز وجل - نور، قال «ثم نور أنى أراه» ، وفي رواية أخرى قال «رأيت نوراً» ؛ يعني نور الحجاب. إذاً فالصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حصلت له أنواع رؤية: - منها رؤية أشياء بالبصر. - ورؤية أشياء بالقلب، بالفؤاد. - ورؤية أشياء بهما جميعاً. وأما الله جل جلاله فلم يره وإنما سمع كلامه صلى الله عليه وسلم.   (1) سبق ذكره (132) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 [المسألة السابعة] : من المشهور المعروف في قصة الإسراء والمعراج المراجعة التي حصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وموسى في فرض الصلاة. فإنَّ الله - عز وجل - فَرَضَ الصلاة المفروضة على هذه الأمة خمسين صلاة، ثم رجع جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم ثُم لمَّا لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم موسى سأله فقال: «فرض علي خمسين صلاة» ، فقال: إنها لكثيرة وقد عالجت من أمر أمتي ما علمتُ أنَّ أمتك لن تطيق ذلك، فارجع فاسأل ربك التخفيف. صلى الله عليه وسلم: «فاستأذنت جبريل فأذن لي فسألت ربي التخفيف» (1) . هنا وقع خلاف في الروايات: هل صار التخفيف خمساً خمساً؟ أم كان التخفيف عشراً عشراً حتى وصلت إلى خمس في آخرها؟ * والصواب والأصح أنَّ التخفيف وقع عشراً عشراً؛ يعني كانت خمسين ثُمَّ خُفِّفَ عنه عشراً فصارت أربعين، ثُمَّ خُفِّفَ عنه عشراً فصارت ثلاثين، ثم خفف عنه عشراً فصارت عشرين، ثم خفف عنه عشراً فصارت عشراً، ثم خفف عنه خمساً، ثم لما رجع إلى موسى قال: إنها كثيرة إنَّ أمتك لن تطيق ذلك، فقد عالجتُ من أمر أمتي ما عالجت أو كما قال، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لقد استحييت من ربي» قال فسمعت من يقول لقد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. هذه بعض المسائل المشهورة في مسألة الإسراء والمعراج، ولا ندري هل غُطِّيَتْ أم لا؟ نرجع إلى ألفاظ المؤلف.   (1) البخاري (3887) / النسائي (450) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 [المسألة الثامنة] : (1) في قوله (فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) الصلاة هنا على النبي صلى الله عليه وسلم من الله جل جلاله معناها الثناء عليه صلى الله عليه وسلم فإنَّ الصلاة لها استعمالات: - فالصلاة من الله - عز وجل - على عبده، على الأنبياء والمرسلين وعلى المؤمنين {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] ، تكون الصلاة من الله - عز وجل - بمعنى الثناء؛ يعني يُثني على نبيه في الملإ الأعلى. (اللهم صلِّ على محمد) يعني اللهم أثْنِ على محمد في الملإ الأعلى بما هو أهله صلى الله عليه وسلم. - والصلاة من الملائكة على المؤمنين هو الدعاء لهم والاستغفار {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} يعني الملائكة تدعو لابن آدم: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، تستغفر له كما قال - عز وجل - {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] . - والصلاة من العبد للعبد: اللهم صلِّ على فلان؛ يعني اللهم أثني على فلان، صليتُ عليك أو لك؛ يعني دعوت لك، لهذا قال - عز وجل - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] . إذا تبين ذلك، فالصلاة من الله - عز وجل - مُخْتَصَّة بالأنبياء والمرسلين. يعني لا يقال على وجه الانفراد (اللهم صلَّ على فلان) إلا أن يكون نبياً أو رسولاً. أما غيرهم فلا يُصَلَّى عليه على وجه الانفراد، وقد يُصَلَّى عليه على وجه التَّبَع (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) ، (اللهم صل على محمد وآله وصحبه) ، (صلى الله عليه وآله وصحبه) ، هذا يجوز من جهة التّبع، أما من جهة الاستقلال فلا يقال: (صلى الله على آل محمد،) فقط، (صلى الله على الصحابة) فقط. وقد يجوز على المفرد إذا لم يكن شعاراً، مَرَّة مرتين تارةً تارتين ونحو ذلك، ولا يكون شعاراً، كما قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه ابن أبي أوفى بالصدقة قال «اللهم صل على آل أبي أوفى» (2) ، هذا دعاء لهم، هذا يكون على وجه الانفراد، ولا يكون شعاراً. فإذاً لا يكون شعاراً أَنَّا نُصَلِي على عَلِيٍّ رضي الله عنه، كلما ذكر علي رضي الله عنه قلنا عليه السلام، أو بعض الآل نقول عليهم الصلاة والسلام أو نحو ذلك، فهذا مخالف للهدي هدي الصحابة رضوان الله عليهم. تجوز الصلاة على المفرد بشرطين -ذكرتهما لك-: 1- الشرط الأول: ألا تكون دائماً، بمعنى أن تكون أحياناً. 2- الشرط الثاني: أن لا تكون شعاراً على شخص أو على مجموعة؛ مثل الأئمة (صلى الله على الأئمة) ، هذه كلها من شعارات أهل البدع. هذا ما يتعلّق بهذه الجُمَلْ، ونؤجل الكلام على الحوض في المرة القادمة إن شاء الله تعالى. هذا الدرس حسب رغبة الكثيرين يكون كالعادة آخر درس لأجل قُرب الاختبارات، ونواصل إن شاء الله مع اليوم الأول من الدّراسة -إن شاء الله تعالى- بعد العيد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة، وإنما قمت بجعلها مستقلَّةً تمييزاً لها. (2) البخاري (1497) / مسلم (2544) / أبو داود (1590) / النسائي (2459) / ابن ماجه (1796) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الأسئلة : س1/ ما صحة الرواية التي فيها أنَّ شق صَدْرِهِ كانَ وهو مُسْتَرْضَعْ في بني سعد؟ ج/ الجواب أن هذا صحيح، النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ صدره عدة مرات بكل مرة ما يناسبه، ثلاث مرات لكل مرة بما يناسبها، ومن العجيب ما رواه الإمام أحمد من حديث أنس (أنه صلى الله عليه وسلم كان يُرَى المخيط في صدره من أثر الشق) (1) ، المخيط في صدره من أثر شقِّ صدره صلى الله عليه وسلم. س2/ عندما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس هل بالأجساد والأرواح؟ ج/ هذه ذكرناها. س3/ هل كلّم النبي صلى الله عليه وسلم ربه في قصة الإسراء والمعراج؟ ج/ هذه الأسئلة قبل تمام الدرس جاء الجواب عليها. س4/ هل كان المعراج بالبُراق؟ ج/ لا، البراق دابة رُكِبَ عليها ما بين مكة إلى بيت المقدس فقط، أما المعراج فبالمعراج، يعني يكون السؤال بهذا الشكل معناه أنَّ الدرس ما فُهِم. س5/ كيف نوّفق بين رواية أنَّ إبراهيم كان في السماء السابعة وموسى في السادسة وفي فرض الصلاة كان أول من قابل موسى؟ ج/لا، هو نزل فلما بلغ موسى راجعه موسى؛ يعني سأله موسى لا يعني أنه كان في السابعة. س6/ هل الكلام من الله - عز وجل - يصل مباشرة أم هو وحي؟ ج/ كلام الله - عز وجل - ثلاثة أنواع كما قال سبحانه في أخر سورة الشورى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] : 1- الأول: أن يكون وحياً {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} وهذا يدخل فيه النفخ بالروع ويدخل فيه الإلهام ويدخل فيه المنام ويدخل فيه أشياء كثيرة. 2- الثاني: أن يكون من وراء حجاب {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهو ما كُلِّم به موسى عليه السلام وما كُلِّمَ به النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكان من وراء حجاب. 3- الثالث: أن يرسل رسولاً {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} سبحانه. س7/ ما معنى النهران في الجنة، النيل والفرات و..؟ ج/ هذا نؤمن به والله - عز وجل - أعلم بحقيقته، نؤمن بما جاء في الحديث والله - عز وجل - أعلم بحقيقته، نهران باطنان ونهران ظاهران. س8/ هل التكليم مختصاً بالأنبياء فقط أو يدخل فيه غيرهم؟ ج/ أما تكليم الله - عز وجل -، فهو لم يكلم الله - عز وجل - مباشرة إلا موسى عليه السلام ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من الرسل، ونضيف عليهم آدم عليه السلام من الأنبياء. س9/ [سؤال عن الروح وشكلها] ؟ ج/ الروح شكلها شكل الجسد؛ يعني بمعنى لو فُصِلَتْ روحك عنك صارت الصورة واحدة، يكون الجسد الجثمان، والروح مخلوق، الله - عز وجل - أعلم بحقيقتها لكن من حيث الصورة واحدة. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» (2) ومعلوم أنّ الرائِي للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام إنما يرى روحه؛ لأن جسده صلى الله عليه وسلم مدفون، وإذا كان رأى روحه فإنه يرى روحه على صورة جسده صلى الله عليه وسلم الذي كان يعيش في الدنيا بروحه وجسده. لهذا الروح صورتها صورة الجسد، الروح والجسد نفس الصورة، الروح تدخل في الإنسان؛ يعني في النفخ فيه حينما يكون جنينا وتتشكل مع الجسد، هيئة الروح هي هيئة الجسد والله أعلم بحقائق الأشياء. س10/ هل يجوز أن نقول إن القرآن مُؤَلَفْ؟ ج/ لا يجوز ذلك، هذا من امتهان القرآن؛ القرآن كلام الله - عز وجل -، التأليف معناه الجمع، يُؤَلِّفْ ما بين جملة وجملة ويناسق بينها، ألَّفه؛ يعني جَمَعَهُ ونسَّق بينه؛ بين جمله ومباحثه وإلى آخره. القرآن كلام الله - عز وجل -، القرآن نزل على سبعة أحرف، هذا من العجيب في كلام الله - عز وجل - أنَّ القرآن أنزل على سبعة أحرف. يعني أنَّ القرآنَ سمعه جبريل على هذا النحو سبعة أحرف فنزل، هذا مما يدل على عِظَمِ كلام الرب - جل جلاله -. س11/ ما هو أوَّل مسجد وُضِعَ في الأرض؟ ج/ المسجد الحرام ثُمَّ بعده بأربعين عاماً وُضِعَ المسجد الأقصى، يعني وُضِعَ هذا المسجد الموجود. والمسجد الحرام بنته الملائكة، يعني الكعبة بنتها الملائكة. والمسجد الحرام حدد حرمته ابراهيم عليه السلام، وهو الذي حَرَّمَهُ، يعني ما حول الكعبة.   (1) مسلم (431) (2) البخاري (110) / مسلم (6056) / الترمذي (2276) / ابن ماجه (3900) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والمسجد الأقصى أيضاً بنته الملائكة بعد بناء الكعبة بأربعين سنة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] لفظة {أَقْصَا} هذه أَفْعَل فتدل على أنَّ ثَمَّ مسجدا ليس قاصي ولكنه ليس بأقصى، ولذلك فُهم من الآية أنَّ فيها بشارة بالهجرة، وفُهم من الآية فيها إرهاص بالهجرة، وأنه ثّمَّ مسجد سَيُعَظَّمْ سيكون قاصياً عن المسجد الحرام ولكنه ليس أقصى. ولهذا قال تعالى {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا} فكونه كان أقصى يعني أقصى المساجد؛ يعني فيه جمع من المساجد، والمساجد هذه هي الثلاثة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى. بيت المقدس أعم، المسجد خاص مثل ما تقول مكة والكعبة أو المسجد الحرام. بالمناسبة فيه تشوفون في الصور، في القبة الموجودة هذه الزرقاء وأنها ذهبية أو شيء، المهم القبة المعروفة هذه القبة (1) وُضعت على الصخرة، لذلك الذي تحتها يسمى مسجد الصخرة ما هو المسجد الأقصى، وهذا الذي حول الصخرة لا يصلَّى فيه يعني اختياراً؛ لأنّ هذا عُظِّمَتْ فيه الصخرة، الصخرة لا يجوز تعظيمها لا ببناء قبة عليها ولا بتحويطها وإلى آخره، وإنما هي من جملة ما وصل إليه المسجد، فالتعظيم صار للصخرة بالبناء عليها ووضع القبة الحالية عليها هذا بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم. أما المسجد الأقصى وهو مسجد قديم تشوفونه بعيد، لو شفتوا الصورة هذا هو الذي فيه حصل الصلاة؛ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والإسراء كان إليه. نعم توسعة المسجد الأقصى توسّع وشمل الصخرة هذه وزيادة عليها، فللجميع الاسم الآن، اسم المسجد الأقصى للجميع للمسجد القديم العتيق ولما ألحق به من التوسعة؛ لكن ليس المسجد الأقصى الذي فيه المحراب وفيه يعني الإمام الذي هو ما يسمى بمسجد الصخرة، وهذا من الأغلاط الشائعة. س12/ بالنسبة للنيل والفرات كيف أنهما من أنهار الجنة؟ ج/ هذا قلنا نؤمن بها على حقيقتها، النيل والفرات ولا يعني أنها من السماء بمعنى أن السماء متصلة بالأرض من هذا الموضع، لا، أنت إذا ذهبت إلى الجبال رأيت منابع النيل تجدها ومنابع الفرات تجدها؛ ولكن النيل والفرات وجدهما النبي صلى الله عليه وسلم في السماء وهذا حق نؤمن به، كيف ذلك؟ وما اتصال النهرين اللذين في السماء بالنهرين الذين في الأرض؟ الله أعلم بحقيقة ذلك. س13/ أليس الذي بنى المسجد الحرام هو ابراهيم واسماعيل؟ ج/ قال - عز وجل - {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ولمَّا جاء ابراهيم عليه السلام إلى الوادي، الوادي ليس فيه أحد فقال {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ، فهو قصد هذا المكان، هذا الوادي عند البيت. فالبيت موجود لكنه ما وجد منه إلا قواعده. لكن متى أقيم؟ لمَّا بلغ اسماعيل وشارك أباه ابراهيم عليهما الصلاة والسلام في بنائه {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} يعني بعد بلوغ اسماعيل وإلا فالبيت موجود من قبل. س14/ يقال إنَّ يعقوب هو الذي بنى المسجد الأقصى؟ ج/ ليس بصحيح، المسجد الأقصى بنته الملائكة مثل المسجد الحرام. (وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وُضِعَ في الأرض، قال الكعبة، قيل ثم أي، قال المسجد الأقصى، قيل كم كان بينهما، قال أربعين سنة) (2) . س15/هل من صفات الله - عز وجل - التَّدَلِّي، وما مفهوم الآية والحديث؟ ج/ هذا التدلي الذي في الآية ليس لله - عز وجل -، والتدلّي الذي جاء في الحديث هذا أهل العلم منهم من أثبته صفة، وذلك منه لأجل تصحيح الرواية، ومنهم من أنكر ذلك وهو الصّحيح؛ لأنَّ هذه من أفراد شريك بن عبد الله بن أبي نمر فلا يؤخذ منه، وعامة أهل العلم الذين رووا الحديث خالفوه في ذلك، أصحاب أنس خالفوه في ذلك. س16/ هل الصخرة لها مكانة شرعية معينة، وما سبب شهرتها؟ لا الصخرة بناء القبة عليها حرام، والتعلق بها حرام، والصخرة ليس لها مكانة، وهي مثل غيرها من الأمكنة. وسبب شهرتها أنها رُبِطَ بها البراق، وهي قريبة من المسجد الأقصى، فرُبِطَ بها البراق ومشى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد. ويقولون، وهذا لم أره في رواية ثابتة ويحتاج إلى تأمل أنَّه صلى الله عليه وسلم عُرِجَ به منها، يعني صعد عليها ومنها طلع، لكن هذا لا أعرفه في رواية ثابتة، يعني لم أره في رواية ثابتة، ويقال إنَّ بها مغارة، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم من هنا خرج، يعني ثَمَّ بها تعلُّقات. وقد نبَّهَ أهل العلم أئمة السنة أنَّ كل هذه التعلقات بالصخرة وبناء القبة عليها ... إلخ، كل هذا حرام، ومن التعلقات تعلقات بدعية ومن وسائل الشرك. وفقكم الله جميعا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع عشر. (2) البخاري (3366) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الحمد الله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسَلِّمْ اللهم تسليما مزيداً، أما بعد: الأسئلة: س1/ أكملنا سنة منذ بداية الدروس، وتم شرح ثلث الكتاب تقريباً، وهذا يعني أنه بقي سنتان والعمر قصير فنرجوا منكم النظر في ذلك؟ ج/ الجواب أنَّ الشرح الذي نشرح به الطحاوية الآن شرح متوسط، ليس بالطويل ولا بالقصير؛ لأني أراعي في الشرح حال الذين حضروا قبل ذلك في شروح كتب العقيدة المختلفة مثل الواسطية وغيرها كي يستفيد من سبق له الحضور، والمباحث القادمة ربما كانت أقصر من المباحث الماضية. س2/ لقد صدر لكم كتاب بعنوان هذه مفاهيمنا، وقد رأيت أنَّ بعض أهل العلم يذكر أنَّ أمور العقيدة لا تطلق عليها مفاهيم؛ لأنها ترجع إلى ما يعتقده المرء مما دَلَّ عليه الكتاب والسنة لا إلى فهوم الناس، فما تعليقكم على ذلك، إلى آخره؟ ج/ الجواب أنَّ كلام بعض أهل العلم فيما ذكر إنما هو بالابتداء؛ يعني من سَمَّى بحوث العقيدة ابتداءً فُهوماً، مفهوم القدر في الإسلام، مفهوم الشفاعة في الإسلام، يعني من قرّر العقيدة ابتداءً باسم مفهوم. وهذا ظاهر لأنَّ العقيدة مبنية على النصوص وليست ابتداء يطلق عليها مفهوم أو نحو ذلك. وقد يُقال إنَّ المسألة إذا اختلف فيها أهل القبلة فإنه يقال فهم -يعني في غير المسائل قطعية الدّلالة- يقال فهم أهل السنة والجماعة كذا، وفهم السّلف الصّالح كذا، وهذا ظاهر بتعبير عدد من أهل العلم حيث عبّروا عن فهمهم لأصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بقولهم: والذي يفهمه أهل السنة والجماعة من هذه النصوص كذا. الحال الثانية وهي في الظاهر لم يُرِدْهَا من ظنَّ السائل أنه أراد بها كتابي (هذه مفاهيمنا) ، الحالة الثانية أن تكون في مقابلة الرد، والرد معلوم أنه يُقابَلُ فيه [الأصل] ويكون كمالاً إذا كان فيه دفع للمبتدع. وهذا فيه مناسبة بلاغية أيضاً لأنّ الذي رُدَّ عليه بكتاب هذه مفاهيمنا سَمَّى كتابه (مفاهيم يجب أن تُصَحَّحْ) فالرد يكون باستعمال لفظ استعمله هُوَ لتأكيد قوة الأمر وتثبيته بقوله: هذه مفاهيمنا. وهذا له أصل في اللغة العربية وفي القرآن والسنة فإنَّ الله - عز وجل - لا يجوز عليه ابتداء أن يُوصَفَ بصفات؛ لكن إذا كان في مقابلة نقص البشر أو مكرهم أو استهزائهم فإنه يوصف، مثل المكر {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} [الأنفال:30] فلا يطلق ابتداء المكر وإذا كان في مقابلة مكر فيقال يمكر الله بمن مكر، أو الاستهزاء يستهزئون الله يستهزئ بهم، أو المخادعة ونحو ذلك. ففي تسمية الكتاب هذه مفاهيمنا في مقام الرد فيه صواب وذلك من جهتين: 1 - الأولى: أنّ الرد فيه القوة وفيه الاستعلاء، بما استعلى به صاحب النص والدليل. 2 - الثانية: أنَّ فيه وجها بلاغيا؛ لأنّ مقابلة النص بتثبيته؛ تثبيت اللفظ والزيادة على ذلك بصحة المعنى، فإنه جائز بل مستعمل في اللغة وفي القرآن والسنة، ومن استعماله في اللغة قول عمرو ابن كلثوم في معلقته: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا مع إجماع العقلاء على أنَّ الجهل من صفات السفهاء، لكنّ لما كان في مقابلة جهل الجاهل صار كمالاً لأنه يدلّ على قوة. فلما سمّى ذاك كتابه (مفاهيم يجب أن تصحح) كان من الكمال والرفعة أن يُقال (هذه مفاهيمنا) ؛ يعني أنَّ وجوب تصحيحها الذي ادعاه إنما هو باطل ومردود. مع ظنِّي أنَّ من كتب في انتقاد هذه اللفظة يريد الوجه الأول وهو الابتداء لا الوجه الثاني. نكتفي بهذا القدر ونبدأ في الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ- حَقٌّ.   قال الطحاوي رحمه الله (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ- حَقٌّ.) هذه الجملة مشتملة على تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الحوض، فقال: إنَّ الحوض حقّ. ومعنى أنّ الحوض حق يعني أنه كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم حَقٌ، كما أخبر على ظاهر ما ورد فيه في صفته، وفيما جاءت الأخبار، فليس ثَمَّ شيء من ذلك يُرَدْ ولا يُؤَوَّلْ على خلاف ظاهره، فإنه حقّ يجب اعتقاد ما دلَّ عليه الدليل في ذلك، والحوض هذا أكرم الله - عز وجل - به محمدا صلى الله عليه وسلم. لهذا نقول: إنَّ الحوض من المسائل العظيمة التي يبحثها أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، وبَحْثُهُم لها من جهات؛ يعني سبب بحثهم له في العقائد من جهات: 1- الجهة الأولى: أنَّ الحوض أمر غيبي، والأمور الغيبية الإيمان بها واجب، فإنَّ الله سبحانه أثنى على خاصة عباده بقوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] ، فجعل أخَصَّ صفاتهم الإيمان بالغيب. 2- الجهة الثانية: أنَّ الحوض دَلَّت عليه الأدلة من السنة بما يبلغ حد التواتر -التواتر النقلي والتواتر المعنوي-؛ لأنها رُويت من طريق أكثر من خمسين صحابياً، وبعض أهل العلم أوصلها إلى طريق ثمانين صحابيا، كما سيأتي بعض مزيد بيان لذلك. 3- الجهة الثالثة: أنَّ الحوض خالف فيه المبتدعة من الخوارج والرافضة والمعتزلة. - خالف المعتزلة في إنكارهم للحوض أصلاً. - وخالف الروافض والخوارج في فهم أحاديث الحوض، كما سيأتي بيانه. فإذاً مسألة الحوض من المسائل العقدية التي ترتبط بأمر غيبي، وبنقل متواتر لا يجوز رَدُّهُ، وبمخالفة المبتدعة من أصحاب الفرق الضالة. قال الطحاوي (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ -غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ- حَقٌّ.) فذَكَرَ أنَّ الحوض إكرام لنبينا صلى الله عليه وسلم به، أكرم الله نبيه بهذا الحوض. وإكرامه بهذا الحوض لا يعني أن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل قد جاء في الحديث «إنّ لكل نبي حوضا» (1) وهذا يناسب ما سيأتي بيانه من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يذودُ الناسَ عنه؛ يعني ممن ليس من أمته صارفاً لهم عن إتيان حوضه إلى الذهاب إلى أحواض الأنبياء كما وَجَّهَهُ طائفة من أهل العلم. فإذاً الحوض إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي إكْرَامِهِ إِكْرِامٌ لأمته صلى الله عليه وسلم بذلك الحوض الذي سيأتي وصفه إن شاء الله تعالى. قال (غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ) وكلمة (غِيَاثًا) هذه نفهم منها أنَّ الطحاوي رحمه الله أراد أنَّ الحوض تُغاثُ به الأمّة، وكون الأمّة تُغاث بالحوض يعني بماء الحوض؛ يعني أنها تُغاث به وقت حاجتها إلى الحوض. وهذا يدلُّ على أنَّ الطحاوي يذهب إلى أنَّ الحوض يكون في عَرَصَات القيامة قبل ورود الصراط وقبل العبور على النار وقبل تجاوز الصراط، يكون قبل ذلك إذا اشتدّ بالنّاس الحاجة إلى أن يشربوا من ذلك الحوض. فإنَّ مقام الساعة عظيم والزمن طويل يلبث الناس في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويشتدّ عليهم البلاء، ويشتدّ عليهم الكرب، فيكرم الله - عز وجل - نبيّه صلى الله عليه وسلم بالحوض، ويُكْرِمُ أُمَّتَهُ بأن يجعله غياثاً لهم، فمن شرب منه شربة في ذلك اليوم العصيب لم يضمأ بعدها أبداً، فهذا معنى قوله (غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ) . قال (حَقٌّ) يعني أنه واقع وحاصل، وأنه موجود، وأنّ الإيمان به فرض، وأنّ غير ذلك باطل. إذا تبيّن ذلك في بيان معنى ما قاله الطحاوي رحمه الله ففي مسألة الحوض مسائل:   (1) الترمذي (2443) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 [المسألة الأولى] : أنَّ الحوض دلَّ عليه القرآن باحتمال، ودلَّت عليه السنة بقطع: أما القرآن فدليل الحوض فيه قوله تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) } [الكوثر] ، وقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ الكوثر بأنه (حوض أعطاه الله إياه) (1) ، وهناك عدة تفاسير للكوثر منها أنه نهر في الجنة، وقد جاء أيضا أنَّ الحوض يُسْكَبُ فيه من الكوثر ميزابان يعني يغذونه بماء الكوثر. وأما من السنة فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجود الحوض وفي صفته، وقد رواها عنه صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابياً، ولهذا نقول: هي متواترة نقلاً ومتواترة تواتراً معنوياً، فجمعت بين نوعي التّواتر. وهذا النقل جاء عن أفاضل الصحابة وعن أكمل الصحابة. فمرويات الحوض ثابتة عن الصحابة عن أبي بكر رضي الله عنه وعن عمر وعن عثمان وعن علي وعن فقهاء الصحابة كابن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي ذر إلى غير هؤلاء. فجُلَّة الصحابة رووا أحاديث الحوض على خلاف بينهم في ألفاظها، والنّبي صلى الله عليه وسلم كان يكرّر الكلام عن أحاديث الحوض كما روى أبو داوود في سننه عن أحد الصحابة أنه قال (سمعته مرارا لا أقول مرة أو مرتين) (2) يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم. فكان يكرر الأحاديث في الحوض فلذلك حصل فيها بعض الاختلاف كما سيأتي فيما نستقبل.   (1) مسلم (921) / أبو داود (784) / النسائي (904) (2) أبو داود (4749) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 [المسألة الثانية] : أنَّ صفة الحوض التي دل عليها الدليل من صحيح السنة. 1- أولاً: من حيث شكله: هو مربع زواياه سواء وأضلاعه متساوية، وقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم «قال طوله شهر وعرضه شهر زواياه سواء» (1) فهذا يدل على أنَّ شكل الحوض مربع، وأنَّ زواياه قائمة، وأنَّ طوله وعرضه واحد وهو شهر. واختلفت الروايات كثيرا في طوله وعرضه، ومُحَصَّلُها ما ذكرتُ لك من أنه شهر في شهر، وقد جاء في بعض الروايات قال «هو كما بين المدينة وبيت المقدس» ، وفي رواية قال «هو كما بين المدينة وعُمَان» (2) أو قال «عَمَّان» ، وفي رواية قال «هو كما بين المدينة إلى صنعاء» (3) ، وفي رواية قال «هو كما بين أيلة إلى صنعاء» (4) وثَمَّ غير ذلك. وإذا قلنا مسيرة شهر في شهر، فالمراد بالشهر بسَير الجمال السّير المعتاد؛ لأنه هو الفصل في التقدير. هذا من حيث طوله وعرضه وشكله، شكله مربع وطوله وعرضه شهر في شهر. 2- ثانياً: من حيث مكانه: مكانه هو في الأرض المُبَدَّلَة، يعني يوم يبدّل الله الأرض غير الأرض والسموات، هو في الأرض المُبَدَّلَة. 3- ثالثاً: من حيث آنيته: آنيته وصفَها صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمر بن العاص وغيره قال «آنيته كنجوم السماء» (5) وهذا التشبيه بقوله (كنجوم السماء) نفهم منه صفتين: - الصفة الأولى: الكثرة، في أنَّ كثرتها كثرة نجوم السماء، وهذا يدل على مزيد راحة وطمأنينة في الشرب منه وتناوله، وألا يكون هناك تزاحم على كيزانه، أو أنَّ الناس يشربون بأيديهم. - والصفة الثانية: أنَّ كيزانه أو كيسانه أو أباريقه أو نحو ذلك كنجوم السماء في الإشراق والبهاء والنور. فنجوم السماء فيها صفة الكثرة وفيها صفة النور والبهاء. هذا من جهة وصف كيزانه من حيث العدد ومن حيث الشكل. 4 - رابعاً: من حيث مائه: ماؤه من حيث اللون أشد بياضاً من اللبن، كما ثبت في الحديث قال «حوضي طوله شهر وعرضه شهر ماؤه أشد بياضا من اللّبن وأحلى من العسل» (6) ، وقد جاء في رواية قال «ماؤه أشدّ بياضا من الوَرِقْ» (7) يعني من الفضة. ورائحة مائه قال «رائحته كرائحة المسك» (8) . ومصدر مائه من الكوثر؛ النهر الذي في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة» (9) . وقد جاء في صفة الحوض «يشخب فيه من الكوثر ميزابان» (10) . هذه من جملة صفاته.   (1) مسلم (6111) (2) ابن ماجه (4304) / ابن حبان (6451) (3) البخاري (6591) / ابن ماجه (4304) (4) البخاري (6580) / مسلم (6135) (5) ابن حبان (6452) (6) مسلم (6129) / الترمذي (2444) / ابن ماجه (4302) (7) مسلم (6111) (8) البخاري (6579) (9) سبق ذكره (191) (10) مسلم (6129) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 [المسألة الثالثة] : اختلف العلماء أين يكون الحوض؟ هل هو قبل الصراط أم بعد الصراط؟ على قولين: 1- القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم على أنَّه قبل الصراط وليس بعد الصراط؛ لأنّ الأحاديث التي فيها صفة الحوض فيها ذُكِرَ أَنَّ أناسا يُذَادُون عنه ويُدْفَعُون ويُؤْخَذ بهم إلى النار، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم «ربي أصيحابي أصيحابي» (1) ، أو قال «أصحابي أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (2) . 2- القول الثاني: وبه قال طائفة من أهل العلم إنَّ الحوض حوضان حوض قبل الصراط وحوضٌ بعد الصراط، فمن لم يشرب منه قبل الصراط بأن أُخِذَ للعذاب من هذه الأمة ثم نَجَى بعد ذلك، فَثَمَّ حوض آخر بعد الصراط يشرب منه. * ولكن الذي تدل عليه الأحاديث بظهور وكثرة أنَّ الحوض يكون قبل الصراط لا بعده. ثُمَّ القائلون بأنه قبل الصراط أيضاً اختلفوا: هل هو قبل الميزان أم بعد الميزان؟ على قولين لأهل العلم، والأكثر أيضا أنّه قبل الميزان، وأنّه في العرصات قبل أنْ يأتي الله - جل جلاله - لفصل القضاء وقبل أن تتطاير الصحف وإلى آخر ذلك. ولشدة طول [ ..... ] الناس فإنّ الله يكرم نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الحوض حتى يشرَب منه المؤمنون فلا يظمؤون ولا يقلقون في شدة هول الموقف. فإذاً نقول الصواب أنَّهُ قبل الصراط وأيضاً أنه قبل الميزان. قال القرطبي صاحب كتاب التذكرة في الكلام المشهور عنه يتناقله العلماء قال (والمعنى يقتضي هذا؛ لأنَّ الناس يخرجون من قبورهم عطاشا فإذا وافوا الموقف فإنهم يحتاجون مع طول الموقف إلى ما به ذهاب ظمئهم وصدورهم، وهذا يناسب أن يكون إكرام النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض قبل الميزان) .   (1) مسلم (6136) / ابن ماجه (3057) (2) البخاري (6582) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 [المسألة الرابعة] : جاء في الأحاديث أنَّ الحوض يُذاد عنه، فقد جاء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يذود أناساً عن الحوض. وجاء في أحاديث أخرى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه قوم فيعرفهم فيُذادُون عن الحوض؛ يعني يذودهم غيره صلى الله عليه وسلم، فيقول «يا ربي أصيحابي أصيحابي» إلى آخر الأحاديث التي سيأتي توجيهها. وهذا يدلّ على أنّ التحقيق أنّ الذَّوْد عن الحوض نوعان: 1- الأوّل ذود عام: وهو ذود النبي صلى الله عليه وسلم غير أمته أن يستقوا من الحوض فيدفعهم أو يمنعهم ويذودهم عن الحوض الخاص بأمته صلى الله عليه وسلم، وهذا الذّود العام منه صلى الله عليه وسلم وإبعاد الناس عن حوضه إلا أمته يفيد فائدتين: - الفائدة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين به في هذه الأمة رؤوف رحيم، فيريد أن تختص أمته بحوضه، وذلك فيه إكرام لهم ومزيد عناية بهذه الأمة. - الفائدة الثانية: أنه قد جاء -كما ذكرنا- أن لكل نبي حوضا، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد من كل كل تابع لنبي ومؤمن بنبي من إخوانه الأنبياء والمرسلين، يريد أن يذهب إلى النبي ليكون أبلغ في ظهور عظم الرسالة -رسالة النبي إلى قومه- ورأفة قومه به، وإظهار لمن آمن بكل نبي على من لم يؤمن بذلك النبي. وهذا توجيه جيد أفاده عدد من أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ومن تبعه. 2- الثاني ذودٌ خاص: فهذا يُذاد عن الحوض طائفة قليلة بالنسبة إلى كثرة من يرده، قد جاء فيه أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم متعددة: أنه إذا ورد الحوض ورد عليه أناس يعرفهم ويعرفونه ثم يُذَادُونَ عن الحوض؛ يعني يُدفَعُونَ بشدة فيقول «يا ربي قومي قومي» وفي رواية «أصحابي» وفي رواية لأنس في الصحيح «أصيحابي أصيحابي» ، فينادي المنادي «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، في رواية «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أدبارهم مذ تركتهم» ، فهذا دَفْعٌ بشدة عن الحوض لطائفة من المرتدّين ومن المُحْدِثِين. ولهذا اختلف أهل العلم في هؤلاء الذين يُدفعون عن الحوض من هم؟ (1) على أقوال: : [[الشريط الخامس عشر]] : 1- القول الأول: أنّ الذين يُذادُونَ عن الحوض هم الذين ارتدوا من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، كالذين تبعوا مسيلمة الكذاب أو سجاح أو كَفَرُوا وارتَدُّوا بعد ذلك، وهم قليل. ويدل على قلتهم أنه صلى الله عليه وسلم قال «يذاد قوم» أو يؤتى كما في رواية أخرى، قال «فيأتيني قوم فيُذادون عن الحوض» وهذا يدل على قلّتهم. ويدل على ذلك أيضا قوله «يا ربي أصيحابي أصيحابي» . (2) فقال أهل العلم إنَّ كلمة (قوم) و (أصيحابي) ونحوهما، يدل على قلة العدد لا على كثرتهم. وهذا يناسب هذا القول؛ لأنَّ عدد الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن صحبوه أو حجوا معه حجة الوداع قليل من شرذمة من الأعراب الذين لم يؤمنوا به حق الإيمان. 2- القول الثاني: أنِّ الذين يُذادون عن الحوض هم المنافقون. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف المنافقين جميعاً فقد قال الله ? له {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] فيأتون يوم القيامة وعليهم سيما أهل الإيمان أو أنهم مع المؤمنين فيظنّهم صلى الله عليه وسلم من المؤمنين به ظاهراً وباطناً، ثم يُذادون فيُدْفَعُونَ عن الحوض بشدة، ويساقون إلى النار فيقول «أصحابي أصحابي» باعتبار ما كان عليه ظاهر أمرهم، فيقول (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (3) ، (أو إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم مذ تركتهم) . يعني ظَهَرَ نفاقهم واستبان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. 3- القول الثالث: أنَّ الذين يذادون هم كل من أحدث بعده صلى الله عليه وسلم حدثَاً فَغَيَّرَ في دينه إمَّا بالارتداد عن الإسلام إلى الكفر أو بما هو دون ذلك من المحدثات كالبدع المضلة من أنواع البدع المضلة كبدعة الرِّفض والسبئية والخوارج والنّصب والاعتزال، كل هذه من أنواع المحدثات. والنبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف من يُذاد «فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، وهذه من جملة أنواع المحدثات. (وهذا القول الثالث هو أظهر الأقوال لشموله للقولين السابقين، فنقول: - أولا: الذين يُذادون كما جاء في بعض الأحاديث الذين ارتدوا ممن شارك في حجة الوداع أو صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به إيماناً حقيقياً، فهؤلاء يذادون. - ثانياً: وأيضاً يذاد المنافقون. - ثالثاً: وأيضاً يذاد كل أصحاب الفرق الضالة كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وأشباه هؤلاء من الفرق الذين ضلوا وأحدثوا في الدين وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله. قال بعض أهل العلم: ويُلْحَقْ بذلك أيضاً من افترى على الله عز وجل في دينه؛ يعني كَذَبَ في أمر الدين. ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده ونحو ذلك بألفاظ متقاربة من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «سيكون بعدي أمراء فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظُلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليَّ الحوض» (4) . قال في وصف هؤلاء «فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم» يعني يكذبون على الدين وهذا يُصَدِّقُهُم على ذلك ويعينهم على الكذب على الدين ويعينهم على الظّلم، فهذا مُحْدِثْ، ولهذا أُلحق بتلك الفئات بقوله صلى الله عليه وسلم «فليس مني ولستُ منه ولن يرد عليّ الحوض» .   (1) انتهى الشريط الرابع عشر. (2) سبق ذكره (193) (3) البخاري (6576) / مسلم (6118) (4) الترمذي (614) / النسائي (4208) / المسند (23308) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 [المسألة الخامسة] : خالف في الحوض طوائف من أهل البدع، خالف فيه المعتزلة والخوارج والرّافضة. 1- المعتزلة: أما المعتزلة فخالفوا في إنكاره أصلاً فأنكروا الحوض، وقالوا هذه الصفة التي وردت لا تُعْقَلْ، فردُّوا الأحاديث المتواترة المتطابقة المتتابعة لفظاً ومعنىً، رَدُّوهَا بالعقل فقالوا (الحوض لا يُعْقَلْ وإنما له معنى يُؤَوَلْ إليه) . فليس عندهم حوض موجود يوم القيامة وإنما هو معنًى من المعاني. قالوا: فكيف يكون الحوض قبل الصراط وبين الناس وبين الجنة جهنم الكبيرة، ويكون الحوض يُغْذَى من الجنة، والصراط على جهنم؟ يعني أنهم تخيَّلُوا ما ورد في صفة يوم القيامة بعقولهم، ثم بعد ذلك ردُّوا ذلك، ردُّوا بعض الأحاديث مما لا يتناسب مع الوصف العام الذي تخيّلوه. ومن المعلوم أنَّ السنة إذا ثبتت ولو بالآحاد، فكيف إذا كانت بالتواتر اللفظي والمعنوي، إذا ثبتت فلا يجوز أن يُسَلَّطَ عليها العقل؛ لأنّ الأمر أمرٌ غيبي. والمعتزلة كما هو معلوم في قاعدتهم يُؤَوِّلُونَ الغيبيات: فأنكروا الصراط وأوّلوا الميزان وأوّلوا الصحف وأوّلوا الحوض إلى غير ذلك، على أساس قاعدتهم من تسليط العقل على النّقل. فإذاً مخالفتهم مردودة. وقال بعض أهل العلم: من أنكر الحوض بعد علمه بالتواتر فإنّه يكفر. ولكن هذا فيه نظر من جهة تطبيقه لأنَّ التواتر قسمان: تواتر لفظي وتواتر معنوي، وقد يُسَلِّمُونَ بصحة النقل لكن لا يُسَلِّمُونَ بصحة الدّلالة. 2- الخوارج والرافضة: أما الخوارج والرافضة: فمخالفتهم ليست في إثبات الحوض، ولكن في أنهم جعلوا أحاديث الحوض على غير ما هي عليه من جهة الصحابة رضوان الله عليهم. فقالت الخوارج والرافضة: إنَّ الذين ارْتَدُّوا فلم يَرِدُوا على الحوض هم الصحابة، وأولئك جمع كبير من الصحابة. فيؤمن الخوارج والرافضة بالحوض لكن يقولون هؤلاء الذين رُدُّوا هم الصحابة ويحتجون بأحاديث الحوض على تكفير الصحابة. فيقول الرافضة مثلا: إنَّ هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يُسْلِمْ أو لم يبق على الإيمان بعده صلى الله عليه وسلم من الصحابة إلا نفر قليل والأكثرون كَفَرُوا والعياذ بالله. والرَّد على هذه الفِرْية من أوجه: 1- الرد الأول: الألفاظ المختلفة تدلُّ على تقليل العدد، فقال صلى الله عليه وسلم: - «فيُذاد قوم عن حوضي» هذا في لفظ. - والثاني «فيذاد أناس عن حوضي» . - وفي الثالث قال «فأقول يا ربي أصحابي» . - وفي الرابع قال «فأقول يا ربي أصيحابي» . فدل ذلك بمقتضى اللغة على أنَّ قوله «يذاد أناس فأقول يا ربي أصيحابي» على أنَّ العدد قليل كما يقول القائل في اللغة (أتاني بنو تميم، إلا قوم منهم لم يأتوا) ، يعني إلا قليل منهم. فإذا أتت الجملة الكثيرة ثم أُستثني قوم دلَّ على قلة أولئك كيف وقد جاء الحديث فيه ذكر التقليل لقوله «أصيحابي أصيحابي» . 2- الرد الثاني: أنَّ الذين نقلوا أحاديث الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين زعمت الرافضة أنهم كَفَرُوا، وهم جمعٌ كبيرٌ أكثر من خمسين صحابياً يقول الرافضة إنَّ هؤلاء كفروا، وهم الذين نقلوا أحاديث الحوض. فنقول: إن كنتم صَدَّقْتُم بأنَّ ما نقله هؤلاء من صفة الحوض وأحاديث الحوض وأنها صحيحة، فكيف تقبلون أحاديث من كفر عندكم؟ وإنّ كان النقل عندكم إنما هو للتكاثر، فكيف يَنْقُلُ هؤلاء الجلة من الصحابة والعدد الغفير أحاديث فيها تكفيرُهم؟ لا شك أنَّ فهم الجمع الغفير، بل عامة الصحابة، بل كل الصحابة لأحاديث الحوض، وكونهم رَوَوهَا وتناقَلُوهَا جميعاً -جميع الصحابة وجميع التابعين- نَقَلُوهَا وتَنَاقَلُوهَا مع تَرَضِّيهِمْ عن الخلفاء الأربعة جميعاً وعن العشرة المبشرين بالجنة ما يَدُلُّ دَلَالَةً قاطعةً على أَنَّ هذا الفهم لتلك الأحاديث لم يكن معروفاً عند الصحابة ولا التابعين ولا تبع التابعين. وكون فَهْمٍ في الأحاديث يكون غائباً عن الصحابة جميعاً وعن التابعين وعن تَبَعِ التابعين ولا يظهر هذا الفهم إلا بعد مائتي سنة يدلّ على أنَّ هذا الفهم مردود؛ لأنه لم يفهمه أجيال من المسلمين. وإذا كان كذلك فالقاعدة المتفق عليها (أنَّ الفهم إذا كان مُحْدَثَاً وغابت القرون المفضلة ولم تَفْهَمْ هذا الفهم، فإنَّ معنى ذلك أنَّ هذا الفهم غير صحيح) . وهذا هو الذي يلاحظ في الواقع، فإنَّ الذين ارتدوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم نفر قليل ممن قاتلوا مع مسيلمة أو كَفَرُوا بعد إسلامهم من شذاذ الأعراب وطوائف ممن قال الله فيهم {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] . وكلام الرافضة لهم كلام طويل في الاستدلال بأحاديث الحوض على مسألة تكفير الصحابة ليس هذا محل بسطها وبيانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 [المسألة السادسة] : أَنَّ الشرب من الحوض -ورود الحوض- له أسباب في هذه الدنيا ينبغي؛ بل يجب على الموحّد أن يحرص عليها، بل يجب على كل مسلم أن يحرص عليها: 1 - أن يكون غير مُحْدِث في الدين حَدَثَاً؛ يعني كلُّ ما لم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم من أنواع الاعتقاد والعلم فإنه يجب ردُّه، يعني أن لا يَعْتَبِرَهُ حقَّاً. فإذاً العقيدة والدين هو الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عهده، فكلّ من أتى بشيءٍ جديدٍ فإّنه لا يأمَن أن يكون داخلا في قوله «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، حتى إنَّ أهل العلم أدْخَلُوا في ذلك كما سمعت كل من أَحْدَثَ بِدْعَة في الاعتقاد من: المرجئة والخوارج والمعتزلة والكلاّبية والرّافضة والسّبئية إلى غيرها من الفرق الغالية والمتوسطة والخفيفة، كل من أحدث حدثَاً يدخل في ذلك. * فلهذا يجب على الموحد وعلى المؤمن أن يحرص تماماً على أن يحظى بهذه التَّكرمة العظيمة وهو ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي (من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً) (1) وأمِن في يوم الفزع أمن في يوم الحَزَن حيث قال الله ? {لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] ، ومن أسباب عدم الحَزَن أنه يأمن قبل تطاير الصحف بأن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك صار اهتمام المهتم بالتوحيد وبالعقيدة وبالدين الصحيح لأجل أن يأمن على نفسه وأن يحظى بهذه التّكرمة العظيمة يوم القيامة. 2- أن يُخَلِّصَ قلبه من الغش والغل لخيرة هذه الأمة وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم معه من أحب، والصحابة معه يوم القيامة كما ثبت «أنت مع من أحببت» (2) ، وإذا كان كذلك فلا يجوز لأحد أن ينتقد الصحابة أو أن يُبغض بعضاً منهم أو نحو ذلك؛ بل يجب عليه أن يحب الجميع فلعله أن يحشر في زمرتهم وأن يرد حوض نبيه صلى الله عليه وسلم معهم. 3- أن يكون بعيداً عن الافتراء في دين الله ?؛ كما ذكرت لك من الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أنَّ من صفة الذين لا يردون عليه الحوض قال «يكون بعدي أمراء فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليّ الحوض» ، وهذا الأمر شديد في أنَّ المرء لا يكذب على اسم الله، وأيضاً إذا خالط أحداً فلا يصدقه على كَذِبِهْ، فلا يصدّق من يكذب على دين الله. ولهذا المسألة العظيمة هي هذه؛ في أنَّ المرء يَعْلَمْ الدين ويعتقد الاعتقاد الصحيح ويَعْلَمْ الشريعة ولا يعين المرء المسلم مَنْ كَذَبَ على الدين؛ بل يجب عليه أن لا يُصَدِّقَ أحداً في كَذِبِه وأن لا يُعِينَ أحداً على ظلمه، بل يسأل الله ? السلامة والعافية. وأكثر ما يورد الناس النار يوم القيامة اللسان، فذلك ينتبه المرء بأنه لا يقول شيئاً يكون كذباً على الدين، يعني قد تقول لا أدري والمسألة سهلة، أو إن استطعت أن تنطق بالحق، فهذا يعني فيمن كذب على دين الله فهذه مرتبة عظمى. أما أن يقول المرء في دين الله ? بما لا يعلمه فهذا قد يكون افتراء على الدين. ولهذا ذكر السَّفَّاريني رحمه الله في عقيدته المعروفة في منظومته ذكر جملة هذه الصفات بقوله: عنه يُذادُ المفتري كما ورد ومن نحا سبل السلامة لم يُرَد أي أَنَّهُ يُذاد عن الحوض المُفْتَرِي على الله ?؛ يعني من كَذَبَ على الله ? في العقيدة أو في الدين فنسب شيئاً إلى الله ? أو إلى دينه إنما هو محض تَخَرُّصْ منه، ما اجْتَهَدَ اجْتِهَادَاً أخْطَأَ فيه أو هو معذور في اجتهاده؟ لا، وإنما هو مَحْضُ تَخَرُّّْص واستهانة وعدم مبالاة بما ينسبه للشريعة وللدين، وهذا أمْرٌ يجب على المرء أن يحافظ على لسانه من أن يفتري على الله ?، والله سبحانه نَهَى عن أن يُقَال عليه ما ليس للمرء به علم فقال {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، فقَرَنَ بين الشرك وبين القول على الله بلا علم. 4- أن يبتعد المرء عن الكبائر والذنوب؛ عن المداومة عليها، وإذا أَذْنَبَ يرجع ويستغفر لأنَّ جمعَاً من أهل العلم قالوا إنَّ الذين يُلَازِمُونَ الكبائر لا يرِدُون الحوض، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم فيقال «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، والناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أذْنَبُوا اسْتَغْفَرُوا ولم يكن بينهم -يعني من الصحابة- ممن هو مداوم على الكبيرة غير تائب منها. لهذا يحرص المرء على أن يأتي بالسبب الذي به غفران الله ?، وأن يُكْرِمَهُ الله بحوض نبيه صلى الله عليه وسلم في أنه يبتعد عن الكبائر والموبقات والآثام، وأنّه إذا غشي شيء من المعاصي فيُنيب ويستغفر ويُتْبِع السَّيئة الحسنة لتُمحى عنه السيئات. أسال الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن أُكْرِمَ بالورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد. مباحث الحوض كثيرة لو نسيت شيئا منها ستجدونه إن شاء الله في الكتب المختصّة.   (1) الترمذي (2444) / ابن ماجه (4303) (2) البخاري (3688) / مسلم (6878) / الترمذي (2385) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الأسئلة : س1/ تعريف الصحابي أَنَّهُ مات على الإيمان، فلماذا نقول إنَّ بعض الصحابة ارتدوا؟ هل هناك فرق ما بين الإطلاق الاصطلاحي والإطلاق غير الاصطلاحي؟ ج/ أما الاصطلاحي فإنَّ الصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنَاً به ومات على ذلك. وكلمة (مات على ذلك) هذه فيها خلاف، (مُؤْمِنَاً به) كم المدة ساعة شهر يوم؟ أيضا فيها خلاف بين أهل العلم. لكن التعريف الراجح للصحابي هو ما ذكرته لك. (من لقي) فلا نقول رأى؛ لأنَّ الرؤية في بعض الصحابة لم يكونوا مبصرين، نقول: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنَاً به ومات على ذلك. زاد بعض أهل العلم ولو تخللت ذلك ردة؛ يعني ارْتَدَّ ثم رجع، فمن لقي النبي عصلى الله عليه وسلم مُؤْمِنَاً به ومات على ذلك -يعني مات على الإيمان به- فهو صحابي وإن قلت المدة لشرف الصحبة، ولهذا نقول الذي جاء في الأحاديث يعني باعتبار ما كانوا عليه. الذي يقول لماذا نقول أن بعض الصحابة ارتدوا يعني بعض من كان صحابيا وارتد، كان صحابيا فارتد. س2/ [ ..... ] القاعدة ما فيه فرق: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا الجهل نقص، وكُمَّل الرجال لا يَجْهَلُون؛ لأنَّ الجهل من صفة السفهاء، ولذلك قال ? {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63] ، الجهل صفة نقص؛ لكن لمَّا كان جَهْلُهُ في مقابلة جهل الآخرين؛ يعني سَفَهِهِمْ ونَقْصِهِمْ، فإنَّ وصف نفسه بالجهل لا يريد منه صفة النقص، وإنما يريد منه صفة الكمال والقوة والقدرة عليهم والاستعلاء عليهم والمُلك إلى غير ذلك. لهذا نقول البيت يدل على أنَّ صفة النّقص إذا كانت في مقابلة صفة نقص أخرى فإنَّ الاتصاف بها كمال، ولهذا المكر في أصله نقص؛ لكن لَمّا كان في مقابلة مكر صار الاتصاف به كمالاً من جهة قوة الله ? وقدرته وهيبته وجبروته وعظمته إلى غير ذلك، كذلك استهزأ به بعض العباد فقال {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] ، يعني في مقابلة فعلهم ذلك مما يدل على كمال الله ? وقدرته وعظمته وجبروته وقهره لعباده. س3/ [ ..... ] هذه مسألة أخرى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، يعني ما ساءك هذا راجع للتفسير، ما ساءك من اعتداء غيرك عليك فأثب إليه بالاعتداء عليه؛ لكن هو إساءته ظلم أو اعتداء، وإساءتك إليه هذه قِصاص وحق لك، هذا من جهة. والجهة الثانية أنَّ قوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} يعني في اعتبار المتلقي لا في اعتبار الفاعل. س4/ هل إذا قلنا إنَّ شكل الحوض مربع نجزم بذلك وهو من المغيبات التي لا نقول، أم نقول إنَّ زواياه متساوية وأضلاعه مسيرة شهر؟ ج/ زواياه سواء -هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم- وأضلاعه مسيرة شهر؛ يعني كل ضلع مسيرة شهر وهذا يدل على أنه مربع، لذلك صرّح طائفة من علماء السنة بأنه مربع الشكل. نكتفي بهذا القدر وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد: الأسئلة: س1/ ما رأيكم في من يقول بأنَّ الحوض مُدَوَّرْ، ويستدل لذلك بأن طوله وعرضه سواء، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان مُدَوَّرَاً؟ ج/ الجواب أنّ طوله وعرضه سواء لا يقتضي أن يكون مُدَوَّرَاً، وقد جاء في الرواية الأخرى «طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر زواياه سواء» ، وهذا يدل على أنَّهُ ليس بدائري. س2/ ما معنى قول القائل: قَدَّسَ الله روح فلان؟ ج/ التقديس معناه التطهير، قَدَّسَ الله روح فلان يعني طَهَّرَ الله روح فلان من الذنوب أو من أثر الذنب من السيئات من المعاصي، وهذا التطهير يكون بمغفرة الله لذنبه، أو بمنّ الله ? عليه بأن يجعل ما أصابه كفّارة، أو بغير ذلك من الأسباب بتهيئة دعاء المؤمنين. المقصود أنّه دعاء بأن يطهر الله روح فلان، هذا لا بأس به، قدّس الله روح فلان لا بأس به؛ لأنّ معناه طهر الله روح فلان، ومن أسماء الله القدّوس؛ يعني المُطَهَرْ من كل عيب ونقص: لا في الذات، ولا في الأسماء، ولا في الصفات، ولا في الأفعال، ولا في الأمر: أمره الكوني القدري، ولا في أمره الديني، في هذه الخمسة. وهناك عبارة أخرى لا تجوز وهي قول بعضهم: قدّس الله سِرَّه، كلمة سرّه هذه هي المُنْكَرَة؛ لأنّ هذه اللفظة يستعملها من يعتقد في الأموات بأنّ روح فلان لها سِرْ، ولذلك يطلقون على من له السّر السيد، على اعتقاد أنّه الذي فيه السِرْ، فيخصُّونَ بعض الأولياء الذين يُعتَقَدُ فيهم بأنهم يجيبون، أو أنَّ الدعاء عند قبرهم مستجاب، أو أنَّ الاستشفاع بهم يحصل به المقصود ونحو ذلك، يخصونه بقولهم قدس الله سره، وهذا غلط ومنكر؛ لأنَّ الروح ليس فيها سر، روح الناس روح المؤمنين ليس فيها أسرار، وهذا بالإضافة إلى أنَّ هذه الكلمة لم تأتِ لا في اللغة ولا في الشرع. س3/ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» (1) ؟ ج/ هذا الحديث يطول الكلام عليه؛ لكن خلاصة الكلام أنَّ الصورة هنا بمعنى الصفة؛ لأنَّ الصورة في اللغة تطلق على الصفة كما جاء في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر» (2) يعني على صفة القمر من الوضاءة والنور والضياء، فقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» ؛ يعني خلق آدم على صورة الرحمن أ؛ يعني على صفة الرحمن، فخص الله ? آدم من بين المخلوقات بأنَّ جعله مَجْمَع الصفات وفيه من صفات الله ? الشيء الكثير؛ يعني فيه من أصل الصفة على التقرير من أنَّ وجود الصفة في المخلوق لا يماثل وجودها في الخالق، فالله ? له سمع وجعل لآدم صفة السمع، والله ? موصوف بصفة الوجه وجعل لآدم وجهاً، وموصوف بصفة اليدين وجعل لآدم صفة اليدين، وموصوف بالقوة والقدرة والكلام والحكمة، وموصوف ـ بصفة الغضب والرضا والضحك إلى غير ذلك مما جاء في الصفات. فإذن هذا الحديث ليس فيه غرابة كما قال العلامة ابن قتيبة رحمه الله قال (وإنما لم يألفه الناس فاستنكروه) . فهو إجمالٌ لمعنى الأحاديث الثانية الأخرى في صفات الله ?، «خلق آدم على صورته» يعني خلق آدم على صفة الرحمن ? فخصَّهُ بذلك من بين المخلوقات. الحيوانات قد يكون فيها سمع فيها بصر لكن ما يكون فيها إدراك ما يكون عندها حكمة ما يكون كلام خاص إلى آخره. فآدم خُصَّ من بين المخلوقات بأنْ جَعَل الله ? فيه من الصفات ما يشترك بها في أصل الصفة لا في كمال معناها ولا في كيفيتها مع الرحمن جل جلاله، تكريما لآدم كما ذكرنا لك. وهذا ملخص الكلام فيها وإلا فالكلام يطول لأنَّ هذا الحديث كثيرون لم يفهموا المراد منه، ولا حقيقة قول أهل السنة والجماعة في ذلك. س7/ يقول ذكرت أن قول قدس الله سره لفظة منكرة، وقد أكثر منها الإمام السَّفَّاريني عند ذكره لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهل لذلك معنى؟ ج/ أحياناً العالم أو المؤلف يستعمل عبارة على حسب ما دَرَجْ، ولا يعني حَقِيقَةَ العبارة، فلذلك يُفَرَّقْ بين من يستعلمها يقصد المعنى وبين من يستعمل العبارة مُشَارَكَةْ، فالحكم يختلف: فالذي يقصد المعنى أنَّ روح فلان لها سر وأنها تُغِيث فهذا شرك أكبر. والذي يستعمل اللفظ من غير قصد لما يستعمله الآخرون منها، فإنه يقال تَسْتَبْدِلْ تلك بغيرها كما قال ? {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] ، فنهاهم على قول {رَاعِنَا} لاستعمال اليهود لها بمعنى الرعونة الإيذاء، ووجَهَهُم إلى غيرها مع أنها تحتمل أن تكون من المراعاة، فقال {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} فأبدلهم بكلمة لا إشكال فيها ولا شبهة ولا يشتركون فيها مع من يحرفون الكلم عن مواضعه.   (1) مسلم (6821) (2) البخاري (3327) / مسلم (7328) / الترمذي (2535) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ.   الحمد لله، وبعد: قال العلامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة المباركة (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) . قوله (الشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا) يعني ادَّخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لَهُمْ) يعني لأمته. (حَقٌّ) يعني ثابتة كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ. وأراد بقوله (ادَّخَرَهَا) ما جاء في الحديث الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لكل نبي دعوة مجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي مُدْرِكة منهم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (1) ، وفي رواية قال «وإني أخَّرتُ شفاعتي» (2) . (أخَّرت شفاعتي) أو (اختبأت دعوتي) ، هذا يدل على أنَّهُ ادَّخَرَهَا لهم؛ يعني جعلها مُدَّخَرَةً مُرْجَأةً إلى يوم القيامة. فالله ? جعل لكل نبيٍ شفاعَةً تحصل له جَزْمَاً بإكرام الله ? له وإذْنِهِ ومحْضُ تَفَضُّلِهِ سبحانه. والنبي صلى الله عليه وسلم لأجل شِدَّةِ رحمته ورأفته بالمؤمنين ومعرفته بما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة أخَّرَ هذه الشفاعة إلى يوم القيامة. قال (حَقٌّ) يعني ثابتة (كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) . والشفاعة هذه التي ادَّخرها لهم يُعْنَى بها بأول ما يُعْنَى الشفاعة العامة لأهل الموقف أنْ يُعجِّل الله ? لهم الحساب فيستريحون من العناء ويعرف كلٌ منزلته. هذا معنى قوله (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) . وفي هذه الجملة مسائل:   (1) البخاري (6304) / مسلم (512) / الترمذي (3602) / ابن ماجه (4307) (2) مسلم (514) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [المسألة الأولى] : - الشفاعة في اللغة: من الشَّفْع وهو الزوج ضد الفرد؛ لأنَّ الدّاعي أو المُتَوَسِّطْ صار زَوْجَاً للسائل بعد أن كان السائل فرْدَاً، فَسُمِّيَ شَفِيعَاً؛ يعني سُمِّيَ شَفِيعَاً لأنه شفع؛ يعني صار زوجاً له؛ يعني صار ثانيا معه. وحقيقة الشفاعة في اللغة هي السؤال، سؤال الشافع للمشفوع له في حاجةٍ ما وطلب ذلك. فَرَجَعَتْ في اللغة إلى معنى السؤال والدعاء، فمن قال لأحد اشفع لي عند فلان؛ يعني اسأل لي واطلب لي، توسط لي ونحو ذلك. - وأما في الاصطلاح: فالشفاعة اسم عام لكل دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم (1) يوم القيامة لأمته، فكل دعوى يدعو بها صلى الله عليه وسلم في العرصات يوم القيامة فإنها تعدُّ من الشفاعة. يعني أنه إذا جاء في الحديث: فسألت الله لأمتي كذا، أو أسأل الله لأمتي، أو فأدعو الله لأمتي، هذه كلها شفاعة. ولهذا أهل العلم جعلوا -لأجل ما جاء في الأحاديث- الشفاعة عدة أقسام لتنوع العبارات في ذلك.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [المسألة الثانية] : أنَّ الشفاعة في أحكامها قسمان: - شفاعة في الدنيا. - وشفاعة في الآخرة. والذي أراده الطحاوي هنا الشفاعة في الآخرة لأنه عبَّر بقوله (الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ) . ولكن لما كان ثَمَّ من يخالف في أحكام الشفاعة في الدنيا والآخرة وفي تأصيلها وفي العقيدة الصحيحة فيها يذكر العلماء هنا ما يتّصل بالشفاعة في الآخرة وأيضا الشفاعة في الدنيا، ويبيِّنون أحكام ذلك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعموم المكلّفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 [المسألة الثالثة] : الشفاعة في الآخرة اختلف فيها الناس إلى أقوال متعددة: - فَثَمَّ شفاعة مُجْمَعْ عليها، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف كما سيأتي. - وهناك شفاعة أنكرها المعتزلة والخوارج وطوائف وهي الشفاعة لأهل الكبائر من الأمة في أن يعفو الله ? عنهم وأن يخرجهم من النار. -وهناك أنواع من الشفاعة يختلف فيها نَظَرُ العلماء من أهل السنة ومن غيرهم لأجل ورود الدّليل عليها. * وهذه الثالثة لا تُعَدُّ من الخلاف في العقيدة؛ لأنّه قد يُثْبِتُ الشفاعة من رَأَى صحة حديث وقد ينفيها آخر لعدم ثبوت الدليل عنده بذلك، فهي إذاً مأخذ اجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 [المسألة الرّابعة] : أنَّ الشفاعة التي للنبي صلى الله عليه وسلم بما جاء في الأخبار يوم القيامة أنواع: 1- أولاً: الشفاعة العظمى: وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يُحَاسَبُوا، فإنَّ الناس يوم القيامة يمكثون زماناً طويلاً في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، ينتظرون الفرج وهم في شدة كرب وشدة حر وخوف وهلع، ينتظرون الحساب، وينتظرون تبيين المنازل، فيأتون إلى الأنبياء، يأتون إلى آدم يستغيثون به يطلبونه أن يشفع لهم، قال «فيأتون إلى آدم فيقولون له أنت أبونا ألا ترى ما نحن فيه اشفع لنا» فيعتذر عن ذلك متذكراً ذنبه عليه السلام، ثم يأتون إلى نوح فيسألونه، ثم يأتون إلى إبراهيم ثم يأتون إلى موسى ثم يأتون إلى عيسى عَلَيْهِم جميعا السَّلاَمُ، كل أولئك يعتذرون وبعضهم يذكر سؤالاً له وبعضهم يذكر ذنباً له، كما جاء في الحديث الطويل المعروف حديث الشفاعة (1) . ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صلى الله عليه وسلم «أنا لها، أنا لها» ، فيذهب فيخر تحت العرش بعد نزول الجبار أ) ، قال صلى الله عليه وسلم «فأحمد الله بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن» فيقال: «يا محمد ارفع رأسك وسل تُعطَ واشفع تشفع» الحديث. وهذا فيه من جهة السياق ما يدل على أنَّ المراد من هذا السؤال أن يشفع لهم صلى الله عليه وسلم في تحقيق ما طلبوا، وإن لم يرد له ذِكْرٌ في الحديث، في تحقيق ما طلبوا وهو أن يحاسبوا وأن يرتاحوا من الموقف. فهذه هي الشفاعة العظمى جاءت فيها عدة أحاديث، وعليها التفسير في قوله ? {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وكما جاء في دعاء المجيب للأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدّته) . (المقام المحمود) هو المقام الذي تحمده عليه الخلائق جميعا، ويُثْنِي عليه به صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق الذين وقفوا في الحساب، وهو مقام الشفاعة العظمى؛ لأنه بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته يرتاح الناس من ذلك الموقف العظيم الذي لا يُتَصوَّرْ ولا يَعرف هوله إلا من قام فيه، أعاننا الله ? على كرباته وأمننا وإياكم من الفزع الأكبر. 2- ثانياًً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر: وهذه قد جاء بها الدليل الخاص في قوله صلى الله عليه وسلم «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (2) . وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له (يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟) فقال صلى الله عليه وسلم «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (3) خَرَّجَاه في الصحيحين، فقوله «أسعد الناس بشفاعتي» يعني سعيد الناس بشفاعتي، فـ «أسعد» أَفْعَل على غير بابها بمعنى (فَعِيل) ، يعني سعيد الناس بشفاعتي كما قال سبحانه {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] ، ليس معناه أنهم أحسن مقيلاً من أهل النار، فيشترك أهل النار معهم في حُسْنِ مقيل، بل معنى قوله {أَحْسَنُ مَقِيلًا} يعني حَسَنٌ مقيلهم. فأفعل ليس على بابها في المفاضلة؛ ولكنها بمعنى المصدر يعني حَسَنٌ مقيلهم، سعيد الناس بشفاعتي ونحو ذلك. وهذه الشفاعة لأهل الكبائر لها نوعان؛ يعني لعموم اللفظ «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» نوعان: أ - النوع الأول: قومٍ أَهْلُ كبائر رَجحت سيئاتهم على حسناتهم، فأُمِرَ بهم إلى النار فيَشفع فيهم صلى الله عليه وسلم في أن لا يدخلوا النار، فيُشفَّع فيهم صلى الله عليه وسلم. ب - النوع الثاني: في أقوامٍ دخلوا النار فيشفع فيهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منها، فيخرجون منها كأنهم الحِمَمْ فيوضعون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في جانب السيل. 3 - ثالثاً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أن يدخل أقوام الجنة بغير حساب ولا عذاب: وهذه يُستدلّ لها بقول عُكَّاشة في حديثه (يا رسول الله أدعوا الله أن يجعلني منهم) قال (أنت منهم) (4) . 4 - رابعاً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات بعض أهل الجنة: وهذه يذكرها أهل العلم، ولم يورِدُوا عليها دليلاً بيِّنا، وهي شفاعة متفق عليها حتى عند أهل البدع. فيُسْتَدَلُّ لها: @ بالإتفاق. @ بما استدل به ابن القيم رحمه الله في شرحه على تهذيب سنن أبي داوود حيث قال (ويستدل لها بقوله صلى الله عليه وسلم لما صلى على أبي سلمة «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين» (5) . فقوله «وارفع درجته» دعاء في الدنيا له وهذا معنى الشفاعة) .   (1) البخاري (3340) مسلم (501) / الترمذي (2434) / ابن ماجه (4312) (2) أبو داود (4739) / الترمذي (2435) (3) البخاري (99) (4) البخاري (5752) / مسلم (549) / الترمذي (2446) (5) مسلم (2169) / أبو داود (3118) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 5- خامساً شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم وصاروا على الأعراف، في أن يعفوا الله ? عنهم ويُدخلهم الجنة: فهؤلاء يدخلون في عموم قوله ? {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] ، على أحد أوجه التفسير من أنَّ أصحاب الأعراف هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيُجعلون على رأس جبل بين الجنة والنار لأجل التساوي، إذا نظروا يمنة إلى الجنة سُرُّوا، وإذا نظروا شمالا إلى النار خافوا، فَيُشَفَّعْ فيهم صلى الله عليه وسلم إكراماً له في أن يجعلهم الله ? من أهل الجنة. 6 - سادساً شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة: فإنَّ الناس إذا جاوزوا الصراط يُحبسون في عرصات الجنة مدة، ثم يأتي صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة فيُفتح له، ويسأل الله ? قبل ذلك أن يأذن لأهل الجنة بدخولها، فيدخلون برحمة الله ?، ثم بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مُشَفَّع؛ يعني من حيث الجنس هو أول شافع وأول مُشَفَّع. 7 - سابعاً شفاعته صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عمِّه في أن يخفف الله ? عنه العذاب: فيُشَفَّع فيه فيكون في ضحضاح من نار نعلاه من نار يغلي منهما دماغه، نعوذ بالله من عذابه. هذه سبعة أنواع وبعض أهل العلم يجعلها ثمانية؛ لأجل أنَّ أهل الكبائر -كما ذكرنا لكم- نوعان، فيجعل شفاعته لأهل الكبائر يعدها نوعين من الشفاعة، وهي واحدة لأن الدليل فيها واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [المسألة الخامسة] : الشفاعة يوم القيامة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنبياء؛ بل تَشفع الملائكة ويَشفع المؤمنون بدرجاتهم: (العلماء والشهداء والصالحون يشفعون) ؛ كما ثبت في الصحيح أنَّ الله ? يقول يوم القيامة «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيأمر الله ? بأقوام في النار لم يعلموا خيرا قط أن يخرجوا» (1) إلى آخر الحديث؛ يعني أنَّ الشفاعة ليست خاصة بالأنبياء بل الملائكة تشفع كما قال ? في وصف الملائكة من حملة العرش وغيرهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5] ، وهذا استغفار قبل معاينة المصير والعذاب، وهم أرحم ومُتَوَلِّيْنَ لأهل الإيمان إذا رأوا العذاب ورأوا المصير. قال «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون» فإذاً الشفاعة عامة فكل مؤمن صالح يشفع؛ يشفع في قريبه، يشفع في من شاء.   (1) مسلم (472) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [المسألة السادسة] : الشفاعة لا تنفع عند الله ? مطلقا كما قال سبحانه {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، فليس كل شافع يُشفَّع وليست كل شفاعة تُقبل بل لا تنفع الشفاعة لا من الأنبياء ولا من الملائكة إلا بوجود شرطين فيها: 1- الشرط الأول: أي يأذن الله للشافع أن يشفع. 2- الشرط الثاني: رضا الرحمن أعن المشفوع له. كما قال سبحانه {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] ، وقال سبحانه {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] ، يعني فيمن تنفعه الشفاعة. لهذا قال العلماء يُشترط لحصول الشفاعة وقبولها: 1 - إذن الله جل جلاله 2 - الرضا. أ - أولاً: إذن الرحمن جل جلاله. المقصود بالإذن: الإذن الشرعي والإذن الكوني. فإنَّ العبد لا يبتدئ بالشفاعة كونَاً إلا بعد أن يشاء الله ? أن تقع منه الشفاعة كونَاً؛ يعني في الدنيا وفي الآخرة. وكذلك لا بد لتحقيق هذا الشرط من الإذن الشرعي، فإذا شفع في من لم يُؤْذَنْ شرعاً بالشفاعة فيه، فإن الشفاعة لا تُقْبَلْ. مثاله شفاعة إبراهيم في أبيه قال {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] فلم تنفعه، وقال سبحانه في حقه {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] ، فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه. كذلك شفع نوح عليه السلام في ابنه {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] فأجابه الرحمن ? فـ {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] . وكذلك شَفَعَ النبي صلى الله عليه وسلم في عمِّه وقال «لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عن ذلك» (1) ، فنزل قول الله ? {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] . فإذاً: ولو وقعت الشفاعة بإذن الله الكوني فإنها لا تنفع حتى يكون إذن الله الشرعي؛ يعني حتى تكون الشفاعة موافِقَةً للشرع. موافِقَةً للشرع يعني الإذن الشرعي في صفتها وفي المشفوع له وفيما يكون في ذلك، وهذا الشرط مهم فيما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ب - ثانياً الرضا: كما قال سبحانه {وَيَرْضَى} [النجم:26] ، وقال ? في سورة الأنبياء في ذكر الملائكة {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ، هذا الرضا هو: - رضا الله ? عن الشافع. … - رضا الله ? عن المشفوع له. @ فرضا الله عن الشافع في قوله {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] . @ ورضا الله عن المشفوع له في قوله {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} ، وآية النجم في قوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] كذلك. إذاً فالرضا شرط: 1 - رضاه سبحانه عن الشافع، ولذلك الكافر لا يشفع. … 2 - رضا الله ? عن المشفوع له. * ويرد على هذا شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فهي مستثناة من هذا الشرط لأجل أنَّ الله ? رضي نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فحصل من أبي طالب مِنَ الفعل ما فيه نوع رضا لله ? عن الفعل لا عن الفاعل. فإذاً هو إيراد على الشرط، والجواب أنَّ هذا استثناء وسبب الاستثناء ما ذُكِر.   (1) البخاري (3884) / مسلم (141) / النسائي (2035) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [المسألة السابعة] : أنَّ الشفاعة من المباحث العظيمة التي ضلَّ فيها فئام من الناس. فضلت النصارى فيها، وضل مشركو العرب فيها، وضلّ مشابهو مشركي العرب من الذين يغلون في الأولياء والأنبياء والقبور فضلوا فيها، والجميع لسانهم قول المشركين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] . ولهذا الشفاعة كما ذكرت لك لها جهتان في بحثها: 1 - جهة تتعلق بالعقيدة والآخرة؛ وهي ما قدمنا ملخصاً ومختصراً في يوم القيامة. 2 - جهة تتعلق بما يتصل بتوحيد العبادة وطلب الشفاعة من الأموات. وتحقيقا لذلك المقام فنقول: إنّ طلب الشّفاعة من الإنسان أو من المخلوق هذه منقسمة إلى قسمين: & الأولى شفاعة أَذِنَ بها الشرع. & الثانية: شفاعة نهى عنها الشّرع. ?@ أما التي أذن بها الشرع فهي طلب الشفاعة ممن يملكها ويستطيع أداءَها وهو الحيّ الحاضر الذي يسمع، ولهذا سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلمأن يشفع لهم في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه حي حاضر يسمع. وقد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لما جاءت المجاعة وأصاب الناس الكرب في عام الرَّمادة أنه قال لما استسقى بالناس (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا بنبيك، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك اللهم فأسقنا، يا عباس قم فأدعُ ربَّك) (1) . فدل هذا على أنهم كانوا يطلبون الشفاعة من النّبي صلى الله عليه وسلم. وطلب الشفاعة منه في حياته بمعنى طلب أن يدعو لهم ربّه أ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعواته الأصل فيها أنها مجابة، وقد يُرَدُّ بعضها لحكمة الله ?. @ وأما التي نهى عنها الشرع فهو طلب الشفاعة من المخلوق الذي ليس بحي -ميت- أو هو غائب فإنه شرك بالله جل جلاله. لماذا؟ لأنه طلب؛ لأنَّ حقيقة الشفاعة دعاء وطلب، فإذا سأل غيره الشفاعة، فهو سأل وطلب من المسؤول أن يسأل. فإذاً حقيقة طلب الشفاعة أنها دعاء، ولذلك من طلب من الميت أن يدعو له، فإنه يدخل في عموم نصوص الدّعاء؛ لأنّ الطّلب دعاء. ولهذا نقول: كل طلبِ شفاعة من الأموات أو الغائبين ممن لا يملكها أو لا يستطيعها أو لم يُؤذن له فيها شرعا في حياة البرزخ فإنّ هذه من الشرك بالله جل جلاله. لكنّ الشُّبْهَة في الشفاعة كبيرة وتحتاج إلى إقامة الحجة على المخالف أكثر من غيرها من مسائل العقيدة. المشركون لم يكونوا يطلبون من آلهتهم الدّعاء، لم يكونوا يطلبون من أوثانهم لتشفع ولكن كانوا يتقربون إليها لتشفع. فإذاً صورة طلب الشفاعة من الميّت محدثة. ولهذا يُعَبِّر كثير من أهل العلم عن طلب الشفاعة من الأموات بأنها بدعة محدثة؛ لأنّها لم تكن فيما قبل الزمان الذي أُحدثت فيه تلك المحدثات في هذه الأمة. فإذاً تعبير بعض أهل العلم عنها بأنها بدعة، لا يعني أنها ليست بشرك؛ لأنَّ البِدَعَ منها ما هو كفري شركي ومنها ما هو دون ذلك. تفاصيل مسألة الشفاعة من حيث تعلقها بتوحيد الإلهية مبسوط في شرح كتاب التوحيد كما هو معروف، والمقام في شرح العقيدة العامة لا يتسع لتفصيل الكلام على ذلك.   (1) ابن خزيمة (1421) / ابن حبان (2861) / المستدرك (5438) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 [المسألة الثامنة] : احتج المعارض والمخالف من المعتزلة والخوارج في أنَّ الشفاعة لأهل الكبائر لا تنفع، الشفاعة لمن في النار لا تنفع، بقول الله ? {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] . ووجه الاستدلال عندهم من الآية أنَّهُ قال {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بالجمع، والذين يشفعون يوم القيامة هم الذين أذن الله لهم بالشفاعة وهم الأنبياء والمؤمنون، قالوا: فدلت الآية على أنَّ من في النار لا تنفعه الشفاعة -شفاعة الشافعين-، لأجل عموم لفظ الشافعين فهو عام في كل من يشفع. والجواب عن ذلك: 1- أولاً: أنَّ هذه الآية جاءت في سياق ذكر الكفار وأنهم في النار، فقال ? {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48] ، فقوله {فَمَا} الفاء هنا ترتيبية تُرَتِّبُ النتيجة التي بعدها على الوصف الذي قبلها، والوصف الذي قبلها في الكافرين الذين وصفهم بقوله {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ووصفهم بقوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهؤلاء هم الكفار. والمسألة التي هي الشفاعة لأهل الكبائر هي في مَنْ كان مسلماً، أما المكذّب بيوم الدين والذي لم يصحَّ إسلامُه فإنه ليس هو محل البحث. فإذاً استدلالهم بالآية في غير محله؛ لأنَّ الآية يقول بها من يثبت الشفاعة لأهل الكبائر في أنَّ المشركين ولو شفع بعضهم لبعض وظنوا أنَّ آلهتهم تشفع فما تنفعهم شفاعة الشافعين؛ لأنهم مشركون كفرة، والكافر لم يرضَ الله ? عنه، ومن شرط الشفاعة الرضا. فلو شفع على فرض أنَّ أحداً شفع لهم من أقربائهم فإنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، والله سبحانه إنما تنفع الشفاعة عنده لمن يأذن الله ? له ولمن يرضى. 2 - ثانياً: أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» هذه نص وليست بالظاهر؛ يعني لا يحتمل التأويل، وكذلك قوله «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ومن نفسه» (1) هذا فيه ظهور في الدلالة؛ لأنها تعم من قال لا إله إلا الله مخلصاً وصاحب الكبيرة قالها، وقد قال صلى الله عليه وسلم «أسعد الناس بشفاعتي من قال» يعني الذي قال ومن المقرر أنَّ الاسم الموصول في العربية وعند الأصوليين يعم ما كان في حيِّزِ صلته بظهورٍ في العموم. ولهذا نقول: إنَّ من مَنَعَ الشفاعة لأهل الكبائر من المعتزلة والخوارج هذا لأجل مذهبهم الرّديء في أنَّ فِعْلَ الكبيرة كُفْرْ وأنه يوم القيامة يكون من أهل النار والعياذ بالله، وهذا باطل كما هو مقرّر في موضعه من مباحث الأسماء والأحكام في الإيمان.   (1) سبق ذكره مع ما قبله (203) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 [المسألة التاسعة] : أنّ الشارح ابن أبي العز رحمه الله في شرحه ذَكَرَ في هذا الموضع مسائل التوسّل بالجاه والتوسّل بالحق -يعني قول القائل: (بحق فلان) ، (بحق نبيك) ، (بحق عمر) ونحو ذلك، والتوسل بجاه فلان- وبَحَثَهَا بحثاً جيدا مُلَخَصاً من كتاب التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فلابد من الإطلاع على ذلك الكلام، ومراجعة كتاب التوسل والوسيلة؛ لأنَّ لفظ التوسل يشتبه بالشفاعة، فبعضهم يجعل (أتوسّل إليك) بمعنى الشفاعة، فيكون توسلاً متضمناً الشفاعة أو متضمناً التّشفع أو طلب التشفع. ولهذا في قول القائل: أسألك بحق فلان، هذا فيه تفصيل ويُرْجَعْ فيه إلى شرح الطحاوية وإلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا يناسب المتن؛ يعني لفظ الشفاعة التي ذكرها الطّحاوي رحمه الله، فهي فائدة استطرادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 [المسألة العاشرة] : (1) الأسباب التي بها يُحَصِّل المرء المسلم شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم جاءت بها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونذكر منها سببين: 1- السبب الأول: وهو أعظم الأسباب وأرجاها وهو التوحيد وإخلاص الدين والعمل لله جل جلاله وإسلام الوجه لله عز وجل. وهذا قد دلَّ عليه ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم له «لقد علمت أن لن يسألني أحد عن هذا قبلك أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (2) ، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «لكل نبي دعوة مجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي مدركة منهم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ونفسه» (3) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. 2- السبب الثاني: متابعة المؤذن فيما يقول كما دل عليه الحديث الذي رواه البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال «من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن، ثم قال اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة» (4) . فمن أسباب نيل شفاعته صلى الله عليه وسلم متابعة المؤذن بإخلاص وصدق؛ لأنّ ذلك دالٌّ على التوحيد وعلى الاستسلام لله ? في شرعه وأمره، فيقول مثل ما يقول المؤذن، ثم إذا ختم لا إله إلا الله قال مثل ما يقول ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. وهنا فيه زيادات مروية في بعض الروايات في دعاء مجيب المؤذن منها: آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة (والدرجة العالية الرفيعة) ، وهذه الزيادة ضعيفة. وكذلك زيادة أخرى: وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته (إنك لا تخلف الميعاد) . وهذه رواها البخاري في صحيحه في رواية الكُشْمَيْهَنِي وهي عند المحققين شاذة لا تصحّ عن البخاري لمخالفة الكُشْمَيْهَنِي لجميع رواة الصحيح. وثَمَّ أسباب أخرى تجمعونها إن شاء الله تعالى فإنها من نفيس العلم جعلني الله وإياكم ممن ينال هذا الحظ العظيم وهو شفاعته صلى الله عليه وسلم. لعلّ في هذا القدر كفاية.   (1) هذه المسألة نسي الشيخ ذكرها في هذا الموضع ثم نَبَّهَ عليها في الشريط الـ 16 (2) سبق ذكره (203) (3) سبق ذكره (199) (4) البخاري (614) / أبو داود (529) / الترمذي (211) / النسائي (680) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الأسئلة : س1/ يقول الحديث الوارد في شرح ابن أبي العز للطحاوية في موضوع الشفاعة فيه خلط بين أنواع الشفاعة، ثم لو أراد شخص الاستزادة هل يرجع إلى هذه الكتب؟ ج/ الحمد لله مسألة الشفاعة ليست من المسائل الغامضة أو العزيزة، هي موجودة في كل كتب العقيدة؛ لكن من حيث الحديث الذي ورد حديث الشفاعة الطويل كلام ابن أبي العز عليه حسن فيُرْجَعْ إليه. س2/ ما حكم قول من قال لمن ذهب إلى الغزو: إن استشهدت فاجعلني من السبعين الذين تشفع لهم. وهل إذا قُتل يكون شهيدا؟ ج/ الله المستعان، كما جاء في البخاري أنَّ عمر رضي الله عنه لمَّا كَثُرَ قول الناس في ذلك، لما رجعوا من معاركهم يقول (تقولون فلان شهيد وفلان شهيد، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله، والله أعلم بمن يُستشهد في سبيله) (1) . فالمسألة عسيرة ولذلك لا يقال لأحد إنه شهيد، الشهيد فلان، هذا جزم لأنّ الشهداء معلومة منزلتهم في الأحاديث، فلا يجوز أن يقال فلان شهيد لأنه حكم له من أنه من أهل الجنة وهذا موقوف على معرفة النية والخاتمة. وقد ذُكِرَ رجل بأنه استشهد فقال صلى الله عليه وسلم في حقه «لا هو في النار» (2) فلما رأوا إذا هو قد غلَّ شَمْلَةْ، نسأل الله العافية. وما أحسن قول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه لما رأى الناس وما توسعوا فيه قال (إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نَعُدُّها على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) (3) . والناس لا يتوسعون في الألفاظ خاصة العالم، طالب العلم ما يتلاعب بالألفاظ الشرعية بالمدح؛ لأنه بالتلاعب بالألفاظ تذهب معالم الدين وتذهب حراسته، فلابد لطالب العلم أن يكون حريصاً على ألفاظه حتى يسلم أولاً وحتى لا ينشر شراً بالألفاظ، ولهذا صار من علامات يوم القيامة أو مما يكون قرب الساعة أن يُقَالَ فلان أمين فلان فيه كذا فيه كذا من أنواع المدح، كما جاء في الحديث «فلان أمين ما أجلده ما أظرفه وليس في قلبه من الإيمان حبة خرذل» (4) . فالثناء يكون بما فيه إذا أراد المرء أن يُثني على أحد يكون بما فيه وبما لا يتضمن محظوراً شرعياً؛ لأنّ الثناء على المرء بما فيه يشجّع ويحثّ المرء به الآخرين على الخير وينتشر الخير، ولكن لا يكون في وجهه حتى لا يكون مدحا إلا لمصلحة شرعية. ولهذا ينبغي على طلاّب العلم ألا يتوسّعوا في الألفاظ الخادشة بالشرع أو التي ليس لها أصل في الشرع أو التي فيها مؤاخذة في الاعتقاد كلفظ الشهيد، الشهيد فلان، الشهيد فلان، والله المستعان. س3/ هل يشفع الغريق والمحروق بسبعين من أهل بيته؟ ج/ لا أعلم. س4/ ذكر بعض أهل العلم أنَّ من أنواع الشفاعة: الشفاعة بأقوام استحقوا النار بأن لا يدخلوها، فما الدليل على هذا النوع من أنواع الشفاعة؟ ج/ الدليل «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» ، بعض أهل العلم قال وهذا النوع لا دليل عليه؛ لكن هذا ليس بصحيح، لأن قوله صلى الله عليه وسلم «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» هذا يعم نوعي أهل الكبائر فيمن استحق النار وفيمن دخل النار، ولذلك جعلتهم لك في التقسيم في نوع واحد، في جعلتها لك في أحد (5) أنواع الشفاعة لأجل أن الدليل واحد في النوعين معا. س5/ ما توجيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث «أسألك بحق السائلين عليك» (6) ؟ ج/ هذا ذكره الشارح والبحث فيه معروف، وخلاصة الكلام أنَّ دعاء الخارج إلى المسجد في قوله أسألك بحق السائلين عليك في الحديث المعروف الذي رواه ابن ماجه وغيره بإسناد ضعيف وحسَّنَهُ بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر وغيره، معنى «أسألك بحق السائلين عليك» يعني أسألك بصفة الإجابة أسألك بصفة إجابتك للسائل؛ لأن حق السائل على الله ? أن يجيبه أو أن يثيبه، كما قال سبحانه {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الدعاء: - منه دعاء مسألة. - ومنه دعاء عبادة. {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} في دعاء المسألة بإعطائكم السؤال. و {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} في دعاء العبادة بالإثابة. ولهذا قول القائل: «أسألك بحق السائلين عليك» حق السائلين صفة الله ? وهي إثابتهم أو إجابتهم. فإذاً هو سأل بصفة من الصفات، والسؤال بالصفة جائز. س6/ ما رأيك في من يقول إن شروط طلب الشفاعة أن يكون حاضراً حيّاً قادراً، وأنها تتوفر في الجن، وكيف نرد على ذلك؟ ج/ هذا ربما أنه من أصحاب الجن؛ لأنه إذا كان عَلِمْ أنه حاضر وحي، كيف علم أنه قادر؟ ثم كيف علم أنَّهُ مسلم؟ لأنَّ الجن عند أهل العلم خبرهم ضعيف وشهادتهم غير مقبولة.   (1) النسائي (3349) / المسند (285) / المستدرك (2521) (2) البخاري (2898) مسلم (320) (3) البخاري (6492) / المسند (12625) (4) البخاري (6497) / مسلم (384) / الترمذي (2179) / ابن ماجه (4053) (5) وهو النوع الثاني من الشفاعة في المسألة الرابعة. (6) ابن ماجه (778) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولهذا الأحاديث التي يرويها أهل العلم وفي إسنادها جني عندهم ضعيفة كما هو معروف في مصطلح الحديث. كذلك قَبول الخبر -فضلاً عن الشفاعة- متوقّف على معرفة العدالة، والجني إنما يُسْمَعُ صوته عند من سمع صوته ولا يعرف عدالته، وقول القائل أنا مسلم وأنا أشهد، يعني لو قال الجني خاطبه بهذا الكلام، فإنه لا يعني أنه صادق في ذلك؛ لأنه تراه في الإنس يقول كذا وهو كاذب، فإذا كان شيطاناً فإنه قد يكذب في ذلك. لهذا نقول: قبول قول الجني في هذه الأشياء متوقّف على القول بعدالته، والعدالة مبنية على الرؤية والمشاهدة، وهذه غير حاصلة، فلذلك لا يؤخذ بقول الجن ولا بشهادتهم، نعم قد يكون خبرهم خبراً من الأخبار التي يُتَثَبَتْ منها كما يقال، يعني قيل لا يعتمد ولا يؤخذ به. هذا في مسألة قبول الخبر. فكيف بأن تُطْلَبْ منه الشفاعة؟ فإذا كان طلب الشفاعة من الإنسان فيها ما فيها، فكيف تطلب من جني لا يُرى ولا يُعرف حاله، لا شك أن هذا من وسائل الشرك ومن ذرائع التعلق بالجن والغائبين. نسأل الله ? أن يعيذني وإياكم من مضلات الفتن، ومما يقرب إلى مساخطه، وأن يوفقنا إلى ما فيه رضاه، وأن يشرح صدورنا لطاعته، وأن يُعلي مقامنا في الجنة إنّه جواد كريم. كما أسأل المولى جل جلاله أن لا يحرمنا شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا ممن حظي بها ومُنَّ عليه بها. اللهم فاغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا واجعلنا من الصّالحين وثبت أقدامنا إنك على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (1)   (1) انتهى الشريط الخامس عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 : [[الشريط السادس عشر]] : الحمد لله رب العالمين وولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليما كثيرا. نجيب على بعض الأسئلة فيما يجتمع الإخوة. الأسئلة: س1/ هل يجوز لعن من فيه نَصٌّ بدخول النار كقاتل الزبير بن العوام رضي الله عنه، هذا إن صَحَّ حديث «بشّر قاتل ابن صفية بالنار» (1) ، إلى آخره؟ ج/ هذه المسألة مبنية على حكم اللعن، وهل يجوز للمسلم أن يلعن أم لا؟ واللعن: - إما أن يكون لمسلم، يعني أن يلعن مسلمٌ مُسْلِمَاً. - وإما أن يلعن المسلم كافِرَاً. فهاتان مسألتان. ولعْن المسلم اختلف فيه أهل العلم؛ هل يجوز لعْن المسلم الذي ارتكب شيئا يستحق به اللعن أم لا؟ على أقوال. والصحيح منها أنّ اللعن يجوز أن يتوجه للجنس لا للمُعَيَّنِ من المسلمين، فلا يجوز أن يَلعَنَ مُسْلِمٌ مُسْلِماً معيّنا، ولو كان قد فعل كبيرة أو كان فَعَلَ أو كان كاذباً أو كان ظالماً ونحو ذلك، فلا يجوز أن يُلعَنَ المسلم، واستدلّوا على ذلك بقول الصحابة لرجل كان يشرب الخمر وجُلِدَ مرة ومرتين، ثم لما أوتي به بعد ذلك قال أحدهم (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به) فقال صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا هذا فإنه يحب الله ورسوله» (2) فدل هذا على أنَّ المسلم المعين الذي يشرب الخمر لا يُلعن مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعن الجنس فَلَعَنَ في الخمر عشرة؛ لعن شاربها وساقيها إلى آخره، فدلَّ على التفريق ما بين الجنس وما بين المعين، وهذا من مثل الآيات التي في هذا الباب {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78-79] ، فالذي لا يتناهى عن المنكر من المسلمين لا يُلعن بعينيه وإنما قد يُلعن بوصفه، وكذلك أشباه هذه لعنة الظالم ولعنة الكاذب إلى آخره. فإذاً هذا النوع وهو لعن مسلم مسلماً فإنه لا يجوز لعن المعين؛ لكن قد يُلعن الصفة، يُلعن الجنس كما لَعن الله ? ولعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك لعن الكاسيات العاريات وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حقهن «أينما لقيتموهن فالعنوهن فإنهن ملعونات» (3) ، هذا لعنٌ للجنس، والقاعدة منطبقة عليه لأنَّ المرء لا يجوز أن يلعن مُعَيَّنَة مسلمة لكونها كاسية عارية، فقوله «أينما لقيتموهن فالعنوهن» يعني لعن الجنس لا لعن المعينة، مثل لعن شارب الخمر ولعن المرابي وأشباه ذلك. أما المسألة الثانية وهي لعن مُسْلِمٍ كافراً فالعلماء اختلفوا فيها على قولين: 1- القول الأول: جواز أن يُلعن الكافر المعين؛ لأنَّ الكافر المعين ليس له حق وعِرضه غير مصان؛ ولأنَّ معنى اللعن طلب الطرد والإبعاد من رحمة الله وهو متحقق في الكافر، فجاز عند هؤلاء أن يَلْعَنُ المسلم الكافر المعين كما يلعن جنس الكفرة، واستدلوا لذلك أيضا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أقواما بعينهم من كفار قريش. (4)   (1) المسند (681) / المستدرك (5580) (2) البخاري (6780) (3) المسند (7083) / ابن حبان (5753) / المستدرك (8346) (4) لما رواه البخاري (240) وغيرخ من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ا (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّى عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيُّكُمْ يَجِىءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِى فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ، لاَ أُغَيِّرُ شَيْئاً، لَوْ كَانَ لِى مَنْعَةٌ. قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ - قَالَ وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِى ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ - ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِى جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ» . وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْهُ قَالَ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْعَى فِى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 2- القول الثاني: وهو الصحيح أنَّ الكافر أيضا لا يُلْعَنْ بعينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن أقواما نزل قول الله ? في حقهم {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يلعن؛ ولأنَّ اللَّعَّانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، يعني من جرى اللعن على ألسنتهم. وكذلك يدل عليه أيضا -يعني على امتناع لعن الكافر المعين- أنَّ السنة لم تأتِ به، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يلعن كافرا بعينه إلا هؤلاء ونزل فيهم قول الله ? {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، لهذا قال طائفة من العلماء: إنّ لعن الكافر المعين منسوخ بهذه الآية. ويلحق ببحث لعن الكافر لعن الشيطان أو لعن إبليس، وهذا أيضا اختلف فيه أهل العلم على قولين: 1- القول الأول: منهم من أجاز لعنه بعينه لقول الله ? {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117-118] ، وما جاء في الآيات في لعن إبليس وطرده عن رحمة الله ?. 2- القول الثاني: أنه لا يُلْعَنْ إبليس ولا الشيطان لما صَحَّ في الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن الشيطان أو عن لعن إبليس وقال «لا تلعنوه فإنه يتعاظم» (1) رواه تمَّام في فوائده وغيره بإسناد جيد، قالوا: فهذا يدل على النهي عن اللّعن، وهذا متّجه في أنَّ اللعن عموماً في القاعدة الشرعية أنَّ المسلم لا يلعن؛ لأنّ اللعن منهي عنه المؤمن بعامة، ومن أعظم ما يكون أثراً للعن أنَّ اللَّعان لا يكون شفيعاً ولا شهيداً يوم القيامة. والمسألة فيها أيضاً مزيد بحث فيما جرى من لعن يزيد، ولعن بعض المعينين؛ ولكن الإمام أحمد لما سئل عن حال يزيد قال: أليس هو الذي فعل بأهل المدينة يوم الحرة ما فعل، أليس هو كذا؟ فقال له: لم لا تلعنه؟ فقال: وهل رأيت أباك يلعن أحداً. وهذا يدل على أنَّ ترك اللعن من صفات الأتقياء، وأنَّ اللَّعن من صفات من دونهم إذا كان في حقّ من يجوز لعنه عند بعض العلماء، أما لعن من لا يستحق اللعن فهذا يعود على صاحبه؛ يعني من لَعَنَ من لا يستحق اللعن عادت اللعنة؛ يعني الدعاء بالطرد والإبعاد من رحمة الله على اللاعن والعياذ بالله.   (1) المسند (23141) / شعب الإيمان (5184) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ.   قال رحمه الله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ) . (الْمِيثَاقُ) يُذْكَرُ في بعض كتب العقائد لا في كلِّها؛ بل كثيرٍ منها أو الأكثر لا يذكرون مسألة الميثاق. والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته متّصل بمسألة القَدَرْ؛ بل هو مبحوث في القَدَرْ، ولذلك لا يستقل بحثُهُ عن مسألة القَدَرْ؛ بل هو مرتبط بالقَدَرْ، وذلك أنَّ الروايات والأحاديث التي فيها أخْذُ الميثاق من آدم وذريتِه فيها أنّه جعل فئة إلى الجنة وفئة إلى النار وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل فيم العمل؟ فقال «اعملوا فكل ميسر لما خُلِقَ له» (1) ونحو ذلك. فالأحاديث الصحيحة التي فيها ذِكْرُ الميثاق متصلة بالقَدَرْ وليس فيها تقرير لمسألة الميثاق في نفسه بكونه أمراً غيبياً أو لكونه حجةً على العباد دون مسألة القَدَرْ؛ بل هي المراد بها القَدَرْ. ولذلك الطحاوي رحمه الله جعل مسألة الميثاق مقدمة لبحثه في القدر؛ فقال (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ.) فهذا العلم مذكور في أحاديث الميثاق. هذا الميثاق من الأمور الغيبية والاعتقاد؛ اعتقاد ذلك موافقٌ أو مُرَتَبٌ على معرفة ما جاءت به السنة. وأما القرآن الكريم فليس فيه ذِكْرٌ للميثاق الذي أخذه الله ? من آدم وذريته، وإنما جاء ذلك في عددٍ من الأحاديث في الصحيحين وفي غيرهما. ومسألة الميثاق من المسائل التي يتَّفِقُ عليها أرباب الفِرَقْ المختلفة، فلا خلاف في أنّ الميثاق أُخِذْ؛ لكن كيف يُفَسَّر؟ يختلفون فيه كما سيأتي. فإذا ً قوله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ) يعني أنَّهُ ثابِتٌ، وأنَّ هذا جاءت به الأدلة الصحيحة، وأننا نؤمن بذلك، وأنَّ الله ألمَّا أخذ الميثاق جعل الذّرية إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في النار، وأنَّ الرّب أمضت حكمته في استخراج ذرّية آدم من ظهره كأمثال الذَّرْ وجَعْلْ فريق في الجنة وفريق في النار. إذا تبين هذا الأصل العظيم فإنَّ هذه المسألة -وهي مسألة الميثاق- مما يَختلف فيها فَهْمُ أهل العلم جدًّا حتى إنك لا تجد فيها قولاً واضحاً واحداً لأهل السنة والجماعة ولا لغيرهم؛ فما من فرقة إلا ولهم أقوال مختلفة في مسألة الميثاق. وكذلك أهل السنة والجماعة اختلفوا جداً في مسألة الميثاق مع اتفاقهم على حصول الاستخراج من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليه. إذا تبين هذا الإجمال في هذه المسألة المُشْكِلَة فإنَّ بحثها يكون في مسائل:   (1) البخاري (4945) / مسلم (6901) / أبو داود (4694) / الترمذي (2136) / ابن ماجه (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 [المسألة الأولى] : الميثاق ذُكِرَ في القرآن بمعنى العهد الشديد المؤكد كما في قوله سبحانه {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84] ، وكما في قوله أ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ، والآيات في ذكر الميثاق متنوّعة كثيرة. ومعنى الميثاق هو العهد الشّديد المؤكّد ومنه قوله ? في سورة يوسف {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ} ؛ يعني عهدا شديدا مؤكّدا من الله ? تُشهِدُون عليه ربّنا، تشهدون عليه الله {لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 [المسألة الثانية] : أنَّ الميثاق الذي أُخِذَ من آدم معناه على ما جاء في بعض الأحاديث: أنَّ الله ? استخرج ذرية آدم من ظهره؛ استخرج صورهم، وأنَّ هذا الاستخراج لأجل ظهور عِلْمِ الله ? فيهم ولأجْلِ أخْذ العهد عليهم بما يشاؤه الله ?. والأحاديث في هذا متعارضة متنوعة مختلفة، لهذا يُدْخِلُ أهل العلم تارَةً في بحث الميثاق دليل من القرآن على ذلك -وهو ليس بدليل في المسألة- وهو قول الله ? {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:172-174] ، فيجعلون هذه الآية لأجل اختلاف الأحاديث وتنوع العبارات فيها يجعلونها من أدلة هذا الميثاق. وسيأتي بيان أنَّ هذا ليس بصحيح، وأنّ الميثاق الذي أخذه الله من آدم وذريته لا دليل عليه من القرآن. الأحاديث تحتاج إلى عناية وإلى جمع، والاختلاف فيها كما ذكرنا والاضطراب والشذوذ كثير، فلعله أن يُجمَعْ ما صَحَّ من ذلك في الصحيحين ويُطَّرح الضعيف أو المضطرب أو المختلف، مع أنَّ كثيراً من العلماء دخل عليهم بعض تلك الألفاظ في بعض ولذلك اضطربت أقوالهم في المسألة. هذا ذكر سبب الاضطراب في هذه المسألة العظيمة. فإذاً الميثاق أمرٌ غيبي، والأخذ من آدم وذريته على ما جاء في الأحاديث حق وصواب، وأنّ هذا الميثاق لأجل مسألة القَدَرْ ولأجل العهد عليهم وهذا العهد أمر غيبي وليس متّصلاً بآية الأعراف. [المسألة الثالثة] : أنَّ آية الأعراف التي ذكرنا وهي قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} لا يصح بها الاستدلال على ما أَوْرَدَهُ هنا الطحاوي في قوله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ) . والطحاوي في كتابه مُشْكِلْ الآثار ذَهَبَ إلى تفسير الآية بالميثاق الذي أخذه ربنا من آدم وذريته، فَجَعَلَ الآية مُفَسَّرَةً بما جاء في السنة من حديث عمر وحديث ابن عباس وحديث عبد الله بن عمرو في أنَّ الميثاق مأخوذٌ من آدم وذريته تفسيراً لقول الله ? {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فقال إنّ التفسير الصحيح هو ما جاءت به السنة من أنَّ آية الأعراف هذه تُفسَّر بالميثاق وأن قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} لأنَّ آدم هو السبب فَذُكِرَ المُسَبَّبْ وهم بنو آدم ولم يذكر آدم لأنه هو السَّبَبْ كما قال ? {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] ، ويعني بذلك آدم عليه السلام {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةْ} [الأعراف:11] ، يعني آدم عليه السلام. ولأجل هذا المأخذ من الطحاوي ذكر الشارح ابن أبي العز عندك هذه الآية في أول بحثه على هذه المسألة لأجل أنَّ الطحاوي نفسه ولأنَّ كثيرين جداً من أهل العلم يوردون الآية دليلاً. وهذا الاستدلال من الطحاوي المُصَنِّفْ ومن عدد كثير من أهل العلم فيه نظر على هذه المسألة. فالميثاق كما ذكرنا أمرٌ غيبي، وأما الآية فليس فيها ذكر الميثاق بل قال الله ? فيها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فهذا الذي في الآية: 1 - أنَّ الله سبحانه أَخَذَ من بني آدم ولم يأخذ من آدم. 2 - وأَخَذَ من الظهور على صفة الجمع ولم يأخذ من الظهر -ظهر آدم-. 3 - وأنه أشْهَدَ بعضهم على بعض {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} وهذا ليس موجوداً في مسألة الميثاق. 4 - وأنَّ هذا الاشهاد هو متعلق بمسألة الربوبية {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وأنهم أجابوا بـ {بَلَى} . * لهذا نقول: إنَّ الآية ليس فيها مسألة الميثاق، وإنما دَلَّهُمْ على أنَّها مسألة الميثاق وجعلوها دليلاً على تلك المسألة ورتَّبوا عليها أشياء لأجل أمور: @ الأمر الأول: أن الصيغة متشابهة {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وأنَّهُ جاء في الأدلة في السنة أنَّ الله سبحانه أخرج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرْ، فلما جاء هنا ذِكْرُ الظهر والاستخراج فجعلوا هذا تفسيراً لهذا كما ذكرت لكم من كلام الطحاوي ومن كلام كثيرين من أهل العلم من السلف والخلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 @ الأمر الثاني: لأجل الربط ما بين الآية وبين مسألة الميثاق أنَّهُ قال {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} والإشهاد معناه الشهادة وهذا يقتضي أن يكون الاستخراج على ما جاء في الأحاديث وأنَّ الله خاطبهم وأنهم ردوا عليه إلى آخره. @ الأمر الثالث: هو أنَّهُمْ أجابوه بالقول {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وهذا صريح في القول دون غيره. * والجواب: أنَّ هذه الأمور اشتبهت على من استدل بالآية على مسألة الميثاق، والآية ليست دليلاً على مسألة الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وأَنَّ تفسير الآية اخْتُلِفَ فيه على قولين: 1 - القول الأول: هو الذي ذكرنا من أنَّ الله استَخْرَجَ من ظهر آدم ذريته إلى آخره، وجعلوا السنة تفسيراً لما جاء في الآية والآية دليلاً، فلم يُفَرِّقُوا بين هذا وهذا. 2 - والقول الثاني: وهو قول جماعات كثيرة من أهل العلم من جميع المذاهب والفِرَقْ والمحققين من أهل العلم أيضاً فقالوا إنَّ الآية تفسيرها هو: أنَّ الله أخذ من بني آدم من ظهورهم يعني: {أَخَذَ} يعني خَلَقَ وجَعَلَ، فجعلهم يتناسلون، و (أخذ بعضهم من بعض) يعني أنشأ بعضهم من بعض كما قال سبحانه {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133] . (أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) يعني بما خَلَقَ من السبب من إراقة الماء في الأرحام إلى الحمل إلى الولادة. فقوله {إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} لمَّا ذَكَرَ الربوبية هنا في الأخذ دلَّ على أنَّ معنى الأخذ هنا الخلق. قال {أَخَذَ رَبُّكَ} يعني خَلَقَ ربك. (من ظهور بني آدم ذريتهم) هذا سبك الآية {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} . فتكون {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل بعض من كل من بني آدم. {مِنْ ظُهُورِهِمْ} لأنَّ أصلاب الرجال فيها الماء فقال {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . يعني خلق الذرية من الماء الذي في ظهور الآباء. (أخذهم) يعني أخَذَ بعضهم من بعض وهذا يُطْلَقْ من هذا وهذا يوجد بسبب هذا. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (أَشْهَدَهُمْ) هنا الإشهاد في القرآن له معنيان: - إشهاد بلسان المقال بأن يَشْهَدَ بقوله (اشهد أنه كذا وكذا قولاً) . - والثاني إشهاد بلسان الحال، يعني أنَّ حالته تشهد. والإشهاد هذا بلسان الحال بمعنى ما جاء في قوله تعالى {مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهْ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِم بِالكُفْرِ} [التوبة:17] فشهودهم على أنفسهم بالكفر هو بلسان حالهم من تألِيهِهِم غير الله وعبادتهم لغير الله، أمَّا هم فلا يقولون عن أنفسهم إنهم كفار؛ بل يقولون نحن الحنفاء. وكذلك في قوله ? {إِنَّ الإْنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:6] يعني شاهد بلسان حاله بأفعاله أنه كنود جاحد لنعمة الله ?. وهذا أيضاً في مثل قول الله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ} [النساء:135] هنا {شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ} يعني بلسان الحال أو بلسان المقال. فدل إذاً على أنَّ الإشهاد في القرآن له هذان المعنيان. ولهذا لمَّا كان الإشهاد على هذين المعنيين صار تفسير الآية {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ محتمل أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال. ولمَّا كان أول الآية فيه الأخذ بالخلق صار الإشهاد على الربوبية بلسان الحال لا بلسان المقال. {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني بحالهم وما جَعَلَ الله ? فيهم، في كل الأنفس من دلائل ربوبيته ووحدانيته التي تؤدي وتدل على أنَّهُ سبحانه هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} بما جعل في أنفسهم من العبرة والدلالة على أَنَّ الذي خلقهم وفَطَرَهُمْ وأوجدهم وأبْدَعَهُم وبَرَأَهُمْ هو الله ? كما قال سبحانه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، وكما قال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . فإذاً تكون هنا الشهادة {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ حالهم وما هم مُرَكَبُونَ عليه دال على الوحدانية وأيضا جعل بعضهم دليلاً على بعض. {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} يعني جَعَلَ هذه الذّرية بعضها شاهداً على بعض بما أودع الله ? في الناس من دلائل وحدانيته وآثار ربوبيته ومعالم صنعته وبرءه ?. لهذا قاله سبحانه هنا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فذَكَرَ الربوبية التي هي الخلق وما يترتّب عليه. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} يعني أنهم جميعاً جميع هذه الذرية إذا رجعوا لدلائل الوحدانية التي يشهدونها بلسان الحال فإنهم مقرون بالربوبية. وهذا هو الذي ذَكَرَهُ الله ? عن جميع الفئات والمشركين في أنّهم مقرون بالربوبية منكرون للإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} في قوله {بَلَى شَهِدْنَا} وجهان من الوقف: - الوجه الأول: أن يُوقَفَ على {بَلَى} ثم تستأنف {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . - الوجه الثاني: أن يُوقَفَ على شهدنا {بَلَى شَهِدْنَا} ثم تقف، وتقول بعدها {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} . * والوجه الأول وهو أن يكون الوقف على {بَلَى} هذا أولى وأظهر في معنى الآية، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} . {شَهِدْنَا} هذا من كلام بعضهم لبعض يعني بلسان الحال شهادة الحال. شهد بعضهم على بعض بلسان الحال، لم؟ ليكون ذلك دليلاً من الأدلّة التي تكون دافعةً لاحتجاجهم يوم القيامة، فإنّ الله ? جعل دَفْعْ احتجاج المشركين يوم القيامة وتَنَصُّلِهِم من التّكليف ورغبتهم في عدم التّعذيب، جَعَل ثَمَّ حُجَجاً منها هذا الإشهاد؛ أنّ بعض هذه الذّرية شاهد على بعض. فهذه الآية فيها ذِكْرُ الشهداء وهم الذين يأتون يوم القيامة في قوله {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء} [الزمر:69] يشهد بعضهم على بعض بأنّ الدلائل ظاهرة وأنّكم مُقِرُّونَ بالربوبية، مُقِرُّونَ بالوحدانية، ويشهد الآباء على الأبناء، ويشهد الأبناء على الآباء، ويشهد بعضهم على بعض، حتى لا تكون ثَمَّ حجة. لكن هذه ليست الحجة التي يُحاسَبُون عليها ويُعَذَّبُونَ عليها وإنما هي دليل لقطع معذرتهم مع الدّليل الآخر وهو الأعظم وهو بعث الرسل. لهذا هذه الآية فيها ذِكْرُ دليل، وما رُتِّبَّ على هذا الإشهاد إنما هو مع بعثة الرسل. وتأمل حين قال {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من الذي شَهِدَ؟ الذرية شَهِدَ بعضهم على بعض {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} . {عَنْ هَذَا} الإشارة إلى أي شيء؟ لدليل الربوبية، ودليل الربوبية هو الذي احتجّت به الرسل على ما جاءت به وهو توحيد الإلهية. فإذاً في قوله {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} يعني أَشهد الله بعض الذرية على بعض على مسألة الربوبية لئلا يقولوا إنا كنا عن هذا غافلين. والرّسل جاءت بتقرير الحجة التي بعدها العذاب. مستمسكة الرسل بالأصل الذي شهد بعضهم على بعض فيه بلسان الحال وهو الإيمان بالربوبية. لهذا صارت الآية دليلاً على الربوبية وهذه حجة عليهم؛ ولكنها ليست الحجة التي بها يُعَذَبُون، ولكنها قاطعة لنزاعهم ورغبتهم في التنصّل من العذاب. والثاني أنَّ في قوله {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} يعني عن هذا الدليل الذي هو التوحيد -توحيد الربوبية أو الفطرة- الذي ذَكَّرَتْ به الرسل أو الذي جاءت الرسل بإحيائه في الأنفس ليدلّ الناس على ما يستحقه الله ? من توحيد العبادة. {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا} يعني الذين يحتجون بالغفلة أو يحتجون بالتقليد، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} فهم احتجوا إما بالغفلة أو احتجوا بعدم الشرك، بمتابعة الآباء وهذا لو حصل يوم القيامة أنْ احتجوا به فإن الله سبحانه أقام عليهم الحجة بالشهداء وأقام عليهم الحجة بالرسل والعذاب إنما يكون بـ[ ..... ] (1) دلائل الصّنعة وما أقام الله ? في الإنسان من عقل وفِكْرٍ بحيث يستدل بهذه المخلوقات على خالقها أ، وإنما بالثاني مع الأول وهو بعثة الرسل. إذا تبيّن لك ذلك فإنّ: 1- أولاً: الآية إذاَ ليس فيها حجة لمن ذهب بأنَّ هذه الآية في الميثاق، ليس فيها دليل على الميثاق. 2- ثانياً: الآية ليس فيها حجة لمن قال إنه بالفطرة أو بالتوحيد أو بما أُخِذَ من الميثاق الأول أنَّ هذا كافٍ عن إقامة الحجة على العباد، وأنّه بذلك الميثاق وذلك الإشهاد وإقرارهم على أنفسهم والشّهادة في الربوبية والعبادة؛ لأنه إذا لم تبلغهم الرّسالات ولم تأتِهم الرسل أنَّ تلك الشهادة كافية في تعذيبهم، فليس فيها دليل على أنّ هذه حجة كافية في تعذيبهم، بل لابد من إقامة الحجة الرّسالية. لذلك ترى أن أئمة أهل العلم المحققين كشيخ الإسلام وأئمة الدعوة دائماً يذكرون الحجة الرّسالية، لابد من إقامة الحجة الرّسالية. لماذا لفظ الرّسالية؟ حتى لا يَتَوَهَّمْ المُتَوَهِّم أنَّ الحجة الفطرية كافية.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إذا تبين ذلك فإنَّ تفسير الشهادة هنا وهذه الآية عند المحققين من أهل العلم على ما ذكرنا هو بالفطرة؛ الفطرة التي فطر الله ? الناس عليها، وهي الفطرة في الربوبية التي تدل على الألوهية، وهي في معنى قوله ? {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] ، وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة» (1) . وهذا الذي ذَكَرْتُ من تفسير الآية على وجه التفصيل والبسط هذا هو مذهب واختيار أئمة أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير رحمه الله في تفسيره وشارح الطحاوية وأئمة الدعوة والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره وهو تفسير جماعات كثيرة من أهل العلم. وهو الذي يتعيَّن في الموافقة مع أصول التوحيد وأصول العقيدة بعامة. وهو الذي يتعين مُوَافَقَةً لحكمة الله ?. وهو الذي يتعين مُوَافَقَةً لما هو مقرر في الشريعة من مسألة إقامة الحجة في أحكام المرتد. لهذا غَلِطَ في هذه الآية جماعات، ومن المعاصرين جماعات أيضاً فجعلوها حجَّةً على أنَّهُ ليس ثَمَّ حاجة لإقامة الحجة على العباد؛ بل الفطرة كافية، والعهد الأول كافي وإلى آخره. وهذا ولاشك ليس بمرضيّ. والحجة لا تقوم على العباد بشيء لا يتذكرونه أصلاً، وإنما العباد أمامهم الدّلائل. أما تَذَكُّر ميثاق وتَذَكُّرْ شهادة وتَذَكُّرْ هذه الأشياء، فإنّ أحداً لا يتذكر ذلك، وإنما الرسل تُذَكِّرُهُمْ بذلك فتكون الحجة بالرسل لا بذلك الأمر الأول. لهذا ذكرتُ لك في أول البحث أنَّ مسألة الميثاق مرتبطة بالقدر، وليست متصلةً بالتكفير، ليست متصلةً بالحجة، ليست متصلة بهذه المسائل، وإنما هي -يعني الميثاق- مرتبط بالقدر لا غير، وليس حجة على خلاف القدر، إنما هو دليل على القدر فقط دون ما سواه. تقرؤون الكلام الطويل الذي ذكره شارح الطحاوية وفيه طُولْ. والمسألة بما ذكرتُ لك تكون قريبةً واضحة، ولا يكون ثَمَّ إشكال في هذه الآية ولله الحمد، وهي من الآيات المُشْكِلَة كما ذكرتُ لك؛ لكن بتأمل قول المحققين والنّظر في تصحيح الأحاديث وعِلَلِهَا وأنَّ الأحاديث التي فيها الرّبط ما بين الآية والميثاق فيها اضطراب وفيها ضَعف في بعضها ضعف في الإسناد وفي بعضها علّة بالوقف وثَمَّ أشياء أُخر لا نطيل بالكلام عليها. بعدها ذَكَرَ مسألة القدر، مسألة القدر يطول الكلام عليها، ولعلنا نبحثها إن شاء الله المرة القادمة.   (1) البخاري (1358) / مسلم (6926) / أبو داود (4714) / الترمذي (2138) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الأسئلة : س1/ ... ج/ الله جعل المؤمنين شهداء على الكفار، فالإشهاد قائم، أنا مُشْهَدٌ على كل مخالف للرسالة، مُشْهَدٌ على كل مخالف لدليل الوحدانية، كل مؤمن لما كان مؤمناً مستسلماً للرسالة هو مُشْهَدٌ على غيره، مُشْهَدٌ على المخالف، فهو إشهاد، {وَأَشْهَدَهُمْ} يعني جعل بعضهم شهيدا على بعض، لذلك يوم القيامة سمى الشهداء يشهدون. س2/ بعض أهل العلم يستشهد بقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} يعني على أنَّ الذي يفعل الشرك ولو كان جاهلاً فإنه يكون مشركاً لهذه الآية، قال فإنه قد أُخذ عليه الميثاق إذ هو عالم، فما تعليقكم؟ ج/ هذا هو الذي بحثنا الكلام عليه، هذا قول ليس بصحيح، وهو مخالف لظاهر الآية، وسبب الاشتباه هو الذي ذكرنا أنه الربط ما بينه وبين الميثاق يعني هذا، هو أخذ الألفاظ على مسألة الميثاق. س3/ هل هناك ميثاق أول وميثاق غيره أم هو ميثاق واحد؟ ج/ ثَمَّ ميثاق سابق هو الذي نؤمن به الذي جاءت به الأحاديث وهو أنَّ الله استخرج ذرية آدم من ظهره؛ لكن إيش معنى هذا الميثاق؟ الله أعلم بحقيقته، ثُمَّ هناك عهود مؤكدة لكل فئة من بني آدم؛ فآدم أُخِذَ عليه عهد موثق لطاعة الله ?، كذلك ذرية آدم القريبين، كل رسول أُخذ عليه ميثاق، وأخذت على أمته المواثيق بأن تطيع وهكذا؛ يعني هذه مواثيق لفظية وعهود بما أنزل الله ? من الكتب وبعث من الرسل. س4/ كيف يكون أهل الفِرَقِ متّفقين على الميثاق، وهناك من الفِرَقِ من يأخذ بالقرآن فقط، والقرآن لم يأتِ بالميثاق؟ ج/ هل هناك من الفِرَقْ من يأخذ بالقرآن فقط؟ يعني من الفِرَقِ القديمة، هل فيه أحد؟ أنا ما أعرف؛ يعني من الذي يأخذ بالقرآن فقط؟ أنا ودي أستفيد؛ لأنَّ الخوارج يأخذون بالقرآن والسنة، الرافضة بالقرآن والسنة، المعتزلة القرآن والسنة، المرجئة، القدرية، كلهم يأخذون بالقرآن والسنة، لكن السّنة يحتجون في العقائد بالمتواتر لا بالآحاد، الآحاد مقبولة عندهم لكنها تفيد الظن لا العلم، على تفصيل الكلام المعروف لديكم في هذا. س5/ أورد الألباني -حفظه الله- الأحاديث في المسألة في السّلسلة الصحيحة، وقد جمعها وحقَّقَهَا وبَيَّنَ الصحيح منها. ج/ أنا ما أدري عن بحث الشيخ ناصر؛ لكن المسألة تحتاج إلى نظر فيما قال لأنها راجعة إلى نَظَرٍ في المتن ونَظَرٍ في الإسناد، النظر في الإسناد غير النظر في المتن، النظر في المتن يحتاج إلى معرفة تفاسير الآية وأن لا يَحْمِلْ الآية على الأحاديث، يعني لابد من مراجعة البحث حتى نشوف إيش وصل إليه. س6/ اتضح عدم دخول الآية في الميثاق فما معنى الميثاق الذي ذكره أهل العلم؟ ج/ معنى الميثاق هو العهد لكن إيش هذا العهد؟ إيش حقيقته؟ قال العلماء: معناه الفطرة؛ الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فإذاً مسألة الميثاق ما فيه شيء غريب، هو الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة) ، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ؛ يعني جَعَلَهُم مفطورون عليها لما أخَذَ الميثاق. فإذاً مسألة الميثاق -يعني العهد- لما استخرجت الذرية معناه الفطرة السابقة وهكذا، يعني الميثاق ما فيه شيء جديد، الميثاق ليس فيه شيء جديد عن غيره ولا يتميز بشيء. س7/ هل الإشكال بين الآية والأحاديث جاء من قوله تعالى {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} [الأعراف:173] ؟ ج/ لا، هذه ما لها علاقة؛ لأنَّ الآية قال {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني لئلا تقولوا يوم القيامة، أقام الله هذه الدلائل بالربوبية وأقام دلائل الوحدانية لئلا تقولوا يوم القيامة أو تحتجوا بالغفلة، ولئلا تحتجوا بالتقليد، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:173] فلا تحتجوا بالغفلة ولا تحتجوا بالتقليد، فثمَّ فِطْرَة مَرْكُوزَة ورُسُل أُرسِلَتْ إليكم تدلكم بهذه الفطرة المركوزة على حق الله أ، فليس ثَمَّ إذاً حجة لأولئك، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة وأبان المحجة، ولله الحمد والمنة. نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بسم الله، نحمد الله جل جلاله على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي لا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيداً: فبين يدي هذا الدرس نجيب عن بعض الأسئلة. الأسئلة: س1/ هل يجوز الدعاء بهذه الصيغة: أسأل الله أن يوفقك إن شاء الله؟ ج/ الدعاء الأصل فيه أن يكون المرء إذا دعا عازماً في المسألة غير متردد، ظانّا بالله ? الظن الحسن؛ وهو أنَّه يجيب الدعاء ولا يرد العبد، وكلّما قوي يقين العبد بإجابة الدعاء كلما كان هذا من أسباب الإجابة. وتعليق الدعاء أو السؤال بالمشيئة يخالف عزم المسألة، ولهذا لما قال رجل (اللهم اغفر لي إن شئت) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت. وليعزم المسألة فإن الله لا مُكره له» (1) فتعليق الدعاء بالمشيئة الأصل فيه أنه خلاف أدب الدعاء، والله ـ لا مكره له على إجابة الدعاء حتى تُعَلِّقَهُ بالمشيئة. لكن إن كان تعليقه المشيئة ليس المقصود به التعليق، إنما المقصود به التبرك فهذا لا بأس به. وبعض أهل العلم يرى أنَّ قوله (إن شاء الله) في مثل هذا لا بأس به؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لَّما زار رجلا! وهو مصابا بالحمى فقال له «طهورٌ إن شاء الله» (2) ، فأجاب الرجل بجواب سيئ، المقصود أنه يُسْتَدَلُّ بقوله «طهور إن شاء الله» على أنَّه لا بأس أن يُعَلَقَ الدعاء بالمشيئة. والأول هو الأوْلى، وللمسألة مزيد تفصيل لا يناسب هذه الأجوبة المختصرة. س2/ هل يصحّ أن يُطْلَقَ على المسلم بأنه هالك إذا مات؟ ج/ إذا كان الهلاك بمعنى الموت فلا بأس، إذا كان إطلاق الهلاك بمعنى الموت فلا بأس، أما إذا قال إنّ فلاناً هلك ويعني به أنه آل به الأمر إلى عذاب أو نحو ذلك، فهذا لا يُجْزَمْ لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار ولا بعذاب ولا برحمة إلا من شهِد له الله أبذلك أو نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولهذا مما درج عليه العلماء في تدريس علم الفرائض أنهم إذا ذكروا قسمة المسائل يقولون هلك هالك عن، ثُمَّ يذكرون الوَرَثة. نكتفي بهذا، نعم اقرأ   (1) البخاري (6339) / مسلم (6988) / أبو داود (1483) / الترمذي (3497) / ابن ماجه (3854) (2) البخاري (3616) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ.   هذه الجُمل من هذه العقيدة المباركة شروعٌ من الطحاوي رحمه الله في مسألة القَدَرْ. ومسألة القَدَرْ والبحث فيها من المسائل العظيمة جداً؛ لأنَّ الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة وبين المخالفين كثير ومتنوّع. والطّحاوي لم يُرَتِّب الكلام على مسألة القَدَرْ ولم يتناوله تناولا منهجيا واضحا بيِّناً بل فرَّقَهُ وذَكَرَ جُمَلاً منه، ولهذا فإننا سنذكر إن شاء الله تعالى كل ما يتصل ببحث القدر في هذا الموضع إنْ اتسع له الوقت، ونُحيل فيما نستقبل على هذا الموضع الذي نأتيه عند قوله (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) . قال (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ.) هذه الجملة أخذها انتزاعاً من عدد من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. وتلك الأحاديث متنوعة وثابتة في أَنَّ الله جل جلاله خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، وأنَّ الله سبحانه قَبَضَ قَبْضَةً إلى النار وقبض قبضة إلى الجنة، وأنّ الله سبحانه لما استخرج ذرية آدم من ظهره قال (هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار) فلا يُزاد من ذلك العدد ولا يُنقَصْ، والأحاديث في هذا كثيرة متنوعة. لكن المراد من ذلك هو ذِكْرُ أعظم مراتب الإيمان بالقدر ألا وهي مرتبة العلم. حيث ذَكَرَ أنَّ الله سبحانه عَلِمَ عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار، وكذلك عَلِمَ أفعالهم. (فعَلِمَ العدد) : يعني عَلِمَ الأفراد وعَلِمَ الأعمال. والأعمال يدخل فيها القول والعمل والاعتقاد والأحوال جميعا، من جميع تصرفات أصحاب الجنة وأصحاب النار. وهذا فيه إجمال لذكر هذه المرتبة العظيمة وهي مرتبة العلم. قال بعدها (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) هذه الجملة ثبتت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيَسرٌ لما خُلِقَ لَه» (1) يعني بذلك قول الله - عز وجل - {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] . ومعنى (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) أنَّ الله - عز وجل - خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء أهل السَّعَادة سَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء سَيُيَسَّرُونَ للعسرى؛ لعمل أهل الشّقاوة. وقوله (كُلٌّ مُيَسَّرٌ) لا تفيد الجَبْرْ؛ وإنما يعني أنَّ الله سبحانه علِمَ أنّ هؤلاء سيعملون بعمل أهل النار وكَتَبهُمْ من أهل النار، وأنهم لِمَا في نفوسهم من الخُبْثْ سيكونون من أهل النار، فسيتركهم الله - عز وجل - لأنفسهم؛ يعني سيخْذُلُهُمْ، فإذا خذلهم يُسِّر لهم سبيل الضلال. يعني أنَّ التيسير لأهل الجنة فيه زيادة فضل والتيسير لأهل النار فيه سلب الفضل. وهذا يعني أنْ لا جَبْرَ، وأَنَّ الجميع مُعامَلُون بعدل الله - عز وجل -، وأنَّ أهل الجنة عاملهم الله سبحانه وتعالى زيادة على عدله بأن منحهم فضلاً ويَسَّرَ لهم وأعانهم على الخير. قال (وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ) الأعمال بالخواتيم يعني بذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «فإنّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلُها، وإنّ أحدهم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (2) لهذا كان كثير من السلف إذا ذَكَرُوا الخاتمة بَكَوا كثيراً، وقال بعضهم (قلوب الأبرار مُعَلَّقَةٌ بالخواتيم يقولون بماذا يُختَمُ لنا؟) (3) وهذا التعلق بالخواتيم، وهذا الإيمان بهذا النوع من القدر، يجعل العبد المؤمن صاحب يَقَظَة وحرص على إيمانه؛ لأنّ الله سبحانه لا يظلم النّاس شيئاً، والعبد يُيَسَر لعمل أهل الشقاوة إذا اختار هذا الطّريق، فإذا جاهد نفسه فإنّ الله سبحانه أعظم فَضْلَاً ومِنَّةً وكرماً، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، وقال سبحانه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] . [ ..... ] . يعني مدافعة نوازع الباطن في النفس. قال (وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) يعني أنَّ السّعيد هو من جعله الله سعيداً إذْ قَضَى عليه أنْ يكون من المخلوقين، وهذا يُشير به إلى حديث (نفخ الروح وأنَّ الملك يأتي إلى الجنين ويقول: يا ربي شقي أو سعيد؟ ويؤمر بكَتْب أربع كلمات، بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) (4) . وهنا في قوله (بِقَضَاءِ اللَّهِ) ، (مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) يعني به القدر. وهذا على أحد الوجهين أو أحد القولين في أنَّ القضاء والقدر بمعنى واحد، وسيأتي تفصيل لهذه الجملة والفرق بين القضاء والقدر. وهذا أيضا هو معنى قوله (وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) . ولهذا نقول: إنَّ هذه الجملة فيها تقريرٌ لمرتبة العلم، والكلام على هذه المرتبة يمكن أن نرتّبه لك في مسائل:   (1) سبق ذكره (215) (2) سبق ذكره (211) في قوله صلى الله عليه وسلم (لا هو في النار) (3) شعب الإيمان (866) / حلية الأولياء (10/121) / تاريخ دمشق (20/191) (4) البخاري (3208) / مسلم (6893) / أبو داود (4708) / ابن ماجه (76) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 [المسألة الأولى] : أنَّ عِلْمَ الله جل وعلا كما ذكر (عَلِمَ اللَّه فِيمَا لَمْ يَزَلْ) يعني أنَّ عِلْمَ الله أزلي وأبدي، وأنَّ عِلْمَهُ سبحانه أوّل، وهذه كلّها بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 [المسألة الثانية] : أنّ عِلْمَ الله جل جلاله من حيث هو صِفَةٌ له سبحانه مُتَعَلِّقٌ بكل شيء، كما قال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] ، وقال {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال أيضاً أ {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] وقال سبحانه {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ، ونحو ذلك من الآيات. فعِلْمُ الله أمتعلق بكل شيء، وكلمة (بِكُلِّ شَيْءٍ) هذه فيها شمول للأشياء. والشيء يُعرَّف بأنه ما يصح أن يُعلَمَ أو ما يصح أن يَؤُولَ إلى أن يُعْلَمْ. فإذاً ما سيقع سواءً كان من جليل الأمر أو من حقيره هذا سَيَؤُولُ إلى العلم، وأيضاً يصح أن يُعلم ويصح أن يؤول إلى العلم ما لم يقع. لهذا نقول: إنَّ علم الله جل جلاله بالأشياء شامل، وأنَّ عِلْمَ الله ? بالأشياء أَوَّلْ؛ لكن بَدَأَ حيث أراد الله ? أن يوجَد ذلك الشّيء، أو أن يكون الأمر على هذا النّحو، أو أن لا يكون هذا الأمر. يعني أنّ الله ـ عَلِمَ أحوال الأشياء على التفصيل وعلى الإجمال لَمَّا أراد خلقها وإيجادها ـ. والله سبحانه يعلم تلك الأشياء على ما هي عليه، وعِلْمُهُ بها أوَّل، وإذا قلنا إنَّ علمه ـ بها شامل وأنه ? عَلِمَ تلك الأشياء إذْ تَوَجَّهَتْ الإرادة إليها فإنَّ ذلك العلم لم يسبقه جهالة. وهذه من أصول المسائل أيضاً؛ لأنّ عِلْمَ الله جل جلاله لم يسبقه جهالة، وهذه تنفعك في البحث مع القدرية؛ نفاة العلم.] (1) وقولنا: لم يسبقه جهالة؛ يعني لا في الأزل، فإذا قلنا: عَلِمْ، ليس معناه أنه قبل ذلك كان جاهلاً بهذا الشيء، لم؟ لأنه لم يكن شيئاً إلا لمَّا تَوَجَّهَت الإرادة إليه، فلما توجهت الإرادة إليه بأنه يكون أو لا يكون أو إذا كان كيف يكون فإنه سبحانه عِلْمُه بذلك سابق. فإذاً عِلْمَ الله ? لم يسبقه جهالة، لا حين توجه إلى الإرادة ولا حين وقع مشيئةً كونيةَ. والإرادة في قولنا: توجّهت إليه الإرادة، ليست هي الإرادة الكونية المتعلقة -يعني التي تعرفونها التي هي المشيئة، إذا تعلقت بشيء كان- وإنما هي إرادة القدر؛ يعني تقدير الأشياء بأنَّ هذا سيكون أو لا يكون وأن هذا سيخلقه الله أو لا يخلقه الله؛ يعني الإرادة المرتبطة بالحكمة والتقدير في إيقاع الأشياء في أوقاتها.   (1) قال الشيخ صالح إجابة عن سؤال وجه إليه في الدرس الحادي والعشرون: هذه كلمة أردت بها التوضيح، وأشكلت على كثير من الإخوان، وهي سليمة في نفسها صحيحة؛ لكن لأجل عدم الاستيعاب أتركوها، وهي للإيضاح ليست للاعتقاد، هي للإيضاح، كلمة للإيضاح فاحذفوها من كتاباتكم، وإن أمكن أيضا من التسجيل لئلا يوقع الناس في اللَّبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [المسألة الثالثة] : أنَّ مرتبة العلم من أنْكَرَهَا كفر، ومراتب القدر أربعة كما تعلمون: - أولها العلم. - ثم الكتابة. - ثم عموم المشيئة. - ثم عموم خلق الله ? للأشياء. والمرتبة الأولى وهي العلم من أنْكَرَهَا كَفَر. وعِلْمُ الله ـ -كما ذكر لك الطحاوي- أنه عَلِمَ أهل الجنة وعَلِمَ أهل النار؛ يعني عَلِمَ حال المكلفين وعددهم وصفاتهم، وعَلِمَ أيضاً أعمالهم، هذا القدر المتعلق بالمكلَّفين. وأيضا علم الله ? بكل شيء حتى بغير المكلفين على التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 [المسألة الرابعة] : أنَّ المنكرين للعلم -علم الله عز وجل السابق- خَرَجُوا في زمن ابن عمر رضي الله عنه، فقال ابن عمر في حقهم لمن سأله (أعلمهم أني منهم بريء) وذكر حديث الإيمان -يعني حديث جبريل الطويل المعروف، وفيه من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره-. وهؤلاء كانوا يقولون إنّ الله عز وجل لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها؛ يعني أنّ الأمر أُنُفْ مُستَأْنَفَ يقع ثم يُعْلَمْ. وشبهتهم -شبهة القدرية هؤلاء- أنهم قالوا: إنّ الله سبحانه عَلَّقَ أشياء في القرآن بالعلم الذي ظاهره أنَّه لم يكن قبل ذلك عالماً، وذلك من مثل قوله ? {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] ، وهذا فيه تعليق الأمر بعلمٍ سيحصل، قال {إِلَّا لِنَعْلَمَ} يعني أنه قبل ذلك -يعني كما يقولون- لم يكن يعلم من سيتّبع ممن سينقلب على عقبيه. وهذا الإيراد في الاستدلال بالآية هو استدلال بالمتشابه وتركٌ للمحكمات. ولهذا يُرَدُّ عليهم هذا الاستدلال بأنَّ هذه الآية تُفهَمْ مع الآيات الأُخَرْ التي فيها عِلْمُ الله ? بكل شيء، حتى قبل وقوع الأشياء كما قال سبحانه {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وكما ذكرتُ لك أنَّ الشيء يُعَرَّف بأنه ما يؤول إلى العلم؛ ما يصح أن يُعْلَمْ أو يؤول إلى العلم. وكذلك يُسْتَدَلُّ عليهم بقوله {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] والأحاديث الكثيرة التي فيها عِلْمُ الله ? بأهل الجنة، وعِلْمُ الله ? بأهل النار، وعلمه بعمل العاملين، ونحو ذلك قبل خلق الخلق. ويُستَدَلُّ أيضاً عليهم بقوله سبحانه {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} ، وبقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] ، والآيات في ذلك كثيرة التي فيها ذكر العلم بلفظ {كَانَ} ؛ {كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . إذاً يكون الرد على القدرية من وجهين: (1) 1- الوجه الأول: هو أنَّ ذلك اتِّبَاع للمتشابه وترك للمحكم وذكرنا المُحْكَمَات. 2- الوجه الثاني: أنَّ معنى الآية {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] ومعنى قوله تعالى {وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} ، وقوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال:66] ، ونحو ذلك هو ظهور علم الله - عز وجل -؛ لأنَّ علم الله سبحانه وتعالى خَفِيْ، ولا يُحَاسِب العبد إلا على ما ظهر من علم الله - عز وجل - المتعلق بالعبد، وإلا فلو أُنِيط ذلك بعلم الله الباطن دون ظهور الشيء في الواقع المتعلق بالمكلف لكان للمكلف حجة في رد التكليف. ولهذا الآيات التي فيها ذِكْرُ العِلْمْ اللاحق أو ما سيأتي المقصود منه ظهور العلم. (العلم الذي سيأتي) يعني العلم الذي سيظهر. أما علم الله - عز وجل - المشتمل على ما خَفِيَ وما ظَهَرَ، أو عِلْمُ الله السّابق واللاّحق فهذا [ ..... ] بعلم الله - عز وجل - للأشياء الذي هو مرتبة من مراتب القدر. فإذاً في قوله {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} يعني إلا ليظهر علمنا في المكلفين، فيظهر علمنا فيمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه، حتى تكون حجة على هذا العبد. كذلك {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} هذا مرتبط بالتّشريع. وعِلْمُ الله - عز وجل - الشّامل -يعني الظاهر والباطن- هذا متّصف الله - عز وجل - به؛ لكن لا يكون معه التّدرج في التشريع. فالله سبحانه وتعالى جعل العبد المؤمن يقاتل عشرة، ثم ظَهَرَ عِلْمُهُ فيهم أنهم ضعفاء فخفّف، فالتخفيف إذاً مسألة شرعية لما ظَهَرَ عِلْمُ الله الباطن بحالهم فهنا شَرَعَ لهم التّخفيف. وهذا يعني أنّ الآيات هذه تدل على ظهور علم الله - عز وجل -. وظهور علم الله - عز وجل - فيهم مُناط بأمرين: 1- الأمر الأول: أن تنقطع الحجة من العبد على التكليف والحساب. 2- الأمر الثاني: أن يُشَرَّع وتظهر الشريعة أو تُسن الأحكام. وهؤلاء القدرية هم الذين قال فيهم السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أنكروه كفروا وإن أقرّوا به خُصِمُوا) . والقدرية هؤلاء سُمُّوا قَدَرِيَّة لأنهم ينفون القَدَرْ. ونفي القَدَرْ قد يتوجه إلى نفي مرتبة من مراتبه، أو إلى نفي أكثر من مرتبة. فَمِمَّنْ نفى أكبر المراتب وأعظمها وهي العلم، هؤلاء هم القدرية الأوائل الذين يقال لهم القدرية الغلاة. ومن هؤلاء -يعني من القدرية- الذين ينفون مرتبة عموم الخلق كالمعتزلة. والقدرية في ذلك مراتب، وقد لخَّصَ شيخ الإسلام أصناف القدرية بقوله في تائيته القدرية: ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُرَّاً معشر القدرية سواء نفوا أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا في للشريعة يعني أنَّ أعظم تلك الفرق التي تُدْعَى القدرية، الذين ينفون القدر، وهم الغلاة نفاة العلم أو المتوسّطون وهم المعتزلة ومن شابههم.   (1) الرد على القدرية لم يذكره الشيخ في هذا الشريط وإنما ذكره إجابة لسؤالٍ في الشريط 17، ثم نبَّهَ الشيخ إلى أنَّه نسي ذكرها في الرد على القدرية، لذا قمت بوضعه في هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 [المسألة الخامسة] : أنّ عِلْمَ الله عز وجل شامل لكل شيء، هذا يفيد المؤمن في إيمانه بالقدر، وهو أنه سبحانه عَلِمْ الأشياء، وعَلِمَ حال العبد، وعَلِمَ ما ستكون عليه هذه الأمور جميعاً من دقائقها وتفاصيلها وإجمالها. وهذا يعني أنه ليس ثمَّ شيء يقع على وجه الصدفة بلا ترتيب سابق ولا تقدير سابق. فإذا كان الله عَلِمْ فإنَّ معنى ذلك أنه سبحانه جعل هذا الذي عَلِمَ أنَّهُ سيقع على وفق ما يشاؤه، على وفق الحكمة البالغة؛ لأنَّ الرب المتصرف ذا الملكوت لا يقع في ملكه إلا ما يشاء أن يقع، فإذا كان عَلِمْ وأيقن العبدُ هذا العلم الشامل الكامل فإنه يوقن بعده بالحكمة العظيمة. ولهذا مسألة الحكمة من وجود الأشياء مرتبطة بالقدر عِلْماً ونفياً: - فحكمتة ـ مرتبطة بالقدر علماً؛ لأنَّ الله ـ عليم؛ ولأنه سبحانه ما شاء كان. - ومرتبطة بالقدر نفياً في أنَّ الخوض في الحكمة خوضٌ في القدر. ولهذا قال الطحاوي في آخر كلامه (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) وقال في آخرها أيضا (فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) إلى أن قال (1) : [[الشريط السابع عشر]] : (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ) ، وهذه هي التي يُشكِلُ على البعض كيف دَخَلَتْ في القدر، وهي مسألة الحكمة. إذا قال المرء لم حصل كذا؟ ولم قُدِّرَ كذا؟ أو لم صار الأمر على هذا النحو؟ لم صار هذا غنياً وهذا فقيراً؟ ولم صار هذا مريضاً وصار ذاك صحيحاً؟ كيف انتقل هذا السؤال في القَدَرْ وصار المتشكك من القدرية؟ لأنَّ المتشكك ينفي الحكمة، ولو أيقن بعموم العلم وعموم المشيئة لأيقن بحكمة الله - عز وجل - الماضية، وأنَّهُ لا شيء يقع إلا والله سبحانه وتعالى عَلِمَهُ قبل أن يقع وأَرَادَهُ كَونَاً وشَاءَهُ، وهذا يعني أنه لن يقع إلا على وفق حكمة الله - جل جلاله -، فلهذا صار السائل في مسائل القدر بـ: لم؟ مُعَارضِاً للقدر. ولهذا قال لك ابن تيمية في البيت الذي ذكرته لك آنفا (أو ماروا في الشريعة) يعني أنَّ القدرية منهم من يُمَارِي في الشريعة، يماري يعني يشكك ويجادل ويسأل وكذلك قال بعدها: وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُو لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ فأهل الجاهلية عارَضُوا الشريعة بـ: لم؟ والمتشككون عارَضُوا أفعال الله - عز وجل - بـ: لم؟ إذاً فمِن أعظم مراتب الإيمان بالقدر، الإيمانُ بعلم الله - عز وجل - الشامل للأشياء، الشامل لكل شيء. فإذا أيقن العبد بهذا، بعموم العلم، وعَلِمَ معنى ذلك، أيقن أيضاً بحكمة الله - عز وجل - واستسلم لقدر الله ولم يخض فيه بالسؤال؛ لأنَّ القدر سر وهو مرتبط بعلم الله - عز وجل -. يوضّح لك ذلك أنَّ الله جل جلاله قصَّ علينا في القرآن قصة الخَضِرْ مع موسى عليه السلام أو عليهما السلام. فالخَضِرْ مع موسى اختلفا واعترض موسى على الخَضِرْ، وسبب الاعتراض عدم العلم، لمَّا كان موسى في تلك المسائل أنْقَصَ علماً من الخَضِرْ واعْتَرَضَ حُجِبَ عن علمٍ زائد. ولذلك صار السؤال -سؤال الاعتراض- مُرْتَبِطَاً بالعلم، فإذا كان الخَضِرْ أعلم من موسى، وموسى حُجِبَ بالسؤال فدلَّ على أنَّ السؤال في أفعال الله أو السؤال في قدر الله أو السؤال في تصرفات خلق الله - عز وجل - أنَّ هذا اعتراض على العلم. وإذا كان الله - عز وجل - هو العليم بكل شيء فإنَّهُ لا يجوز للعبد أن يعترض على علمه وعلى حكمته بـ: لم؟ لهذا قال في آخر الكلام هنا (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني قوله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] . هذه بعض المسائل في كلامه على مرتبة العلم.   (1) انتهى الشريط السادس عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 [ثم قال (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ) ]   يعني أنَّ القَدَرْ -وهو تقدير الأشياء- هذا سِرْ إذْ هو تصرُّف الرب جل جلاله في ملكوته، وتصرف الرب جل جلاله في ملكوته مما يختص به الله جل جلاله فلم يُطْلِع عليه أحداً ولم يطَّلِع أحد على ذلك، حتى أكرمُ عباده من الملائكة لا يدرون ما مصيرهم، لا يدرون ماذا يقضي الله في السماء، لا يدرون ما مصير أهل الأرض إلى غير ذلك، وكذلك أنبياء الله لا يدرون ولا يدرون عن الغيب ولا متى يموتون، إلى آخر ذلك. المقصود أنّ القَدَرْ -وهو كما سيأتي تعريفه تقدير الله للأشياء- أنَّ هذا مما اختص الله - عز وجل - به، فلا أحد يعلم ما القَدَرْ، وما الذي قُدِّرْ، وما الذي كُتِبْ، وما الذي جعله الله - عز وجل - مكتوباً في اللوح المحفوظ أو مكتوباً في صحف الملائكة، هذا عِلْمُهُ عند الله - عز وجل -، وهو من مفاتح الغيب العظيمة التي قال الله فيها {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] . والقَدَرْ معنى كونه سراً أنّه لا يمكن أن يُطَّلَعَ عليه إذ هو سرٌّ عند الله - عز وجل -، والله سبحانه لم يُطْلِع على ذلك أحداً فمعنى ذلك أنّه لن يَطَّلِعَ أحد على ذلك ولو خاض فيه. ومبنى القدر على صفات الله - عز وجل -: - مبنى القدر على العلم. - مبنى القدر على عموم المشيئة. - مبنى القدر على عموم الخلق. - مبنى القدر على حكمة الله - عز وجل -. [ ..... ] وعموم مشيئته، وإلى أي شيء تَتَوَجَهْ لا يعلمها العبد، وعموم خلقه - عز وجل - من أشياء إذا توجّه الشيء لا يعلمه العبد إلا بعد أن يقع، وحكمة الله لا يعلمها العبد. إذاً فصارت أنحاء القدر الأربعة لا يعلمها العبد، فكيف إذاً يمكن له أن يخوض في القَدَرْ؟ فصار الأمر إذاً إلى الاستسلام. وهذا هو الذي أراده الطحاوي فيما قال، قال (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يعني في القدر المبني على الأربعة أشياء التي ذكرتُ لك (التَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ) . إذا تبين هذا فيمكن أن نُجْمِلْ أو نُقَسِّم الكلام على القدر في مسائل كثيرة، نذكر منها ما يناسب الوقت بعض الأشياء. قال (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) نقول إنه تحتها مسائل، هي مسائل بحث القدر جميعاً يمكن أن نجعلها في هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 [المسألة الأولى] : القَدَرْ يمكن أن يُعرَّف بأنه: تقدير الله للأشياء قبل وقوعها، وعلمه الأوّل بكل شيء، وكتابته لذلك -يعني للمقادير- في اللوح المحفوظ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعموم خلق الله للأشياء كلها. هذا لا ينطبق عليه حد التعاريف عند أهل التعاريف؛ لكن هذا يعُمْ ويَضُمْ كل مراتب الإيمان بالقدر الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 [المسألة الثانية] : الإيمان بالقدر إيمانٌ بما دَلَّ القرآن والسنة عليه مما يتصل بالقدر، وذلك إيمانٌ بأربع مراتب: - المرتبة الأولى: العلم. - المرتبة الثانية: الكتابة. - المرتبة الثالثة: عموم المشيئة. - المرتبة الرابعة: خلق الله - عز وجل - للأشياء كلها. @ أما المرتبة الأولى العلم: فأدلتها كثيرة ذكرنا لكم بعضاً منها. @ المرتبة الثانية الكتابة: الكتابة ثَمَّ أدلة كثيرة عليها منها قوله تعالى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، وفي قوله تعالى {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53] ، ودلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قدّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) . ومعنى الكتابة أنّ الله سبحانه كَتَبَ كلَّ شيء في اللوح المحفوظ، سواء ما يتعلق بالمكلفين أو ما يتعلق بغير المكلَّفين وذلك لعموم قوله {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] يعني ما في السماء والأرض. والكتابة هذه المقصود بها الكتابة في اللوح المحفوظ؛ كتابة مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ. ومن هذه الكتابة ثَمَّ أنواع من الكتابة تفصيلية لها: منها الكتابة العُمْرية، والكتابة السنوية، والكتابة اليومية، وأشباه ذلك مما دلت عليه الأدلة في القرآن والسنة. @ المرتبة الثالثة مرتبة المشيئة: ويُعْنَى بها أنَّ ما شاء الله - عز وجل - كان، لا تُرَدُّ مشيئة الله - عز وجل -، وأنَّ الذي لا يشاؤه الله سبحانه ولو شاءه العبد ورَغِبَ فيه فإنه لا يقع، ودليلها قوله سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقوله سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] . والمشيئة مرتبطة بالكون؛ يعني أنَّ المشيئة كونية، فإذا شاء الله أن يقع هذا الشيء في هذا الوقت على هذه الصفة فإنّه يقع على ما شاءه الله - عز وجل - وأراده كوناً. والمشيئة تساوي الإرادة الكونية. ولهذا يُبْحَثْ هنا في مرتبة المشيئة الفرق ما بين المشيئة والإرادة. وأهل السنة على أنّ مشيئة الله - عز وجل - هي إرادته الكونية، وأنّ الإرادة منقسمة إلى: إرادة شرعية دينية وإلى إرادة كونية، وأنَّ الله سبحانه قد يشاء الشيء كوناً؛ يعني يريده كوناً فيقع ولا يريده ديناً وشريعة. فيجتمع إذاً في بعض الحالات إرادة وعدم إرادة، فيكون الفعل المعيّن مُرَادْ وغير مُرَادْ. شاءه الله فوقع وأراده فوقع؛ ولكن لم يُرِدْهُ سبحانه ديناً وشريعة، وهذا فيما يَكرهه الله ولا يرضاه ديناً مثل كفر الكافر، معصية العاصي، ضلال الضال إلى آخره. فإنّ الله سبحانه شاء الكفر من الكافر؛ لأنّه ما دام وَقَعَ فإنه قد شاءه وأراده كوناً؛ لأنه لا يحصل في ملكوته إلا ما أراده - عز وجل - كوناً؛ ولكن لم يرضه لم يُرِدْهُ ديناً؛ لأنَّ الله نهى في كتابه وعلى ألسنة رسله عن الكفر والفساد وبيَّن أنه لا يرضى ذلك ولا يحبه، كما قال {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، وقال {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] . وهذه هي المسألة المعروفة لدى كثير منكم بالفرق ما بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وسيأتي لها مزيد بيان عند ذكر الرد على المخالفين في القدر إن شاء الله تعالى. @ المرتبة الرّابعة مرتبة عموم خلق الله - عز وجل - للأشياء: وأنَّ الله سبحانه خالق كل شيء، وأنَّ طاعة المطيع خَلَقَهَا الله ومعصية العاصي خَلَقَهَا الله وأنَّ صلاة المصلي خَلَقَهَا الله كما خلق ذاته؛ يعني ذات المصلي فإنه يخلق أعمالهم. وهذه يُسْتَدَلُّ لها بقول الله سبحانه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، وبنحو قوله سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، ونحو ذلك من الآيات. وفي خصوص عموم خلق الله للعمل يُستدل بقوله سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وفي هذه الآية دليل على أنَّ عمل العامل خَلَقَهُ الله. وذلك أنَّ كلمة {مَا} في الآية {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فيها وجهان: 1- الوجه الأول: أنها مصدرية بمعنى أنّها تُقَدَّرْ مع ما بَعْدَهَا بمصدر؛ يعني يكون سبك الآية (والله خلقكم وعملكم) ، وهذا الوجه هو?الأصح فيها. 2- الوجه الثاني: أنَّ {مَا} هنا موصولة بمعنى الذي فيكون المعنى (والله خلقكم والذي تعملونه) . * وهي على كلٍ من الوجهين دالة على المراد في عموم خلق الله - عز وجل - للعبد. ووضوح الدليل الأول يعني في كونها مصدرية، وقد يكون ثَمَّ بعض الاعتراض على الاستدلال بالوجه الثاني.   (1) سبق ذكره (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الأسئلة س1/ ما الفرق بين القدر والقضاء؟ ج/ يأتي إن شاء الله. س2/ يجعل الله سرّه في أضعف خلقه، إذا رأى مثلا شخصا ضعيفا؟ ج/ هذا المقصود به حكمته في الخلق، لا بأس به. س3/ هل يدخل الغيب تحت القدر؟ ج/ نعم كل مُغَيَّب فهو مقدر. س4/ هل يصح قول (ما ليس بشيء فإنَّ الله لا يعلمه) ؟ ج/ ما معنى (ما ليس بشيء فإنَّ الله لا يعلمه) ؟ والله على كل شيء قدير والذي ليس بشيء فإنَّ الله سبحانه وتعالى غير قادر عليه لأنه ليس بشيء كالجمع بين النقيضين؟ هذا الكلام غير منضبط لا من جهة كلام المناطقة ولا من جهة أيضا التعريف، فلا تُطْلَقْ عليه العبارة لأنها غير منضبطة؛ لأنه يقول ما ليس بشيء يعني الذي ليس بشيء، وما دام قال الذي فإنه شيء. س5/ قبل إرادة الله الخلق للشيء وعلمه به، ماذا يسبقه، هل يسبقه جهل به؟ ج/ أستغفر الله وأتوب إليه، الله سبحانه علمه أول، وعلمه مرتبط بإرادته وحكمته - عز وجل - فلا يسبق علمه جهل - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. س 6/ نرجو أن تملوا علينا الأبيات الميمية في القضاء والقدر؟ ج/ الميمية هي أو التائية؟ تائية شيخ الإسلام القدرية هذه مشهورة ينبغي لطالب العلم أن يحفظ منها أو أن يحفظها؛ لأنها فيها ذكر كثير من مسائل القدر. [ ..... ] (1) هذيك في التعليل مو في القضاء والقدر؛ في ترك تعليل أفعال الله - عز وجل - أو الخوض في ذلك، نأتيها إن شاء الله تعالى. هذه أبيات ذكرها ابن الوزير في كتابه إيثار الخلق على الحق دون نسبة، هي أبيات جميلة مهمة في مسألة تعليل الأفعال ومطلعها يقول فيها: تَسَلَّ عن الوفاق فربنا قد حكى بين الملائكة الخصاما كذا الخَضِرُ المكرّم والوجيه الـ ـــمكلّم إذ ألم به لماما تكدَّر صفو جمعهما مرارا فعجّل صاحب السرّ الصَّرَاما ففارقه الكليم كليم قلب وقد ثَنَّى على الخضر الملاما وماسبب الخلاف سوى اختلاف ال ــعلوم هناك بعضا أو تماما فكان من اللوازم أن يكون الإله مخالفا فيها الأناما فلا تجهل لها قدْرا وخُذها شكورًا للذي يحيى العظاما هذه قصة عظيمة قصة الخضر مع موسى فيها من الفوائد ما لا يحصى. نكتفي بهذا القدر ونلتقي إن شاء الله تعالى بخير وعافية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) مداخلة من أحد الطلبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ يقول: الإيمان بالأركان الستة منها ما لا يصح الإيمان إلا به، ومنها ما يجب على المؤمن أن يعتقده إذا بلغه بالدليل، فأرجو أن تبينوا دليل التفريق في ذلك؟ ج/ السؤال ما هو واضح من كل جهة، لكن مقصود السائل أنّ أركان الإيمان هي الأركان الستّة المعروفة قال - عز وجل - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وقال - عز وجل - {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، وقال - عز وجل - في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، وقال - عز وجل - {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فأركان الإيمان الستّة دل الدليل على وجوب الإيمان بها وأنها أركان الإيمان، وهذه الأركان هي التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام، قال: ما الإيمان؟ قال «الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ مِنَ الله تعالى» ، هذا الإيمان الواجب متوقّف على العلم، فهذا القَدْرْ المجمل في الإيمان بالله، بالملائكة، بالكتب، بالرسل، القَدْرْ المجمل هذا واجب على كل أحد؛ لأنّه لا يصحّ الإيمان إلا بقدْرٍ منه، وهذا القَدْرْ هو الذي يتوقف عليه الإيمان بهذه الأمور الستّة، ولذلك ذكرنا لك التقييدات، ما ضابط الإيمان بالملائكة الذي يصح به الإيمان؟ ضابط الإيمان بالكتب؟ يعني القَدْرْ المجزئ، ما القَدْرْ المجزئ في الإيمان باليوم الآخر؟ ما القَدْرْ المجزئ من الإيمان بالقدر؟ ذكرناه لكم بالتفصيل ترجعون إليه. ما زاد على ذلك -على القَدْرْ المجزئ- فهو راجع إلى العلم فمن عَلِمَ شيئاً وَجَبَ عليه أن يؤمن به من عَلِمَ أن ثَمة ملك اسمه جبريل وجب عليه أن يؤمن بجبريل، ثَمة ملك اسمه ميكال في القرآن {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98] وجب عليه أن يؤمن بميكال، من عَلِمَ أنَّ في السنة بعذاب القبر أو بالقرآن {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] وجب عليه الإيمان بعذاب القبر. فإذاً ثمة قدر مجزئ من الإيمان هذا شرط في صحة الإيمان، أو هو شرط في صحة الإيمان بهذا الركن الخاص من الأركان الستة، ما بعد ذلك ما هو زائد على هذا القدر المجزئ فهو موقوف على العلم بالدليل، وهذه قاعدة الشريعة. س2/ كثيرا ما نقرأ ونسمع هذا يدل على كذا بالمطابقة، وعلى كذا بالالتزام، وعلى كذا بالتضمن، فما معنى هذه الثلاث وما الفرق بينها؟ ج/ المطابقة والتّضمّن والالتزام هي في أصلها من البحوث المنطقية، مطابقة تضمّن والتزام يبحثها المناطقة في أول كتب المنطق، ونَقَلَهَا اللغويون ونقلها الأصوليون في كتبهم فأصبح الناس يستفيدون ممن لم يُقْبِلْ على كتب المنطق يستفيدونها من كتب الأصول، سيَّما أنّ أئمة أهل السنة استفادوا منها في مباحث الأسماء والصّفات كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعدد من أئمة الدعوة، ومعناها: - المطابقة: هي دلالة اللفظ على كل معناه. - التضمن: دلالة اللفظ على بعض معناه. - اللزوم: دلالة اللفظ على شيء آخر يلزم لوجود هذه الصفة وجود ذلك الشيء الآخر. مثاله: في صفاته الله - عز وجل - الرحيم. الرحيم مطابقة هذا اللفظ يعني المعنى بالمطابقة ذاتٌ متصفة بالرحمة، فجمعت المطابقة ما بين الذات وما بين صفة الرحمة. فإذاً نقول الرحيم دال على الرحمة بالمطابقة، صح أو غلط؟ هذا ليس بصحيح، نقول: دال على ذات متصفة بالرحمة؛ يعني الاثنين يعني هذا زائد هذا، جميعاً، هذا معنى المطابقة. يأتي التضمن على بعض المعنى إذا قلنا الرحيم دالٌّ على صفة الرحمة يكون بالتضمن. يأتي اللزوم الرحيم دالٌّ على صفة الحياة يعني هل هو يكون رحيما بلا حياة؟ يدل على الإرادة، هل هو رحيم بلا إرادة؟ يدل على الكرم، هل ثم رحمة بلا كرم؟ ونحو ذلك من أدوات أو دلالات اللزوم المختلفة. س3/ من قواعد أهل السنة في باب الأسماء والصفات أنَّ الاسم من الأسماء الحسنى متضمن للصفة، ولا يشتق من الصفة الاسم، وقد أشْكَلَ عليّ بعض الأسماء التي ذَكَرَهَا العلماء مشتقة من الصفات كالمعز المذل المحيي المميت وكالخافض الرافع، القابض الباسط والمعطي المانع؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ج/ هذه الأسماء كمالها في اجتماعها في اقترانها، ومسألة الاشتقاق هذا في الانفراد، أما إذا كان الكمال في الاقتران فإنه لا بأس، ولذلك عدّوها من الأسماء الحسنى؛ لأنَّ الكمال في الاقتران، والاسم هذا من الأسماء الحسنى مع الاقتران يعني المميت ليس من الأسماء الحسنى؛ لكن المحيي المميت من الأسماء الحسنى، الخافض ليس من الأسماء الحسنى في نفسه، لكن الرافع الخافض من الأسماء الحسنى وهكذا. فإذاً هذه كمالها في اقترانها تدلّ على الكمال بالاقتران لا على وجه الانفراد. س4/ هل يجوز الدعاء بـ: اللهم ربّ الأرواح الغائبة والأجساد البالية؟ ج/ الأرواح الغائبة مخلوقة لله - عز وجل - وهو ربها، والأجساد البالية أيضاً الله - عز وجل - ربها وهو أعلم بها وأين تفرقت أجزاؤها، فظاهر الدعاء أنه لم يشتمل على غلط. لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنَّ القاعدة أن الدعاء يتحرى فيه المرء الصواب، وأن لا يكون معتديا في الدعاء، والاعتداء في الدعاء: - إما أن يكون في الطلب، يعني في صيغة الدعاء فيها اعتداء؛ ولكن يكون المطلوب طيّب. - وإما أن يكون في المطلوب، يعني في الشيء الذي سأله. مثال الثاني معروف الذي سأل وقال: اللهم إني أسألك القصر الأبيض ... الجنة إلى آخره، فهذا اعتداء في الدعاء من جهة المطلوب. لكن من جهة الطلب نفسه أن يستعمل صِيَغًاُ ليست من الصيغ التي فيها تَأَدُّبْ، أو صيغ ليس له أن يستعملها هو من جهة المعنى، أو أنّ فيها نوع نزول في مخاطبة الله - عز وجل - ونحو ذلك، هذه تكون من الاعتداء في الدّعاء، ولذلك كلّما اجتهد المرء في أن يكون دعاؤه مأثوراً كان أسلم وأعظم وأجمع للدّعاء. س5/ ما هي الحجة التقريرية والحجة الفطرية في آية الميثاق؟ ج/ آية الميثاق أظنه يعني بها قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:172-174] ، هذه عند بعض أهل العلم تسمى آية الميثاق؛ لكن في الواقع ليس فيها ذكر للميثاق كما ذكرنا لكم وإنما فيها الإشْهَادْ، وهذا الإشهاد كما مر معنا تفسيره إنما هو دليل الفطرة والربوبية وآيات الله - عز وجل - في الآفاق وفي الأنفس. فإذاً الحجة التقريرية في حد سؤال السائل هي إقرار أولئك بما أقرَّهُمْ الله - عز وجل - عليه وشَهِدَ بعضهم على بعض أنَّ الله ربهم وأنه لا إله إلا الله. والحجة الفطرية هي ما فُطِرُوا عليه يعني منذ بداية خلقهم هم فُطِرُوا على الإسلام فُطِرُوا على التوحيد، وهذه الحجة ليست حجة كافية في الحساب؛ بل لابد أن ينظمّ معها الحجة الرّسالية، فالحجة الفطرية لا تكفي؛ بل لابد من الحجة الرسالية في الحساب والعقاب. إلا فيمن لم يَبْلُغْ فإنّ الفطرة تكفيه، الفطرة الأصلية تكفيه، فيمن مات قبل البلوغ، فإنه على الفطرة من أبناء المسلمين، وأما أبناء المشركين فهم على الخلاف المعروف في شأنهم والنبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال «الله أعلم بما كانوا عاملين» (1) رواه البخاري وغيره. س6/ نقل المرداوي في شرح اللامية عن السلف أنَّ تفسير آيات الصفات عندهم هو قراءتها من غير التعرض لمعناها، ونقل عن الفضيل بن عياض أنَّ تفسير آيات الصفات قراءتها فهل ذلك صحيح؟ ج/ السلف ربما قال بعضهم (أمرّوها كما جاءت) ، تفسيرها قراءتها، وربما قال بعضهم (لا كيف ولا معنى) ، يعنون بذلك أنه ليس ثَمَّ شيء غير الظاهر، لا كيف كما يقول المجسمة، ولا معنى -غير الظاهر- كما يقول المؤولة، قراءتها تفسيرها يعني كما يتبادر إلى الذهن لأن هذه كلمات عربية فما تبادر للذهن من معناها فهو الذي يجب الإيمان به، مع قطع الطمع عن الإدراك. س7/ أشكل علينا قولكم إن العلم يكون مع أول الإرادة، وما هي الإرادة المقصودة؟ ج/ هذه كلمة أردت بها التوضيح، وأشكلت على كثير من الإخوان، وهي سليمة في نفسها صحيحة؛ لكن لأجل عدم الاستيعاب أتركوها، وهي للإيضاح ليست للاعتقاد، هي للإيضاح، كلمة للإيضاح فاحذفوها من كتاباتكم، وإن أمكن أيضا من التسجيل لئلا يوقع الناس في اللَّبس. س8/ لماذا نقول عموم المشيئة ولا نقول المشيئة دون ذكر كلمة العموم؟ ج/ لأنَّ المشيئة ما تُبَيِّنْ الفرق ما بين السني والقدري، في مباحث القدر نقول: عموم المشيئة لنُدخل طاعة المطيع ومعصية العاصي في مشيئة الله - جل جلاله -.   (1) البخاري (1384) / مسلم (6935) / أبو داود (4711) / النسائي (1949) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 س9/ في سورة التكوير {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] إلى آخره، هل هذه الآيات بعد البعث وقيام أهل القبور أم قبله؟ وكيف الجمع مع قوله {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] ؛ {الْعِشَارُ} معناها الإبل التي قَرُبَ حملها، فهل هي لم تتم أم ماذا؟ ج/ الجواب أنَّ هذه التغيرات التي تحدث في ملكوت الله - عز وجل - في الأرض وفي السماء وتفجير البحار وانشقاق السماء وما يحدث مما في القرآن كثير أو ذكر كثير من الآيات في هذا الباب. هذا على الصحيح أنه يحدث بين النفختين، بين النفخة الأولى التي هي نفخة الصعق والنفخة الثانية التي هي نفخة البعث، فبين النفختين تحدث هذه الأشياء والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال «مَا بَيْنَ النّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» (1) قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْماً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قال النبي صلى الله عليه وسلم «وكل شيء يَبْلَىَ من ابن آدم إلا عَجْبُ الذّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ وذلك لأنَّ السماء تُمْطِرُ يوم القيامة في هذه الأربعين مطرَاً كمني الرّجال، مُشَبَّهْ بذلك، تنبت منه أجساد الناس،، فإذا نبتت الأجساد وانشقت الأرض وأخرجت أثقالها؛ يعني من المدفونين، في هذه الفترة الأرض تغيرت، الجبال سُيَّرَتْ والسماء تغيرت وبُدِّلَتْ الأرض غير الأرض والسماوات، يعني صار الأمر أمراً جديداً ليس هو المألوف، لا الأرض هي الأرض، ولا السماء هي السماء، السماء الآن تستعد لنزول الله - عز وجل - لفصل القضاء، والأرض كذلك، فيستوي من دُفن وراء الجبال ومن دفن في ساحل البحر، كلهم يستوون، الأرض سيرت جبالها وتغيرت، فيسيرون سيراً واحداً. ثم بعد ذلك ينفخ الله - عز وجل - في الصور نفخة البعث فتتطاير الأرواح، فتهتز الأجساد بالأرواح حية، ثم ينظرون يتلفّتون؛ لأنَّ الأرض مختلفة، كما قال سبحانه {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ} لأنه انشقت بها الأرض {يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] يعني ينظرون ما حولهم، ويكرم الله - عز وجل - أهل الإيمان بأن يأتي لهم بجوار قبورهم بجوار أمكنتهم بنَجَائِبَ من نور من الجنة فيحشرهم إليه وفداً لا يتعبون في السير إلى أرض المحشر، وهذه أول البشائر لهم، ويُذل الله - عز وجل - أهل الكفر بأن يجعلهم يحشرون ويساقون إلى جهنم، وهذا معنى قوله تعالى {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] ، الوفد في اللغة هم الراكبون يقدمون راكبين مكرمين، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] ، والعياذ بالله. فهذا بعض ما يتعلّق بهذه المسألة. وهذه لابد أنك تعرفها، طالب العلم من المهم أن يعرف في إيمانه باليوم الآخر ماذا يحدث من حين الوفاة إلى دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، حتى ما بعد ذلك ما الذي يحصل. لا بد تعرف، نفخ في الصور، نفخة البعث، نفخة الصعق قبل ذلك، ما الذي يحصل؟ ثم نفخة البعث ما الذي يحصل بعدها، سِيْقُوا، ترتيب الأشياء. في عرصات القيامة، ما الذي يحصل أول؟ الميزان أول، أم الحوض أول، ولا تطاير الصحف، يعني كل هذه الأشياء التي هي من جملة الإيمان باليوم الآخر لابد من أن يتعلّمها طالب العلم، فتكون عنده مرتبة من إحياء الله - عز وجل - الموتى إلى دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهي مرتبة في كتب أهل العلم وإذا كانت غير مرتبة فرتّبها. وإذا فهمتها فهما جيدا فإذاً يكون بعد ذلك فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعرفة دلالات الآيات في ذلك واضحة في ذهنك مرتبة، إذا جاء مثلاً تطاير الصحف متى يكون؟ واضح زمنه عنك، إذا جاء عدم الكلام، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:65] متى يكون ذلك؟ واضح عندك أيضا، وهكذا. فيتعلم المرء بذلك العقيدة وعلم الجزاء، وهذا من العلوم الثلاثة المهمة لأنَّ العلوم النافعة ثلاثة -العلوم الشرعية- التوحيد والفقه وعلم الجزاء اليوم الآخر وهذا هو الذي ذكره ابن القيم في النونية حيث يقول: والعلم أقسام ثلاث مالها ****** من رابع والحق ذو تبيانِ علم بأوصاف الإله وفعله ****** وكذلك الأسماء للديانِ والأمر والنهي الذي هو دينه ****** وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكلُّ في القرآن والسنن التي ****** جاءت عن المبعوث بالفرقان س10/ هل من كلام حول من قال إنه يوجد في القرآن مجاز. ج/ الله المستعان، هذه المسألة طويلة ذكرناها لكم الظاهر مراراً، الكلام عليها يطول جداً. س11/ هل هناك فرق بين الأمر والقَدَرَ؟ ج/ ما فيه شك، الأمر أعم.   (1) البخاري (4814) / مسلم (7602) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 س12/ في قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ الله جميل يحب الجمال» (1) ، «إنّ الله وتر يحب الوتر» (2) ، ونحوها من الأحاديث، هل هذه النصوص من باب الإخبار عن الله - عز وجل - بصفاته الذاتية والفعلية؟ أم المراد منها إثبات هذه الأسماء في الأسماء الحسنى؟ ج/ ذكرنا لك أنَّ الشروط التي بها يكون الاسم من أسماء الله الحسنى ثلاثة: (3) الشرط الأول: أن يكون واردا في الكتاب أو السنة أو فيهما معاً؛ يعني قد جاء به النص؛ لأن باب الأسماء والصفات توقيفي ليس اجتهادياً. الشرط الثاني: أن يكون الاسم متضمناً لكمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه. الثالث: أن يكون الاسم يُدْعَى الله - عز وجل - به، كما قال سبحانه {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] . ذكرنا لكم أنَّ هذه الشروط الثلاثة في شرح العقيدة الأصفهانية. س13/ ما المقصود بالمقلّد في العقيدة، وما هو حكمه؟ المقلد في العقيدة الذي أخذ ما يَصِحُّ به الدين أو ما لا يصح الدين إلا به تقليداً لا عن دليل، وهذا لا يُقْبَلُ منه؛ بل لابد لكل أحد أن يعلم دينه بدليله، ليعلم معنى الشهادتين بدليله، يعلم فَرَضِيَّةْ الصلاة بدليلها، يعلم فَرَضِيَّةْ الزكاة بدليلها، يعلم فَرَضِيَّةْ الصوم بدليلها، يعلم فَرَضِيَّةْ الحج بدليله، هذه الأركان الخمسة. وهذه يكفي في تعلمها بدليلها مرّة في العمر في أن يتعلمها فيدخل في الإيمان عن عِلْمٍ بهذا الدّليل، فلو نسيه بعد ذلك أو غاب عنه أو غفل لم يؤثّر في استدامة وصحة إيمانه وإسلامه. هذا هو معنى التقليد وحكمه عند أهل السنة. أما تقليد المتكلّمين فهذا له بحث آخر، فتقليدهم يعنون به التقليد في النظر أو في إثبات دليل الوجود عن طريق التأمل في آلاء الله - عز وجل - أو القصد إلى التأمل. لعلنا نكتفي بذلك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (4)   (1) مسلم (275) (2) مسلم (6985) / أبو داود (1416) / الترمذي (453) / ابن ماجه (1169) (3) راجع الشريط الثاني (المسألة الثانية/21) (4) انتهى الشريط الساّبع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 : [[الشريط الثامن عشر]] : وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.   هذه الجمل من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله فيها إشارة إلى القَدَرْ مع عدم ذِكْرِ معتقد أهل السنة والجماعة على وجه التفصيل فيه. وقد سبق أن ذكرنا بعض المسائل فيه؛ ولكن نعيد المسائل من أولها حتى يرتبط الموضوع لبُعْدِ العهد بما سبق. [قال (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) ] يعني بقوله (أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ) أنَّ القَدَرْ من الأسرار في كمال درجاته ومراتبه فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يكشف قَدَرَهُ على وجه التفصيل لأحَدْ؛ بل هذا عِلْمُهُ عند الله - عز وجل -. لهذا قال بعدها (لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ) وإذا كان ملائكة الله المُقَرَّبُون لم يطَّلعوا على القَدَرْ على وجه التفصيل، وكذلك الأنبياء المرسلون الذين هم صفوة عباد الله لم يطَّلعوا على ذلك على وجه التفصيل فإنّ التعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان. وذريعة الخذلان يعني وسيلة من وسائل سلب التوفيق؛ لأنَّ الله منع العباد عن ذلك ولم يأمرهم بالبحث في هذا ولا بالتعمق فيه. وإذا كان الصفوة لم يُطْلَعُوا على ذلك ولم يَطَّلِعُوا عليه فإذاً الباب مغلق وإذاً لا تحاول كشفاً للقدر. ومعنى كشف القدر ما ذكره في جُمَلِهِ بأن يحذر المسلم من التفكير في تقدير الله - عز وجل - للأشياء نَظَرَاً في العلل وفِكْرَاً في الحِكَمْ ووسوسةً في لم فعل ذلك؟ ولم حصل؟ ولم قُدِّرَ كذا؟ ولم وفق هذا. ولم خذل ذلك؟ ولم حصل كيت وكيت؟ فإنَّ الله سبحانه طوى علم القدر عن أنامه، ولذلك نهاهم عن تطلُّبه قال {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . فإذاً إذا تبين ذلك فإيماننا بقدر الله - عز وجل - إيمانٌ بما جاء في النصوص من تفصيل ما يجب علينا أن نؤمن به. ثُمَّ إيمان إجمالي وهو ركن الإيمان؛ لأنّ كل شيء فإنه بتقدير الله - عز وجل -، لأنَّ من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره. يعني أن نؤمن بأنَّ ما حصل من الخير والشر بالنسبة إلينا فإنه بتقدير الله - عز وجل -. يعني لَمْ تَحْصُلْ الأشياء ابتداءً دون تقديرً من الله وعِلْمٍ وكِتَابَةٍ ومَشِيئَةٍ وخَلْقٍ لله - عز وجل -، بل الله الذي عَلِمَهَا وكَتَبَهَا وقَدَّرَهَا وشَاءَهَا، فلم يحصل شيء ولا يحصل شيء إلا بتقدير الله - عز وجل - وإذنه الكوني. إذا تبين ذلك فإنَّ الإيمان الإجمالي لما ذكرت هذا ركن الإيمان، ما يصح إيمان أحد حتى يؤمن بهذا القَدْرْ، وهو أنَّ كل شيء بِقَدَرْ وأَنَّ الأشياء يُقَدِّرُهَا الله - عز وجل - فيما سبق. ثُمَّ الإيمان التفصيلي بما عَلِمَ تَفْصِيلَاً من نصوص الكتاب والسّنة بما يدخل في بحث القَدَرْ. فإذا جاءه الدليل أنَّ مِنَ القدر عِلْمُ الله السابق فإنه يؤمن بذلك، وإذا جاءه الدليل أنَّ الله خالق كل شيء فيؤمن بهذا العموم؛ عموم خَلْقِ الله - عز وجل - للأشياء بما في ذلك طاعة المطيع ومعصية العاصي، إذا عَلِمَ عموم مشيئة الله - عز وجل - وأنَّ مشيئة العبد لا تستقل بإحداث الأشياء بل لابد من مشيئة الله - عز وجل - آمن بذلك على وجه التفصيل، فيكون ذلك من الإيمان الواجب لأنه عَلِمَ الدليل الذي يجب عليه الإيقان به. بحْثُ القَدَرْ بَحْثٌ طويل، وقد يحتاج الأمر لبسطه إلى مجالس عديدة ودروس متنوّعة، ولعلي أرتبه لك في مسائل فيها مزيد تفصيل عما سبق ذكره لك في الدروس السابقة مثل الواسطية والشروح الأُخَرْ ليحصل مزيد علم عمّا سبق إن شاء الله تعالى، فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 [المسألة الأولى] : القَدْرْ في اللغة بمعنى ترتيب الشيء ليكون على وَجْهٍ ما، فيُقَال قَدَّرْت أو تقول قَدَّرْتُ أن يكون الأمر كذا وكذا، إذا رَتَّبْتََ أن يكون الأمر على هذا المنوال. فإذاً القَدَرْ في معناه اللغوي يدخل فيه الفعل، ويدخل فيه الإرادة والمشيئة، ويدخل فيه العلم، ويدخل فيه أيضا الحكمة بحسب من قَدَّرْ. وأما في الشريعة فالقَدَرْ يجمع أربعة أشياء: - يجمع العلم السابق. - والكتابة السابقة. - وعموم مشيئة الله - عز وجل. - وعموم خلقه - عز وجل - للأشياء. ولهذا عرَّفَ بعض أهل العلم القَدَرْ بأنَّ القَدَرْ: هو علم الله بالأشياء قبل وقوعها وكتابته لها في اللوح المحفوظ وعموم مشيئته لما يقع وخلقه - عز وجل - للأشياء كلها. وهذا في الواقع تعريفٌ من باب ليس حدّاً، يعني على صناعة الحدود ولكنه تعريف يشمل مراتب الإيمان بالقدر الأربعة ولِيُدْخِلَ ذلك في تعريف القدر عند أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 [المسألة الثانية] : القَدَرْ مرّ بك تعريفه. وأما القضاء فإنه في اللغة بمعنى إنهاء الشيء، وقد يكون الإنهاء إنهاء عمل وقد يكون إنهاء خبر، ولهذا جاء في القرآن تنوّع معنى القضاء إلى عدة معاني: 1 - المعنى الأول أنَّ القضاء يكون بمعنى الإنهاء كما قال سبحانه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ} [سبإ:14] . 2 - المعنى الثاني أنَّ القضاء بمعنى الوحي وذلك إذا عدي بـ (إلى) ، قضينا إلى، قَضَى إلى، يكون إنهاء الخبر بالوحي كما قال - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4] يعني أوحينا إلى بني إسرائيل وأعلمناهم وأخبرناهم، وقال أيضا - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} يعني أوحينا إليه وأنهينا إليه ذلك الخبر بالوحي. 3 - المعنى الثالث أنَّ القضاء يكون بمعنى القَدَرْ كما قال - عز وجل - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] ، يعني قَدَّرَ ذلك وخلقه وفعله، وكما في قوله أيضا {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} [سبإ:14] ، على أنَّهُ بمعنى القَدَرْ؛ لأنَّ الإنهاء يدخل في القَدَرْ. ولهذا المعنى قال جمع من أهل العلم إنَّ القضاء والقَدَرْ بمعنى واحد؛ لأجل أنهم لحظوا أنَّ معنى القضاء داخل في معنى القَدَرْ، وأنَّ القدر والقضاء لا فرق بينهما. ممن ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم منهم ابن الجوزي وكثير من العلماء السابقين. * وأما فيما دَلَّتْ عليه نصوص الكتاب والسنة فإنَّ القَدَرْ غير القضاء، وهذه الغيرية بمعنى أنَّ القَدَرْ أعم من القضاء، والقضاء قد يكون بعض مراتب القَدَرْ من حيث الإطلاق. ولهذا قال بعض أهل العلم في تبيين ذلك: إنَّ القضاء هو القَدَرْ إذا وقع، وقبل وقوع المقدر لا يسمى قضاء. ذلك لأنَّ كلمة قضاء -كما رأيت في معناها في اللغة وفي استعمالات القرآن أنها بمعنى الإنهاء إنهاء الشيء إنهاء الخلق إلى آخره. والقَدَرْ إذا وقع وانتهى صار قضاءً، قُضِيَ {قُضِيَ الأَمْرُ الذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] ، يعني انتهى {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ، يعني أحكم بما شئت وأنهى الأمر على أي وجه شئت. فإذاً يكون القضاء هو إنهاء القَدَرْ، وهذا يتبيّن بأنَّ مراتب القَدَرْ الأربعة التي سيأتي بيانها منها مرتبتان سابقتان وهي مرتبة العلم والكتابة، ومنها مرتبتان -وهي عموم المشيئة وعموم الخلق لله - عز وجل -- هاتان المرتبتان مقارنتان لوقوع المقدر. ولهذا إذا نُظِرَ لوقوع المُقَدَّرْ من جهة عموم الخلق وعموم المشيئة فإنَّهُ حينئذٍ يكون قضاءً لله - عز وجل - لهذا الشيء. قضى الله - عز وجل - الأمر على كذا وكذا بمعنى خلقه وشاءه. ولهذا نظر من نَظَرْ في أنَّ القضاء داخل في القَدَرْ فلذلك قالوا القضاء والقدر بمعنى واحد. لكن على التحقيق ليس القضاء والقدر بمعنى واحد، وإنما القضاء هو وقوع المُقَدَّرْ، فإذا وقع القَدَرْ السابق وانتهى سُمِّيَ قَضَاءً، قُضِيَ وانتهى وهو المُقَدَّرْ، ولاشك أنَّ الذي يقع مقدر ويكون قضاء. ولهذا نقول القضاء، والقَدَرْ بينهما فرق فإن: - القَدَرْ أعم، والقضاء أخص. - والقَدَرْ سابق، والقضاء لاحق. - والقَدَرْ فيه عدة صفات لله - عز وجل -: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأما القضاء قضاء الله - عز وجل - للشيء في نفسه يدل على خلقه سبحانه وتعالى للشيء ومشيئته له. لهذا على الصحيح أنَّ القضاء والقَدَرْ ليسا بمعنى واحد ولا يتواردان، يعني ما يُسْتَعْمَل أحدهما بمعنى الآخر؛ بل القَدَرْ أعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [المسألة الثالثة] : الإيمان بالقدر يشمل أربع مراتب: أما مرتبتان فسابقتان قبل خلق السموات والأرض قبل خلق الأشياء وهما: 1 - المرتبة الأولى: علم الله - عز وجل - السابق. 2 - المرتبة الثانية: كتابه - عز وجل - للأشياء في اللوح المحفوظ. @ وعلم الله السابق بالأشياء: علم أزلي والله سبحانه وتعالى عِلْمُهُ صفة ذاتية له، فما شاء الله - عز وجل - أو أراد أن يُوقِعَهُ في ملكوته مُوَقَتاً بوقته مُقَدَّراً بزمان وصفتة فإنه سبحانه وتعالى عَلِمَ ذلك على وجه التفصيل لكمال علمه وأنه سبحانه بكل شيء عليم. @ وأما كتابه - عز وجل - للأشياء: فإنَّ الله كَتَبَ مقادير الخلائق مؤخراً؛ يعني قبل خَلْقِ السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وغيره «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) . وقوله (قَدَّرَ الله) يعني كَتَبَ لأنَّ المرتبة السابقة للعلم هي قبل ذلك. عِلْمُ الله - عز وجل - أول علم الله أزلي، يعني لم يَزَلْ. فإذاً نقول إنَّ مرتبة الكتابة هي كتابة الله - عز وجل - للأشياء على وجه الإجمال والتفصيل في اللوح المحفوظ كما قال سبحانه {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53] ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال - عز وجل - {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، ونحو ذلك من الأدلة. والأدلة لهاتين المرتبتين كثيرة في القرآن والسنة. 3 - أما المرتبة الثالثة فهي مرتبة عموم مشيئة الله - عز وجل -: فإنه ما شاء الله كان وما لن يشأ لم يكن. فطاعة المطيع وقعت بمشيئة الله، ومعصية العاصي وقعت بمشيئة الله، إحياء النفس وقع بمشيئة الله، وقتل النفس وإزهاق روحها ظُلْماً وعدوانا وقع أيضا بمشيئة الله - عز وجل -. فالله سبحانه شَاءَ كل ما وقع، فما وقع في ملكوته لا يمكن أن يوقعه العبد إلا إذا شاءه الله - عز وجل - بما في ذلك الأمور المحمودة عند الإنسان والأمور المذمومة عند الإنسان، الخير بالنسبة للإنسان والشر بالنسبة للإنسان كل ذلك وقع بمشيئة الله - عز وجل -، ولا يخرج أحد عن مشيئته، قال سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال سبحانه {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال سبحانه أيضا {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ} [الأعراف:155] . فإذاً ما يقع من الإضلال هو بمشيئة الله؛ لكن وقع بمشيئة الله لحكمةٍ لله - عز وجل - في وقوعها. فإذاً الله سبحانه شَاءَ الخير وشاء الشر وأذِنَ بوقوع الخير، وأَذِنَ بوقوع الشر كَونَاً. وأما من جهة الشرع، من جهة الدين فإنَّ الله سبحانه نهى عن الشر، نهى عن الكفر، نهى عن الكبائر، نهى عن المعصية، نهى عن الظلم وأمر بالإيمان وأمر بالعدل وأمر بالطاعة وأمر بالعبادة. فإذاً ثَمَّ فرق بين الإرادة الكونية وبين الإرادة الدينية. فالإرادة الكونية لا يُشْتَرَطُ لها وهي المشيئة أن يكون الشيء وقع والله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُ ويرضاه؛ بل قد يأذن الله - عز وجل - ويشاء بالشيء وهو لا يحبه ويرضاه، يأذن به كَونَاً ويشاؤه ويقع وهو لا يحبه ويرضاه من عباده، وهو لا يحبه ويرضاه أن يقع؛ لكن أَذِنَ به وشاءه لحكْمَةٍ له - عز وجل - في ابتلاء العباد؛ لكنه لم يرضه دينا، يعني ما أراده شريعةً، ما أرده ديناً، وهذا يحتِّمْ كما قال - عز وجل - {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر:7] مع أنه {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ} ، ولكنه {لاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} . فإذاً دَلَّتْ الأدلة على التفريق ما بين الإرادة الكونية والإرادة القدرية، والإرادة الكونية هي المشيئة. لأنَّ الإرادة تنقسم إلى: - إرادة كونية. - وإرادة دينية وأما المشيئة فلا تنقسم، المشيئة هي الكونية يعني هي الإرادة الكونية. إذا تبين لك ذلك فمرتبة المشيئة هي المرتبة التي فيها الخلاف والضلال ما بين القدرية المتوسطة وبين أهل السنة والجماعة، هي في مسألة المشيئة. والقدرية الذين ينفون القَدَرْ كالمعتزلة والرافضة وأشباه هؤلاء والزيدية كل هؤلاء يُنَزِّهُون ويقولون: إنَّ المشيئة لا تدخل في معصية العاصي ولا في كفر الكافر، فإنَّ كفر الكافر ومعصية العاصي هذه لم يشأ الله - عز وجل - أن تقع وإنما شاءها العبد وهي مكروهة لله - عز وجل - استدلالاً بقوله {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} .   (1) سبق ذكره (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والصواب في ذلك أنه ما من شيء يقع إلا بإذن الله، وإلا فيكون الله - عز وجل - يقع في ملكه ما لم يأذن به، وهذا وَصْفٌ لله - عز وجل - بالنقائص. بل عموم قدرة الله - عز وجل - وقوته وملكوته وجبروته وقهره وملكه لهذا الملكوت أنَّهُ لا يحصل شيء إلا بعلمه سبحانه وبإذنه ومشيئته؛ لكن له حكمة في أَنْ يقع هذا الشيء. فقتل القتيل ظلماً وَقَعَ بمشيئة الله الكونية لكنه لم يأذن به شرعاً بل نهى عنه، اقتحام الكعبة والمسجد الحرام وإسالة الدم فيه لم يقع بإذن الله الشرعي ولكنه وقع بإذن الله الكوني. فإذاً يجتمع في إذن الله الكوني الطاعات والمعاصي، المحمود والمذموم، الشر والخير. وأما إذن الله الشرعي، إرادة الله الشرعية فهي ما أَمَرَ الله - عز وجل - به. وأما ما نهى عنه فإنه لم يُرِدْهُ شَرْعَاً. وهذا بيان مهم والمسألة معروفة لأكثر طلبة العلم في التفريق ما بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لهذه المسألة. 4 - أما المرتبة الرابعة فهي مرتبة عموم خلق الله - عز وجل - للأشياء: وأما خلق الله للأشياء فجميع المنتسبين للإسلام بل وغير المسلمين يؤمنون بأنَّ الله خالق الأشياء. لكن عموم خلق الله الأشياء بِضَابِطِ وقَيْدِ العموم هذا مما تميَّزَ به أهل السنة والجماعة إعمالاً وإيمانَاً بقول الله - عز وجل - {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، وقوله سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] . فإذاً الأشياء التي خَلَقَهَا الله - عز وجل - داخلة في قَدَرِ الله سبحانه وتعالى. يدخل في عموم خلق الله - عز وجل - للأشياء الكُفْرْ، ويدخل في ذلك معصية العاصي، ويدخل في ذلك عمل الإنسان بجميع أنواعه من الخير والشر وذلك لقوله سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، يعني خلقكم والذي تعملونه. - فتكون {مَا} بمعنى الذي، يعني اسم موصول بمعنى الذي. - أو تكون {مَا} مصدرية يعني حرف مصدري تُقَدَّرْ مع الفعل بعدها بمصدر فيكون تقدير الآية (والله خلقكم وعملكم) . (1) فما عَمِلَهُ الإنسان خَلَقَهُ الله - عز وجل - كما خَلَقَ ذات الإنسان خَلَقَ عمله، والله خلقكم وعملكم، أو والله خلقكم والذي تعلمونه. وهذا ظاهر، ويأتي بيان شُبَهْ الفِرَقْ والرد عليها مزيد تفصيل لعموم خلق الله - عز وجل - للأشياء.   (1) راجع (231) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 [المسألة الرابعة] : منشأ الضلال في القدر، منشأ ضلال الفرق: الجبرية والقدرية يرجع إلى عدة أسباب: (1) 1- السبب الأول: قياس أفعال الله - عز وجل - وتصرفاته سبحانه بأفعال الخلق. فيجعلون ما كان محموداً في الخلق محموداً في فِعْلِ الله - عز وجل -، وما كان مَذْمُومَاً في الخلق فيكون مَذْمُومَاً في فعل الله - عز وجل -. فعندهم أنَّ العدل محمود والظلم مذموم، فيجعلون العدل بتفسيره في الخَلْقْ والظلم بتفسيره في الخَلْقْ في حق الله، فما اقتضى العدل في المخلوق جَعَلُوهُ لله وما اقتضى الظلم في المخلوق جعلوه منفِيَّاً عن الله - عز وجل -. ولذلك نفوا عموم المشيئة ونَفَوا عموم الخلق، لأنهم جَعَلُوا أنَّ إِذْنَ الله - عز وجل - بالكفر يقتضي الظلم؛ لأنه معناه الإلزام. وجعلوا خلق الله - عز وجل - لمعصية العاصي ولكُفْرِ الكافر جعلوا ذلك ظلماً؛ لأنَّهُ في حق الإنسان إذا جَعل غيره يفعل ذلك الشيء فإنَّهُ قَهَرَهُ عليه وأَجْبَرَهُ عليه أو أنه أَذِنَ له به وهذا ظلم في حق الإنسان فيما بينهم. فيقولون: إِذْنُ ما كان عدلاً في الإنسان فهو عدل في الله وما كان ظلماً في الإنسان فهو ظلم في الله لأنَّ تعريف العدل والظلم فيما جاء في النصوص هو التعريف اللغوي وهو الذي يشمل الإنسان ويشمل الله - عز وجل -. * وهذا في الحقيقة هو أعظم أسباب الضلال في هذه المسألة. 2 - السبب الثاني: عدم التفريق ما بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية. فيجعلون الإرادة والمشيئة شيء واحد، فما نُفِيَ مما لم يُرِدْهُ الله - عز وجل - شرعا جعلوه مَنْفِيَّاً كونا. فالله - عز وجل - لم يرد الكفر فجعلوه - عز وجل - لم يشأ الكفر؛ لأنَّ الإرادة عندهم قسم واحد، لم يرد المعصية فجعلوه لم يشأ المعصية، لم يرد الكبيرة جعلوه لم يشأ الكبيرة. والإرادة كما ذكرنا منها إرادة شرعية ومنها إرادة كونية. والإرادة الكونية هي المشيئة، وأما الإرادة الشرعية فهي التي تدخل فيها صفة المحبة والرضا لله - عز وجل -. 3- السبب الثالث: دخول العقل في التحسين والتقبيح. فيجعلون الأفعال التي تقع في ملكوت الله وتقدير الله - عز وجل - للأشياء يدخل فيه العقل مُحَسِّناً ومُقَبِّحاً. وذلك لأنَّ العقل عندهم أصل، فقالوا: العقل يُعْمَلُ في أفعال الله فما حَسَّنَهُ العقل في أفعال الله صار حسناً وما قبَّحَهُ العقل في أفعال الله - عز وجل - وجب نفيه عن الله - عز وجل -. وهذه هي المسألة المشهورة بالتحسين والتقبيح العقليين التي لها صلة بالأصول وبالفقه يعني بالتكليف ولها صلة أيضا بمبحث القضاء والقدر. 4- السبب الرابع: الدخول في أفعال الله - عز وجل - وعدم التسليم لمراد الله - عز وجل -. يعني الخوض في أفعال الله سبحانه وتعالى. والخوض في أفعال الله - عز وجل - كما ذكر لك الطحاوي في ذلك (ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ) . (ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ) يعني وسيلة لأن يُخْذَلْ العبد، لأنه معناه أنك تريد أن تصل إلى معرفة سر القَدَرْ وهذا لا يمكن. (سُلَّمُ الْحِرْمَانِ) لا يمكن أيضاً أن تدخل في أفعال الله فَتُحْرَمْ؛ ولأنَّ هذا سُلَّمُهُ الحرمان فتصل إلى أن تكون محروماً. وكذلك أنَّه (دَرَجَةُ -من درجات- الطُّغْيَانِ) لأنَّ الإنسان رفع نفسه فوق ما لها، طَغَى وجاوز حَدَّهْ، فحَدَّهُ أن يتعبد الله - عز وجل - بالإيمان والتسليم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . فإذاً السؤال بـ (لم؟) هذا من منشأ الضلال فيمن ضَلَّ في الجبرية وفي القدرية وفي المتحيرين المتشككين الذين أنكروا الشريعة وضَلُّوا وأَلْحَدُوا بسبب الدخول في القَدَرْ. من المعلوم أنَّ القَدَرْ فيه العِلْمْ، والعلم يتفاوت فيه الناس. والله - عز وجل - يعلم ما يوافق حكمته - عز وجل -. الحكمة أين هي؟ ما يريده الله - عز وجل - من الابتلاء في خلقه. الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك، فأَوْقَعَ في خلقه ما يوافق الحكمة له؛ يعني ما يوافق مراداته في خلقه وحصول الابتلاء في ذاته، والإنسان قد ينظر فيكون علمه قاصراً فلا يصل إلى حقيقة الإدراك. ولهذا قال بعض السلف وتُنْسَبْ إلى أبي بكر رضي الله عنه (العجز عن الإدراك إدراك) لم؟ (2) لأنَّ إدراكات الذكي غير إدراكات البليد فإذا اعْتَرَضَ البليد على الذكي بأنَّ هذا الشيء ليس كذلك لأنَّ هذا ما يُعْقَلْ وهذا ما يحصُلْ فيكون هذا اعتراض لا عن علم وإنما عن جهل فَيُرَدْ على صاحبه فيكون هو المحروم. مثل جهل بعض الناس مثلاً ببعض الأجهزة. الكفار من النصارى أوَّل ما اخترع المسلمون الساعة أنكروها وخافوا منها، ورَجَعَ الأمر إلى أنَّ في بعض المخترعات للكفار في العصر الحديث رفضه بعض المسلمين وخافوا منه؛ وذلك لأنَّ ذلك فيه عَجْزَاً عن إدراك حقيقته، فرفضوا لأنهم عجزوا عن إلادراك.   (1) راجع (68) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وهذا إذا كان في المخلوق فالله - عز وجل - له العلم الكامل وله العلم بكل شيء سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على تفاصيلها. والإنسان علمه قاصر، فإذاً إذا خاض في القدر بعلمه القاصر فلاشك أنه سيعترض لأنه لا يعلم. وإذا اعترض على الله - عز وجل - فإنه سَيُخْذَلْ ويُحْرَمْ ويَتِيه ويُخْذَلْ ويضل الطريق كما حصل أنَّ أناساً كثيرين ضلُّوا بسبب خوضهم في أفعال القدر. هذه وقد ذكرنا لكم كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته القدرية قال: وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُو لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ هذه بعض أسباب ومنشأ الضلال في باب القَدَرْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [المسألة الخامسة] : أنّ الناس في القَدَرْ الذين خالفوا أهل السنة والجماعة، لهم فِرَقْ كثيرة وهذه الفرق ترجع إلى فرقتين: 1 - الأولى القدرية. 2 - الثانية الجبرية. @ ويُعنى بالقدرية: الذين أنكروا القدر، إما أنكروا كل المراتب، أو أنكروا بعض مراتب القَدَرْ التي ذكرنا لك. @ ويُعنى بالجبرية: الذين يزعمون أنَّ الإنسان لا اختيار له وأنه مجبور. & أولاً: القدرية: القدرية فرق يُلَخَّصْ اختلافهم في أنَّ: 1- الفرقة الأولى: هم الغلاة الذين كانوا يُنكرون عِلْمَ الله - عز وجل - السابق فيقولون: إنَّ الله - عز وجل - لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه والأمر أُنُفْ، كما كان يقول معبد الجُهَنِي وغيلان الدمشقي وجماعة من الأولين. وهؤلاء هم الذين أنكروا علم الله السابق، فقالوا: إنَّ الله لا يعلم الأشياء حتى تقع والأمر أنف؛ يعني مستأنف جديد غير معلوم وغير مُقَدَّر له قبل ذلك. وهؤلاء هم الذين كفَّرَهُم السلف وكفَّرَهُم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغير أولئك، وذلك لأنهم أنكروا مرتبة العلم، والله - عز وجل - ذكر عِلْمَهْ، فمعنى ذلك أنهم ردُّوا حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب فهو من الكافرين. وهؤلاء هم الذين قال فيهم السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِمُوا وإن جحدوه كفروا) . وهذه الفرقة ذهبت ولا يُعْرَفْ أنها عقَّبَتْ وارثاً في الأعْصُرْ المتأخرة. 2 - الفرقة الثانية: وهم القدرية المتوسطة: المعتزلة والشيعة الرافضة والزيدية ومن نحا نحو أولئك. وهؤلاء لا يُنْكِرُونَ جميع المراتب؛ ولكن يُنْكِرُونَ بعض الأشياء في بعض المراتب. فيقولون: إنَّ المشيئة ثابتة لكن ليست عامة. ويقولون: إنَّ الخلق ثابت ولكن ليس عامَّاً. وسُمُّوا بالقدرية لأنهم ينفون بعض مراتب القدر. وهذه الفرقة باقية إلى الآن المعتزلة موجودة الآن، الزيدية والرافضة والفرق موجودة في أمصار كثيرة من بلاد المسلمين، وهؤلاء هم الذين يأتي إن شاء الله ذكر بعض شبههم والرّد عليها بإذنه تعالى. & ثانياً: الجبرية: أما الجبرية فهم أيضا فِرَقْ منهم: 1- الفرقة الأولى: هم الغلاة، وهم الذين يقولون إنَّ الإنسان مجبور على كل شيء، وحركاته كحركة الريشة في مهب الهواء، وكحركة الخشبة في البحر فإنَّ الأمواج تتقاذفها وليس لها اختيار، وكذلك الريشة يُقَلِّبُهَا الهواء وليس لها اختيار. العبد يقولون ليس له اختيار وإنما هو مفعول به في كل أحواله، سواء من ذلك الطاعات والمعاصي، فَصَلَّى مجبوراً، وصام مجبوراً، وسرق مجبوراً، وغشّ مجبوراً. ويقولون: إنَّ أفعال الله - عز وجل - غير مُعَلَّلَة، فقد يُدْخِلْ الله - عز وجل - إبليس الجنة، وقد يُدْخِلْ آدم النار؛ يعني من لازِمِ مذهبهم، فإنه لا تعليل في أفعال الله، قد يُعَذّب المطيع الصالح، وقد يُعْطِي ويُنَعِّم الكافر الطاغوت. لماذا؟ لأنَّهُ يقول هؤلاء فَعَلُوا بغير اختيارهم، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أَجْبَرَ هذا أَجْبَرَ هذا، فله أن يَقْلِبَ الأمور لأنَّ هذا ما فعل الذنب باختياره، نعوذ بالله من الأقوال الضالة. وهؤلاء يمثّلهم -يعني الجبرية- يمثلهم طوائف من الصّلحاء في الزمن الأول ممن رأوا الفَنَاء في شهود الأمر الكوني. وممن قال أيضاً بهذا القول جهم ومن اتَّبَعَهُ، وأيضاً قال به طوائف من غلاة الصوفية يرون أنهم ليس لهم فعل البتة، فأفعالهم الظاهرة كحركة أمعائهم لا اختيار لهم فيها. 2- الفرقة الثانية: وهم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم ممن غَلَوا في إثبات المشيئة، مشيئة الله - عز وجل - وخلقه، وقالوا إنَّ الإنسان ليس مجبوراً على كل حال؛ ولكن هو مجبور باطناً لا ظاهراً؛ يعني في الباطن مجبور ما يتحرك بإرادته ولكن في الظاهر تصرفاته بإرادته، فَيُحَاسَبُ على تصرفاته الظاهرة، وأما الذي دَفَعَهُ في الحقيقة فهو أمر باطن مُجْبَر عليه من الله - عز وجل -. وهذا في الحقيقة قولٌ بالجَبْرْ، ومشهور أنَّ الأشاعرة جبرية. ولهذا لما عُرِضْت هذا الاعتراضات، اعْتُرِضْ على الأشعري في الحساب والعقاب والثواب قال: إنَّ الأفعال يُحَاسَبْ عليها العبد ويُنَعَّمْ ويُعَذَّبْ لأنه كسبها، وكَسْبُهُ لها من فعله. فإذاً يُعَاقَب ويُثَاب على ما كسب، والله - عز وجل - يقول {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] فأخذ من لفظ (كَسَبَ) في القرآن أنَّ الفعل الظاهر كَسَبَهُ العبد، يعني عمله فهو يحاسب على ما ظهر. وهذا الكسب عنده في الواقع ابتدأه أبو الحسن الأشعري دون سابق في هذه الأمة، فلهذا نَظَرَ أصحابه في تعريف الكسب، إيش معنى الكسب هذا الذي أحدثه الأشعري لقاء قوله بالجبر الباطن؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يقول إنَّ الإنسان يُفعل به وهو يَفْعَلْ، والأمر يحصل عند حركة الإنسان، مثل قطع السكين للخبزة، أو تكسير العصا للحجر، فإذا ضَرَبَ الإنسانُ الحجر بالعصا، يقول: إنَّ الحجر تنكسر لا بالضرب؛ ولكن عند الضرب، يعني كَسَرَ الله الحجر لا بِضَرْبِ الإنسان ولكن عند ضربه. يعني أنَّ الحجر ليس له خاصية الانكسار بضرب العصا، والعصا ليست لها خاصية الكَسْرْ -كسر الحجر-، والإنسان ليس فيه خاصية أنَّهُ يحمل العصا على الحقيقة ويكسر على الحقيقة. ولهذا سماهم السلف نفاة التعليل ونفاة الأسباب، يعني ليس ثَمَّ شيء يُنْتِجُ شيئاً ليس ثم سَبَب يُنْتِجُ مُسَبَّبَاً عندهم كل شيء يحصل بخلْقٍ له منعزل عن غيره، لا بأسباب غيره. فالماء إذا نزل على الأرض نبت العشب لا بالماء، ولكن عند الإلتقاء. وما جاء في القرآن من ذكر حرف الباء {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ} [النمل:60] يعني لفظ {بِهِ} هذا يفسرونه بعنده هذا كثير في التفاسير فتنتبه لهم. إذاً خلصوا إلى أنَّ الإنسان يكسب العمل. وتفسير الكسب، كيف يَجْمَعْ ما بين الجبر الظاهر والجبر الباطن بالكسب اختلف فيه الأشاعرة على أقوال كثيرة وخلاصتها أنه لا مُحَصَّلَ لها وأنه مجبور لا مختار. ولهذا قال القائل في البيت المعروف في بعض كتب العقائد المطولة قال: مما يقال ولا حقيقة تحته معقولةً تدنو لذي الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام (1) هذه ثلاثة أشياء لا حقيقة لها اخترعها أصحابها دون حقيقة. إذا تبين لك ذلك فلفظ الكسب له عدة استعمالات، أو الكسب عند الناس له ثلاث استعمالات، أو الناس في الكسب لهم ثلاثة أقوال -يعني بما تراه-: 1- الأول: الكَسْبْ عند الأشاعرة هذا أوضحناه لك. 2- الثاني: كَسْبٌ بمعنى العَمَل، ما يعمله الإنسان باختياره ورغبته يكون كَسْبَاً له لأنه حَصَّلَهُ. مثل ما تقول: كسبتُ مثلا كذا من المال لأنَّه .... عمل شيئا فَحَصَّلْ هذا المال. كذلك الأعمال الصّالحة كَسْبٌ له؛ لأنه بذل فيها وعمل فكسب. وكذلك الأعمال السيئة عليه لأنه كسبها بجهده. وهذا هو المعنى الذي جاء في الكتاب والسنة، فمن استعمل الكسب في هذا المعنى فهو صحيح؛ لأنه قد جاء في القرآن والسنة مثل {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، ولفظ الكسب في القرآن كثير. فإذاً هذا المعنى واضح وصحيح. ترجعون في تقسيم الكسب إلى الأقوال الثلاثة والحُجَجْ فيه؛ لأنه مهم إلى كتاب ابن القيم شفاء العليل. طولنا عليكم نرجئ بقية المباحث إن شاء الله إلى الأسبوع القادم. نكتفي بهذا القدر لأجل عدم الإطالة وإن شاء الله نلتقي بكم على خير حال. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) قال شيخ الإسلام في رسالة له ضمن مجموع الفتاوي -أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل-ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ذكرنا بعض المسائل التي تتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، وآخر ما تكلمنا عليه تفسير الكَسْبْ عند الناس ونجعلها مسألة مستقلة أحسن فنقول: [المسألة السادسة] : لفظ الكَسْبْ جاء في القرآن في ذِكْرِ ما للمكلف وما عليه، فقال سبحانه {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (1) وقال - عز وجل - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ونحو ذلك من الآيات. ولمَّا جاء لفظ الكسب في القرآن وفي السنة أيضاً جاء مذهب أهل السنة والجماعة بإثبات كَسْبْ المرء وتفسير الكَسْبْ بما دلت عليه النصوص وهو أنَّ كَسْبَ المرء هو عمله. فالكسب هو العمل والفعل، فقوله سبحانه {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يعني لها ما عملت، فالعمل هو الكَسْبْ، ودلّ على ذلك أنه - عز وجل - قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل:111] ، وفي الآية الأخرى {مَا كَسَبَتْ} فدلّ على أنَّ الكَسْبْ هو العمل. والناس أعني المذاهب الثلاثة المشهورة في باب القَدَرْ وهي مذهب الجبرية والقدرية وطريقة أهل السنة والحديث كلٌّ فسر الكَسْبْ على حسب معتقده: 1- مذهب القَدَرِيَّةْ: فسَّرَ القدرية -وهم نُفاة القدر الذين يقولون: إنَّ العبد يخلق فعل نفسه وأنَّ الله - عز وجل - لا يخلق فعل العبد من المعتزلة ومن شابههم- قالوا: إنَّ معنى الكَسْبْ في هذه الآيات هو إيجاد العبد للفعل، وشَبَّهُوهُ بكسب التجارة فإنَّ كسب التجارة فعل، كما قال - عز وجل - {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة:267] فما كَسَبَ الإنسان من التجارة أنفقوا من طيبات ما كسبتم، {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ، فَذَكَرْ الكسب في معرض التجارة فقالوا كذلك هو في فعله يكسب العمل الصالح كما يجتهد في كَسْبْ التجارة. فإذاً جعلوا الكَسْبْ هو إيجاد العبد الفعل على مذهبهم في خلق أفعال العباد. وذلك أنَّ لفظ الكَسْبْ فيه شيء من الاحتمال، ولهذا فسرته كل طائفة على مذهبها. 2- مذهب الجبرية: والجبرية -كما ذكرنا لكم طرفاً من مذهبهم في قول الأشاعرة والجهمية- الجبرية فَسَّرُوا الكَسْبْ بأشياء كثيرة وبعبارات متنوعة لا حاصل معها على التحقيق، وذكرت لكم قول الشاعر أو قول أحد العلماء: مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو لذي الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام فحين اخترع الأشعري مذهبه الذي هو جَبْرٌ باطن لا جَبْراً ظاهرا، لما [ ..... ] ووجد في لفظ الكَسْبْ في الكتاب والسنة مخرجاً له فقال الأعمال كسب. كيف يتوافق هذا مع قوله في القَدَرْ؟ قال: الكَسْبْ عبارة عن تعلق القُدْرَةْ بالحال أو غير ذلك من التفاسير. واختلف أصحابه في تفسير الكَسْبْ على هذا الاصطلاح الذي هو كسب الجبر. كيف يكون للإنسان كسب وهو مجبور؟ اختلفوا في تفسير الكَسْبْ على أوجه كثيرة أكثر من عشرة أوجه، وكلها راجعة إلى نوع من التعلق ما بين القدرة والإرادة والعمل والتكليف، وهذا فيه صعوبة في الربط بينها. ولذلك أهل العلم حتى الأشاعرة قال محققوهم: إنه لا حصيلة تحت هذه العبارة التي هي عبارة الكَسْبْ على خلاف معنى العمل. 3 - مذهب أهل السنة والجماعة: أما القول الثالث في الكَسْبْ فهو قول أهل العلم والسنة والحديث من الصحابة رضوان الله عليهم فمن بعدهم فإنهم قالوا إنَّ الكَسْبَ هو العمل وهو الفعل، والله - عز وجل - قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، وفَرَّقَ ما بين الكَسْبْ والاكتساب مع أنَّ كثيراً من أهل العلم يجعلون الكَسْبَ والاكتساب بمعنى واحد؛ لكن في الآية قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يعني في الخير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فجعل الاكتساب فيه زيادة في المَبْنَى؛ لأنّ فيه نوع كُلْفَة، فالخير موافق للفطرة فَيَكْسَبُهُ الإنسان لموافقته لفطرته مع أنَّه تكليف، وأمّا الشر والرَّدَى والضلال فإنه مخالف لفطرته. لذلك إتيان المحرمات وإتيان الموبقات ونحو ذلك على ما في الإنسان ربما من الشهوة لبعض ذلك لكن يحتاج معه إلى أن يُعْمِلَ نفسه، يعني أن يُتْعِبَ نفسه ويخالف فطرته في أن يأتي تلك الموبقات. لذلك زاد المبنى ليدل على أنها فيها نوع كَلَفَة ومشقّة في ما يعمله المرء من الشر، قال {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يعني من الشر. فجعل أهل السنة الكسب بمعنى العمل.   (1) البقرة:281، آل عمران:161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 [المسألة السابعة] : وهذه المسألة متعلقة بمعنى خلق الله - عز وجل - لفعل العبد، وتحقيق مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك. فقد قلنا: إنَّ الإنسان عَمَلُهُ من خير أو شر يضاف إليه حقيقة، فهو الذي عَمِلَ الخير حقيقة وهو الذي عَمِلَ الشر حقيقة. ومع ذلك لا يقال: إنه خَلَقَ فعله، بل هو عَمِلَهُ ويُضَافُ إليه لأنه كَسَبَهُ وعَمِلَه. وأما خَلْقُ الفِعْلِ فالله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ سبحانه وتعالى. وبيان ذلك في الفَرْقْ ما بين أهل السنة والجماعة وما بين مذهب القدرية والمعتزلة وأشباه هؤلاء: أنَّ العبد كَسَبَ العمل وعَمِلَ العمل حقيقة؛ لأنَّ ذلك العمل نتج عن شيئين فيه من الصفات لا يمكن له أن يُحْدِثَ العَمَلْ إلا بوجود هاتين الصفتين: فالصّفة الأولى: هي صفة القدرة التامة. والصّفة الثانية: هي الإرادة الجازمة. فإذا كان عند العبد قدرة تامة وإرادة جازمة حَصَلَ له الفعل. تَوَجَّهَتْ قدرته التامة -يعني ليس بعاجز- وإرادته الجازمة -يعني ليس بمتردد- تَوَجَّهَتْ للشيء فعمله. فيكون الفعل حدث: بقدرة العبد وبإرادته. 1 - بقدرته التامة. 2 - وبإرادته الجازمة. فالذي تكون قدرته ناقصة لا يُحْدِثْ الفعل. والذي تكون إرادته مترددة لا يُحْدِثْ الفعل. مثلاً الإتيان إلى المسجد للصلاة: شخص لا يستطيع أن يأتي إمَّا لمرض أو لغير ذلك فهذا ربما عنده إرادة لكن ليس عنده قدرة، ولذلك لا يحصل منه (الفعل-العمل-الكسب) وهو إتيان المسجد. آخر عنده قدرة تامة ولكن ليس عنده إرادة البتة ليس عنده إرادة لإتيان المسجد فلا يمكن بالقدرة أن يُحْدِثْ الإتيان. وقد يكون عنده إرادة لكن عنده تردد، ما جَزَمَ على الإتيان فلا تتحرك جوارحه وآلاته؛ لأنَّ إرادته ليست جازمة. فإذاً العمل -فعل العبد- عند أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يحدث إلا بقدرة تامة وإرادة جازمة. وقدرة العبد صفة من صفاته لم يُقْدِرْ هو نفسه باتفاق الناس. وإرادة العبد صفة من صفاته لم يُحْدِثْ- إرادة نفسه ويختار الإرادة يعني أن يكون مريدا بنفسه-، وإنما الله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ فيه القدرة وآلات القدرة وخلق فيه الإرادة وله الإرادة ومقتضيات الإرادة. فإذاً ما نَتَجَ عن خلق الله - عز وجل - في الأمرين فهو مخلوق لله - عز وجل -. ففعل العبد نتج عن الإرادة والقدرة وهما مخلوقان. فنتج شيء عن خلق الله - عز وجل -، فإذاً هو مخلوق لله - عز وجل - لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل العمل نتيجة للقدرة والإرادة. مثل النبات: أنزل الله - عز وجل - من السماء ماءً فأنْبَتَ به أزواجاً من نبات شتى. الماء نَزَلْ، والأرض موجودة، فبِسَبَبِ الماء وبسبب الأرض خرج النبات. فهل يقال: إنَّ النبات خلقه الماء والأرض؟ ليس كذلك باتفاق المسلمين، باتفاق الناس، لم؟ لأنَّه نتيجة لنزول الماء الذي هو مخلوق باتفاق القدرية وأهل السنة، ونتيجة لنزول الماء على الأرض والتراب، والتراب والأرض مخلوق باتفاق أهل السنة والجماعة والقدرية والناس جميعاً. فإذا كان كذلك كان ما ينتج عنهما وهو النبات مخلوق؛ لأنه نتج عن شيئين اجتمعا (الماء والتراب) وما نتج عن مخلوقين فإذاً له نفس الحكم. إذا تبين ذلك فإذاً نقول أهل السنة والجماعة في تقريرهم في خلق أفعال العباد استدلوا بالآية كما ذكرنا لكم من قبل {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ، وبقوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وأيضاً استدلوا بهذه القاعدة وهو أنَّ عمل العبد لا ينتج إلا عن هاتين الصفتين. لهذا إذا لم يعط الله - عز وجل - العبد القدرة فإنه يرفع عنه التكليف «صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً» (1) {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] . وإذا لم يُعْطِهِ الإرادة كأن يكون مجنوناً لا يريد، أو كان صغيراً إرادته لا تتوجه إلى شيءٍ بِجَزْمْ مع عقل فإنه أيضاً يكون التكليف مرفوعاً عنه لأنَّ الفعل لا يتوجه إليه. الحقيقة إذاً أنَّ العبد ابْتُلِيَ بهذه الصفات التي فيه. ابتلي بالصفات الجسمانية هذه كلها ومنها صفة القدرة وصفة الإرادة. إذاً فَتَحَصَّلَ لك أَنَّ معنى خلق أفعال العباد والدليل عليها هو ما ذكرنا من الأدلة من القرآن. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله صانع كل صانع وصنعتِه» (2) يعني صَنَعْ الناس وصَنَعَ أيضاً ما يصنعون. ولهذا نقول إنَّ الدليل على خلق أفعال العباد واضح من الكتاب والسنة، وأيضاً مما قرّرنا لك من صفات الإنسان وما ينتج عن ذلك من الدليل العقلي. وثَمَّ بسط كثير في الاستلال على هذه المسألة محله المطولات. هذه ألفاظ ترد معك في مباحث القدر لا بد أن تعرفها بوضوح ثم بعد ذلك إذا قرأت ما شئت من الكتب في باب القدر ستكون واضحة إن شاء الله تعالى لك.   (1) البخاري (1117) / أبو داود (952) / الترمذي (372) / ابن ماجه (1223) (2) المستدرك (85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 [المسألة الثامنة] : معنى الاستطاعة التي وَصَفَ الله - عز وجل - بها المكلف ونفاها عن بعض فقال في النفي {وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَا} [البقرة:267] ، والعبد مستطيع: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واسْمَعُوا وأَطِيعُوا} [التغابن:16] . فالعبد أُثْبِتَتْ له استطاعة ونُفِيَتْ عنه استطاعة. والاستطاعة التي أثْبَتَها ربنا - عز وجل - للعبد غير الاستطاعة التي نفاها. وهذه المسالة مسألة الاستطاعة فيها بحثٌ طويل مع القدرية والجبرية معاً، وسيأتي تفصيل الكلام عليها إن شاء الله تعالى في آخر شرح الطحاوية؛ لأنه تعرض لها الطحاوي في أواخر هذه العقيدة المختصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [المسألة التاسعة] : في معنى إضلال الله - عز وجل - من أَضَلْ، وهدايته من هَدَى. إذا كنا نقول إنَّ الإنسان غير مجبور على الضلال وغير مجبور على الهدى. فما معنى قوله {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (1) وهذا من احتجاجات الجبرية؟ ما معنى {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ؟ ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَد} [الكهف:17] ؟ ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدي} [الأعراف:178] ؟ ما معنى {مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186] ؟ ونحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ الإضلال والاهتداء لله - عز وجل - وفق مشيئته سبحانه وتعالى وإرادته. هذه المسألة ضل فيها الناس ومن أجلها ضَلَّت الجبرية والقدرية. وهي مرتبطة في بيانها بمسألة التوفيق والخذلان. فالله - عز وجل - عَلَّقَ الإضلال بمشيئته وعلق الهداية بمشيئته. ونعلم أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله - عز وجل - خَلَقَهُ، الذي يشاؤه سبحانه وتعالىأن يكون فإنه يكون، والذي يشاء الله - عز وجل - ألا يكون فإنه لا يكون. إذا كان كذلك فإنَّ حدوث الهداية وحدوث الضلال نتيجة لأشياء. ولذلك جاء لفظ التوفيق والخذلان في النصوص. جاء لفظ التوفيق في القرآن في قوله تعالى {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بْاللهِ} [هود:88] ، ونحو ذلك فالله - عز وجل - يوفّق من يشاء ويخذل سبحانه وتعالى من يشاء. ما معنى وَفَّقَ وخَذَلَ؟ وما صلتها بـ (يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء) ؟ إذا تبين لك معنى التوفيق والخذلان فإنه سيَتَبَيَّن لك بوضوح معنى أنَّ الله - عز وجل - يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى. * التوفيق: عند أهل السنة والجماعة هو إمداد الله - عز وجل - بعونه، إمداد الله - عز وجل - العبد بعونه -يعني بإعانته- وتسديده وتيسير الأمر وبذل الأسباب المعينة عليه. فإذاً التوفيق فَضْلْ لأنَّهُ إعانة. * وأما الخذلان: فهو سلب التوفيق، فهو سلب الإعانة. يعني التوفيق إعطَاءٌ، مَنٌّ، كَرَمٌ. وأما الخذلان فهو عَدْلٌ وسلبٌ. لأنَّ العبد أعطاه الله - عز وجل - القُدَرْ، أعطاه الصفات، أعطاه ما به يُحَصِّلُ الهدى، أعطاه الآلات، يَسَّرَ له، أنزل عليه الكتب، فلذلك هو بالآلات التي معه قامت عليه الحجة. لكِنَّ الله - عز وجل - يُنعم على من يشاء من عباده بالتوفيق فيعينهم ويسدِّدُهُم ويفتح لهم أسباب تحصيل الخير. ويمنع من شاء ذلك فلا يُسَدِّدُهُ ولا يُعِينُهُ ولا يفتح له أسباب الخير بل يتركه ونفسه. وهذا معنى أنه - عز وجل - يخذل؛ يعني لا يُعِين، يترك العبد وشأنه ونفسه. ومعلومٌ أنّ العبد عنده آلات يُحَصِّلُ بها الأشياء لكن هناك أشياء ليست في يده. هناك أشياء لا يمكن له أن يُحَصِّلَهَا، فهذه بيد من؟ بيد الله - عز وجل -. لأنَّ الإنسان مرتبط قَدَرُهْ بأشياء كثيرة من الأسباب التي تفتح له باب الخير. مثل مثلاً أن يكون ذا أصحابٍ أو أن يُيَسَّرَ له أصحاب يعينونه على الخير. مثل أن لا يكون في طبعه الخَلْقِي مزيد شهوة، إما شهوة كِبِرْ من كبائر القلوب أو من كبائر البدن، هذه الأشياء موجودة فيه خَلْقاً، خارجة عن اختياره وتصرفه. فالله - عز وجل - يُوَفِّقْ بعض العباد بمعنى يعينهم على الأمر الذي يريدونه، إذا انفَتَحَ له بابُ خَيرٍ وأَرَادَهُ فَيُحِسُّ العبد أنه أُعين على ذلك، إذا أَرَادَ فِعْلَ أَمْرٍ ما من الخير يَسَّرَ الله - عز وجل - له أسباباً تعينه فانفتح له طريق الخير. وآخَرُ حَضَرَتْهُ الشياطين وغلبته على مُرَادِهِ وأَطَاعَهَا؛ لأنه لم يُزَوَّد بِوِقَايَة، بإعانة، بتوفيق يمنعه من ذلك. فإذاً صار عندنا أنَّ مسألة إضلال الله - عز وجل - مَن يشاء هو بخذلان الله - عز وجل - العباد. وهداية الله - عز وجل - من يشاء بتوفيق الله - عز وجل - بعض العباد، يعني أعان هذا وترك ذاك ونفسه. كونه - عز وجل - أعان هذا هو بمشيئته. فإذاً من يشأ الله يُضْلِلْهُ يعني: يَسْلُبُ عنه التوفيق فيَخْذُلُهُ فينتج من ذلك أنَّ الله - عز وجل - سَلَبَ عنه إعانته، سَلَبَ عنه تسديده، سَلَبَ عنه أسباب الخير، سَلَبَ عنه غَلْقْ أبواب الشر من الكفر وما دونه. فإذاً يكون ضالاً، لاهٍ هو بفعل نفسه؛ لأنَّهُ وُكِلَ إلى نفسه، لأنَّ الله - عز وجل - لم يَمُنْ على هذا بمزيد توفيق. فإذاً مسألة الإضلال في كلام أهل السنة والجماعة عدل، ومسألة الهداية فضْل. ولهذا أعظم الفضل والنعمة والإحسان نعمة التوفيق، الذي هو في الحقيقة نعمة الهداية.   (1) النحل:93، فاطر:8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فإذاً نقول: إنّ ربنا - عز وجل - مَنَّ على عباده المؤمنين فوفّقهم، أَعَانَهُم، سَدَّدَهُم، هَيَّأَ لَهُمْ الأسباب التي توصلهم إلى الخير، حبَّبَ لهم العلم، حبّب لهم الجهاد، حبّب لهم الحكمة، حبّب لهم الأمر والنهي، حبّب لهم أهل الخير إلى آخره، حبّب لهم كتاب مثل ما جاء. وهذا التوفيق درجات أيضاً ففي البداية يكون فتح باب: - وبعض الناس إذا انْفَتَحَ له باب التوفيق نَفْسُهُ فيها قُبح فتنازعه للشر فيكون بين هذا وهذا. - وآخر نَفْسُهُ فيها خير، فَمِنَ الخير الذي معه أنَّهُ ينتقل من توفيقٍ إلى توفيقٍ أعظم منه حتى يصل بسبب عمله أنَّ الله - عز وجل - يُنْعِمْ عليه بتوفيقٍ زائد ثم بتوفيقٍ زائد ثم بتوفيقٍ زائد، مثل ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره «وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه -يعني وُفِّقَ في سمعه- الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» (1) هذا كله توفيق، مزيد إعانة في هذه الجوارح، الجوارح هذه هي التي عليها الحساب والتي يُحَاسب العبد على ما صنعت جوارحه. إذاً فحقيقة إضلال الله - عز وجل - من شاء ليست جبراً، وهداية الله - عز وجل - من شاء سبحانه وتعالى ليست جبراً. وإنما العبد عنده آلات، خوطب بالتكليف وعنده الآلات، ولو كانت جبراً لصارت التكاليف -بعث الرسل، إنزال الكتب، الأمر والنهي، الجهاد- لكان كل ذلك عبثاً. والله - عز وجل - منزّه عن العبث؛ لأنَّ العبث سلب الحكمة وشر والله - عز وجل - الشر ليس إليه، لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته - عز وجل - {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:17-18] . فالله سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عن العبث. يُضلِ ْجبراً ويسلب العبد الاختيار بالمرة ثم يُحَاسبه ويُنْزِل عليه الكتب ويرسل الرسل ويأمره بالتكاليف كيف يكون ذلك؟ يكون كالغريق الذي يقال له: (2) إياك أن تبتل بالماء. : [[الشريط التاسع عشر]] : وهذا العياذ بالله هو حقيقة قول الجبرية الذين قال قائلهم: ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له ****** إيّاكَ إيّاك أن تبتلّ بالماء وهذا يُنَزَهُ عنه الحكيم الخبير - جل جلاله -. فمن عَرَفَ صفات الله - عز وجل - وعَلِمَ حكمته، فإنَّ القول بالجبر في حقيقة الأمر إبطال للتكاليف أو رجوع إلى أفعال الله - عز وجل - بأنها لعب ولا حكمة فيها ولا تُوافق غاياتٍ محمودة، والله - عز وجل - منزه عن ذلك.   (1) البخاري (6502) (2) انتهى الشريط الثامن عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 [المسألة العاشرة] : وهي في إثبات الأسباب، وأنَّ أفعال الله - عز وجل - مُعَلَّلَة، وأنَّ الله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لعِلَّة، ويأمر بالأمر لعلة. وهذه العلة هي حكمته - عز وجل - لإيجاد ذلك الشّيء. وهذا في الأمور الكونية وفي الأمور الشرعية. فما أحْدَثَهٌ الله - عز وجل - في ملكوته أمْراً فَحَدَثْ فَلَهُ حِكْمَة - عز وجل - من إيجاده. وما أَمَرَ الله - عز وجل - به في الشرع من الأحكام التشريعية أو نهى عنه فهو لعلة. فالله سبحانه يأمر في الشرع بما مصلحته راجحة أو تامة، وينهى في الشرع عن ما مفسدته تامة أو راجحة. فإذاً أهل السنة والجماعة يُثبتون التعليل في أفعال الله - عز وجل -، وأنّ أفعال الله سبحانه وتعالى الكونية وأوامره الكونية والشرعية كلّها مرتبطة بِحِكَمْ عظيمة كما قال سبحانه {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] . إذا تبين ذلك ففي القرآن إثبات أفعال الله - عز وجل - مُعَلَّلَة، وتنزيه الله - عز وجل - عن أن يفعل الفعل لا لعلة كما قال سبحانه {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:16-18] . وقال أيضاً - عز وجل - للسموات والأرض {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ} [الدخان:39] ، وقال - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] ، وفي الأشياء الشرعية -الأوامر والنواهي- الأدلة على التعليل كثيرة جدّاً جداً. المقصود من هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا كانت أفعاله مُعَلَّلَة، فأفعاله - عز وجل - لم يفعلها في مخلوقاته مباشرة دون وسائط؛ بل جَعَلَ الله - عز وجل - إيصال الفعل إلى نهايته مَنُوطَاً بأسباب، وكلُّ سَبَبٍ يُحدِثُ مُسَبَّبَاً. ولهذا قال أهل السنة بإثبات التعليل في أفعال الله - عز وجل - والأسباب. وأما أهل البدع من الجبرية وغيرهم فإنهم ينفون العِلَلْ وبالتالي ينفون الأسباب. ولذلك يقال للجبرية -الأشاعرة ومن نحا نحوهم- يقال لهم نُفَاة الأسباب. وهم في الحقيقة نُفَاةُ التعليل، يقولون: أفعال الله - عز وجل - غير معللة. فإذاً السبب لا يُنْتِجُ المُسَبَّبْ؛ ولكن يَحْدُثُ عنه المُسَبَّبْ عند الالتقاء. وهذا القول -يعني في نفي الأسباب والتعليل- قول ابن حزم وجماعة من الذين ظاهرهم متابعة الحديث. إذا تبين ذلك فإنَّ حقيقة السبب؛ بأنَّ الله - عز وجل - يخلق شيئاً ويأمر بشيء أمراً كونياً ويكون ذلك سبباً لأشياء كثيرة. فمثلاً إنزال المطر من السماء، الله - عز وجل - أمَرَ بإنزاله، وفي إنزاله حِكْمَةٌ لله - عز وجل -. وأمْرُهُ سبحانه وتعالى بأن يُنزَلَ هذا الماء على الأرض مرتبط بعلة؛ لأنَّ الأرض حياتها بالماء، وأيضاً إنزال المطر على هذه الأرض المعينة مرتبط بعلة الله - عز وجل - يعلمها وكما قال في بعض حكمته {وَلَقَدْ صَرَفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورَا} [الفرقان:50] . إذا تبين ذلك فالماء ينتج عنه شيء آخر، الماء سَبَبْ، والله سبحانه وتعالى بَيَّنَ أنه أَنْبَتَ النبات بالماء {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ} [ق:90] ، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ، إذاً صارت كلمة {بِهِ} هذه تدل على أنَّ الإخراج بالماء، وأنَّ الماء بسببه صار الإخراج؛ يعني الماء أنتج الإخراج. أما غير أهل السنة فماذا يقولون؟ يقولون عند التقاء الماء بالأرض حَصَلَ النبات، فيُفَسِّرُونَ حرف (بِـ) بنحو كلمة (عند) مِنَ الكلمات. فإذاً عندهم عِنْدِيَّةْ ولذلك ينفون السبب. يقولون: الماء لم يُنْبِتْ إلا على المَجَازْ العقلي، كما تقولُ: أَنْبَتَ الماء البقلَ والمنبِتُ هو الله - عز وجل -. ولذلك يذكرون هذه القاعدة في كتب العقائد وفي كتب البلاغة الذي يسمونه المجاز العقلي: أنبت الربيع البقل أو نحو ذلك. فإذاً نقول: إنَّ الله - عز وجل - من حكمته أنه خلق الأشياء وجعلها أسباباً لأشياء. خَلَقَ ماء الرجل وجعله سبباً لحمل المرأة، خَلَقَ اللباس وجعله سببا للدفء، خَلَقَ السّرابيل لِعِلَّة، خَلَقَ الأشياء لعلة، وهكذا فما من شيء تراه إلا وله حكمة، حتى في المُؤْذِيَات، حتى الهوام، حتى الحشرات، حتى ما تتأذى منه وتظن أنَّهُ لا حكمة فيه، فإنَّ فيه حكمة بالغة لله - جل جلاله - وتقدست أسماؤه، هذه كلها أسباب والأسباب تُحْدِثْ المسببات. إذاً حقيقة قول نفاة الأسباب أنهم يقولون: إنَّ السبب يُحدِثْ المُسَبَبْ عند الالتقاء؛ لكن لا يُنْتِجُهُ بالإقتِضَاءْ، يعني لا ينتجه بما جعل الله - عز وجل - فيه من التأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ويمثّلون لذلك بالسكين التي يحملها الحامل لقطع الخبز، فيقولون: هذه السّكين لمَّا أَمَرَّهَا الحامل على الخبز قَطَعَتْ الخبز. فإذاً الواقع السكين ما قَطَعَتْ الخبز عندهم حسب ما يُقَرِّرُونَ -والعياذ بالله-. يقولون إنَّ الذي قَطَعَ في الواقع هو الحامل الذي حَمَلَ السكين، لكن صارت هذه لما التقت السكين بالخبز انقطع لأجل أنَّ الحامل أَمَرَّهَا. فيقولون لما التقى الرجل بالمرأة، جامَعَ الرجل المرأة وأَذِنَ الله بالحمل حَمَلَتْ، سواء بماء أو بغير ماء، فالماء عنده حَصَلَ الحمل، لما نزل الماء على الأرض نبتت، فإذاً عندهم عندية. وهؤلاء نفاة الأسباب وكثير من التفاسير مشحونة بهذا في مسائل القدر. * وأنا يعني أردت بمزيد من هذه التفاصيل إلى أنَكَ تنتبه للتفاسير. كثير من الناس يَحْذَرْ مسائل التأويل، ومعلوم أنَّ مذهب أهل السنة والجماعة وما في النصوص ليست هي مسائل التأويل فقط، يعني المخالف خالف في التأويل. لكن مسائل القدر أهم، مسائل القدر في التفاسير أهم ليس لأنها أعظم من مسائل الصفات ولكن لأجل خفائها على الناس فهي خفية. الآيات: آيات الإضلال، الهداية، آيات الأسباب، آيات أفعال الله - عز وجل -، الصفات، كلها تجد في كتب التفاسير فيها خلطٌ وخبطٌ وخروجٌ عن طريقة أهل السنة والجماعة، رَفَعَ الله مراتبهم. وأنتَ وبعد ذلك أقول تستفصل إن شاء الله وتزداد من هذه الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 [المسألة الحادية عشر] : في أنواع التقدير. ذكرنا لك أنَّ التقدير أربعة مراتب ومنها مرتبة الكتابة. ومرتبة الكتابة جاء في الحديث أنها التقدير كما في قوله صلى الله عليه وسلم «قدّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) يعني كَتَبْ، ولهذا نقول مراتب التقدير يعني مراتب الكتابة. فالله - عز وجل - جعل كتابته للأشياء لها خمس أحوال: 1- الكتابة الأولى: وهي أوَّلُهَا وأقدمها وأعظمها كِتَابَةُ الله - عز وجل - مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة في اللوح المحفوظ، وهذه هي الكتابة التي كانت قبل الخلق، وهذه الكتابة لا تتبدل ولا تتغير، رُفعت الأقلام وجفَّتْ الصحف. فيجد العبد ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ من خير أو شر. وهذه مر معنا جُمَلْ الأدلة عليها وبعض التفصيل لها. 2- الكتابة الثانية: كِتَابَةٌ لمقادير الخلق من حيث الشّقاوة والسعادة، ونعني بالخلق خاصةَ المكلفين. وهذه التي تأتي فيها أحاديث الميثاق وأنَّ الله - عز وجل - استخرج ذرية آدم من صلبه فنثرهم أمامه كهيئة الذَّر وأخذ عليه أن لا يشركوا به شيئاً سبحانه وتعالى، وقَبَضَ قبضة إلى الجنة وقبضة إلى النار وكتب أهل الجنة وكتب أهل النار، ونحو ذلك مما جاء في السّنة من بيان ذلك. هذا تقديرٌ بَعْدَ الأول، وهو قبل أن يُخْلَقَ جِنْسُ المكلفين أي من الإنسان. لمَّا خلق الله - عز وجل - آدم حصل ذلك، حصل هذا التقدير العام لهم. 3- الكتابة الثالثة: وهي التقدير العمري، والعُمري هو الذي يكون والإنسان في بطن أمه فإنَّ النطفة إذا صارت في الرحم وبلغت ثنتين وأربعين ليلة أتاها ملك، فأمره الله - عز وجل - بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد. وهذه أيضا جاءت في حديث ابن مسعود المشهور الذي فيه (أنَّ الملك يأتي بعد أربعين وأربعين وأربعين؛ يعني بعد عشرين ومائة، فيأتي فيكتب رزق الإنسان وأجله وعمله وشقي أو سعيد، يؤمر بِكَتْبِ هذه الكلمات الأربع) . (2) هذه الكتابة العُمرية هي تفصيلٌ لما في اللوح المحفوظ، لأنَّ الذي في اللوح المحفوظ شامل لكل المخلوقات، وهذا مُتعلِقٌ بهذا المخلوق المعين وحده. لهذا قال العلماء: إنَّ هذه تفصيل، فذاكَ فيه الجميع، وهذا للإنسان المعين بخصوصه، قالوا تفصيل ولك أن تقول تخصيص. 4- الكتابة الرابعة: الكتابة السنوية، والكتابة السنوية هي التي تكون في ليلة القدر قال - عز وجل - {حم (1) وَالكِتَابِ المُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:1-4] . وهذه تُكْتَبْ فيها المقادير في تلك السَّنَةْ. من السَّنَةْ إلى السَّنَةْ. إيش معنى ذلك؟ معناها أنَّ الله - عز وجل - يوحي إلى ملائكته بأن يكتبوا أشياء مما في اللوح المحفوظ فتكون بأيديهم مما سيحصل للناس. 5- الكتابة الخامسة: هي التقدير الأخير وهي التقدير اليومي. واستدل له أهل العلم بقوله سبحانه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] . إذا تَبَيَّنَتْ هذه المراتب فإنه قد ثبت في السنة أنَّ الله - عز وجل - يزيد في العُمُر، ينْسَأُ في الأَثَرْ، يبسط في الرزق، فقال صلى الله عليه وسلم «من سرّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه» (3) يعني الرزق صار يتغير والأثر العمر صار يتغير، وقال أيضاً في الحديث الآخر «إنّ العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه» (4) فمعناه فيه حرمان لبعض الرزق. وهذا معنى قول الله - عز وجل - في آية سورة الرعد {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] . فنظر أهل العلم في ذلك فقالوا: إنَّ المراتب الثلاث الأُوَلْ هذه لا تتغير ولا تتبدل؛ يعني: - الأول السابق القديم الذي في اللوح المحفوظ. - وهؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار. - وكذلك كتب الملك الكلمات الأربع. لهذا جاء في آخر الحديث مُؤَكِّدَاً صلى الله عليه وسلم على أنها لا تتغير «وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (5) ، الثلاث الأُوَلْ هذه ما تتغير. إيش الذي يَتَغَيَّرْ ويتبدل ويحدث فيه المَحْوُ والإثبات والزيادة إلى آخِرِهْ ويؤثر فيه الدعاء وتؤثر فيه الأعمال الصالحة؟ هذا التقدير السنوي. والتقدير السنوي في الحقيقة هو من التقدير الأوّل. هو مِنَ اللوح المحفوظ؛ لكنه في اللوح المحفوظ وُجِدَ مُعَلَّقَاً فصار بأيدي الملائكة مُعَلَّقَاً.   (1) سبق ذكره (61) (2) البخاري (3208) / مسلم (6893) / أبو داود (4708) / الترمذي (2137) / ابن ماجه (76) (3) البخاري (5985) / مسلم (6687) / أبو داود (1693) (4) ابن ماجه (4022) (5) سبق ذكره (211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وأما التقدير العمري فهو ما فيه النهاية؛ يعني ما كَتَبَهُ الله - عز وجل - بما فيه نهاية العبد وما فيه نتيجة أثر الدعاء وأثر الأعمال إلى آخره مما قد يكون مُتَغَيِّراً. إذاً فقوله - عز وجل - {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} يعني مما في أيدي الملائكة من الصحف {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وكذلك من التقدير اليومي. إذا كان كذلك فهذا به تَفْهَمُ الأحاديث التي فيها تغيير الرزق وتغيير العمر والنَّسْءْ في الأثر أو حرمان الرزق بالذنب ونحو ذلك، ومنه أيضا تفهم قول عمر رضي الله عنه فيما جاء عنه (اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا؛ يعني بما يتعلق بتلك السنة من الإضلال والهداية) (1) . هذه إحدى عشرة مسألة لعل فيها بياناً لما تحتاج إليه في هذا الركن من أركان الإيمان. لعل في هذا كفاية إن شاء الله تعالى. وأسأل الله سبحانه أن ينور قلبي وقلوبكم بعلم سلفنا الصالح، وأن يزيدنا من العلم النافع وأن يوفقنا لحسن الظن به - عز وجل - وحسن التوكل عليه وعِظَمْ العلم به وحسن العمل إنه سبحانه جواد كريم سميع قريب. وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد.   (1) لم أجد هذا الأثر عن عمر وقد ورد عن ابن مسعود أنَّه قال (اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني واثبتني في أهل السعادة) المعجم الكبير (8847) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ، فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ، وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ.   هذه الجُمَلْ من كلام الطحاوي رحمه الله بَسَطَ فيها جُمَلاً من آداب الإيمان بِقَدَرِ الله - عز وجل -. وعلى خلاف العادة في المختصرات والمتون التي يراد حفظها وانتشارها فإنه قد أفاض في الكلام مما لا يدخل كله في ضمن القواعد والأصول والعقائد، وإنما فيه جمل من ذلك وأكثره تفصيل وزيادة في البيان. ولهذا سنطوي -إن شاء الله- بيان الجمل على تفاصيلها، ونذكر ما اشتملت عليه من العلوم والعقائد؛ لأنّ المقصود هو العلم والإيمان بقَدَرِ الله - عز وجل - ومعرفة منهج السلف الصالح وعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسائل العظام. لمَّا ذَكَرَ ما ذَكَرْ، وقد ذكرنا لكم جُمَلَاً من المسائل التي بها تعلم اعتقاد أهل السنة والجماعة في قضاء الله - عز وجل - وقدره. قال بعدها (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ) أراد بذلك أنّ ما ذَكَرَه في القَدَرْ وما ذكرناه لك من المسائل هذا من العلم الذي عَلّمنا ربنا - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّ الأصل أن القدر سِرُّ الله تعالى وغيبه الذي لم يُطْلِعْ عليه مَلَكٌ مقرب ولا نبي مرسل. ولهذا أمر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بأنه إذا ذُكِرَ القَدَرْ أمسكنا فقال صلى الله عليه وسلم «وإذا ذكر القَدَرْ فأمسكوا» (1) يعني أمسكوا عن الخوض فيه بما لم تُوقَفُوا فيه على علم. فعلم القَدَرْ نوعان: - علم في الخلق موجود. - وعلم في الخلق مفقود. وهذا التفسير أنسب عندي لأجل أن نُعَلِّقَ تقسيم العلم إلى علم موجود وعلم مفقود فيما يتصل بالقَدَرْ لا في أصل العلوم؛ لأنه أشار في ذلك إلى ما سبق فقال (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ) . ومعلومٌ أنه لم يذكر كل ما يحتاج إليه من هو منوّر قلبه في مسائل العقائد؛ لأنه بقي كثير ستأتي في هذه الرسالة. فإرجاع قوله (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ) إلى مسائل القَدَرْ منضبط. أما إذا قيل إنه إلى علم العقيدة جميعاً فإنه لم يذكر أشياء كثيرة وستأتي بعد الكلام على مسائل القدر كما ستراه إن شاء الله تعالى. فإذاً نقول: إنَّ الطحاوي رحمه الله أراد أنَّ العلم بالقَدَرْ على نوعين: علم في الخلق موجود: وهو ما عَلَّمَنَا الله - عز وجل - إياه في كتابه وما علمنا رسوله صلى الله عليه وسلم. (وهذا كما قال (فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ) إذا تبين أنَّهُ من عند الله - عز وجل - وليس ثَمَّ شبهة ولا تأويل فإنّ إنكار العلم الموجود كفر؛ لأنه تكذيب لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم الموجود في القَدَرْ كما رأيت مما جاء في الكتاب والسنة يعلَمُهُ الراسخون في العلم، وأما من ليس بذي رُسُوخٍ في العلم فإنه في مسائل القَدَرْ لا يزال على اشتباه وعلى عدم وضوح. فالواجب على من لم يكن من الراسخين في العلم من عامة أهل الإيمان أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، كما وصف الله - عز وجل - الراسخين مع علمهم أنهم قالوا ذلك ليقْتَدِيَ بهم الناس فيما لم يعلموا، قال سبحانه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، يعني آمنا بالمُحْكَمْ وآمنا بالمتشابه كلّ من عند الله - عز وجل - لا نفرق بين كلام الله - عز وجل -. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هم أهل الثُّبُوتْ والقوة في العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ الرسوخ هو الثبات والاستقرار والقوة والتمكن. فهؤلاء يعلمون لأنَّ وصفهم بكونهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون؛ لأنَّ الذي لا يعلم لا يُوصَفْ بالرسوخ في العلم، وهم متميزون عن غيرهم بالعلم والإيمان. والرُّسُوخُ في العلم هو الرُّسُوخُ في أنواع العلم الثلاثة: 1 - العلم بالتوحيد. 2 - العلم بالفقه. 3 - العلم باليوم الآخر والغيبيات. فهؤلاء هم الراسخون في العلم، وقد يكون الرُّسُوخُ في العلم يتنوع أيضاً ولكن من لم يصحّ علمه بالتوحيد فإنه ليس بذي رسوخ في العلم مهما كان، لأنَّ أصل الأصول هو الاعتقاد، أصل الأصول هو التوحيد الذي معه يصح الفقه، يصح العمل، تصح العبادة، يصح الحكم والإفتاء إلى آخره. فإذاً أهل الرسوخ في العلم يعلمون أنَّ العلم-مما في القَدَرْ- علمان: علم في الخلق موجود، يعني جعله الله - عز وجل - موجوداً في الخلق بما أنزل في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وشيء كثير من مسائل القَدَرْ حجبها الله - عز وجل -. لهذا فإنَّ أهل الرسوخ في العلم يبسطون من مسائل القَدَرْ بما جاء في الأدلة، ويطوون من مسائل القَدَرْ ما لم يأتِ في الأدلة. ولذلك كل ما لم يكن مبسوطَاً عند أهل العلم الراسخين من أهل الحديث والسنة والجماعة، فإنَّ هذا العلم -يعني الذي تكلم فيه الآخرون- ينبغي أن لا يتكلم فيه كل أحد. لأنَّ ما طوى الله - عز وجل - عنا عِلْمَهُ فإنَّ الخير في أن لا نبحث فيه، لهذا قال (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يعني في النوع الذي هو من العلم المفقود (ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) . قال الطحاوي رحمه الله (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ) لأنه غيبي، ومن ادََّعَى الغيب الذي اختصَّ الله - عز وجل - به فإنه كافر، وذلك لقوله - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26-28] ، - جل جلاله - وقال سبحانه {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] . وقال - عز وجل - {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ (2) وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] ، فهذه الخمس اختصّ الله - عز وجل - بها. لهذا علم القَدَرْ من علم الغيب، وعلم الغيب عام يشمل القَدَرْ ويشمل غيره. لهذا قال رحمه الله (وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ.) فالمؤمن الحق لا يخوض في القَدَرْ إلا بحثاً عن العلم الموجود فيؤمن به وأما العلم المفقود فيترك طلبه.   (1) سبق ذكره (68) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط التّاسع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قال بعد ذلك رحمه الله (وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ) .   (نُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ) اللوح والقلم تَعَلَّقَ بالقَدَرْ من جهة أنَّ القَدَرْ من مراتب الإيمان به الكتابة. والكتابة كانت بالقلم في اللوح، ولهذا لا يتم الإيمان بالكتابة إلا بالإيمان باللوح والقلم. والله - عز وجل - أقسم بالقلم فقال سبحانه {ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] . {وَالقَلَمِ} هذا هو القلم الذي كُتِبَ به القضاء، كُتِبَ به القَدَرْ في أحد وجهي التفسير. واللوح ذكره الله - عز وجل - في كتابه في غير ما آية كقوله - عز وجل - {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، وسماه سبحانه كتاباً مكنوناً فقال {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] ، وسماه - عز وجل - أم الكتاب فقال سبحانه {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ، وسُمِيَ لوحاً لما فيه من البهاء والنور والإضاءة لأنه يَلُوحُ بمعنى أنه يظهر ويبين لما فيه من النور. فالإيمان باللوح والقلم من الإيمان بكتابة الله - عز وجل -. (وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ) كل ما كتبه الله - عز وجل - نؤمن به، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما كتبه الله لابُدَّ أنَّهُ كائِنٌ. لهذا قال بعده (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ؛ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ) إلى آخر كلامه. إذا تبيّن هذا ففي مسألة اللوح والقلم عدة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 [المسألة الأولى] : أنَّ اللوح جاء وصْفُهُ في حديث حَسَّنَهُ طائفة من أهل العلم ويحتاج في بحث إسناده إلى مزيد نظر، فيه أنَّ اللوح كما جاء في الحديث «خلق الله اللوح من دُرَّةٍ بيضاء» (1) ووصفه بأنَّ حافتيه الدر والياقوت؛ يعني غطاء هذا اللوح أو دفتا هذا اللوح من دُرٍّ وياقوت، وصفحات هذا اللوح حمراء. جعل الله - عز وجل - هذا اللوح كما وصفه بعض السلف على يمين العرش، وهو بين جبين إسرافيل لا يَنْظُرُ فيه. وجاء أيضاً أنَّ الله خَلَقَ القلم وجعله من نور، وأنَّ طوله ما بين السماء والأرض، وأنَّ اللوح المحفوظ طوله ما بن السماء والأرض وعرضه كما بين المشرق والمغرب. وهذا كما ذكرتُ لك يحتاج إلى مزيد بحث لكن يذكره العلماء من أهل السنة وتتابعوا عليه في حديث رواه -يعني في أصل وصف اللوح والقلم- رواه الطبراني وغيره وحُسِّنَ إسناده كما ذكرت لك، وقد ساقه أو ذكر الحديث شارح الطحاوية وغيره.   (1) المستدرك (3771) / المعجم الكبير (10605) / حلية الأولياء (1/325) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 [المسألة الثانية] : أنَّ القلم الذي كَتَبَ الله - عز وجل - به القَدَرْ كُتِبَ به ما يتعلق بهذا العالم. يعني كُتِبَ به القَدَرْ إلى قيام الساعة كما جاء في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن عمرو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «قدر الله مقادير الخلائق -يعني كتب مقادير الخلائق- قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) فالقلم متعلقة كتابته في اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة.   (1) راجع (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 [المسألة الثالثة] : أنّ القلم لمَّا خَلَقَهُ الله - عز وجل - أمره أن يكتب، فجَرَى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة، كما جاء ذلك في حديث عُبادة بن الصامت الذي رواه أبو داوود والترمذي والإمام أحمد وجماعة بألفاظ متقاربة، وفيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة» (1) . وهذا لفظ أبو داوود وغيره. وجاء أيضا بلفظ «أول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة» (2) . ولهذا اختلف العلماء هنا في هل هذا الحديث على ظاهره في أنَّ أول المخلوقات القلم أو أنَّ هذا الحديث له معنىً آخر؟ وجعلوا هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرو من الأحاديث التي ينبغي الجمع بينها وهذا هو المسألة الرابعة وهو الجمع ما بين الحديثين.   (1) راجع (87) (2) المسند (22759) / مصنف ابن أبي شيبة (35922) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 [المسألة الرابعة] : تلحَظُ أَنَّ حديث عبد الله بن عمرو فيه قال «قدر الله مقادير الخلائق» ولما قَدَّرْ -يعني كتب- كان عرشه على الماء. وفي حديث عبادة قال «إن الله أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب» فيقتضي حديث عبادة أنَّ الأمر بالكتابة كان مُرَتَّباً على ابتداء خلق القلم. وتقدير القَدَرْ كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء. فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقدير وعلى وجود العرش -خلق العرش- وعلى خلق الماء. ودلَّ حديث عبادة على أنَّ خَلْقْ القلم تَبِعَهُ قول الله - عز وجل - للقلم أكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة. وهذا الترتيب جاء في حرف الفاء الذي يدل في مثل هذا السياق على أنَّ هذا بعد هذا دون تراخٍ زمني. ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة في الجمع بين هذين الحديثين هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خُلِقَ قبله على قولين للسلف فمن بعدهم: 1- القول الأول: إنَّ العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم. والقول الأول هو قول جمهور السلف كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. 2- القول الثاني أنَّ القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك وهو قول طائفة من أهل العلم. الترجيح ما بين هذين القولين هو أنَّ الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها. وحديث عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم «إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب» يقتضي أنَّ الكتابة كانت بعد خلقه. وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة. فدلّ هذان الحديثان على أنَّ العرش والماء موجودان قبل، وأنَّ خلق القلم تبعته الكتابة. ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف بأنَّ القلم موجود بعد العرش والماء. وهذا تدل عليه رواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم قال له أكتب» يعني حين. «أَوَلَ» بمعنى حين. «أَوَّلَ ما خلق الله القلم قال له أكتب» حين خَلَقَهُ قال له أكتب. وهذا هو معنى «إن أَوَلَ ما خلقه الله القلم فقال له أكتب» لأنَّ الجمع بين الروايات أولى من تعارضها. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه التِّبْيَان أنَّ قوله «إن أَوَلَ ما خلق الله القلم» ورواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم» إما أن تُجعل جملتين أو جملة واحدة. وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجع إليه. وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير، فإن قوله «إن أَوَلَ ما خلق اللهُ القلمُ» هنا برفع القلم يكون خبر (إنَّ) . يعني: إنَّ أَوَلَ الذي خلق الله، إن أَوَلَ المخلوقات القلمُ فقال له أكتب. وإذا كان أَوَّلْ المخلوقات فكيف يُفَسَّرْ مع حديث «وكان عرشه على الماء» الذي ذكرته لك. فقوله إنَّ أَوَّلَ المخلوقات أو أَوَّلَ ما خلق الله أو أَوَّلَ الذي خلقه الله، يُفهم على أنَّ القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. فالقلم متعلّق بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، مُتَعَلِّقاً بما يحدث في هذا العالم المخصوص لا في مطلق الأشياء، ولهذا عُلِّقْ بأنه إلى قيام الساعة. فإذاً يُفهم لمَّا كان تعلق الكتابة بهذا العالم الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة، يُفهم أنَّ القلم لمَّا تَعَلَّقَ بهذا العالم كتابةً لِتَقْدِيرِهِ ولِقَدَرِهِ ولآجاله إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأنّ العوالم أجناس والله - عز وجل - جعل لمخلوقاته أقدارا وأجناسا. فإذاً يُفهم قوله «إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم» يعني من هذا العالم. فالقلم قبل السموات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلِّق الذي خُلِقَ منه السموات والأرض وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي المُشاهَدْ، فالقلم هو أول المخلوقات أما العرش والماء فليسا مُتَعَلِّقَينِ بهذا العالم. فإذاً إعمال الحديثين مع ما يتّفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح لا إشكال فيه، فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة. وقد لخّص ابن القيم المسألة في نونيته وبحثها مفصلاً في كتابه التبيان في أقسام القرآن، وفي غيره فقال في النونية رحمه الله: والناس مختلفون في القلم الذي ****** كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو بعده ****** قولان عند أبى العلا الهمذاني والحق أن العرش قبل لأنه ****** عند الكتابة كان ذا أركان وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح، وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله - عز وجل - في ملكوته، ومتّفق مع القول بأن الله - عز وجل - فعَّالٌ لما يريد، وأن قَبْلَ هذا العالم ثَمَّ عوالم أخرى، والله - عز وجل - يخلق ما يشاء ويختار، وأنّه ثَم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم مُتَقَيِّدٌ بما خلقه الله - عز وجل - له، والله سبحانه له الأمر كله يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 [المسألة الخامسة] : جاء في حديث أنس الذي رواه البخاري وغيره في قصة الإسراء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ عروجه إلى الله - عز وجل - ليلة المعراج، ثم قال في وصف ارتفاعه صلى الله عليه وسلم «ثم إني رُفِعْتُ لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام» (1) . وهذه الأقلام غير القلم الذي كُتِبَ به القَدَرْ فإنَّ ذلك القلم من نور كُتِبَ به القَدَرْ في اللوح المحفوظ. وأما هذه الأقلام فهي التي بأيدي الملائكة. أقلامٌ يُكْتَبُ بها وحي الله - عز وجل - إلى ملائكته مما يُوَكَّلُونَ به من الأشياء. فهم يكتبون أَمْرَ الله - عز وجل -، وله سبحانه وتعالى كلمات لا تنقضي كما قال - عز وجل - {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] . فالله - عز وجل - كلماته الكونية لا تنفذ يأمر وينهى سبحانه وتعالى في ملكوته والملائكة تكتب، فهذه الأقلام نوع آخر. ولك أن تقول هذا هو النوع الثاني وهي أقلام الوحي التي بأيدي الملائكة يكتبون ما يوحي الله - عز وجل - به في سَمَائه.   (1) البخاري (349) / مسلم (433) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قال رحمه الله بعد ذلك (فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ -يعني في اللوح- أَنَّهُ كَائِنٌ؛ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ؛ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ.) .   وهذه العقيدة هي حقيقة الإيمان بالقضاء والقَدَرْ. هي أنْ يعلم العبد أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه لو فَعَلَ ما فَعَلْ فإنه لن يَحْجِبَ قضاء الله - عز وجل - وقدره، لم؟ لأنه لا يمكن أن يفعل خلاف ما قدَّرَ الله - عز وجل -. لهذا وجب التسليم لله - عز وجل - في أمره، ووجب في أَمْرِ المصائب التي لا اختيار للعبد فيها أن يُسَلِّمَ لله - عز وجل - ذلك، وأن يؤمن بقضاء الله - عز وجل - الذي يقضيه. وقضاء الله - عز وجل - كما ذكرت لك هو إنفاذه ما قَدَّر - عز وجل -. وهذا القضاء له جهتان: 1 - جهة متعلقة بالله - عز وجل -، وهي فعله سبحانه وتعالى. وفعله بأن يقضي صفة من صفاته. فهذه يجب على العبد أن يُحِبَّهَا وأن يرضى بها لأنها صفة من صفات الله - جل جلاله -. 2 - جهة متعلقة بالعبد لا بالرب، فيكون مَقْضِياً على العبد. والمقضي على العبد نوعان: - مقضي عليه من جهة المصائب. - ومقضي عليه من جهة المعايب. والمصايب ربما كان لا اختيار له فيها، والمعايب فَعَلَهَا بإرادته. لهذا بَحَثَ العلماء مسألة الرّضا بالقضاء وهل القضاء تسليم له، يعني الرضا به؟ وتحقيق القول في هذه المسألة أنْ تَعْلَمَ أَنَّ القضاء غير المَقْضِي. المقضي هذا تَعَلُّقْ القضاء بالعبد. والقضاء هو قضاء الله - عز وجل - وهو فعله. وقد يقال فيما يتعلق بالعبد: هذا قُضِيَ عليه وصار قضاءً عليه، فيكون قَضَاء بالنسبة للعبد وهو مَقْضِي. لهذا نقول: جهة الرب - عز وجل - في القضاء هذه نرضى بها ونحبها. وأما ما يقضيه الله - عز وجل - على العبد فإنه ما كان من المعايب من المعاصي والآثام التي تقع منه فإنه يجب عليه أن لا يرضى بها. يعني وَقَعَتْ عليه لكن يجب عليه أن يكره ذلك الذي وقع منه ولو كان قضاءً، ويجب عليه أن يسارع بالانسلاخ من آثاره بالتوبة والإنابة، فلا يُحِبُّ هذا العيب ولا هذا الذنب مع أنه قضاء ولا يرضى به؛ بل يسارع في تخليص نفسه منه. وأما ما كان من قبيل المصائب التي يُصاب بها العبد فإنّ الرضا بها مُسْتَحَبْ غير واجب. إذا أُصِيبَ بمصيبة فإنَّ الرضا بها مستحب، كما قال - عز وجل - {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ، قال علقمة رحمه الله (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم) (1) . فالرضا بالمَقْضِيِّ الذي هو من المصائب مستحب لا واجب بالنظر إلى تعلّقه بالعبد وهو المَقْضِي. أما بالنظر إلى تعلقه بالله فسواء كان من المصايب أو من المعايب فإنه يجب الرّضا عن الله - عز وجل - بأفعاله وصفاته ومحبة أفعال الله - عز وجل - لأنّ الله - عز وجل - يفعل ما يفعل عن حكمة عظيمة، كما قال سبحانه {وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:46-47] ، فالله - عز وجل - يقضي بحكمته ما يشاء، وله الحكمة البالغة، لا يُسْألُ عما يفعل وهم يسألون. فإذاً تَلَخَّصَ من ذلك أنَّ ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. ويتصل بهذا البحث، أو نطويه لأنه قد يطول علينا. مباحث القدر طويلة ترجعون إليها إن شاء الله تعالى.   (1) انظر تفسير الطبري (التغابن:11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلَا مُعَقِّبٌ، وَلَا مُزِيلٌ وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا نَاقِصٌ وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] .) ،فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهَمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا   قال رحمه الله بعد ذلك (وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلَا مُعَقِّبٌ) يعني ليس له ناقض ولا معقب. (وَلَا مُزِيلٌ وَلَا مُغَيِّرٌ، وَلَا نَاقِصٌ وَلَا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَذَلِكَ) يعني هذا الذي أشار إليه. (مِنْ عَقْدِ الْإِيمَانِ) يعني مما يجب أن يُعْقَدَ عليه القلب إيماناً به، وقال (عَقْدِ الْإِيمَانِ) يعني من ما يجب في الإيمان يكون عقيدة يُؤْمِنُ بها. (وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ) يعني أصول العلم بالله - عز وجل -. (وَالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ) يريد بتوحيد الله تعالى في هذا الموطن توحيد الله - عز وجل - في تَصَرُّفِهِ في مُلْكِهِ وفي عبادته، فإنَّ العبد إذا اعترف بأنَّ الله - عز وجل - هو المتَصَرِّفْ في ملكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّهُ هو المدبر وهو الرب - جل جلاله - فإنه يُوَحِّدُ الله في قَدَرِهِ، ويُوَحِّدُ الله - عز وجل - في أفعاله كما يُوَحِّدْ الله - عز وجل - في ربوبيته بعامة. ففي الحقيقة من تأمل توحيد الربوبية وآمَنَ حَقَّاً بربوبية الله - عز وجل - فإنه يؤمن بالقَدَرْ؛ لأنَّ الإيمان بالقدر من ثمرات الإيمان التام بربوبية الله - عز وجل -، فإنَّ المؤمن بالربوبية، بأنَّ الله - عز وجل - هو الرب المتصرف في ملكه، هو السيد المطاع، هو الذي لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، هو الذي ما شاء كان، هو الذي لا يُغالَب في ملكه، هو الذي يعطي ويمنع ويخلق ويرزق ويميت ويحيي، من آمن بالربوبية على تفاصيلها فإنه لن يجادل في القدر؛ لأنه يعلم أنه مربوب مستسلم لله - عز وجل -. ختم ذلك بقول (كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] .) ، قال (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهَمِهِ) (الوَهَمْ) بالتحريك، وَهَمْ: هو الفَهْمْ أو الإدراك أو الذهن أو ما أشبه ذلك. و (الوَهْمْ) بالسكون: هو الغفلة عن الشيء، يقال هذا وَهْمٌ يعني هذا غلط وغفلة ونحو ذلك، أما الوَهَمْ فهو الإدراك والفهم إلى آخره. قال (لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهَمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ) يعني بذهنه وبفهمه وتفكيره (فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا.) . فأسأل الله - عز وجل - أن يكتب لي ولكم الإيمان التام بقدر الله - عز وجل -، وأن يجعلنا ممن سَلَّمُوا لله - عز وجل -، وآمنوا بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته حقا وصدقا دون تردد ولا ريب ودون معارضة لما أمر الله - عز وجل - به وقضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الأسئلة : س1/ إنَّ من ضابط الكبيرة ما تُوُعِّدَ فيه بنفي الإيمان، فهل كل نَصٍ نُفِيَ فيه الإيمان دالٌّ على أنَّ مرتكبه فاعل للكبيرة، نرجو بيان الضابط في ذلك حيث أشكل هذا على بعض الأخوة؟ ج/ هذه المسألة أصْلُهَا أَنَّ الله - عز وجل - حَرَّمَ أشياء، وقَسَم - عز وجل - المحرّمات إلى قسمين: إلى كبائر وإلى صغائر. فقال - عز وجل - {الذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] ، فجعل ثَمَّ كبائر وثَمَّ صغائر، وقال - عز وجل - أيضا {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء:31] ، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «الكبائر سبع» (1) وفي الحديث المتفق على صحته «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر» (2) إلى آخره. فإذاً انقسام المحرمات إلى كبائر وصغائر أمْرٌ مُقَرَّر في الشريعة، في القرآن وفي السنة وعليه أكثر أهل العلم أو غالب أهل العلم. وقال آخرون: إنَّ الذنوب كلها كبائر؛ لأنَّ الصغيرة إذا نُظِرَ فيها إلى حق من عُصِيَ بها فهي كبيرة، واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير» (3) فجعله ليس بكبير ثم أثبت أنه كبير، فقالوا: إنَّ الذنب لا يكون صغيراً. وهذا غَلَطْ ممن قال به لأنَّ النصوص دالة على التقسيم، ثُمَّ إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذِكْرِ المكفرات «الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» (4) وصحّ أيضا أنه صلى الله عليه وسلم (جاءه رجل وقال يا رسول الله: إني لقيت امْرَأَةً في بعض السكك فأصبت منها غير أني لم أَنْكَحْ. فقال صلى الله عليه وسلم «هل صليت معنا؟» فقال: نعم فقال «تلك كفارتها» (5) وتلا قول الله - عز وجل - {وأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى للذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، قال الرجل: يا رسول الله أهي لي أم للناس عامة؟ قال «بل هي عامة» فدل هذا على أن الصغائر تُكَفَّرْ وعلى أن الكبائر لابد لها من التوبة. اختلف العلماء في ضابط الكبيرة ما هي الكبيرة؟ وبِمَ تُحَد؟ على أقوال كثيرة جداً. لكن الذي نُرِجِّحُهُ في ذلك تَبَعَاً للمحققين من أهل العلم أنَّ الكبيرة ما تُوُعِّدَ فيه، يعني ما جاء الليل بأن صاحبه مُتَوَعَّدْ بالحد في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة، وما كان فيه الوعيد بحد في الدنيا كشرب الخمر والزنا والسرقة والقذف وأشباه ذلك فإن هذا أو ما هو أكبر من ذلك فإن هذا كبيرة؛ لأنه متوعد صاحبُه بالعذاب بالنار في الآخرة أو بالحد في الدنيا. وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية -اجتهادا منه- على هذا أنه ما جاء النص فيه بنفي الإيمان واللعن فإنه يدل على أنه كبيرة ونظمها ابن عبد القوي في منظومته المشهورة التي طُبعت مؤخرا فقال في ذلك في حد الكبيرة: فما فيه حد في الدُّنَى أو تَوَعُدٌ بأخرى فَسَمْ كبرى على نص أحمد يعني هذا هو الذي نص عليه الإمام أحمد وهو قول جمهور العلماء، قال: وزاد حفيد المجد أو جا وعيده بنفي لإيمان وطرد لمُبْعَدِ وزاد حفيد المَجْدِ) يعني الشيخ تقي الدين ابن تيمية يعني ما جاء في النص بنفي الإيمان «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» (6) . وطرد لمبعد «لعن الله من غير منار الأرض» (7) هذا يدل على أنه كبيرة عند شيخ الإسلام. إذا تبين ذلك فالسائل يسأل عن ضابط نفي الإيمان لأنه فيه نصوص نُفِيَ فيها الإيمان وبالإجماع أنه ليس بكبيرة كقوله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (8) والضابط في نفي الإيمان أنه ما نُفِيَ الإيمان فيه عن مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمَاً، أما من لم يفعل المحرم فإنَّ نَفْيَ الإيمان ليس من هذا الباب، لكن من فَعَلَ محرما فإنَّ دخول نفي الإيمان على الفعل المحرم ينقل هذا الفعل المحرم من كونه صغيرة إلى كونه كبيرة «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» . أما قوله «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» فهذا بالإجماع مستحب، قوله أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك من الخير بالإجماع على أنه مستحب.   (1) الأدب المفرد (578) / المعجم الكبير (102) (2) البخاري (2766) / مسلم (272) / أبو داود (2874) / النسائي (3671) (3) البخاري (6055) / مسلم (703) / أبو داود (20) / الترمذي (70) / النسائي (31) / ابن ماجه (2069) (4) مسلم (572) (5) مسلم (7177) (6) البخاري (6016) / مسلم (7) مسلم (5239) / النسائي (4422) (8) البخاري (13) / مسلم (179) / الترمذي (2515) / النسائي (5016) / ابن ماجه (66) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقال «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (1) ونحو ذلك فهذا لا يدخل في البحث، وإنما المقصود إذا كان الشيء محرما فاقترن بالشيء المحرَّم بنفي الإيمان عن من فعله. والله أعلم. (2)   (1) البخاري (15) / مسلم (178) / النسائي (5013) / ابن ماجه (67) (2) انتهى الشريط التاسع عشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 : [[الشريط العشرون]] : الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً. الأسئلة : س1/ هل النبي صلى الله عليه وسلم يُحَبُّ لذاته لأنَّ ذاته حميدة، أم يُحَبُّ في الله - عز وجل - لما اتصف بالنبوة والرسالة؟ ج/ هذا سؤال جيد، ونبينا صلى الله عليه وسلم جَمَعَ من الأوصاف والعِلَلْ والأسباب التي لأجلها يُحِبُّ المُحِبْ من أحب، جَمَعَ كل الأسباب والأوصاف، فهو صلى الله عليه وسلم يُحَبُّ من كل جهة: - يُحَبْ لله - عز وجل - لأنَّ الله - عز وجل - أمر بحبه صلى الله عليه وسلم. - ويُحَبْ لأنَّ الله - عز وجل - اصطفاه وفَضَّلَهُ وجعله رسولاً ورحمةً للعالمين. - ويُحَبْ صلى الله عليه وسلم لأنَّ الله خَصَّهُ بالقرآن خَصَّهُ بالآيات والبراهين، خَصَّهُ بما لم يخصّ به الأنبياء والرسل. - ويُحَبْ صلى الله عليه وسلم لأجل جهاده في الله حق الجهاد ونصحه لهذه الأمة وتبليغه رسالة ربه - جل جلاله -. - ويُحَبْ ّ صلى الله عليه وسلم لعِظَمِ إحسانه لكل أحد، فما من أحد إلا وهو قد أحسن إليه صلى الله عليه وسلم أيما إحسان، وإذا كان الناس فيما بينهم يحبون من أحسن إليهم كما قال شاعرهم: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ (1) فنبينا صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ أيَّمَا إحسان وأفاض على هذه الأمة من إحسانه وفضله صلى الله عليه وسلم بما بلغ من رسالة ربه واهتدى بهدي ربه - عز وجل -، فيُحَبُّ لذلك أعظم المحبة صلى الله عليه وسلم، فلولا أنَّ الله - عز وجل - مَنَّ علينا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثُمَّ باتِّبَاعِهِ لكنا من الهالكين، فنبينا صلى الله عليه وسلم يُحَبْ لما في عنق كلّ أحد من هذه الأمة له صلى الله عليه وسلم من المنّة، فمنّته صلى الله عليه وسلم على كل أحد، ولهذا جعل الله - عز وجل - من جميل ثوابه لنبيه أنّ له مثل أجور أمته، فكل من عمل عملاً صالحا من الإيمان وشُعَبِه، فله صلى الله عليه وسلم مثل أجره، والناس يُحِبُّونَ أيضاً لأنواع الصفات، فَيُحِبُّ المحب فلاناً لكرمه، ويُحِبُّ المحب فلاناً لخلقه ولشجاعته ولإمامته ولفتواه ولحكمه ولحسن تعامله ولأشياء كثيرة من الخلال والأوصاف ولتعامله مع أهله ولكماله في صفاته وأخلاقه وسجاياه. والنبي صلى الله عليه وسلم إذا نظرنا إلى كل جهة من هذه الجهات فإنه يُحَبْ عليها صلى الله عليه وسلم. ولكن مع هذا كله فإن القاعدة عند أهل العلم من أهل السنة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم محبته ليست استقلالاً ولكن تبعٌ لمحبة الله - عز وجل -، وهذا يعظّم شأن نبينا صلى الله عليه وسلم. ففي الحقيقة من تأمل ذلك حق التأمل فإنه يحبه صلى الله عليه وسلم، وبرهان المحبة قوله - عز وجل - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، وقد قال الشاعر في معرض كلام له لمَّا ذكر بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها من يعظ الناس قال: لو كان حبك صادقاً لأطعته إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيع فالمحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليست تراتيل تُنْشَد ولا أشعار يُتَباهى بها وليست هي قلادة يَتَزَيَّنْ بها من يَتَزَيَّنْ دون إتباع لسنته صلى الله عليه وسلم، فحقيقة المحبة لمن أحب أنَّهُ يَتَّبِعْ سنة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو الرسول المصطفى والخليل المُجتبى الذي أرسله الله - عز وجل - بالهدى، فطاعته صلى الله عليه وسلم أول ثمرات محبته صلى الله عليه وسلم، لهذا إذا عظمت المحبة فإنَّ الطاعة تكون أعظم، لهذا قال من قال من السلف (لهذا لما كَثُرَ الأدعياء طُولبوا بالبرهان {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} ) . وقال آخر (ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن أن تُحَبْ) (2) فليس الشأن أن تُحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الشأن أن يحبك النبي صلى الله عليه وسلم، ليس الشأن أن تُحِبَّ الله - عز وجل - ولكن الشأن أن يحبك الله - جل جلاله -، والله - عز وجل - لا يحب إلا أهل توحيده والإنابة إليه وخلع الأنداد والشرك؛ الذين يحبون نبيه صلى الله عليه وسلم ويحققون معنى الشهادة له لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. س2/ في قوله تعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34] ، البعض يقول إنَّ الله - عز وجل - لم يقل وما تدري نفس ماذا تعمل غداً؛ لأنَّ الإنسان قد يعلم ماذا يعمل إذاً فَعَلَى هذا يقولون إنَّ الكسب لا يعني العمل فما هو القول الصحيح في تفسير هذه الآية؟   (1) - من قصيدة عنوان الحلم - للبستي. (2) انظر: النبوات (1/73) / روضة المحبين (1/266) / مدارج السالكين (3/37) / تفسير ابن كثير (آل عمران:31) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ج/ الآية هذه كنظائرها {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} يعني ماذا تعمل في الغد فإنَّ الكسب بمعنى العمل لكنه عمل يَتَحَصَّل منه على شيء وهو أجره، سُمِيَ العمل الصالح في النص كسباً لأنه كأنه شيء يكتسبه، مثل شخصٍ يتاجر فيقال: كَسَبَ كذا، (فَكَسَبَ) يعني عمل وخرج له شيء من عمله، فلما كان العمل الصالح يؤجر عليه العبد سُمِيَّ بالنص كسباً، لا بمعنى الكسب عند المبتدعة فإنَّ ذلك كما أوضحت لك في الدروس له معنى آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ.   قال رحمه الله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ.) قدَّمتُ لك معنى قوله (حَقٌّ) فيما سبق وأنَّ معنى ذلك أنّ العرش والكرسي يُؤْمَنُ به على ظاهره كما جاء في النصوص، وأنَّهُ ليس بالباطل؛ بل هو موجود كما وصف الله - عز وجل -، فهو حق ثابت لا مِرية فيه. قال هنا رحمه الله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) وسبب إدخاله هذه المسألة في العقائد أنَّ أهل البدع خالفوا أهل السنة في تفسير العرش وفي تفسير الكرسي. فلما كانوا مخالفين لما دَلَّ عليه الدليل وكان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، رضي الله عن الصحابة ومن تبعهم، فإنهم قد خالفوا في أمرٍ غيبي، ومن خالف في أمرٍ غيبي فقد خالف ما يجب معه عقد الإيمان. لأنَّ من سمة المؤمن بما أثنى الله - عز وجل - عليه أن يؤمن الغيب كما قال - عز وجل - في الثناء على خاصة عباده {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] . فوصف المتقين بأخص الصفات وهي الإيمان بالغيب، وهذه صفة أهل الإيمان. جَعَلَ الله - عز وجل - أهل الإيمان لا يرتابون في الكتاب وسبب ذلك أنهم يؤمنون بالغيب فمدارُهُ على التسليم. لذلك فإنَّ المخالفين للكتاب الذين عقدوا ألوية البدعة تَأَوَّلُوا وحَرَّفُوا أكثر الأمور الغيبية كما سيأتي بيانه. لذا كان لإدخال الإيمان بالعرش والكرسي في هذه العقيدة المختصرة مَأْخَذُهُ. ولا شكّ أنَّ الإيمان بالعرش والكرسي حقٌّ على ما جاء في ظاهر الأدلّة. دل ّ قوله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) على أنّ معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ العرش غير الكرسي فالعرش شيء والكرسي شيء آخر وكلاهما حقٌ. إذا تبين هذا كتقريرٍ لهذه الجملة، فإنَّ بحثها يمكن أن يكون في هذه المسائل: & أولاً العرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 [المسألة الأولى] : أنَّ العرش حق لأنَّ الله - عز وجل - ذكره في كتابه في آيات كثيرة فقال - عز وجل - {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، ووَصَفَ العرش بأنه عظيم، فقال {رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} (1) ووصف عرشه - عز وجل - بأنه مجيد، ووصف عرشه بأنه يُحْمَلْ فقال سبحانه {الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7] ، ووصف عرشه أيضا بأنَّهُ يستوي عليه - عز وجل -، وأنَّ عرشه - جل جلاله - موصوف بصفات العظمة التي فاق بها سائر العروش. فإذاً وُصِفَ بهذه الصفات، وجاء في السنة مزيد في وصفه بأنَّ العرش له قوائم تحمله الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام «يُصعق الناس فأكون أول من يُفيق، فإذا بموسى باطشٌ -أو قال آخذٌ- بقائمة من قوائم العرش» (2) . فالعرش إذاً مخلوق من مخلوقات الله - عز وجل - العظيمة، ومن عِظَمِهْ أنه قال فيه صلى الله عليه وسلم «مثل السموات السبع للعرش كمثل حلقة ألقيت في فلاة ومثل الكرسي للعرش كذلك» (3) يعني كحلقة ألقيت في فلاة وهذا الحديث صححه وقواه جمع من أهل العلم، وروي من طرق كما ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله والبحث يقتضي ذلك. وصْفُ العرش في النص جاء بأنه مجيد؛ يعني أنه ذو سَعَةْ، وأنه ذو جمال، وجاء بأنه عظيم؛ يعني أنه أعظم من غيره، وجاء في وصف العرش أنه كريم؛ يعني أنه فاق جنس العروش والمخلوقات في البهاء والحُسْنِ والعظمة؛ لأنَّ لفظ كريم في اللغة تعني أنه فاق غيره في الأوصاف التي يُحْمَدُ فيها، فقول العرب للإنسان الجواد الذي يبذل الندى ويبذل الطعام للأضياف أنه كريم داخلٌ في قاعدةٍ كبيرة في معنى كلمة كريم في لغة العرب. ولهذا من فاق غيره في الأوصاف فإنه كريم، ومن أسماء الله - عز وجل - الكريم الذي بلغ المنتهى في علو صفاته وحُسْنِ أسمائه بحيث لا يشابهه ولا يماثله شيء فيما وُصِفَ به - جل جلاله -، ووُصِفَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كريم لذلك؛ بل وُصِفَ في القرآن أنَّ النبات كريم لأجل ذلك، فقال سبحانه {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:7] ، يعني الأزواج التي تفوق غيرها وجنسها في النضرة والبهاء وما خلقه الله - عز وجل -. فإذاً يقتضي وصف العرش في النص بأنه كريم {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] في الحديث، يقتضي ذلك أنَّ العرش من جنس العروش. يعني أنَّ له صفة العروش. يعني أنه عرش على ظاهره لكنه فاقها في جميع الصفات التي توصف بها العروش. فإذاً هو عرش على الحقيقة ليس على المعنى، هو عرش على الحقيقة، وفاق جنس العروش، والله - عز وجل - في القرآن ذكر العرش، عرش المخلوقين وعرش الملوك في آيات كثيرة فقال مثلا في قصة يوسف عليه السلام {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَا} [يوسف:100] ، وقال سبحانه في وصف عرش بلقيس قال {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، وقال سبحانه {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] ونحو ذلك. فإذاً العرش هذا معناه، فيما جاء في الأدلة، وهذا عرش الرحمن، ووُصِفَ في الأدلة في الكتاب والسنة بهذه الأوصاف، وأنَّ العرش يُحْمَلْ، وأنَّ له قوائم، وأنه يُدَار حوله من الملائكة، وأنه مُقَبَّب كالقبة فوق سمواته، كما جاء في الحديث الذي في السنن واعتمد ما دلَّ عليه في جهة العرش أهل العلم لما جاء عن الصحابة في تقوية ذلك بأنَّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيديه مثل القبة، فقال أهل العلم إن العرش مُقَبَبْ. وكونه مُقَبَبْ لا يعني أنه أصغر كما يدل عليه النظر العقلي، مثل تقبيب سطح الأرض على مستوى النصف فيها فإنه مُقَبَب عليها وهو أعظم منها فكيف بالعرش.   (1) التوبة:129، النمل:26. (2) سبق ذكره (115) (3) ابن حبان (361) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 [المسألة الثانية] : العرش في اللغة مأخوذ من الرفع والارتفاع كما قال - عز وجل - في ذكر فرعون {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] ، يعني يَبْنُونَ ويرفعون من الأبنية، وقال - عز وجل - {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141] ، المعروشات يعني التي جُعِلَ لها البناء الذي يسمى تعريش أو العريش. ولأجل هذا الارتفاع والعلو سُمِّيَ العرش عرشاً. فكلمة عرش والتعريش ونحو ذلك مأخوذة أو أصلها الإرتفاع، ولهذا حتى في أكل اللحم إذا أراد أن يأخذ اللحم إلى فِيْهِ ويأكله بفيه بدون أن يقتطع منه يقال عَرَشَهُ، عَرَشَ اللحم أو عَرَشَ اللحم على العظم ونحو ذلك لأنه يرفعه على هذا النحو. فإذاً مادة العرش في اللغة ترجع إلى الارتفاع وهذا التحليل اللغوي المختصر يفيد في الرد على المخالفين في مسألة العرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 [المسألة الثالثة] : أنَّ العرش دَلَّتْ الأدلة على هذا الوصف، أما المخالفون فلهم في العرش أقوال: 1- القول الأول: أنَّ العرش هو فَلَكٌ من الأفلاك، وهو نهاية الأفلاك مستديرٌ حولها. وهذا هو قول أهل الكلام المدون في كتبهم، ويُسَمُّونَ الفلك التاسع عندهم الأطلس، يعني الذي ليس فيه خروق ولا نجوم، قالوا وهو المسمى في الشريعة العرش لأجل علوه وارتفاعه على سائر الأفلاك. وهذا على أصلهم لأنهم جعلوا الأفلاك سبعة ثم الثامن ثم التاسع وهو الفلك الأطلس، ولأجل عُلُوِّهِ وارتفاعه جمعوا ما بين الشريعة والفلسفة فقالوا هو هذا الفلك التاسع الذي تسميه الفلاسفة وأهل الهيئة -وهم جزء من الفلاسفة- يسمونه الفلك التاسع أو الأطلس هو العرش. وهذا القول يُرَدُّ عليه بردود واضحات وهي: @ الرد الأول: أنَّ أهل الهيئة سَمَّوا فلكهم التاسع أطلس ولم يزعموا -يعني قبل الإسلام- أنَّهُ هو العرش، والعرش في النصوص له صفة أخرى غير صفة الفلكية، فوُصِفْ بأنَّ له قوائم وأنَّ الملائكة تحمله وأنه على السموات على هذه الصفة وأنه مُفَضَّلٌ على العروش إلى آخره، فدلَّ على أنه ليس بفلك، والفلك مسارٌ من المسارات وكرة من الكرات التي تكتنف الأفلاك الأخرى. فإذاً من جهة دلالة النص تُبطِلُ هذه الدلالة. @ الرد الثاني: أنَّ الدلالة العقلية أيضاً تُبْطِلْ ذلك ودليله أَنَّ أهل الهيئة والفلاسفة لم يُقَدِّموا باتفاقهم برهاناً قطعياً على أنه ليس وراء الفلك التاسع كما سَمَّوهُ فلك، وإنما قالوا هذا نهاية ما رأينا بوضع الخسوفات، وتَقَدَّمَ هذا على هذا .... إلى آخره، فَرَتَّبُوهَا بحكم مشاهدة، ولم يقولوا إنه ليس وراء الفلك التاسع فلك؛ لكن على هذا رتبوا، ولهذا لم يقولوا -يعني بالبرهان القاطع- وإنما قالوا إنَّ الفلك التاسع هذا هو آخر الأفلاك بحكم ما شاهدنا؛ لكن قد يكون ثم شيء آخر وراءه. وهذا يخالف ما فَهِمُوهُ من كلمة العرش لأنهم أرادوا أن يجعلوا صِلَة بين العرش وبين كلام الفلاسفة، والعرش هذا الذي ذُكِرَ في النصوص لا يوافق هذا المبدأ؛ لأنه آخر المخلوقات والعرش أعظم المخلوقات وما تحته صغيرٌ بالنسبة إليه وليس دائرياً كما ذكروا. فإذاً كلامهم من الجهة العقلية لمَّا لم يأتِوا ببرهانٍ يدلُّ على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء ببرهانٍ قطعي عقلي وإنما قالوا هذا الذي يظهر من جهة النظر، فإنَّ هذا يدل على أنَّ تسمية الفلك التاسع بالعرش أنه ليس بصواب، وهذا واضح لكن لأنك قد تجده في بعض كتب التفسير فانتبه من ذلك. 2- القول الثاني: أنَّ العرش هو عبارة عن المُلْكْ ولكن عَبَّرَ عن الملك بالعرش لتلازمهما، فكما أنَّ لملوك الأرض عرشاً يجلسون عليه فإنَّ الله - عز وجل - جعل لنفسه عرشاً، وهذا العرش هو مُلْكُهُ، لكن من قبيل تعظيم الأمر. وهذا القول أيضاً باطلُ ومردود؛ لأنَّ مُلْكُ الله - عز وجل - لا يوصف بتلك الصفات في الشريعة، فإنَّ المُلْكَ لا يُحْمَلْ، والمُلْكْ ليس له قوائم، والمُلْكْ ليس ثَمَّ ملائكة تدور حوله ونحو ذلك، والمُلْكْ لا يأتي يوم القيامة محمول {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، إلى آخره، أيضا المُلْكْ مرتفع معنىً والعرش مرتفع حِسّاً يعني من جهة دلالة اللغة وهذا فرق بَيِّنْ. 3- القول الثالث: أنَّ حقيقة العرش هي الكرسي، وأنَّ الكرسي والعرش شيء واحد، وأنَّ الكرسي الذي وَسِعَ السموات هو العرش، وهذا قولٌ هنا وقولٌ في أقوال الكرسي يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى، وهذا القول منسوب إلى الحسن البصري وهو قول ضعيف؛ لأنَّ: - الله - عز وجل - وَصَفَ العرش بصفات ليست هي صفات الكرسي. - ثم مادة العرش غير مادة الكرسي؛ يعني من جهة الاشتقاق. - ثم الآثار عن السلف متضافرة في أنَّ العرش شيء والكرسي شيء آخر ولهذا عطف الطحاوي الكرسي على العرش فقال (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ.) لأنَّ العطف بالواو يقتضي المغايرة، مغايرة الذوات بين الكرسي والعرش. 4- أما بالنسبة مذهب الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فإنهم في العرش مضطربون، ليس لهم مذهب واضح: - منهم من ينحو منحى أهل الكلام. - ومنهم من يقول العرش مخلوق من مخلوقات الله لا نعرف حقيقة تكوينه، ولا معنى الاستواء عليه ونحو ذلك. - ومنهم من يقول إنَّ العرش هو الملك. - ومنهم من يقول العرش تمثيل، أصلاً ليس فيه عرش وليس ثّمَّ شيء وإنما هو تقريب، تمثيل للأفهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والكرسي   & ثانياً الكرسي: [المسألة الأولى] : الكرسي ذَكَرَهَُ الله - عز وجل - في آية واحدة في القرآن سُمِّيَتْ بآية الكرسي لقوله - عز وجل - فيها {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، وهذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم لأبي «أي آية في كتاب الله أعظم؟» فقال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، قال «ليهنك العلم» (1) لأنَّ هذا يعني أنه فَقِهَ معنى هذه الآية لأنَّهُ لا يدرك كون هذه الآية أعظم ما في القرآن إلا أنَّهُ عَلِمَ معانيها ولا شك أنَّ هذه تعني علماً عظيماً. وفي السنة جاء بيان حجم الكرسي بالنسبة للسموات بأنَّ (2) السموات السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والكرسي بالنسبة إلى العرش مثل ذلك. وجاء في أثر عن ابن عباس موقوف يصح عنه موقوفاً، وروي مرفوعاً ولا يصح مرفوعاً، وهو قوله رضي الله عنه (الكرسي موضع القدمين لله - عز وجل -) (3) وهذا يعني أنَّ الكرسي مخلوق من مخلوقات الله عظيم جداً، جعله الله بهذا العِظَمْ، وأنه وسع السموات والأرض، وأكثر من ذلك السموات صغيرة بالنسبة لكرسي الرحمن - جل جلاله -.   (1) مسلم (1921) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط العشرين. (3) المستدرك (3116) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 [المسألة الثانية] : أنَّ كلمة كرسي من جهة اللغة مأخوذة من الكَرْسِ، والكَرْسِ هو الجمع في اللغة، ويقال للكرسي المعروف إنه كرسي لأجل أنَّ أعواده تُجمَعْ على هيئة ما. فالكرسي يختلف عن المقعد الآخر بأنَّهُ أعواد مجموعة في اللغة، ومنه سُمِّيَ العلماء أيضاً كَرَاسِي لأجل أنهم جَمَعُوا العلم، لأجل معنى الجمع، وكذلك قيل للوَرَقْ المجموع على نحوٍ ما كُرَّاسة لأنها أوراق جُمِعَتْ. فمادة الجمع مادة الكَرْسْ تعود إلى الجمع، ويقال تَكَرَّسَ فلان بالشيء إذا جَمَعَهُ أو تكرَّس فلان الشيء إذا جمعه إلى صدره أو جمعه إليه. فإذاً مادة الكرسي مأخوذة من الجمع. وهذا يدل على أنَّ كرسي الرحمن - جل جلاله - وتقدست أسماؤه له من الصفات العظيمة ما يختلف به عن صفة العرش؛ لأنَّ الله - عز وجل - سَمَّى العرش عرشاً وهذه لها دلالتها في اللغة، وسَمَّى الكرسي كرسيَّاً وهذه لها دلالتها في اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 [المسألة الثالثة] : الناس لهم في الكرسي أربعة أقوال، يعني غير أهل السنة: 1- القول الأول: وهو قول الحسن وهو أنَّ الكرسي هو العرش وهذا قول ضعيف، الآثار ترده كما قلت لك. 2- القول الثاني: أنَّ الكرسي لمَّا ذُكِرْ في آيةٍ واحدة هي آية الكرسي في سورة البقرة، أَنَّهُ تمثيل وأنه ليس ثمَّ حقيقة للكرسي؛ ولكن هو تمثيل لتقريب عظمة الله - عز وجل -. وهذا هو قول الذين ينفون كثير من الصفات التي تدل على عظمة الله وقدرته كقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، ونحو ذلك فيقولون: إنَّ هذا كله تخييل؛ بل قالوا: إنَّ كل نص جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل فإنه لأجل التخييل لا تُقْصَدُ حقائقه، وإنما المقصود تعظيم الناس لله - عز وجل - وإلا فهذه ليست على حقائقها. وهذا القول معروف من أقوال المعتزلة وطائفة من الأشاعرة، ومن المعاصرين قرَّرَهُ في تفسيره سيد قطب في ظلال القرآن وجعله قاعِدَةً كلية في آخر سورة الزّمر عند قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} . وفي الحقيقة إنَّ القول بأنَّ هذا كله على جهة التخييل إلغاء لكل الدلالات الشرعية للألفاظ وإلغاء لكل الغيبيات لأنه يكون المقصود في كل هذا التمثيل. وهذا القول قَدَّمَهُ الزمخشري في الكشاف وكأنه يميل إليه، وعلى قاعدتهم في أنَّ كل النصوص من هذا الباب على وجه التوهم والتخييل. وهذا القول كما ذكرت لك غلط عظيم؛ لأنَّ معناه نفي كل الأمور الغيبية هذه على هذه القاعدة، فما كان من الأمور الغيبية يدل على عظمة الله وكان فيها تمثيل بأشياء موجودة عند البشر فتُنْفَى ويكون المقصود التمثيل لا الحقيقة. 3- القول الثالث: أنَّ الكرسي هو العلم، فكرسي الرحمن - عز وجل - هو عِلْمُهُ، وقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني وسع علمه السموات والأرض. وهذا القول مروي عن ابن عباس ولكن الصحيح عن ابن عباس خلاف هذا القول. ويُرَدْ على هذا القول بأمور: 1 - أنَّ مادة الكرسي للجمع، والعلم شيء آخر، هذا من جهة اللغة. 2 - أنَّ الله - عز وجل - ذكر أنَّ الكرسي وسع السموات والأرض؛ ولكن علمه - عز وجل - وسع كل شيء، قال سبحانه {ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ، وقال - عز وجل - {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعِلْمُ الله - عز وجل - يشمل علمه بذاته - عز وجل - وبأسمائه وصفاته وأفعاله وعلمه - عز وجل - الذي يسع السموات والأرض وعلمه - عز وجل - الذي يسع الجنة والنار وعلمه - عز وجل - بعد تغير السموات والأرض وقبل خلق السموات والأرض. فإذاً تفسير الكرسي بأنه العلم هذا يضاد أنَّ العلم يسع كل شيء {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} ، وأما كرسي الرحمن - عز وجل - فقال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . 3 - أنَّ قولهم إنَّ الكرسي هو العلم وأنَّ مادة تَكَرَّسَ راجعة إلى العلم، والعلماء سُمُّوا كراسي لأجل العلم ونحو ذلك من الاحتجاجات واحتجاجهم بقول الشاعر يصف قنصه لفريسته: فلما احتازها تكرَّسا ................. قالوا يعني علم. فهذا من الجهة اللغوية فيه ضعف، وذلك أنَّ العلم ليس راجعاً إلى الجمع والعلماء صحيح أنهم جمعوا علومهم لكنَّ العلم من حيث هو يَحْصُلُ بتلقي المعلوم ثُمَّ العِلْمُ به والمعرفة به، فليس كل علم ناتجاً عن جمع بل يكون ناتجاً عن تصور الخَبَر، فيكون معلوماً له. وهذا هو المقرر في اللغة وعند أهل نظرية المعرفة، فإن المرء يعلم بدون جمع، والله - عز وجل - وَصَفَ الصغير بقوله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، فكُلَّمُا عَلِمَ المخلوق، كلما علم الصغير شيئا صار عالماً به ولو لم يجمعه إلى غيره، فمادة الجمع غير مادة العلم، مادة الكَرْسْ غير مادة العلم والعلم ما صار علماً للجمع، وإن كان العلماء سُمُّوا كراسي لأجل جمعهم العلم. فإذاً راجِعٌ تفسير كلمة التكرس إلى كلمة الجمع، واحتجاجهم بقول الشاعر كما ساقه ابن جرير الطبري في تفسيره: فلما احتازها تكرسا ............... يدل على أنَّ التكرس بمعنى الجمع لا بمعنى العلم لم؟ لأنه قال (فلما احتازها) يعني صارت في حوزته. (تَكَرَّسَا) وهو عَلِمْ بأنه قَنَصَهَا لمَّا صارت في حوزته. يكون تكرسه شيئاً جديداً زائداً على ما حَصَلَ له من الحيازة، فالحيازة بها عَلِمْ وزاد بعد الحيازة أن ضَمَّهَا وجمعها إليه. فإذاً من حيث اللغة فإنَّ دلالة التَّكَرُّس على العلم دلالة ضعيفة؛ بل الصواب أنَّ التَّكَرُّس ومادة كَرَسَ راجعة إلى الجمع في اشتقاقاتها جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 4- القول الرابع: أنَّ الكرسي عبارة عن المُلْكْ كما قالوا في العرش، وقالوا إنَّ الكرسي إذا قيل إنَّ كرسي الملك واسع فهذا يدل على سعة مُلْكِهِ وعلى عُلُوِّ شأنه وقُوَّتِهِ. فيقولون: الله - عز وجل - قال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] ، يعني أنَّ سلطانه وملكه وسع السموات والأرض. وهذا ليس بجيد أيضاً؛ لأنَّ: 1 - الكرسي من جهة دلالة اللغة غير دلالته على الملك. 2 - أنَّ الكرسي موصوف في السنة وفي آثار السَّلف بأنه غير الملك، فدلَّ ذلك على أنَّ تفسيره بالملك تفسير حادث، والتفسير الحادث بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم لا يُصَارُ إليه في تفسير القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 [المسألة الرابعة] : وهذه المسألة متصلة بالعرش والكرسي جميعاً، وهي راجعة إلى أثر الإيمان بالعرش والكرسي. فالمؤمن إذا آمن بأنَّ عرش الله - عز وجل - حق، وأنَّ هذه التي ذُكرت هي صفة العرش، وأنَّ عرش الله عظيم جداً وأنه مجيد وأنه كريم، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ عن أحد حملة العرش بأنَّ مسيرة ما بين عاتقه إلى شحمة أذنه مسيرة خمسمائة عام، وأنَّ السموات بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وأنَّ الكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك، وأنَّ الكرسي موضع قدمي الرحمن - عز وجل -، فلا شك أنَّ هذا يَؤُولُ بالمؤمن الحق إلى اعتقاد عظمة الله - عز وجل -، وإلى أنَّ الله سبحانه تتناهى المخلوقات عنده في الصِّغَر، وأنه - عز وجل - كما وصف نفسه بقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وجاء في الأثر في تفسير ذلك أنه يرمي بها يوم القيامة كما يرمي الصغير بالكرة فيقول أنا الله الواحد أنا الملك إلى آخره. فمعرفة صفة الكرسي وصفة العرش، ويبتدئ المرء من نفسه التي يُعَظِّمُهَا وكيف هو على هذه الأرض العظيمة جداً وهو صغير جداً جداً، هذه الأرض، حتى إنَّ المدن الكبار إذا صعدت بالطائرة تراها صغيرة جداً وهي تحوي ملايين الناس، فكيف بالفرد والأرض هذه بالنسبة للسماوات صغيرة، والسماوات السبع على سعتها وعِظم ما فيها من الأفلاك والنجوم والسيارات بالنسبة للكرسي صغيرة كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك، والله - عز وجل - فوق العرش مستغن عن العرش، وكل شيء محتاج إليه، والله سبحانه محيط بكل شيء إحاطة سعة وقدرة وذات وشمول - جل جلاله - وتقدست أسماؤه فإنَّ المرء ولاشك يصيبه بل يحصل له في قلبه نوع عظيم من الذل لله - عز وجل -، ونوع عظيم من احتقار النفس ومعرفة قدر الإنسان كيف هو، وأنه شُرِّفَ أعظم تشريف أَنْ جعله الله - عز وجل - عبداً له سبحانه، ولهذا ينظر المرء إلى عِظَمْ المخلوقات هذه ويؤمن بها فيُعَظِّمْ الله - عز وجل -. حقيقةً الإيمان بأسماء الله - عز وجل - وصفاته يُثْمِرُ ثمراتٍ عملية في القلب من وَجَلِ القلوب، من إجلال الله - عز وجل - وحب القلوب لجمال الله - عز وجل - وأنواع ما يحدث في القلب من الإيمان ومدارج الإيمان التي تتصل بالإيمان بالأسماء والصفات، كذلك الإيمان بالجنة والنار، كذلك الإيمان بالعرش والكرسي لمن تأمله فإنه يجعل القلب خاضعا لربنا ويجعل القلب مُخْبِتَاً مُنِيبَاً لله - عز وجل - فإنْ غَفَلَ جاءه تعظيمه وإيمانه وعقيدته بالإنابة السريعة بالاستغفار الحق. إذاً حين نبحث هذه المباحث في العقيدة ليست كما يبحثها أهل الكلام المذموم في كونها أشياء لا ثَمَرَةَ لها على الإيمان والعمل الصالح وتَعَبُّدْ المرء لله - عز وجل -، فإنَّ كل شيء وَصَفَهُ الله - عز وجل - لنا من الأمور الغيبية لم يُقْصَدْ إيماننا به واعتقادنا له من جهة الوجود دون جهة الإيمان وما يُثْمِرُ منه؛ بل قُصِدَ الإيمان به -يعني بوجوده وأثر الإيمان الذي يُحْدِثُهُ في النفس- لأنَّ المقصود إصلاح القلوب بالله - عز وجل -. وأنت سمعت قول أولئك من المعتزلة وطوائف من المبتدعة إنَّ هذه الأشياء تمثيل لأجل إصلاح الناس وإيمانهم بعظمة الله - عز وجل -، والواقع أننا إذا قلنا بما جاء في الأدلة من الكتاب والسنة فإنها في تحصيل الإيمان وفي إحداث الإيمان في النفوس وتقوية الإيمان أعظم من أن تكون للتمثيل؛ لأنَّ ذِكْرَهَا على الحقيقة وعلى هذه الصفات يجعل المرء على الحقيقة يتصور كيف هذه المخلوقات جميعاً والأرض هذه الكبيرة وما فيها ثُمَّ السموات ثم الكرسي بعد ذلك ثم العرش ثم الملائكة الحافين من حول العرش لاشك يُحْدِثْ له أنواع من الإيمان والوجل والخوف وحب الله - عز وجل - وتعظيمه والإنابة إليه، وهذا لاشك كله من المقاصد الشرعية. فإذاً الإيمان بهذه يحتاج منك إلى تأمل وتدبر في أن تُعْمِلَ في قلبك هذه الأشياء وتتذكر عظمة الله - عز وجل -. هذه بعض المباحث المتعلقة بقوله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) وثَمَّ مباحث زائدة يعني قد تدخل في مباحث الكلام المذموم، فالذي يهمنا هو تقرير ما دل عليه الكتاب والسنة وما يجب اعتقاده أنَّ العرش والكرسي حق، وأنَّ العرش موصوف بتلك الصفات والكرسي موصوف بتلك الصفات، وأنَّ الأقوال الباطلة في العرش والكرسي متعددة والجواب عليها، وأسأله - عز وجل - لي ولكم التوفيق والسداد. وفي هذا القدر كفاية عسى الله - عز وجل - أن يرحمنا برحمته وأن يجعلنا من المنيبين إليه المتقين. نكتفي بهذا القدر، لا تنسونا من صالح الدعاء. (1)   (1) انتهى الشريط العشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 : [[الشريط الواحد والعشرون]] : (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا) .   قال العلاّمة الطحاوي في هذه النُبْذَةْ المختصرة في وصف الله - عز وجل - قال (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) يريد بهذا الكلام أنَّهُ لمَّا أثْبَتَ عرش الرحمن - عز وجل - وأثْبَتَ الكرسي على ما جاء في النصوص وما في ذلك من الاستواء على العرش كما يليق بجلال الله - عز وجل -، بَيَّنَ أنَّ خلق العرش واستواء الرب - عز وجل - على العرش كما يليق بجلاله وعظمته ليس لحاجَةٍ من الله - عز وجل - لما خَلَقْ للعرش، ولكن الله - عز وجل - هو الغني سبحانه وتعالى، وهو مستغنٍ عن جميع المخلوقات؛ بل العرش وما دونه مفتقر إلى الرب - عز وجل -، إذْ ربُّنا - عز وجل - به تقوم الأشياء، فلا أحد يقوم ولا شيء يقوم إلاّ بالربّ - جل جلاله -، والعرش من ذلك؛ فإنه مفتقر في قيامه وفي استمراريته وفيما عليه شأنه مفتقر إلى الربّ - جل جلاله -، فالله سبحانه هو الذي يحفظه، وهو الذي بقدرته يحمله - عز وجل -، إلى غير ذلك. فإذاً استواء الربّ - جل جلاله - على العرش ليس استواءً كما يظنه الجهلة وأهل البدع لمَّا نفوا الاستواء أنَّ ذلك يقتضي الحاجة إليه، لا وكلاّ؛ بل هذا فِعْلْ فَعَلَهُ الله - عز وجل - وصِفَةٌ اتصف الله - عز وجل - بها، والله سبحانه يتّصف بما يشاء - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه، والعرش شَرُفَ وعَظُم لأنَّ الله - عز وجل - جعله مكاناً لاستوائه عليه سبحانه وتعالى. لأجل مخالفة المخالفين ولأجل الرد على جَهَالَةْ الجاهلين قال الطحاوي هنا (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) . يعني أنَّ الله - عز وجل - موصوف بالغِنَى المُطْلَقْ من كل وجه، كما وصف بذلك نفسه في القرآن، وهو مستغن عن أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات وفوق المخلوقات وهو العرش، فاستغناؤه - عز وجل - عما دون ذلك الخلق العظيم وهو العرش لاشك أنه من باب أولى. قال رحمه الله هنا في وصف الله (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ) وذلك لكمال غنى الرب - عز وجل -، وكمال جلاله وكمال قدرته سبحانه وكمال قهره، ولعلو ذاته سبحانه وتعالى وأنه الحي القيوم. (القيوم) يعني أنَّ كل شيء إنَّمَا قيامه بالله - عز وجل -، فأي شيء في هذه الدنيا بل أي شيء من مخلوقات الله - عز وجل - لو تَخَلَّى ربنا - عز وجل - عنه لباد ولهلك ولما استقام له شأن. ولهذا كان من دعاء أعرف الخلق بربه وأعلم الخلق بربه صلى الله عليه وسلم أنه يقول «ولا تكلني لنفسي طرفة عين» (1) فهذا فيه التَّخَلِّي عن كل حول وقوة وعن أنْ يُوكَلَ العبد إلى نفسه طرفة عين. فإذاً كلّ الخلق قيامهم بالله - عز وجل -، وكل الخلق فقراء إلى الله - عز وجل - ومن ذلك العرش، والربّ سبحانه هو الغني الحميد المستغني عن كل ما عداه والمفتقر إليه كل شيء سبحانه وتعالى. قال (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) يعني أنَّ الربّ سبحانه وتعالى موصوف بإحاطته لكل شيء وأنَّهُ سبحانه فوق كل شيء. وهذه الإحاطة يأتي بيانها بالتفصيل، ومعناها أنّ الرب - عز وجل - محيط بصفاته بكل شيء بعظمته - عز وجل - وبقدرته وبعلمه فهو سبحانه بكل شيء محيط. قال (وَفَوْقَهُ) يعني أنَّ الله - عز وجل - موصوف بالعلو المطلق؛ علو الذات والفوقية المطلقة؛ فوقية الذات له سبحانه وكذلك علو وفوقية الصفات. قال بعدها (وَقَدْ أَعْجَزَ عز وجل عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) يعني أنَّ الله - جل جلاله - لِعِظَمِ قدرته ولكمالِهِ في غناه لا أحد ولا شيء يحيط به كما قال - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وقال - عز وجل - لموسى {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] . - فإحاطة الرؤية بالله - عز وجل - ممتنعة. - وإحاطة العلم بالله - عز وجل - ممتنعة. -وإحاطة القدرة بالله - عز وجل - ممتنعة. إذاً فالعباد مهما بلغ شأنهم فيما أعطاهم الله من القوة فإنهم أحقر وأضعف وأذل لله - عز وجل - من أن يحيطوا به - عز وجل - علماً أو يحيطوا به وصفاً أو يحيطوا به - عز وجل - قدرَةً إلى آخر ذلك؛ بل هو سبحانه المتصف بصفات الكمال. وهذا من الطحاوي رحمه الله تَقْرِيرٌ لعقيدةٍ عظيمةٍ من عقائد أهل السنة والجماعة مُخَالَفَةً للمعتزلة والخوارج والرافضة والأشاعرة وطوائف كثيرة من الصفاتية ومن غيرهم. وفي هذه الجملة مسائل لبسط الكلام عليها.   (1) أبو داود (5090) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 [المسألة الأولى] : في قوله (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) ، (مُسْتَغْنٍ) من الغِنَى وهو عدم الحاجة. والله - عز وجل - سَمَّى نفسه بالغني كما في قوله سبحانه {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وفي قوله {إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [العنكبوت:6] ، وفي قوله {فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران:97] وفي قوله أيضا - عز وجل - {وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131] ، ونحو ذلك من الآيات، فهو سبحانه موصوف بالغنى، ومن أسمائه الغَنِيْ. ومعنى هذا الاسم -الذي هو من أسماء الجلال لله - عز وجل - ومن أسماء الجمال لله - عز وجل -- أنه سبحانه الذي يحتاج إليه كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء. وهذا الغِنَى غِنَىً بالقهر؛ فإنَّ الله سبحانه لا يحتاج إلى مُعينٍ لِيَقْهَرَ من شاء ويُذِلَّ من شاء، كما أنه غِنَىً في الملك؛ فالله سبحانه غَنِيٌّ عن أن يعينه أحد في تدبير ملكه ولكن يُشَرِّفُ من شاء من عباده ببعض ما يقومون به من عمل في ملكوت الله - عز وجل -، كما يُشَرِّف الملائكة وبعض عباده الصالحين. وغناه أيضا - عز وجل - غنىً لكمال قدرته سبحانه وتعالى. ومن هذا الأخير غناه عن العرش، فهو سبحانه لكمال قدرته واستغنائه بقدرته عن أحد من خلقه فإنه مستغنٍ عن العرش. فإذاً عموم غِنَاهُ - عز وجل - وإطلاق غِنَاهُ - عز وجل - وأنَّ الخلق جميعاً فقراء إليه سبحانه وتعالى هذا يشمل هذه المعاني جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 [المسألة الثّانية] : استغناؤه - عز وجل - عن العرش وما دونه يقتضي أنَّ العرش وما دونه محتاج إليه ومفتقر إلى الربّ سبحانه وتعالى، وهذا له جهتان: 1- الجهة الأولى: أنَّ العرش وما دونه مُفْتَقِر لله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا قَوَامَةَ لَهُ ولا قيام له بنفسه، فهو محمولٌ، له قوائم كما مَرَّ معنا في وصفه، وهو محمول والذي يحمله خَلْقٌ سَخَّرَهُمْ الله - عز وجل - لحمله وأقْدَرَهُمْ على ذلك، فقُدْرَتُهُم في حمل العرش واستقراره وفي بقائه وقيامه إنما هو بقدرة الله - عز وجل -، فهذا نوع من الحاجة. 2- الجهة الثانية: أنَّ كلّ شيء عبدٌ لله - عز وجل -، ومن ذلك العرش، فالعرش من مخلوقات الله التي تَعْبُدُهُ وتُسَبِّحُهُ وتذِلُ له - عز وجل -، وكذلك حملة العرش، وكذلك من في السموات ومن في الأرض، وكذلك ما في السموات وما في الأرض، وقد قال - عز وجل - {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، وقال أيضاً {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فقوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} هذه نكرة جاءت في سياق النفي بـ {إِنْ} ، لأَنْ {إِنْ} هنا بمعنى ما و {إِلَّا} بعدها حاصرة أو قاصرة، فيكون المعنى: ما من شيء إلا يسبّح بحمده. والعرش شيء، وتسبيحه بحمد الله - عز وجل - نوع من الذل والعبودية له سبحانه وتعالى، والعبودية والذل معنىً من معاني الافتقار إلى الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. وفي هذا تنبيه للعباد بعامة أنّ هذا المخلوق العظيم الذي الكرسي بالنسبة إليه كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، (والكرسي) السموات السبع بالنسبة إليه كما جاء في كلام السلف كدراهم سبعة ألقيت في تُرْسْ أو كحلقات ألقيت في ترس، والأرض صغيرة بالنّسبة للسموات، فإنّ هذا يعني أنك أيها العبد أيها الإنسان المخلوق الضعيف الذي تعرف ضعفَك، تنظر إلى العرش الذي هو مفتقر إلى الله - عز وجل - مُسَبِّحٌ ذالٌ منيبٌ إلى ربه - عز وجل -، كيف أنه لا يستغني عن مولاه، وكيف أنه يُسَبِّحُ ويحمد ويَذِلُّ لله - عز وجل -، فهذا المخلوق الضعيف جدا الذي هو الإنسان وأُبتلي بالتكليف لاشك أنه أولى بالذل لله؛ لأنه ضعيف جداً ومفتقر للغاية. فإذاً النظر إلى العرش وفَقْرْ العرش إلى الله - عز وجل -، وأنَّ قوامَةَ العرش على عِظَمِهِ وعِظَمِ خلق السموات وضعف نِسْبَةِ خلق السموات إلى العرش جداً، كيف الإنسان ينظر إلى نفسه لاشك أنه يستفيد من هذا في قلبه وعمله أنه أولى بالافتقار إلى الله وأولى بالذل إلى الله، وأولى بالعبودية لله - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه وهذا من ثمرات التّفكر الشّرعي والنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر أيضا فيما ذكر الله - عز وجل - في كتابه من أنواع خلقه التي لم نر ومنها عرشه - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 [المسألة الثالثة] : في قول المؤلف هنا في وصف الرب - عز وجل - (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) . (مُحِيطٌ) هذا الوصف الإحاطة قد جاء وصف الله - عز وجل - به في القرآن في عدة آيات كما في قوله سبحانه في آخر سورة فُصِّلت {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] ، وكذلك في قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126] ، وكذلك في قوله - عز وجل - {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، ونحو ذلك. والإحاطة في اللغة: هي الإتيان بالشيء من جميع جهاته. يعني من جميع الجوانب يكون مُطَوَّقَاً كما في قوله تعالى {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] ، يعني جاءهم من كل جهة. وتفسير إحاطة الله - عز وجل - بكل شيء السلف والمفسرون منهم من يمضي -وهم الأكثر- عن الدخول في هذا الوصف؛ -وصف إحاطة الله - عز وجل - بكل شيء-، وكأنهم هربوا من أن يُظَنَّ أنَّ الإحاطة إحاطة ذات، كإحاطة الفَلَك بما فيه وإحاطة السموات بالأرض ونحو ذلك. ولاشك أنَّ معنى إحاطة الذات ليس مُرَادَاً، فإنّ الله - عز وجل - فوق مخلوقاته والمخلوقات صغيرة بالنسبة لذات الله - عز وجل -. ولهذا أعرضوا عن الخوض في تفسيرها. وفَسَّرَهَا طائفة من العلماء تفسيراً يوافق ما قاله السلف وما يعتقده أئمة أهل السنة في ذلك بقولهم: إنَّ الإحاطة أنواع: - إحاطة بمعنى أنها إحاطة عَظَمَة لله - عز وجل -. - إحاطة بمعنى أنها إحاطة سعة، فالله سبحانه وَصَفَ كرسيه بأنّه وسع السموات والأرض ووصف نفسه - عز وجل - بأنه واسع سبحانه وتعالى الذي وسِع كل شيء. - إحاطة بمعنى أنها إحاطة صفات: إحاطة علم، إحاطة قدرة، إحاطة قهر، إحاطة مُلْكْ إلى غير ذلك. فهذه كلها من معاني إحاطة الرب - عز وجل - عباده، ولهذا أين المفر؟ فكل أحد يُفَرُّ منه إلى غيره؛ ولكن الله - عز وجل - ولإحاطته بخلقه وإحاطته بجميع ملكوته سبحانه وتعالى-إحاطة عظمة وسَعَةْ وقدرة وعلم إلى غير ذلك- فإنّه سبحانه إذا فررت منه فإنك لن تجد إلا أن تفر إليه سبحانه وتعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] . ويقول القائل يوم القيامة أين المفر؟ لا مفر من الله إلا إليه. وهذا إذا نَظَرَ إليه العبد مع التَّفُكُّرْ وَجَدَ نفسه تتصاغر جداً أمام ربه - عز وجل -، فَيعْظُمُ الإيمان في قلبه، ويعْظُمُ اليقين، ويعْظُمُ توكله على الله، فيأنس بالله - عز وجل - وبما جاء من الله - عز وجل - حتى يصير راضياً بكل ما جاء من الله - عز وجل - ذالاً لربه سبحانه وتعالى. وكلمة (شَيْءٍ) في قوله (بِكُلِّ شَيْءٍ) -ذكرنا لكم- أنها تُفَسَّر بأنَّ الشيء ما يصح أن يُعْلَمَ أو يؤول إلى أن يُعْلَمْ. والله سبحانه وتعالى إحاطته بالأشياء منها -كما ذكرنا- إحاطة علم وإحاطة قدرة، فهو سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، قدير على كل شيء، فإذاً كلمة (كُلِّ شَيْءٍ) هنا لأجل ما جاء في الآيات {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} ونحو ذلك لأجل ما جاء في الدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 [المسألة الرّابعة] : وهي أعظم المسائل وأَجَلِّهَا في كلام الطحاوي هذا، وهي قوله في وصف الله - عز وجل - (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) . كما ذكرتُ لك أنَّ الإحاطة قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنها إحاطة ذاتٍ، بمعنى أنَّ الأشياء جميعاً الله سبحانه بذاته محيط بها من كل جهة، وهذه قد نفاها العلماء ولم يجعلوها تفسيراً للإحاطة. لهذا قال بعدها (وَفَوْقَهُ) يعني أنَّهُ مع إحاطته بكل شيء فهو فوق جميع الأشياء. والفوقية هنا هي المسألة المشهورة العظيمة في هذه الأمة وهي مسألة علو الله - عز وجل - على خلقه وفوقية الرب - عز وجل - على خلقه. والفوقية بمعنى العُلو، فالآيات التي فيها ذِكْرُ الفوقية تُفَسَّرُ بالعلو، والآيات التي فيها العلو تُفَسَّرُ بالفوقية، ففوقية الرب - عز وجل - هي علوه سبحانه على جميع خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وفي قوله (وَفَوْقَهُ) مسائل لبسط الكلام عليها.   [المسألة الأولى] : أنَّ العلو والفوقية ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - إلى علو الذات. - وعلو القهر. - وعلو القَدْرْ والشرف. وكذلك الفوقية: - فوقية الذات. - وفوقية القهر. - وفوقية القَدْرْ والشَرَفْ. وبعض أهل العلم يقسمها إلى قسمين: - إلى فوقية الذات. - وإلى فوقية الصفات وكذلك العلو: - علو ذات. - وعلو صفات. والأول هو الأكثر في تفسير أهل العلم الذين دوَّنُوا شرح عقائد أهل السنة والجماعة. 1 - أولاً: علو الذات وفوقية الذات: وهذه معناها أنَّ الله - عز وجل - فوق جميع الأشياء وأنه الأعلى سبحانه، وهذا هو الذي فسّره به صلى الله عليه وسلم، فَفَسَّرَ الآية وهي آية سورة الحديد {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] ، فسّر {الظَّاهِرُ} فقال «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» سبحانه وتعالى. 2 - ثانياً: فوقية القهر وعلو القهر: وهذه معناها أنه سبحانه وتعالى لا يُغْلَبْ ولا يُرَامُ جنابه؛ بل هو سبحانه وتعالى هو الذي يَقْهَرُ من عداه، يُمْلِي ويستدرك ويَقْهَرْ ويَأْخُذُ على غِرَّةْ، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] ، فهو سبحانه وتعالى عالٍ علو القهر، وهو فوق خلقه فَوقِيَّةَ قهر وجبروت وعظمة للمولى - جل جلاله -. 3 - ثالثاً: علو القَدْرْ وفوقية القَدْرْ: وهذا المعنى هو الذي يُثْبِتُهُ المبتدعة من العلو فلا ينازعون في علو القَهْرْ والقَدْرْ والشَّرَفْ. فيقولون: معنى الله فوق خلقه كقول القائل المَلِكُ فوق شَعْبِهِ أو الأمير فوق رعيته؛ يعني من جهة قَدْرِهِ، وكقولهم: العالم فوق عامة الناس، من جهة القَدْرْ، وكقول القائل الذّهب فوق الحديد؛ يعني من جهة المنزلة والقَدْرْ. وهذا تفسير ناقص، كما سيأتي في هذه المسائل إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 [المسألة الثانية] : العلو والفوقية لله - عز وجل - ثابت بدليل القرآن والسنة والعقل والفطرة. بل قال بعض العلماء: إنَّ في القرآن والسنة ألف دليل لإثبات علو الله - عز وجل - بذاته وفوقيته بذاته على خلقه. وهذا يعني أنَّ أمر العلو ومسألة العلو والفوقية من المسائل المتواترة العظيمة التي دلالتها صريحة؛ بل دلالتها نصية فدلالتها إذاً قطعية. ولهذا دخل عدد من أهل العلم؛ بل صَرَّحَ عدد من أهل العلم بتكفير من أنكر علو الله - عز وجل - على خلقه لأجل عِظَمْ الأدلة في هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الأدلة التي دَلَّتْ على علو الله - عز وجل - على خلقه وعلى أنه سبحانه فوقهم بذاته وصفاته كثيرة جداً. لهذا ابن القيم جعلها أنواع لأجل كثرتها، جعلها ثمانية عشرة نوعا كل نوع تحته جملة من الأدلة في الكتاب والسنة، ونذكر بعضا منها، وترجعون إلى الباقي: 1 - أنَّ الله - عز وجل - صرَّحَ سبحانه ونص على أنه فوق عباده في قوله في سورة الأنعام {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} . 2 - أنه جاء التصريح بـ {مِنْ} قبل الفوقية في قوله سبحانه في سورة النحل {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] . ومن مقتضيات اللغة أنَّ مجيء (من) قبل الظرف (فوق) تدل بظهور على أنَّ الفوقية فوقية ذات؛ لأنَّ فوقية الصفة أو القَهْرْ أو القَدْرْ لا يُؤتى فيها بـ (من) ، فلا يُقَال الذهب من فوق الحديد ويُعنى به صفاته، أو الملك من فوق الرعية ويعنى بها من الصفات. إذا أُتيَ بـ (من) في اللغة قبل الظرف (فوق) فإنها تدل على فوقية المكان أو فوقية الذات لله - عز وجل -. يعني فوقية الذات لأي شيء، وفي الآية فوقية الذات لله - عز وجل -. فإذاً قوله سبحانه لما وصف الملائكة بأنَّهُم [ ... ] إلى السماء وأنهم يسبحون قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني الذي هو فوقهم بذاته - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. 3 - أنه سبحانه ذَكَرَ أنَّ الملائكة تعرج إليه فقال سبحانه {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، عروج الملائكة يعني صعودها، عروج الملائكة يعني ارتقاءها إلى أعلى وإلى فوق، وهذا يدل على فوقية الذات لله - عز وجل -. 4 - أنه سبحانه ذَكَرَ ونصَّ على أنَّ العمل الصالح يصعد إلى الرب - عز وجل -، والأعمال الصالحة تُرْفَعُ إليه سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله تعالى في سورة فاطر {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، فقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} يعني لا إلى غيره لأنه سبحانه هو المتفرد بعلو الذات على خلقه جميعاً. 5 - أنَّ الله سبحانه ذَكَرَ أنَّهُ اخْتَصَّ بعض عباده بأن جعلهم عنده، ومن ذلك الملائكة، فالملائكة في السماء؛ ولكن هم متنوعون أيضاً في سُكناهم للسماء، فجعل - عز وجل - بعضهم مختص بأنه عنده سبحانه، وهذه العندية هي عندية علو وفوقية، كما في قوله سبحانه {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20] ، ونحو ذلك من الآيات، فالعندية -عندية الملائكة- يعني كون الملائكة عند الله {الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يقتضي أنه سبحانه شرَّفَهُمْ وخَصَّهُمْ بشيء وهو أنهم عنده؛ يعني في عُلاهُ - عز وجل -. وكذلك ما وصف الله - عز وجل - به الشهداء في قوله {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} هم بين الخلق جَسَدَاً ولكنهم عند ربهم روحاً يعني في العلا تكريماً لهم وتعظيماً لأجرهم وثوابهم. 6 - ما ذكر الله - عز وجل - من تنزيله للكتاب من عنده، كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] وكقوله {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] ، وكقوله {تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، وكقوله سبحانه {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193] ، ونحو ذلك من الآيات. وهذه كلها ذكرها ابن القيم تحفظونها لأنها نافعة في الحجاج ومجادلة من ينكرون علو الله - عز وجل -. والأنواع كثيرة يمكن أن تطلبوها، وفيها أقوى دلالة وأوضح برهان على أنَّ الله سبحانه هو العالي فوق خلقه بذاته - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 [المسألة الثالثة] : دلالة السنة على فوقية الله - عز وجل - أيضاً جاءت الأدلة فيها كثيرة جداً. كقوله صلى الله عليه وسلم «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» (1) ، وكقوله «والعرش فوق سمواته والله فوق ذلك» في الحديث الذي مرَّ معنا البحث فيه وأنَّ أهل السنة يستدلون منه بهذا القَدْرْ لثبوته في أدلةٍ أخرى. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يشير إلى السماء ثم ينكث بإصبعه الأرض «اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد» (2) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الجارية لما سألها «أين الله؟» قالت: في السماء. قال صلى الله عليه وسلم لسيدها «أعتقها فإنها مؤمنة» (3) ، والأدلة على علو الله - عز وجل - في السنة كثيرة.   (1) مسلم (7064) / أبو داود (5051) / الترمذي (3400) / ابن ماجه (3831) (2) البخاري (1739) (3) مسلم (1227) / أبو داود (930) / النسائي (1218) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 [المسألة الرابعة] : وهي في الدِّلالة العقلية، دلالة العقل على علو الله - عز وجل - بذاته على خلقه. ودلالة العقل متنوعة وكثيرة؛ لكن نكتفي منها بدليل عقلي واحد، وهو أنّ الله - عز وجل - موجود سبحانه وتعالى بالاتّفاق، يعني كل من أثبت الله - عز وجل - أثبت وجوده، حتى جهم الذي ينفي جميع الصفات يثبت وجود الله - عز وجل -. فنقول لجميع هذه الفئات أنّ الوجود قَدْرٌ مشترك، فالله - عز وجل - موجود، وخلق الله - عز وجل - أيضا موجودون. وهذان الوجودان إما أن يتمايزا وإما أن يتداخلا. فإن تداخلا -يعني صار أحدهما داخل الآخر-: إما أن يكون الخَلْقْ محيطون والله - عز وجل - في داخل خلقه وإما أن يكون الخَلْقْ في داخل الله - عز وجل -. خَلْقْ الله - عز وجل - والكائنات منها أشياء مستقبحة (1) ومستقذرة وقبيحة مثل النجاسات ومثل القاذورات ومثل الأشياء التي لا يُصَرَّحُ بها ونحو ذلك استقذاراً واستهجانا وبعض المخلوقات السيئة ونحو ذلك، وهذه لا أحد - من جميع من يبحث هذه المسائل- يقول بجواز أن تكون في داخل الله - عز وجل -. فإذاً تَحَصَّلَ الأمر إلى أنَّه يتعَيَّنْ أن يكون الله - عز وجل - عالياً على خلقه لأنَّ الإختلاط يقتضي هذا المعنى العقلي الفاسد، وكون الله - عز وجل - في داخل خلقه هذا فيه نَقص لله - عز وجل -. وهذا برهان عقلي صحيح، وذلك لأنه مبني على مقدمتين وهاتان المقدمتان إثباتهما مُشْتَرَكْ بين جميع الجهات: - المقدمة الأولى: وجود الله - عز وجل -. - المقدمة الثانية: تنزه الله - عز وجل - عن أن يكون في داخله شيء مما يُسْتَقْبَحْ أو يُسْتَقْذَرْ.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الواحد والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [المسألة الخامسة] : وهي في الدليل الفطري، والدليل الفطري لعلو الله - عز وجل - هو أنّه كل أحد يحس من فطرته سواء عَلِمَ الدين أو لم يعلم الدين، عُلِّمْ أو لم يُعلَّم أنَّ قلبه عند الحاجة وعند الرّغَبْ إلى لله - عز وجل - وعند اقتطاع الأسباب وبقاء لطف الله - عز وجل - أنه يتجه القلب إلى العلو، وهذا شيء فطري مغروس في الإنسان. ولهذا ذَكَرَ شارح الطحاوية وقد نقله أيضاً غيره قصة الزاهد الأثري الهمذاني مع أبي المعالي الجويني الذي يُلَقَّبْ بإمام الحرمين، حيث ذكر إمام الحرمين في درسه نَفْيَ علو الله - عز وجل - على خلقه -علو الذات-؛ وأنَّ المراد بذلك علو القهر وعلو القدر. فقال له الشيخ الهمذاني: يا أستاذ -وكلمة أستاذ في الزمن الأول تطلق على من أجاد فناً من الفنون، وأما كلمة الشيخ فتطلق على من له مكانة وديانة وورع وخوف من الله - عز وجل --، فقال له: يا أستاذ -لإجادته فن الكلام- أخبرني عن هذه الضرورة التي أجدها في نفسي وهي أني أطلب العلو إذا احتجت إلى الله - عز وجل -. فقال أبو المعالي: حيرني الهمذاني، حَيَّرَنِي الهمذاني. لأنَّ قوله بنفي العلو لله - عز وجل - هذا منافٍ للفطرة، فلما استدل عليه بالفطرة قال حيرني الهمذاني. وقد ذكر بعض من صَنَّفَ في الرحلات كما ذكرته لكم في هذه الدروس، ذكَرُوا أنَّ وَفْداً من الخليفة العباسي ذَهَبَ إلى روسيا يعني إلى بلاد الترك التي هي روسيا الآن، وقالوا: وجدنا أناساً لا يعبدون الله - عز وجل - وليس عندهم رسالة يريدون أن يشرحوا لهم الإسلام، قالوا: ولكنا وجدناهم أنهم إذا أصابتهم شدة وعواتي إما من المطر ونحوه ومن قحط ونحو ذلك خرجوا إلى الفلاة ورفعوا أيديهم إلى السماء ونظروا إلى السماء يهمهمون، كأنهم يطلبون الفرج مِمَنْ هو في السماء، وهذا أمر مركوز في الفطرة كما ذكرنا لك. إذاً دليل علو الله - عز وجل - وفوقية الرب سبحانه وتعالى دليل من القرآن والسنة ومن العقل ومن الفطرة. نكتفي بهذا القدر، ونكمل إن شاء الله تعالى ما يتصل بهذا البحث في الأسبوع القادم بإذنه تعالى. نجيب عن بعض الأسئلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الأسئلة : س1/ ذكرتم كثرة الأدلة على ثبوت علو الله - عز وجل - بذاته ومع ذلك فأكثر الفِرَقْ تُنكرهُ وتصرفه إلى المعاني الأخرى، فما سبب ذلك؟ ج/ سببه أنَّ إثبات علو الذات عندهم يقتضي إثبات الجهة؛ أن يكون الله - عز وجل - في جهة، وإثبات الجهة يقتضي التحيز، والتحيز ممتنع عندهم عقلاً لأنه من صفات الأجسام، فمنعوا العلو لأجل ذلك، يعني هذه شبهتهم. س2/ ذكر بعض العلماء في مقدمة قول: الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار يبسط كفه بالأسحار. فهل العبارة الأخيرة صحيحة؟ ج/ هذه أخَذَهَا من الحديث الصحيح الذي في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» (1) ، العبارة صحيحة؛ لأنَّ السَحَرْ بعض الليل. س3/ آية الأنبياء {الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206] ، فهل هذه العندية عندية ذات أم عندية القهر؟ ج/ العندية عندية ذات، العندية لا تنقسم، العندية عندية ذات يعني عند الله - عز وجل - فوق سماواته هذا معناه. قوله تعالى في سورة الأنبياء {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] ، ليست {الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أو فالذين عند ربك {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20] ،. والآية الآخرى {وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:205-206] . س4/ ما معنى (ذات) في قولنا: ذات الله سبحانه؟ ج/ الذات في اللغة تأنيثه، يقال: هذا الشيء ذو صفات وهذه ذات صفات. هذا في الأصل ولا تطلق إلا مضافة ما تطلق الذات مستقلة إنما تطلق مضافة، وقد جاءت في قول الصحابي رضي الله عنه في شعره المشهور قال: وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزّع (2) استعمال كلمة ذات مضافة لله - عز وجل - موجود وقد قال سبحانه {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} [الأنفال:1] ، استُعْمِلَتْ بعد ذلك الذّات ويُعْنَى بها ما يقابل الصفات فقُسِمَ الشيء إلى صفة وإلى ذات، ذات وصفات، لِم قُسِمْ هذا التقسيم؟ لأنَّ الصفة تضاف إلى الموصوف، فكأنه قال القائل: الذات يعني الشيء الذي هو ذو الصفات، فالذات المتصفة بالصفات، فقَسَمُوهَا لأجل أَنَّ الذات كأنه نعتها بقوله الذات الموصوفة بالصفات، فيكون تتمة الكلام محذوف. ثم اسْتُعْمِلْ يعني كلمة الذات هكذا بالتعريف، استعملت بدون إضافة ولا تنكير، معرفة الذات، استعملت استعمالاً واسعاً في كلام أهل العقائد. فإذاً نقول: الذات يُعنى بها الذات الموصوفة بالصفات؛ يعني ما يُضَافُ إليه الوصف ويتّصف به، طبعاً ربنا - جل جلاله - وتقدست أسماؤه لا نضيف إليه من شيء إلا إذا ثبت به الدليل بالكتاب أو السنة، وما يُتَوَسَعُ في الكلام في بيان العقيدة من الألفاظ أو التعابير الأَوْلى بل الذي ينبغي ويتأكد على طالب العلم أن يستعمل تعابير السلف لأنها أبعد عن الخطأ في التعبير. لهذا يمرِّن طالب العلم نفسه على أن يعبر في هذه المسائل، مسائل التوحيد والعقيدة بتعابير السلف لأنهم أعلم وأحكم في هذه المسائل. س5/ أين ذكر هذه الأدلة ابن القيم؟ ج/ ذكرها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية غزو المعطلة والجهمية وفي النونية وفي غيرها، ذكرها شارح الطحاوية عندك. س6/ ما هو ضابط الإسم والصفة فيما ورد في الكتاب والسنة مثلا {وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131] هل يقال الغنى هنا صفة أم اسم؟ وهل المحسن من أسماء الله - عز وجل -؟ ج/ الجواب (كان غنياً) هذا وصفه بالغنى، لكن {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، هذا اسم، وإذا أُطلق الإسم فإنه يقتضي الاسم والصفة لأنَّ أسماء الله - عز وجل - مشتملة على الصفات، وأما إذا جاءت الصفة فإنه لا يستقل ورود الصفة بإثبات الاسم؛ بل قد تَرِدْ الصفة ولا نثبت لله - عز وجل - الاسم الذي فيه الصفة، وهذه فيها يعني بحث أطول في وقته إن شاء الله. المحسن من أسماء الله - عز وجل -؛ لأنه جاء في الحديث «إن الله محسن» (3) ومن أسماء العلماء من القديم عبد المحسن وشيخ الإسلام وابن تيمية وابن القيم وعلماء الدعوة أيضا إذا ذكروا أسماء الله - عز وجل - عدوا فيها المحسن. والمحسن صفة كمال والمحسن اسم متضمن لصفة كمال لا نَقص فيها بوجه من الوجوه. س7/ قلتم من معاني العلو العندية، هل هذا المعنى لغوي أم شرعي؟ ج/ لا، العلو معانيه نقول: علو ذات علو قهر علو قدر، علو ذات علو صفات ونحو ذلك. لكن العندية يعني فيما جاء من الأدلة فيه ذكر {عِنْدَ رَبِّكَ} ، {عِنْدَ الله} فهذه دليل لعلو الله - عز وجل - ونوع من أنواع الأدلة في الكتاب والسنة فلا نقول أنَّ معنى العلو الندية لا، نقول إنه قد تأتي (عند) ويراد بها العلو. وكما في قوله في الآيات التي ذكرنا لك {الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206] ، ونحو ذلك. س8/ ما حكم قول القائل: مادة القرآن في وقت كذا؟ ج/ الجواب أنّ القرآن كلام الله - عز وجل -، صفة من صفاته، تعظيمه واجب لأنه أعظم شعائر الله - عز وجل - التي أشعر عباده بتعظيمها وإجلالها وقد قال - عز وجل - في سورة الحج {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، فتعظيم شعائر الله واجب، تعظيم حرمات الله - عز وجل - واجب، والقرآن لا يُسَاوَى بغيره ولا يُجْعَلْ كغيره، فتُجْعَلْ مادة من المواد كغيره، فتعظيم القرآن يقضي بأن لا يُجعل في تسميته كغيره من المواد، يقال: مادة جغرافيا، مادة إنجليزي، ومادة قرآن. هذا فيه عدم تعظيم والله - عز وجل - أمرنا بتعظيم كتابه، ثم القرآن كلام الله وكلام الله - عز وجل - ليس بمادة؛ لأنَّ المادة قد تطلق ويراد بها المادة المخلوقة، أو يراد بالمادة المخلوق والقرآن كلام الله - عز وجل - صفة من صفاته ليس بمخلوق. نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله - عز وجل - لكم التوفيق والسداد والعلم والعمل، وأن يجمعنا على المحبة فيه وعلى طاعته وعلى نصرة دينه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) مسلم (7165) (2) البخاري (3045) ، حين أُسِرَ خبيب بن عدي رضي الله عنه وقُدِّمَ للقتل، أنشد: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ****** على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ****** يبارك على أو صال شلوٍ ممزع (3) مصنف عبد الرزاق (8603) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ى شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: نجيب على بعض الأسئلة لمَّا يجتمع الإخوة. الأسئلة: س1/ هل يُفْهَمُ من قوله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، أنَّ المؤمنين في الجنة إذا تجلَّى لهم الرب سبحانه وتعالى أنهم لا يرون جميع ذات الرب سبحانه وتعالى؟ ج/ أولاً تعلمون أنَّ الأصل في عقيدة السلف هو اتباع القرآن والسنة هو عدم تجاوز القرآن والحديث، وأنَّ الكلام في الصفات والكلام في تقرير العقائد بتفصيل إنما جاء بعد فُشُو البدع وكثرة كلام الضّالين من الفرق في ذلك، فتَوَسَّعَ من تَوَسَّعَ من أئمة السلف لأجل أنَّ المخالف توسّع والحق يُقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. فالأصل أنَّ المسلم السُنِّي المتبع لطريقة السلف الرّاغب في الاعتقاد الحق أن لا يُشْغِلَ نفسه بتفاصيل أسئلة في الصفات ليست على ظاهر الأدلة التي وقفنا عليها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو ما جاء في القرآن من آياته العظام. لهذا لا ينبغي تفصيلات الكلام في الصفات؛ بل قد يدخل ذلك في الكلام المذموم إذا كان ليس ثَمَّ حاجة في تفصيل الكلام في الرد على أهل البدع أو تقرير عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة. لهذا نقول: ظاهر قوله الله - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} أنَّ الله - عز وجل - لا تحيط به الأبصار، وأنه وإن رآه من شاء الله - عز وجل - من عباده وشرَّفَهْ بأن يرى الرب - جل جلاله - فإنه يراه رؤية وليست بإحاطة. لذلك ظاهر الآية أنَّ الإحاطة بالرب - عز وجل - ممتنعة، سواء أكان ذلك في عرصات القيامة أم كان ذلك بعد دخول أهل الجنة الجنة جعلني الله وإياكم منهم. س2/ معلوم أنَّ الإمام أحمد رحمه الله قال في مذهب المفوضة إنه من شر المذاهب، ومع ذلك وُجِدَ في كتب أصحاب مذهبه بعض التفويض كما في كتاب المرداوي في شرح لامية شيخ الإسلام وفي لمعة الاعتقاد، فهل هناك فرق بين ما يقصد الإمام أحمد وما وقع فيه بعض أتباعه أم لا؟ نرجو بسط القول في ذلك. ج/ مذهب المفوضة مذهبٌ كبير، والذين قالوا بالتفويض كثرة جداً وليسوا بالقليل سواء من المتقدمين يعني في عهد الإمام أحمد وما قبل إلى زماننا هذا. ثَمَّ رسالة طُبِعَتْ مؤخرا بعنوان التفويض فيها تفصيل الكلام على المذهب بما لا يمكن أن يقال في هذا الموضع ما يستحقه المقام وتستحقه المسألة. لكن الذي ينبغي أن تعلمه أن التفويض قسمان: - تفويض للكيفية. - وتفويض للمعنى. والذي ورد عن السلف فيمن قال منهم إنهم يفوضون، أو نفوض هذا، أو نَكِلُ علمه إلى قائله، أو نحو ذلك مما يفهم منه التفويض، فيراد به تفويض الكيفية؛ لأنَّ الكيفية من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله - عز وجل - كما قال سبحانه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} [الأعراف:53] ، إلى آخر الآية في الأعراف، وكذلك قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [آل عمران:7] ، عند الوقف على لفظ الجلالة يدخل في التأويل ما تؤول إليه حقائق الأخبار، ومنها العلم بالكيفيات. فلا شك أنَّ أحداً لا يعلم كيفية اتصاف الرب - عز وجل - بصفاته، ولا كيفية الغيبيات على حقيقتها التي خَلَقَهَا الله - عز وجل - عليها؛ لأنَّ هذا من علم الغيب الذي اختَصَّ الله - عز وجل - به نفسه العلية - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. فهذا النوع الأول تفويض الكيفية وهذا نؤمن به، فنُفَوِّضْ كيفية الأمور الغيبية ومن ذلك صفات الرب - عز وجل - ونعوت جلاله ومعاني أسمائه، وما يتصل بذلك من أمور الغيب نفوض كيفيتها إلى ربنا - عز وجل -. والقسم الثاني من التفويض تفويض المعنى؛ يعني يقول أنا أُفَوِّضْ العلم بالمعنى، أفوض المعنى، لا أدري ما معنى (الرحمن الرحيم) ، لا أدري ما معنى الرحمن، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشْ} لا أعلم معنى استوى، أُفَوِّضْ معناها إلى الله، فالاستواء ربما يكون معناه القهر، ربما يكون معناه العلو، ربما يكون معناه الرحمة، ربما يكون معناه أي معنى، فيُفَوِّضُونَ المعنى. فيقولون: لا نعلم معاني الغيبيات ولا أحد يعلمها. ولهذا ذَهَبَ إلى هذا المذهب قلة -يعني تفويض المعنى- قلة من المتقدمين يعني في القرن الثاني والثالث، وشاع عند طائفة من المتأخرين بسبب أنه قول للأشاعرة، وقد نَظَمُوهُ في عقائدهم بقول القائل في جوهرة التوحيد: وكلُّ نصٍ أَوْهَمَ التشبيها أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيها فمذهب الأشاعرة له في الصفات قولان: الأول: وهو الراجح عندهم والأقوى أن تُؤَوَلْ الصفات التي تتعارض مع الصفات السبع التي أثبتوها وتتعارض مع العقل. والثاني وهو صحيح عندهم؛ لكنه ليس بقول أهل العلم والحكمة هو تفويض المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهذا التفويض -تفويض المعنى- حيث يقول لا نعلم معنى الصفات، هذا موجود عند الأشاعرة من بعد أبي الحسن الأشعري إلى وقتنا الحاضر، وهو أيضا الذي راج على جملة من الحنابلة في كتبهم. حيث ظنّوا أنّ ذمَّ الإمام أحمد لمن فوّض أنه تفويض الإثبات في أصله. يعني يقول لا ندري نثبت أو لا، لا ندري الصفة موجودة أو ليست بموجودة أو نفي الصفة من أصلها، وفهموا أيضاً من قول الإمام أحمد وقول الشافعي ونحو ذلك (لا كيف ولا معنى) -يعني في الصفات- مثل ما ساقها صاحب لمعة الإعتقاد، فهموا منه أنَّهُ التفويض، وفهموا أيضاً من قول الشافعي (نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه التفويض. هذا التفويض في الحقيقة تفويض المعنى هو الذي قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال فيه غيره أيضا (إن التفويض هو شر المذاهب) وذلك لأنّ تفويض المعنى يرجع إلى عدم العلم به، ولهذا صنفهم ابن تيمية في أول درء التعارض: إلى أنَّ من فوّض فهو من أهل التجهيل، يعني الذين يقولون إنه لا يوجد أحد يعلم معنى الصفات، ما يوجد أحد، الصحابة يعلمون؟ لا، هذه المعاني مجهولة حتى إن بعضهم يقول حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم هذه المعاني، إنما هو إثبات ألفاظ دون معاني لها، فنفوض المعنى لأنه لا معنى معقول من هذه الصفات. ولاشك أنَّ مذهب المفوضة هو شر المذاهب؛ لأنه يقتضي تجهيل الصحابة رَضِيَ اللهُ عنْهُم بل يقتضي أنَّ في القرآن كلاماً وآيات كثيرة لا أحد يعلم معناها، ومعلوم أنَّ أكثر القرآن في الغيبيات ولذلك جاء أول آية في القرآن في امتداح الذين يؤمنون بالغيب يعني في سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-2] ، والإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بالكيفيات والله - عز وجل - أعلم بها، والإيمان بمعاني ما دلنا ربنا - عز وجل - به على الغيب، نؤمن بها على ظاهرها؛ يعني على ما دلت عليه لغة العرب. نعم معلوم أنَّ المعاني في الشيء الواحد تتفاوت، فمثلاً إذا أخذت السمع، إذا أخذت البصر، إذا أخذت القوة، خذ القوة مثلا والقدرة، الكائن الضعيف، النملة لها قوة ولها قدرة ولها نطق ولها سمع ولها بصر، فأصل القوة موجود فيها؛ يعني معنى القوة موجود فيها، ما هو أعلى منها في الخِلْقة من جهة مثلاً الهرة موجود عندها قوة، لاشك موجود عندها، بصر موجود عندها سمع، موجود عندها قدرة على أشياء، خذ الأعلى منها الأعلى إلى أن تصل إلى الإنسان إلى أن تصل من الحيونات إلى ما هو من جهة القوة والقدرة أقوى من الإنسان يعني بذاته يعني من جهة الحوانات المفترسة كالأسد ونحو ذلك. إذاً القوة قدر مشترك، القدرة قدر مشترك؛ لكن نقول إنه مادام أنها في النملة مختلفة عن الإنسان، نقول: لا فالإنسان ماله قوة لأنَّ قوة النملة هذه، هذا تحديد للصفة ببعض أفردها، ببعض من يتصف بها وهذا جناية على المعنى الكلي؛ لأنَّ اللغة العربية كليات، فيها كليات المعاني، أما الذي يوجد في الخارج فيه الذوات نعم نقول جدار جبل يد أشياء هذه تتصورها؛ لكن من جهة المعاني، المعاني تتصور هذا المعنى بالإضافة إلى من اتصف به. ولهذا شيخ الإسلام انتبه لقوة هذا المعنى في الرد في المبتدعة الصفاتية والجهمية وغيرهم، فقرَّرَهُ في كتابه التدمرية كما تعلمون. إذاً فتفويض المعنى، المعنى أصلاً متفاوت فإذا فوضنا المعنى معناه أننا لا نعلم أي قدر من المعنى، وهذا لاشك أنه نفي وجهالة بجميع دلالات النصوص على الأمور الغيبية، وهذا باطل؛ لأنَّ القرآن حجة، وجعله الله - عز وجل - دالاً على ما يجب له - عز وجل - وما يتّصف به ربنا سبحانه وتعالى من نعوت الجلال والجمال والكمال. التفويض يحتاج إلى مزيد بسط؛ لكن يمكن أن ترجعوا إليه في مظانه، وكثير من العلماء فهم وظنْ أنَّ مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والسلف هو التفويض، حتى إنهم ينقلون كلام شيخ الإسلام ويحملونه على الفويض مثل السَفَّارِيني ومثل مرعي بن يوسف في أقاويل الثقات، وجماعة من المتأخرين ينقلون كلام شيخ الإسلام وفهموا أنَّ مذهب الإمام أحمد ومذهب شيخ الإسلام ومذهب السلف الذي هو أسلم أنه التفويض، وهذا ليس بصحيح، إذا كان المقصود تفويض المعنى بحيث إنه لا نعلم معنى استوى، لا نعلم معنى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، إيش معنى العلي؟ نقول لا نعلم معناها؟؟ لا نعرف العلو، ما نعرف هنا العلي، قد يكون بمعنى الرحيم، قد يكون بمعنى القدير، فهذا تجهيل وجهالة؛ بل ربما آل إلى الطعن في القرآن.. س3/ ما الفرق بين الهداية والتوفيق عند أهل السنة وهل بينهما عموم وخصوص بيّنوا لنا ذلك؟ ج/ الهداية لفظ يشمل الدلالة على ما فيه أو ما الحاجة إليه، أنت محتاج إلى طريق تحتاج إلى من يهديك الطريق، تحتاج في مسألة إلى إيضاح، تحتاج من يهديك في هذه المسألة، فأصل الهداية الدلالة، فيها دلالة وإيضاح. في القرآن العظيم جاءت الهداية في مواضع كثيرة، وقسَّمَهَا أهل العلم إلى أربعة أقسام، يعني على ما جاء في القرآن: (1) : [[الشريط الثاني والعشرون]] : 1 - النوع الأول: الهداية الغريزية (2) وهي هداية المخلوق إلى ما فيه بقاء حياته وحُسْنِ معاشه، والدليل على هذه المرتبة قوله - عز وجل - {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ، يعني هَدَاهُ إلى ما فيه مصلحته في دنياه، إلى آخر ذلك. فالله - عز وجل - هَدَى الرضيع كيف يلتقم الثدي ويحتاج إليه، وهَدَى الطائر لمصلحته، وهدى الحيوان لمصلحته، إلى آخر ذلك. 2 - النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد؛ دلالة وإرشاد من آخر لما فيه مصلحة العبد في دنياه أو في آخرته أو فيهما معاً، وهذه هي الأكثر في القرآن، الهداية بهذا المعنى، وهي هداية الدّلالة والإرشاد، وهي التي جاءت في مثل قوله - عز وجل - {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] ، يعني دالْ يدلّهم على الطريق. 3 - النوع الثالث: هداية التوفيق وهي أخصُّ من التي قبلها، وهذه خاصة بالله - عز وجل -، وهو الذي يُوَفِّقْ ويُلْهِم، فالرسل هُدَاة بمعنى أنهم يَدُلُّونَ ويُرْشِدُون؛ لكن هداية التوفيق هذه من الله - جل جلاله - {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] ، هذا حصر التوفيق من الله - عز وجل - دون ما سواه، لهذا نفاها ربنا - عز وجل - عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، فنَفَى عنه الهداية في هذه الآية وجعلها لله - عز وجل - مع إثباتها لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله - عز وجل - {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:52-53] . فالنبي صلى الله عليه وسلم يَهْدِي ولا يَهْدِي. يَهْدِي بمعنى أنه يَدُلُّ ويُرْشِدْ ويُعَلِّمْ إلى آخر هذه المعاني، ولا يَهْدِي بمعنى هداية التوفيق لا يُوَفِّقْ بل الذي يُوَفِّقْ ويُعِين العبد ويَصْرِفْ عنه السوء، ويُعِينُهُ على الطاعة ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي -بمعنى حتى يستقيم على أمر الله-، هذا رب العالمين - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. 4- النوع الرابع: الهداية التي جاءت في سورة محمد وهي هداية أهل النار للنار وهداية أهل الجنة للجنة، فهداية أهل الجنة للجنة في قوله - جل جلاله - {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4-5] ، هذه الهداية وقَعَتْ بعد القتل، وما بعد القتل الهداية إلى أيّ شيء؟ هداية إلى الجنة، لهذا قال بعدها {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5-6] ، قال العلماء: يهديهم يعني إلى صراط وإلى طريق الجنة، وهداية أهل النار إلى النار كقوله في سورة الصافات {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:23-24] . إذاً تَبَيَّنَ من هذا أنَّ التوفيق مرتبة من مراتب الهداية، والذّي يتصل بالإيمان بالقضاء والقدر وفعل العبد من هذه المراتب المرتبتان الثانية والثالثة -هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق والإلهام-، ولذلك شاع عند العلماء أن الهداية قسمان: - هداية دلالة وإرشاد. - وهداية توفيق وإلهام. لأنَّ هذين النوعين هما اللذان نحتاج إليها في أعظم المسائل المتعلقة بالهداية وهي مسألة القضاء والقدر والهداية والضلال، أما الهداية العامة، وهداية أهل الجنة للجنة وهداية أهل النار للنار هذه مُتَفَقْ عليها معلومة عند الجميع.   (1) انتهى الشريط الواحد والعشرون (2) الظاهر أنه سماها هنا الهداية العامة، وقد ذكر الشيخ صالح عند شريطيه (أفمن كان على بينة من ربه) : أنَّ في القرآن أربع أنواع من الهداية أولها الهداية الغريزية، ذكر ذلك بتفصيل يحسن الرجوع إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 [المسألة السادسة] : هي أنَّ نفاة العلو لربنا - عز وجل - يُعْنَى بهم من ينفي علو الذات لربنا سبحانه وتعالى. أما علو القَهْرْ والقَدْرْ فهذا يُثْبِتُهُ الجميع، فإذا قيل نفاة العلو فيُعْنَى بهم من ينفي علو الذات لله - عز وجل -. والذين نَفَوا علو الذات لربنا - عز وجل - خالفوا الأدلة التي ذكرناها لكم من الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وأيضاً احتجوا هم بأدلةٍ عقلية لنفي علو الله - عز وجل -، تعالى الله عن قولهم. والدليل العقلي الذي من أجله نفوا صفة العلو لله سبحانه وتعالى قالوا: إنَّ عُلُوَّ الذات يعني أنَّ الله - عز وجل - عالٍ على خلقه بذاته هذا يقتضي أن يكون في جهة؛ لأنَّ العلو أحد الجهات الست، والجهات الست هي أمام خلف يمين شمال تحت وفوق، فإثبات الفوقية وإثبات العلو يقتضي أن يكون الرحمن - عز وجل - في جهة من الجهات، وإثبات الجهة -على أصلهم- يقتضي أنه جسم. طيب إذا كان جسماً عندكم، بحسب تأويلكم، هل هذه النهاية؟ قالوا: لا، إذا كان جسماً، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أننا نبطل الدليل الذي أثبتنا به وجود الرب - جل جلاله -. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أنَّ الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم أثبتوا وجود الرب - جل جلاله - عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، وقالوا: إنَّ جعل الجسم مُحْدَثَاً له مُحْدِثْ إنَّمَا تَبَيَّنَاه بأنْ أثبتنا أنَّهُ جسم، وكيف أثبتنا أنّه جسم؟ قالوا بحلول الأعراض فيه. حلول الأعراض فيه إيش معناها؟ معناها أنَّ هذا الجسم يتصف بصفات لا تُرَى، يحل فيه أشياء تُغَيِّرُهُ وتُسَمَّى الأعراض، تَعرِضُ له وتزول عنه، فمثلاً البرودة هذا عَرَضْ على حد كلامهم، والحرارة عَرَضْ، أيضاً الانتقال عَرَضْ، التقدم والتأخر عَرَضْ، الانخفاض عَرَضْ، العلو عَرَضْ. فهذه الصفات يجعلونها أعراض. وهذه الأعراض إنما تقوم بالأجسام. فلمَّا كان الجسم لا يقوم بنفسه، يحتاج إلى أعراض حتى تُمَيِّزَهْ وحتى يكون فاعلاً، استدللنا على أنّه يُفْعَلُ به لأنه هُوَ لم يجلب الأعراض بنفسه في الجسم، وإنّما جُلِبَتْ إليه فمعناه أنه محتاج فقير يُفعَلُ به. فإذاً ثَمَّ فاعل وثَمَّ مُحْدِثْ إلى آخره. فاستقام لهم بهذا أنَّ جميع الأجسام الموجودة ثَبَتَتْ جِسْمِيَّتُهَا بحلول الأعراض فيها، وما دام أنّه حلّت الأعراض فيها فثَمَّ من أَحَلَّ الأعراض فيها وأوجد الأعراض فيها والتي منها العلو والنزول والتقدم والتأخّر والمشي والهرولة والأخذ والرّد إلى آخره. فلهذا جعلوا هذا قاعدة -تنتبه لها- فيما نفوا من الصفات. يقولون الدليل العقلي يُبطل الإتصاف بهذه الصفة، أي دليل عقلي؟ هو الدليل العقلي الذي هو حلول الأعراض في الأجسام الذي به أثبتوا أنّ الله - عز وجل - موجود. فإذاً قالوا: لو أثبتنا العلو، لو أثبتنا أنَّ الله عالٍ بذاته - عز وجل -، لعَادَ هذا الإثبات على دليلنا بالإبطال؛ لأننا أثبتنا حدوث الأجسام بالأعراض. طيب هذا عَرَضْ وهذه صفة تدل على أنه في جهة، وإذا صار في جهة معناه أنَّهُ متحيّز، وإذا صار متحيز معناه أنَّهُ جسم، إذا صار علو أيضاً عَرَضْ حلَّ في جسم، إذا صار جسماً معناه أنَّ ثمة شيء فَعَلَ به، فهذا إبطال للربوبية وتوحُّد الله - عز وجل - في الخلق. ولهذا نفوا كل صفة من الصفات تكون من الأعراض أو تكون من الحوادث. ولهذا يتَّسِمْ الصفاتية عموماً؛ بل وجَهْم قبلهم وهو الذي أنشأ هذا البرهان الباطل يَتَّسِمونْ بهذه السمة وهي أنهم يقولون الدليل العقلي يمنع الاتصاف بهذه الصفة، ويعنون به الدليل العقلي على إثبات وجود الله - عز وجل -. وهذه الجملة اليسيرة فصَّلتها لكم أظن في أحد الشروح أظن في شرح الواسطية بتفصيل، وهي سبب ونشأة القول بنفي الصفات، كيف ظهر القول بنفي الصفات؟ لماذا اختلفت الأمة؟ وما هو منشأ الضلال فيها؟ وكيف تَفَرَّعَتْ؟ ذكرناها لكم أظن في دروس الواسطية أو في غيرها (1) . إذاً فالشّبهة التي من أجلها نفوا العلو، هي أنَّ العلو جهة، وكون الرحمن في جهة معناها أنَّهُ مُتَحَيِّز، فإذا كان مُتَحَيِّزاً فمعناه أنه جسم إلى آخره. وهذه كلها ناشئة من اعتقادهم صحة الدليل الأول. والدليل الأول الذي هو إثبات وجود الرب - عز وجل - عن طريق حلول الأعراض في الأجسام لا نُسَلِّمُهُ، نقول هذا دليل أصلاً باطل ودليل غير صحيح ولا يستقيم لإثبات وجود الرب - عز وجل -. بل أعظم إثبات لوجود الرب - عز وجل - هو الدليل القرآني وهو قول الرب - عز وجل - في كتابه {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] ، ليس ثَمَّ إلا احتمالين: - إما أن تكون خالقا أو مخلوقا. والسموات والأرض: - إما أن تكون خالقة أو مخلوقة. تكون خالقة هذا ممتنع لأدلة كثيرة، فلابد أن تكون مخلوقة.   (1) راجع شرح العقيدة الواسطية الشريط الثامن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 كذلك الشجر، كذلك النبات، كذلك المياه، كذلك أجزاء بدنك، كذلك كل تنظيم تراه ثَمَّ احتمالين: - إما أن يكون خالق. - وإما أن يكون مخلوقاً. والأدلة على إثبات وجود الله - عز وجل - وأنه سبحانه المتفرّد بتصريف الملك أكثر من أن تُحْصَرْ وفطرة الإنسان تأبى أن يقول بغير ذلك. المقصود هذه شُبْهَةْ من نَفَى العلو، ولهذا نقول لهم أَنَّهُم بنوا بنيانهم هذا على شفا جُرُفٍ هار، بَنَوهُ على قاعدة باطلة وعلى مقدمة باطلة، فيُرَدُّ عليهم بإبطال مقدمتهم. يعني هذا من جملة أدلتهم العقلية، ثَمَّ أدلة متنوعة من يريد المزيد يرجع لها في المطولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [المسألة السابعة] : ثَمَّ كلمة عند المتكلمين وطائفة من نُفَاة العلو وهي أنهم يقولون: إنَّ السّماء قبلة الدعاء. إذا قال لهم قائل: فطرة الإنسان أنَّهُ إذا أراد أن يدعو اتَّجَهَ إلى السماء. قالوا: هذا لأنَّ السماء قبلة الدعاء. وهذه الكلمة ربما ردَّدَها بعض المنتسبين إلى السنة قالوا: إنَّ السماء قبلة الدعاء. وهذا باطل، الكلمة هذه باطلة، فالسماء ليست قبلة الدعاء، فأعظم الدعاء الصلاة، والصلاة سُمِّيَتْ صلاةً لما فيها من دعاء العبادة ودعاء المسألة، ومع ذلك جُعِلَت قبلة الصلاة إلى بيت الله - عز وجل - الحرام، فقبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، وهي قبلة الميّت التي يُوَجَّهُ إليها عند احتضاره ويُوَجَّهُ إليها عند دفنه، وهي مكة أو الكعبة التي شرّفها الله - عز وجل -. فإذاً لا يصح قول من يقول: إنَّ السماء قبلة الدعاء، بل المشروع للدَّاعِي أنَّهُ إذا أراد أن يدعو أن يتوجه إلى القبلة، هذا أكمل حالات الدعاء، إذا دعا يتوجه إلى القبلة، ثُمَّ إذا رفع يديه فإنه يرفعها ويتجه ببصره وقلبه إلى القبلة، يتجه بوجهه وببصره إلى القبلة، قد يرفع وجهه إلى السماء، مثل ما حصل فالنّبي صلى الله عليه وسلم في بدر رفع يديه شديداً حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فقال له أبو بكر (يا رسول الله مهلاً بعض مناشدتك ربك فإنه منجزٌ لك ما وعدك) (1) . ورَفْعُ وَجْهِهِ هذا لأجل الإلحاح في طلب الفرج من الله - عز وجل -، وليس لأجل أنَّ السّماء قبلة لأنَّ أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع فيه وجهه إلى السماء؛ بل في الصلاة وهي دعاء نهى فيها نبينا صلى الله عليه وسلم عن رفع البصر إلى السماء.   (1) مسلم (4687) / الترمذي (3081) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 [المسألة الثامنة] : في قول الطحاوي رحمه الله (وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) الإحاطة المقصود بها: إحاطة الخلق بالله - عز وجل -. فالخلق لا يحيطون بالله - عز وجل - لا بذاته ولا بصفاته. والإحاطة لا تعني عدم العلم بالشيء وإنما تعني العلم الكُلِّي به أو الإحاطة به من جميع جهاته سواء كان من الصفات أم من غيرها فالله - عز وجل - أعظم وأجلّ أن يحيط به أحد من خلقه سبحانه وتعالى لا في ذاته ولا في صفاته؛ بل هو الذي يحيط بكل شيء سبحانه ولا يحيط به شيء، بل (أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) يعني في قوله سبحانه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، ونحو ذلك من الأدلة. الإحاطة ذكرنا لكم معناها -أظن في أول الكلام. وحاصل المعنى أنَّ الإحاطة -يعني في اللغة- هي إدراك الشيء من جميع جهاته. وقد يكون هذا الشيء معنىً وقد يكون ذاتاً. فالله سبحانه وتعالى ذكر أنّ عباده لا يحيطون به علماً وهذا لكمال صفاته سبحانه وتعالى وعجز البشر عن أن يدركوا تمام صفاته. ومن جهة اللغة إحاطة الذات كما في قوله - عز وجل - {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] ، يعني صار من جميع الجهات. فإدراك الشيء من جميع جهاته المعنوية أو الذاتية يقال له في اللغة العربية إحاطة. ولهذا سَمَّى بعض علماء الإختصاص البحار العظيمة محيطات لأجل المعنى اللغوي في أنها تحيط ببقع كبيرة من الأرض من جميع جهاتها. الإعجاز: كونه - عز وجل - (أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) هذا في الدنيا وفي الآخرة. فالخلق لا يحيطون بالله - عز وجل - علماً في الدنيا، وكذلك المؤمنون إذا رأوه يوم القيامة فإنها رؤية بصر، رؤية عين، وليست رؤية إحاطة {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قال بعدها رحمه الله (وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا.)   يريد بذلك أنّ أهل السنة والجماعة المتّبعين لسلف هذه الأمة وأئمة الحديث والعلم أنهم يُصدِّقُون ويؤمنون بما أخبر الله - عز وجل - في كتابه من صفاته ومن اصطفائه لبعض خلقه، ومن ذكر الغيبيات بأنواعها كما قال سبحانه في وصف أهل الإيمان {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] ، فكل الغيب يؤمن به أهل السنة والجماعة دون تفريق ما بين مسألة ومسألة ودون خوض في التأويل بما يصرفها عن ظاهرها. وقد ذكر الله - عز وجل - لنا في القرآن أنَّهُ تَّخَذَ إبراهيم خليلاً. قال سبحانه في سورة النساء {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] ، وكذلك اتخذ نبينا صلى الله عليه وسلم خليلاً وكَلَّمَ الله - عز وجل - موسى تكليماً، كلَّمَهُ فَسَمِعَ موسى كلام الربّ - عز وجل -، وكذلك ربنا - عز وجل - كلم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم تكليماً ليلة المعراج، فجمع الله - عز وجل - لنبينا صلى الله عليه وسلم ما اختص به إبراهيم وما اختص به موسى من بين أهل زمانهم فجعله صلى الله عليه وسلم كليماً خليلاً. هذه الجملة وهي (وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) دُوِّنَتْ في العقائد لأجل مخالفة الجهمية والجعدية وأشباه هؤلاء في إثبات خُلّة الله - عز وجل - وفي إثبات الكلام لله - عز وجل -. ومن أعظم المقالات شناعة في الإسلام مقالة الجعد بن درهم الذي زعم أنَّ الله - عز وجل - لم يتّخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلّم موسى تكليماً فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير مكة يوم عيد الأضحى تقرّباً إلى الله - عز وجل - بإراقة دم ذلك الكافر الذي كذَّبَ الله - عز وجل - وكَذَّبَ رسوله صلى الله عليه وسلم. (1) وهذه المقالة وَرِثَهَا الجهمية ثم وَرِثَهَا من يُؤَوِّل الصفات فينفون صفة الخُلَّة وينفون صفة الكلام لله - عز وجل -. قوله (إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا) هذه الكلمات الثلاث متغايرة، فالإيمان والتّصديق والتّسليم تتداخل، فمن آمن فقد سَلَّمْ، ومن صَدَّقَ فقد آمن، ومن آمن فهو مُصَدِّقْ؛ ولكن من جهة الحقيقة فإنّ المؤمن -يعني من قال هذا الكلام إيماناً به- قد يكون إيماناً لكن ليس تصديقاً باتخاذ الخلة كقول المفوضة فإنهم يؤمنون باللفظ وبالآية دون التصديق بالمعنى الذي فيه، والتّسليم، تسليمٌ بأن الله - عز وجل - يتصف سبحانه وتعالى بالصفات، نُسَلِّمُ لربنا - عز وجل - ما اتصف به من صفات الجلال والكمال والمحبة والخلة إلى آخر ذلك. فإذاً (إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا) ظاهرها التقارب في المعنى، والذي يظهر أنه أراد لكل كلمة معنى أخص. هذه الجملة فيها مسائل تفصيلية:   (1) انظر خلق أفعال العباد (3) / الشريعة (1/331) / سنن البيهقي الكبرى (20676) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 [المسألة الأولى] : الله - عز وجل - اتخذ إبراهيم خليلا، بمعنى أنه سبحانه وتعالى اتَّصَفَ بأنه أَحَبَّ إبراهيم عليه السلام، وأَحَبَّهُ حتى جعله خليلاً له وهو الحِبْ الخاص. والمحبة هي القَدْرْ المشترك بين معانٍ كثيرة، وقد ذكر ابن القيم وجماعة أنَّ المحبة لها عشر مراتب وفصَّلُوها؛ لكن هذا لا يعنينا في هذا المقام، وإنما الذي يعني أنَّ الخلة أخص من المحبة. فصفة محبة الرب - عز وجل - لعباده المؤمنين هذه ثابتة بالكتاب والسنة في أحاديث كثيرة وفي آيات كثيرة، كقول الله - عز وجل - {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، فهذه محبة الرب - عز وجل - لهؤلاء، وكذلك في صفات من يُحِبُّهُم الله - عز وجل - قال {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ، ونحو ذلك {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] . فالمحبة صفة جاءت في أدلة كثيرة، كذلك في السنة كما في حديث سهل بن سعد المعروف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا ذَكَرَ في فتح خيبر قال «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه» (1) فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فصفة المحبة ثابتة، أما الخُلَّة فهي محبة خاصة، ولذلك كل من نَفَى المحبة فإنه ينفي الخُلَّة؛ لأنَّ الخُلَّة أخص، وليس كل من نَفَى الخُلَّة فإنه ينفي المحبة؛ لأنهم قالوا: إنَّ الخلة تتخلل النفس وفيها نوع من المعنى الذي لا يليق بالرب - جل جلاله -. ولهذا نقول: إنَّهُ في صفات الرب - عز وجل - لما ثَبَتَتْ صفة المحبة بالكتاب والسنة فإنَّ صفة الخُلَّة واتخاذ إبراهيم عليه السلام خليلاً واتخاذ محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً كما في حديث «ولكن صاحبكم خليل الرحمن» (2) هذا في المعنى واحد لأنَّ أصل الصفة وهي المحبة ثابت باضطراد. فالخلة محبة خاصة نثبتها كما جاء في الكتاب والسنة.   (1) البخاري (2975) / مسلم (4779) / الترمذي (3724) (2) مسلم (1216) / الترمذي (3655) / ابن ماجه (93) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 [المسألة الثانية] : أنَّ صفة المحبة والخُلَّة ثُبْتَتْ في النصوص، أما غَيْرُهَا من معاني المحبة إذا لم يجئ في الدليل فإنه لا يُثْبَتُ لله - عز وجل -، وكذلك ينبغي أن لا يستعمله العبد في حُبِّهِ لله - عز وجل - تعبيراٍ عن ذلك. ويُمثِّلْ العلماء على ذلك بلفظ العشق، حيث أنه معلوم أنَّ العشق محبة عظيمة واستعمله الصوفية بأنَّ فلاناً يعشق الله أو هذا عاشق الرحمن أو مات من العشق ونحو ذلك من الكلمات التي يتداولونها. والعشق لا شك أنه محبة خاصة وزائدة؛ لكن هل يُطلق على أنَّ العبد يعشق الله؟ أو أنّ الله - عز وجل - يعشق عبده؟ هذا اللفظ لم يأتِ به الدليل لا في الكتاب ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة ولا في أقوال كبار التابعين إلى أن جاءت الصوفية. وسبب المنع من إطلاق هذا اللفظ في صفات الله - عز وجل -، أو أن يقول العبد هذا عاشق أو هذا شهيد العشق الإلهي ونحو ذلك من الألفاظ الباطلة، أنّ العشق حتى في عُرْفِ أهل اللغة وعند العرب لا يخلو من تَعَدِّي، فالذي تصل به المحبة إلى حد العشق فإنه إذا عَشِقَ فلا بد أن يكون ثَمَّ تعدٍ معه، إما تَعَدٍ على نفسه بالإيغال في هذه المحبة حتى العشق، وإما أن يوصله العشق إلى التعدي على غيره، ومحبة الله - عز وجل - لعباده مبنية على كمال العدل وكمال الجمال والرحمة بعباده المؤمنين، ومحبة العبد لربه - عز وجل - مبنية على تعظيم الله - عز وجل - وعلى توقيره سبحانه وتعالى، فلفظ العشق لمَّا كان غير وارد في الدليل والنص واشتمل على هذا المعنى الباطل وهو أنه يُشْعِرُ بالتعدي إما على النفس أو على الغير فإنه يمتنع إطلاقه على الرب - جل جلاله - أو من العبد على ربه سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 [المسألة الثالثة] : كلمات المحبة التي يستعملها بعض المتصوفة ويستعملها بعض أهل السلوك والتربية حتى من المعاصرين، هذه تنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: نقول يجوز إطلاقه؛ يعني من العبد لربه - عز وجل -، وذلك إذا كان في معنى المحبة ولم يترتب عليه مخالفة للغة من جهة ما يليق بالله - عز وجل - من الصفات والكمال والجلال. - والقسم الثاني: يُمنع وهو ما لم يَرِدْ به الدليل، وكان مشتملاً على معاني باطلة، من ذلك؛ من الألفاظ التي تمتنع: العشق والغرام والتتيم ونحو ذلك. ومن الألفاظ التي لا تمتنع: لفظ المودة والشوق وأشباه ذلك من المعاني، يعني الضابط فيها: المحبة ثابتة في أصلها فهل يُخْبَرُ عن الله - عز وجل -، أو العبد يُخْبِرُ عن محبته لربه بلفظ لم يرد؟ نقول هذه الألفاظ التي يُخْبِرُ بها العبد إما أن تشتمل على معنى صحيح وليس فيها تعدٍ فتجوز، وإما أن تشتمل على معنى باطل فلا تجوز. وترجعون في ذلك في تفصيله إلى قاعدة في المحبة للشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله. ذَكَرَ بعد ذلك صفة الكلام فقال (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) وصفة الكلام لربنا - عز وجل - نجعلها المسألة الرابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 [المسألة الرابعة] : صفة الكلام لله - عز وجل - نؤمن بها لأنَّ الله - عز وجل - أثبتها لنفسه في النصوص. والكلام الذي هو صفة الله - عز وجل - عند أهل السنة والجماعة كلام قديم وحادث، قديم النوع حادث الآحاد. ويعنون بقديم النوع حادث الآحاد: أنَّ الله - عز وجل - لم يزل مُتَكَلِّمَاً، يتكلم متى شاء، فهو سبحانه لم يزل مُتَكَلِّمَاً وكلامه سبحانه وتعالى من صفاته. وكلامه لم ينقطع؛ بل أفراده وآحاده يعني لا تزال متجددة. وهذه -يعني الآحاد- تنقسم إلى قسمين: - الأول: الكلام الشرعي: وهو القرآن التوراة ونحو ذلك من كتب الله - عز وجل -. - الثاني: الكلام الكوني: وهو الذي يأمر الله - عز وجل - به في ملكوته كما قال سبحانه {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، وكذلك قوله في لقمان {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، يُعْنَى بها الكلمات الكونية. ولهذا سَمَّى الله - عز وجل - كلامه مُحْدَثَاً يعني حَدِيثَاً في قوله في أول سورة الأنبياء {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الإسراء:2] مُحْدَثْ يعني حَدِيْثْ جَدِيْدْ، كذلك آية الشعراء {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5] . فالمُحْدَثْ ليس بمعناه المخلوق تعالى الله - عز وجل - عن ذلك، ولكن بمعنى الحَدِيْثْ الجَدِيْدْ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف ابن مسعود «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» (1) . صفة الكلام وما يتصل بها مَرَّ معنا أشياء تتعلق بذلك، لعله أن يأتيَ لها مزيد تفصيل. لكن المقصود هنا ليس إثبات الصفة من جملة الصفات؛ ولكن المقصود المخالفة في إثبات الخُلَّةْ والكلام لموسى عليه السلام إيماناً وتصديقاً وتسليماً. سبق لنا الكلام عن صفة الكلام عند قوله (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) في تفصيل الكلام على صفة الكلام، نكتفي بهذا القدر. (2) نلتقي بكم إن شاء الله في الأسبوع القادم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) ابن ماجه (138) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني والعشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أحمد ربي وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخليله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة : س1/ هل صحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجده فوق مِقْبَرَة؟ إن كان نعم فكيف يُجمع مع لعنه صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا القبور مساجد؟ ج/ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بَرَكَتْ النّاقة في موضع مسجده الآن كان فيها مواضع قبور للمشركين، فأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم -يعني في جزءٍ منه- أمر بالقبور فنُبِشَتْ واتُّخِذَ هذا المكان مسجداً. والمقبرة إذا كانت موجودة وبُنِيَ على القبر مسجداً فهذا هو الذي جاء فيه النهي. نبش القبور للمصلحة الشرعية جائز، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر فبنى في ذلك المكان مسجداً. وإن كان يعني أنه بُنِيَ المَسْجِدُ على قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأإنَّ آخر السؤال يدل عليه، وإن كان لا فما حكم المدرس، ايش القائل بذلك .... إلخ. إذا كان المقصود أنَّ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بُنِيَ على قبره فهذا غلط كبير، فالنبي صلى الله عليه وسلم بُنِيَ مسجده في حياته، وهُوَ لما تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ في حجرة عائشة وكانت ملاصقة للمسجد وليست من المسجد. ولما احتاج المسلمون إلى توسعة المسجد لضيقه بالناس وُسِّعَ من الجهة الجنوبية ومن الجهة الشمالية ومن الجهة الغربية، وأما الجهة الشرقية التي فيها حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم وبيت عائشة بالخصوص وبعض الحُجَرْ، فما كان يُؤْخَذْ منها إلا لمَّا احتيج، وبقيت حجرة عائشة التي فيها القبور على ما هي عليه، فكانت حجرة عائشة ليست من المسجد وإنما المسجد من جهاتها الثلاث وليست حجرة عائشة في الوسط. وبقي المسلمون على ذلك زماناً طويلاً حتى أُدخِلْ في عصور متأخرة -أظن في الدولة العثمانية أو قبلها- أُدخل الممر الشرقي وذلك بعد شيوع الطواف بالقبور، أُدْخِلْ الممر الشرقي يعني وُسِّعَ المسجد أو جُعِلَ الحائط يدور على جهة الغرفة الشرقية. صار فيه هذا الممر الذي يمشي معه من يريد الطواف. وهذا الممر وإن كان السور سور المسجد من تلك الجهة خلفه لكن ليس له حكم المسجد ولا يقال القبر في المسجد إلى الآن، ولا يقال الحجرة الآن في المسجد وإن كان ظاهرها من حيث العين أنها في المسجد؛ لكنها حُكْماً شرعاً ليست في المسجد؛ لأنَّ الجهة الشرقية هذه الممر لا يصحّ أن يكون مسجداً شرعاً، فلذلك إدخاله في المسجد باطل، ولذلك الصلاة في الجزء ذاك لا تصح، ولهذا يُعْمَلْ في كثير من الأحيان أنَّهُ تُسَدّْ وقت الصلاة، تسد الجهات من ذلك الممر حتى ما يصلي المصلون من جميع الجهات. ولذلك لما جاءت التوسعة الأخيرة توسعة الملك فهد لم يُبْتَدَأْ بالتوسعة من أول المسجد الأصلي وإنما ابْتُدِئْ بعد نهاية القبر؛ صار يعني نهاية الحجرة بكثير وبعد الباب وصار الامتداد هناك، فيكون: 1- أولاً: الواقع الآن، يعني من حيث التاريخ ليس المسجد مَبْنِيَّاً على القبر. 2- ثانياً: أنَّ القبر لم يُدْخَلْ في المسجد وإنما اكتنفه المسجد من الجهات الثلاثة جميعاً. 3- ثالثاً: الجهة الرابعة الشرقية من الحُجَرْ هذه أُدْخِلَتْ في عصور متأخرة لمَّا شاع الطواف بالقبور، ولمَّا قامت الدعوة ووصلت الدولة السعودية إلى ذاك المكان، واسْتُفْتِيَ أئمة الدعوة في ذلك فلم يَرَوا تغيير السور وتقطيع المسجد حتى ما تُثَارْ أشياء وإنما قالوا الوقف أو الجزء هذا الصلاة فيه باطلة فيُمْنَعْ الناس من أن يُصَلُّوا فيه، الذي هو الممر الشرقي للقبر. فإذاً من كل جهة لا ينطبق عليه أنَّ القبر هذا في المسجد، ولا أنَّ المسجد بُنِيَ على القبر، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم دُفِنَ في حجرة عائشة لا في المسجد، وحجرة عائشة رضي الله عنها منفصلة عن المسجد وليست في داخل المسجد. بقي أيضاً أنه لما وُسِّع المسجد من الجهة الشمالية واشتُرِيَتْ بعض حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني التي هي من جهة الآن دَكَّةْ الآغوات وما هو شمال منها، كانت حجرة عائشة، جُعل عليها جداران: الجدار الأول الذي هو يفصل حجرة عائشة عن بقية الحُجَرْ، وهذا الجدار له صفته، ممكن انكم تشوفونها في الخرائط موجودة. وجُعِلَ جدار آخر أيْضَاً مثلث من الجهة الشمالية، أصْبَحَ زاوية، يعني اتجاه السهم كأنه يتجه إلى الجهة الشمالية، وقد فَعَلَ ذلك من فَعَلَهُ من العلماء من التابعين وغيرهم بفتاويهم في ذاك الزمان حتى لا يَظُنْ أحد أنه يمكن أن يُسْتَقْبَلْ القبر، أي لا يُتصَوَّرْ أنَّ القبر أمامه وأنه الآن هو سيستَقْبِلُهُ، بيصير فيه الآن جدران مُحَرَّفَةْ ليبعد النظر عن أنَّهُ يَسْتَقْبِلْ القبر. ثم بعد ذلك عُمِل جدار ثالث، وهو طويل يعني طوله في السماء يعني ارتفاعه نحو ستة أمتار ونحو ذلك، فهو غير مسقوف أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فهذه الجدران الثلاثة فَعَلَها المسلمون مع كون الحجرة ليست في المسجد حتى لا يَظُنْ الظان أنه إن صلى في الجهة الشمالية فإنه يستقبل القبر؛ لأنه إنْ صَحَّ ذلك، إن قال القائل أنا أستقبل القبر مع وجود هذه الثلاث جدران بينه وبين القبر فمعناه أنَّ كل إنسان بينه وبين المقبرة جدران فإنه يستقبل القبور، وهذا لا قائل به من أهل العلم، فلهذا جعلوا هذه الجدران الثلاثة حتى لا يُتّخذ قبره مسجدا يُصَلَى فيه ولا يُصَلَّى إليه، وحتى لا تتعلق القلوب به، ولا يُوصل إلى قبره، ولا يمكن لأحد أن يخلص إلى قبره، ليس هناك أبواب وليس هناك طريق أبدا أن يخلص واحد إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثم بعد أزمان جُعِلْ هذا السياج الحديدي الموجود الآن، فهو الرابع الآن، هذا السياج الحديد الرابع بينه وبين الجدار الثالث الممر، والجدار الثالث هذا هو الذي ترون عليه السترة الخضراء أظنها أو شيء، وبعده جدار ثاني وبعد الجدار الثاني الجدار الأول. وهذه الثلاثة جدران هي التي ذكرها ابن القيم في النونية بقوله: فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه به ثلاثة الجدران يعني في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» (1) . المقصود من هذه، المسألة من مهمات المسائل أن تكون واضحة لطالب العلم تماما؛ لأنَّ الشبهة بها كبيرة، والذين يرددون مثل هذا الكلام كثير. فلهذا نقول: إنَّ القبر ليس في المسجد، ولا أحد يمكن أن يستقبل القبر، وإنّما قد يَتَّخِذُ بعض الجهلة أو بعض المشركين في قلبه صورة القبر ويستقبل شيئاً في قلبه ويعبد شيئاً في قلبه، أما القبر فإنّه ليس وثناً ولا يمكن أن يُتّخَذَ وثناً وأنه محاط بإحاطات تامة إلى آخر ذلك. والقبة الموجودة فوق سطح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هذه ليست على القبر بالمُسَامَتَة إنما هي على جزء كبير يعني تشمل الجدران الأربعة كلها، ولذلك قطرها كبير جداً والقبر في الداخل، وهذه القبة كانت في زمن مضى من الخشب بلون الخشب، وأول من صنعها أظن المماليك، ثُمَّ بعد ذلك جُعِلَتْ باللون الأبيض، ثم جُعِلَتْ باللون الأزرق، وهي التي كانت في وقت الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونحوه كان لونها أزرق، ثم في آخر عهد الدولة العثمانية جُعِلْ لونها أخضر واستمر هذا اللون. فلما قيل للشيخ محمد بن عبد الوهاب: إنَّكَ تقول لو أني أقدر على القبة التي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم فما قلت هذا ولا أقوله. لأنه ما يترتب من المفاسد على إزالة هذا المنكر أكثر من المصالح، فالواجب التنبيه وتعليم الناس ودعوتهم إلى التوحيد وعدم تمكين الشرك. والنّهي عن بناء القباب على المساجد نُهِيَ عنه سدا للذريعة، وللعلماء في ذلك كلام يعني في مسألة بقاء القبة. فالمقصود أنّ هذا الذي سار عليه أئمة الدعوة رحمهم الله في هذا الشأن فَرَأَوا أنَّ إبقاء القبة هذا أمرٌ لازم، وذلك لِمَا أشاعه الأعداء من بُغض أئمة الدعوة وبُغض أتباع دعوة الشيخ رحمه الله للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هم عظَّمُوا النبي صلى الله عليه وسلم وسدُّوا كل طريق يمكن أن يؤصل ما قالوه في هذا الباب؛ يعني ما قاله الأعداء. [ ... ] ؟ إذا كان القبر في مقبرة مستقلة عن المسجد فإنَّ الصلاة في المسجد جائزة إذا كان في القبلة، يعني بمعنى أنه يكون للقبر سور مستقل عن سور المسجد، فإذا قال القائل لا القبر في المسجد أو هذا السور محيط، أو أنَّ القبر واضح أنه في جهة من المسجد فهذا يدلّ على أنَّ المسجد بُني على القبر فلذلك لا تجوز الصّلاة فيه، والصلاة فيه باطلة. وأما إذا كان المسجد وُجِدَ أَوَّلَاً ثُمَّ القبر أدخل فيه، فهذا يُفَرَّقْ فيه ما بين إذا كان القبر في قبلة المسجد أو في مؤخرة المسجد: فإذا كان في مؤخرة المسجد فطائفة من العلماء والمشايخ يقولون: إنَّ الصلاة فيه جائزة. وأما إذا كان في القبلة فإنّه لا تجوز الصلاة إليه؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور. فإذاً هنا يُفَرَّق في هذه الحال ما بين إذا كان المسجد جُعل على القبر؛ يعني إذا كان المسجد متأخراً والقبر أولاً فيكون هذا حكم المقبرة يعني المسجد وضع على قبر فهذا الصلاة فيه لا تجوز؛ لأنَّ هذا منهي عنه والنهي يقتضي الفساد ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك. وأما إذا كان المسجد موجوداً ثم جُعل في طائفة منه القبر: فهنا نقول إذا كان القبر في الأول في مقدمة المسجد فإنَّ الصلاة محرمة ولا تجوز باطلة لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تصلوا إلى القبور» (2) الصلاة إلى القبر إذا جُعِلَ القبر قبلة باطلة. وإذا كان القبر في مؤخرة المسجد والمسجد مبني أولاً فطائفة من العلماء يقولون بصحة الصلاة فيه، يعني من علمائنا.   (1) الموطأ (414) / مصنف عبد الرزاق (414) (2) مسلم (2295) / النسائي (760) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.   هذه الجملة من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله ذَكَرَ فيها أصول الدين وأركان الإيمان فقال (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.) . فبعد أن ذَكَرَ تفصيل الكلام على الصفات وعلى القَدَرْ وعلى العرش والكرسي وإحاطة الله - عز وجل - بكل شيء وعلو الرب سبحانه وتعالى والخلّة، وما في ذلك من المباحث التي هي متصلة بركنين من أركان الإيمان، وهما الإيمان بالله والإيمان بالقدر خيره وشرّه من الله تعالى، ذكر بقية أركان الإيمان فقال (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وذلك أنّ أركان الإيمان التي جاءت في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ستة من الأركان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله عز وجل. لهذا قال (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) . والإيمان بهذه المسائل من المُتَّفَقِ عليه بين المنتسبين إلى القبلة، فإنّهم يؤمنون بأركان الإيمان السِّتّة من الفِرَقْ الثلاث وسبعين، فإنَّ الجميع يؤمن بذلك على اختلافٍ بينهم في تفسير بعض المسائل فيها، وذلك لكثرة النصوص الدّالة على الإيمان بهذه الأركان السِّتّة. فمن الأدلّة التي دلت على أنَّ هذه الأركان الستة من الإيمان بل هي الإيمان: 1- قول الله - عز وجل - {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] والبّر من الإيمان (1) : [[الشريط الثالث والعشرون]] : أو هو اسم للإيمان؛ لأنه يُطلق فيشمل الإيمان جميعاً ويُطلق البِرْ ويشمل بعض خصال الإيمان. 2- قوله - عز وجل - في آخر سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] الآية. 3- قول الله - عز وجل - في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [وَالْيَوْمِ الْآخِرِ] فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. 4- الحديث المشهور عندكم وهو حديث جبريل في سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال له صلى الله عليه وسلم «الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ» ، فقال جبريل عليه السلام: «صدقت» . ثم في آخره قال «هَذَا جِبْرِيلُ، أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ دِينَكُمْ» (2) . فهذا القَدْرْ مُجمَعٌ عليه بين الفِرَقْ الثلاث وسبعين جميعاً، فكل فرقة من الفِرَقْ الثلاث والسبعين في هذه الأمة تؤمن بالملائكة والنبيين وتؤمن بالكتب؛ لكن هناك قدر يختلفون فيه في بعض تفصيلات الكلام على هذه المسائل. بعض العلماء يُعَبِّرُ عن هذه الأركان بأنها الأركان الخمسة، أركان الإيمان الخمسة، أو يجعلها أصول الدين الخمسة، وبعضهم يجعلها أصول الدين الستة أو الأركان الستة، وبعضهم يجعلها سبعة ونحو ذلك وهي كلها متقاربة إما بِحَذْفِ القَدَرْ لأجل أنَّ الآيات ليس فيها ذِكْرُ القَدَرْ، فيجعلونه موافِقَاً للآيات، وإما أن تُجْعَلَ جميعاً مع القَدَرْ كما دلّ عليه حديث جبريل المعروف، وأما من قال سبعة ففيه توسع بذكر الجنة والنار كما قاله بعض المتصوفة فإنهم قالوا: أركان الإيمان سبعة فذكروا اليوم الآخر والجنة والنار، والجنة والنار هي من الإيمان باليوم الآخر. هذا ما يتعلّق بهذه الجملة إجمالا، وتحتها مسائل:   (1) انتهى الشريط الثاني والعشرون. (2) سبق ذكره (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 [المسألة الأولى] : أنَّ الإيمان بهذه الأمور -الملائكة والنبيين والكتب المُنَزَّلَة على المرسلين- معناه التصديق الجازم بأنَّ ما أخبر الله - عز وجل - به عن هذه الأشياء فهو حق وأنَّ الملائكة كما سيأتي حق إجمالاً وتفصيلاً، وأنَّ النبيين حق إجمالاً وتفصيلاً، وأنَّ الكتب من عند الله - عز وجل - منزلة حق إجمالاً وتفصيلاً. هذا معنى الإيمان بهذه الأشياء؛ يعني يؤمن بالملائكة، بوجود الملائكة إجمالا وتفصيلاً، يؤمن بالنبيين كما سيأتي إجمالا وتفصيلا ويؤمن بالكتب أيضا إجمالا وتفصيلا. وهذا الإيمان مرتبتان: 1- منه قَدْرٌ واجب لا يصح الإيمان إلا به فمن لم يأتِ بالقَدْرِ الذي سيأتي بيانه فإنه لم يؤمن بالملائكة ولم يؤمن بالنبيين ولم يؤمن بالكتب. 2- ومنه قَدْرٌ مستحب وهو الذي يتنافس فيه أهل العلم في إدراكه والعلم به والعمل بما تحته عمل من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 [قال (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ) ]   ندخل في تفصيل الكلام على هذه المسائل، وأولها الإيمان بالملائكة. والإيمان بالملائكة نجعله على مسائل: [المسألة الأولى] : في معنى الملائكة: الملائكة في اللغة جمعٌ لِـ: مَلْأَكْ، ومَلْأَكْ قال العلماء إنها مقلوبة من مَأْلَكْ. وأصل مألك -هذا مصدر- فيه معنى الأَلُوكَةْ وهي الرسالة. لهذا مادة الأَلُوكَةْ هي الرّسالة، وأَلَكَ فلانا بكذا يعني أرسله بكذا. فمادة الملائكة وأَلَكَ والأَلُوكَةْ كلها في الرسالة ومن ذلك قول الشاعر فيها ذكرته لكم قبل في شروحنا السابقة حيث قال: أَلِكْنِي إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر يعني أرسلني إليها، والأَلُوكَةْ معروفة عند العرب بمعنى الرسالة. فإذاً الملائكة -معناه اللغوي- هم المُرْسَلُونَ؛ لكن رسالة خاصّة على وجه التّعظيم لها. فإذاً الملائكة هم المُرْسَلُونَ، ولهذا الله - عز وجل - سَمَّى الملائكة مرسلين في قوله {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، كما هو أصح أقوال المفسرين في ذلك، وكذلك في قوله {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، وسيأتي معنى الاصطفاء هنا ولماذا صار بعض الملائكة رسلاً إن شاء الله تعالى؛ يعني خُصّوا باسم الرسالة دون البقية. أمَّا فيما دَلَّت عليه الأدلة فالملائكة عباد من عباد الله - عز وجل -، خَلَقَهُمْ الله - عز وجل - من نور، وجعلهم مُتَفَرِّغين لعبادته مُوَكَّلين بشؤون ملكوته. وهم ليسوا بِبَنَاتٍ لله سبحانه وتعالى، وليسوا بأولادٍ له - عز وجل -، وإنما هم عباد مُكْرَمُونَ، يَعْمَلَون بما يأْمُرُهُم به ربهم - عز وجل -. فهم عِبَادٌ يَعْبُدُونَ ولا يُعْبَدُونْ مُكْرَمُونَ مُطَهَّرُونْ ليسوا بذوي نقص لا في خِلْقَتِهِمْ ولا في خُلُقِهِمْ ولا في عبادتهم لربّهم - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 [المسألة الثانية] : الملائكة درجات وطبقات، فأعْظَمُ الملائكة قَدْراً الثلاثة الذين خَصَّهُم الني صلى الله عليه وسلم في دعائه في الليل -يعني في صلاته في الليل- حيث كان يدعو صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اللهم اهدني فيما اختلف فيه من الحق بإذنك فإنك تهدي إلى صراط مستقيم» (1) فنصَّ على هؤلاء الثّلاثة لفضلهم ولرفعتهم عند الله - عز وجل -. وهؤلاء الثلاثة أفضلهم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل. أما جبريل عليه السّلام وميكائيل وإسرافيل فهم مُوَكَّلُونَ بأنواع الحياة. أما فجبريل مُوَكَّلٌ بحياة القلوب لأنَّهُ ينزل بالوحي من الله - عز وجل - كما قال سبحانه {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:103] . وأما ميكائيل مُوَكَّلٌ بأمر حياة الإنسان، يعني وسائل حياة الإنسان والحيوان من المطر والنبات والرياح، وما أشبه ذلك مما فيه حياته واستقامة أمره. وأما إسرافيل فهو المُوَكَّلٌ بالنفخ في الصور، إذْ به إعادة الناس إلى حياة جديدة بعدها لا موت. فإذاً الجميع يشتركون في أنّهم يُحيُون أو أنَّ معهم أسباب الحياة، ولذلك صاروا سادة الملائكة وأكابر الملائكة عليهم السلام. هم طبقات يختلفون -يعني في فضلهم- ويختلفون في قُرْبِهِم من الله - عز وجل -، وأيضاً يختلفون في وظائفهم وما وُكِّلُوا به. ولفظ التوكيل -أنَّ المَلَكْ مُوَكَّلْ- يعني أنَّ الله - عز وجل - أوْكَلَ إليه أن يعمل هذا العمل، وذلك لقول الله - عز وجل - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] . فالله - عز وجل - جَعَلَ ملك الموت مُوَكَّلاً بالإنسان، وكل سَيِّدْ من الملائكة معه كثير من الملائكة يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه ويفعلون ما يأمرهم أميرهم أو قائدهم أو المطاع فيهم. لهذا صار ملك الموت معه رُسُل كما قال - عز وجل - {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:6] في سورة الأنعام، الرسل: يعني الذين هم أعوان ملك الموت، كذلك قوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، يعني ملائكة الموت. كذلك الله - عز وجل - سمَّى الملائكة الذين سَخَّرَهُمْ بالريح ووَكَّلهم وهم جنود مكائيل عليه السلام سمَّاهم بِصِفَاتِهِم، فقال - عز وجل - {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] ، وقال {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:3-4] ، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1] ، ونحو ذلك وهؤلاء جنود مُوَكَّلُون. {الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} ، {النَّاشِرَاتِ نَشْرًا} ، {الْفَارِقَاتِ فَرْقًا} قال طائفة من العلماء في التفسير إنها الرّياح، وقال طائفة هي الملائكة، من الصّحابة ومن التابعين. والقولان متقاربان لأنَّ الرياح لا تفعل هذه الأشياء من ذات أنفسها؛ بل هي مَسُوقة، مثل ما ترون اليوم يقولون ما تُمْلِيهُ الأرصاد فيما يرون ويَسْتَنْتِجُونَ وُجِدْ منخفض جوي في المكان الفلاني ومُرْتَفَعْ، منخفض في الهند ومُرْتَفَعْ ما أدري إيش، وسَبَّبْ وجود الرياح مشيها كذا والسحاب مشى كذا. وهذه كلها في ما يعتقده المؤمن أنَّ الله - عز وجل - هو الذي فعل هذه الأشياء، وأنه أَمَرَ الملائكة المُوَكَّلِين بهذه الأمور أن تفعل هذه الأشياء، ثُمَّ الناس ينظرون إلى الأسباب، ينظرون إلى المُسَبَّبَاتْ ولا ينظرون إلى الفعل الحقيقي، فيرون النّتيجة، يقولون اتجه بسبب المُنْخَفَضْ. لكن لماذا حصل المنخفض، كيف حصل؟ ونحو ذلك، لا يعرفون لأنهم عن ربهم معزولون. إذاً الملائكة وكَّلَهُم الله - عز وجل - بأمور ملكوته ولم [ ..... ] حاجَةً منه - عز وجل - لهم تعالى الله - عز وجل - عن ذلك بل هو الغني. والملائكة يَشْرُفُونَ بِعَمَلِ ما يَأْمُرُهُم به - عز وجل -؛ لكن لِيَظْهَرَ فَضْلُهُم ولينشغلوا بعبادة الله - عز وجل - وبامتثال أمره وبخوفه والانتهاء عن نهيه ونحو ذلك من المعاني.   (1) مسلم (1847) / أبو داود (767) / الترمذي (3420) / النسائي (1625) / ابن ماجه (1357) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 [المسألة الثالثة] : الملائكة خُلِقُوا من نور ومَلَؤُوا السّماء، وهم كما قال - عز وجل - عن قولهم {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] ، يعني في السماء {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165-16] ، فهم ملؤوا السماء، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أطت السماء وحُقَّ لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع» (1) . والملائكة لمَّا كانوا مخلوقين من نور فإنهم إذا مَلَؤُوا السماء ليس مَلْأَ أجسامِ تَحُولُ دون العُبُورِ في السماء؛ بل هذه أجسام نور، الله - عز وجل - أعلم كيف تكوينها وكيف صفاتها على وجه الكمال. ثَمَّ كتب كثيرة أُلفت في ذكر الملائكة ولا أدري هل يناسب أن نطيل الحديث حولها أو أحيلكم على بعض الكتب التي فيها ذكر تفصيلٍ للملائكة منها: شرح الطحاوية الذي عندكم فيه بيان لا بأس به. وكذلك نَقَلَ عنه صاحب معارج القبول وزاد بعض الأدلة. ومن الكتب المعاصرة كتاب الدكتور الأشقر عالم الملائكة وهو كتاب جيد في بابه يمكن أن ترجع إليه.   (1) الترمذي (2312) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 [المسألة الرابعة] : أنَّ الإيمان بالملائكة رُكْنٌ من أركان الإيمان، ومعنى كونه رُكْنَاً أَنَّ الإيمان لا يوجد إذا فُقِدَ رُكْنُهُ؛ لأنَّ الركن هو ما يقوم عليه الشيء، فإذا فُقِد فإنه لا قيام للشيء بدونه. وهذا الكلام في تعريف الركن يَصْدُق على الإيمان -أركان الإيمان-، وأما أركان الإسلام ففيها بحث في هل الركن فيها ما هو بهذا المعنى أم ثَمَّ معنى آخر؟ ربما يأتينا في موضع آخر إن شاء الله. لكن بإجماع أهل العلم أنَّ من لم يؤمن بالملائكة فلم يؤمن بالله وهو كافر؛ لأنَّ الله - عز وجل - ذَكَرَهُمْ في كتابه فهو كافر بالله، كذلك من لم يؤمن بالنبيين، كذلك من لم يؤمن بكتب الله - عز وجل - المنزلة. هذا الإيمان الذي هو فرض وركن وواجب له حالان: - الحالة الأولى الإيمان الإجمالي. - الحالة الثانية الإيمان التفصيلي. @ فمعنى الإيمان الإجمالي أن كل أحد عليه فرض: 1- أن يؤمن بوجود الملائكة. 2- أن يؤمن أَنَّ الملائكة عباد وليسوا ببنات لله - عز وجل - ولا يُعْبَدُونْ. هذا القَدْرْ واجب على كل أحد أن يؤمن به إجمالاً @ ومعنى الإيمان التفصيلي أن كل أحد يجب عليه: أن يؤمن بكل ما أخبر الله - عز وجل - به في كتابه أو أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته الثابتة من ذِكْرِ الملائكة. ففي القرآن لو قال لنا قائل: أنا أؤمن بالملائكة لكن جبريل ما أدري إيش جبريل؟ لأنه ما قرأ القرآن، فإنه إذا قرأ القرآن وسمع باسم جبريل وأنه ملك هنا وجب عليه الإيمان تفصيلا بجبريل. فمن كَفَرَ بجبريل فقد كَفَرَ ببقية الملائكة وكذلك وبالإيمان الإجمالي أصلاً. وكذلك من كَفَرَ بميكال، وكذلك من كفر بإسرافيل، وكذلك من كفر بملك الموت إلى آخره. فإذاً الإيمان الإجمالي هذا هو ركن الإيمان الواجب على كل أحد، ثُمَّ كُلُّ من سمع نَصَّاً ودليلاً فيه ذِكْرُ الإيمان بالملائكة من القرآن فإنه يجب عليه أن يؤمن بهذا على وجه بالتفصيل. فلا يجب على كل أحد -يعني من المسلمين- أن يعلم أنَّ ميكال مثلا هو المُوَكَلْ بالقَطْرْ، أو أنَّ إسرافيل مُوَكَّلْ بالنفخ في الصور. فلو قال لك قائل من العامة أو من جملة الناس مثلاً: أنا لا أدري، لا أعرف هذا، المهم أنا أومن بالملائكة. فهذا يكفي في الإيمان، ثُمَّ مَنْ عَلِمْ كل حالة أو كل اسم ملك أو دليل في ذلك وَجَبَ عليه الإيمان به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 [المسألة الخامسة] : الإيمان بالملائكة تَبَعٌ للعلم، وكلما زَادَ العِلْمُ بالعقيدة وبالنصوص زَادَ الإيمان بالملائكة لمن وفَّقَهُ الله - عز وجل -. ولهذا نقول: الناس متفاوتون في إيمانهم بملائكة الله - عز وجل - وليسوا جميعاً سواء في ذلك، والتفاوت سَبَبُهُ تفاوت العلم، فكلما كان العلم أكثر كان الإيمان أكثر؛ لأنَّ الإيمان هنا معناه التصديق، فإذا عَلِمَ فَصَدَّقَ وآمَنَ جزمَاً فإنَّ إيمانه يزيد على غيره. وهذا من أَوْجُهِ معنى زيادة الإيمان ونقصانه في مجموع خصال الإيمان. لهذا نقول: الإيمان بالملائكة المستحب درجات كثيرة؛ السعي في البحث عن ذلك هذا من الإيمان المستحب، ثُمَّ إذا علم وَجَبَ عليه أن يؤمن. وطلب العلم في هذا ومعرفته ومعرفة أحوال الملائكة وكيف يعبدون الله - عز وجل - ويخافونه وخوفهم من الله - عز وجل - وامتثالهم لأوامره ونحو ذلك، طلب ذلك والسعي فيه هذا من العلم المستحب، فإذا عَلِمَ شيئاً من ذلك وجب عليه الإيمان به؛ لأنَّ الحجة قامت عليه. مِنَ المسائل أيضاً المتصلة بزيادة الإيمان بالملائكة وتفاوت الناس فيه أنَّ الإيمان بالملائكة له أَثَرٌ على العبد المؤمن. وهذا الأثر تارَةً يرجع إلى التّوحيد والعلم، وتارَةً يرجِع إلى السلوك والعمل، وتارة يرجع إلى خصال الإيمان أو أركان الإيمان الأخرى. الجهة الأولى التوحيد والعلم: فإنَّهُ يعلم أنَّ الملائكة كما وصفهم الله - عز وجل - بأنهم عباد {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] ، وأنهم مع كونهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ؛ لكنهم يخافون الله - عز وجل - ويعبدونه عبادة دائمة، وخوفهم من الجليل - عز وجل - مع قربهم منه سبحانه وتعالى، وهذه فيها إبطال لدعوى من عَبَدْ الملائكة أو قال إنهم بنات الله كما وصف الله - عز وجل - قولهم بقوله {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] ، و {الْجِنَّةِ} هنا هم الملائكة في أحد الأقوال وأصح الأقوال، والنَّسَبْ يعني أَنَّ الملائكة بنات الله، وهذه جاء مُصَرَّحَاً بها في آيات كثيرة كما في قوله {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] ، وكذلك قوله {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] ، إلى آخر الآيات في هذا. المقصود أنَّ في الإيمان بالملائكة إبطال لدعوى كل من عَبَدَ غير الله - عز وجل -؛ لأنهم يعبدون غير الله - عز وجل - إما في ظَنِّهِمْ أنهم عبدوا الملائكة وهم يعبدون الجن أو عبدوا الأشجار والأوثان وهم يعبدون في الحقيقة أهواءهم والجن سيطرت عليهم، فكلُّ عبادة تَوَجَّهَت إلى غير الله - عز وجل - فإنّ الإيمان بالملائكة ومعرفة ما عليه الملائكة يدل على بطلان تلك العبادة. ولهذا ذكر الله - عز وجل - في آخر سورة سبأ إشارَةً إلى هذا الأصل الذي يحتاج بيانه إلى تفصيل لقوله - عز وجل - {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبإ:40-41] ، وهذا يعم جميع أنواع عبادة غير الله - عز وجل -. كذلك في توحيد الله - عز وجل - في خصال العبادة من الخوف والمحبة وإتباع الأمر والنهي هذه كلها الإيمان بالملائكة ومعرفة أحوال الملائكة تزيد العبد معرفةً بخصال التوحيد؛ لأنَّ أهل السماء الذي هم ملائكة الله - عز وجل - كاملو توحيد الله - عز وجل - واتِّباعِهِمْ لأمره ونهيه سبحانه وتعالى. الجهة الثانية وهي جهة السلوك والعمل: فللإيمان بالملائكة أثر، وذلك أنَّ الملائكة لمن آمن بهم على وجه التفصيل فإنَّهُ يعلم أنَّ ثَمَّ ملائكة يكتبون ما يصدر من الإنسان كما قال سبحانه {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11-12] فكونهم يكتبون، وكذلك {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، هذا يجعل إحسانه للعمل ومراقبته لربه في لفظه وفي عمله أعظم لأنه يعلم أنه معه قرين يلازمه لا ينفكّ عن كتابة شيء. ولذلك يُحْسِنُ قوله ويُحْسِنُ عمله ما استطاع، وإذا أذْنَبَ فإنه يستغفر وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً؛ لأنّ الملائكة تكتب هذا وهذا و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] . الجهة الثالثة وهي أَنَّ الإيمان بالملائكة له أثر في أركان الإيمان الأخرى: فإنَّ الملائكة لمن آمن بهم عَلِمْ أَنَّ منهم المُوَكَلْ بالوحي، وجبريل عليه السلام هو المُوَكَلْ بالوحي. وهذا الوحي ما هو؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 هو كُتُبُ الله - عز وجل - ووحيه على أنبيائه، فصار ثَمَّ صلة بين الإيمان بالملائكة والأنبياء، الإيمان بالملائكة والكتب. ولهذا المعنى جَمَعَ الطحاوي-فيما يظهر لي- بين هذه الثلاثة في هذا الموضع لأنَّ كل واحدة منها تدل على الأخريتين البقيتين، الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة، وكل واحدة تدل على البقية. ومن ثمرات الإيمان بالملائكة الإيمان بالكتب، ومن ثمرات الإيمان بالكتب الإيمان بالأنبياء وإلى آخره، فهذه كلها متصلة جميعاً. من الملائكة من هو مُوَكَلْ -وهو إسرافيل- مُوَكَلْ بالبعث يعني بالنفخ في الصور، منهم الموكل بالموت إلى آخره، هذا يرجع إلى الإيمان باليوم الآخر. ميكائيل مُوَكَلْ بالقطر وهذا يرجع إلى الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى. منهم الموكل بالأجنة {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آلأ عمران:6] يأتي ملك فيقول: يا ربي أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد أمريض أم سليم؟ فيقضي الله ما يشاء ويكتب الملك، فإذاً لها صلة بالقَدَرْ. فلهذا نقول: إنَّ الإيمان بالملائكة صار من أركان الإيمان: - لكثرة الأدلة الدالة على ذلك. - ولأن الإيمان بالملائكة يدل على الإيمان بجميع الأركان الأخرى. لهذا صار الإيمان بالملائكة بعد الإيمان بالله مُبَاشَرَةً. الإيمان بالله هذا يدل على الجميع، والإيمان بالملائكة يدل على الجميع. وكذلك الإيمان بالكتب يدل على الجميع، والإيمان بالرسل يدل على البقية، والإيمان باليوم الآخر يدل على الإيمان بالقدر. هذه كلمات مختصرة حول الإيمان بالملائكة؛ لكن الموضوع طويل ومهم ولابد أن تطَّلِعُوا عليه بتوسع في بعض الكتب التي ذكرت لكم، خاصة كتاب الدكتور الأشقر فإنه مفيد جداً في هذا الباب. هناك مسألة تَطَرَّقْ إليها الشارح وهي مسألة المفاضلة بين الملائكة والأنبياء. والشارح قال: كان الأَوْلَى أن لا أدخل فيها. شيخ الإسلام قال: كنتُ أظُنُّ أَنَّ البحث فيها، أنَّ المسألة من المسائل المبتدعة -يعني التفضيل- حتى رأيت البحث فيها سُنِّياً أثرياً ومع ذلك فإني لا أحب الخوض في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج تحتها عمل. ومن أراد الإطلاع ينظر في الفتاوى في بحث في نحو أربعين صفحة أو أكثر في هذه المسألة. لكنّ الذي يهمّ طالب العلم في العقيدة السلفية أن لا يُقِرْ من قال بتفضيل الملائكة مُطْلَقَاً، فهذا القَدْرْ مهم أن لا يُقِرِّ بِهِ، إما أن يُسْكَتْ عنها، وإما أن يقال فيها بقول جمهور أهل السنة وهو بتفضيل الأنبياء وصالح المؤمنين على الملائكة، وأما الخوض في الزيادة والأدلة والتفصيل والردود هذا من العلم الذي يُترك لعدم الحاجة إليه الآن. نكتفي بهذا القدر، ونلتقي إن شاء الله الأسبوع القادم بارك الله فيكم، وفقني وإياكم إلى ما فيه رضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، أما بعد: نأخذ بعض الأسئلة . الأسئلة: س1/ ما هو تعريف الشّرك الأصغر؟ وما هي الضوابط التي منها يمكن الحكم على القول أو الفعل أنه شرك أصغر؟ ج/ الشرك بجميع أنواعه سواءٌ الشّرك الأكبر أم الأصغر أم الخفي يشترك في كونه تنديداً مع الله - عز وجل -، وهذا التنديد يعني أن يُجعَلَ لله نداً فيما هو له - عز وجل -، يختلف من جهة الدليل، فمنه ما هو شرك أكبر، ومنه ما جاء في الدّليل أنه شرك؛ لكن لم يُجعل شركاً أكبر، وجاء في بعض الأحاديث تسمية بعض أنواعه الشرك الخفي، وسَمّاه العلماء الشرك الأصغر تمييزاً بينه وبين الأكبر. اختلفوا في ضابطه مع اتفاقهم على أنّ الشرك الأكبر هو دعوة غير الله معه، هو عبادة غير الله - جل جلاله -، أو أنْ يُجْعَلَ لله نِدًّا سبحانه وتعالى فيما هو من خصائصه - عز وجل -، وأعظمها العبادة؛ يعني استحقاق العبادة. اختلفوا في الشرك الأصغر في تعريفه على أقوال عند أهل العلم وفي ضبطه: القول الأول: إنَّ الشرك الأصغر هو كل شرك أو عمل يكون وسيلة للشرك الأكبر، فما كان وسيلة وطريقاً إلى الشّرك الأكبر فيكون شركاً أصغر، وقد نحا إلى ذلك عدد من أهل العلم منهم الشيخ عبد الرحمن السعدي في حاشيته على كتاب التوحيد. (1) والقول الثاني: وهو قول عامة أئمة الدعوة، وكذلك يُفْهَمْ من صنيع ابن القيم وابن تيمية رحمهم الله أنه يذهبون إليه، هو أنَّ الشرك الأصغر كل ذنب سمَّاهُ الشارع شركاً ولم يبلغ درجة عبادة غير الله - عز وجل -؛ يعني لم يبلغ درجة الشرك الأكبر. والفرق بين الأول والثاني -يعني بين التعريف الأول والثاني- أنَّ هناك أعمال تكون وسيلةً للشرك الأكبر ولم يطلق عليه الشارع أنها شرك ولم يتفق العلماء على أنها شرك، فوسائل الشرك الأكبر كثيرة. مثلا بناء القباب على القبور هذا وسيلة إلى الشرك ووسيلة إلى تعظيم الأموات وإلى أن يُعتَقَدَ فيهم وأن يُتَقَرَبَ إليهم أو أن يُتَعَبَدَ عند قبورهم ونحو ذلك؛ يعني أن يُعبدوا عند قبورهم ونحو ذلك، فبناء القباب على القبور من هذه الجهة هو وسيلة إلى الشرك الأكبر لكن لم يسمّه أحد من أهل العلم المتقدمين لم يعدُّوهُ شركاً أصغر مع كونه وسيلة. فالأضبط هو ما ذكرته لك من أنَّ الشرك الأصغر هو كل ذنب أو معصية سمّاها الشارع شركاً في الدليل ولم تبلغ درجة الشرك الأكبر؛ يعني درجة عبادة غير الله معه سبحانه وتعالى. مثال آخر الذنوب: الذنب يُطْلِقُ عليه بعض العلماء أنه لا يصدر ذنب -يعني كبيرة من الكبائر أو ذنب من الذنوب- إلا وثَمَّ نوع تشريك؛ لأنه جعل طاعة الهوى مع طاعة الله - عز وجل - فحصلت المعصية، وطاعة الهوى وسيلة للشرك الأكبر، والذنوب عدد كبير منها وسيلة إلى الشرك الأكبر، ومع ذلك لم تُسَمَّ شركَاً أصغر وإن دخلت في مسمى مطلق التشريك، لا التشريك المطلق، مطلق التشريك، لا الشرك، فلهذا لا يَصْدُقُ عليه هنا أنها شرك أصغر مع كونها وسيلة في عدد من الذنوب والآثام إلى الشرك الأكبر. إذاً لا يستقيم التعريف الأول في عدد من الصّور، والأقرب والأولى هو الثاني وهو أنْ يقال الشرك الأصغر هو كل ذنب أو معصية سماها الشارع شركا ولم تبلغ درجة عبادة غير الله معه. نكتفي بهذا.   (1) قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي تحت باب الخوف من الشرك: وأما الشرك الأصغر فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك؛ كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ مرتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله، ويسير الرياء ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.   نكمل بيان ما في هذه الجملة من المسائل، وقد ذكرنا في الدّرس السابق أصول الإيمان؛ يعني أركان الإيمان وأدلّة ذلك من الكتاب والسنة، وذكرنا بعض المسائل المتعلقة بالملائكة، وذكرنا لكم أنّ الكلام على الملائكة فيه تفصيل كثير يُطلَبُ من كتب التفسير ومن كتب الحديث والعقيدة ومن الكتب المصنّفة في هذه العقيدة؛ عقيدة الإيمان بملائكة الرحمن - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. قال (وَالنَّبِيِّينَ) الإيمان بالنبيّين يعني الإيمان بالأنبياء والمرسلين؛ لأنّه إذا أُطلق النّبي في الإيمان فيُراد به الإيمان بالأنبياء والمرسلين، وذلك من جهتين: الجهة الأولى: أنَّ قول كثير من أهل العلم أنَّ كل رسول نبي، فإذا قلنا نؤمن بالأنبياء فمعنى ذلك نؤمن بالرسل لأنَّ كل رسول نبي. 2- الجهة الثانية: أنَّ القرآن الكريم جاء فيه ذِكْرُ المُرْسَلِينَ بِذِكْرِ الأنبياء؛ يعني سُمِّيَ المرسلون أنبياء، سورة الأنبياء من وَرَدَ فيها جُلُّهم مرسلون: أولهم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم الخليل ثم لوط، ثم نوح، ثم داوود، وسليمان، وأيوب إلى آخره. ولهذا قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ) يعني بالرسل والأنبياء جميعاً. والتعبير بالرُّسُلِ أولى؛ لأنه هو الذي جاء في الأدلة في الكتاب والسنة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، قال: أخبرني عن الإيمان. قال «أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ» وفَرْض الإيمان أن يُؤْمَنْ بالأنبياء والرسل جميعاً لأنّ الله - عز وجل - أمرنا بذلك. وتحت هذا الأصل والركن وهو الإيمان بالنبيين مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 [المسألة الأولى] : في تعريف النبي. النَّبِيُّ في القرآن جاء فيه قراءتان {النّبي} والقراءة الأخرى {النبيء} بالهمز {يا أيها النبيّ} ، والقراءة الثانية {يا أيها النبيء} كما هي قراءة نافع وغيره. وفرق ما بين النبي والنبيء. فالنبيء: هو مَنْ نُبِّئَ. والنبي: من صار في نَبْوَةٍ؛ يعني في ارتفاع عن غيره. فإذاً نقول: (النبي) و (النبيء) هو من اختصه الله - عز وجل - بالإنباء والوحي، فصار مرتفعاً عن غيره في المقام لأجل ما أوحى الله - عز وجل - إليه. هذا ليس تعريف -يعني حد- ليس حداً ولكن هذا تقريب. أما الرُّسُلْ، الرسول، فظاهرٌ من اللفظ أنَّهُ أُرْسِلْ. فلفظ نبيء ونبي من جهة اللغة واللفظ الذي جاء في القرآن هذا فيه الإنباء وفيه الرفعة، والرسول فيه الإرسال. ولهذا اختلف العلماء هل النبي والرسول واحد أو بينهما فرق؟ على أقوال كثيرة مر معنا تفصيل الكلام عليها في عدد من الشروح وأقربها شرح الواسطية وغيره؛ لكن نذكر لك ملخص الكلام: 1- القول الأول: من أهل العلم من قال النبي والرسول بمعنىً واحد، فكل رسول نبي وكل نبي رسول، وذهب إلى هذا جمع من أهل العلم من المفسّرين ومن الفقهاء وغيرهم. 2- القول الثاني: هو أنَّ النبي غير الرسول، ودلّ على الفرق بينهما: أ - قول الله - عز وجل - في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] ، قال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فدَلَّ ظاهر الآية قوله {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} أنَّ النبي غير الرسول، وظاهر الدلالة على أنَّهُ ثَمَّ فرق بينهما، ولو كان النبي هو الرسول لما صح أن يُقَال {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} لأنَّ النبي هو الرسول كيف يقول {وَلَا نَبِيٍّ} ، قد يكون بالعطف بالواو من رسول ونبي فتكون هنا مُغَايَرَةْ، في الصفات، لكن لمَّا أُدْخِلَتْ {لاَ} دل على أنَّ هذا غير هذا {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} . ب - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الرسل والأنبياء الذين يأتون يوم القيامة فقال «يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه كذا، ويأتي النبي وليس معه أحد» (1) ، ووجه الدِّلالة من الحديث أنّ قوله «ويأتي النّبي وليس معه أحد» يحتمل: - أن يكون لم يُرْسَلْ إلى أحد. - ويحتمل أن يكون لم يستجب له. ويتجه الاحتمال أنه لم يرسل إلى أحد؛ بل هو نبيّ لقوله صلى الله عليه وسلم «ما بعث الله من نبيٍ إلا وأعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر وكان الذي أوتيته وحيا يُتلى» (2) الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح حديث عياض بن حمار المجاشعي، فدلّ على أنّ كل نبي أعطي آية وآمن من آمن بتلك الآية. لهذا نقول: قوله صلى الله عليه وسلم «ويأتي النبي وليس معه أحد» هذا لأجل قَصْرْ الرسالة على هذا النبي وحده؛ يعني أنَّهُ ليس مُرْسلاً إلى غيره. ج - حديث أبي ذر المشهور الذي رواه ابن حبان في الصحيح ورواه غيره من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ عِدَةَ الأنبياء، هو حديث طويل منه جمل ثابتة صحيحة بشواهدها، ومنه جمل مُخْتَلَفْ فيها، فمنها أنَّهُ ذَكَرَ عِدَّةَ الأنبياء وذَكَرَ عِدَةَ المرسلين، فقال في عدد الأنبياء إنهم مائة وأربعة وعشرين ألف، وقال في عدة المرسلين إنهم كعدة أهل بدر يعني نحو أربعة عشر وثلاثمائة رسول (3) ، فدلّ الحديث على الفرق بينهما، وكون هذا هو العدد أو أقل ليس هو هذا محل الشاهد، وإنما قَوّى صحة التّفريق ما بين النبي والرسول أنه في الحديث الإختلاف في العدد، ودِلالة الآية والحديث الذي قبله يقوي الاستدلال بحديث أبي ذر هذا. المقصود دَلَّت هذه على ترجيح قول من قال إنَّ الرسول والنبي مختلفان وهذا ظاهر في الاستدلال كما ترى. ما الفرق بينهما في التعريف؟ اختلف العلماء في تعريف النبي والرّسول فقال مِمَّنْ قَالَ بالفرق بينهما: & فقالت طائفة كثيرة من أهل العلم: إنّ النبي: هو من أُوحِيَ إليه بشرع ولم يُؤْمَر بتبليغه. والرسول: من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمِرَ بالتبليغ. فجعلوا الفرق ما بين النّبي والرّسول هو الأمر بالتبليغ. & وقالت طائفة أخرى، وهو قولٌ أيضا مشهور عند عدد من المحققين وهو الذي اختاره ابن تيمية رحمه الله في أول كتاب النبوات أنَّ الرسول والنبي يشتركان في وقوع الإرسال عليهما. الرسول مُرْسَلْ والنبي مُرْسَلْ لظاهر قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} ، فالرسول مُرْسَلْ والنبي أيضا مُرْسَلْ لكن جهة الإرسال مختلفة، قال: الرسول: يُرْسَلْ إلى قوم يخالفونه في أصل الدين فيأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك.   (1) سبق ذكره (79) (2) البخاري (4981) / مسلم (402) (3) سبق ذكره (269) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وأما النبي: فإنه يُرْسَلْ إلى قوم موافقين يُجَدِّدُ بإرساله شِرْعَةَ الرسول الذي أُمروا باتباعه. مثل أنبياء بني إسرائيل كلما مات نبي خلفه نبي وكُلُّهُم تَبَعْ لموسى عليه السلام. وهذا التعريف أو هذا التقريب لتعريف الرسول والنبي هذا أقرب للدليل وأوضح في فهم الأدلة الشرعية. ولذلك نقول هو المختار في أنَّ: النبي مُوحَاً إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه إلى قوم موافقين أو لم يُؤْمَرْ بالتبليغ. قد يكون مُقْتَصِرْ على نفسه وقد يُؤْمَرْ بالتبليغ إلى من يوافقه. يوافقه في أي شيء؟ في اتِّبَاعِ الرسول الذي يَتَّبِعُهُ النبي ويَتَّبِعُهُ الناس. وأما الرسول فمن أوحي إليه بشرع أو بكتاب وأُمِرَ بإبلاغه أو بتبليغه إلى قوم مخالفين له يعني في أصل الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 [المسألة الثانية] : الأنبياءُ والرُّسُلُ درجات في الفضل والمنزلة عند الله - عز وجل -، وهذا التفضيل جاء في قوله تعالى في سورة البقرة {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] ، فنُؤْمِنُ بأنَّ الرسل والأنبياء بعضهم أفْضَلُ من بعض، وليسوا على مرتبة واحدة. أوّل الأنبياء آدم عليه السلام، وآخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. وأوّل الرسل نوح عليه السلام، وآخر المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. فآدم نبي كما جاء في الحديث الصحيح «آدم نبي مكلّم» وينطبق عليه حد النبي لأنَّ الله - عز وجل - أوْحَى إليه وكَلَّمَهُ سبحانه وتعالى. من الأنبياء والمرسلين أولو العزم من الرسل وهم الذين جاء فيهم قول الله - عز وجل - {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] . واختلف العلماء في أولي العزم من الرسل من هم؟ على أقوال كثيرة: القول الأول: أنَّ كل رسول هو من أولي العزم، ومعنى أُولِيْ العَزْمْ يعني أولي الصبر والمصابرة والجَلَدْ والتجلد في دين الله - عز وجل -، فهم أهل عزم قوي في مواجهة أعداء الله وأهل صبر ومصابرة. فهذا القول أنَّ كل رسول هو من أولي العزم. ما معنى قوله إذاً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ؟ قالوا {مِن} هنا ليست تبعيضية بل بيانية، مثل ما تقول الرجل من القوم. يعني فاصبر كما صبر أولو العزم من الناس؟ لا؛ من الرسل. والرسل كلهم على هذا، فتكون {مِنَ} هنا على هذا التفسير بيانية لا تبعيضية. 2 - القول الثاني: أنَّ أولي العزم من الرسل هم ثمانية عشرة رسولاً وهم المذكورون في سورة الأنعام. 3- القول الثالث: أنَّ أولي العزم من الرسل خمسة وهم المذكورون في سورة الأحزاب وسورة الشورى، قال - عز وجل - {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13] ، فَجَمَعَ خمسة الرسل وهم المذكورون أيضاً في سورة الأحزاب. وهذا القول بأنهم الخمسة هؤلاء، هو الأظهر والأرجح ويَدُلُّ له ويُقَوِّيه أنَّ هؤلاء الخمسة هم الذين يستغيث الناس بهم يوم القيامة من شدة الحساب أو من شدة هول الموقف وطول المُقَامْ في طلب تعجيل المحاسبة والقضاء بين الخلق، أعاننا الله جل علا على شدائد ذلك اليوم، في حديث الشفاعة الطويل المعروف، يأتون آدم ثم قال يأتون نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم. آدم خَرَجَ لأنه ليس برسول بقي الخمسة لأنهم مرسلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 [المسألة الثالثة] : الأنبياء يُعْطِيهُم الله - عز وجل - آيات، فنُؤْمِنْ بالأنبياء ونؤمن بآيات الأنبياء. وهذه الآيات كما جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما بعث الله من نبي إلا وأعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر» (1) . فما يؤتيه الله - عز وجل - المرسلين أو الأنبياء للدِّلالة على صدقهم في دعوى الرسالة أو دعوى النبوة، هذه تسمّى آيات وتسمّى براهين في الكتاب والسنة. وأما تَسْمِيَتُهَا معجزات فهذا لفظٌ حادثٌ بعد ظهور علم الكلام وخاصَّةً من جهة المعتزلة. ولا نمتنع من إطلاقه؛ لكن يُقَيَّدُ بتقييده الشرعي الصحيح؛ لأنها هي معجزات لكنها آيات وبراهين والفرق بينهما: - أولاً: أنَّ الآية والبرهان جاء الدليل بها، والمعجز لم يأت الدليل به. - ثانياً: أنَّ اللفظ (معجزة) فيها إجمال؛ ووجه الإجمال يقال معجزة لمن؟ هل هي معجزة للإنسان؟ معجزة للقوم الذين بُعِثَ فيهم النبي، أو معجزة للناس أجمعين؟ أو معجزة للجني والإنس؟ أو معجزة للجن والإنس والملائكة؟ فهذه فيها إجمال ولذلك ما جاء بها الدليل. ومن أطلقها اختلفوا فيها، هذا الإعجاز، هل هو إعجاز للناس أو إعجاز لأهل زمانهم دون غيرهم؟ والصحيح عند أهل السنة والجماعة أو الصحيح في قول أكثر أهل السنة والجماعة أنّ المعجزة هي ما صار الإعجاز به للجن والإنس جميعاً لا لطائفة منهم، فهي معجزة للجن والإنس جميعاً لا يستطيعون أن يأتوا بمثل ذلك. ودلّ على هذا قول الله - عز وجل - {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] . وتسميتها آية وبرهان، هي آية يعني دليل واضح يُلزِمْ بنتيجته وهو قبول دعوى من كانت معه هذه الآية، وبُرهان وهو الدليل الواضح الجلي الذي هو كضوء الشمس في وضوحه ونصاعته وجلائه مما لا يُجَادَلُ فيه. وهذا هو الذي جاء في القرآن بتسميتها آيات وبراهين {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12] ، وقال - عز وجل - أيضا {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:12] ، وقال - عز وجل - {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:22-23] ونحو ذلك. فهي إذاً في القرآن والسنة مُسَمَاة آيات وبراهين، وهذه التسمية شرعية، ولا يَرِدُ عليها ما يَرِدُ على لفظ المُعْجِزْ مما ذكرناه لك. الآيات والبراهين تختلف، فهي معجزات وهي تختلف، وثَمَّ بحث طويل فيها ربما يأتي في موضع آخر.   (1) سبق ذكره (311) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 [المسألة الرابعة] : معنى الإيمان بالأنبياء والمرسلين أننا نؤمن بأنَّ الله - عز وجل - بَعَثَ وأَرْسَلَ مُرْسَلين وأيَّدَهُم وكانوا أصلح أهل زمانهم وأيدهم بالآيات والبراهين الدّالة على صدقهم، وأنهم أتقى الخلق، أتقى الناس لربهم، وأعرف وأعلم الناس بربهم - عز وجل -. فنؤمن بكل نبي عَلِمْنَاه أو لم نعلمه؛ لأنَّ الأنبياء منهم من قُصَّ علينا والمرسلين ومنهم من لم يُقَصَّ علينا، قال - عز وجل - {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] . فإذاً الإيمان بالأنبياء والمرسلين على درجتين: 1- إيمان إجمالي: وهو الإيمان بكل رسول أرسله الله - عز وجل - وكل نبي، علمنا أو لم نعلم. 2- إيمان تفصيلي: بأنَّ كلَّ من عَلِمْنَا رِسَالَتَهُ ونُبُوَّتَهُ بالدليل والقرآن فهذا يجب علينا أن نؤمن به وأن نتولاه وأن نحبه؛ لأنَّ (الأنبياء إخوة لِعَلَّاتْ دينهم واحد) ، فكلُّهم أكمل الخلق توحيداً وإيماناً بالله - عز وجل - وطاعة له وخوفا منه - عز وجل -. ثُمَّ ثَمَّ إيمان خاص بهذه الأمّة، أُمَّةْ الإجابة أُمَّةْ الدعوة، أنه يجب على الجميع الإيمان بمحمد بن عبد الله الهاشمي القرشي الذي أرسله الله - عز وجل - للنّاس أجمعين؛ بل للجن والإنس أجمعين، فيجب الإيمان به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأنَّهُ بُعِثَ بالإسلام، وأنَّ الإسلام نَسَخَ ما عداه من الأديان، وأنَّ كلّ دعوى للدين غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهي باطلة وردّ، {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، فبه خُتِمَتْ النبوة وأعطاه الله - عز وجل - الإسلام وأنزل عليه القرآن حجة له ولأمته إلى قيام الساعة. ومن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم تحقيق شهادة أنَّ محمداً رسول الله وهي: طاعَتُهُ فيما أمر وتصديقه فيما أخبر والانتهاء عما نهى عنه وزجر وأن لا يُعبد الله - عز وجل - إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 [المسألة الخامسة] : من كَذَّبَ برسول بعد العلم به فإنه مُكَذِّبٌ بجميع الأنبياء والمرسلين، فمن قال أُكَذِّبُ بفلان من الرسل وأومن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه من كَذَّبَ برسول فقد كذّب بجميع المرسلين إذا بلغه العلم وقامت عليه الحجة، قال - عز وجل - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء105-106] ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فنحن اتَّفَقْنَا على أنَّ نوح عليه السلام كان أوّل رسول، قال - عز وجل - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} لأنهم لمَّا كَذَّبُوا نُوحاً فإنهم كَذَّبُوا بِتَكْذِيبِهم نوحاً جميع المرسلين؛ لماذا؟ لأنّ دينهم واحد وهو توحيد الله - عز وجل - والبراءة والكفر بالطاغوت، كذلك قوله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ، وكذلك قوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:150] إلى آخره. (1)   (1) انتهى الشريط الثالث والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 : [[الشريط الرابع والعشرون:]] ننتقل إلى التي بعدها، قال (وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)   قوله (وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) خَصَّ إنزال الكتب بالمرسلين لأنهم هم الذين يؤتيهم الله - عز وجل - الكتاب. وأنزل الله - عز وجل - كُتُبَاً كثيرة منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم، وقد أمر الله - عز وجل - عباده أن يؤمنوا بكل كتاب كما قال سبحانه {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى:15] الآية، والإيمان بالكتب ركن الإيمان كما ذكرنا وأَصْلٌ من أصوله، فلا يصحّ إيمان أحد حتى يؤمن بالكتب التي أنزل الله - عز وجل -. وتحت هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 [المسألة الأولى] : الكتاب الذي أنزله الله - عز وجل - هو وَحْيُهُ سبحانه وتعالى لرسوله الذي أعطاه الله - عز وجل - ذلك الكتاب، ووحيه: - قد يكون بواسطة الرسول الملكي إلى الرسول البشري. - وقد يكون أنّ الله - عز وجل - أَوْحَى إليه مباشرة. فوَحْيُ الله - عز وجل - بِكُتُبِهِ ينقسم كما قال الله - عز وجل - في آخر سورة الشورى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] ، فَجَعَلَها ثلاثة أقسام: @ فمنها ما كتبه الله - عز وجل - بيده كما هي صحف موسى عليه السلام والتوراة خَطَّهَا الله - عز وجل - بيده الكريمة العظيمة - جل جلاله - (1) . @ ومنها ما نزل به جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. كُتُبُ الله - عز وجل - من جهة أنها كلامه مُتَّفِقَة -يعني كلها كلام الله - عز وجل --، فالله سبحانه وتعالى تَكَلَّمَ بما تَكَلَّمَ به وسَمِعَهُ جبريل منه فأنزله على رسوله. تَكَلَّمَ بالقرآن فنزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم. وتَكَلَّمَ بالإنجيل فنزل به على عيسى. وتكلم بالتوراة - عز وجل - فنزل بها على موسى عليه السلام.   (1) البخاري (6614) / مسلم (6912) / أبو داود (4701) / ابن ماجه (80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 [المسألة الثانية] : كُتُبُ الله - عز وجل - هي من آياته التي أعطاها الرسول، يعني لأنَّهَا من الوحي. وموضوعات الكتب مختلفة: - فمنها ما هو مواعظ ورقائق. - ومنها ما هو شريعة. - ومنها ما هو خَبَرْ وأَمْرْ ونَهِيْ -يعني أخبار وإنشاءات وأوامر ونواهي، فهي مختلفة في موضوعاتها. الأنبياء دينهم واحد وشرائعهم شتى: فمن جهة التوحيد الكتب متفقة، والأنبياء دينهم واحد في توحيد الله - عز وجل -. واتفاق الكتب والأنبياء في التوحيد يُعْنَى به شيئان: الأول: أنّ أَصْلَ التوحيد وهو عبادة الله - عز وجل - وحْدَهُ، ورَدُّ عِبَادَةِ غيره، والكفر بالطاغوت، والبراءة من الشّرك وأهله، هذا قَدْرٌ مشترك في رسالة جميع الأنبياء، قال - عز وجل - {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] ، يعني من المرسلين {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ، فهذا قدْرٌ مشترك بين جميع الأنبياء والمرسلين، والكتب دَلَّتْ على هذا وحضَّت عليه وأمرت به. 2 - الثاني: هو أصول الإيمان الستة، أركان الإيمان الستة وهي الإيمان بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وهذا مُتَّفَقٌ عليه أيضاً بين الأنبياء لا خلاف فيه. وذلك أنَّ جهة الإيمان بهذه الأشياء الخَبَرْ، والخبر لا يُنْسَخْ ولا يُكْذَبُ فيه والله - عز وجل - إذا أخبر نبياً بشيء من أمر الغيب فهو على ذلك. فالأنبياء في كتبهم وما أُرْسِلُوا به متفقون على هذين الأصلين العظيمين: - توحيد الله - عز وجل - على نحو ما ذكرت لك. - وأمور الغيب الستة هذه، أمور الإيمان الستة. ولذلك معنى قوله «الدين واحد» يعني هذين الأصلين. والكتب تختلف في الشرائع: تختلف في القَصَصْ، ما يُقَصُّ به في كتابٍ يكون مُفَصَّلَاً وكتاب يكون مختصراً. تختلف في الشرائع والأمْرْ والنَّهْيْ، تكون التوراة شريعتها شديدة وفيها قُوَّةْ في الطَّهَارة وفي الصلاة وفي الجهاد وفي أشياء كثيرة، فهي شريعة فيها الشِدَّة ولا يَصْبِرْ عليها إلا صادق ولذلك ما صَبَرَ عليها بنو إسرائيل. والإنجيل فيه الرقة والوعد والتسامح وإلى آخره وتحليل بعض ما حَرَّمَ الله - عز وجل - على بني إسرائيل. يعني أنَّ موضوعات كتب الله - عز وجل - مختلفة، والله سبحانه وتعالى يُوحِي بما يشاء وفق حكمته - عز وجل - وَوِفْقَ ما يريد من عباده سبحانه وتعالى. فشرائع الأنبياء شتى، والكتب مختلفة باختلاف الشرائع، وأيضاً مختلفة فيما قَصَّ الله - عز وجل - في تلك الكتب لأنَّ القَصَصْ للعبرة والناس يختلفون في الأمم بما يُصلحهم من أمور القصص وما يُحْدِثُ عندهم العبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 [المسألة الثالثة] : الإيمان بالكتب على نحو ما ذكرنا سالفاً في الإيمان بالملائكة والنبيين ينقسم إلى: - إيمان إجمالي. - وإيمان تفصيلي. @ الإيمان الإجمالي: يجب على كل أحد أن يؤمن بِكُلِّ كتابٍ أنزله الله - عز وجل - كما قال سبحانه {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15] ، وقال - عز وجل - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، فكل كتاب يجب على العباد أن يؤمنوا به عَلِمُوهُ أو لم يعلموه، فنؤمن بالتوراة ونؤمن بالإنجيل ونؤمن بالزبور ونؤمن بالقرآن ونؤمن بكل كتاب أعطاه الله - عز وجل - أنبياءه -يعني رسله-. @ الإيمان التفصيلي: وهو أنَّ كل كتاب عَلِمْناهُ في الدليل، كل كتاب سَمِعَ المسلم بِذِكْرِهِ في كتاب الله - عز وجل - أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يؤمن به على وجه التفصيل، التوراة ذُكِرَت، صحف موسى ذُكرت، صحف إبراهيم عليه السلام ذُكرت، الزبور {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (1) الزبور ذُكِرْ، الإنجيل ذُكِرْ، وهكذا، فهذه نؤمن بها على وجه التفصيل. فَكُلُّ كتاب ذَكَرَهُ الله - عز وجل - في كتابه وجب علينا الإيمان به تفصيلاً. ثُمَّ الإيمان بالكتب ثَمَّ مرتبة واجبة وأكيدة وهي آكدها وأعظمها وهي الإيمان بهذا القرآن، الإيمان بكتاب الله - عز وجل - الخاتَمْ الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والإيمان بالقرآن يشمل أشياء: 1- أولاً: الإيمان بأنَّ القرآن كلام الله - عز وجل - وليس بقول البشر؛ كلام الله - عز وجل - أوحَاهُ إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم. 2- ثانياً: أنَّ القرآن ناسخٌ لما قبله من الكتب فليس لأحَدٍ أن يَتَّبِعَ غير القرآن؛ بل الواجب أن يُصَدَّقْ بكل خبرٍ في القرآن ويُعْتَقَدْ، وأن يُعْمَلْ بكل أمرٍ ونهيٍ جاء في القرآن، وذلك بامتثال الأمر وانتهاء النهي. 3- ثالثاً: أن يُعْلَمْ أنَّ القرآن جعله الله - عز وجل - مهيمناً على الكُتُبِ وشاهداً عليها، كما وصفه بذلك في سورة المائدة، وهذا يدلّ على أنَّ الناس واجب عليهم ألا يلتفتوا عن هذا القرآن إلى غيره متى ما سمعوا هذا القرآن. لذلك الآن الكتاب من جهة السماع بالقرآن تكاد الحجة قامت من جهة السماع لهذا الوحي وأنه كلام الله - عز وجل - على أكثر الخلق.   (1) النساء:163، الإسراء:55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 [المسألة الرابعة] : الكُتُبُ التي أنزلها الله - عز وجل - على المرسلين اختلف العلماء هل يدخل فيها الصحف، أم أنَّ الكتب غير الصحف؟ على قولين: - من أهل العلم من قال: الصحف هي الكتب. - ومنهم من قال: لا؛ الصحف غير الكتاب. ويَتَّضِحْ الفرق في صحف موسى عليه السلام والتوراة، فإنَّ الله - عز وجل - أعطى موسى عليه السلام صُحُفَاً وأعطاه أيضاً التوراة، فهل هما واحد أم هما مختلفان؟ خلاف: - والقول الأول: أنهما واحد لأنَّ صحف موسى هي التوراة وهي التي كتبها الله - عز وجل - بيده. - القول الثاني: أنَّ الصحف غير الكتب، وهذا القول هو الصحيح وهي أنَّ كتب الله - عز وجل - غير الصحف. ويدل على هذا الفرق أنَّ الله - عز وجل - أعطى موسى صُحُفَاً عليه السلام وكَتَبَ له ذلك في الألواح كما قال {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] ، وأوحى الله - عز وجل - إليه بالتوراة أيضاً. فقوله {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] : صحف إبراهيم: ذَكَرَ الله ما فيها في سورة النجم قال {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:37-41] ، إلى آخره، فهذه كانت مما في صحف إبراهيم عليه السلام. وفي صحف موسى: ما كتبه الله - عز وجل - له. وأما التوراة: فهي وحْيٌ وكتَابٌ مستقل غير صحف موسى عليه السلام أوحاها الله - عز وجل - إليه. صحف موسى بالذات وَقَعَ فيها الإشتباه من جهة أنَّهُ ظاهر القرآن أنَّ الله - عز وجل - كَتَبَ الصحف لقوله {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} ، وجاء في الحديث أنَّ الله - عز وجل - كتب التوراة لموسى بيده، فمن هذه الجهة وقع الاشتباه، هل هما واحد لأجل أن هذه كُتِبَتْ وهذه كُتِبَتْ. والأظهر كما ذكرتُ لك من سياق الآيات في سورة الأعراف أن الكتب غير الصحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 [المسألة الخامسة] : يدخل في الكلام على الكتب الكلام على القرآن، وعلى إعجاز القرآن، وعلى بحث هذه المسألة؛ لأنَّ القرآن آية محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قَدَّمْنَا لك تفصيل الكلام على إعجاز القرآن في درس مستقل (1) أظن عند قول الشيخ الطحاوي رحمه الله في أول الكلام (فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) إلى قوله (عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ. وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) ، ومسألة إعجاز القرآن ومعرفة القرآن ووجه كونه آية وما فيه، هذا من أعظم المسائل في هذا الباب. إذا تبين ذلك فنقول: الإيمان بأركان الإيمان الستة -إذا أخرجنا الإيمان بالقَدَرْ- فإنَّ بعض أهل العلم يسميها أصول الدين الخمسة، وذلك لمجيئها في أكثر الآيات دون ذكر القَدَرْ، والقَدَرْ جاء منفصلاً في القرآن وجاء مع بقية الأركان في السنّة. هذه الأصول الخمسة تَبِعَ الإيمان بها أنَّ أهل البدع أصَّلُوا أُصُولَاً في مقابلة هذه الأصول الخمسة: فجاء المعتزلة مع إيمانهم بِجُمَلِ هذه الأصول الخمسة لكن جعلوا لهم أصولاً خمسة لتُمَيِّزَهُمْ عن غيرهم، وهذه المعروفة بالأصول الخمسة عند المعتزلة، وكَتَبَ فيها عبد الجبار كتابه الأصول الخمسة، ويعتني بها المعتزلة والإباضية والزيدية والرّافضة. الأصول الخمسة هذه هي: 1- أولا: التوحيد. 2- والثاني: العدل. 3- والثالث: الوعد والوعيد. 4- والرابع: المنزلة بين المنزلتين. 5- والخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والرافضة يعتقدون مُعْتَقَدْ المعتزلة في الغالب، فجعلوا لهم أصولاً أربعة في مقابلة ذلك وهي: 1- التوحيد. 2- والعدل. 3- والنبوة. 4- والإمامة. يُدخلون في هذه الأصول عقائدهم في تدريس عقائدهم المخالفة لما دَلَّ عليه الكتاب والسنة. وهذه الجملة تحتاج إلى تفصيل طويل يمكن أن ترجع لها في الشرح أو في المطولات. المقصود أن لفظ الأصول الخمسة أو أركان الإيمان الستة أو الخمسة -يعني بخلاف الإيمان بالقدر- هذه جُعِلَ في مقابلتها أشياء وَضَعَهَا أهل البدع للتعليم وللتميُّزْ لِيُعَلِّمُوا على أساسها وليتميزوا عن غيرهم. ولاشك أنَّ الذي دلّ عليه الكتاب والسنة وقول سلف الأمة إلى أنْ ابتدعت المعتزلة بدعتها هو أنّ أركان الإيمان ستة، ولا دخل لتلك المسائل التي ذَكَرُوهَا من الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذه لا أصل لها في الكتاب والسنة؛ يعني في كونها من أركان الإيمان أو من أصول الدين. في هذا القدر كفاية إن شاء الله تعالى. ونقف عند قولنا (وَنُسمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمينَ مُؤْمِنينَ) . فيه مسائل -ذكّرني بعض الإخوان بها جزاهم الله خيراً- وهي تحتاج منا إلى أنكم تقتفون أثر ما ذكرناه في الملائكة وهو ما في كل مسألة في الإيمان بالكتب والإيمان بالأنبياء ثَمَّ مسألتان: المسألة الأولى: تفاضل الإيمان بأجمعه بتفاضل الإيمان الأنبياء والمرسلين. هذه مسألة. (2) المسألة الثانية: أثر الإيمان بالمرسلين جميعاً على الإيمان العام. كذلك في الكتب تأتيك الفقرتان جميعاً: تفاضل الإيمان بالكتب، والثانية أثر الإيمان بكتب الله - عز وجل - على الإيمان. يمكن أنتم تستنتجونها وتبحثونها إن شاء الله تعالى. نكتفي بهذا القدر، نستودعكم الله.   (1) سبق ذكره (123) (2) - راجع الشريط 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نُجيب على بعض الأسئلة . الأسئلة: س1/ قال هل نفهم من كلام المؤلف في قوله (وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أنَّ الأنبياء لا يُعطونَ كُتُبَاً مُنَزَّلَة؟ وهل كلّ رسول لابد أن ينزل عليه كتاب؟ نرجو الإفادة وجزاكم الله خيرا. ج/ ذكرنا في شرح كلام الطحاوي رحمه الله أنّ الكتب يُعْطِيها الله - عز وجل - الرسل حُجَّةً لهم، هذا هو الأصل، وقد يعطيها نبيا من الأنبياء، قال - عز وجل - {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (1) ، وداوود في أحد الأقوال أنَّهُ كان نبياً في بني إسرائيل ولم يكن رسولاً. المقصود أنَّ الكتب الأصل العام فيها أنه يعطيها الله - عز وجل - رسله؛ لأنَّ الكتاب حجة وفيه شريعة هذا هو الأصل في ذلك، فنؤمن بكتب الله - عز وجل - التي أعطاها أنبياءه ورسله؛ لكن النفي بأنَّ النبي لا يُعْطى كتاب أصلاً هذا يحتاج إلى دليل. س2/ ما حكم من أنكر الملائكة أو الجن أو المهدي والدجال؟ وهل من أنكر واحداً من هذه الثلاث كافر؟ وما وجه التفريق بين تكفير من أنكر الملائكة وعدم تكفير من أنكر المهدي أو الجن مع أنَّ كلها من الغيب وثابتة بالنص؟ ج/: ذكرنا أنَّ من أركان الإيمان، الإيمان بالملائكة. وضبطنا الإيمان بالملائكة الذي هو ركن الإيمان ومن أنكره كَفَر وهو الإيمان بوجود الملائكة إجمالاً، فإذا آمن بوجود الملائكة لله - عز وجل - فهو مؤمن، فإذا كان سَمِعَ باسم جبريل عليه السلام وأنه ينزل بالوحي وجب عليه الإيمان بذلك. فرجعت المسألة إلى أنَّ من أنكر الملائكة فلم يدخل في عقد الإيمان أصلاً؛ لأنَّ من أركان الإيمان الإيمانُ بالملائكة، ويدلّ أيضا على أنَّ التكذيب بأي خبر جاء في القرآن فإنه تكذيب بالقرآن، فإذا كَذَّبْ بجبريل، كذّب بميكائيل ونحو ذلك، كذّب بملك الموت، كذّب بأي ملك جاء ذكره في القرآن فيُعرَّف بالآية، فإن أصرّ فهو مكذب بالقرآن فيكون كافرا من هذه الجهة. وكذلك الجن فقد جاء ذكرهم في القرآن فالإيمان بالجن واجب والتصديق بخبر الله - عز وجل - بذلك واجب ويدخل الإيمان بالجن في الإيمان بالقرآن، الإيمان بالكتب؛ لأنَّ معنى الإيمان بالكتب لله - عز وجل - أن يعتقد العبد أنها حق وأنَّ الله - عز وجل - أنزل كتبه وأنَّ ما فيها حق، وخاصة الإخبار فإنَّ الأنبياء لم يختلفوا فيما أخبروا به لأنَّ الخبر مداره الصدق، أما الشرائع فتختلف، العقيدة واحدة. ذكرنا لكم أنَّ الأنبياء اجتمعوا على ما أَخْبَرُوا به من الإعتقاد بالله - عز وجل - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه اجتمعت عليها الأنبياء فدينهم واحد، لا فرق بين نبي ونبي، وبين رسول ورسول في أصول الدين، في تحقيق التوحيد، في الإسلام، الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا أصل عام اجتمعت عليه الأنبياء، واجتمع عليه المرسلون، وكذلك أركان الإيمان الستة، هذه اجتمعت عليها الأنبياء؛ لكن الشرائع تختلف. من الإيمان بالكتب الإيمان بالقرآن والقرآن فيه الخَبَرْ عن الغيب ومنه الخبر عن الجن، فالجن أنزل الله - عز وجل - فيهم آيات كثيرة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1-2] ، وقال - عز وجل - في آية الأحقاف {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، وقال - عز وجل - {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سيإ:41] ، وقال سبحانه {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] ، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر الجن، {قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] ، فالإيمان بالجن واجب؛ الإيمان بوجودهم وبما أخبر الله - عز وجل - عنهم من صفتهم في كتابه، وبما صحّ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أنكر وجود الجن كفر لأنه كذَّبَ القرآن، فَيُعَرَّّْف -إذا كان مثله يجهل- يُعَرَّفْ بما جاء في القرآن من الآيات، فإذا كذب بوجود الجن مع ذكرهم في القرآن فإن تكذيبه يعود إلى إنكار وجحد القرآن فيكون كافراً بذلك. أما المهدي الذي ذَكَرْ فليس الكلام فيه كالكلام في الملائكة والجن؛ لأنَّ المهدي إنما جاء في السنة، ومجيئه في السنة هو من جنس الأخبار التي تكون مما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، يتأوّلها المتأولون، ولا تكفير مع احتمال التأويل.   (1) النساء:163، الإسراء:55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 مثل من تَأَوَّلَ الصفات، ومثل من تأوّل بعض الحقائق بعض الأسماء والأحكام وأشباه ذلك فإنه لا تكفير بذلك. أحاديث المهدي كثيرة أكثر من خمسين حديثا متنوّعة، قال طائفة من أهل العلم تبلغ درجة التواتر المعنوي لا التواتر اللفظي؛ لأنها مختلفة في ألفاظها. لكن وجود المهدي وأنه سيخرج في آخر الزمان، وأن اسمه محمد بن عبد الله، وأنه من ذرية الحسن، وأنَّ من صفاته كذا وكذا، وأنه يصلحه الله - عز وجل - في ليلة، وما أشبه ذلك من الأخبار، هذا جاء في السنة فجعله طائفة من أهل العلم مما يبلغ درجة المتواتر المعنوي لا المتواتر اللّفظي. وأحاديث المهدي تأوّلها جماعة ومنها ما لم يُصَحَحَ، ومنها ما صُحِّحْ، فالمقصود أنها ليست مثل الكلام في الجن والكلام في الغيبيات التي جاءت في القرآن وهي التي تكون متواترة بدِلالة قطعية، فلذلك من أنكر المهدي أو أنه سيخرج أو قال: لا مهدي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فإنه يقال أخطأ وخالف ما جاء في الأحاديث ولا يحكم عليه بالكفر. وقد قال بهذا القول جماعة من المنتسبين إلى العلم وأخطؤوا في هذا خطأً شنيعا؛ لأنَّ الأحاديث كثيرة متعددة المخارج في السنن والمسانيد وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ.   قال رحمه الله (وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ.) يريد الطحاوي رحمه الله أنَّ أهل السنة والجماعة يُسَمُونَ أهلَ القبلة وهم من تَوَجَّهَ في صلاته إلى الكعبة بيت الله الحرام، يُسَمُّونَهُم مسلمين مؤمنين؛ لأنّ هذا هو الأصل، فاستقبال القبلة دليل على تميُّزِ من استقبلها عن المشرك الوثني الأصلي؛ لأنه لا يستقبل القبلة يعني لا يُصَلِّي مثل مشركي قريش، وعن اليهودي والنصراني لأنهم يستقبلون جهة الشّرق، فالذي يستقبل الكعبة هذا يُسَمَّى مسلماً كما جاء في الأحاديث الصحيحة «من أكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا له ما لنا وعليه ما علينا» (1) . لكن هذا ليس وصفاً مانعاً من خُروجه من الدّين، لهذا اشترط له شرطاً فقال (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) يعني لو أنْكَرُوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو شيئاً مما جاء به صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يُسَمَونَ مسلمين مؤمنين، وقال (وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) يعني إذا كانوا لم ينكروا شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ويريد بهذه الجملة أيضاً مخالفة الخوارج والمعتزلة ومن شابههم ممن يكفرون بالذنوب ويسلُبون عن صاحب الكبيرة والمعصية، يسلبون عنه اسم الإسلام أو اسم الإيمان. وتحت هذه الجملة مسائل:   (1) البخاري (393) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 [المسألة الأولى] : قوله (أَهْلَ قِبْلَتِنَا) هذه الكلمة (أهل القبلة) لم ترد في النصوص في تحديد المراد بها؛ يعني في أن يكون لها اصطلاح شرعي؛ ولكن جاء في النص وفي الأحاديث ذِكْرُ من استقبل القبلة، ولهذا جُعِلَ هذا الإسم (أهل القبلة) بمعنى من استقبل القبلة، فكل من استقبل القبلة في صلاته فهو من أهل القبلة. وسبب هذه التسمية (أهل القبلة) هوما جاء في الأحاديث في الصحيح في البخاري وفي غيره «من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا» ، (استقبل قبلتنا) لأنه تميز باستقبال القبلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار إذْ يُصَلُّونْ وعن اليهود والنصارى إذ قبلتهم مختلفة. و (أهل القبلة) إذاً يشمل كل أهل الأهواء، كل الفِرَقْ الثلاث والسبعين التي أخبر بها وعنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» (1) فهذه الفرق الثلاث وسبعين كلها تدخل عند أهل العلم تحت هذا الاسم (أهل القبلة) . ويدخل تحت هذا الاسم أيضاً المنافقون؛ لأنهم كانوا يستقبلون القبلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واسم الإسلام الظاهر ينطبق عليهم. لهذا اسم أهل القبلة كاسم المسلم ينطبق على من استقبل القبلة بصلاته ولو كان من أهل البدع أو من أهل الأهواء أو ممن يعتقد في الباطن اعتقاداً مُكَفِّراً مناقضاً للدين، فالأصل فيه أنه من أهل القبلة. وهذا يتّضح بأن نقول أهل القبلة لفظ يُطْلَقُ على طائفتين: (2) الطائفة الأولى: هم أهل الإسلام الصحيح الذين كانوا على مثل ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا يدخل فيه -يعني هذه الطائفة- يدخل فيها دخولاً أوَّلِيَّاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتبع التابعين وكل من كان على منهجهم. فأولى الناس بهذا الوصف من كان على عقيدة الصحابة رضوان الله عليهم، وما أعظم قوله صلى الله عليه وسلم «من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تُخفروا الله في ذمته» (3) . ويدخل في هؤلاء من تبعهم بإحسان على عقيدة أهل السنة والجماعة من أهل التوحيد الذين حَقَّقُوا كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلم يعبدوا إلا الله ولم يُحكِّمُوا إلا شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء في الحقيقة هم أهل القبلة لأنهم أولياء البيت، وهم الحقيقون بوصف المتقين، قال - عز وجل - لمَّا ذكر المشركين في سورة الأنفال قال {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} [الأنفال:34] ، يعني أولياء البيت {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] ، فأولياء البيت الحرام؛ أولياء القبلة يعني الذين يحبونها حقيقة وينصرونها وثَمَّ ولَايَةْ هم أهل البيت، هم أهل القبلة. الطائفة الثانية: هم كل منتسب إلى الإسلام سواءٌ كان فيه مُكَفِّرٌ باطناً أم ليس فيه مُكَفِّرْ، فيدخل في ذلك أهل البدع والأهواء من فرق الضلال كالمعتزلة والخوارج والمرجئة والقدرية وإلى آخره وغلاة الصوفية، كل من خالف عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك يدخل فيه المنافقون. فإذاً اسم الإسلام، المسلم، واسم أهل القبلة يشمل المبتدعة وأهل الأهواء والعصاة، ويشمل المنافقين في دار الإسلام؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يميز ما بين المنافق وغير المنافق في الوَلاية الظاهرة؛ يعني في كونه له ما له وعليه ما عليه؛ لأنَّ المنافق له حكم الإسلام ظاهراً؛ لأنه أظهر الإسلام، وكذلك أهل البدع والأهواء لهم حكم المسلم ظاهراً لأنَّهُم أَظْهَرُوا الإسلام واستقبلوا القبلة. إذا تبين ذلك، فإذاً هذا الوصف أهل القبلة ليس وصفاً لطائفة واحدة؛ بل هو وصف متميّز ومُتَمَايِزٌ أهله فيه، فالوَلَايَةْ لأهل القبلة والنُّصرَة لأهل القبلة والمحبة لأهل القبلة ليست على درجة واحدة: - فكل من كان مُتَحَقِّقَاً بوصف الطائفة الأولى فله الوَلاية الخاصة لمن كان على مثل ما عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. - ومن كان من أهل البدع والأهواء فله حكم الإسلام وله حكم أنه من أهل القبلة، فلا يُسْتَباحْ دمه ولا يُكفَّر ولا يُخرَجْ من الدين إلا إذا أتى مُكَفِّراً. فإذاً هذا الاسم واللقب أهل القبلة هذا فيه نوع اختلاط، وتعلمون أنَّ زمن المؤلف وما قبله لم يكن فيه إلا ما ذكرنا لك من هاتين الطائفتين: - طائفة من كان على منهاج أهل السنة والجماعة. - والطائفة الثانية طائفة أهل البدع والأهواء والمنافقون.   (1) سبق ذكره (5) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع والعشرين. (3) البخاري (391) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 [المسألة الثانية] (1) : ظَهَرَ بعد زمان المؤلف المشركون -الشرك الأكبر- الذين يعبدون مع الله غيره ويدعون غير الله ويستغيثون بغير الله ويذبحون لغير الله ويعبدون غير الله - عز وجل -. فهل هؤلاء يصدق عليه اسم أنَّهم من أهل القبلة أم لا يصدق عليهم أنهم من أهل القبلة؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: ليسوا من أهل القبلة لأنَّ صلاتهم باطلة؛ لأنَّ المشرك لا تُقبَلُ صلاته، فيكون استقباله للقبلة لَغْواً؛ يعني ليس من أهلها، كما كان المشرك من قريش، ومن العرب يتوجه إلى الكعبة بالطواف ويؤدون عندها بعض العبادات ونحو ذلك، ولكنهم لم يكونوا موحدين فلم يتصفوا بوصف أنهم يستقبلون القبلة في الأحاديث. 2- القول الثاني: أنَّ الأصل في المسلم الإسلام حتى يَثْبُتَ عنه أو منه ما يُخرِجُهُ من الدين. وهؤلاء إنْ أُطْلِقَ عليهم أنَّهُم كَفَرُوا -يعني صار عليهم اسم الكفر- سُلِبَ عنهم اسم أهل القبلة. وإن لم يُطْلَقْ عليهم الكفر -يعني ليسوا بكفار- فإنهم يبقون في الطائفة الثانية من التقسيم الأول؛ يعني في أهل البدع والأهواء والمنافقين وأشباه هؤلاء؛ لأنه لا يُكَفَّرْ أَحَدْ إلا بعد أن تقوم عليه الحجة الرسالية التي يَكْفُرُ جاحدها أو يَكْفُرُ منكرها أو يَكْفُرُ رادُّها. *وهذا القول الثاني هو الأَوْلى وذلك أنَّ الأصل فيمن استقبل الكعبة أنه مسلم حتى يثبت عنه ما يخرجه من الإسلام. العلماء -خاصةً بعض علماء الدعوة- بحثوا هنا في مسألة الكافر الأصلي، يعني من نشأ، بَلَغْ وهو يعبد الأوثان وهو يعبد الأضرحة وهو يعبد غير الله - عز وجل -، ومن كانت هذه الأمور عارضةً له، بَحَثُوا في هذه المسألة في بعض الردود؛ لكن ليس بحثها مؤثراً على التقسيم الذي قلناه. المقصود أَنَّ اسم أهل القبلة مثل اسم المسلم؛ يعني لا يترتب على هذا اللفظ (أهل القبلة) لا يترتب عليه حقوق إلا حقوق المسلم، فما دام أنه مسلم فله حق الإسلام له حقوق المسلم، إذا كان مسلماً مطيعاً فله حق المسلم المطيع، مسلم عاصي صاحب كبيرة، مسلم مبتدع، مسلم ظاهراً منافق باطناً فهذا له حقوقه.   (1) هذه النقطة لم يعدها الشيخ مسألة مستقلة وإنما جعلها مع ما قبلها، وقد جعلتها في مسألة مستقلة تميزاً لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 [المسألة الثالثة] : قوله (مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ) هذا الوصف: (مسلم) ، (مؤمن) ، هذا بناءً على أنَّ الإسلام والإيمان عند الطحاوي واحد وأنَّه لا فرق ما بين الإسلام والإيمان. وهذا القول ليس بجيد؛ بل مخالفٌ للأدلة ويأتي بحثه في الكلام على الإيمان. وهناك وِجْهَةْ أخرى ظهرت لي أثناء تَأَمُّلْ كلمته أنه وإن قال ذلك لكن هذه الكلمة ليست مُلْزِمَةْ له بهذا القول؛ يعني لا نفهم منها أنه يُسَوِّيْ ما بين المسلم والمؤمن؛ لأنَّ من جهة التسمية نسميهم مسلمين أو نسميهم مؤمنين فالإسلام والإيمان إذا تفرّقا اجتمعا، فإذا قلنا هو مؤمن مع كونه مسلماً صحيح، وحتى صاحب الكبيرة نقول هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. فإذاً هذه الكلمة (مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ) لا تدل بنفسها على أنَّهُ يجعل الإسلام والإيمان واحد وأنَّ المسلم هو المؤمن، ويأتي بيان أنَّ قول أهل السنة والجماعة -يعني جمهور أهل السنة والجماعة- والراجح عندهم أنَّ الإسلام غير الإيمان، والله - عز وجل - فرَّقَ بينهما في كتابه فقال - عز وجل - {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، وهذا دليلٌ واضحٌ على التفريق ويأتي بقية الأدلة في موضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 [المسألة الرابعة] : أنَّ هذا الإسم أهل القبلة واسم المسلم والمؤمن لابد من بقاء ما دلَّ عليه، وهذا هو ما ذَكَرَهُ بعد ذلك بقوله (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) يعني أنَّهُ لو ارْتَكَبَ مُكَفِّرَاً فإنه يَخْرُجُ من اسمه مسلم ومن اسمه مؤمن ولو استقبل القبلة، ولو كان السجود في جبهته فإنَّهُ ما دام أنه ثَبَتَ عنه بيقين ما حَكَمَ عليه عالم أو قاضي بكفره فإنه يكون حينئذ ليس له حكم المسلم المؤمن ولو كان مستقبل القبلة. قال (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) معنى الاعتراف هنا هو الإقرار بأنَّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل مسألة حق. لكن فَرْقٌ هنا ما بين الجحد وما بين التأويل: فإنَّ من جحد أمراً جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان ثابِتَاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت دلالته قطعية فإنه يكفر بذلك، مثل «عثمان في الجنة» (1) هذا دلالته قطعية «عثمان في الجنة» ما تحتمل معنى آخر، فإذا قال: لا، هذا لا يدل على أنه يُحْكَمْ له بالجنة، لا أنا ما أحكم لعثمان بالجنة مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ له، أنا أَرُدْ كون عثمان رضي الله عنه في الجنة، لا أدري هو من أهل الجنة أو من أهل النار، هذا ردٌّ لخبر دلالته قطعية. فإذاً قوله (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) هنا الاعتراف بمعنى الإقرار بهذا الخبر وبما جاء به صلى الله عليه وسلم. * وهذا الإقرار فيما كانت دلالته قطعية، أما إذا كانت دلالته محتملة وصار ثَمَّ للتأويل مَسْرَحْ؛ فإنه لا يُسلب عنه اسم الإسلام والإيمان. ولهذا نصَّ أهل العلم من أئمة الدَّعوة ومن غيرهم على أنَّ متأولة الصفات ليسوا كمنكري الصفات، يعني ليس الأشاعرة مثل الجهمية، ليس المعتزلة مثل الجهمية في هذا الباب، الصفاتية الذين أثبتوا أصل الصفات وتأَوَّلُوا بعضاً هؤلاء لهم شُبْهَة التأويل فلم يُكَفِّرْهُمْ أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنّهم معترفون بأصل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب؛ لكن تَأَوَّلُوهُ إلى جهةٍ أخرى. فإذاً يُفَرَّقْ هنا ما بين الرد وما بين التأويل، فالاعتراف هو الإقرار. * كذلك يُفَرَّقُ هنا ما بين الإقرار الذي يقابله الجحد، وما بين الإلتزام الذي يقابله الامتناع: 1- أولاً (الإقرار أو الإعتراف) الذي يقابله الجحد: فالاعتراف الذي هُوَ الإقرار يقابله الجحد، يقالُ أَقَرَّ واعترف أو حَجَدْ. أقر بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بكذا، أو حَجَدَ أنَّ الصلاة واجبة، جَحَدَ أَنَّ الزكاة واجبة، جَحَدَ أَنَّ أَكْلْ نوع من المأكولات المباحة أنَّهُ حلال، جَحَدَ أن الخمر محرم، فهذا جحد يناقض الإعتراف، يعني أصلاً ما يقر بالتحريم أصلاً. 2- ثانياً الإلتزام الذي يقابله الإمتناع: قد يُقرُّ ولكنه لا يلتزم. وقد لا يجحد ولكنه يمتنع. والالتزام واجب والامتناع مُكَفِّرْ. ما معنى الامتناع؟ الامتناع أن يقول: أنا لا أدخل في هذا الخطاب، وهذا معنى قول العلماء: الطائفة الممتنعة، وقول إذا امتنع أحد عن كذا يعني لم يلتزم، فَجَعَلَ فِعْلَهُ غير داخل في هذا الخطاب. مثل حديث أبي بردة بن نيار المعروف (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في رجل نكح امرأة أبيه فأمره أن يقتله وأن يُخَمِّسَ ماله) (2) . هذا رجل نَكَحَ امرأة أبيه، الفعل معصية كبيرة، كبيرة بشعة أن ينكح امرأة أبيه؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقتله وأن يخمّس ماله؛ يعني جعله مرتداً لم؟ لا لكونه جَحَدَ ولكن لكونه امتنع. فإذاً هنا في الاعتراف (مَا دَامُوا مُعْتَرِفِينَ) : - فيه الإقرار ويقابله الجحد. - وفيه الالتزام ويقابله الامتناع الالتزام: أن يعتقد أنه مخاطب. والامتناع: أنا غير مخاطب بذلك، مثل فعل مانعي الزكاة، فيقولون: الزكاة واجبة وأَدُّوهَا لكن نحن بذاتنا لا نحن لسنا داخلين في هذا الخطاب. فالرجل ظَنَّ أنه لا يدخل في هذا الخطاب في قوله - عز وجل - {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] ، فهو مُقِرٌّ بوجوبها بدخوله في الإسلام أصلاً، مُقِرٌّ بهذه الآية بدخوله؛ لكنه امْتَنَعَ من الالتزام بها لأجل أنَّ هذه كانت فِعْلَةْ أهل الجاهلية، فكان من إكرام الرّجل لأبيه أن ينكح امرأة أبيه لأنَّ هذا يدل على بِرِّهِ، يدل على صلته، ويدل على شرفه، ويدل على أشياء عندهم، فلما أنَّهُ امتنع، يعني كان أَخَذَهُ إذاً مَأْخَذْ الحكم الجاهلي ما دام أنه لم يلتزم. إذاً في هذه الصورة لم يلتزم -هو مقر معترف- لكنه لم يلتزم، بمعنى امتنع. وليست المسألة مسألة تكفير بالعمل أو أن فِعْلَهُ دَلَّ على استحلاله. ليست من هذا الباب، إنما هي من باب الامتناع فمن عَرَفَ واقع أهل الجاهلية في نكاح امرأة الأب إلى آخره وسبب نزول الآية ودلالة ذلك عرف. المقصود من هذا أنَّ قول الطحاوي (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) : الاعتراف هو الإقرار، والإقرار يقابله الجحد. ويأتي الكلام على الاستحلال في قوله (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) . فإذاً صارت عندك هنا أنَّ النسبة إلى الإسلام، النسبة إلى أهل القبلة يأتي الخروج منها بأشياء. وأما العمل فيأتي الكلام عليه (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) . لهذا هنا علقها بالاعتقادات (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) .   (1) أبو داود (4649) / الترمذي (3747) / ابن ماجه (133) (2) أبو داود (4457) / النسائي (3332) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 [المسألة الخامسة] : هذا الباب، باب الإيمان، والخروج من اسم الإسلام واسم الإيمان ومِنْ معنى أهل القبلة، هذا من المواضع التي تَزِلُّ فيها الأقدام. ولهذا الذي يجب على كل طالب علم أن يعلم: - ما قاله أهل السنة والجماعة في بيان الإيمان وبيان ضده. - وأنَّ الإيمان والإسلام إذا قامت بالشخص -يعني وُصِفَ أحد بالإسلام والإيمان-، المسلم والمؤمن لا يُخْرَجُ من إسلامه وإيمانه حتى يأتي بُمُكَفِّرٍ واضِحٍ مثل وضوح ما أدخله في الإيمان. فهو دخل باعتقادٍ واضح، دخل بكلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، دخل أيضا بِعَمَلٍ بالأركان، فلا بد أن: - يكون الاعتقاد مضاد للأصل -الإيمان بالله وملائكته ورسله إلى آخره. - كذلك القول يكون مضاد للأصل؛ يعني مواجه للأصل، مضاد للتوحيد، لكلمة التوحيد؛ يعني من الأقوال الشركية. - كذلك العمل يكون مضاد لما دلَّ عليه العمل من الاستسلام لله - عز وجل -. وهذه المسألة يأتي لها مزيد تفصيل فيما نستقبل إن شاء الله تعالى. فإذاً معتقد أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أنَّ من ثَبَتَ في حقه اسم الإسلام والإيمان فإنَّهُ يبقى على هذا الاسم ما لم يأتِ بشيء من الأقوال أو الأعمال أو الاعتقادات تَرُدُّ هذا الأصل بوضوح لا باحتمال؛ لأَّن الواضح البَيِّنْ اليقيني لا يزيله إلا يقيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قال بعدها (وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ، وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ) .   (لَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ) يعني في ذات الله - عز وجل -. (وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ) يعني لا نلقي الأُغْلُوطاتْ والشُّبَهْ والشكوك في دين الله - عز وجل -، فأصل الإسلام مبني على الاستسلام، والاستسلام لله - عز وجل - فيما أخبر به في أمور الغيب، فيما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلاً. فإذاً لا نخوض في الله -يعني في ذات الله سبحانه وتعالى- بل نتكلّم عن الذات العَلِيَّةْ - جل جلاله - وعن صفاته سبحانه وتعالى بما جاء في الكتاب والسنة. لهذا أَصْلُ أهل السنة مخالف لأهل الأهواء في هذا الأَصْلْ. فأهل الأهواء والبدع يخوضون في الله وفي صفاته ولذلك سُمُّوا أهل الكلام؛ لأنهم في كل مسألة يخوضون. فلو راجعت كتاب الأشعري (مقالات الإسلاميين) لوجدت أنَّهُ قسمه إلى قسمين: - القسم الأول جليل الكلام. - والقسم الثاني دقيق الكلام. دخَلُوا في أشياء هي خَوضٌ في الله - عز وجل - وفي صفاته بغير ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً قوله (وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ) يريد به مفارقة أهل الكلام ومفارقة أهل البدع والأهواء في أننا نتأدب مع الرب - جل جلاله - فلا نخوض في شيءٍ إلا بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. (وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ) يعني بإلقاء الشبه والشكوك إلى آخره ولو لقصد المناظرة؛ بل الِمرَاءْ مذموم بأنواعه. وتحتها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 [المسألة الأولى] : الخوض في ذات الله محرمة، وكذلك التفكر في ذات الله أيضاً منهيٌّ عنه. لكن المأمور به أن يُفَكِّرْ المرء في آلاء الله - عز وجل -. قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا» (1) . فالمأمور به العبد أن يتفكّر في آلاء الله، وآلاء الله - عز وجل - يعني في آياته. آيات الله - عز وجل - نوعان: - آيات مرئية وهي ملكوته في السموات وفي الأرض وما خَلًقً الله من شيء. - وآيات متلوة وهي القرآن. فمن تفكر في آلاء الله دلَّهُ على عِظَمِ ربه - عز وجل - وأصابه طمأنينة وسكينة وخشوع وخضوع للرب - عز وجل -. لهذا أمرنا ربنا سبحانه بالتفكر في آلائه وملكوته وآياته، قال سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:190-191] ، وقال سبحانه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (2) وقال سبحانه أيضا {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، وقال - عز وجل - {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبإ:46] ، تقف هنا {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبإ:46] ، والنبي صلى الله عليه وسلم حُبِّبَ إليه الخلاء، حُبِّبَ إليه أن يدخل غار حراء ويمكث فيه الليالي ذوات العدد يَتَحَنَّثْ ويتأمل في ملكوت الله - عز وجل -. وهذا يُحدِثْ من حقائق الإيمان في النفس ومن الارتباط والذل لله - عز وجل - ما يُحدث. ولهذا كان من هدي السلف رضوان الله عليهم قلة الكلام والتفكّر في آلاء الله - عز وجل -. قالت أم الدرداء في وصف زوجها أبي الدرداء (كانت أكثر عبادة أبي الدرداء التفكّر) (3) . وكان الحسن البصري رحمه الله يقول (عاملنا القلوب بالتفكر فأورثها التَذَكُرْ، فرجعنا بالتَذَكُرْ على التفكر وحركنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار) (4) . هذه كلمة عظيمة، الناس قلوبهم مُضْغَة كلها تتحرك وتقذف الدم؛ ولكن القلب الحي {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا} [يس:70] ، صاحب القلب الحي هذا يكون قلبه له سمع وبصر؛ يعني يرى أشياء ويتفرس في الأشياء ويكون له مرئيات، يرى ما لا يراه الآخرون. قال (عاملنا القلوب بالتفكر) ، التفكر في آلاء الله، وليس التفكر في الله ولا في ذات الله إنما التفكر في آلاء الله - عز وجل -، فيما خلق، في آياته التي أعطاها المرسلين، في آياته المتلوة، القرآن إلى آخره، يعني في المنظورة والمقروءة. (فأورثها التَذَكُرْ) ؛ يعني تَذَكَرْ العبد، إذا تفكر وخلا بنفسه فإنه سيتذكر؛ لكن تَذَكُرُهُ سيكون ضعيفاً؛ لأنه بدايات التذكر بعد التفكر. قال (فرجعنا) -هو يحكي حال السلف الحسن البصري يقول (عاملنا) يعني السلف يعني طبقة التابعين- قال (فرجعنا بالتَذَكُرْ) هذا الذي تذكرناه وصار في القلب نوع حياة رجعنا به على التَفَكُرْ، تَفَكَّرْنَا من جديد، نظرنا في الملكوت، في آلاء الله، في تصرف الله - عز وجل - في خلقه، في آيات الله في القرآن. (فرجعنا بالتذكر على التفكر وحركنا القلوب بهما) ، يعني مرة ورا مرة، هذا تذكر بعد تفكر، تذكر بعد تفكر، يبقى العبد في الإيمان. قال (فإذا القلوب لها أسماع وأبصار) ، ينفتح القلب من معارف الله - عز وجل - ومن الأُنْسِ به ومن لذة مناجاته ومن إيثار ما عنده على ما في هذه العاجلة، وعلى إيثار مَحَابِّهِ - جل جلاله - على أهواء النفس ما لا يدركه إلا من وفّقه الله - جل جلاله -. لهذا قال (وَلَا نَخُوضُ فِي اللَّهِ) سمة أهل السنة والجماعة أنهم لا يخوضون في الله، ولا يخوضون في صفات الله وإنما يذكرون ما دَلَّ عليه الكتاب والسنة ويُعَلِّمُونَ ذلك، وإنما المهم العمل، المهم هذا القلب أن يكون صالحاً، أن يكون خاشعاً لله، منيبا لله - جل جلاله -، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (5) ، وقال في السبعة الذين يظلهم الله في ظلهم «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» (6) .   (1) شعب الإيمان (120) (2) الأعراف:134، الروم:8. (3) حلية الأولياء (1/208) (4) الفتاوى الكبرى (/517) / الإستقامة (1/210) (5) الترمذي (1639) (6) البخاري (660) / مسلم (2427) / الترمذي (2391) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فمن أعظم العبادات التَفَكُّرْ، تَفَكَرْ في القرآن، تُرَدِّدْ الآيات لتؤثر على قلبك، التَفَكُّرْ في ملكوت الله، في هذه السماء العجيبة، الأرض، في الخلق، هذا من سمة وخصال أهل السنة والجماعة، مخالفين بذلك لطريقة الصوفية الذين أورثهم العزلة التفكر والخوف في الله - عز وجل - والكشف؛ كشف الحُجُبْ ونحو ذلك مما زلَّتْ به أقدامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 [المسألة الثانية] : على قوله (وَلَا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ) المِرَاء مذموم. والمراء ضابطه هو أن يُورِدْ الشيء بقصد الانتصار للنّفس أو إضعاف من أمامه. يعني المغالبة، يريد يغالب، يريد يشكك، الشبه يوردها. هذا من الأمور المذمومة لأنّ أصل الدين مبني على الاستسلام، فالمراء في الدّين محرم وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنا زعيم ببيت في أعلى الجنّة لمن ترك المراء وهو محقّ وأنا زعيم بييت بوسط الجنة لمن ترك المراء» (1) . [ ..... ] ايش، المقصود الحديث اشتبه عليّ لفظه، «أنا زعيم في بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء» . النبي صلى الله عليه وسلم تَكَفَّلَ ببيت لمن ترك المراء وإن كان محقا -ببيتٍ في الجنة-، لماذا؟ لأنَّ المراء أحياناً وأنت تماري يأتيك الحق معك لكن تغلبك نفسك للانتصار لنفسك لا للحق، والإنسان بين هذه وهذه يكون عنده شيء -يعني بين الانتصار للحق وبين الانتصار لنفسه-، وكثيرا ما تشتبه على أكثر الناس؛ يعني تختلط هذه بهذه، أنت ستنتصر لنفسك أو ستنتصر للحق، ولهذا يسمى هذا مراء، إذا صارت مجادلة وخشيت أن تنتصر فيها لنفسك، فالسكوت أفضل لأنَّ الانتصار لنفسك من المراء في دين الله - جل جلاله -. فإذاً من صفة أهل السنة والجماعة ومن سماتهم أنهم لا يمارون في دين الله، لهذا قال الإمام مالك رحمه الله لما سُئِلْ (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عليها؟) قال (لا، يخبر بالسنة فإن قُبِلَتْ منه وإلا سكت) (2) . لأنَّ المراء في ذلك يورث العداوة قد يورث الانتصار للنفس، وذلك كله مذموم. نقف عند هذا، وأسأل الله - عز وجل - لي ولكم الهدى والرشاد، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزيّنه في قلوبنا. كما أسأله - جل جلاله - أن يُكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان. نكتفي بهذا القدر، وفقكم الله. (3)   (1) أبو داود (4800) (2) جامع العلوم والحكم (1/93) (3) انتهى الشريط الرابع والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 : [[الشريط الخامس والعشرون]] : وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.   الحمد لله رب العالمين، وبعد: فهذه الجملة من هذه العقيدة التي ألّفها العلاّمة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله قال فيها (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.) . وهذه الجملة مشتملة على عقيدة مباركة عظيمة في القرآن. والإيمان بالقرآن فرضٌ ورُكْنُ الإيمان؛ لأنَّ من أركان الإيمان الإيمان بكتب الله المنزلة، وأعظمها الكتاب الذي جعله الله مهيمناً على كل كتاب وهو هذا القرآن العظيم. فالإيمان به ركنُ الإيمان، والإيمان به عند أهل السنة والجماعة يشمل: - الإيمان بأنه كلام الله تعالى. - وأنه منزّل من رب العالمين. - وأنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ إياه جبريل، وجبريل سَمِعَهُ من رب العالمين أوتقدست أسماؤه. - وأنَّ هذا القرآن لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين، لا يماثله ولا يدانيه. - وأنه غير مخلوق؛ لأنه صفة الله عز وجل، وصفات الله سبحانه وتعالى كذاته العَلِيَّة، فهو سبحانه الخالق - عز وجل - وغيره مخلوق. وهذا التقرير من العلامة الطّحاوي مأخوذٌ من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تدلّ على هذه الأصول كقوله - عز وجل - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ، وكقوله - عز وجل - {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، وكقوله سبحانه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] ، وكقوله - عز وجل - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] ، وغير ذلك من الآيات التي فيها أنَّ القرآن كلام الله، وأنه مُنَزَّلٌ من عنده وأنّ جبريل عليه السلام هو الذي نَزَلَ به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. قال (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) المُجَادَلَةْ في القرآن دَلَّتْ السنة على أنها مذمومة ومحرّمة، وذلك كما روى مسلم في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عليهم يوما وهم يتجادلون في القرآن هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية، فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان -يعني من الغضب- عليه الصلاة والسلام فقال لهم «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا» (1) أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضاً أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم نهى أن يَجْهَرَ بعض الناس على بعض في القراءة؛ وذلك لأجل التأدب مع القرآن وأن لا تكون القراءة سبباً للتخاصم أو للمجادلات؛ يعني بسبب القرآن أو في القرآن. والمِرَاءْ مذمومٌ مُطلقاً سواء أكان بحق أو بغير حق، وهو المُرَادُ به نُصْرَةُ النفس والاستعلاء، ولو كان بالقرآن، فلا نجادل في القرآن؛ يعني في أدلته، ولا نجادل في القرآن في صفته؛ بل نُسَلِّم للقرآن أنه كلام الله - عز وجل -، ونستسلم لدليل الرحمن - عز وجل -، فالقرآن آيات الرب سبحانه وتعالى. فالتجادل بالاختلاف في القرآن المبني على الأهواء هذا ليس من صفة أهل الإيمان، وإنما -كما سيأتي- المجادلة تكون لبيان الحق ولبيان وجه الدليل وهذا هو المحمود، فالمجادلة في القرآن مذمومة، ولهذا قال الطحاوي هنا (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) . (وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني نُعلِنُ ونُخبِرْ مع اعتقادنا ويقيننا بأنه ليس كَلَامَ مَخْلُوقْ بل هو كلام رب العالمين؛ أي أنه كلام الله عز وجل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الروح الأمين الذي هو جبريل، نزل به من رب العالمين، نزل به سَمَاعَاً، سَمِعَهُ جبريل عليه السلام من رب العالمين، وأمره الله - عز وجل - أن ينزل به وحياً على سيّد المرسلين (فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) . (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) هذا منه تقرير لما أجمع عليه أهل السنة، وذلك خلافاً للمعتزلة والعقلانيين والخوارج والرافضة الذين قالوا بخلق القرآن كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. هذا الأصل الذي ذكره الطحاوي وهذه العقيدة المباركة تحتها مسائل:   (1) البخاري (37) / مسلم (6948) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 [المسألة الأولى] : المجادَلَةُ: عُرِّفَتْ بأنها إيراد الحجة على القول المخْتَلَفِ فيه مِن المُخْتَلِفِينَ. فإذا اختلفوا في مسألة؛ هذا يُورِدُ حُجَّتَهُ تقريراً لقوله وهذا يُورِدُ حُجَّتَهُ تقريراً لقوله، فتصير مجادلة. وفي الشرع المجادلة قسمان: 1- مجادلة مذمومة: وهي التي يُرادُ بها الانتصار للنفس وللقول دون تحرٍّ للحق. 2- مجادلة محمودة: وهي المجادلة بالتي هي أحسن؛ يعني التي الغَرَضُ منها الوصول إلى الحق وإرشاد الضال وتبيين حجة الله - عز وجل -، وهي مأمور بها في الشرع. وهذه هي التي أثنى الله - عز وجل - على عباده بها، وأمرهم بها في قوله {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125] ، وكقوله سبحانه في سورة العنكبوت {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] . ويَشْتَبِهُ بالمجادلة الجَدَلْ. والجَدَلُ قال بعض أهل العلم إنه هو المجادلة؛ لأنه مأخوذ من الجَدْلْ، جَدْلْ الحبل، وهو لَفُّ بعضه على بعض كَأَنَّ الأقوال التَفَّ بعضها على بعض من الإيراد. والأظهر أنَّ الجَدَلْ نوعٌ من الخصومة؛ لكن لم يُمْدَحْ في القرآن، فذمّه الله - عز وجل - في قوله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) } [الزخرف:57-58] . {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} يعني في ذلك ذَمْ لهذا الإيراد، لأنَّهُم ما أَرَادُوا المجادلة ولا أَرَادُوا دفعاً للشُّبْهَة أو الوصول إلى الحق، وإنما هو جَدَلْ. وهنا ثَمَّ بعض البحوث التي كُتِبَتْ في هذا الموضوع خاصَّةً عند المعاصرين باسم الجَدَلْ، (الجَدَلْ في القرآن) . والجَدَلْ إذا كان يصل معه المتجادلون إلى حقيقة فإنه في الحقيقة مُجَادَلَة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ، فهي مجادَلات في القرآن. وإذا كان المقصود بالجَدَلْ في القرآن المجادلات فإنَّ هذا مقبول؛ لكن تكون تسميتها بالجدل هذه يكون فيها بحث اصطلاحي. وإذا كان المقصود بالجَدَلْ في القرآن -مثل ما كتبوا- ما ضُرِبَ جَدَلاً لغيرِ وصولٍ إلى الحق، فهذا لا يدخل فيه المجادلات التي للوصول للحق، لأنهم يُدْخِلُونَ فيها ما أقام الله - عز وجل - به الحُجَّة مثل مجادلة الملك مع إبراهيم عليه السلام في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] ، هذه يُدْخِلُونَهَا في الجدل. فقوله هنا (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) المجادلة -كما ذكرنا- إذا كانت بالتي هي أحسن للوصول إلى الحق فهذه مطلوبة شرعاً، وأمر الله - عز وجل - بها عباده. لكنهم يجادلون بالقرآن لا فيه. يعني يُجَادِلُ غيره بحجة القرآن. وفَرْقٌ ما بين المُجَادَلَةْ بالقرآن وبين المُجَادَلَةْ في القرآن: - فالمجادلة بالقرآن: أن تُورد الحجة من كتاب الله - عز وجل - وتُورِدْ وجه الاستدلال من ذلك. - أما المجادلة في القرآن: فهو أن يُخْتَلَفْ في حُجِّيَتِهِ، أو تُضْرَبُ بعض الآيات ببعض، أو أنْ لا يُرَدْ المتشابه إلى المُحْكَمْ أو أن يُخَاضَ في الأمور الغيبية بأمور عقلية ونحو ذلك. فالمجادلة بالقرآن محمودة لإقامة الحجة، وأما فيه فإنها مذمومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 [المسألة الثانية] : الذين جادلوا في القرآن في هذه الأمة، أمَّةْ الإجابة كثيرون. فكل طوائف الضلال ممن لم يستسلم لنص القرآن والسنة فإنه جادَلَ في القرآن. وذلك أنهم أسَّسُوا مذاهب لهم واعتقادات، فإذا جاءهم الدليل من القرآن على خلاف ما أَلِفُوا أو ما هَوَوهُ فإنهم يجادلون فيه. يعني يَرُدُّونَ حُجَّةَ الله - عز وجل - التي في القرآن ويأتون بآية تضرب هذه الآية. والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بعض الصحابة- وهم يتجادلون في القرآن فغضب كما ذكرنا لك. فالتأدب مع القرآن أن يكون الإيراد به -يعني إيراد الدليل به- فإن اختلفت الأدلة وَجَبَ رد المتشابه إلى المحكم. فالقرآن حَقٌ كله لا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضَاً؛ بل بعضه يدل على بعض. 1- فالقرآن مُحْكَمٌ كُلَّهُ: جعله الله مُحْكَمَاً كما قال {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، وكما قال - عز وجل - {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] ، حكيم يعني المُحْكَمْ في أحد أوجه تفسير {الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} . 2- وكذلك القرآن مع كونه مُحْكَمَاً فإنه أيضاً متشابه؛ متشابه كله: فالقرآن مُحْكَمٌ كله وأيضاً هو متشابِهٌ كله؛ لأنَّ بَعْضَهُ يشبه بعضاً. متشابه يعني يُشْبِهُ بَعْضُهُ بعضاً، وذلك لقوله - عز وجل - الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] ، يعني يشبه بعضه بعضاً؛ هذه آية في صفات الله وهذه آية في صفات الله، هذه آيات في تقرير التوحيد -توحيد الربوبية توحيد الألوهية- وهذه آيات من مثلها، وهذه آيات في الحِجاج مع المشركين، وهذه آيات في الحجاج مع المشركين، هذه آيات في قصص الأنبياء وهذه آيات في قصص الأنبياء، ونحو ذلك من المعاني. فهو متشابه، موضوعاته متشابهة مع اختلاف الآيات في ذلك. 3 - أن القرآن مُحْكَمٌ بعضه: يعني بعض آياته مُحْكَمَة، ومنه ما هو متشابه. وهذا هو المَعْنِيْ في قوله سبحانه في أول سورة آل عمران {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} لاحظ قوله {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} يعني أنَّ بعضاً منه آيات محكمات {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يعني يُرْجَعُ إليها في تفسير الكتاب {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، وقوله {أُخَرُ} يدل على قلة المتشابه بالنسبة إلى المحكم. فإذاً أقسام القرآن ثلاثة: 1- محكم كله. 2- متشابه كله. 3- منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه. وكلٌ من هذه الأقسام دلَّتْ عليها آية أو آيات من القرآن العظيم. المحكم والمتشابه الذي هو الأخير: عُرِّفَ المُحْكَمْ بأنه: ما اتضحت دلالته. وهو يختلف عن المَبَيَّنْ عند الأصوليين -يعني المجمل والمبين-؛ لأنَّ ذاك من عوارض الألفاظ يعني ما اتضحت دلالة لفظه وهذا ما اتضحت دلالة الآية في معناه. والثاني المتشابه: وهو ما اشتبهت دلالته. والمتشابه للعلماء في تفسيره وبيان نوعه أقوال كثيرة. لكن المُحَقَّقْ عند أهل السنة والجماعة أنَّ المتشابه في القرآن إنما هو متشابه على من نُزِّلَ عليه. متشابه على بعض هذه الأمّة. أما المتشابه الكلي بحيث إنه يوجد في القرآن ما لا يُعَلَمُ معناه ولا يُعْلَمُ تأويله مطلقاً لِكُلِّ الأمة، فإنَّ هذا ممتنِع؛ لأنَّ القرآن جاء بلسان عربي مبين. وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما ساقه ابن كثير وغيره في (أنَّ من القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله) -يعني لا أحد يعلم تأويله-، فيريد به نوعاً من التأويل والتفسير. فالمتشابه مُتَشَابِهٌ نسبي. المُتَشَابِهْ الكلي: آية لا أحد يعلم معناها لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا العلماء إلى وقتنا الحاضر، فهذا ممتنع. حتى الأحرف المقطعة فإنَّ دلالتها عَلِمَهَا بعض هذه الأمة. وأما المشتبه النسبي، اشْتَبَهَ عليّ، اشتبه على من هو أعظم وأجل، على بعض الصحابة، فهذا موجود. أبو بكر رضي الله عنه سأل عن الأب ما (الأب) ؟ ثم قال (أيّ سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (1) . عمر رضي الله عنه سأل الصحابة عن بعض الآيات. وابن عباس خَفِيَ عليه بعض الآيات وسأل عنها وهكذا. فالمتشابه النسبي الذي يشتبه معناه، تشتبه دلالته، إما لعدم معرفة معنى اللفظ أو لمعارضة آية لها أخرى تحتاج إلى تَأَمُلْ، فإنَّ هذا يكون نسبياً. مثل ما سئل ابن عباس أنَّ الله - عز وجل - أخبر أنَّ الناس في يوم القيامة يُوقَفُونَ فَيُسْأَلُونْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] وفي آيات أُخَرْ أَخْبَرَ الله - عز وجل - أنهم لا ينطقون ولا يُسْأَلُونْ ونحو ذلك، فكيف يُجمع بينهما؟ هذا متشابه، يعني آيات يَشْتَبِه معناها فيجب رَدُّهَا إلى المحكم. هذا النوع الثالث المحكم والمتشابه هو الذي تكون فيه المجادلة التي نَهَى عنها الطحاوي هنا ونهى عنها أئمة أهل السنة جميعاً، المجادلة في القرآن.   (1) سبق ذكره (149) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لهذا أثنى الله - عز وجل - على الراسخين في العلم بأنهم يَرُدُّونَ المتشابه إلى المحكم، ويقولون آمنا به. ما عَلِمْتَ معنى الآية، ما عملت معنى سورة، معنى آية، ما عملت وجهه، ما عملت كيف تجيب عن الإشكال الوارد عليها، فنقول: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ، ونعلم أنَّ كلام الله - عز وجل - مُحْكَمْ وذلك كما قال سبحانه {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ؛ لكن الله ابتلى الأمة بوجود المتشابه لينظر كيف تُسَلِّمْ وتستسلم لكتاب الله - عز وجل -. المقصود من ذلك أنَّ أصل الضلال في الفِرَقْ وُجِدَ من المجادلة في القرآن، والمجادلة في القرآن بأنهم اعتمدوا المتشابه ولم يُرْجِعُوا المتشابه إلى المحكم. فالخوارج إنما خَرَجَتْ بالمجادلة في القرآن. جادلوا في القرآن فجاءهم ابن عباس رضي الله عنه فجادلهم بالقرآن. فقالوا: كيف يُحَكِّم عَلِيٌّ الرجال والله - عز وجل - يقول {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] . فقال ابن عباس لهم (إنَّ الله - عز وجل - سمَّى بعض الرجال حَكَمَاً فقال {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ) ، وحاجَّهُم في ذلك حتى رجع معه ثلث أو أكثر من الخوارج. المرجئة، القدرية، المعتزلة، كلّهم لم يعتمدوا القرآن كله، وإنما جادلوا فيه فيَدخُلون في عموم قوله {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر:5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 [المسألة الثالثة] : قال (وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى قوله (لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ) ، هذا فيه تقرير لعقيدة أهل السنة في أنَّ القرآن كلام الله. وقد مرّ معنا تفصيل الكلام على هذه الجملة من جهة كون القرآن كلاماً لله وتفاصيل الأقوال في ذلك. وأهل السنة يعتقدون: - أنَّ القرآن حروف وكلمات وجُمَلْ وآيات وسور. - وأنَّهُ ألفاظ ومعاني. - وأنَّ هذه جميعاً من الله - عز وجل -. فالقرآن كلام الله - عز وجل - بحروفه ومعانيه، تَكَلَّمَ به الحق أ، فسمعه منه جبريل عليه السلام، فبلَّغَهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم كما سَمِعْ. والقرآن الذي بلّغه جبريل محمداً صلى الله عليه وسلم هو القرآن المسموع، كلام الله المسموع وليس كلامَ الله المكتوب. لأنَّ القرآن كتبه الله - عز وجل - في اللوح المحفوظ جميعاً، كتب القرآن جميعه في اللوح المحفوظ كما قال سبحانه {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75-79] . {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} يعني جميع القرآن كريم، هو أعلى وأفضل وأميز الكلام. لأنَّ الكريم من الأشياء هو المتميز على غيره الفاضل الأفضل. قال {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الذين هم الملائكة. وكذلك قوله - عز وجل - في آية الحاقة. فالقرآن المكتوب في اللوح المحفوظ، جبريل لم يأخذه مكتوباً وإنما أخذه مسموعاً، فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة. فقوله هنا {نَشْهدُ أَنَّهُ كَلاَمُ ربِّ العالمينَ} يعني بحروفه وكلماته وآياته وسوره هو كلام الله - عز وجل -، سمعه جبريل فنزل به مسموعاً إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. غير أهل السنة لهم في ذلك أقوال كثيرة يأتي ذكر تَعْدَادٍ لها عند قوله (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 [المسألة الرابعة] : في قوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الروح الأمين هو جبريل عليه السلام. وسُمِّيَ روحًا: لفضله وتَمَيُّزِهِ عن الملائكة ولأنه يَنْزِلُ بالرّوح من أمر الله - عز وجل - وهو الوحي. وسُمِّيَ الأمين أو نَعَتَهُ الله - عز وجل - بالأمين في قوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193-194] : لأنه مُؤْتَمَنٌ على أعظم ما يؤتمن عليه وهو كلام الله - عز وجل - ووحيه في سماواته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 [المسألة الخامسة] : في قوله (لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ) كلمة (لَا يُسَاوِيهِ) هنا يعني لا يكون مساوياً له أيّ كلامٍ لمخلوق. وهذا للدلالة على إعجاز القرآن، ولهذا أكد بعد قوله (كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال (وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ) . وإعجاز القرآن، يعني وَجْهُ كَونِ القرآن مُعْجِزَاً للجن الإنس أن يأتوا بمثله من إنزال القرآن إلى قيام الساعة، ما وجه كون ذلك؟ كيف صار القرآن مُعْجِزَاً؟ ذكرنا لكم هذا بالتفصيل في درس مستقل (1) . وبيانه هو ما ذكره الطحاوي هنا مُحَقِّقَاً بأنه كلام الله تعالى لا يشبه قول البشر. وهذا معنى قوله (لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ) يعني لا يشابهه، لا يدانيه، لا يكون مساوياً له لأنّه مُعْجِزٌ. ولماذا صار معجزا؟ لأنه كلام الله. وهذا هو المراد بقوله (لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ) ، وإلا فلو كان المراد التقرير الابتدائي فليس مناسبا أن يُقال إنَّ كلام الله لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ابتداءً؛ لأنَّ هذا فيه نوع تركٍ للأدب الواجب مع القرآن، ولقد قال الشاعر: ألم تَرَ أنّ السيف ينقص قدره ****** إذا قيل إن السيف أمضى من العصا لكن هو لم يُرِدْ هذا المعنى، إنما أراد دليل الإعجاز أنَّ القرآن لا يشبه قول البشر، لا يساويه، ولا يماثله شيء من كلام المخلوقين، لم؟ لأنه كلام الله تعالى.   (1) سبق ذكره (123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 [المسألة السادسة] : قال في آخر هذه الجملة (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) . في قوله (وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ) بخصوصها يعني: - أنَّ مُعْتَقَدْ الصحابة رضوان الله عليهم ومُعْتَقَدْ التابعين وتبع التابعين وأئمة الإسلام وأئمة أهل السنة والجماعة ومُعْتَقَدْ عامة المنتسبين إلى الإسلام أنَّ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى. - نَّ القول بخلقه ضلال وخروج عن جماعة المسلمين؛ يعني عن ما اجتمع عليه المسلمون من زمن الصحابة إلى زمن المؤلف؛ بل إلى زمننا الحاضر. والقول بخلق القرآن هذه عقيدة فُتِنَ بها كثيرون؛ لكنهم شواذ وقلة بالنسبة لعموم الأمة. وأول ما نَشَأْ القول بخلق القرآن من جهة الجَعْدْ بن درهم ثم الجهم بن صفوان ثم أخذه المعتزلة فَنَصَرُوهُ واستدلُّوا له. القول بخلق القرآن الكلام عليه يطول جداً. ومما يُؤْسَفُ له ويَجِبُ جِهَادُهُ أيضاً أنَّ بعض الضُّلال والمفتونين بَدَؤُوا ينشرون لهذه الفكرة عن طريق بعض وسائل الإعلام والقنوات والمناقشة فيها، كما نشرته بعض الإذاعات فيما ذُكِرَ لي في مناظرات تتصل بذلك، وجَعْلْ الناس -يعني العامة- يتكلمون في هذه المسألة. وهي فتنة مشابهة للفتنة الأولى من حيث الابتداء. فنسأل الله - عز وجل - أن يكبِتَ شر من يريد صرف الأمة عن حُسن الاعتقاد وإضلال عامّة المسلمين. من قال بخلق القرآن طوائف في هذه الأمة منهم: الجهمية والمعتزلة والخوارج والرّافضة. والخوارج اليوم يوجد منهم طائفة الإباضية وهم من أخصِّ فرق الخوارج قولاً واعتقادات، ويوجدون في أكثر من مكان في العالم الإسلامي في الجزيرة وفي ليبيا وفي الجزائر وفي أنحاء أُخَرْ، ولهم كتب كثيرة ومصَنَّفَة في العقيدة وفي الفقه يعني تبلغ عشرات المجلدات أو أكثر. هم الذين ينصرون اليوم القول بخلق القرآن في مؤلفاتهم. ومنهم اليوم الرافضة وعقيدتهم أيضاً في القرآن بأنه مخلوق. وكذلك الزيدية يعتقدون هذا الاعتقاد. ومن العجب أنَّ بعض المنتسبين للسنة من أئمة الحديث أو ممن حاربوا التقليد ونصروا الدّليل لأجل ما راج في بلده اشتبهت عليه هذه المسألة، وهو العلامة الشّوكاني رحمه الله، فإنه اشتبهت عليه مسألة خلق القرآن؛ لأجل ما شاع في بلده وذهب فيها إلى الوَقْفْ، وذَكَرَ ذلك في تفسيره. فهذه الطوائف المعتزلة، والعقلانيون أيضاً في عصرنا الحاضر جماعة من العقلانيين من المنتسبين إلى الإسلام، يعني من المسلمين، وممَّن يدَّعون غير ذلك أيضاً هم ينصرون مذهب المعتزلة في خلق القرآن. (1) فإذاً مسألة خلق القرآن كغيرها من مسائل الاعتقاد لا يُقَالُ ذهبت أبداً بل هي باقية، فطالب العلم يتعلم أدلة ذلك حتى يجادل بالقرآن من قال بخلقه والعياذ بالله. وهذه مسائل تحتاج إلى إيضاح طويل وتفصيل للكلام على الأدلة والخلاف في ذلك مما له موضع آخر إن شاء الله تعالى.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس والعشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 [المسألة السابعة] : شبهة من قال بخلق القرآن وهم الطوائف الذين ذكرتهم لك قالوا: إنَّ القرآن حروف وكلمات وصوت، فإذا قيل إنه كلام الله - عز وجل - الذي هو صفته صار الله - عز وجل - مَحَلاً لِما هو من صفة الأجسام والتقطع في الكلام؛ لأنَّ القرآن حروف متقطعة؛ يعني حروف تكونت منها الجمل، تكونت منها الآيات. فنظروا إلى هذا فقالوا: هذا التقطع إنما هو من صفات من له نَفَسْ، من يُخْرِجْ الحرف ثم يَتَنَفَّسْ، ثم يقول كذا ونحو ذلك، وهذه من صفات المخلوقين، فلهذا جعلوه مخلوقاً. ولهم في تبايُن صفات الخلق، أو كيف خَلَقَهُ وفي أي شيء خلقه، لهم أقوال كثيرة. وهذه الشبهة والإيراد مبني أيضا على اعتقادٍ لهم، وهو أنَّ -أظن أني ذكرته لكم قبل ذلك- حدوث الأجسام إنما كان بدليل الأعراض، يعني حلول العَرَض في الجسم تَبِينُ به حاجة الجسم وافتقار الجسم إلى العرض، والعرض يطرأ ويزول، فلهذا صار الجسم حادثاً مما هو معروف، وقد فصّلته لكم فيما قبل فيما يسمى بدليل الأعراض (1) . وهذا دليلٌ يعتمده المعتزلة وأخذه عنهم كتأصيل الأشاعرة والماتريدية وجماعة. والقرآن إن قيل إنه صفة الله - عز وجل - صار عندهم أنَّ القرآن يكون في حالْ ولا يكون في حالْ؛ لأنَّ القرآن تَكَلَمَ الله - عز وجل - به ليس دَفعة واحدة، وإنما بحسب الوقائع، قالوا هذا يمتنع معه إلا أن يكون مخلوقاً. والأشاعرة والماتريدية لما سلَّموا بأصل البرهان عارضوا ذلك ظاهراً. عارضوا قول المعتزلة ظاهراً وسَلَّمُوهُ باطناً، فقالوا: القرآن قرآنان: - قرآن قديم وهو الذي تكلم الله - عز وجل - به. - وقرآن أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم. فالقرآن القديم الذي هو صفة الله - عز وجل -، هذا تكلم الرب - عز وجل - به دفعة واحدة. والقرآن الذي أنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم هذا جُعِلَ في رُوعِ جبريل، ذلك القرآن جُعِلَ في روعه -يعني في نفسه بدون أن يسمع- فنزل به على نبينا صلى الله عليه وسلم. (2) وهذا منهم لأجل أن لا يُبطِلُوا الدليل السابق. واستدلوا على ذلك -يعني المعتزلة- بأدلة كثيرة، موجودة في كتبهم، ليس هذا محل بيانها. المقصود أنَّ القول بخلق القرآن مبني على شبهة، ولأجل هذه الشُّبْهَة ولأجل إبطالها فإنَّ أئمة أهل الإسلام كفَّرُوا في خلق القرآن بالنوع ولم يُكَفِّرُوا كل أحد قال بخلق القرآن حتى تقوم عليه الحجة لأجل الاشتباه في الدليل. فإذاً نقول: من قال بخلق القرآن فهو كافر؛ لكن إذا جاء المُعَيَّنْ لابد من إيضاح الحجة له والرد على شبهته؛ وذلك لأنَّ هذه الفتنة عظيمة. كذلك من تَوَقَّفَ في ذلك ولم يستبن له الأمر، أو من أجاب في الفتنة -فتنة خلق القرآن- فإنَّ أئمة أهل السنة والجماعة لم يُكَفِّرُوا أحداً في ذلك ولم يمتنعوا أيضاً عن الرواية ممن توقف في المسألة أو أجاب لأجل الافتتان. وهذا أصل عظيم مهم في هذا الأصل؛ يعني في مسألة خلق القرآن. فإذاً معتقد أهل السنة والجماعة: - أنّ القول بخلق القرآن من أبْطَلْ الباطل. - وأنَّ القول بخلق القرآن كفر، لأنَّ معنى القول بأنَّ صفة الله مخلوقة، والقرآن صفة الله كلام الله فالقول بأنَّ صفة الله مخلوقة هذا تنقّص عظيم للرب - عز وجل -، وتنقّص الرب - عز وجل - كفر بالله سبحانه وتعالى، فهو أعظم من الاستهزاء المجرّد لأنَّ هذا قول بالتنقص ومسبّة لله - عز وجل -. لكن ثَمَّ اشتباه وشبهة الوضع معها ما ذكرته لك آنفا. أما الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فهم يَرُدُّونَ على المعتزلة وعلى العقلانيين وعلى الخوارج وعلى الرافضة في مسألة خلق القرآن، يَرُدُّونَ عليهم بأنواع من الردود. * لكن تنتبه إلى أنَّ مبنى هذه الردود على مذهبهم؛ وهو أنَّ كلام الله قديم وأنَّ الذي أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان في روع جبريل أو أخذه من اللوح المحفوظ -أخذه من المكتوب- أو نزل به من بيت العزة أو نحو ذلك من أقوالهم المعروفة.   (1) انظر شرح الواسطية للشيخ صالح آل الشيخ -سلَّمهُ الله-/ الشريط الثامن (2) لمزيد من التفصيل راجع الشريط السابع من شرح القصيدة النونية للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 [المسألة الثامنة] : في قوله (وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.) ، (جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) هذه الكلمة من الكلمات العظيمة التي تَرِدْ في كتب أهل السنة والجماعة وفي عقائدهم. والجماعة عندهم يُراد بها نوعان: - النوع الأول: جماعة الدين. - والنوع الثاني: جماعة الأبدان. وكلٌ منهما مَأْمُورٌ التزامه، وكلٌ منهما مطلوبٌ التمسك به، جماعة المسلمين في دينهم وجماعة المسلمين في أبدانهم. وقد فصَّلْتُ لك الأقوال في ذلك في أول شرح الواسطية يمكن أن ترجع إليه للازدياد من هذا الموطن (1) . الجماعة تقابلها الفرقة. يعني لماذا قسمناها إلى جماعة دين وجماعة البدن جماعة الأبدان؟ لأَّنُه جاء في النصوص الأمر بلزوم الجماعة وجاء في النصوص النهي عن الفُرْقَة. والنهي عن الفرقة جاء النهي عن الفرقة في الدّين والنهي عن الفرقة في الأبدان، كما في قوله - عز وجل - {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ؛ يعني في الدين. والتفرق في الدين يَؤُولُ إلى الترفق في الأبدان، فكلٌّ منها له صلة بالآخر. فجماعة الأبدان يقوى معها الاجتماع في الدين، والتفرق في الأبدان يحصل معه تَفَرُّقْ في الدين. وكذلك الاجتماع في الدين يحصل معه اجتماع في الأبدان، فكل منهما يقود إلى الآخر. ولهذا لما ظهرت العقائد الباطلة في زمن عثمان وزمن علي رضي الله عنهما ظَهَرَ الافتراقُ في الأبدان والخروج على الأئمة ونحو ذلك، فهذه وهذه كل منهما يؤول إلى الآخر. قول الطحاوي هما (وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.) هذه عقيدة عظيمة يجب على كل مُعْتِقِدٍ لِمُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة أن يهتم بها. فجماعة المسلمين (جماعة الدين) واجِبٌ التزامها، وعدم الخروج عما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم وعما كان عليه السلف الصالح وأئمة الإسلام. وكذلك (جماعة الأبدان) بلزوم إمام المسلمين وولي أمرهم وعدم شقّ الطاعة والسمع والطاعة في المعروف، هذا واجبٌ أيضا الاجتماع عليه والائتلاف على ذلك. وهذا هو الذي كان عليه أئمة أهل الإسلام رحمهم الله تعالى. فإذاً من خالف في عقيدة من عقائد الإسلام ففي الواقع خالف جماعة المسلمين. جماعة المسلمين كانت على شيء قبل أن تَفْسُدَ الجماعة، كانوا على شيء في زمن الصحابة رضوان الله عليهم. ولذلك تعلمون ما ذَكَرَهُ ابن القيم في أول إغاثة اللهفان وذَكَرَهُ غيره من أنَّ الرجل الواحد قد يكون في زمن من الأزمان هو الجماعة، متى؟ إذا كان موافقا لِمُعْتَقَدْ الصحابة رضوان الله عليهم ومُعْتَقَدْ التابعين وأئمة الإسلام ولم يكن معه أحد فهو الجماعة وإن خالفه الناس جميعا، لماذا؟ لأنَّ الجماعة معناها هو من كان في العقيدة مع الجماعة، من كان في الاعتقاد مع الجماعة فهو الجماعة. وفي زمن الإمام أحمد حينما حصلت فتنة القول بخلق القرآن، كان الإمام أحمد ومن معه ممن وقف في وجه أمراء ذلك الوقت في هذه العقيدة، وأقرّوا ما عليه جماعة المسلمين، كانوا هم الجماعة، والمخالفون لهم الأكثر كانوا قد خالفوا الجماعة. وهذه مسألة مهمة في أنَّ الجماعة بمعنى العقيدة هو من كان على الجماعة. فإذاً الجماعة لها إطلاقان: 1- الإطلاق الأول: الجماعة بمعنى الاجتماع على عقيدة السلف، فمن كان على ذلك الاعتقاد فهو الجماعة في العقيدة وإن كان واحداً. 2- الإطلاق الثاني: الجماعة في الأبدان وهو أن يلزم إمام المسلمين وجماعتهم فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فيعتزل الفرق كلها، ويعبد الله - عز وجل - على بصيرة، فيكون حينئذ أدى ما يجب عليه أداءه. فالواجب إذاً على كل طالب علم أن يأخذ بهذه الكلمة، وأن يوصي غيره بها؛ لأنها من أعظم ما يتقرب بها العبد إلى ربه أن يكون مع الجماعة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنَ الفرق الضالة، الفرق التي توعدها بالنار قال «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» (2) وفي الرواية الثانية قال «الجماعة من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (3) أو نحو ذلك. والرواية الأولى جيدة يعني من حيث الإسناد قال «هي الجماعة» يعني من كان على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم ومن سار على نهجهم. وهذا وعد عظيم كلها في النار إلا واحدة. إذا حصل أنَّ المرء اشتبه عليه شيء في مسائل فما الذي يجب عليه؟ يجب عليه أن يأخذ بما يَتَيَقَّنُهُ من الدين وما يَتَيَقَّنُهُ من عمل أئمة الإسلام، وما دُوِّنَ في العقائد الصحيحة لأهل السنة والجماعة وأن يترك ما اشتبه عليه.   (1) انظر الشريط الأول من شرح العقيدة الواسطية للشيخ. (2) سبق ذكره (5) (3) الترمذي (2641) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لأنّ الله - عز وجل - له حدود كما جاء في حديث النعمان بن بشير «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» (1) يعني في نفسها، مُشْتَبِهَات على من يريدها أو على من ينظر فيها، وفي رواية أخرى في البخاري «وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَبَّهَاتٌ» (2) يعني الله - عز وجل - جَعَلَهَا كذلك ليختبر العباد، مثل ما جعل بعض الكلام محكماً وبعض كلامه متشابهاً. قال صلى الله عليه وسلم في المتشابهات «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» يعني طَلَبَ البراءة وهذا هو الواجب؛ لأنه ما كل أحد يأتي للمتشابه يقول لا سَأَعْرِفُهُ. الذي يشتبه عليك اتركه أسلم لدينك، وخاصَّةً في مسائل الجماعة، في مسائل الاعتقاد، في مسائل الاختلاف لأنك لا تدري ما يؤول إليه الأمر. تَعْرِفْ أنَّ الخوارج صار معهم بعض من وُلِدَ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه لم يكن منهم لكنهم شَبَّهُوا عليه كمحمد بن أبي بكر الصديق ولدته أمه أسماء بنت عميس في الحج -يعني في حجة الوداع- نفست فولدت بمحمد بن أبي بكر. يعني وُلِدَ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحَصَلَ أنه أتى لعثمان لقوة الاشتباه، أتى لعثمان بعد أن تسلق عليه البيت وهو يتلو القرآن فشده من لحيته، وقال له -يعني وعظه عثمان- فبكى محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فبكى وترك ذلك وتركهم ثُمَّ قُتِلَ عثمان، وضلَّ من قال أنَّ الذي قتله أو ساعد في قتله أنه محمد بن أبي بكر. (3) المقصود أنَّ المسائل المشتبهة قد تشتبه على الخيار، فطالب العلم الذي يرغب في سلامة دينه يعتمد ما كانت عليه الجماعة ولا يخالف ما كانت عليه جماعة المسلمين. وهذا من أعظم فوائد طلب العلم، أنّ المرء يعلم ما به السلامة له في دينه، ويكون مع الفرقة الناجية يوم القيامة، «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» . وهذا مما يُرَغِّبْ كل واحد منكم في طلب علم العقيدة لأنَّ معه سلامة القلب ومعه سلامة العمل ومعه سلامة الخروج بيقين عن الفرق الضالة والالتزام بطريق الجماعة. فهذه الكلمة كلمة عظيمة (وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.) يعني في اعتقادهم ولا في أقوالهم، وكذلك لا نترك جماعة المسلمين في أبدانهم لأنَّ هذا من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الذين تابعوا الكتاب والسنة ولم يخرجوا عن ذلك أعان الله الجميع على كل خير. نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله (ولا نُكَفِّرُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) . نأخذ بعض الأسئلة.   (1) البخاري (52) / مسلم (4178) (2) البخاري (52) (3) لمعرفة المزيد مما صح في هذه الفتنة راجع الشريط (404) من سلسلة الهدى والنور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الأسئلة : س1/ لماذا كفَّرَ أئمة الهدى القائلين بخلق القرآن مع أنهم متأوّلون، ولم يكفروا القائلين بإنكار الأسماء والصفات أو بعضها لأنهم متأولة؟ ج/ هذه مسألة كبيرة في مسألة التكفير، تكفير الفِرَقْ يقال به من جهة الوعيد والتنفير من هذا القول؛ لكن تكفير المعين، يعني تكفير المعتزلة لا يعني أننا نُكَفِّرْ الأفراد، تكفير من قال بخلق القرآن لا يعني نُكَفِّرْ كل من قال به، تكفير من أنكر الأسماء والصفات ليس معناه أنه كل فرد أنكر يُكَفَّرْ، ليس كذلك. ولذلك أهل السنة والجماعة أجمعوا على عدم تكفير من تأول الصفات لأن ثَمَّ شبه. والتكفير إخراج من الدين والإخراج من الدين لابد أن يكون بأمر يقيني في قوة ما به دخل إلى الإسلام أو ما به صار مسلما وصار مؤمنا. وهذه المسائل التي فيها تأويل أو اشتباه لو كَفَّرَ بعض الأمة بعضاً فيها لصار هناك تكفير كبير، وهذا لم يعمله أحد من أئمة الإسلام. فلذلك هناك تكفير بالنوع وهذا وعيد ولأجل إطلاق النصوص وحمايةً للشريعة. فإذا جاء المعين لابد في حقه من إقامة الحجة ورد الشبهة والجواب عن شبهته. قالوا حتى في مسائل الأسماء والصفات يُشْتَرَطُ فيها الفهم. يعني في تأويل الأسماء والصفات لا يقول أقمت الحجة وهذه لا يُشْتَرَطُ فيها الفهم. كما هو القول المعروف الصحيح أنَّ الذي يُشْتَرَطْ إقامة الحجة في التكفير أو في التبديع أو في التفسيق إلى آخره، أما فهم الحجة فلا يُشْتَرَطْ. قالوا إلا في الأسماء والصفات فلابد أن يفهم لأنَّ الشبهة فيها قوية وقال بها عدد من المنتسبين إلى الحديث والسنة، وفيها نوع اشتباه. وهذه الكلمة وهي استثناء الأسماء والصفات قالها بعض أئمة الدعوة كما هو موجود في الدرر السنية وفي غيرها، فينتبه لهذا الأصل. س2/ يقول الفرق كلها في النار إلا فرقة واحدة هل الدخول في النار تخليد أم [ ..... ] ؟ ج/ لا ليس تخليداً؛ لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم «وستفترق هذه الأمة» قال العلماء المقصود بها أمة الإجابة لا أمة الدعوة، ولذلك أخرجوا منها الجهمية وأخرجوا منها الفرق التي لا تدخل في الإجابة أصلاً؛ يعني الجهمية باتّفاق وقد تدخل بعض الفرق الأخرى على اختلاف بينهم. فهذه الفرق هي من فرق الإجابة يعني أنها من فرق المسلمين. فقوله «كلها في النار» ليس إخراجاً لهم من الإسلام، وإنما هو وعيد لمخالفتهم لما كانت عليه الجماعة. من هذه الفرق الخوارج، من هذه الفرق المعتزلة، من هذه الفرق المرجئة، من هذه الفرق أشباه هؤلاء الذين خالفوا الجماعة. لكن لا يُشْهَدْ على مُعَيَّنْ منهم بأنه كافر أو أنه من أهل النار ونحو ذلك على أصل أنه لا يُشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار. في هذا القدر كفاية، جمعني الله وإياكم على رضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. الأسئلة: س1/ كيف نجمع بين حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِى إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِى إِنْ شِئْتَ، وَلْيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ» (1) وبين حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده فقال «لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله» (2) قال قال الأعرابي: طهور؛ بل هي حمى تفور على شيخ كبير تُزِيرُهُ القبور، قال النبي صلى الله عليه وسلم «فَنَعَمْ إِذاً» ؟ ج/ الحديثان المذكوران كلاهما في الصحيح، والعلماء جمعوا بينهما بأوجهٍ من الجمع: - من أحسنها أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله) هذا من باب الخبر لا من باب الدعاء، فهو قال للأعرابي هذه الحمى طهور لك؛ طهور لك في دينك وطهور لك أيضا في بدنك فتصبح بعدها سالما، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. لأنَّ قوله (طهورٌ) مرفوع، والرافع له مبتدأ محذوف أو الابتداء المحذوف بقوله (هي طهور إن شاء الله) وليس المراد الدعاء لأنه لو كان دعاءً لصارت منصوبة اللهم اجعلها طهوراً. لو قال: طهوراً إن شاء الله؛ يعني: اجعلها اللهم طهوراً، فيكون دعاء. فالظاهر من السياق من اللغة ومن القصة أنَّ المراد الخبر. فإذا كان المراد الخبر فلا يعارض الدعاء بقول القائل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَّقَ الخبر بالمشيئة فقال «طَهُورٌ إِنْ شَاءَ الله» ، كما قال - عز وجل - {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ، وكقوله - عز وجل - {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [يوسف:99] ، فقوله اغفر لي إن شئت، هذا تعليق للدعاء بالمشيئة، والله - عز وجل - لا مُسْتَكْرِهَ له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد في خلقه - جل جلاله -. - الوجه الثاني وهو وجه حسن أيضاً أنَّ قول الداعي: اللهم اغفر لي إن شئت هذا على جهة المخاطبة، اغفر لي إن شئت. وأما إذا كان على جهة الغَيْبَةْ فإنه لا بأس به، فلو قال غَفَرَ الله له إن شاء الله، هذا أخف من التعليق بالمواجهة اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت. لأنَّ المخاطبة تقتضي الذل والتقرب إلى الله - جل جلاله - بما يحبه من نعوت جلاله وصفاته ومدحه سبحانه والثناء عليه. والتعليق بالمشيئة فيه نوع استغناء، فلهذا قال في آخره «إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ» وقال «إن الله لا مستكره له» . وهذا الوجه الثاني قال به بعض أهل العلم ولكنه ليس في القوة كالأول فالأول ظاهر، والثاني قيل به وليس هو المختار. س2/ هل تعدد الجماعات مثل تعدد الآراء في المسألة الفقهية الواحدة؟ ج/ إذا كان يقصد بالجماعات الجماعات الإسلامية التي ظهرت في هذا الزّمن فليس ذلك مثل تعدد الآراء في المسألة الفقهية الواحدة؛ لأنَّ تعدد الآراء في المسألة الفقهية الواحدة هذا إذا كان مورده الاجتهاد فإنَّ كل واحد من القائلين بالمسألة الفقهية يؤجر على اجتهاده فيما اجتهد فيه؛ لأنَّ المسألة موردها الاجتهاد. كذلك في المسائل التي ينزع فيها المجتهد إلى دليل هو مأجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد (3) » يعني أجر على اجتهاده، والثاني له أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق. وأما الجماعات الإسلامية الموجودة الآن فهي تختلف في طريقتها وتختلف في أصولها وتختلف في مبادئها وأهدافها إلى آخر ذلك، والأصل الواجب على كل مسلم أن يلزمه هو لزوم جماعة المسلمين قبل أن يَحدث الافتراق، فإنَّ الافتراق الحادث في الأمة لا يجوز إقراره ومعالجته بإحداث جماعات جديدة، فالواجب على المسلمين جميعا لزوم الجماعة قبل أن تفسد الجماعة.   (1) البخاري (7477) / الموطأ (496) / أبو داود (1483) (2) سبق ذكره (222) (3) البخاري (7352) / مسلم (4584) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والجماعة التي هي على الحق لم يتركها الله - عز وجل - لم يُبَيِّنْهَا، ولم يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبَيِّنْهَا؛ بل بَيَّنَهَا الله - عز وجل - بقوله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، المراد بالمؤمنين هنا الصحابة؛ لأنهم هم المقصودون بذلك في وقت تنزّل هذه الآية {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبَيَّنَ ذلك الأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» ، وفي رواية أخرى قال «هم الغرباء» ، وفي رواية ثالثة قال «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» إلى غير لك، وهذا يدلّ على أن الجماعة موجودة في زمن الصحابة، وهي موجودة في زمن التابعين، وموجودة يحملها أئمة السلف وأئمة الإسلام امتثالاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (1) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فالواجب على كل مسلم يريد السلامة في دينه وأن يكون ممن وَعَدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون من الفرقة الواحدة التي لم تأخذ سبيل الثنتين والسبعين فرقة أن يلزم أمر الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وهذا من أعظم مقاصد الدّين العظيمة التي يمتثلها العبد بامتثال قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ، فالعبد المؤمن يلزم هذه الطريقة. وكيف يلزمها؟ بتعلُّم هذه العقيدة المباركة فإنَّ دروس العقيدة والمحاضرات في التوحيد والعقيدة هي التي تنقلك إلى الالتزام بطريقة الجماعة الأولى قبل أن تفسد الجماعة. ولهذا ففتّش أنت بنفسك وستجد أنَّ من خالف أمر الجماعة الأولى وأحدث شعارات جديدة وأهداف وآراء وكتباً غير كتب السلف في هذه المسائل، ستجد أنه خالف شيئاً من أمور الاعتقاد ولا بد، فإذاً خالف طريق الجماعة قبل أن تفسد الجماعة. وهذه مسألة مهمة فتعدد الجماعات ليس مثل تعدد الفقهاء؛ بل الواجب على جميع أمة الإسلام أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا امتثالاً لقول الله جل جلاله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، يعني لا تتفرقوا في الأبدان ولا تتفرقوا أيضا في الدين بل التزموا بالقرآن الذي يدعو إلى الإجتماع على الحق. (2) : [[الشريط السادس والعشرون]] : س3/أشكلت علي مسألة وهي: أنَّ كل من انتسب إلى القبلة من أهل الأهواء والبدع وغيرهم ينتسبون إلى الإسلام، ومن قال إنَّ المجتمعات مجتمعات جاهلية، فكيف يكون الإيضاح على هذا الأمر؟ ج/ الأول ذكرناه وقَرَّرْنَاهُ لكم فيما سبق أنَّ من كان منتسباً إلى القبلة بالصلاة إليها من أهل التوحيد فهو من أهل القبلة، وإذا عَرَضَ له هوى أو بدعة فإنَّ البدع درجات والأهواء أيضاً درجات، فلا نُخْرِجُهُ من الإسلام لبِدْعَةٍ فيه، يعني لمجرد بدعة فيه أو بكل بدعة فيه، ولا نُخْرِجُهُ من الإسلام بمجرد الهوى الذي يكون في هذه الأمة؛ بل لابد أن يكون الهوى مُؤَثِّرَاً أو أن تكون البدعة مُغَلَّظَةً مُكَفِّرَةْ. أما من قال مجتمعات المسلمين اليوم مجتمعات جاهلية، فهذا باطل؛ لأنَّ الجاهلية في النصوص هي اسم لفترة زمنية مضت، قال - عز وجل - {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب:33] الأولى وقال سبحانه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، وهذه الجاهلية تكون في العقيدة، في العبادة، تكون في الأحوال الاجتماعية وتكون في الأخلاق وتكون في الآداب. فهي من جهة الزمان انقضت زمانها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم. أما من جهة المكان فإنَّ الجاهلية اسم يتبع صفة الجهل، والجهل يتنوع، والجهل العام ارتفع ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي على الحق» (3) ووجود هذه الطائفة على الحق حتى قيام الساعة يمنع رجوع الجهل العام ورجوع الجاهلية العامة. فإذاً الجاهلية العامة في الأمكنة ذهبت، وجاهلية الزمان ذهبت، بَقِيَ نوع آخر من الجاهلية وهو جاهلية الصِّفَات، فمن أَشْبَهَ أهل الجاهلية في صِفَةْ فهو مشارِك لهم في هذه الصفة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما عَيَّرَ رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. قال له صلى الله عليه وسلم «إنك امرؤ فيك جاهلية» (4) يعني فيك خصلة من خصال أهل الجاهلية، وخصال الجاهلية متنوعة كثيرة دل عليها القرآن والسنة يعني فيما خالف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية. وألّف في هذا إمام هذه الدعوة الكتاب المشهور مسائل أهل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية. فتلك المسائل منها ما هو مُكَفِّرْ كعبادة غير الله، منها ما هو في الاعتقادات، ومنها ما هو في المسائل العملية، ومنها ما هو في الاجتماعيات، ومنها ما هو في الأقوال إلى آخره. فجاهلية الصفات هذه باقية، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لتسلكُنَّ مسلك الأمم من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا أولئك» (5) . فارس والروم خصالهم من خصال الجاهلية؛ بل خصالهم خصال جاهلية في الاعتقاد وفي الأقوال وفي الأعمال، فدل على أنَّ خصال الجاهلية تكون في هذه الأمم. فإذاً وَصْفُ الأرض بأنها صارت إلى جاهلية هذا باطل، ومناقض لحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وحكم الله - جل جلاله - في قوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] ، فظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على كل دين وظهرت مِلَّتُهُ على كل مِلَّة وظهر هَدْيُهُ على كل هدي. والحمد لله على ذلك كما قال - جل جلاله - {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ، فَرُفِعَ ذِكْرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوق ذكر غيره، فصار هو المُقَدَّمَ صلى الله عليه وسلم في الإتِّبَاعْ وفي الهَدْيْ في أكثر الأرض ولله الحمد. كذلك جاهلية الزمان لا يوجد زمان يكون زمان جاهلية، لأنَّ زمن الجاهلية انتهى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم. فلا يقال مثلاً هذا القرن قَرْنٌ جاهلي، أهل هذا القرن في جاهلية ونحو ذلك؛ بل لا تزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم صنوف الخير ولله الحمد على منته وتوفيقه.   (1) البخاري (7311) / مسلم (5059) (2) انتهى الشريط الخامس والعشرون. (3) سبق ذكره (348) (4) البخاري (30) / مسلم (4403) (5) البخاري (7319) / مسلم (6952) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.   الحمد لله، وبعد: هذه الجملة من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله من الأصول العظيمة في معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا يُكَفِّرونَ أحداً من أهل القبلة بمجرد حصول الذنب منه إلا إذا اسْتَحَلَّهُ باعتقاد كونه حَلَالاً لَهُ أو حلالاً مُطْلَقَاً. وكذلك أنهم لا يُخَفِّفُونَ أمر الذنوب بحيث يجعلون الذنب غير مؤثّر في الإيمان. ولهذا قالَ تقريراَ لهذا الأصل العظيم (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ، وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.) . وهذه الجملة من كلامه أراد بها أنَّ حصول الذنب من أهل القبلة لا يعني تكفيره كما ذهبت إلى ذلك الخوارج، وحصول الذنب من أهل القبلة لا يعني أنَّ هذا المؤمن لم يتأثر بحصول الذنب منه كما تقوله المرجئة. فخالف بهذا القول الخوارج والمعتزلة وخالف أيضاً المرجئة. وهذه المسألة لاشك أنها من المسائل العظيمة جداً وهي مسألة تكفير المُنْتَسِبْ إلى القبلة الذي ثَبَتَ إسلامه وإيمانه إذا حصل منه ذنب. فإنَّ قاعدة أهل السنة والجماعة أنَّ من دخل في الإسلام والإيمان بيقين لم يُخرِجْهُ منه مجرد ذنب حَصَلَ منه، ولا يُخرجُهُ منه كُلُّ ذَنْبٍ حَرَّمَهُ الشارع؛ بل لابد في الذنوب العملية من الاستحلال بأن يعتقد أنَّ هذا العمل منه حلالٌ له وليس بذنب وأنه ليس بِمُحَرَّمْ. وهذا هو طريقة أهل السنة والجماعة بأنهم لا يُكَفِّرُونْ؛ بل يُخَطِئوُن أو يُضَلِّلُونَ أو يُفَسِّقُون. فنقول: مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته مسلم بما معه من التوحيد؛ ولكنه فاسقٌ لما ارتكب من الكبيرة التي أظهرها ولم يتب منها. فهذه الجملة فيها تقرير لعقيدة أهل السنة ومخالفتهم للخوارج والمعتزلة وكذلك فيها مخالفة أهل السنة للمرجئة. إذا تبين هذا فتحت هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 [المسألة الأولى] : دليل أهل السنة والجماعة على أنَّ من أصاب ذنباً من أهل القبلة فإنه لا يُكَفَّر دلَّ على ذلك جملة أدِلَّةْ من الكتاب والسنة: 1- منها قول الله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، ومعلومٌ أَنَّ القاتل داخل في هذا الخطاب في النداء بالإيمان، وقال - عز وجل - بعدها {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] ، فَسَمَّاهُ أخاً له، فدلَّ على أنَّ حصول القَتْلِ على عِظَمِهِ لم يَنْفِ اسم الإيمان. 2- كذلك قوله - عز وجل - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:9-10] ، فَسَمَّاهم مؤمنين وسَمَّاهُمْ إخوة أيضاً ووَصَفَهُمْ بالأخوة، فدل على أنَّ وقوع القتل منهم لم ينفِ اسم الإيمان، مع قوله - عز وجل - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ، فأثبت له جهنم وعيداً، وغَضِبَ الله - عز وجل - عليه واللعنة، ومع ذلك لم ينف عنه اسم الإيمان. فدلَّ على أنَّ وقوع الكبيرة من المسلم لا يسلب عنه الإيمان، ووقوع الذنب ليس مُبِيحاً لإخراج هذا المذنب من أصل الإسلام إلى الكفر. 3- ويدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وغيره حينما أوتي برجل من الصحابة يقال له حمار شرب الخمر فجلده، ثم شربها ثانية فأُتِيَ به فجلده، ثم لما أتي به الثالثة قال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال نبينا صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا ذلك فإنه يحبّ الله ورسوله» (1) ، فدلّ على أنَّ وجود المحبة الواجبة لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم مع حصول الكبيرة مانِعٌ من لَعْنِهِ، وهذا يعني أنها مانع من تكفيره ومن إخراجه من الدين من باب الأولى. 4- كذلك قال الله - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] ، فناداهم باسم الإيمان مع حصول الذنب منهم وهو الإلقاء بالمودة إلى عدو الله - عز وجل - وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنَّ إلقاء المودة لأمر الدنيا ليس مُخْرِجَاً من اسم الإيمان؛ بل يجتمع معه قال تعالى في آخر الآية {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] . 5- في قصة حاطب بن أبي بلتعة في إسراره للكفار بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على وقوع الذنب منه وعلى مغفرة الذنب له لأنه من أهل بدر، قال عليه الصلاة والسلام في حقه «لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم» (2) وفي الرواية الثانية «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (3) . والأدلة على هذا الأصل عند أهل السنة والجماعة كثيرة. 6- ومما يدل عليه من جهة النظر: أنَّ الكبائر كالسرقة والزنا وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك شُرِعَتْ لها الحدود، والحدود مُطَهِّرَةْ، والمرْتَدُّ يُقْتَل على كل حال، ووجود الحدود هذه دليل ظاهر على أنَّهُ ارتكب فعلاً لم يُخْرِجْهُ من الملّة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من بدّل دينه فاقتلوه» (4) ، وقال «والتارك لدينه المفارق للجماعة» (5) يعني ممن يحلّ دمه، فدل على أن وقوع هذه الذنوب من العبد تُطَهَّرُ بهذه الحدود وليست كفراً؛ لأنها لو كانت كفراً لكان يُقْتَلُ ردةً لقوله «من بدّل دينه فاقتلوه» . 7- ويدلّ عليه أيضا أنَّ ولي الدم في القتل يعفو، له السلطان إن شاءَ عَفَا وإنْ شَاءَ أخذ، قال - عز وجل - {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] ، قال {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} وهذا يدلّ على أنَّ الحق هنا للمخلوق، وأما الرِّدَة فهي حق لله، يعني أمَّا الردة فجزاؤها حق لله - عز وجل - ليس لولي المقتول.   (1) سبق ذكره (213) (2) البخاري (3007) (3) المسند (7927) (4) البخاري (6922) / أبو داود (4351) / الترمذي (1458) / النسائي (4059) /ابن ماجه (2535) (5) مسلم (4468) / أبو داود (4352) / الترمذي (1402) / ابن ماجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فدلّت هذه الأدلة ودلَّ غيرها على بطلان قول الخوارج وعلى ظهور قول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة في أنَّ صاحب الذنب من الكبائر العملية التي ذكرنا بعضاً منها أنَّهُ لا يَخْرُجُ من الإسلام بحصول الذنب منه؛ يعني بحصول ذنب منه، أو بحصول كل ذنبٍ، أو أي ذنبٍ منه؛ يعني ليس كل ذنبٍ مخرجاً له من ذلك؛ بل الكبائر العملية ليست كذلك -يعني مُخْرِجَةْ له من الإسلام- خلافاً لقول الخوارج والمعتزلة في التخليد في النار. وأما الجملة الثانية وهي قوله (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.) فهذه أيضاً فيها مخالفة للمرجئة الذين يقولون: لا يَضُرُّ مَعَ الإيمَانِ ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. والأدلة دَلَّتْ على أنَّ الذنوب تؤثر في الإيمان، منها: 1- قال - عز وجل - في ذكر القاتل {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] . 2- وقال - عز وجل - في الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275] . 3- وقال - عز وجل - في المرابين {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] . 4- وشَرَعَ الله - عز وجل - الحد في السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، وشَرَعَ الجلد في القذف وفي الزنا إلى آخر ذلك، وهذا يدل على أنَّ هذه الأمور أثَّرَتْ في الإيمان، هذه الكبائر أَثَّرَتْ في الإيمان. 5- والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثيرة «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتَّاتٌ» (1) ، «لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَاطِعُ رَحِم» (2) وهذا تأثير في الإيمان بسبب هذه الكبيرة.   (1) البخاري (6056) / مسلم (304) (2) مسلم (6685) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 [المسألة الثانية] : هذه الجملة اشتملت على مُعْتَقَدٍ فيه النهي عن التكفير، وتكفير أهل القبلة بأيِّ ذَنْبٍ حرام، والخوض في مسائل التكفير بلا علمٍ أيضاً حرام، وقد يكون من كبائر الذنوب؛ بل هو من كبائر الذنوب لأَوْجُهٍ: 1- الأول: أنَّ الإسلام والإيمان ثَبَتَ في حق الشخص -في حق المعين- بدليل شرعي، فَدَخَلْ في الإسلام بدليل، فإخراجه منه بغير حجة من الله - عز وجل - أو من رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من القول على الله بلا علم ومن التعدي -من تعدي حدود الله-، ومن التقدم بين يدي الله - عز وجل - وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا فيه التحذير من هذا الأمر الجلل وهو مخالفة ما ثبت بدليل إلى الهوى أو إلى غير دليل. لهذا يقول العلماء: من ثَبَتَ إيمانه بدليل أو بيقين لم يزل عنه اسم الإيمان بمجرد شُبْهَةٍ عَرَضَتْ أو تَأْوِيْلٍ تَأَوَّلَه؛ بل بد من حُجَّةٍ بَيِّنَةْ لإخراجه من الإيمان، كما يقول ابن تيمية ولابد من إقامة حجة تقطع عنه المعذرة. 2- الثاني: من الأوجه في خطر التكفير وما تَضَمَّنَتْهُ هذه الكلمة من مُعْتَقَدِ أهل السنة والجماعة: أنَّ التكفير خاض فيه الخوارج وهم أول الفئات التي خاضت في هذا الأمر، والصحابة رضوان الله عليهم أنكروا عليهم أبلغ الإنكار بل عَدُّوهُمْ رأس أهل الأهواء. وأولُ مسألةٍ خاض فيها الخوارج وسَبَّبَتْ التَّوَسُّع في التكفير هي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله؛ حيث احتجوا على عليٍ رضي الله عنه -وكانوا من جيش علي- بأنَّهُ حَكَّمَ الرجال على كتاب الله، لمَّا حَصَلَتْ واقعة التحكيم بين أبي موسى الأشعري وبين عمرو بن العاص رضي الله عنهما. فقالوا: حَكَّمَ الرجال على كتاب الله فهو كافر، فَكَفَّرُوا عليا رضي الله عنه، استدلالاً بقوله - عز وجل - {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة44] . فذهب إليهم ابن عباس يناظرهم حتى احْتَجَّ عليهم بقول الله - عز وجل - {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] الآية، فرجع ثلث الجيش وبقي طائفة منهم على ضلالهم وظهرت فِرَقْ كثيرة من الخوارج. فيَدُلُّكَ على قُبْحِ الخوض في هذه المسألة بلا علم أنَّها شعار أهل الأهواء؛ أعني الخوارج وهم أول فرقة خرجت في هذه الأمة وخالفت الجماعة، ولا شك أنَّ التزام نهج أتقى أهل الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُتَعَيِّنْ. 3- الثالث: من أوجه بيان خطر التكفير والخوض فيه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» (1) يعني إن كان كافراً فهو كما ادُّعِيَ عليه وإلا عادت إلى الآخر، وهذا وعيد شديد. - وقد يكون التكفير مبعثه الهوى. - وقد يكون مبعثه الجهل. - وقد يكون مبعثه الغَيْرَةْ. فهذه ثلاثة أسباب لمنشإ التكفير: قد يكون الهوى -يعني التكفير بلا علم-، وقد يكون منشؤه الجهل، وقد يكون منشؤه الغيرة. أما الأول والثاني فواضح -يعني الهوى والجهل-وأمثلة أهل الأهواء فيه كثيرة. وأما الثالث وهو أنَّ التكفير قد يَحْمِلُ المَرْءَ عليه الغَيْرَةْ على الدين قصة عمر رضي الله عنه مع حاطب ابن أبي بلتعة حيث لمَّا حصل من حاطب ما حصل، قال عمر لنبينا صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. والحكم عليه بالنفاق حكم عليه بإبطانه للكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ عمر رضي الله عنه بذلك لأنَّهُ من أهل بدر ولأنه قالها على جهة الغيرة وخطؤه مغفورٌ له؛ لأنه من أهل الجنة؛ يعني لِسَبْقِ كونه من أهل بدر. فدلَّ هذا على أنَّ الغيرة ليست حجة شرعية في التوسع أو في ابتداء القول في هذه المسائل بلا علم أو في التكلم فيها. الغيرة ليست عُذْراً، لهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما عَذَرَ عمر بالغيرة، وإنما عُذِرَ عمر رضي الله عنه: 1- لاشتباه المقام أولاً في حق حاطب. 2- ثُمَّ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما بيَّنَ عذره -يعني ما بَيَّنَ الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم عذره- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أَخَذَ عمر بتلابيب حاطب، قال «أرسله يا عمر -أو دعه يا عمر-، يا حاطب: ما حملك على هذا؟» فلما استفصل منه رَجَعَ الأمر إلى الوضوح فيه.   (1) البخاري (6103) / مسلم (225) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 [المسألة الثالثة] : افترقت هذه الأمة في هذه المسألة العظيمة وهي مسألة التكفير إلى ثلاث طوائف. طائفتان ضَلَّتَا، وطائفة هي الوسط وهي التي على سبيل الجماعة، وهذه الطوائف الثلاث هي: 1- الطائفة الأولى: من كَفَّرَ بكل ذنب، وجعل الكبيرة مُكَفِّرَةً وموجبةً للخلود في النار، وهؤلاء هم الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتقدِّمين ومن أهل العصر أيضاً ممن يَشْرَكُهُمْ في هذا الأصل والعياذ بالله. 2- الطائفة الثانية: من قالت: إنَّ المؤمن لا يمكن أن يخرج من الإيمان إلا بانتزاع التصديق القلبي منه وحصول التكذيب، وهؤلاء هم المرجئة وهم درجات وطوائف أيضاً. وهذا مبني على أصلهم في أنَّ الإيمان هو تصديق القلب فلا ينتفي الإيمان عندهم إلا بزوال ذلك التَّصديق. وهذا أيضا غلط؛ لأدلة ربما تأتي إن شاء الله تعالى. 3- الطائفة الثالثة: وهم الوسط الذين نهجوا ما دَلَّتْ عليه الأدلة، وأخذوا طريقة الأئمة التي اقتفوا فيها هدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، فقالوا: إنَّ المِلِّيَّ والوَاحِدَ من أهل القبلة قد يخرج من الدين بتبديله في الدين ومفارقته للجماعة بقولٍ أو عملٍ أو اعتقادٍ أو شك. وهذا هو الذي أورده الأئمة في باب حكم المرتد، وقالوا: إنَّ هذا يدخل في تبديل الدّين الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم «من بدّل دينه فاقتلوه» ، ويدخل في قول الله - عز وجل - {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] آية البقرة ونحو ذلك، فدل ذلك على أنَّ المؤمن المسلم قد يحصل منه رِدَّةْ. وهذه الردة لها شروطها ولها موانعها بتفصيلٌ لهم في كتب الفقه في باب حكم المرتد. فعند أهل السنة والجماعة: -لا يُتَسَاهَلْ في أمر التكفير بل يُحذَّرْ منه ويُخوَّفْ منه. -وأيضا لا يَمْنَعُونَ تكفير المُعَيَّنِ مُطْلقاً؛ بل من أَتَى بقول كفري يخرجه من الملة أو فِعْلٍ كفريٍ يُخْرِجُهُ من الملة أو اعتقاد كفري يُخْرِجُهُ من الملة أو شك وارتياب يُخْرِجُهُ من الملة، فإنه بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع يَحْكُمُ عليه العالم أو القاضي بما يجب من الردة ومن القتل بعد الاستتابة في أغلب الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 [المسألة الرابعة] : دلّ القرآن والسنة على أنَّ الناس ثلاثة أصناف لا رابع لهم، وهم: المؤمنون، الكفار، المنافقون. - والمؤمن المسلم هو من دَخَلَ في الإسلام وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأتى بلوازم ذلك. - والكافر الأصلي قد يكون كِتَابِيَّاً وقد يكون مشركاً وثنياً، كأهل الكتاب مثل اليهود والنصارى، وقد يكون وثنيا مثل المجوس وعبدة الكواكب والأوثان ومشركي العرب وأشباه ذلك. - والمنافق هو من يُبْطِنُ الكفر ويُظهر الإسلام، فيُحْكَمُ بإسلامه ظاهراً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين، حتى إنه باعتبار الحكم الظاهر ورَّثَهُمْ وَوَرِثَ الصحابة من آبائهم المنافقين، وهم في الباطن كفّار أشد من اليهود والنصارى لقوله {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] . فمن حَصَلَ منه ذنب ووقع في ذنب من الذنوب فإنه لا يخلو: - إما أن يكون من أهل الإيمان. - وإما أن يكون من أهل الكفر. - وإما أن يكون ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر. فمن كان من أهل الإيمان: فإنه ليس كل ذنب يُخرِجُهُ من الإيمان، فَلَمَّا شَهِدَ شهادة الحق بيقين وظُهُور فإنه لا يُخرِجُهُ منها إلا يقين مماثل لذلك مع إقامة الحجة ودرء الشبهة. وهذا التفصيل تنتفع به في مسائل تدل على هذا أو ذاك؛ يعني على أحد الأقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 [المسألة الخامسة] : من أصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب وما خالفوا به الخوارج والمعتزلة والمرجئة في باب الإيمان والتكفير أَنَّهُم فَرَّقُوا بين التكفير المطلق وما بين التّكفير المُعَيَّنْ، أو ما بين تكفير المطلق من الناس دون تحديد وما بين تكفير المُعَيَّنْ. فأهل السنة والجماعة أصْلُهُمْ أنهم يُكَفِّرُونَ من كَفَّرَهُ الله - عز وجل - وكَفَّرَهُ رسوله صلى الله عليه وسلم من الطوائف أو من الأفراد. فيُكَفِّرُونَ اليهود ويُكَفِّرُونَ النّصارى ويُكَفِّرُونَ المجوس ويُكَفِّرُونَ أهل الأوثان من الكفار الأصليين؛ لأنَّ الله - عز وجل - شهد بكفرهم. فنقول: اليهود كفار، والنصارى كفار، وأهل الشرك كفار، يعني أهل الأوثان عباد الكواكب عباد النار عباد فلان إلى آخره هؤلاء كفار وهؤلاء كفار أصليون نزل القرآن بتكفيرهم. كذلك نقولُ بإطلاقِ القول في تكفيرِ من حَكَمَ الله - عز وجل - بكفره في القرآن، ممن أنْكَرَ شيئاً في القرآن فنقول: من أنَكَرَ آيَةً من القرآن أو حَرْفَاً فإنه يَكْفُرْ. نقول من اسْتَحَلَّ الربا المُجْمَعْ على تحريمه فإنه يكفر، من استحل الخمر فإنه يكفر. من بدّل شرع الله - عز وجل - فإنه يكفر. من دعا الناس إلى عبادة نفسه فإنه يكفر وهكذا، فيطلقون القاعدة. وأما إذا جاء التشخيص على معين فإنهم يعتبرون هذا من باب الحكم على المُعَيَّنْ فيُرْجِعُوَنُه إلى من يصلح للقضاء أو الفتيا. فالأول وهو التكفير المطلق أو تكفير المطلق دون تحديد هذا مما يَلْزَمُ المؤمن أن يتعلّمه ليُسَلِّمَ لأمر الله - عز وجل - وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعتقد ما أمر الله - عز وجل - به وما أخبر به. فإنَّ تكفير من كَفَّرَهُ الله - عز وجل - بالنوع واجب والامتناع عن ذلك من الامتناع عن شرع الله - عز وجل -. وأمَّا المُعَيَّنْ فإنهم لا يُكَفِّرُونَه إلا إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع. وعند من تجتمع الشروط وتنتفي الموانع؟ عند من يُحْسِنُ إثبات البيّنات ويُحْسِنُ إثبات الشرط وانتفاء المانع وهو العالم بشرع الله الذي يَصْلُحُ للقضاء أو للفتيا، فيحكم على كل معين بما يستحقه. * فإذاً من أصولهم التفريق ما بين الحُكْمِ على المُعَيَّنْ وما بين القول المطلق. وهذا الأصل دَلَّتْ عليه أدلة من فعل أئمة السلف ومن أقوالهم، فإنَّ الإمام الشافعي مثلاً حَكَمَ على قول حفص الفرد لمَّا نَاقَشَهْ بأنه كُفْرْ ولم يحكم عليه بالردة. وكذلك من حكموا على من قَالَ بخلق القرآن أو أنَّ الله لا يُرَى في الآخرة بأنه كافر لم يُطَبِّقُوهُ في حق المعين، لهذا الإمام أحمد لما حَكَى أو قال بتكفير من قال بخلق القرآن لم يُكَفِّرْ عيناً أمير المؤمنين في زمانه الذي دعا إلى ذلك؛ بل أمراء المؤمنين الثلاثة المأمون ثم المعتصم ثم الواثق حتى جاء عهد المتوكل، فاستدل منه أئمة أهل الإسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية على أنّ إطلاق الكفر غير تعيين الكافر. ووَجْهُ ذلك ما ذكرته لك من أنَّ التعيين يحتاج إلى أمور؛ لأنه إخراج من الدين والإخراج له شروطه وله موانعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 [المسألة السادسة] : نرجع إلى قول الطحاوي هنا (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) أُخِذَ على الطحاوي أنه قال (بِذَنْبٍ) وهذا يفيد أنه لا يُكَفِّرْ بأي ذنب. قال (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) يعني أنَّ أي ذنب لا يُكَفَّرُ به حتى يستحله. وهذا ليس هو مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة على هذا الإطلاق وإنما يُعَبِّرُونَ بتعبير آخر وهو مراد الطحاوي يقولون (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بمجرّد ذنب) كما يقوله طائفة من أئمة الدعوة، أو (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكلّ ذنب) كما يقوله أيضاً طائفة من العلماء المتقدّمين ومنهم شارح الطحاوية تبعاً لغيره. فإذاً قول الطحاوي (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ) المقصود به الذنوب العملية من الكبائر كالخمر والزنا والسّرقة وقذف المحصنات والتولي يوم الزحف ونحو ذلك من كبائر الذنوب العملية التي كَفَّرَ الخوارج بها. ويدل على هذا أنَّ العقيدة مُصَنَّفَةْ لبيان ما يخالف به أهل السنة أهل البدع والخوارج وما تميزت به الجماعة، ومعلوم أنَّ الخوارج خالفوا في تكفير مرتكب الكبيرة مثل القتل والزنا وشرب الخمر والسرقة وأشباه ذلك، فخالفهم بهذا القول، يعني لا نكفر بهذه الذنوب. (بِذَنْبٍ) يعني من الذنوب العَمَلِيَّة التي كفَّرَ بها الخوارج أو خلَّدَ أصحابَها في النار المعتزلةُ. ويدل عليه أنه قال بعدها (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) والاستحلال غالبه في الذّنوب العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 [المسألة السابعة] : قوله (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) الاستحلال معه يكون مرتكب الكبيرة كافراً. والاستحلال هو اعتقاد كون هذا الفعل حَلَالاً. قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم: والاستحلال أن يعتقد أنَّ الله جَعَلَهُ حَلَالاً أو أَنَّ الله لم يحرمه. فإذا اعتقد أنَّ هذا الشيء حلال، أو أنَّ الله لم يُحَرِّمْ هذا سواءٌ كان حلالاً على الأمة جميعا أو حلالاً عليه هو، وسواءٌ كان عدم التحريم على الجميع أو عليه هو -لأنها صورتان- فإنَّ هذا هو الاستحلال. فإذاً ضابط الاستحلال المُكَفِّرْ هو الاعتقاد وذلك أنّ الإستحلال فيه جحد لكون هذا الذنب مُحَرَّمَّاً، لأنه إذا قال (1) الخمر حلال فإنَّهُ جَحَدَ تحريمها. ويأتي الصلة ما بين الجحد والتكذيب والاستحلال في المسألة التي تليها إن شاء الله تعالى. فإذاً ضابط الاستحلال المُكَفِّرْ أن يعتقد كون هذا المحرم حلالاً وله صورتان: 1- الصورة الأولى: أن يعتقد كونه حلالاً له دون غيره، وهذه تسمى الامتناع. 2- الصورة الثانية: أن يعتقد كونه حلالاً مطلقاً له ولغيره، وهذه تسمى التكذيب أو الحجد المطلق. * فالاستحلال المكفِّر هو الاستحلال بالاعتقاد. قال بعض أهل العلم: وأمَّا ما جاء في حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري الذي في البخاري مُعَلَّقَاً بل موصولاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ -يعني الزنا- والحرير والخمر والمعازف» (2) ، هل هذا الاستحلال من الاستحلال العملي أو الاستحلال المكفّر؟ قال طائفة -كما ذكرتُ لك وهو ظاهر-: أنَّ هذا الاستحلال عملي وليس باعتقاد كون هذه الأشياء حلالاً: - فلم يُخْرِجْهُمْ من الإيمان إلى الكفر. - ولم يُخْرِجْهُمْ من كونهم من هذه الأمة لقوله «ليكونن من أمتي» فجعلهم بعض هذه الأمة. وهذا يُلْمِعُ إليه كلام ابن تيمية وكذلك للحافظ ابن حجر ولجماعة. وهو ظاهِرْ في أنَّ المدمن للذنوب يكونُ فِعْلُهُ فِعْلَ المُسْتَحِلْ؛ لكن ليس اعتقاده اعتقاد المُسْتَحِلْ. فقال «يستحلُّون» يعني يستحلون عَمَلَاً لا اعتقاداً لأجل ملازمتهم لها وإدمانهم لهذه الذنوب. فضابط الكفر في الاستحلال الذي ذَكَرَهُ هنا (مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) يعني ما لم يعتقد أنَّ الله لم يُحَرِّمْ هذا، أو أنَّ الله أباح هذا، أو أنَّ هذا الأمر حلال، أو ليس بحرام إلى آخره. * وهذا القَدْرْ له ضابط أصلي عام وهو: أنَّ الذي يَنْفَعُ فيه ضابط الاستحلال هي الذنوب المُجْمَعْ على تحريمها، المعلومة من الدين بالضرورة. أما إذا كان الذنب مُخْتَلَفَاً فيه إما في أصله أو في صورة من صوره فإنه لا يُكَفَّرُ من اعْتَقَدَ حِلَّ هذا الأصل المُخْتَلَفْ فيه يعني في أصله أو الصورة المختلف فيها. يُوَضِّحْ ذلك النبيذ الذي أباحه طائفة من التابعين من أهل الكوفة وأَبَاحَهُ طائفة من الحنفية أو من أباح ما أسْكَرَ كثيره ولم يسكر قليله، فإنَّ أهل العلم من أهل السنة لم يُكَفِّرُوا الحنفية الذين قالوا بهذا القول وكذلك لم يُكَفِّرُوا من قال به من أهل الكوفة أو غيرهم. وكذلك من لم يقل بتحريم رِبَا الفضل لأنه فيه اختلاف، وكذلك بعض صور الربا، وكذلك بعض مسائل النظر إلى المحرمات يعني إلى الأجنبيات أو إلى الغلمان ونحو ذلك. فإذا كان هناك أصلٌ مُجْمَعٌ على تحريمه معلومْ من الدين بالضرورة -بالضرورة يعني ما لا يُحْتَاجْ معه إلى الاستدلال- فإننا نقول: من اعتقد إباحة هذا أو حِلَّهُ فإنه يكفر. مثل الخمر المعروفة يعني في زمن النبي صلى الله عليه وسلم التي تُسْكِرُ من شَرِبَهَا؛ تخامر عقله، مثل السرقة، مثل الزنا والعياذ بالله، مثل نكاح ذوات المحارم إلى آخر هذه الصّور.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس والعشرين. (2) البخاري (5590) / ابن حبان (6754) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 [المسألة الثامنة] : مما له صلة بلفظ الاستحلال واشْتَبَهَ على كثيرين أيضاً الجحد والتكذيب. وطائفة من أهل العلم يجعلون التكذيب والجحد شيئاً واحداً. وهذا ليس بجيد؛ بل هما شيئان مختلفان، قد يجتمعان وقد يفترقان. ويدل على ذلك قول الله - عز وجل - في سورة الأنعام {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] ، فَنَفَى عنهم التكذيب وأَثْبَتَ لهم الجحد، فدل على أنَّ التكذيب والجحد متغايران. فما صلتها بالاستحلال؟ الاستحلال: اعتقاد كون هذا الأمر حلالاً، يعني هذا المحرم حلالاً. والجحد: أن يَرُدَّ الحكم بَأَنَّهُ حلال أو أَنَّهُ حرام. حَجَدَ وجوب الصلاة: يعني رَدَّ هذا الحكم، يعني قال: لا، الصلاة ليست واجبة. حَجَدَ حرمة الخمر قال: الخمر غير محرمة. * فإذاً الاستحلال وهو اعتقاد كون الشيء المحرم حلالاً، يكونُ مَعَهُ جَحْدٌ قلبي؛ ولكن ليس معه جحد لساني، قد يكون معه وقد لا يكون؛ لأنَّ ظاهر آية الأنعام {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} يعني في الباطن {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يعني في الظاهر. فالجحد قد يكون في الظاهر وقد يكون في الباطن، والتكذيب قد يكون في الباطن وقد يكون في الظاهر. والتكذيب: هو عدم اعتقاد صدق الخبر أو الأمر أو النهي. ولهذا أَرْجَعَ كثيرٌ من أهل العلم من أهل السنة أكثر مسائل التكفير إلى التكذيب، وذلك لأنَّ التكذيب في أصله مناقض للتصديق الذي هو أصل الإيمان. والمرجئة ومن شابههم قَصَرُوا الكفر على التكذيب فضلوا. وأهل السنة والجماعة جَعَلُوا الخروج من الإسلام والردة يكون بتكذيبٍ ويكون بغيره كما ذكرتُ لك. فإذاً من الكلمات التي لها صلة بالاستحلال وتُلَازِمُ الاستحلال أيضا الجحد والتكذيب. ومن الكلمات أيضاً التي لها صلة بالاستحلال الالتزام والامتناع، التَزَمَ وامْتَنَعَ. ومن الكلمات القَبول والرد. وهذه تحتاج في بيانها إلى مزيد وقت وسبق أن أوضحنا لكم بعض هذه المسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 [المسألة التاسعة] : من أهل العلم من جَعَلَ التكفير في الاعتقادات أو جعله في المسائل العلمية. فقال: المسائل العلمية التي دَخَلَ فيها أهل الأهواء والبدع فإننا نكفر المخالف فيها، وأما المسائل العَمَلِيَّةْ لا نكفر فيها إلا بالاسْتِحْلال. وهذا قال به بعض المنتسبين إلى السنة؛ ولكنه مُخَالِفٌ لقول أئمة أهل الإسلام وما تَقَرَرَ من اعتقاد أهل السنة والجماعة، فإنَّ الخطأ والاجتهاد والغلو ونحو ذلك يدخل في المسائل العلمية. فأهْلُ البدع لا يُكفَّرُونْ بإطلاق، فليس كل من خَالَفَ الحق في المسائل العلمية يُعَدُّ كافراً بل قد يكون مذنباً، وقد يكون مخطئا وقد يكون مُتَأولاً. وعلى هذه الثلاث حَكَمَ أهل السنة وأئمة الإسلام بأنَّ هذه بدعة: - قد تكون ذنب يوصله إلى الكفر. - وقد تكون ذنباً فيما دونه. - وقد يكون سَلَكَ البدعة عن جهة الغلط منه والخطأ أو الجهل. - وقد يكون تأول في ذلك. ويستدلون على هذا بقصة الرجل الذي (أوصى إذا مات بأن يُحْرَقَ ثم يُذَرْ رُفَاتُهُ وقال: لئن قَدِرَ الله علي ليعذبني عذاب لم يعذبه أحدا من العالمين، فجمع الله - عز وجل - رفاته وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنما فعلته خشية عذابك) . أو كما جاء. (1) فَفَعَلَ هذا الفعل الذي أنْشَأَهُ عنده الجهل أو عدم اعتقاد الحق في صفة من صفات الله - عز وجل - وهي صفة تَعَلُّقْ القُدْرَةْ بِرُفَاتِه (2) هُوَ وبِقُدْرَةْ الله - عز وجل - على بعثه. وعفا عنه رب العالمين لأجل عِظَمِ حسناته الماحية أو لِجَهْلِهِ؛ لأنه قال فعلته من خشيتك أو خوفاً من عذابك أو نحو ذلك، وهذا اعتقاد عظيم وهو حسنة عظيمة قابلت ذلك الاعتقاد السيئ، فدلَّ على أنَّ الاعتقادات البدعية والمخالفة للحق قد يُعْفَى عن صاحبها. فإذاً قول من قال أنَّ أهل البدع والضلالات المخالفين في التوحيد أو في الصفات أنهم يُكَفَّرون إذا خالفوا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة هذا قولٌ غلط وليس بصواب عند أئمة أهل السنة والجماعة. بل الصواب تقسيمهم: - فمنهم من يكون كافراً إذا قامت عليه الحجة الرسالية ودُفِعَتْ عنه الشبهة وبُيِّنَ له. - ومنهم من يكون مذنباً لأنه مُقَصِّرْ في البحث عن الحق. - ومنهم من يكون متأولاً. - ومنهم يكون مخطئاً. - ومنهم من له حسنات ماحية يمحو الله - عز وجل - بها سيئاته.   (1) المسند (7635) / ابن حبان (7635) (2) الرُّفاتُ: مابَلِيَ فتَفتَّتَ/ تاج العروس (1/1090) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 [المسألة العاشرة] : أنَّ تكفير المعين يُشْتَرَطُ فيه إقامة الحجة. وإقامة الحجة شرطٌ في أمرين: الأول: في العذاب الأُخْرَوِيْ؛ يعني في استحقاق العذاب الأخروي. والثاني: في استحقاق الحكم الدنيوي. والدليل على ذلك قول الله - عز وجل - {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ، وكذلك قوله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} فَشَرَطَ لِتَوْلِيَةِ المُشَاقْ ما تولى وجَعْلِ جهنمَ له وساءت مصيراً أن يكون تَبَيَّنَ له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175-176] ، فهذه كلّها فيها اشتراط العلم وإقامة الحجة، وكُلُّ رسولٍ بُعِثَ لإقامة الحجة على العباد. إذا تبين هذا فإنَّ إقامة الحجة تحتاج: - إلى مقيم. - وإلى صفة. @ أما المقيم: فهو العالِمُ بِمَعْنَى الحُجَّةْ، العالِمُ بحال الشخص واعتقاده. @ وأما صفة الحجة: فهي أن تكون حُجَّةً رساليّةً بَيَّنَةً، قال - عز وجل - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] . واشْتَرَطَ أهل العلم أن تكون الحجة رسالية؛ يعني أن تكون قول الله - عز وجل - وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. يعني أما إن كانت عقليةً وليس المَأْخَذُ العَقْلِيُّ من النص فإنّه لا يُكتفى به في إقامة الحجة؛ بل لابد أن تكون الحجة رسالية. لهذا يُعَبِّرْ ابن تيمية ويُعَبِّرْ ابن حزم وجَمْعٌ بِأَنْ تكون الحجة رسالية؛ والسبب لأنها يَرْجِعُ فيها مَنْ لم يأخذ بالحجة إلى رَدِّ ما جاء من الله - عز وجل - ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترَطُ في الأصْلْ. (1) ومعنى عدم اشتراطه: أننا نقول ليس كل من كَفَرْ فإنه كَفَرَ عن عناد، بل ربما كَفَرَ بعد إبلاغه الحجة وإيضاحها له لأنَّ عنده مانع من هوى أو ضلال مَنَعَهُ من فهم الحجة، قال - عز وجل - {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (2) ، والآيات في هذا المعنى متعددة. ما معنى فهم الحجة؟ يعني أن يَفْهَمَ وجه الاحتجاج بِقُوَّةِ هذه الحجة على شبهته. فهوعِنْدَهُ شُبْهَة في عبادة غير الله، عنده شُبْهَة في استحلاله لما حُرِّمَ مما أُجْمِعَ على تحريمه؛ لكن يُبلَّغُ بالحجة الواضحة بلسانه ليفهم معنى هذه الحجة. فإن بَقِيَ أَنَّهُ لم يفهم كون هذه الحجة رَاجِحَة على حجته فإنَّ هذا لا يُشْتَرَطْ-يعني في الأصل-؛ لكن في بعض المسائل جُعِلَ عدم فهم الحجة -يعني كون الحجة راجحة على ما عنده من الحُجَجْ- جُعِلَ مانعاً من التكفير كما في بعض مسائل الصفات. يعني أنَّ أهل السنة والجماعة من حيث التأصيل اشترطوا إقامة الحجة ولم يشترطوا فهم الحجة في الأصل؛ لكن في مسائل اشترطوا فيها فهم الحجة. وهذا الذي يَعْلَمُهُ من يقيم الحجة وهو العالم الرّاسخ في علمه الذي يعلم حدود ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله صلى الله عليه وسلم.   (1) لمزيد من التفصيل انظر (603) (2) الأعراف:25، الإسراء:46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 [المسألة الحادية عشرة] : قوله (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) هذا فيه مخالفة للمرجئة. والمرجئة جَعَلُوا أصل الإيمان التصديق، وجعلوا هذا التصديق لا يتأثر زيادةً ولا نقصاً، وإنما هو شيء واحد. لذلك لم يجعلوا الإيمان يزيد وينقص، ولم يجعلوا التصديق أيضاً واليقين يزيد وينقص بل جعلوه شيئاً واحداً، لهذا لم يجعلوا ذنباً يضر مع الإيمان. والمرجئة في هذا على درجات مختلفة، يأتي بيانُها إن شاء الله تعالى عند قول المؤلف (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 [المسألة الثانية عشرة] : أَنَّ هاتين المسألتين وهما ما خالف فيه أهل السنة الخوارج وما خالفوا فيه المرجئة فرعٌ لأصل ومثالٌ لقاعدة؛ وهي قاعدة الوَسَطية لأهل السنة والجماعة بين فرق الضلال: فهم وسط في باب الأسماء والأحكام -يعني في أبواب الإيمان والكفر- ما بين الخوارج والمعتزلة الوعيدية وما بين المرجئة في قول أولئك وقول هؤلاء، فهم يحذِّرون من الذنوب ويَتَوَعَّدُونَ بها ويَتَوَعَّدُونَ بالكفر، ولكن لا يُخرجونه من الإيمان إلا بعد تمام الشروط وانتفاء الموانع. فهم -أعني أهل السنة والجماعة ثبَّتني الله وإياكم على طريقتهم- لهم في ذلك الطريق الوسط في هذا الباب وفي باب الأسماء والصفات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي جميع أبواب الدين؛ بل وجميع أبواب الشَّريعة -يعني في أصولها-. لهذا فالطَّريقة المثلى هي أن يكون المرء بين طَرَفَي الغلو والجفاء، فالغلو مذموم بأنواعه والجفاء مذموم أيضاً لأنه قصورٌ عن أمر الله، والغلو أيضا مذموم لأنه زيادة على أمر الله - عز وجل -، والحق فيما بينهما. أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يُعَلِّمَنَا ما يفعنا، وأن يزيدنا من الفقه في الدين، ومن متابعة سنة سيد المرسلين، وأن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وأن يشفي قلوبنا من الأدواء والأهواء، وأن يشفي أبداننا من الأمراض نحن وجميع أحبابنا إنه سبحانه كريم جواد كثير النوال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. نجيب على سؤالين ما يتعلق بالدرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الأسئلة : س1/ ما حكم الحكم بغير ما أنزل الله؟ ج/ مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ذَكَرَهَا الشّارح ضمن الكلام في المسألة على اعتبار أنها ذنب من الذنوب، والكلام فيه هل يكفر أو لا يكفر؟ نَقَل فيها كلام ابن القيم رحمه الله، ولم أتطرق لها مع علمي بما ذَكَرَهُ الشارح لأجل أنها مسألة طويلة الذيول تحتاج إلى بحثٍ وتفصيل فيها، لعل لها مكاناً آخر إن شاء الله تعالى. س2/ قول القائل: كان من المفترض أن يُحِلَّ الله هذا؟ ج/ بعض الناس يستعمل هذه الكلمة وما يقصد ظاهر الكلام؛ لأنَّ ظاهر الكلام بشع؛ لأنه يكون الشيء حرمه الله - عز وجل - ويقول هو من المفترض أن يكون حلالاً، هذا اعتراض واعتقاد أو تثبيت أنه حلال. لكن بعض الناس يستعمل هذه العبارة من جهة رأيه وما عنده، فيقول في المسائل إذا تجادل اثنان أو أكثر يقول: من المفترض أنه يصير هذا مباح لعدم علمه، ما يقولها مثلاً في الخمر من المفترض أن يكون الخمر حلال، وإنما في المسائل المشتبهة التي لا يعرف وجهتها. فإذاً هذه الكلمة لابد فيها من التفصيل قالها في أي ذنب، وما سياق؟، ولكنها من الكلمات الوخيمة. س3/ هل هناك فرق بين عدم فهم الحجة وعدم الاقتناع بالحجة؟ ج/ نعم فيه فرق. س4/ هل يُحْكَمْ على اليهودي المعين الذي مات على اليهودية أنه من أهل النار؟ ج/ نعم يحكم على المعين الذي مات على اليهودية أو على النصرانية بأنه من أهل النار، وهذا لأنه كافر أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم لمَّا زار الغلام اليهودي وقال له «قل لا إله إلا الله» أو «قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ، فجعل الغلام ينظر إلى أبيه ولم يقلها فقال له والده اليهودي: أطع أبا القاسم. فقال الغلام وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي أنقذه الله بي من النار» (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم «والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أَكَبَّهُ الله في النار» (2) ، وقال أيضا كما في صحيح مسلم «حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» (3) وقال أيضا - عز وجل - {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] ، وهذا لا يدخل في قول أهل السنة والجماعة، ولا نشهد لا معين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا في حق المعين من أهل القبلة، أما من مات على كفره من اليهود والنصارى أو مات ونحن نعلم أنه يهودي أو نصراني فهذا كافر يُشْهَدُ عليه بأنه من أهل النار «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» . س4/ هل من كَفَّرَ بغير علم يصبح مُرْتَدَّاً فَيُقْتَلْ، أو أنَّ عَمَلَهُ هذا يُقْتَلُ به؟ ج/ من كَفَّرَ بغير علم: - يلحقه الوعيد «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» هذا واحد. - ويلحقه الوعيد في مشابهة الخوارج؛ لأنَّ الخوارج كَفَّرُوا بغير علم. - ويلحقه الوعيد أيضا من جهة ثالثة وهو أنه تَعَدَّى على الدليل من القرآن والسنة؛ لأنَّهُ كما ذكرتُ لك في الأسباب أنَّ إثبات الإيمان جاء بدليل، فَنَفْيُ الإيمان عن المعين لابد فيه من دليل، فمن حَكَمَ بِكُفْرِ أحدٍ لهوى أو لغلو أو لقصور عنده في العلم فإنه تَعَدَّى ما أُذِنَ له به إلى أمر إنما هو لأهل العلم، فهو يؤاخذ بذلك، كما ذكرتُ لك في قصة عمر رضي الله عنه وهي قصة تحتج منك إلى اعتبار في أنه قد يُطْلِقُ المرء التكفير من جهة الغَيْرَةْ وقد يُؤَاخَذْ وقد لا يُؤَاخَذْ، والواجب على العبد أن يحترز من فَلَتَاتِ لسانه، ويخاف أشد الخوف، فرُبّ كلمة قالها العبد لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا. ومن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم الذي قَرَّرَهُ أئمة أهل السنة أنَّ أهل العلم من أهل السنة يُخَطِّئونَ أو يُضَلِّلُونَ ولا يُكَفِّرُون. يقولون: هذا القول بدعة، هذا ضلال، هذا فسق، هذا خطأ، ونحو ذلك، وقد يحكمون على المعين إذا كان الحاكم من الأئمة والعلماء ولكن لا يُكَفِّرُونْ إلا ببينة ووضوح. وهذه المسائل مع الأسف شاعت عند الشباب في هذا العصر، وصاروا يتداولونها حتى في المجالس وهو يعلم من نفسه أنَّ مسائل الطهارة ما يعرفها، وكثير من مسائل الصلاة ما يعرفها، ومسائل يمكن معاشرة الزوجية يجيء فيها بحكم الطبيعة أو بحكم حياته ما آلفه وإلى آخره، ما يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله في هذه المسائل، ومع ذلك تجد أنه يقتحم هذه المسألة العظيمة وهي مسألة التكفير، وإنما هي لأهل العلم. ذكرتُ لك أنَّ لها قسمين: القسم الأول اعتقاد المسائل، اعتقاد مسائل التكفير مثل ما ذكرتُ لك.   (1) أبو داود (3095) (2) مسلم (403) (3) ابن ماجه (1573) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 والثاني التطبيق: التطبيق ليس إليك إنما هو لأهل العلم والقضاء والفتيا ونحو ذلك. أمَّا الاعتقاد فهذا واجب أن تعتقد ما أمر الله - عز وجل - به، أو ما أخبر به - عز وجل - من إيمان المؤمن وكفر الكافر وكذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. في هذا القدر كفاية، ونلتقي إن شاء الله بكم الأسبوع القادم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: نجيب على بعض الأسئلة: الأسئلة س1/ هل عدم اشتراط فهم الحجة أن لا يفهموا مقصود الشارع؟ ج/ ذكرنا لكم مراراً أنَّ العلماء الذين نَصُّوا على أنَّ فهم الحجة ليس بشرط في صحة قيام الحُجَّةْ بَنَوا على الدليل وهو قول الله - عز وجل - {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (1) فالله - عز وجل - جَعَلَ على القلوب أَكِنَّةْ لِأَلَا يفهموه، فدلَّ على أنَّ الفهم والفقه -فقه الحجة- ليس بشرط؛ لأنَّ إقامة الحجة بالقرآن، تلاوة القرآن عليهم وهم أهل اللّسان كافٍ في قيامها. فصار إذاً الحال مشتملْ على: - أنَّ إقامة الحجة شرط، ومعنى إقامة الحجة أن تكون الحجة من الكتاب أو من السنة أو من الدليل العقلي الذي دل عليه القرآن أو السنة. - وأن فَهْمَ اللسان العربي، فَهْمْ معنى الحجة بلسان من أقيمت عليه هذا لابد منه؛ لأنَّ المقصود من إقامة الحجة أن يَفْهَمَ مَعَانِيَ هذه الكلمات، أن يفهم معنى الحديث، أن يفهم معنى الآية. * وأما ما لا يشترط وهو فَهْمُ الحُجَّةْ، فيُرَادُ به أن تكون هذه الحجة أرجح من الشبه التي عنده؛ لأنَّ ضلال الضالين ليس كله عن عناد، وإنما بعضه ابتلاء من الله - عز وجل -، وبعضه للإعراض، وبعضه لذنوبٍ منهم ونحو ذلك. لهذا فإنَّ فهم الحجة على قسمين: 1- يُرَادُ بفهم الحجة فهم معاني الأدلة، فهذا لابد منه، فلا يُكْتَفَي في إقامة الحجة على أعجمي لا يفهم اللغة العربية بأن تُتْلَى عليه آية باللغة العربية، وهو لا يفهم معناها، ويقال قد بَلَغَهُ القرآن والله - عز وجل - يقول {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، هذا ليس بكافٍ، لابد أن تكون الحجة بلسان من أقيمت عليه ليفهم المعنى، قال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] . 2- المعنى الثاني لفهم الحجة أن يَفْهَمَ كونَ هذه الحجة أرجَحَ من شبهته التي عنده، المشركون -كما قررنا لكم في شرح كشف الشبهات- عندهم علم وعندهم كتب وعندهم حُجَجَ كما أخبر الله - عز وجل - في كتابه. ففَهْمُ حُجَّةْ الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهم القرآن، وفهم حجة النبي صلى الله عليه وسلم العقلية التي أدلى بها عليهم بعد الوحي، هذه معناها أن يفهموا المعنى. إذا كانوا هم فهموا المعنى؛ لكن مثل ما يقول القائل: ما اقْتَنَعْ أَنَّ هذه الحجة أقوى من الشبهة التي عنده، فهذا ليس بشرط. فإذن ما يُشْتَرَطْ من فهم الحجة هوالقسم الأول؛ وهو: - فهم المعنى. - فهم دلالة الآية باللغة العربية ونحو ذلك. أما فهم الحجة بمعنى كون هذه الحجة أرجح في المقصود وأدلّ على بطلان عبادة غير الله أو على بطلان الباطل، هذا ليس بشرط، المهم يفهم معناها ودلالتها، ثم بعد ذلك الله - عز وجل - يُضل من يشاء ويهدي من يشاء. س2/ يقول إذا كان الإمام أحمد رحمه الله أقام الحجة على أحمد بن أبي دؤاد والمعتصم، فلم لم يُكَفَّرَا مع إصرارهما على البدعة؟ وإنْ كان لم يُقِمْ عليهما الحجة فلماذا لم يقم عليهما الحجة مع أنه في موقف يجب عليه إقامة الحجة؟ ج/ هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل، وتفصيله ينبني على فهم واقع فتنة خلق القرآن. وفي الجملة منهج أهل السنة وأهل العلم أنَّهُمْ يجعلون هذه الفتنة فيها شبهة، فلم يُكَفِّرُوا بحصول الفتنة لا من جهة الوالي ولا من جهة من أجاب من المسلمين؛ لكن من أهل العلم من كفَّرَ ابن أبي دؤاد وكَفَّرَ أمثالَه العلماءَ. لأنَّ العالم يفهم حجة القرآن، وإذا كان بقيت عليه الشبهة في مثل هذا الأمر العظيم فإنه إما أن يكون مقصرا في البحث عن الحق، وإما أن لا يكون: - فإن كان مُقَصِّرَاً في البحث عن الحق مع قُرْبِهِ منه فلا يلومن إلا نفسه، وهذا لا يمنع من الحكم عليه بالكفر عيناً. - وإذا كان غير مقصّر في البحث عن الحق؛ ولكن بقيت الشبهة عنده، فهذا لابد من أن تُزَالَ عنه الشبهة مع اختلاف المسائل في ذلك، لكن هذا الكلام بخصوص القول بخلق القرآن. فمن أهل العلم من كَفَّرْ ابن أبي دؤاد ومنهم من لم يُكَفِّرُهُ عَيْنَاً لأجل الشبهة التي عنده. كما ذكرنا لكم مسائل المعتزلة والخوارج في مثل مسألة خلق القرآن ونفي رؤية الله - عز وجل - في الآخرة ونحو ذلك، أئمة أهل السنة يُكَفِّرُونَ بالنوع، يُكَفِّرُونَ بالمطلق يعني التكفير المطلق ولا يُكَفِّرُونَ الأعيان إلا بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، وهذه كما ذكرنا يقيمها من يصلح لإقامتها من أهل القضاء أو الفُتْيَا. س3/ هل من فَعَلَ الذنب من الكبائر وجَاهَرَ به وأصبح يتاجر فيه كالغناء، نقول: إنهم لا يؤمنون بتحريمها واستخفوا بها ونحكم بردتهم عن الإسلام؟   (1) الأعراف:25، الإسراء:46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ج/ الكبائر لها حد -بمعنى لها تعريف- وذكرنا تعريفها عدة مرات ويأتينا إن شاء الله تعالى في موضعه من شرح الطحاوية بتفصيل. فالحكم على الغناء بأنَّهُ من الكبائر هذا فيه نظر؛ لأنَّ الغناء التّغني بالصوت. والتغني بالصوت قد يكون مُشْتَمِلاً على كلامٍ قبيح كفر أو نفاق أو دونه من التشويق بالنساء أو باستباحة المحرمات أو نحو ذلك، وقد يكون الكلام لا يشتمل على ذلك، ثُمَّ هو قد يكون مُصَاحَبَاً بمعازف وقد لا يكون مصاحبا بمعازف. فقول القائل أصبح يتاجر فيه كالغناء أنَّ هذا من الكبائر لأ، يختلف الحال فيه. لهذا من جهة إثبات الكبيرة لابد فيه من تفصيل، هل الغناء كله كبيرة؟ ليس بصحيح -يعني بهذا الإطلاق-، طالب العلم لابد أن يدقق في ألفاظه، إذا قال أحد الغناء من الكبائر، ليس صحيحاً هذا الكلام، فلابد من التفصيل فيه وهذا يرتبط بتعريف الكبيرة. المسألة الثانية: المعازف من حيث هي والغناء المشتمل على المعازف لم يُجمِعْ العلماء على تحريمه، فمن أهل العلم -وهم نوادر- من قالوا بإباحته، وجمهور أهل العلم كما دَلَّتْ عليه الأدلة بالكتاب والسنة وهي كثيرة جداً قالوا بحرمة ذلك، وهذا هو الحق الواضح الذي لا يجوز العدول عنه؛ لكن معرفة خلاف طائفة من أهل العلم من فقهاء المدينة في زمن الإمام مالك ومن بعدهم مثل ابن حزم والسمعاني وطائفة من الناس من قالوا بإباحة السماع واستعمال المعازف فهو خلافٌ في المسألة. ولا تَكْفِيرَ إلا بما أَجْمَعَ العلماء على تحريمه. والمسألة إذا أجمع العلماء على تحريمها من قال بخلافها فالقول بخلافها كفر، ثم تكفير المعين يحتاج أيضاً إلى بيان. المسائل التي أجمع العلماء على حرمتها المخالِفْ فيها يختلف؛ لأنَّ المسألة قد تكون من المسائل التي يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام أنها محرمة، مثل الخمر، مثل الزنا، الربا المتفق على تحريمه ونحو ذلك، هذا ما يحتاج، ينشأ الناشئ بين المسلمين وهو يعلم أنَّ هذه الأمور محرّمة باتفاق أهل العلم. لكن ثَمَّ مسائل خفية تحتاج إلى استدلال، فمثلاً لو قيلَ إنّ المعازف مُجْمَعْ على تحريمها فإنَّ هذا الإجماع هم لم يجمع على تحريمها، لكن هذا الإجماع غير معروف لم يكن معروفاً عند الناس، لو قال قائل ذلك أو يكون في بلد معروف نشأ الناشئ وأهل الفتوى في بلده على أن الغناء محرم فهنا لا يقال بالتكفير لأنَّ هذا مما يخرج عن كونه من الضروريات، يعني العلم به من الضروريات. فإذاً مسألة التكفير مسألة خطيرة ومهمة في أن يعلم طالب العلم حدوده، فالمسائل المحرمات لا تكفير إلا بما أُجمِعَ عليه. (1) : [[الشريط السابع والعشرون]] : ثُمَّ هنا ما أَجْمَعَ أهل العلم عليه على قسمين: - منه ما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام، يعني لا يحتاج فيه العالم إلى بيان الأدلة. - ومنه ما فيه خفاء يحتاج فيه إلى بيان الأدلة. حتى غير المسائل هذه مثل مسائل السحر. السحر لاشك أنه من كبائر الذنوب؛ بل لا يكون السحر إلا بشرك بالله - عز وجل -، لكن من أصناف السّحر ومن أحوال السَّحَرَةْ ما قد يخفى في بعض الأزمنة، فيحتاج إلى بيان وإيضاح. فالمسألة في نفسها قد تكون في زمان مما يُعْلَمُ بالاضطرار -يعني الدليل فيها لا يحتاج إلى إقامة-؛ لأنَّ كل الناس يعلمون هذا، وقد يكون في زمان أو مكان يخفى الدليل على طائفة فيُحتاجُ في الحكم على المُعَيَّن إلى بيان، وإن كانت عند طائفة أخرى مما يُعْلَمُ بالاضطرار. العلماء يذكرون مثال ذلك مثلاً من قال الزنا غير مُحَرَّمْ وهو ممن نشأ بباديةٍ بعيدة عن دار الإسلام، ومثله يجهل، مثل ما حَصَلَ في زماننا الحاضر في بعض من يسكنون في بعض الأماكن يقولون ما نعلم أنه محرم، يفعل الفاعل الزنا وما يعلم أنه حرام مع أنَّ حُرْمَةْ الزنا مما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام. فالمقصود من هذا، أنَّ المسائل التي يقال فيها هذا مما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام، نعني بها ما لا يُحْتَاجُ معه إلى إقامة دليل؛ لأنَّه ينشأ الناشئ وهو يعرف هذا ولا يعرف غيره من دين الإسلام. هذه المسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان فلهذا يحتاج من يريد بحث هذه المسائل إلى استفصال. آخر السؤال يقول: نقول إنهم لا يؤمنون بتحريمها واستخفوا بها فنحكم بِرِدَّتِهِمْ عن الإسلام. ليس كذلك، من فَعَلَ الكبيرة مُسْتَخِفّا بها لا يعني ذلك أنه مرتد؛ بل الذين يفعلون الكبائر منهم: 1- من يفعل الكبيرة لشهوةٍ غلبت عليه، شهوة طارئة، هو مؤمن صالح لكن غَلَبَ عليه أَمْرْ فَأَخَذَ مالاً من غَيْرِ حِلِّهِ، سرق لشهوة غلبت عليه ثُمَّ رَجَعْ، فهذا نقول فيه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. أو رأى امرأة أو خَلَا بامرأة ثم فعل معها الكبيرة عن غَلَبَةِ شهوة، فهذا لا يُخْرِجُهُ ما فَعَلْ عن كونه مؤمناً إذا تاب وأناب، فَغَلَبَةْ الشهوة تبقي اسم الإيمان إذا تاب وأناب. 2- ومنهم الذي يخرج معه المؤمن من الإيمان إلى الإسلام وهو إذا استخف بالكبيرة. يعني تَهَاوَنَ بها وهو يعلم أنها كبيرة ويعلم أنه عاصي، أقَامَ عليها واسْتَمَرَّ على فعل الكبيرة فهذا يخرج من اسم الإيمان إلى اسم الإسلام؛ لأنَّ الإيمان الحق -الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر- الإيمان الحق بهذه، الإيمان الكامل لا يجتمع مع صاحبه في مداومة الكبائر. وفي هذا يروى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند (أنَّ العبد إذا فعل المعصية ارتفع عنه الإيمان فصار على رأسه كالظلة فإذا تركه عاد إليه) (2) ، وهذا الحديث في إسناده ضعف؛ لكن يستدل به أهل العلم على أصلهم من أنَّ المؤمن حال مُوَاقَعَتِهِ للكبيرة التي كانت عن غلبة شهوة لا استمرار واستخفاف فإنه يبقى عليه اسم الإيمان؛ لكن يَنْتَزِعُ منه ما دام فاعلاً لهذا المنكر، فإذا ترك هذه الكبيرة وأناب إلى الله - عز وجل -، رجع فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. لكن المصر على الربا المصر على الزنا المصر على شرب الخمر لا يُخْرِجُهُ أهل السنة من اسم الإسلام ويجعلونه مرتداً، وكذلك أصحاب المعازف والغناء المحرم وبيع مثل هذه وآلات اللهو ونحو ذلك إذا كان مُمَارِسَاً لها وهو يعتقد حرمة ذلك فيما أُجْمِعَ عليه فإنه يخرج من الإيمان إذا كان مداوماً عليها إلى الإسلام؛ لأنَّ الإسلام هو العمل الظاهر إذا كان جاء بأمور الإسلام. وهذه فيها مزيد تفاصيل تأتي في موضعها إن شاء الله في شرح الطحاوية.   (1) انتهى الشريط السادس والعشرون. (2) الترمذي (2625) / المستدرك (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ.   قال العلامة الطحاوي رحمه الله وأجزل له المثوبة (ونَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ.) هذه الجملة فيها بيان لما يجب على المرء المؤمن أن يعامل به نفسه وأنْ يعامِلَ به غيره من إخوانه المؤمنين. فمع النفس أهل السنة والجماعة يرجون للمحسن ويخافون على المسيء. هذا أصلهم مخالفين أهل التَّقْنِيْطْ وهم أهل الإفراط، وأهل الأَمْنْ وهم أهل التفريط. وأصل هذا عندهم أنَّ المؤمن وعده الله - عز وجل - بموعدة لن يُخْلِفَها إياه؛ لأنَّ وعد الله - عز وجل - كان مفعولاً ولأنَّ وعد الله - عز وجل - كان مسؤولاً سبحانه وتعالى. فالله - عز وجل - وَعَدَ المؤمن الذي مات على الإخلاص بأن يعفو عنه وأن يدخله الجنة برحمته {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] ، وكذلك الله - عز وجل - تَوَعَّدَ من عصاه، تَوَعَّدَ من خالف أمره واتبع هواه، ووعيده قد يَنْفُذْ - عز وجل - ويقع بمن تَوَعَّدَهُ سبحانه وتعالى. فلأجل وعيد الله - عز وجل - فإنَّ من فعل ذنباً ومعصيةً فإنه يُخافُ عليه ولا يُؤْمَنْ جانبه أن يكون ممن دخلوا في الوعيد وعاقبهم الله - عز وجل -. فأهل الإيمان: - منهم المحسن. - ومنهم المسيء. - ومنهم من خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيئاً، هذا يغلبه تارة وهذا يغلبه تارة. @ فالمحسن المُسَدَدْ نرجو أن يدخله الجنة ربُّه - عز وجل - برحمته. @ والمسيء نخاف عليه أن يُؤْخَذَ بجريرته ونستغفر له ولا نُقَنِّطُهُ من رحمة الله لكن نفتح له باب التوبة وباب الرجاء. هذه الجملة مبنية على أصل خالف فيه أهل السنة والجماعة المعتزلة والخوارج وطائفة من غلاة الصوفية في هذه المسائل. حيث إنَّ أهل السنة أصَّلُوا ما جاءت به الأدلة من أنَّ وعد الله - عز وجل - مَسْؤُول ومفعول، وربنا - عز وجل - لا يُخلف الميعاد، وأنَّ وعيدَه سبحانه وتعالى قد يُدْرِكْ العبد وقد يتخلف، وذلك لأسباب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فالمقصود من هذه الجملة أنَّ أهل السنة والجماعة يُعْمِلُونَ الوَعْدْ فيرجون للمحسن، ويُعْمِلُونَ الوعيد لأنه قد يتحقق ويخافون على المسيء. ولا يفتحون باب الوعد دون نَظَرٍ في الإساءة كحال المرجئة والصوفية وطوائف. ولا يُعْمِلُونَ حال الوعيد ويقولون بإنفاذه قطعاً وأنه لا يتخَلَّفْ كحال الخوارج والمعتزلة. إذا تبين هذا من حيث الإجمال ففي المقام تفصيل نذكره في مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 [المسألة الأولى] : أنَّ الرجاء للمحسن بالعفو وعدم الأمن والاستغفار للمسيء والخوف عليه، هذا عقيدة يتعامل بها المرء مع نفسه وكذلك مع المؤمنين: - فمع نفسه تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وتَسُوؤُهُ سيئته، ويرجو لنفسه إذا أَحْسَنْ، ويأمل ويطمع في أن يُدْخِلَهُ الله الجنة برحمته لا بعمله، ولا يأمن على نفسه أن يُقَلِّبَ الله - عز وجل - قلبه، وكذلك لا ينظر إلى نفسه بِعَمَلٍ صالح عَمِلَهْ أَنَّهُ استوجب به الجنة، فدائماً ينظر إلى نفسه ما بين إحسانها بأن يطمع بثواب الله ورحمته وإذا أساءت فإنه يخاف ولا يقنط من رحمة الله - عز وجل -، هذا مع نفسه. - وكذلك مع المؤمنين فإنه ينظُرُ إليهم بهذا الأصل، فمن مات من أهل الإيمان فإنه يرجو أن يعفو الله - عز وجل - عنهم وأن يدخلهم الله الجنة برحمته، ومن مات من أهل الإساءة فإنه يستغفر للمسيء ويخافُ عليه ولا يُقَنِّطُ من أَسَاءَ مِنَ الأحياء وكذلك لا يُقَنِّطُ نفسه في من أساء من أن يعفو الله عن من مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 [المسألة الثانية] : الرجاء للمحسن من المؤمنين بالعفو هذا يشمل كل أحد حتى من لم يَعْرِفْ لنفسه ذنباً. وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق أبي بكر رضي الله عنه بأن يدعو في آخر صلاته «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم» (1) . فقول أبي بكر «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيرا» هذا تَبَعْ لهذا الأصل، وهو أنَّ المحسن من المؤمنين حتى صاحب المقامات العالية كالصديق رضي الله عنه يرجو أن يعفوَ الله عنه وأن يدخله الجنة برحمته ولا يأمن، كذلك مَنْ دونه من المؤمنين من أهل الاقتصاد وعدم السبق بالخيرات لابد أن يرجو لنفسه ولا يأمن، ويظن أنه محتاج إلى العفو، يعني يعتقد أنه محتاج إلى عفو الله - عز وجل - وإلى رحمته.   (1) البخاري (834) / مسلم (7044) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [المسألة الثالثة] : الجمع ما بين الرجاء للمحسن والاستغفار للمسيء هذا تَبَعْ لأصل عظيم وهو الجمع في العبادة ما بين الخوف والرجاء. فالمأمور به شرعا أن يَجْمَعَ العبد ما بين خوفه من الله - عز وجل - وما بين رجائه في الله - عز وجل -، والخوف عبادة والرجاء عبادة. - والخوف المحمود: هو الذي يَحْمِلُ على طاعة الله - عز وجل - بِفِعْلِ أمْرِهِ وتركِ المحرمات، هذا هو الخوف المحمود، وهو المذكور هنا في قوله (نَخَافُ عَلَيْهِمْ) . - والخوف المذموم: هو الذي يَصِلُ إلى القنوط من رحمة الله - عز وجل - {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . أ- أولاً: الخوف: الخوف من الله - عز وجل - عبادة مستقلة تحمل على: 1 - فعل الأمر واجتناب النهي. 2 - عدم رؤية العمل الصالح -يعني رؤية أثره-، وكذلك على عدم رؤية العمل السيئ في أنه مُوْقِعٌ صاحبه وأنه مُهْلِكٌ له. والله - عز وجل - مَدَحَ عباده الذين يخافونه في كتابه في مواضع كثيرة، كقول الله - عز وجل - في وصف الملائكة {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] ، وأمر الله - عز وجل - بالخوف في قوله {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] ، وقال - عز وجل - {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] ، وذَكَرَ خاصَّةَ عباده من المرسلين بالخوف فقال سبحانه {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] . فَأَصْلُ الخوف من الله - عز وجل - عبادة عظيمة لا تستقيم العبادة إلا بها ولا يستقيم الإيمان إلا بالخوف. فمن لم يكن عنده خوف أصلاً من الله - عز وجل - فليس بمؤمن لأنَّهُ يكونُ آمناً، والأمن ينقل عن ملة الإسلام، يعني الأمن التام بعدم وجود الخوف أصلاً من الله - عز وجل -. ب - ثانياً: الرجاء: والرجاء: أمل يحدو الإنسان في أن يتحقق له ما يريد. قال طائفة من العلماء ونقله الشارح عندكم: إنَّ الرجاء لا يكون إلا باجتماع أشياء: - الأول: المحبة لما رجاه، وهو يرجو أن يدخل الجنة فلابد أن يُحِبْ أن يدخل الجنة. - الثاني: الخوف وهو أن يخاف مما يقطع عليه أمله، يخاف من الذنوب، يخاف من الكفر، يخاف من النفاق أن يقطع عليه أمله في دخول الجنة. - الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة التي تكون سبباً فيما رجا، فمن تَرَكَ تقديم الأسباب وفعل الأسباب فلا يكون راجياً. قالوا: والفرق ما بين الرجاء والأماني: أنَّ الرجاء يكون معه خوف وعمل، والأماني إنما هي طمع ليس معها خوف ولا سعي في الأسباب. والمطلوب شرعاً من العبد المؤمن فيما يراه في نفسه ولإخوانه المؤمنين أن يكون راجياً، وليس بذي أماني، قال الله - عز وجل - {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] . فإذاً دَلَّ هذا الكلام من الطحاوي على الأصل الشرعي وهو أنَّ العبد ينظر إلى نفسه في عبادته وفي أثر عبادته إلى أنه يجمع ما بين الخوف والرجاء، وكذلك في نظره إلى إخوانه المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 [المسألة الرابعة] : اختلف العلماء في الخوف والرجاء هل يجب تساويهما أم يُرَجَّحُ أحدهما على الآخر على أقوال: 1- القول الأول: أن يُغلَّبَ جانب الخوف مطلقاً. 2- والقول الثاني: أن يُغلَّبَ جانب الرجاء مطلقاً. 3- والقول الثالث: أن يستوي عند العبد الخوف والرجاء. 4- والقول الرابع: التفصيل، ومعنى التفصيل أنّ الخوف قد يُغَلَّبُ في حال، وقد يُغلَّبْ الرجاء في حال، وقد يُطْلَبُ تساويهما في حال. فَيُغَلَّبْ الخوف على الرجاء في حال أكثر المؤمنين؛ لأنَّ أكثر أهل الإيمان عندهم ذنوب فيُغَلِّبُونَ حال الخوف في حال الصحة والسلامة؛ لأنهم لا يخلون من ذنب والخوف يحملهم على ملازمة الطاعة وعلى ترك الذنب. والرجاء يُغَلَّبُ في حال المرض لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» (1) - عز وجل - وللحديث أيضا الآخر الذي رواه البخاري وغيره «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (2) ، فدل هذا على أنَّ رجاء العبد مطلوب وإذا كان في حال المرض المَخُوفْ أو في أي مرضٍ كان فيه فإنه يُغَلِّب جانب الرجاء على الخوف. وفي حال يستوي فيه الرجاء والخوف، وهو في حال التَّعَبُّدْ، إذا أراد العبادة ودخل في العبادة، فإنه يخاف الله - عز وجل - ويرجو ربه - عز وجل -، يخاف العقاب ويرجو الثواب. *وهذا القول الأخير هو الصحيح وهو الذي عليه أهل التحقيق. ومن قال من أهل العلم أنَّهُ يُغَلِّبْ جانب الخوف مطلقا نَظَرَ إلى أنَّ حال أكثر المنتسبين حالهم على ذنب وعلى قصور فتغليب جانب الخوف في حقهم يَرُدُّهُمْ إلى الحق. ومن قال يُغَلِّبْ جانب الرجاء دائما عمم قوله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» . ومن قال بالاستواء دائما نظر إلى قول الله - عز وجل - {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ، وكذلك قوله - عز وجل - {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] . والتفصيل هو الصحيح لأن الأحوال تختلف باختلاف المقامات والناس.   (1) المسند (14521) (2) البخاري (7405) / مسلم (6981) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 [المسألة الخامسة] : قوله (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) . قوله (لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا على مورِدْ التقسيم من أنَّ أهل الإيمان منهم المحسن ومنهم المسيء. وليس شرطاً في رجاء العفو أن يكون من أهل الإحسان، وإنما المؤمن إما أن يكون محسناً وإما أن يكون مسيئاً. - والمحسن هو من كان من المقتصدين أو من السابقين بالخيرات؛ لأنَّ أهل الإيمان ثلاث مراتب: - الظالم لنفسه. - والمقتصد. - والسابق بالخيرات. كما دلت عليهم آية فاطر {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] . والمحسن من المؤمنين أو المسيء من المؤمنين نرجو أن يعفو الله - عز وجل - عنهم ونخاف على المسيء منهم. وعفو الرحمن - عز وجل - عن العبد وعدم مؤاخذته بفعله هذا قد يكون: 1- مِنَّةً وتَكَرُّمَاً منه - عز وجل - في غير الشرك به سبحانه وتعالى، ومعنى مِنَّةْ أي يَمُنُّ على من يشاء، يعني ابتداءً منه سبحانه وتعالى بدون أن يفعل العبد سبباً يُحَصِّلُ به ذلك 2- وقد يكون بسبب. @ فأما ما كان مِنْهُ مِنَّةً وتَكَرُّمَاً فالله - عز وجل - وَعَدْ بل تَوَعَّدْ أن لا يغفر الشرك به فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} قال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فما دون الشرك يغفره سبحانه لمن يشاء مِنَّةً وتكرماً منه - عز وجل -. @ وأما ما كان بسبب فالعلماء نظروا فيما جاء فيه الدليل من الكتاب والسنة في الأسباب التي تكون رافِعَةً لأثر الذّنب؛ لأنَّ الذنب إذا وقع من العبد فلابد من حصول الجزاء عليه، قال - عز وجل - {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] . ولمَّا نَزَلَتْ هذه الآية شق ذلك على المسلمين مشقة عظيمة، فعرف ذلك منهم صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وقال «سددوا وقاربوا فما يصيب المسلم» أو كما جاء في الحديث «فما يصيب المسلم من مصيبة كانت كفارة له حتى في النكبة يُنْكَبُها وحتى الشوكة يشاكها» (2) رواه مسلم في الصحيح، فقول الله - عز وجل - {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} دلَّ على أنَّ هناك ما يُكَفِّرُ الله به هذا السوء الذي حصل من العبد وأنه لا يُجَازَى به بل يُرْفَعْ الجزاء بسبب من الأسباب. وقال سبحانه {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، يعني ما أصاب العبد من مصيبة في دنياه فهو بسبب ذنْبٍ عمله فتكون كفارةً له ويعفو الله - عز وجل - عن كثيرٍ من الذنوب التي حصلت من العبد. إذا تبين ذلك فالأسباب هذه التي يُكَفِّرُ الله - عز وجل - بها الخطايا أو يمحو بها أثر السيئات ويرفع بها أثر الإساءة على ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أسباب يفعلها العبد. - القسم الثاني: أسباب من المؤمنين للواحد منهم. - القسم الثالث: أسباب من الله - عز وجل - ابتداءً منه سبحانه وتعالى. @ فالقسم الأول أسباب يفْعَلُها العبد: وهو ثلاثة أنواع: & النوع الأول التوبة: والتوبة مأمورٌ بها إجمالا وتفصيلاً قال - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] ، هذا إجمالاً، كل مؤمن حتى الصالح حتى الأنبياء مأمورون بالتوبة، كان صلى الله عليه وسلم يقول «إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» (3) وكان يُحْسَبُ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يتوب إلى - عز وجل - مائة مرة، وقال سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] . فالتوبة مأمورٌ بها سواء كان العبد مُسَدَّدَاً أو كان دون ذلك. فأعظم الأسباب التي يفعلها العبد لمحو السيئات عنه التوبة، فمن فَعَلَ سيئة مهما كانت حتى الكفر والشرك فإنَّ الله - عز وجل - يمحو أثره بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، قال - عز وجل - بعد أن ذَكَرَ أصناف الكبائر في سورة الفرقان {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70-71] . والتوبة معناها -ضابط التوبة-: تاب بمعنى رجع. وهناك ثلاثة ألفاظ متقاربة لكن المعنى يختلف بدقة وهي: 1 - آبَ. 2 - تابَ 3 - ثابَ وهي تشترك في الأصل من أنها فيها رجوع. آبَ: يعني رَجَعْ، آيبون تائبون تشمل هذه وهذه، فآب رجع، أو أَوَّابْ كثير الرجوع.   (1) النساء:38، 116. (2) مسلم (6734) / الترمذي (3038) (3) مسلم (7033) / أبو داود (1515) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 تواب أيضاً كثير الرجوع، لكن تَوَّابْ أو تَابَ من شيءٍ سيئٍ فَعَلَهْ، وأما آبَ فهو رجوعٌ مُطْلَقْ سواء مما يسوء أو مما لا يسوء. وتاب مختص أيضاً برجوع خاص. إذاً التوبة رجوع إلى الله - عز وجل - بطلب محو تلك السيئات، فإذاً هي توبة ورجوع إلى الله - عز وجل - بطلب محو السيئات. هذا هو السبب الأول وهو التوبة وهي أعظم الأسباب قال - عز وجل - {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، أَجْمَعَ العلماء على أنَّ هذه الآية نزلت في التائبين {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يعني لمن تاب. طبعاً التوبة تفصيل الكلام عليها وشروطها إلى آخره يُطْلَبُ من موضعه. & النوع الثاني الاستغفار: والاستغفار هو طلب المغفرة. والمغفرة معناها سَتْرُ أثر الذنب؛ لأنَّ الذنب إذا وَقَعَ من العبد فلابد أن يوجد أثر ذلك الذنب، وهو إما أن يكون العقوبة عليه؛ -يعني أن يُعَاقَبَ العبد على ذنبه في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة-، وإما أن تَقَعْ عليه مصيبة يُكَفِّرُ الله بها ذنبه، وإما أن يُخْزَى بذنبه {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة:114] والعياذ بالله -اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة-، الخزي يقع بسبب الذنوب. فإذاً الذنب إذا وقع من العبد فله أثره الكوني وأثره الشرعي الذي يحصل ولا بد؛ إلا إنْ عَفَا الله - عز وجل - مِنَّةً مِنْهُ وتكرماً. إذا استغفر العبد، طَلَبَ غَفْرَ الذنب، طَلَبَ أن يُسْتَرَ هذا الذنب، فلا يُخْزَى به وأن يُسْتَرَ أثر الذنب فلا يؤاخذ به. وهذا قرين التوبة، لهذا جاء في عدة آيات اقتران التوبة والاستغفار؛ لأنَّ الاستغفار مثل التوبة في الأمْرِ بها والحث والحض عليها، قال - عز وجل - {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] ، وقال - عز وجل - {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:1-3] ، الاستغفار صار قبل التوبة من جهة أنَّهُ طَلَبْ مباشرة، طَلَبْ أن يُمْحَى أثر الذنب؛ لأنَّ أثر الذنب لو أخَّرْتَ طلب المغفرة فقد يقع الأثر سريعاً. {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} يعني أنَّ التوبة تكون بعد الاستغفار من الذنب، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقَدِّمْ طلب المغفرة على طلب التوبة فقال «ربي اغفر لي وتُبْ علي» (1) ، «أستغفر الله وأتوب إليه» . التوبة والاستغفار نظر فيها بعض العلماء وذكرها الشارح عندكم تبعاً لابن تيمية من أنَّ التوبة والاستغفار من الألفاظ التي إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت. إذا اجتمعت تفرقت لأنَّ التوبة على ما ذكرت لك من تعريفها والاستغفار على ما ذكرت لك من أنَّ: - الاستغفار: طلب ستر الذنب. - والتوبة: هي طلب محو الذنب، رجوع في طلب محو الذنب. إذا تفرقت فالمستغفر تائب والتائب مستغفر. & النوع الثالث الحسنات التي تمحو السيئات: والله - عز وجل - قال {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، وقال صلى الله عليه وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (2) فالحسنة تمحو السيئة، فَفِعْلُ الحسنات يمحو الله - عز وجل - به السيئات. لكن هل كل حسنة يمحو الله - عز وجل - بها كل سيئة؟ الجواب ليس كذلك؛ بل السيئة لها ما يقابلها من الحسنات التي تختص بها، والسيئات أيضا منها ما يُبْطِلُ الحسنات التي تقابلها. الأول مثل أنَّ الأعمال السيئة الكبيرة مثل الإفساد في الأرض بالشرك بالله - عز وجل - أو بقتل النفوس هذه ذنوب عظام يُكَفِّرُهَا الجهاد في سبيل الله - عز وجل -، كما قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] الآية. الكبائر لها ما يقابلها فإذا كانت الكبيرة بالسرقة وأخذ المال من غير حله وبالربا ونحو ذلك فيقابلها من الكفارات الصدقة. إذا كانت كبائر الذنوب من جهة أعمال البدن فيقابلها الصيام والصلاة ونحو ذلك. إذا كانت من جهة المال يقابلها الزكاة والصدقات وأشباه ذلك.   (1) أبو داود (1516) / الترمذي (3434) / ابن ماجه (3814) (2) الترمذي (1987) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فإذاً الحسنات من حيث الجنس يمحو الله بها السيئات والسيئات قد يفعل العبد سيئةً تَبْطُلُ معها حسنةً كان يعملها، ويُسْتَدَلُّ لذلك لما رُوي (من أنَّ زيد بن أرقم تعامل بالعِينَةْ أو باع شيئاً بأجل، باع فرساً له بأجل بثمانمائة درهم ثم اشتراه ممن باعه عليه بست مائة فربح هذا الفرق، فلما بلغ عائشة ذلك قالت اعلموا زيداً أنه أَبْطَلَ جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) (1) ، وهذا اجتهاد من عائشة رضي الله عنها. والحديث فيه ضعف معروف يعني إسناده لا يصح، لكن استدل به بعض أهل العلم مثل ابن تيمية ووَجَّهَهُ بأنَّ هذا الفعل وهو حصول الربا مقابل للجهاد، فوقوع التبايع بالعينة هذه قابلت بها عائشة فعل الجهاد. ولهذا جاء في الحديث اقتران ترك الجهاد بالتبايع بالعينة، جاء فيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي في السنن وفي غيرها «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد» (2) فقارَنَ بين هذا وهذا. فهذا الأصل يدلُّ على أنَّ الحسنات مُكَفِّرَات للسيئات، وعلى أنَّ بعض السيئات قد تُبْطِلُ بعض الحسنات؛ يعني تكون في مقابلتها من جهة عِظَمْ السيئة حتى أنها تُبْطِلُ -معنى تُبْطِل يعني أنها في الميزان تكون مقابلة لها في عظم الذنب- تلك حسنة كبيرة وهذا ذنب عظيم فتكون هذه مقابلة لهذه إذا وُضِعَت في الميزان. الحسنات يُكَفِّرْ الله - عز وجل - بها السيئات مثل ما ذكرنا في الآيات هذه أفعال العبد. @ القسم الثاني أسباب من المؤمنين للواحد منهم: وهذا المقصود به يعني ما يفعله المؤمنون لإخوانهم مما يكفر الله - عز وجل - به السيئات. وهذا يُجَامِعُ الرجاء، فعقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ العبد يرجو لنفسه ويخاف على نفسه، فيعمل الأسباب التي لنفسه من الرجاء والخوف التي ذكرنا ومن الاستغفار والتوبة والحسنات، وكذلك يرجو لإخوانه ويخاف على إخوانه، فيعمل الأسباب التي تنفعهم فيما رجا لهم، ويعمل الأسباب أيضاً التي تنفعهم فيما خاف عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك. وهذا القسم ثلاثة أنواع أيضاً: & النوع الأول الاستغفار والدعاء للمؤمنين (3) . وهذا ينفع، الاستغفار والدعاء نافع سواء أكان من الملائكة أم من المؤمنين من الجن والإنس. والملائكة يستغفرون ويدعون للمؤمنين كما قال - عز وجل - {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخره هذا دعاء للملائكة. وكذلك دعاء المؤمن للمؤمن في خارج الصلاة أو في الصلاة هذا نافع له وهو من الأسباب التي يُكَفِّرُ الله - عز وجل - بها خطايا المؤمن، فتدعو لإخوانك المؤمنين، تدعو لفلان المعين المذنب هذا يمحو الله - عز وجل - به السيئات. & النوع الثاني إهداء القُرَبْ وعَمَلُ العبادات عن المؤمن: وهذه تشمل الصدقة عن الغير، أو عمل العمل الصالح وإهداء ثوابه للغير، أو أن يعمل العبادة التي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةْ مما جاء في السنة، ويجعلها لغيره مثل: الصيام والحج والصدقة ونحو ذلك، هذه يأتي مزيد تفصيل الكلام عليها عند قول الطحاوي (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) . & النوع الثالث الشفاعة إما في الدنيا أو في الآخرة: فشفاعة المؤمن لإخوانه المؤمنين نافعةٌ له، وأصل صلاة الجنازة لأجل دعاء المؤمن والشفاعة له، ولهذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلمٍ يصلي عليه أربعون من أهل الإيمان إلا شفَّعَهُمْ الله فيه» وفي لفظ آخر قال «كلهم يشفعون له إلا شفّعهم الله فيه» (4) . والشفاعة تحصل في الدنيا بالدعاء وتحصل أيضاً في الآخرة، فشفاعة الأب لأبنائه والإبن لوالده ونحو ذلك والعالم لأحبابه وأهل القرابة لقراباتهم أو للمؤمنين، ومن ذلك؛ بل أعظم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لطوائف من أمته. @ القسم الثالث: أسباب من الله - عز وجل - ابتداءً منه سبحانه وتعالى: وهو أربعة أنواع: & النوع الأول مغفرة الله - عز وجل - لعبده ابتداءً مِنَّةً منه وتكرّما: وهو أعظم الأنواع وأجَلُّهَا، فالله - عز وجل - مَنَّ على عبد بالإسلام وبالإيمان، فقد يَمُنُّ عليه بمغفرة الآثام ابتداءً، وهذا خلْقُ الله - عز وجل - هو سبحانه يثيب من يشاء، ويغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. & النوع الثاني المصايب التي تحصل للعبد في الدنيا:   (1) سنن الدارقطني (211) / مصنف عبد الرزاق (14812) (2) أبو داود (3462) (3) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع والعشرين. (4) مسلم (2242) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 مصيبة يوقعها الله - عز وجل - بالعبد، مرض، فَقْدُ حبيب، حَزَن، هَم، نقص مال يهمه، ونحو ذلك مما يعني يفنى شيئا من ماله من بدنه يمرض يصاب بأشياء، هذه المصائب كفَّارَات، يُكفِّر الله - عز وجل - بها من ذنب العبد. قال العلماء: المصايب -مصايب بالياء ويجوز مصائب لكن الأصح مصايب أو يعني الأشهر المصايب- التي تحصل على العبد مِنَ الله - عز وجل - هي في نفسها كفارة؛ لأنها ليست من جهة العبد يعني العبد ما اختارها لنفسه، الله - عز وجل - ابتلى به المؤمن، فابتلاه بها ليكفر الله - عز وجل - بها من خطاياه. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما يصيب المسلم من هم ولا حَزَنٍ ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه» (1) فالهم يأتي للمؤمن هَمْ، ضِيْقَةْ صَدْرْ لا يدري ما سَبَبُهَا، أو يُبْتَلى بشيء يُضَيِّقْ صدره أو يهمه ويصبح في غم أو في هم. هذا سبب لأنه خروج عما يُسْعِدْ العبد وابتلاء من الله - عز وجل - العبد فهذا سبب من أسباب كفارة الذنوب. كذلك المصايب في النفس أو في الولد أو في المال أو نحو ذلك هذه المصايب كفارة. وهل يؤجر عليها، أو هي كفارة بشرط؟ المصايب كفارة بلا شرط بإطلاق، فمن وقعت عليه مصيبة فالدليل دلَّ على أنَّ الله يُكَفِّرُ بها من خطاياه، والحمد لله على فضله وتكرمه ومنته؛ ولكن قد يؤجَرُ على المصيبة وقد يأثَمُ على المصيبة، وذلك إذا صبر أو تسخط، فإن صبر أُجِرْ وإن تسخط أثم. فإذاً المصيبة في نفسها كفارة فإن صار مع المصيبة صَبْرْ فهذا أَجْرٌ، وإن صار مع المصيبة تسخط فهذا إثم. & النوع الثالث العذاب الذي يحصل على العبد في البرزخ: يعني العذاب الذي في القبر، يكون على العبد ذنب من الذنوب أو ذنوب كذا فيعذبه الله - عز وجل - في القبر ثم يوم القيامة لا يُدْخِلُهُ النار. & النوع الرابع ما يكون في عَرَصَات القيامة من المصايب والأمور العظام التي قد يبتلي بها الله بعض عباده فيكون في ذلك كفارة لهم. فهذه عشرة أسباب فَرَّقَهَا الشارح وقَسَمْتُهَا لك بثلاثة من العبد، وثلاثة من المؤمنين لإخوانهم المؤمنين، وأربعة من الله - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.   (1) البخاري (5641) / مسلم (6730) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 [المسألة السادسة] : قول الطحاوي (وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) يعني لا نشهد للمحسن بالجنة، وكذلك لا نشهد للمسيء بالنار، فلا نشهد لأحد من أهل القبلة بجنةٍ ولا نار إلا من شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الجملة يأتي تفصيل الكلام عليها عند قول الطحاوي (وَلاَ نُنَزِّلُ أحَداً مِنْهُم جَنَّةً ولا ناراً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 [المسألة السابعة] : أَنَّ في قوله (وَلَا نُقَنِّطُهُمْ) التقنيط هو كاليأس أو التأييس من رحمة الله - عز وجل -. بمعنى أن يقول القائل هذا ذنب كيف يغفره الله - عز وجل - لك؟ أو يستعظم أن يعفو الله - عز وجل - عن فلان. وهذا قد يكون في بعض من أحواله من كبائر الذنوب، والواجب على المؤمن تجاه نفسه وإخوانه المؤمنين أن يفتح عليهم باب الرجاء إذا أقبلوا تائبين، وأن يَفْتَحَ عليهم باب الخوف إذا كانوا مُفَرِّطين، فإذا كان مقيم على لهوه، مقيم على ذنوبه على كبائره على آثامه فَتَعِظُهُ بالخوف، ولا تَفْتَحْ له الأمل لأنَّ فتح باب الرجاء له في هذه الحال يزيد من فعله للذنوب. وهذا من المهمات لأهل الدعوة والمواعظ والخطباء وأئمة المساجد إلى آخره في أنَّ الناس إذا رآهم صالحين وعندهم تَشَدُّدْ يفتح لهم باب الرجاء وباب السهولة، كما قال صلى الله عليه وسلم لما أَذِنَ باللعب في المسجد قال «لتعلم اليهود أنَّ في ديننا فسحة» (1) لأنَّ اليهود في شريعتهم ثَمَّ تشديد وآصار وأغلال وُضِعَتْ عليهم أو وضعوها على أنفسهم. وأما إذا رآه صاحب خوف وبكاء وكثرة بكاء من خوف الله - عز وجل - وكثرة الخوف من أنَّ الله لا يغفر ذنبه، ودائما يلاحظ ذنبه ويلاحظ كبيرته فهذا يفتح له باب الرجاء. فإذاً الواجب هو ما قال أن لا نأمَنَ على المحسن وأن لا نقنّط المسيء فهذه عقيدة وأيضا يتبعها عمل.   (1) المسند (24899) / مسند الحميدي (254) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 [المسألة الثامنة] : في قوله (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ) قوله (بِرَحْمَتِهِ) هذا كما ذَكَرْتُ لك في أوله بأنه لن يدخل أحد الجنة بعمله بل ما ثَمَّ إلا عفو الله - عز وجل - ورحمته. فالله - عز وجل - وَعَدَ من عمل صالحاً بأن يدخله الجنة جزاءً بما عمل قال سبحانه {جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ، فالجنة يدخلها العبد بالعمل؛ لكن الباء هذه ليست باء المقابلة إنما هي باء السببية؛ يعني بسبب ما كنتم تعملون. فالعمل الصالح للعبد وأعلاه توحيد الله - عز وجل - والبراءة من الشرك وأهله والكفر بالطاغوت هذا العمل الصالح هو أعظم الأسباب التي يُدْخِلُ الله - عز وجل - بها العبد للجنة. أما المُقَابَلَةْ فإنَّ الجنة وما فيها من النعيم وما أعطى الله العبد مِنَ النِّعَمْ في الدنيا بل ما مَنَّ عليه أصلاً من الهداية لا يستحق الجنة بالمقابلة؛ لأنَّ حصول الهداية للعبد مِنَّةْ من الله - عز وجل - وتَكَرُّمْ ولو تُرِكَ العبد ونفسه لما اهتدى ولاحتوشته الشياطين. لهذا لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله - عز وجل - كما قال هنا (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ) . فإذاً أهل السنة والجماعة يقولون إنَّ دخول أهل الجنة للجنة بسبب الأعمال الصالحة، وإلا فإنَّ الدخول برحمة الله - عز وجل - لما دَلَّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم «لن يُدْخِلَ أحدا منكم الجنة عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (1) . وأما المعتزلة وأهل إنفاذ الوعيد فيرون أنَّ دخول الجنة يكون بالعمل مقابلةً؛ لأنَّ الله سماه أجر كما يقولون والأجر يقتضي المقابلة. نكتفي بهذا، نقف عند هذا أسأل الله - عز وجل - لنا ولكم التوفيق والرُّشْدَ والسداد والعفو من السيئات والرحمة والرضوان.   (1) البخاري (6463) / مسلم (7294) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الأسئلة : س1/ هل جاء في الأثر أنَّ الرجل إذا فعل معصية ولم يتب قبل ست ساعات فإنه يُكْتَبْ عليه ذنب وإن تاب بعدها فلا ذنب عليه؟ ج/ جاء في تفسير قول الله - عز وجل - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، أنَّ العبد المؤمن إذا فَعَلَ السيئة قال الملك المُوَكَّلْ بالكتابة انتظروا فلعله يتوب أو يفعل حسنةً لمحوها، هذا جاء في الأثر لكن ما أستحضر صحة ذلك. س2/ حديث «من فاتته العصر فقد حبط عمله» (1) هل هو صحيح، ومن رواه؟ ج/ هو صحيح وقد رواه مسلم وهذا اختلف العلماء فيه، والظاهر منه أنّ قوله «من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله» يعني خرجت عن وقتها، يعني أخرجها عن وقتها كلها، يعني بعد المغرب. حَبِطَ عمله يعني العمل الذي يقابل هذه الصلاة، ليس مطلق العمل أوكل العمل، لأ. ومن أهل العلم من قال العمل الذي هو عمل الصلاة ولو صلاها لأنها حابطة. س3/ ما المراد بحديث «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» (2) ؟ ج/ يعني أنَّ هذا الذنب الذي عمله من عظمه أنَّه كأنه فقد أهله وماله، يعني لو فقد أهله وماله كان أهون عليه. س4/ الفتوى التي انتشرت باستحلال الربا، أي أنَّ بعض العلماء قال إنَّ الربا حلال، أو الفوائد البنكية حلال؟ ج/ هناك فرق بين القول بأنَّ الربا حلال وبين قول أنَّ الفوائد البنكية حلال. فمن قال إنَّ الربا حلال فهو كافر، لكن الفوائد فيها الخلاف، فالخلاف فيها قديم. وأوَّلْ من أباحها فيما أعلم الشيخ محمد عبده المصري، ولم يُؤَلِفْ فيها لكن أَلَّفْ فيها الشيخ محمد رشيد رضا رسالة معروفة مطبوعة بعنوان (الربا والمعاملات المالية) ، ذَكَرْ في إباحة الفوائد، وليس الفوائد فقط حتى القروض التي فيها فائدة إذا كان المسألة ما فيها ظلم، إذا كان ما فيها استغلال للضعيف. قالوا لأنَّ الله - عز وجل - علَّلَ التحريم بالظلم فقال {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ، وربا الجاهلية كان فيه استغلال لحاجة الضعيف. لكن إذا كانَ ترك المال للبنك فيه قوة للبنك، ترك المال له فيه قوة له، كون بنك يعطيك ما فيه استغلال لحاجتك، وإنما فيه أنَّهُ أعطاكَ، ما استغل حاجتك، لأنك أنت أصلاً لست محتاج، لكن هو أعطاك لقاء عمله بالمال أو أقرض قروض ليست لاستغلال الحاجة إنما هي للإنتاج، يعمل استثمار، مصانع إلى آخره. محمد رشيد رضا كتب فيه كتاب كبير ومشهور (الربا والمعاملات المالية في الإسلام) فيرى أنَّ هذه كلها ما فيها ظلم من الغني الذي هو صاحب البنك لصاحب المال، وإنما هذه فيها إعطاء وإعانة له فليست محرمة. وهذا أخذه مجموعة عن المصريين ومجموعة من علماء سوريا، وكثيرين أخذوه. لهذا نقول مسألة الفوائد البنكية هذه القول بإباحتها قول ضعيف والأدلة تشمل هذا وهذا، والتعليل بعدم الظلم، يعني الجواب عن هذا يطول، وقول جمهور أهل العلم بل عامة أهل العلم من عدم إباحتها لا هي ولا القروض الشخصية هذا هو الصواب. لكن معرفتك للخلاف مفيدة في عدم الدخول في التكفير، لأنَّ الذي يُكَفَّرْ به ما هو؟ هو ما أُجْمِعْ عليه وهو ربا الجاهلية؛ يعني يعطيه قرض مثل ما قال قتادة ومجاهد وجماعة يعطيه قرض حسن ثُمَّ إذا أتى وقت السداد قال له جاء وقت السداد إما أن تقضي وإما أن تُرْبِيْ، ويكون هذا غالباً من الغني للفقير استغلالاً لحاجتة، فهو يعرف أنه لا يستطيع، فهذا الذي فيه ظلم وفيه إذلال إلى آخره. هذا المجمع عليه وهو ربا الجاهلية والذي جاء فيه النص. فهذا من أباحه فهو كافر، يعني إباحة ذلك كُفْرْ، أما المسائل الثانية ربا القروض وربا الاستثمار والفوائد فهذه ما فيها تكفير فيها صواب وغلط، لكن ما فيها تكفير، وهذه مهمة. مثل شيخ الأزهر لما أباحها فهو مسبوق، كلامه فيها أضعف من كلام رشيد رضا، رشيد رضا أصَّلْهَا تأصيل يعني فيه شبهة. س4/ذكر العلماء لفظ الحد لله، فما المراد به؟ ج/ الحد لله - عز وجل - يريدون به أنَّ الله سبحانه وتعالى غير مختلط بخلقه، فالله - عز وجل - قالوا بِحَدْ يعني أنه غير مختلط بالخلق، غير ممازج لخلقه؛ لأنه لو كان ممازجاً كان ما صار فيه حد، لكن بِحَدْ يعني ثَمَّ حَدٌ ينتهي إليه الخلق، الخلق فيه حد ينتهون إليه ويبقى رب العالمين، هذا معنى بِحَدْ. س5/ هل قال أحدٌ منهم أنه أراد به العلو؟ هو العلو من ضمنه، فهو أوضح المسائل تطبيقاً، يعني استوى على عرشه. قال بحد؟ قال نعم بحد، مثل ما قال سفيان وغيره وحماد بن سلمة، بحد يعني أنه مستوي على عرشه بذاته - عز وجل - غير ممازج لخلقه غير مخالط لخلقه، هذا معنى بحد. قال نعم، بحد؛ يعني غير مخالط منفصل. قال نعم بحد؛ يعني فيه حد ينتهي الخلقُ إليه، فيكون ما ثمَّ إلا رب العالمين. س6/ الذي يقيم الحجة هل [ ..... ] ؟ ج/ ما هو شرط المهم يكون عالما.   (1) البخاري (553) / النسائي (474) (2) البخاري (552) / مسلم (1448) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 س7 /ممكن يكون لا يعرفه يعني؟ لا، ما يعرفه ما يصلح، لابد يكون عالماً معروفاً. س8 /هل يعني الذي تقام عليه الحجة عارف الذي يقيم عليه الحجة؟ لا يعرفه شخصاً، هو يعرف أنه عالم وليس جاهلاً، فمثلاً اثنين [ ..... ] ، لا يكفي، لابد يكون عالماً، وهذه تختلف، إقامة الحجة تختلف، فيه مسائل التي يمكن أي واحد -المعلوم من الدين بالضرورة- أي واحد يقيم، لكن في المسائل الخفية التي فيها شبه. س9/هل الناس في البلاد العربية ينطبق عليهم حكم الأعجمي لأنهم قد ابتعدوا عن اللسان العربي من ناحية فهم الألفاظ والمعاني؟ العلماء لا ينطبق عليهم، العلماء الذين درسوا اللغة ودرسوا النحو وهو عالم يعرف العقيدة ودَرَسْ، هذا القرآن كافي في حقه؛ لأنه مفرط كونه ما عرف، لكن العوام وأشباه العوام هؤلاء يحتاجون إلى بيان. س10/ آحاد الناس ما يُكَفِّرُونَ أحداً، فقط التكفير يقتصر على العلماء والقضاة و [ ..... ] ؟ يعني في المسائل التي تحتاج إلى إقامة الحجة، لكن المعلوم من الدين بالضرورة. يعني مثلا شخصٌ قال لأحد من المسلمين الخمر حلال. هذا يكفِّرُهُ لأنَّ هذا لا يحتاج إلى استدلال، معلوم من الدين بالضرورة. لكن تجيء المسائل الخفية أو المسائل التي تحتاج إلى إقامة الحجة، المسائل الخفية يعني النادرة أو التي تحتاج إلى إقامة الحجة، فما دام فيه إزالة شبهة فلا بد من عالم يزيلها أو يحكم. لكن المعلوم من الدين بالضرورة الذي لا يُحْتَاجْ فيه إلى استدلال أصلاً. وهذه فيها تفصيلات تختلف باختلاف البلاد والأماكن. س11/ذكر شيخ الإسلام في مسألة حفظ [..] ... لما قال إنه [ ..... ] ذكر كلام قال لو كان كَفَّرَهْ لكان مثلاً سعى في قتله؟ كلام شيخ الإسلام صحيح، حتى هو يقول أنا أقول للمخالفين لو قلت بما تقولون به لَكَفَرْتُ؛ لأنَّهُ عنده العلم الواضح، يقول للمخالفين لو قلت بما تقولون به لكفرت، فهذا أصل مهم. س12/إيش معنى تكفير الشافعي لحفص الفرد؟ (1) ما كَفَّرَهُ عيناً. س13/لكن هو قال كفرت بهذا؟ كَفَرْتْ يعني لم يحكم عليه بالردة، كَفَرْتْ يعني هذا من باب الوعيد، لكن ما حَكَمْ عليه بالردة في نفسه، يعني المقالة هذه التي قلتها أنت كفرتَ بها، كفرتَ بقولك هذا. لكن هل معنى كَفَرْتْ أنه جَعَلَ هذا الكفر مستديماً معه يعني خَرَجْ من الإسلام به؟ هذه لابد فيها إقامة الحجة، فإنه إذا كان اكتفى بذلك وأقام الحجة عليه خلاص يصير مرتد. فإذاً ظاهر كلام ابن تيمية الذي قلته الآن أنه يقول أن الشافعي ما حكم عليه بالردة. يقول شيخ الإسلام: قال له كَفَرْتْ من باب الوعيد لأن مقالته مقالة كفر؛ لكنه ما حكم عليه. س14/بما أَنَّهُ ناقشه، ألا يكون قد أقام عليه الحجة؟ والله كلام ابن تيمية ما يساعد بهذا، ما يساعد أنه كفّره. س15/ التسخط على المصيبة هل يكون في الألفاظ فقط؟ ج/ التسخط معروف، التسخط منافي للصبر، باللسان تكلم باللسان، أو الجوارح يضرب، أو في قلبه يظن الظن السوء بالله - عز وجل -. يقول ما الذي أتاني، أنا لا أستاهل هذا، غيري أولى مني. هل هو باللسان فقط؟ التسخط له ثلاثة، الصبر له ثلاثة موارد، وكذلك التسخط له ثلاثة موارد، تسخط بالقلب، تسخط باللسان، تسخط بالجوارح. س16/ [ ..... ] ؟ ج/ هو غلط كلامه، كلام الطحاوي ما هو صحيح، إذا كان أراد به ما نكفره بأي ذنب حتى يستحله، يدخل فيه الشرك بالله، يدخل فيه السجود للأوثان، مسبة النبي صلى الله عليه وسلم ومسبة الله فكلامه غير صحيح، إنما ظاهر السياق أنه أراد مخالفة الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة كلامهم في إيش؟ في الكبائر العملية، لذلك بذنب يعني من الذنوب العملية أو بمجرد ذنب أو بكل ذنب. س17/ بالنسبة للقضاء والقدر، أحياناً تحدث المصيبة بسبب فعل الإنسان، مثل أن يسعى فيها أو يسعى في بعض أسبابها، كأن يكون إنسان باعَ شيئاً واستعجل في بيعه ثم اكتشف أنه أخطأ في بيعه، ثم جلس يقول يا ليتني لم أبعه أو ما أشبهه، فهل هذا معارض للقضاء والقدر؟ ج/ أولا الرضا له جهتان: - الرضا بفعل الله - عز وجل -، بتصرف الله في ملكوته هذا واجب. - والثاني الرضا بالمصيبة بالذنب، الرضا بفقد المال، الرضا بالمرض هذا مستحب ولا يقدر عليه كل أحد. فالرضا بقضاء الله - عز وجل - الرضا بفعل الله سبحانه وتعالى، تصرف الله في ملكوته يعني حيث هو من فِعْلٌ الله - عز وجل - يرضى ولا يسخط تصرف الله في ملكوته. لكن يسخط المصيبة، يسخط المرض، لكن يقول الله - عز وجل - ما شاء فعل هذا ملكه وأنا عبد من عباده؛ لكن إذا نظر إلى المصيبة سخطها إذا نظر إلى المرض سخطه، فهذا مستحب أنه يرضى بالمصيبة.   (1) سنن البيهقي الكبرى (19690) / حلية الأولياء (9/113) / درء تعارض العقل والنقل (4/5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ولهذا مسائل الرضا فيها قال سبحانه وتعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] . قوله هنا (في كتاب) و (قدر) و {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} هذا تعليق أنَّ عدم اليأس وعدم الفرح يَعْظُمْ ويُوجَدْ بقوة إذا قوي إيمان العبد بفعل الله. المقصود الواجب هو الرضا بفعل الله، أما الذي يسميه العلماء الرضا بالقضاء، يعني كون الله - عز وجل - قضى هذا الشيء، أما المقضي المصيبة ما هو واجب بل هو مستحب، يختلف فيها الناس، ناس رضاها دائم وناس يرضى ساعة وساعة ما يرضى، يختلف الناس، والله المستعان. س18/ عبارة ليس بالإمكان أبدع مما كان، قد يُكَفَّرْ قائلها؟ ج/ قد يُكَفَّرْ به إذا عنى شيئا، إذا عنى ليس بالإمكان أبدع مما كان أن الله - عز وجل - لا يقدر أن يخلق أجمل من هذا الكون، هذا كفر؛ لأن هذه الكلمة قد يقولها القائل وتحتمل معنىً صحيحا وقد يقولها وتحتمل معنى باطلا، وقد تصير كفر. إذا قال ليس في الإمكان أبدع مما كان يعني وجود هذه الطبيعة ما يمكن يكون فيه أحسن منها، ما يمكن أن الله أن يخلق أجمل من هذه أعوذ بالله، الله تعالى على كل شيء قدير. س19/ «لا يدخل الجنة قاطع رحم» هل معناها أنه لا يدخلها مطلقا؟ ج/ يعني لا يدخلها أولا؛ بل هو متوعد بالعذاب على قطعه الرحم حتى يُطهَّر هذا من أحاديث الوعيد. س20/ الفخر بالأحساب هل يلحق بالطعن في الأنساب في الكفر وهل هناك ضابط؟ ج/ لا، هذا فعل جاهلي، هو فقط من خصال الجاهلية وليس كفراً، هذا من خصال الجاهلية منها ما يصل إلى أنها كفر يعني من جهة أنها ذنب عظيم إلى آخره، ومنها من الخصال التي تركها واجب مثل التفاخر مثل التطاول. أما الضابط فليس فيها ضابط، فما دام أنه مسلم وحقق التوحيد فليس جاهلي، هذا أصل. قد يأتيه خصلة تكون من خصال الجاهلية مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر «أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية» ، فقد يكون في المسلم في المؤمن خصلة من خصال أهل الجاهلية، خصلة واحدة خصلتين، ثلاثة، عشرة؛ لكن ما يقال فلان جاهلي، جاهلي معناه أنك سلبته [ ..... ] ، أما أن تقول فيك جاهلية تفاخر بالأحساب الطعن بالأنساب تقول فيك جاهلية هذا صحيح. سبحانك اللهم وبحمدك. (1)   (1) انتهى الشريط السابع والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 : [[الشريط الثامن والعشرون]] : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. الأسئلة: س1/ هل هناك فرق بين فهم الحجة والاقتناع بالحجة؟ ج/ هذا مرّ معنا الجواب عليه (1) وهو أنَّ فهم الحجة الذي لا يُشترط في إقامة الحجة هو الاقتناع، كونه اقتنع أو لم يقتنع هذه ليس شرطاً؛ لكن المهم أن تُقَام عليه الحجة بوضوح وبدليل لأنه إذا قلنا بشرط الاقتناع معنى ذلك أنه لا يكفر إلا المعاند، والأدلة دَلَّتْ في القرآن والسنة على أنَّ الكافر يكون معانداً ويكون غير معاند، يكون مقتنع وأحياناً يكون غير مقتنع عنده شبهة لا زالت عنده ولكن لم يتخلص منها لأسباب راجعة إليه. س2/ ما الدليل على أخذ جبريل عليه السلام القرآن من الله تعالى مباشرة، لا من اللوح المحفوظ وأنَّ الله كلمه به؟ ج/ الدليل على ذلك أنَّ الله - عز وجل - نسب القرآن وأضاف القرآن إلى نفسه تكليما به قال - عز وجل - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] . {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فسَمَّاهُ كلاماً له - عز وجل -، وقال سبحانه وتعالى في ذكر جبريل {وَإِنَّهُ} أي في القرآن وجبريل {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] ، ودلّ على أنَّ هذا التنزيل تنزيل سماع لا تنزيل كتابة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «إذا قضى الله الوحي في السماء سُمِعَ له كجر سلسلة على صفوان» (2) إلى آخر الحديث، فيكون جبريل أول من يفيق فيقولون ماذا قال ربكم، لا، فتفيق الملائكة فينفذ ذلك فيهم. «إذا قضى الله الوحي في السماء برزت الملائكة بأجنحتها في السماء خضعانا لقوله فينفذهم في ذلك» يعني إلى قوله «فتقول الملائكة ماذا قال ربكم فيقول جبريل عليه السلام «الحق وهو العليّ الكبير» فالوحي يسمعه جبريل عليه السلام ثم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قول من قال من الأشاعرة إنه يأخذه من اللوح المحفوظ، فهذا ليس بصحيح وليس من أقوال أهل السنة البتة؛ لأنَّ ما في اللوح المحفوظ من القرآن هذا مجموع على جهة الكتابة، والقرآن له جهتان: - جهة سماع. - وجهة كتابة. جهة كلام من الله - عز وجل - يُسمع، وجهة كتابة. وجهة الكتابة هي ما في اللوح المحفوظ من القرآن بأجمعه من أوله إلى آخره، وجبريل عليه السلام لا ينتقي هذه الآية يأخذها وينزلها في الوقت المحدد، ثم يأخذ الآية الأخرى وينزلها في الوقت المحدد، وإنما هو وحي الله - عز وجل -. قال سبحانه {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ، قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعُه الأصوات، فقد جاءت المجادلة تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حجرتي لا أسمعها (3) ، وهذا مصيرٌ من عائشة رضي الله عنها إلى أنَّ الله - عز وجل - سمع ذلك منها فقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} . المقصود من ذلك أنَّ تنزيل القرآن تنزيل سماع، أما الكتابة فهي موجودة في ثلاثة أشياء: 1 - موجودة في اللوح المحفوظ كما قال - عز وجل - {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ، وقال - عز وجل - {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، هذه الأولى. 2 - والثانية في الكتابة ما هو موجود في بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا على القول بصحة أثر ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك. - والثالث المكتوب في المصاحف التي بين أيدي المسلمين. هذه ثلاثة كتابات، والكتابة ليست تكليما وإنما هي كتابة. وحيثما وجد في اللوح المحفوظ أو في بيت العزة أو في المصاحف كله كلام الله - عز وجل - ينسب إلى الله - عز وجل - أو يضاف إلى الله - عز وجل - إضافة صفة إلى موصوف. س3/ قال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] ، ما المقصود بالمعصية هل هي الصغائر أم الكبائر أم الشرك؟ ج/ المعصية هذه التي توعّد الله - عز وجل - عليها بدخول النار والخلود فيها والعذاب المهين هي الكفر بالله - عز وجل - والشّرك الأكبر والردة عن الإسلام والعياذ بالله، هذا هو الذي يترتب عليه ذلك.   (1) انظر (360) (2) البخاري (4701) / أبو داود (4738) / الترمذي (3223) / ابن ماجه (194) (3) النسائي (3460) / ابن ماجه (188) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 والكبائر والصغائر داخلة في عموم المعصية {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يدخل فيها الكبائر والصغائر؛ لكن قوله {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} هذا يدُلُّ على أنَّ هذه المعصية هي المعاصي التي لا يدخلها التكفير، وهي الكبائر إن مات مصرًّا عليها ولم يتب؛ يعني ولم يشأ الله - عز وجل - أن يغفر له والكفر والشرك كما ذكرتُ لك. إذاً فالآية فيها الكبائر التي لم يَتُبْ منها مثل القتل مثل شرب الخمر ونحو ذلك، هذه إذا مات المسلم وهو يفعلها ولم يتب منها فإنه تحت المشيئة إن شاء الله - عز وجل - عفا عنه وإن شاء عَذَّبَهْ، وهذا يدخل في العذاب. {خَالِدًا فِيهَا} الخلود في القرآن نوعان: - خلود أبدي. - وخلود أمدي. الخلود في اللغة واستعمال القرآن على ذلك أنَّ الخلود معناه المكث الطويل، إذا مَكَثَ طويلا قيل له خالد، ولذلك العرب تسمي أولادها خالداً تفاؤلاً بطول المكث، بطول العمر، سَمَّوهُ خالداً؛ يعني أنه سيعمر عمراً طويلاً، وليس معنى الخلود يعني أنه خلود ليس معه انقطاع، وإنما هذا يُمَيَّزْ بالأبدية لهذا في الآيات ثَمَّ آيات فيها {أبدًا} ، وثَمَّ آيات ليس فيها الأبدية، فلما جاء في القتل قال {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، أجمع أهل السنة على أنَّ الخلود في هذه الآية ليس أبدياً لأنَّ مرتكب الكبيرة يخرج من النار بتوحيده. والآيات التي فيها الخلود الأبدي واضحة كقوله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، لا، الآيات متعددة ما استحضرتها الآن، فإذاً الخلود نوعان في القرآن. شيخ الإسلام ابن تيمية له بحث في هذا، لكن لا يُسَلَّمْ له. (1) س4/ لو قال لي شخص: أنتم يا أهل السنة والجماعة متناقضون في تقسيماتكم؛ كيف تقولون إنَّ الله نُثْبِتْ له صفة العلو بذاته وفي نفس الوقت تقولون إنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، والنزول من الصفات الفعلية، فهل هذا إلا جمعٌ بين نقيضين؟ ج/ ليس أهل السنة الذين قالوا بهذا، الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي أثبت العلو لله - عز وجل - بذاته، وهو الذي أخبر بنزول الرّب - عز وجل - في آخر كل ليل، فإذا كان ثَمَّ تناقض فنُعِيذْ من يقول هذا أن ينسب التناقض للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله هل هذا إلا جمع بين النقيضين هذه مشكلة كل مؤوّل وكل مُحَرِّفْ هذا السؤال يمثل مشكلته. وهي أنَّ المُؤَوِّلْ مُشَبِّهْ، ما أوَّلَ إلا لأنه شبَّه، قام في ذهنه أنَّ إثبات الصفة فيه مشابهة ومماثلة لما يعلمه من اتصاف المخلوق بالصفة، ثُمَّ شَبَّهَ ثُمَّ نَفَى. ما ينفي أحد في مجال الصفات والعقائد إلا أنه شَبَّهَ قبل، وإلا كيف تنفي؟ أنت لا تَقُلْ إنَّ الكيفية تعلمها أصلاً أو أنَّ الكيفية لها مماثل فيما ترى أو فيما رأيت، كيفية اتصاف الرب - عز وجل - بصفاته لا يعلمها أحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فلا نعلم حقيقة اتصافه بالصفة ولا كيفية اتصافه بالصفة. فإذا قال قائل: هذا يمتنع إننا نقول أنه - عز وجل - عالٍ بذاته سبحانه وتعالى وأنه ينزل، يقول هذا جمع بين النقيضين؛ فمعناه أنه شَبَّهْ. لأنه عَدَّهُ جمعاً بين النقيضين لماذا؟ لأنه جَمْعٌ بين النقيضين في حق بعض المخلوقات، وليس كل المخلوقات؛ لأنه يمكن أن ينزل المخلوق ويبقى عالياً، ينزل المخلوق ويبقى عالياً؛ لكن النزول مع الاستواء على العرش هذا من خصائص الله - عز وجل -، لكن المخلوق يمكن أن ينزل وأن يكون عالياً بذاته مثل الملائكة ينزلون وهم في العلو، أما الاستواء على العرش مع النزول هذا خاص بجلال الله - عز وجل -. فإذاً إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية، من قال هذه تجمع مع هذه، هذا فيه تناقض، كيف؟ هذا معناه أنَّهُ شَبَّهْ، اسْتَحْضَرْ من الصفة مماثلة اتصاف المخلوق بها ثم نفى، وهذه مشكلة كل المؤولة. س5/ أيهما أعظم جُرْمَاً وذنباً الحلف بغير الله أو الزنا؟ ج/ الحلف بغير الله كفر والزنا ليس كفراً، ومعصية سمَّاها الله - عز وجل - كفراً هي أعظم من معصية لم يسمها الله - عز وجل - كفراً، وهذا المقصود به من حيث الجنس يعني جنس الحلف بغير الله وجنس الزنا. لكن لو تطبقه على شخص لا يسوغ التطبيق، تقول هذا حَلَفَ بغير الله وهذا زنى، معناه هذا أبشع من هذا، فإنَّ هذا لا يُطَبَّقْ في كل نواحي الموازنة هل هذا أعظم أو هذا أعظم المقصود به النوع، أما إذا أتيت إلى الأفراد فهذا يختلف باختلاف الأحوال. س6/ هل الذبح أمام أو عند قدوم الضيف شرك، حيث إنَّ بعض من ينتسب إلى أهل العلم يقول إذا كان على وجه الإكرام يجوز ذلك؟   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ج/ الذبح إراقة الدم من أعظم القربات لله - عز وجل -؛ لأنَّ الذي أجرى الدم في هذا المخلوق هو رب العالمين، فالدم هو الحياة، جريان الدم هو الحياة، فإراقته إنما تكون تقرباً لمن وهب هذه الحياة ووهب هذه الأنعام التي ينتفع بها الإنسان، التقرب بإراقة الدم إذا كان لمخلوق فهو كفر بالاتفاق، تقرّب بإراقة الدم لمخلوق تقرباً له تعظيماً له هذا كفر بالإتفاق، هذا شرك من جهة العبادة، فإنْ سَمَّى غير الله - عز وجل - عليه صار مما أُهِل لغير الله به فرجع إلى الشك في الربوبية والاستعانة. الذي يحصل عند البادية في بعض البادية أنهم إذا أرادوا أن يُكْرِمُوا ضيفاً -وليس كل ضيف- الضيف الذي يعظمونه أو سلطان أو أمير أو نحو ذلك، فإنهم يذبحون الذبيحة ليسيل الدم أمامه وهو يرى، وهذا جرت عادتهم أنَّ هذا على جهة التعظيم للقادم لا على جهة الإكرام، يُكْرِمون أضيافهم بالذبح وراء البيت بالذبح في أي مكان؛ لكن كونه ينحر الإبل والدم يضرب بقوة والضيف يأتي، هذا لا يفعلونه إلا للمُعَظَّمْ فيهم، وهذا نوع تقرب للمخلوق بهذا الدم، ما نقول تقرب لكن هو نوع تقرب، ولذلك حَكَمَ العلماء على أنَّ هذه الذبيحة ليست مباحة بل هي ميتة، لا يجوز أكلها، ويجب الإنكار على من فعل ذلك، سواء فعله مع سلطان أو مع أمير أو فَعَلَهُ مع رئيس قبيلة أو فعله مع ضيف معتاد ممن يُعَظَّمْ؛ يعني ليس من هؤلاء، فإنه لا يجوز الأكل منها، إذا ذبحها أمامه ضابطها أن ينحر الإبل ويضرب الدم وهذا يدخل أمامه وهو يرى لدخوله. لكن لا يدخل في ذلك وهو جالس مثلاً في المكان أو في الخيمة أو في البر، هو جالس ثم دعوه على الكل فصاروا ذبحوا الذبيحة وهو ينظر إليها؛ لكن الضابط هو إراقة الدم وسيلانه وهذا يتحرك وهذا يقدم مثل ما حصل قريباً، نسأل الله - عز وجل - العافية والسلامة، هذا كله محرم وكبيرة من الكبائر وبعض حالاته يكون شركاً في هذا؛ لكن على كل حال هذه الذبيحة محرمة ميتة لا يجوز الأكل منها. س19/ لُوحظ في الآونة الأخيرة على بعض الشباب الملتزم الأخذ من اللحية تخفيفاً، فما حكم هذا العمل؟ وما حدود اللحية؟، وهل يُصَلَّى وراء الإمام الرسمي؟ آمل التكرّم بتفصيل مسألة بدعية الأسابيع المتكررة: المساجد الشجرة إلى آخره؟ ج/ أما حكم الأخذ من اللحية، فحلق اللحية حرام بالإجماع نص ابن حزم على تحريم حلق اللحية بالإجماع، وكذلك غيره، وعلماء المذاهب الأربعة يختلفون في هذه المسألة من حيث تحريم الحلق أصْلاً. والذي دَلَّتْ عليه الأدلة الواضحة في السنة بألفاظ مختلفة أنّ إعفاء اللحية مأمور به قال صلى الله عليه وسلم «خالفوا المجوس أعفوا اللحى وحفوا الشوارب» وفي رواية أخرى قال «أرخوا اللحى» (1) ، وفي رواية ثالثة قال «وفّروا اللحى» (2) ، وقال «أكرموا اللحى» ، وهذا يدل على أنَّ هذه الأمور مأمور بها، وأنَّ حلق اللحية حرام، وقد روى ابن السعد أيضاً وغيره أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المجوس وكان حالق اللحية وكان موفّر الشارب جداً فانصرف عنه صلى الله عليه وسلم فلما أقبل عليه قال له «من أمرك أن تفعل هذا؟» فأجابه الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم «ولكن الله أمرني أن آخذ من هذا» يعني شاربه «وأعفي هذه» (3) يعني اللحية. إذا تقرر هذا فما هو حد الإعفاء لغةً وشرعاً الذي يحصل به الإعفاء، وهل معنى الإعفاء أنه لا يجوز أخذ شيء من اللحية، للعلماء في ذلك أقوال: - الإمام أحمد وأصحابه ذهبوا إلى أنَّ إعفاء اللحية بتركها على حالها سنّة، وأنّ الأخذ منها إذا لم يكن إلى حد الحلق فإنه مكروه، وهذا هو الذي مدوّنٌ في مذاهبهم، والإمام أحمد كان يأخذ من لحيته كما ذكره إسحاق ابن هانئ في مسائله. - والقول الثاني وهو المُفْتَى به عند علمائنا وذلك لظاهر الأدلة أنَّ معنى الإعفاء ألا يُؤْخَذَ منها شيء أصلاً بدليل قوله (وفّروا اللحى) ، (أكرموا اللحى) ، (أرخوا اللحى) وهذه كلها مأمور بها. لكن ما هو حد الإعفاء هذا؟ الذين قالوا بأنَّ الأخذ من اللحية ليس مخالفاً للإعفاء، قالوا هذا الأمر، أعفوا، أرخوا، خالفه الصحابة بالأخذ بما زاد عن القبضة فَدَلَّ على أنَّ حد الإعفاء ليس مطلقاً؛ يعني بِأَنَّ من أَخَذَ فقد خالف الأمر بالإعفاء. ولهذا ذهب جماعة من العلماء منهم الحنفية ونَصَرَهُ الشيخ ناصر الدين الألباني في هذا الوقت نصراً بالغاً بأنَّ حد اللحية إلى القبضة، وما زاد على ذلك فلا يُشْرَعْ، وهذا القول فيه ضعف ظاهر؛ لأنَّ من الصحابة من كان كث اللحية جداً وعظيمها وكانت لحيته تبلغ إلى صدره، كما ذُكر عن علي رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثَّ اللحية جداً ونحو ذلك مما يدل على أنَّ حد الإعفاء بالقبضة وأنه لا يجوز أن يُعْفِيَ أكثر من القبضة هذا قول يحتاج إلى أدلة واضحة في ذلك.   (1) هذا اللفظ وما قبله في مسلم (626) (2) البخاري (5892) (3) الطبقات لابن سعد (1/449) / التمهيد (20/55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ولو كان أنَّ الزيادة على القبضة لا تجوز كما ذهب إليه الشيخ ناصر الدين الألباني -حفظه الله- لما خَصَّ الصحابة الأخذ من اللحية مما زاد عن القبضة بالنُّسك، ابن عمر كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد عن القبضة أخذه، لو كان مطلق أنه ما يعفي أكثر من القبضة فمعناه أنه لا يُخَصْ بالنسك؛ لأنَّ تخصيصه بالنُّسك هذا يدل على معنى آخر وليس على الإطلاق. المقصود من ذلك أنَّ العلماء لهم في ذلك أقوال: القول الأول ما ذكرته لك من المفتى به عند علمائنا وهو أن الإعفاء بأنَّهُ يتركها على حالها، طبعاً إلا في حالة التشويه وهذه حالات نادرة. والقول الثاني أنَّ الحلق يحرم وأنَّ تركها على حالها مستحب، والأخذ منها مكروه؛ يعني تَرَكَ فيه الأفضل. والقول الثالث هو أنَّ الزيادة على القبضة لا يجوز؛ بل بدعة وهو قول الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو قول ليس له حظ من الدليل. [ ..... ] راجعة إلى كلمة (إعفاء) ما حدّه في اللغة؟ الأقرب من حيث النّظر وفعل الصحابة أنّ الإعفاء ما له حد؛ لكن المأمور به أن لا يكون المرء مشابهاً للذين يحلقونها أو يَقُصُّونَهَا شديداً؛ لأنَّ النووي رحمه الله ذكر خصال إثنا عشرة أو عشر خصال في اللحية مذمومة، ومنها أشياء يُوَافَقُ عليها ومنها الأخذ منها شديداً وهذا من فعل المجوس ومنها حلقها، وهو من المعاصي لكن ليست كبيرة، حلق اللحية ليس من الكبائر. نكتفي بهذا القدر، وتعذورنا على الإجابة على الأسئلة لكن لعل فيها فائدة إن شاء الله تعالى. (1)   (1) انتهى الشريط الثامن والعشرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 : [[الشريط التاسع والعشرون]] : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ يقول: إذا كان لفظ الحَنَفِي من ألْفَاظِ الأضداد التي تُطْلَقْ على الميل والاستقامة، فلماذا لا يقال من الأصل إنَّ إبراهيم عليه السلام كان مستقيماً على التوحيد ولا يقال مائلاً عن الشرك؟ ج/ لفظ (الحَنَفْ) في اللغة هو الميل، والحنيف يعني المائل، والرجل به حَنَفْ إذا كان به ميل في ساقيه أو في إحدى ساقيه، والأمور التي قال فيها العرب ونطقت العرب فيها بالأضداد؛ يعني أن تُطْلَقْ الكلمة وتُسْتَعْمَلْ في الشيء وفي ضده، هذا شائع في لغة العرب، وهو في اللغة يعني في اللّسان على نوعين: - منها ما يُطْلَقُ على الشيء وعلى ضده ويُنْظَرُ فيه إلى التلازم؛ بمعنى أنَّ الشيء وضده متلازمان إذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ الآخر، ومن هذا الحنف، فيقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] ، فَمَنْ مال عن الشرك فإنه لا يميل عنه إلا إلى التوحيد؛ لأنه ليس ثَمَّ إلا توحيد وشرك، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] ، إذا فررت من الكائنات فإنك تفر منها إلى مُكَوِّنْ الكائنات؛ لأنه ليس ثَمَّ إلا هذا وهذا. - النوع الثاني أن يُطْلَقَ بلا إرادة التلازم؛ بل من باب التفاؤل تَارَةً ومن باب آخر أو من أبواب أُخَرْ تارات أخر، مثل أن يُسمى اللديغ سليم، فاللديغ معروف لكن العرب قد تقول له سليم من باب التفاؤل، فكلمة سليم تُطْلَقْ على السالم وتُطْلَقْ على المريض، أُطْلِقَتْ على المريض من باب التفاؤل. وهذه لها تأثير في فقه اللسان العربي فالعرب تارةً تطلقا من باب التلازم وتارةً تطلقها من باب التفاؤل وتارة لا من هذا ولا من هذا، في فِقْهٍ لهم في هذه الألفاظ. إذا كان كذلك فلفظ الحنيف الذي جرى عليه السؤال لا يُتَصَوَّرْ أن يكون المرء حنيفاً أو حَنَفِيَاً أو حَنِيفِيَاً إلا أن يكون موحّداً؛ لأنه إذا مال عن الشرك فإنه يميل عنه إلى الحق وهو التوحيد، حنيف عن أهل الشرك مائل عن أهل الشرك فإنه لابد أن يميل عنهم إلى أهل التوحيد، ولو كان مَنْ مَالَ إليه إبراهيم عليه السلام وحده فإنه مع أُمَّةْ وليس مع واحد، وهكذا. فإذاً الأصل في هذه أنها من باب التلازم، الحَنَفْ من باب التلازم. ومنها كلمة -أيضا يُطلقها أهل نجد وربما بعضكم سمعها، وليسوا أهل نجد جميعاً وإنما هم أهل الدعوة، العامة منهم في أول الأمر- يقولون نحن أهل العُوجه، ما معنى العوجه؟ العوجه هذا من أسماء كلمة التوحيد، أهل العوجه؛ يعني أهل التوحيد، أهل ملة إبراهيم، أهل الحنيفية؛ لأنها عوجه عن طريق الشرك إلى طريق أهل التوحيد، وهذا هو التفسير الصحيح الذي فيها، مثل ما جاء في حديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ.   يُقَرِّرُ العلامة الطحاوي رحمه الله بهذا وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الأمر العظيم، وهو الأمن من مكر الله، واليأس من رَوحِ الله - جل جلاله -، وأنَّ اليأس هذا سبيل الكافرين، والأمْنُ مِنْ مكر الله سبيل أهل الشّهوات الذين لا يرقبون الله - عز وجل - ولا يرقُبُونَ صفات الرب - جل جلاله -. والدليل على هذا الأصل قول الله - عز وجل - في الكافرين في اليأس {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، في قول يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فنهاهم عن اليأس من رَوْحِ الله وعلَّلَ ذلك بأن هذا من خصال الكافرين. وأما الأمن فالأمن من مكر الله - عز وجل - جاء النهي عنه في غير ما آية منها قوله تعالى في سورة الأعراف {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . والأمن من مكر الله كُفْرْ، واليأس من رَوْحِ الله كُفْرٌ أيضا كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) لأنَّ الله - عز وجل - وصف الكافرين والخاسرين الذين استحقّوا العقوبة منه والعذاب بأنهم يأمنون من مكر الله وييأسون من رَوْحِ الله - عز وجل -. وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يَأْمنون بل يخافون ذنوبهم ويخافون عقوبة الله - عز وجل -، ويعلمون أنَّ الله سبحانه خافته ملائكته وهم أقرب الأقربين وهم المقربون إليه - عز وجل - المُطَهَّرُونَ من دنس الآثام ومن رجس الذنوب يخافون ربهم، كما قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] ، وكما قال {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبإ:23] . واليأس أيضا من روح الله هذا صفة أهل القنوط، فأهل السنة والجماعة بين هؤلاء وهؤلاء، لا يأمنون بل يخافون الله - عز وجل - ولا ييأسون بل يرجون. وهذه راجعة إلى أنهم -يعني أهل الحق وأهل السنة- يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، كما وصف الله - عز وجل - أولياءَهُ المقربين بقوله {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] ، وهذه من صفات المتقين، وكذلك في قوله في سورة الأنبياء {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ، فجَمَعَ لهم بين الرّغب والرهب. إذا تبين ذلك فإنَّ الأمن والإياس رِدَّةْ عن الدين كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) بضابط. ومن المهم معرفة هذا الضابط؛ لأنه هو نكتة المسألة وعُقْدَتُها، وهو: - أنَّ الأمن يكون كُفْراً إذا انعدم الخوف. - واليأس يكون كُفْراً إذا انعدم الرجاء. فمن لم يكن معه خوف من الله - عز وجل - أصلاً -يعني أصل الخوف غير موجود- فقد أَمِنَ فهو كافر. ومن لم يكن معه رجاء في الله - عز وجل - أصلاً فقد يئس من روح الله فهو كافر. إذاً الأمن والإياس مرتبطان؛ بل معناهما الخوف والرجاء. الأمن لأجل عدم الخوف، واليأس لأجل عدم الرّجاء. فمن كان عنده خوف قليل ويأمن كثيراً فإنه من أهل الذّنوب لا من أهل الكفر، فإن لم يكن معه خوف أصلاً فإنه كافر بالله - عز وجل - كما قال هنا (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) . أما أهل التوحيد، أهل الذنوب من أهل القبلة فإنهم بِقَدْرِ ما عندهم من الذّنوب يكون عندهم أَمْنْ من مكر الله - عز وجل -. فإذاً الأمن من مكر الله يتبعَّضْ، لا يوجد جميعاً ويذهب جميعاً؛ بل قد يكون في حق المعيَّنْ أنه يخاف تارة ويأمن تارة، يصحو تارة ويغفل تارة. وكذلك في اليأس من رَوحِ الله يغلب على المرء الموحّد تارةً أنه ييأس إذا نظر إلى ذنبه، أو نَظَرَ إلى ما يحصل في مجتمعه أو ينظر إلى ما قضى الله - عز وجل - في هذه الأرض وعلى أهلها من الشرك مثلاً أو من الذنوب أو من الكبائر أو من القتل أو من الفساد فيأته اليأس، فإنْ غَلَبَ عليه اليأس بحيث انعدم الرجاء لنفسه أو للناس فإنه يكفر بذلك. أما إذا وُجد عنده اليأس ووُجد عنده رجاء فإنه لا يخرج من الملّة. فإذاً هنا ضابط الأمن والإياس الذي ينقل عن الملة هو ما ذكرته لك. وأما المُوَحِّدْ المُعَيَّنْ من أهل الإيمان فإنه بحسب قوة يقينه يجتمع فيه أنَّهُ -يعني قد يكون عنده أَمْنْ بحسب ذنوبه-، ومن كَمَّلَ الإيمان وحقَّقَ التوحيد فإنه يخاف ولا يأمَنُ من مكر الله. والأمن من مكر الله؛ يعني الأمن من استدراج الله - عز وجل - للعباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقد وصف الله - عز وجل - بعض عباده بقوله {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (1) ، هذا الاستدراج يُحدِثُ الأمن، وما عُذِّبَتْ أمة إلا وقد أَمِنَتْ؛ لأنَّ الله - عز وجل - يبلوهم بالخيرات ويبلوهم بالسيئات ويبلوهم بالشر والخير فتنة ثُمَّ هم لا يتوبون ولا هم يَذَّكَّرُون. فإذا وقع منهم الأمن وقعت عليهم العقوبة، نسأل الله - عز وجل - لنا ولإخواننا العفو والعافية. فهذا ضابط المسألة. (وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ) . إذا تبين ذلك، فالواجب على كل مُوَحِّدْ، كل مؤمن: أن يُعَظِّمَ في قلبه جانب الخوف من الله - عز وجل -. فلا يُفْلِحْ مَنْ أمِنَ الله على نفسه طرفة عين، الله - عز وجل - يُقَلِّبُ القلوب ويقلب الأبصار، وقال في وَصْفْ الأولين {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] . يرى العبد أنَّ الخيرات تنفتح عليه وهم مُقِيم على الذنوب وهو مقيم على المعاصي وهو مقيم على الكبائر، سواء كان العبد فرداً أم كان مجتمعاً. بنوا إسرائيل ادَّعَوا أنهم أحباب الله - عز وجل - وأنهم أبناؤه وأنه لا يُعَذِّبُهُم ولو حصل لهم تعذيب فإنما تمسهم النار أياماً معدودة، والله - عز وجل - عاقَبَ بني إسرائيل العقوبة العظيمة ولَعَنَهُم حيث قال سبحانه في سورة المائدة {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] ، الآيات. فالواجب إذاً على المُوَحِّدْ أن يخاف ذنبه ولا ييأس من رَوْحِ الله. كل أحد يُذنِبْ ولكن إذا أَذْنَبَ استغفر. يخاف ذنبه ويخشى أنَّ الله - عز وجل - لم يقبل توبته، لم يقبل حوبته، لم يقبل إنابته، يرجو رحمة الله - عز وجل - ويخاف ذنوبه. فما اجتمع هذان في قلب أحد إلا ونجا، وهو رجاء الرحمة وخوف الذنوب. وهذا هو سبيل الحق الذي هو بين الأمن الإياس لأهل القبلة. أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من الرّاغبين الرّاهبين الخاشعين، وأن يجنبنا الأمن كما أسأله أن يجنّبنا الإياس فإنه سبحانه على كل شيء قدير.   (1) الأعراف:182-183، القلم:44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.   يُريد بذلك أنّ أهل السنة والجماعة خالفوا الخوارج والمعتزلة الذّين يوجبون للعبد النّار والخوارج الذين يُكَفِّرُونَ بالذنوب. فقال: إنَّ العبْدَ لا يَخْرُجُ مِنَ الإيمَانِ بعد أن دَخَلَ فيه وصار مؤمناً إلا بجُحُودِ ما أَدْخَلَهُ فيه. وهذا لأجل أنَّ أَعْظَمَ المسائل التي يَتَّضِحُ فيها الخروج من الإيمان هو الجَحْدْ، وإلا فهذا الحصر غير مراد للمؤلف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فإذاً هذه الجملة فيها بيان مخالفة المُكَفِّرين بالذنوب من الخوارج وأشباههم أو الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه خالد مخلَّد في النار من الخوارج والمعتزلة ومن شابههم. إذا تبين هذا فهذه الجملة المهمّة فيها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 [المسألة الأولى] : دليل هذه الجملة. دليلها الإجماع؛ إجماع أهل السّنة والجماعة على أنَّ من دَخَلَ في الإيمان بيقين فإنه لا يَخْرُجُ منه إلا بِأَمْرٍ مُتَيَقَّنٍ مماثلٍ -يعني في اليقين- لما بِهِ دخل في الإيمان. وهذا الإجماع له أدلته من كتاب الله - عز وجل - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 [المسألة الثانية] : هذا الحصر في كلام المؤلف ليس مراداً في أنَّهُ يقول (لا يخرج أحد من الإيمان إلا بالجحد) ، فينفي التكفير أو الحكم بالردة بالاستحلال أو بالإعراض أو بالشك أو بغير ذلك مما يُحْكَمُ على من أتى به مع قيام الشروط وانتفاء الموانع بالردة. ودليل عدم إرادته للحصر أنَّهُ ذَكَرْ في المسألة الثالثة التي مضت أنَّ المؤلف تبعاً لأهل السنة لا يُكَفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله فقال في المسألة التي مرت علينا قريبا (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) واستحلال الذنب غير الجحد، الاستحلال صورة والجحد صورة، فدلَّ على أنَّ الطحاوي لا يريد بالحجد الحصر، ففيه ردّ على من حَصَرَ الردة أو الكفر بالتكذيب أو بالجحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 [المسألة الثالثة] : الجَحْدْ من الكلمات التي استُعْمِلَتْ في القرآن والتي جاءت في القرآن، ولها دلالتها في لغة العرب. - فَدِلالة الجحد في اللغة: الجحد هو الرد والإنكار، جَحَدَ الشيء يعني رَدَّهُ أو أنْكَرَهُ، هذا من جهة اللغة فيجتمع في اللغة مع التكذيب بالشيء ظاهراً أو مع التكذيب به باطناً. - وأما في القرآن: فإنَّ الله - عز وجل - ذكر الجَحْدْ في عدة آيات، وبيَّنَ أَنَّ الجَحْدَ قد يجتمع مع التكذيب وقد لا يجتمع مع التكذيب، قال - عز وجل - في سورة الأنعام في وصف المشركين {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنبياء:33-34] فدل على أنهم لم يُكَذِّبُوا وجَحَدُوا. ولهذا حقيقة الجحد عند أهل السنة والجماعة مرتبطة بالقول لأجل هذه الآية قال {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} يعني باطناً {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يعني ظاهراً، وهذا مرتبط بالقول لأنهم رَدُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم. والخوارج ذهبوا إلى أنَّ الجحد يكون بالقول وبالفعل معاً، فعندهم أنَّ الجحد يكون بالقول كقول أهل السنة، ويكون أيضاً بالفعل فيدُلُّ الفعل على جحده. * وهذا خلاف ما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة من أنَّ الجحد ليس مورده الفعل؛ لأنَّ الفعل مُحْتَمِلْ يَدْخُلُهُ التأويل ويَدْخُلُهُ الخطأ ويَدْخُلُهُ أشياء كثيرة، وأما القول فإنه يقين وواضح؛ لأنّه دخل في الإيمان بالقول -بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله-، فلا يخرُجُ منه إلا بجحودِ ما أدخله فيه، وما أدخله فيه كان قولاً أعلنه، وجَحْدُ ما أدخله فيه هو رَدُّهُ وتكذيبه أو إنكاره لما دخل فيه. وهذه الكلمة كلمة الجحد من الكلمات التي يَحصُلُ فيها خلط وخَلَلْ، والواجب الرُّجوع في فهمها إلى دلالة الكتاب والسنة وإلى ما أجمع عليه سلف الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 [المسألة الرابعة] : أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في تأصيل قولهم في الإيمان -الذي سيأتي في المسألة التي بعدها- خالفوا الخوارج والمرجئة. وكذلك أيضاً في إخراجهم الواحد من أهل القبلة من الإيمان خالفوا الخوارج والمرجئة. لهذا ثَمَّ ارتباط ما بين الدخول والخروج من جهة اليقين. ولهذا المؤلف الطحاوي ذكَرَ لك تنبيه على هذا بقوله (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.) ، ولم يقل إلا بالجحد أو إلا بالجحود فيكون مُطْلَقَاً؛ بل قال (إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) ، وذلك لأنَّهُ إذا ثبت الأمر بيقين لم يَزُلْ بالشك؛ بل لابد في زواله من يقين يماثل الأول، والمكفِّرات وما يُحْكَمُ على الواحد من أهل القبلة فيه بالردّة اختلف فيه الفقهاء والعلماء؛ لكن يجمع ذلك أنه لا يُخَصُّ عند أهل السنة بالجحد. ولهذا نقول: الذين قيَّدُوا التكفير وإخراج العبد من الإيمان بالجحد فقط-يعني دون الاستحلال ودون الشّك ودون الإعراض إلى آخره- هؤلاء ذهبوا إلى أنَّهُ لا يَكْفُرُ إلا المعاند المكذّب ظاهراً كحال الكفّار والمشركين، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الله - عز وجل - بيّن أنَّ كُفْرَ من كَفَرَ من العرب: - بعضهم من جهة الإعراض. - وبعضهم من جهة الشك. - وبعضهم من جهة الجحد ظاهراً والاستيقان باطناً وهو العناد. ولهذا نقول: إنَّ المرجئة هم الذين قالوا: لا يخرج المرء من الدين إلا بالتكذيب فقط، فلابد من التكذيب، والتكذيب قد يكون مع الجحد، وقد يكون الجحد بلا تكذيب كما نصت عليه الآية {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] . إذا تبين هذا: فأصلُ قول المرجئة في الإيمان -كما سيأتي- أنَّ الإيمان أصله الاعتقاد، فلذلك جعلوا المُخْرِجَ منه التكذيب. ومَنْ أضاف الاعتقاد والقول جعل المُخْرِجْ التكذيب والجحد، مثل كلام الطحاوي هنا؛ لأنَّهُ يأتي أنَّ الإيمان عنده هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، فيجعل التكذيب مُخْرِجَاً ويجعل الجحد مُخْرِجَاً لعلاقة التكذيب بالاعتقاد وعلاقة الجحد بالإقرار باللسان. وأما أهل السنة الذين خالفوا المرجئة في هذه المسألة العظيمة؛ فقالوا إنَّ الركن الثالث من أركان مسمى الإيمان وهو العمل أيضا يدخل في هذا، وهو أنَّهُ يَخْرُجُ من الإيمان بِعَمَلٍ يعمله يكون من جهة اليقين مُخْرِجَاً للمرء مما أدخله فيه من الإيمان، وهذا سيأتي مزيد تفصيل له. فإذاً أهل السنة عندهم المُخْرِجَات من الإيمان: - منها التكذيب وهو أعظمها. - ثم الجحد. - ثم الإعراض وهو الذي جاء في قوله - عز وجل - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة:22] ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف:3] ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24] . - ومنه الشّك، الريب، يرتاب ما عنده يقين، المؤمن هو من لا يرتاب، أما إذا ارتاب لا يدري أمحمدٌ صلى الله عليه وسلم رسول أم لا؟ فإنَّ هذا صفة المنافق وهو المُعَذَّبْ في قبره بقوله حيث يقول: ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذه جُمَلْ يأتي لها مزيد بيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.   يريد بالإيمان: الإيمان الذي أمَرَ الله - عز وجل - به الناس والذي يصير به المرء معصوم الدم والمال. فَعَرَّفَ الإيمان بأنه (الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، وهذا التعريف من جهة مورد الإيمان وهو اللسان والجنان، فيتعلق باللسان عبادة الإقرار في الإيمان ويتعلق بالجنان عبادة التصديق في الإيمان. وهذا التعريف من جهة المورِدْ هو المشهور عن الطائفة التي يسميها العلماء مرجئة الفقهاء، وهم الإمام أبو حنيفة ومن تبعه من أصحابه، ومنهم أبو جعفر الطحاوي صاحب هذه العقيدة. وهذه الجملة مما وافَقَ فيه المؤلف الطّحاوي المرجئة وقَرَّرَ فيها عقيدتهم. وطريقة أهل السنة ومذهب أهل الحق خلاف هذا لأدلةٍ كثيرة في هذا الموطن. إذا تبين ذلك من جهة أنَّ الطحاوي في هذا الموطن لم يُقَرِّرْ عقيدة أهل السنة والجماعة وإنما ذَكَرَ مُعْتَقَدْ طائفته وهم الحنفية في هذه المسألة، وهو قول المرجئة -مرجئة الفقهاء- فإننا نقول: لابد من بيان لهذا الأصل العظيم وذلك يُرَتَّبُ على مطالب أو مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 [المسألة الأولى] : أنَّ الإيمان لفظٌ مُسْتَعْمَلٌ في اللغة قبل ورود الشرع. والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع حالان: - الأول: الحال العُرْفِي. - والثاني: الحال الأصلي. والحال العرفي جعلناه الأول لِقُرْبِهِ. والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني لأنه بعيد؛ يعني من جهة العموم. وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونه الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية، فإنَّ الألفاظ المُستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجاز، ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها. مثال ذلك لفظ الدّابَّةْ، فإنه في اللغة الأصلية- في لغة العرب في الاستعمال العام- الدابة كل ما يَدُبُّ على الأرض سواءٌ أكان يَدُبُّ على بطنه أم يَدُبُّ على رجلين أم يَدُبُّ على أربع، ودلّ على هذا قول الله - عز وجل - {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يعني من الدواب {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45] . ثم خُصَّتْ في الاستعمال العُرْفي بأنَّ الدابة هي ذات الأربع التي تُرْكَبُ في الاستعمال، يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو إلى آخره، فهذه تسمى حقيقة عرفية، والمعنى الأول يسمى حقيقة لغوية. فإذاً صارت الحقيقة العرفية أخص من الحقيقة اللغوية. اللغة دائماً تكون عامة، ثُمَّ الناس يُقَيِّدُونَ المعنى اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه في الاستعمال، فتكون الحقيقة العرفية دائماً أضيق من الحقيقة اللغوية. ثُمَّ لمَّا أَتَى الشرع ظهرت ما سَمَّاهُ العلماء الحقيقة الشرعية، أو ما سَمَّاهُ طائفة ممن ألَّفَ في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية. الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جُعِلَ لها معانٍ لأجل سبب مجيء الإسلام. (1) من الأمثلة على ذلك لفظ السجود: ففي اللغة لفظ السجود للخضوع والذل بحركة البدن. وفي العُرْفْ أنَّ السجود يكون بالانحناء إمَّا بركوعٍ أو بما نسميه السجود؛ يعني وضع الجبهة على الأرض. وفي الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض. قال - عز وجل - لبني إسرائيل {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة:58] يعني راكعين؛ لأنَّ السجود العرفي يدخل فيه الركوع. أمَّا في شريعة الإسلام صارت الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض. هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان. اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي حروفه واحدة: فالإيمان والأَمْنْ والأَمان هذه كلماتها واحدة، (أَمْنٌ وأمان وإيمان) فاشتقاقها من حيث الأصل واحد، ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمْنْ في اللغة، والأمان يرجع إلى الأمْنْ وإلى الإيمان. فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد وذلك من الأمن الذي هو المصدر. ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن يعني في دلالة اللغة؟ لأنه من آمَنَ فقد أمِنَ، آمَنَ بالشيء أمِنَ على نفسه، آمَنْ يعني صدَّقْ استسلم أطاع إلى آخره فإنه يعتبر مُسْتسلما؛ يعني يُعْتَبَرْ أَمِنَ عدوه، لو آمَنَ بما قال عدوه صَدَّقَهُ فإنه يكون أَمِنَ غائلته. إذا تبين هذا فهذا الأصل اللغوي الذي هو مجيء الاشتقاق من كلمة واحدة يدلُّكَ على أنَّ أصْلْ كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق من الأمن، ثُمَّ في الاستعمال العرفي -عُرْف العرب- (2) خَصَّتْ ذلك المعنى إلى أنَّ الإيمان هو التصديق، التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يَأْمَنُ معه. وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع: كقوله - عز وجل - في قصة يوسف مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] لاحظ الأَمْنْ يعني بِمُصَدِّقٍ لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل أنَّكَ لا تؤاخنا بما فعلنا، قال {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18] ، فما أعطاهم الأمْنْ. كذلك قال - عز وجل - في قصة إبراهيم عليه السلام {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] {آمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَهُ تصديقاً جازماً تبعه عملٌ له بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومَه. كذلك في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في سورة براءة قال {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] {وَيُؤْمِنُ} أي يُصَدِّقُهُمْ فيما يقولون فيَأْمنون معه عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً فالإيمان في اللغة اُستُعْمِلَ ويُرادُ به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائماً بين المعنى العرفي، الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية.   (1) لأجل مزيد من التفصيل في هذه المسألة استمع لشريط بعنوان: المصطلحات وأثرها في العلن والثقافة والرأي العام للشيخ صالح، وهو مفرّغ أيضا. (2) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والعشرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 جاء الشرع فَأَمَرَ الناس بالإيمان، فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أنَّ الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية أسباب زائدة، فيها زيادة عن الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها وقد تكون رجوع إلى أصل المعنى اللغوي وتكون أوسع منها. فالإيمان في الشرع جاء بأنه مُتَّجِهْ إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخر أركان الإيمان الستة، وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عَرَفْنَا منه أنَّهُ لا يكون إلا بِعَمَلْ ولا يكون إلا بإقرار ولا يكون إلا بتصديق، قال - عز وجل - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} [البقرة:177] الآية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] . فإذاً وَصَفَ الله - عز وجل - المطلوب من المؤمن بأنَّ المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأيضاً أنه يعمل، وأيضاً أنه يقول بلسانه. ولهذا جعل الله - عز وجل - الصلاة للدلالة على هذا الأصل، جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، -نحن الآن نبحث هذا من جهة لغوية، من الجهة التأصيلية للكلمة لا من جهة التعريف- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هذا استعمال لكلمة الإيمان ويراد بها الصلاة. الصلاة هي الإيمان معنى هذا أنَّ هذا تخصيص لكونه تصديق، فهو ليس تصديقاً فقط، بل الإيمان صار صلاةً. إذاً هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العُرْفْ ورَجَعَ إلى سَعَةِ اللغة، وهو تخصيص في الواقع للتصديق ببعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل. إذا تبين هذا فيظهر لك أنَّ الإيمان في الشرع نُقِلَ عن الإيمان في العُرف، كما أنَّ الإيمان في العرف نُقِلَ عن الإيمان في اللغة. فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرارٌ وتصديقْ ليس صحيحاً؛ لأنَّ الإيمان في اللغة أعم من ذلك، مثل ما ذكرنا لك، الإيمان ما يَجْلُبُ الأمن من عمل، من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة، كل ما يجلب الأمن فهو إيمان. - في اللغة قُيِّد ذلك على نحو ما ذكرت لك من الآيات. - في الشرع جاء تسمية الإقرار إيماناً، وجاء تسمية الاعتقاد إيماناً، وجاء تسمية العمل إيماناً. فإذاً من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبيَّنَ لك أنَّ هناك اختلاف في معنى الإيمان. المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا، وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم؛ لكنهم اتفقوا من حيث الأصول -أصول الفقه- على أنَّ الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة: الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية اتفق الجميع -الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم- اتفقوا على أن تُقَدَّمَ الشرعية، لماذا؟ لأنَّ الألفاظ الشرعية تخصيص، فلا يقول الحنفية -الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف- لا يقولون إنَّ السجود إذا أُمِرَ به فإنه يصلح بالركوع. يعني مثلا لو قرأ القارئ القرآن وهو يمشي، ثم مَرَّتْ آية سجدة، فهل يركع ويُكْتَفَى بها؟ أم أنه يصير إلى السجود؟ السنة في السجود الشرعي، ولماذا؟ لأنَّ السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبَيَّنَتْهُ السنة فإذاً يكون هو المراد لا السجود العرفي. المسألة لها نظائر في الفقه في العقيدة في اللغة بعامة. فإذاً نقول: اجتمعوا على أنَّ الحقيقة الشرعية مُقَدَّمَة، ثم هل تقدم اللغوية أو العُرْفِيَة؟ خلاف بينهم. لهذا نقول: ما دام أنَّ الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية، فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها، ونرجئها مع تفصيلها في الكلام والمذاهب للدرس القادم، لكن نكمل المُقَدِّمَات. أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان لأنها مسألة مُشْكِلَة، وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة وقول المرجئة في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 [المسألة الثانية] : الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم -كما ذكرنا لك- الذي يتبعه عمل يأمن معه المُؤْمِنْ الغائلة أو العقوبة إلى آخره. وقولنا التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنَّهُ إذا كان الشيء يلزَمُ منه العمل فإنه لا يُطْلَقُ لفظ مُصَدِّقَاً في اللغة على من صَدَّقَ حتى يعمل. مثاله: أتى شخص وقال لآخر سيارتك الآن تُسْرَقْ. فقال له الآخر: جزاك الله خيراً. قال: لك فيها أموال ولك فيها أشياء وهي الآن تُسْرَقْ. قال الآخر: جزاك الله خيرا وجَلَسَ ولم يتحرك. فهل يُعْتَبَرُ في اللغة مُصَدِّقَاً؟ إذا كان قد صَدَّقَ الخبر فإنه لابد أن يتبعه بعمل يدلُّ على صدقه؛ لأنَّ الناس لا يُفَرِّطُونْ بأموالهم ولا يفرِّطُون بما فيه قوام حياتهم. فإذا مَكَثَ وقال أنا مُصَدِّقْ، وهو ما ذَهَبَ، ما أتْبَعَهُ عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً في اللغة، ليس في الشرع، لا يسمى مُصَدِّقَاً في اللغة. ودلَّ على هذا الأصل قول الله - عز وجل - في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، لاحظ العمل {فَلَمَّا} و {لَمَّا} انتبه لكلمة {لَمَّا} ، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] ، رؤيا الأنبياء حق، إذا رآها النبي صدَّقَ بأنها وحي من الله - عز وجل -. لكن متى صار مُصَدِّقَاً بالرؤيا؟ لمَّا امتثل دلالتها {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وهذا تصديق لغوي وهو أيضاً تصديق شرعي. إذاً فالإيمان في العُرْفْ - الحقيقة العرفية- ولو أرجعناه إلى التصديق فإنَّ حقيقة التصديق أن يكون معه عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً من ليس يعمل أصلاً فيما صدّق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 [المسألة الثالثة] : يمكن أن يُضْبَطَ ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية بضابط وهو أنه: - إذا اقْتُرِنَ بالإيمان الأمَنْ ْأو كانت الدِّلَالَةُ عليه فإنَّ المراد به سعة المعنى اللغوي. - وإذا عُدِّيَ الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإنَّ المراد به الإيمان العرفي؛ يعني اللُّغَوِي العرفي. - وإذا عدي الإيمان بالباء، فإنه يراد به الإيمان الشرعي. وهذه كل واحدة لها طائفة من الأدلة تَدُلُّ عليها. 1- المعنى اللغوي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ، {آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ} هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي. 2- المعنى العرفي: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، لاحظ التعدية باللام {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] يعني النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا المعنى العرفي. 3- الإيمان الشرعي: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة:285] ، لاحظ الباء، عُدِّيَ الباء للدلالة الشرعية. لماذا اختلفت التعدية؟ لأنَّ المطلوب اختلف. كيف؟ @ الإيمان اللغوي ما دام أنَّهُ تصديق فتقول: العرب صَدَّقَ لفلان، تعديه باللام، صَدَّقَ لفلان، وتقول صَدَّقَ بكذا أيضا فتعديه بالباء @ لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا -لاحظ التعدية مُضَمَّنٌ أَقَرَّ بكذا -أَقَرَّ تتعدى بالباء في اللغة أليس كذلك؟ - أَقَرَّ بكذا، فتكون صحيحة، عمل بكذا صحيحة، صَدَّقَ بكذا صحيحة. ولهذا لمَّا عُدِّيَ الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّنَ المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء. فالمعنى اللغوي يتعدى باللام، فلماذا عُدِّيَ بالباء تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي؟ هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العُرفي. هذا كثير: في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى، ثم تختلف التعدية بالحرف فيُضَمَّنْ الفعل معنى فعل آخر. سنضرب له مثالاً حاضر عندكم جميعاً وإن كان الأمثلة كثيرة لكن لقربه منكم. مثلا تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، قالوا هنا ما معنى الإرادة؟ الهم، يعني الهم الجازم. لماذا؟ قالوا لأنَّ الإرادة بنفسها تَتَعَدَّى، الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها، تقول أردت الذهاب، أردت المجيء، أردت القراءة، ما تقول أردت بالقراءة، فلما قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} ، ما قال (ومن يرد فيه إلحاداً) ، بل قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} علمنا أنَّ كلمة {يُرِدْ} هذه فيها فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ. هَمَّ بكذا هَمَّ فلان بكذا هذا الذي يناسب. ولذلك فسره الأئمة بأنَّ المراد بالإرادة هنا الهم الجازم فيُؤَاخَذْ عليه ولو لم يحقق الإرادة من كل وجه وإنما يَصْدُقُ عليه الهَمْ؛ إذا هَمَّ بالفعل، هَمَّ به صار داخلاً في الفعل. نرجع هنا في اللغة {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ لَهُ، تقول أنا أقررت لك، إيش أقول أقررت إياك؟ لا، أقررت بكذا؛ لكن لفلان، أقررت بفلان ولا أقررت لفلان ما قال؟ أقررت لفلان ما قال، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ له، إلى آخره. لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي؛ لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء قال - عز وجل - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] . ما قال آمنوا لله ولرسوله مع أنه قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] ، وقال في لوط {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} إلى آخره {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:136] . فإذاً دَلَّنَا على أَنَّ هذا المعنى هو المعنى اللغوي، وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل. تقول عملت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به، آمنت بأنَّ الأمر واقع فعملت به؛ يعني عَمِلْتَ بما آمنت، فلذلك دخلت زيادة تعدية بالباء لتدلنا على أنَّ العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً، وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 إذا تبين هذا فمن المهم في تأصيل هذه المسألة التي غَلِطَ فيها الكثيرون منذ نَشَأَتْ المرجئة، أن يُعرَفَ أنَّ الإيمان في اللغة في حقيقته تصديق وإقرار؛ لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازماً في حقيقته؛ لكن لا يُسَمَّى تصديقاً حتى يكون معه عمل يأمن به، لصلته بالمعنى اللغوي العام. أما في الشرع فهو إقرارٌ وتصديقٌ وعمل؛ لأنَّ الشرع جاء بزيادة على المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 [المسألة الرابعة] : تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، هذا فيه إخراج العمل أن يكون مورِدَاً للإيمان وقَصْرْ الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق، وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء. والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة أشهرها قولان: 1- قول جمهور المرجئة وهو أنَّ الإيمان هو التصديق، ولا يلزم معه إقرار. 2- ثُمَّ مرجئة الفقهاء -وذهب إليه الماتريدية والأشاعرة وجماعة- أنَّ الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان. وسُمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمّى الإيمان؛ يعني أخَّرُوهُ عن مسمى الإيمان، فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل. واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله - عز وجل - في آيات كثيرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة، فعَطَفَ العمل على الإيمان، قالوا فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلمَّا عَطَفَ العمل على الإيمان قالوا دلَّنَا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان. والجواب عن ذلك؛ يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر ونرجئ الجواب المطول، الجواب عن ذلك أنَّ اللغة فيها: & العطف بالواو ويُرَادُ بالعطف بالواو التَّغايُرْ: والتغاير: - تارةً يكون تغاير ذوات: ومعناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمد وخالد، فمحمد ذاته غير ذات خالد، هذا له حقيقة ذات وهذا له حقيقة، هذا يسمى تغاير ذوات. - وتارةً يكون تغاير صفات. تغاير الصفات تقول عندي مُهَنَّدٌ وصارمٌ وحسام، والذي عندك سيفٌ واحد يعني الذي عند العربي سيفٌ واحدٌ، لكن يقول: مُهَنَّدٌ من جهة وصفه أنه صُنِعَ في الهند. وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يَصْرِمْ. وحسام من جهة أنه من وَقَعَ عليه حَسَمَهُ وقتله. منه في القرآن قال - عز وجل - في تغاير الصفات {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، الكتاب هو القرآن، والقرآن هو الكتاب، عَطَفَ بالواو هل لتغاير الذوات، الكتاب شيء والقرآن شيء؟ لا أحد يقول بهذا من المتقدمين لا أحد يقول بهذا، فصار التعاطف هنا لتغاير الصفات {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} نُظِرَ فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} يعني أنه يُقْرَأُ ويُنْظَرُ فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات. @ وتارةً يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير ولكن تَغَايُرٌ ما بين الجزء والكل، وما بين العام والخاص: فيُعْطَفْ الخاص على العام ويعطف العام على الخاص، ومثاله قول الله - عز وجل - في سورة البقرة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} لاشك الملائكة غير الله - عز وجل -، الملائكة مخلوقة والرب - عز وجل - هو مالك الملك وخالق الخلق. {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} الرسل منهم رسل من الملائكة، ومنهم رسل من {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فالرسل هنا أعم من الملائكة لأنَّ منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر. فإذاً هنا صار عطفاً: عَطْفْ الكلي على الجزئي. ثم قال {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} جبريل وميكال من الرسل أو لا؟ من الرسل. من الملائكة؟ نعم. فعطفهم، هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟ لا، هذا تغاير صحيح؛ ولكن تغايرٌ بين حقيقة الجزء والكل والكل والجزء، وليس تغاير ذوات ولا تغاير صفات ولا تغاير حقيقة. ومن هذا عَطْفُ الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} [الكهف:107] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا} [مريم:96] ، الآيات كثيرة آمنوا وعملوا الصالحات، عَطَفَ العمل على الإيمان لأجل هذا وإلا فهو داخل في حقيقته. هنا لماذا تُخَصُّ الخاص بالذكر بعد العام؟ لأجل التنبيه على شرفه. فالعرب تَعْطِفُ الخاص على العام وتغاير في هذا لأجل التنبيه على شرف ما ذُكِرْ. لأنك تقول مثلا جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبد العزيز، هل هو ليس من المشايخ؟ لكن هنا للتنبيه على شرفه أنه هو المقصود، جاءني المشايخ جميعاً وجاء المقصود أو المقدم فيهم إلى آخره تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلى آخره. فإذاً الاستدلال بهذا، هذا جواب مختصر ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 * أنا أردت بهذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأنَّ مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر، كتبوا فيها كتابات سواء في الإيمان أو في التكفير، وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. فمنهم من أدخل مذاهب المرجئة في مذهب أهل السنة وقَصَرْ الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق وإما قولاً أو باللازم. ومنهم من ذهب إلى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وأنَّ العمل ليس من الإيمان أصلاً كما هو قول المرجئة، والأقوال في هذا متعددة. نسأل الله - عز وجل - أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا، وأن يَكُفَّ عنا الشر وأن لا يخذلنا وأن ينور بصائرنا وبسائر أحبابنا إنه جواد كريم. نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.   قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشّرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله. والذي دَلَّتْ عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة -أئمة أهل الحديث والسنة- أنَّ الإيمان قول وعمل. وبعض أهل العلم يُعَبِّرْ بقوله (الإيمان قول وعمل ونية) كما قالها الإمام أحمد في موضع؛ ويعني بالنية الإخلاص يعني الإخلاص في القول والعمل. وهذا الأصل وهو أنَّ الإيمان قول وعمل وُضِّحَ بقول أهل العلم: الإيمان اعتقادٌ بالقلب يعني بالجنان، وقولٌ باللسان وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان. فشمل الإيمان إذاً فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة، وهي: أنه اعتقاد، وأنه قول، وأنه عمل، وأنه يزيد، وأنه ينقص. وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله (هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذا تعريفٌ بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور، وهو موافقٌ لما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابُه، فإنهم لم يجعلوا العمل من مُسَمَّى الإيمان، وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مُسَمَّى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان. فقول الطحاوي هذا ليس مستقيماً مع معتقد أهل السنة والجماعة وأتباع أهل الحديث والأثر، وفيه قصور لأنه أخرَجَ العمل عن تعريف الإيمان. وكون العمل من الإيمان له أدلةٌ كثيرة من الكتاب والسنة أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان: ومنها في هذا المقام قول الله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيماناً والصلاة عمل. وقال أيضا - عز وجل - {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . وقال {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] . دَلَّتْ الآية على أنّ الإيمان له حقيقةٌ هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإذا كان العمل ناشئاً عن هذه، فإنه لا يُتَصَوَّرْ الانفكاك ما بين العمل والإيمان، ولهذا في آية البقرة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} جَعَلَ العمل هو الإيمان لأنّه منه ولأنه ينشأ عنه. فنفهم إذاً أنَّ قوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ونحو ذلك، بما فيه عَطْفْ العمل على الإيمان -كما قدّمنا آنفاً- أنَّ هذا عَطْفُ الخاص بعد العام وعَطْفُ الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال لوفد عبد القيس لما أتوه في المدينة قال «آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده» ثم فَسَّرَهٌ بأركان الإيمان ثم قال «وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (2) وهذا -أداء الخمس- عمل فجعله تفسيراً للإيمان. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (3) فجعل الإيمان: - له قولْ مرتبط بالنطق. - وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق-يعني الذي هو نوع العمل-. - وجَعَلَ له عمل القلب وهو الحياء. ففي هذا الحديث مَثَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم شُعَبْ الإيمان بثلاثة أشياء منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب ومنها عمل الجوارح. ويأتي مزيدُ بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى. ثُمَّ زيادة الإيمان ونقصانه دلَّ على الزيادة قول الله - عز وجل - {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] ، وكذلك قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وكذلك قوله {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، ونحو ذلك مما فيه زيادة، وإذا كان فيه الزيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما تُرِكَ مما يسبب الزيادة في الإيمان.   (1) الشعراء:227، ص:24، الإنشقاق:25، التين:6، العصر:3. (2) البخاري (87) / أبو داود (4677) (3) البخاري (9) / مسلم (162) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ولهذا بعض الصحابة لما ذَكَرَ زيادة الإيمان وذَكَرَ نقصانه قال (إذا سَبَّحْنَا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا فذلك نقصانه) (1) . فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله - عز وجل - والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم. فمن هذا يتقرر أنَّ قول الطحاوي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف، وأصحابه ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءا من الماهيَّةْ؛ عن كونه ركناً في الإيمان. إذا تقرّر هذا فإنَّ في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جداً، وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة؛ لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:   (1) عن عمير بن حبيب بن خماشة أنه قال ((الإيمان يزيد وينقص قيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرناه وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه)) مصنف ابن أبي شيبة (30327) / شعب الإيمان (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 [المسألة الخامسة] : الإيمان يجمع: - أولاً: الاعتقاد بالقلب، وهو الذي يسميه المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو يسميه العامة التصديق. - ثانياً: قول اللسان. - ثالثاً: عمل الجوارح والأركان. - رابعاً: الزيادة. - خامساً: النقصان. هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال: 1- القول الأول: هو أنَّ الإيمان تصديقٌ فقط، وهذا هو قول جمهور الأشاعرة، وهو أيضاً قول أبي منصور الماتريدي والماتريدية بعامة. وهذا مبنيٌ منهم على أنَّ القول ينشأ عن التصديق، وعلى أنَّ العمل ينشأ عن التصديق، فَنَظَرُوا إلى أصله في اللغة بحَسَبِ ظنهم، وإلى ما يترتّب عليه فجعلوه التصديق فقط. واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أنّ الإيمان تصديق كقوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وهذه أمور غيبية والإيمان بها يعني التصديق بها، وغير ذلك من الأدلة التي فيها حَصْرْ الإيمان بالغيبيات، والإيمان بالغيبيات يُفْهَمْ على أنه التصديق. وهؤلاء يُسَمَّونَ المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم. ومن المرجئة طائفة غالية جداً وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب، وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوِهِ ممن صَنَّفُوا في إيمان فرعون. 2- القول الثاني: من قال إنَّ الإيمان قول باللسان فقط، وهؤلاء يُسَمَّونَ الكَرَّامِيَّة -بالتشديد-. الكَرَّامِيَّة يُنْسَبونَ إلى محمد بن كرّام، وهذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان. لم؟ قال لأنَّ الله - عز وجل - جَعَلَ المنافقين مخاطَبِينَ باسم الإيمان في آيات القرآن، فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخُلُ في الخطاب أهل النّفاق، والمنافقون إنما أقرُّوا بلسانهم ولم يصدِّقُوا بقلوبهم فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر. 3- القول الثالث: هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إنَّ الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلونَ أنَّ الناس في التصديق -كما سيأتي- وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيءٌ واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان وإن كان لا بد منه في تحقيق الإيمان، بخلاف أهل القولين السابقين يعني الماتريدية (1) . : [[الشريط الثلاثون]] : والأشاعرة والكرامية فإنهم يقولون أنَّهُ لو وَافَى بلا عمل فإنه ناجٍ، لو لم يعمل قط فإنه ينجو. وأما مرجئة الفقهاء فيقولون لابُدَّ لَهُ مِنَ العمل فإذا ترك العمل فهو فاسقٌ، لكن [لا] (2) يُدْخِلُونَهُ في مُسَمَّى الإيمان. وأظن شبهتهم نَصْ أبي حنيفة في هذه المسألة وهو بَنَاهُ على أنَّ الذين خُوطِبُوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون، والمنافقون ليس لهم عمل، عَمَلُهُم باطل، وإنما أَقَرُّوا باللسان فقط، والمؤمنون مُصَدِّقُونَ مُقِرُّونْ، فَجَمَعَ لهم ما بين -يعني بين الطائفتين- ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان؛ يعني في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر. ومن أدلّتهم الأصل اللغوي الذي هو حَسَبْ ما قالوا أنَّ الإيمان هو التصديق، والإقرار أُخِذَ من زيادة في الشريعة لأنه لابد من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. 4- القول الرابع: هو قول الخوارج والمعتزلة وهو أنَّ الإيمان: اعتقادْ بالجنان أو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح. وهذا العمل عندهم بِكُلِّ مأمورٍ به، والانتهاء عن كلِّ منهيٍّ عنه. فما أُمرِ َبه وُجُوبًا فيدخل في مسمى الإيمان بِمُفْرَدِهِ، وما نُهِيَ عنه تحريماً فيدخل في مسمَّى الإيمان بمفرده. يعني أنَّ كلَّ واجبٍ يدخل في مسمى الإيمان على حِدَهْ، فيكون جزءاً وركناً في الإيمان، وكُلُّ محرمٍ في الانتهاء عنه يدخل في مسمى الإيمان بمفرده. وبناءً على ذلك قالوا: فإذا تَرَكَ واجباً فإنه يكفر، وإذا فعل محرماً من الكبائر فإنه يكفر؛ لأنَّ جزء الإيمان وركن الإيمان ذَهَبْ. فعندهم أنَّ هذا العمل جزء واحد، إذا فُقِدَ بعضه فُقِدَ جميعه. وبين الخوارج والمعتزلة خلاف فيمن استحق النار بالآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟ على القول المعروف عندهم: - وهو عند الخوارج في الدنيا عند يُسَمَّى كافر. - وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا يقال كافر. مع اتفاقهم على أنه في النار مخلدْ فيها لانتفاء الإيمان في حقه. 5- القول الخامس: هو قول أهل الحديث والأثر وقول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الإيمان: اعتقاد -ومن الاعتقاد التصديق-، وقول باللسان وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركانـ وأنه يزيد وينقص. ويعنون بالعمل جنس العمل؛ يعني أنْ يكون عنده جنس طاعة وعمل لله - عز وجل -. فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئاً واحداً إذا ذَهَبَ بعضه ذهَبَ جميعه أو إذا وُجِدَ بعضه وُجد جميعه؛ بل هذا العمل مُرَكَّبٌ من أشياء كثيرة، لابد من وجود جنس العمل. وهل هذا العمل الصلاة؟ أو هو أيُّ عملٍ من الأعمال الصالحة بامتثال الواجب طاعةً وترك المحرم طاعةً؟ هذا ثَمَّ خلافٌ بين علماء الملة في المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا أو كسلاً. * الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة: - أنَّ أولئك جعلوا تَرْكَ أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرّم فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان. - وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزءٌ من الماهية؛ لكن هذا العمل أبعاض ويتفاوت وأجزاء، إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه فإنه لا يذهب كله. فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل؛ يعني أن يُوجَدَ منه عملٌ صالح ظاهراً بأركانه وجوارحه، يدلُّ على أنَّ تصديقه الباطن وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهراً. وهذا مُتَّصِلٌ بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله - عز وجل - بالانقياد له بنوع طاعةٍ ظاهراً.   (1) انتهى الشريط التاسع والعشرون. (2) لعل الشيخ لم يقصد هذا الحرف وإنما أراد أنهم يُدْخِلُونَهُ في مسمى الإيمان إذ قال عن مرجئة الفقهاء في شرح العقيدة الواسطية/ الشريط (23) ما نصه ((فقالوا الايمان قول واعتقاد وأما العمل فليس من مُسَمَّى الايمان وإنما هو لازم له - يعني لابد أنه يعمل لكن لو لم يعمل ما خرج عن اسم الايمان) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 [المسألة السادسة] : الطحاوي هنا تَرَكَ العمل؛ يعني ما ذَكَرَ العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرتُ لك أنَّ العمل عند أهل السنة والجماعة داخِلٌ في مسمى الإيمان وفي ماهيته وهو ركن من أركانه. والفرق بينهما يعني بين قول مرجئة الفقهاء -وهو الذي قرَّرَهُ الطحاوي- وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر، الفرق بينهما: - من العلماء من قال: إنه صُورِي لا حقيقة له؛ يعني لا يترتب عليه خلافٌ في الاعتقاد. - ومنهم من قال: لا، هو معنوي وحقيقي. ولبيان ذلك؛ لأنَّ الشارح ابن أبي العز رحمه الله على جلالة قدره وعُلُوِّ كعبه ومتابعته للسنة ولأهل السنة والحديث فإنه قَرَّرَ أنَّ الخلاف لفظي وصوري، وسبب ذلك أنَّ جهة النظر إلى الخلاف منفكَّة: - فمنهم من ينظر إلى الخلاف بأثَرِهِ في التكفير. - ومنهم من ينظر إلى الخلاف بأثرِهِ في الاعتقاد. @ فمن نظر إلى الخلاف بأثرِهِ في التكفير قال الخلاف صوري، الخلاف لفظي. لأنَّ الحنفية الذين يقولون هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان هم متّفقون مع أهل الحديث والسنة مع أحمد والشافعي على أنَّ الكفر والرِدَّةْ عن الإيمان تكون بالقول وبالاعتقاد وبالعمل وبالشك. فهم متفقون معهم على أنَّ: - من قال قولاً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر. - ومن اعتقد اعتقاداً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر. - وإذا عمل عملاً ينافي ما دخل به في الإيمان فإنه يكفر. - وإذا شَكَّ أو ارتاب فإنه يكفر. بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة مثل الحنابلة والشافعية ونحوهم. فهم أشد منهم، حتى إنهم كَفَّرُوا بمسائل لا يُكَفِّرُ بها بقية الأئمة كقول القائل مثلا سورةٌ صغيرة فإنهم يُكفِّرون بها، أو مسيجد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات فإنهم يُكَفِّرون إلى آخر ذلك. فمن نَظَرَ -مثل ما نَظَرْ الشارح، ونَظَرْ جماعة من العلماء- من نَظَرَ في المسألة إلى جهة الأحكام وهو حكم الخارج من الإيمان قال: الجميع متّفقون، سواءٌ كان العمل داخلاً في المسمى أو خارجاً من المسمى فإنه يكفُرُ بأعمال ويكفُرُ بترك أعمال. فإذاً لا يترتّب عليه على هذا النحو: 1 - دُخُولٌ في قول المرجئة الذين يقولون: بلا عَمَلٍ ينفع، ولا يَخْرُجُ من الإيمان بأي عَمَلٍ يعمله. 2 - ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم: يُكَفِّرونَ بأي عمل أو يترك أي واجب أو فعل أي محرم. فمِنْ هذه الجهة إذا نُظِرَ إليها تُصُوِّرْ أنَّ الخلاف ليس بحقيقي؛ بل هو لفظي وصوري. @ الجهة الثانية التي يُنْظَرُ إليها وهي أنَّ العمل -عمل الجوارح والأركان- هو مما أمَرَ الله - عز وجل - به في أن يُعْتَقَدَ وجوبُهُ أو يُعْتَقَدَ تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل. يعني أنَّ الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان: 1- جهة الإقرار بها. 2- وجهة الامتثال لها. وإذا كان كذلك فإنَّ العمل بالجوارح والأركان، فإنه إذا عَمِلَ: - فإما أن نقول: إنَّ العمل داخِلٌ في التصديق الأول؛ التصديق بالجنان. - وإما أن نقول: إنه خارجٌ عن التصديق بالجنان. & فإذا قلنا إنَّهُ داخلٌ في التصديق بالجنان -يعني العمل بالجوارح باعتبار أنَّهُ إذا أقَرَّ به امتثل- فإنه يكون التصديق إذاً ليس تصديقاً، وإنما يكون اعتقاداً شاملاً للتّصديق وللعزم على الامتثال، وهذا ما خَرَجَ عن قول وتعريف الحنفية. & والجهة الثانية أنَّ العمل يُمتَثَلُ فعلاً فإذا كان كذلك كان التنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات وبالأحاديث، لأنَّ حقيقة الإيمان فيما تُؤْمِنُ به من القرآن في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل أنَّكَ تؤمن بأنّ تَعْمَلْ، وتؤمن بأن تنتهي، وإلا فلو لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان لم يحصل فرقٌ ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين والذي دخل في الإيمان بنفاق. يُبَيِّنُ لك ذلك أنَّ الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق هذه حقيقةً داخلةٌ فيما فَرَّقَ الله - عز وجل - به فيما بين الإسلام والإيمان. ومعلومٌ أنَّ الإيمان إذا قلنا إنَّهُ إقرارٌ وتصديق فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعات. لهذا نقول إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي راجعة إلى النظر في العمل. هل العمل داخلٌ امتثالاً فيما أمر الله - عز وجل - به أم لم يدخل امتثالاً فيما أمر الله - عز وجل - به؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنه يأمُرُ بالإيمان «آمركم بالإيمان بالله وحده» (1) ، والله - عز وجل - أمر بالإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] . فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء يَدْخُلُ شُعَبْ الإيمان، يَدْخُلُ فيها الأعمال الصالحة؛ لكنها تَدْخُلُ في المُسَمَّى من جهة كونها مأموراً بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حَقَّقَ الإيمان، وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان. وهذه يكون فيها النظر مُشْكِلَاً من جهة: هل يُتصوَّرْ أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان، يؤمن بما أنزل الله - عز وجل - ولا يفعل خيراً البتة، لا يفعل خيراً قط، لا يمتثل واجباً ولا ينتهي عن محرم مع اتساع الزمن وإمكانه؟؟ في الحقيقة هذا لا يُتَصَوَّرْ أن يكون أحد يقول أنا مؤمن ويكون إيمانه صحيحاً ولا يعمل صالحاً مع إمكانه، لا يعمل أي جنس من الطاعات خوفا من الله - عز وجل -، ولا ينتهي عن أي معصية خوفا من الله - عز وجل -، هذا لا يُتصَوَّرْ. ولهذا حقيقةً المسألَةُ تَرْجِعُ إلى الإيمان بالأمر، الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به؟ كيف يحققه؟ يحقق الإيمان بعمَلٍ، بِجِنْسِ العمل الذي يمتثل به، فَرَجَعَ إذاً أن يكون الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره، وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقاً بين من يعمل ومن لا يعمل. لهذا نقول إن الإيمان الحق بالنص، بالدليل يعني بالكتاب والسنة بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكتابه لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يُتَصَوَّرُ أن يكون غير موجودٍ للمؤمن، أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة. وإذا كان كذلك، كان إذاً جزءاً من الإيمان لـ: - أولا لدخوله في تركيبه. - والثاني أنه لا يُتَصَوَّرْ في الامتثال للإيمان والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة. إذاً فتحَصَّلْ من هذه الجهة أنّ الخلاف ليس صورياً من كل جهة؛ بل ثَمَّ جهة فيه تكون لفظية، وثَمَّ جهة فيه تكون معنوية. والجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوّعة، لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول أنَّ الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة صوري؛ لأنهم يقولون العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى، وأهل السنة يقولون لا هو داخل في المسمى فيكون إذاً الخلاف صوري. من قال الخلاف صوري فلا يُظَنْ أنَّهُ يقول به في كل صُوَرِ الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل. أما من جهة الأمر، من جهة الآيات والأحاديث والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقياً.   (1) سبق ذكره (402) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 [المسألة السابعة] : زيادَةُ الإيمان ونقصانُهُ اختلف فيها العلماء على أقوال: 1- القول الأول: وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم، قول الجمهور من جميع الطوائف أنَّ الإيمان يزيد وينقُصْ. 2- القول الثاني: أنَّ الإيمان يزيد ولا ينقُصْ، وهذا منسوبٌ إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على زيادته وهذا أمْرٌ لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك. 3- القول الثالث: من قال إنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم. * ولا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاثة أركان الأولى وما بين القول بزيادة الإيمان وبنقصانه. تارَةً تجد من ذهب إلى أحد الأقوال يقول بزيادته ونقصانه ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه. يعني مثلاً الأشاعرة الذي هم مرجئة والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه ومنهم من لا يقول بذلك لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان، هذا أمر زائد أَدْخَلُوهُ في البحث. فإذاً لا أثر في الخلاف في مسألة زيادته أو نقصانه على كونه مرجئاً. فإذا قال أحد (الإيمان ما يزيد ولا ينقص) فإن هذا لا يدل على كونه مثلاً مرجئاً؛ لكنَّهُ يدل على أنه ليس من أهل السنة. إذا قال (الإيمان نقول بزيادته ونقصانه) فهذا لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، بل قد يكون مرجئاً. فلا ارتباط بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 [المسألة الثامنة] : عرَّف الإيمان بقوله إقْرارٌ باللِّسانِ، وتصديقٌ بالجَنَانِ، وقلنا في التعريف اعتقاد بالجنان. والفرق ما بين التصديق والاعتقاد: أنَّ التصديق شيء واحد؛ بمعنى أنَّهُ أمْرٌ واحد، عِبَادَةٌ واحدة. وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب. لهذا قالت طائفة من السّلف في تعريف الإيمان (الإيمان قول وعمل) وهذا دقيق لأنه يشمل قول القلب وقول اللّسان. (قول القلب) هو تصديقه وإخلاصه في الله - عز وجل -. (وقول اللّسان) هو إعلانه الشّهادة. وعَمَلْ: يشمل عمل القلب وعمل الجوارح. (وعَمَلُ القلب) من محبة الله - عز وجل - والتوكل عليه والخوف منه - جل جلاله - ورجاؤه والإنابة إليه وخشية الرّب - جل جلاله - ونحو ذلك من أعمال القلوب. فإذاً ما يتّصِلُ بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئاً واحداً، ليس هو التصديق فقط، بل ثَمَّ أشياء كثيرة في القلب، والتصديق هو أحدها. ولهذا فإنَّ التفاضل -الزيادة والنقصان- زيادةٌ ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادةٌ ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن. فالناس يتفاوتون في الإيمان من جهة: 1 - زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة وهي أمور الإسلام: من الصلاة والزكاة والصيام والحج والاستسلام لله - عز وجل - في الأوامر والانقياد ونحو ذلك والانتهاء من المحرمات. 2 - وكذلك أعمال القلوب. وأعمال القلوب نوعان: - أعمالٌ واجِبَةُ الفعل. - وأعمالٌ مُحَرَّمَةُ العمل أو واجبة الترك. @ أما واجبة الفعل مثل: محبة الله - عز وجل -، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخشيته، والخوف منه، والطمأنينة له، ونحو ذلك من أعمال القلوب. @ وما يجب تركه من أعمال القلوب المحرمات، محرمات أعمال القلوب التي هي الكِبْرْ والبَطَر وتزكية النفس وسوء الظن بالله - عز وجل - ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها. فإذاً أعمال القلوب مشتملة على: 1 - تصديق. 2 - ومشتملة على أمور واجبٌ أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب. * وهذه كلها في الحقيقة متصلة؛ فالتصديق مُتَأَثِرٌ زيادَةً ونُقْصَانَاً بأعمال القلوب. فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه، فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله - عز وجل - زاد تصديقه، إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله وزاد توكله على الله سبحانه وتعالى زاد تصديقه وزاد يقينه. وكذلك إذا انتهى عن المحرمات، خضع لله - عز وجل -، لم يكن مُتَكبرا، ذليلاً لله - عز وجل -، غير مترفع على الخلق، مُحِبَاً لسلامته -سلامة قلبه-، مُبْتَعِداً عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه. فإذاً رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة. فإذاً زيادة الإيمان (يزيد بطاعة الرحمن) يعني: - يزيد التصديق أو الاعتقاد بطاعة الرحمن. - يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن. - يزيد العمل بالأركان أيضا بطاعة الرحمن. فزيادة الإيمان راجِعَةٌ للثلاثة جميعاً. لأنَّ الزيادة: تارةً تكون بالعمل الظاهرمثل زيادة صلاة، زيادة صدقة، زيادة بر، زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيَرْجِعُ هذا إلى التصدِيقِ وإلى الإقرار بزيادة. فيكون تصديقه واعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت وكذلك إقراره. وهذا يُحِسُّهُ الإنسان من نفسه فإنه إذا زاد إيمانه زاد لَهَجُهُ بذكر به - عز وجل - تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وتمجيداً. المسائل كثيرة نرجئ البقية إلى موضعٍ آتٍ إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قال بعدها (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.)   يعني به أنَّ المؤمن لا يُفَرِّقُ بين كلام الله - عز وجل - ولا بين السُّنَنِ، فكل ما جاء في الكتاب أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور العقيدة والشريعة هذا يجب التسليم له، وكله حق يجب الإيمان به، وذلك كما قال - عز وجل - في وصف اليهود {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ} [البقرة:85] الآية، وكذلك قوله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وكذلك قوله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] . فالواجب هو الإيمان بجميع ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله في القرآن، وما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، فالكل حق صَدَرَ عن مشكاة واحدة، عن الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 (وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى)   هذه العبارة منه تقريرٌ لكلام أبي حنيفة وأصحابه الذين يُسَمَّونَ مرجئة الفقهاء في أنَّ الإيمان واحد؛ يعني أنَّهُ في أصل وجوده شيءٌ واحد، إذا دَخَلَ في الإيمان دَخَلَ بشيءٍ واحد، إذا وُجِدَ سُمِّيَ مؤمناً وإذا لم يوجد لم يُسَمَّ مؤمنا. وهذا القدر القليل الذي هو الأصل نظروا إليه بأنه شيء واحد وأنَّ أهله في أصله سواء. يعني أنَّ أصل الإيمان يتساوى فيه المؤمنون، فجعلوا إيمان الناس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، كإيمان أبي بكر، كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كإيمان الرسل جميعاً بل جعلوه كإيمان الملائكة جميعاً. لمَّا كان أصل الإيمان واحداً -يعني ما يحصل به الإيمان أول الأمر- جَعَلُوا أهله في أصله سواء. وهذا كما ذكرتُ لك راجع إلى أنَّ التصديق عندهم، وما يتصل به من أعمال القلب أنه شيءٌ واحد، وقد نَصَّ على ذلك أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر في أنَّ: التصديق واحد وأنَّ التوكل واحد والمحبة واحدة وأنَّ الخشية خشية القلب واحدة ونحو ذلك. فجعلوا ما في القلب مما يَحصُلُ به الإيمان جعلوه شيئاً واحداً. والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة أنَّ أهل الإيمان متفاضلون فيما بينهم، فالله - عز وجل - فَضَّلَ بعض الرسل على بعض فقال سبحانه {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] . وتفضيل بعضهم على بعض نتيجة وسبب ونتيجة لسبب وهو تفاضلهم في الإيمان. فالرسل منهم أولوا العزم وهم أعظم الرسل مقاماً وأرفع الرسل مكانَةً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فالرسل ليسوا في منزلةٍ واحدة عند الله - عز وجل -. والتفاضل هنا يكون بالإيمان -بإيمان القلب- ويكون بإيمان الجوارح بفعلها. وهنا جَعَلْ الطحاوي التفاضل بالأمور الظاهرة قال (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ولكن هذا التفاضل هو بعض التفاضل؛ لكن القلب يكون بين هذا وهذا من التفاضل في أعمال القلوب وفي تصديق القلب ما ليس بمحدود. ولهذا خصّ الله - عز وجل - أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأنه صَدَّقَ من بين سائر الصحابة، فقال - عز وجل - {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] ، فخَصَّهُ بالتصديق لأنَّ عنده تصديقاً زائداً عن غيره، وكذلك قوله - عز وجل - في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:17-20] فهذا الابتغاء الذي هو أصل الدخول في الدين الذي هو ابتغاء ما عند الله - عز وجل - خُصَّ به أبو بكر لأنَّ له في ذلك مزيداً ليس لغيره. لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرَجَح إيمان أبي بكر» (1) وقال أيضاً التابعي الجليل أبو بكر شعبة القارئ المعروف (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه) (2) . هذا الشَّيء الذي وَقَرَ في القلب الذي هو التصديق، الناس يعرفون أنَّ فلاناً وفلاناً من جهة تصديقهم للخبر يختلفون -أي خبر-. فيأتي ثقة إلى أناس فيقول هذا حاصل، فهذا مُصَدِّقٌ وهذا مُصَدِّقٌ؛ لكن تصديق الأول يختلف عن تصديق الثاني من حيث قوته، من حيث الجزم به بقوة وثبات ويقين. ولهذا أبو بكر رضي الله عنه حصل له من المقامات كما هو معروف في السيرة ما ليس لغيره. هذا التصديق أيضاً فيه أشياء تؤثر فيه من جهة التفاضل كما سيأتي بيانه. إذاً كلام الطحاوي فيما سمعت جعل التفاضُلَ بأمورٍ خارجة عن تصديق القلب، عن اعتقاد القلب، جعلها، الخشية الظاهرة والتقوى الظاهرة ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. إذا تبين هذا فنذكر على هذا عدة مسائل:   (1) فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل (653) / شعب الايمان للبيهقي (36) / كشف الخفاء للعجلوني (2130) / إتحاف السادة المتقين للزبيدي (1/323) / مسند اسحاق بن راهويه (1266) (2) منهاج السنة (6/223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 [المسألة الأولى] : أنَّ قوله (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) يُرَدُّ عليه بأنَّ أصل الإيمان: - إما أن يكون لُغَوياً. - وإما أن يكون شرعياً. فإذا كان المراد الشرعي -يعني الإيمان الشرعي-، فإنّ الإيمان يَصْدُقُ على: - ما به يدخل المرء فيه. - وأيضاً يكون أصله فيما بعد ذلك من الزيادات. بمعنى أنَّهُ يدخل في الإيمان بتصديقٍ وبكلمة، ثم بعد ذلك يكون تصديقه غَيْرَ تصديقه الأول، وتكون كلمته غيرَ كلمته الأولى. فلهذا كلمة (أَصْله) فيها إجمال وعدم وضوح. هل المقصود بالأصل أنه الأصل الشرعي حين دخل في الإسلام؟ أو المقصود الأصل الشرعي الذي يتابعه ويمشي معه، يعني يلازم الإنسان دائماً وأنه أصل واحد لا يزيد دائما؟. هذا فيه إجمال، وأيضاً لا يتفق هذا وذاك، فلا يَتَّفِقُ أَصْلُ إيمانِهِ أَوَّلَ ما دَخَلَ مع أَصْلِ إيمانه الذي يصاحبه، وكُلُّ أحد يعرف من نفسه الفرق ما بين أصل الإيمان حين أسلم وأصل إيمانه حين رسخت قدمه وحَسُنَ إسلامه. فإذاً كلمة (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ) ، أصل الإيمان ما هو؟ هذه كلمة مجملة غير واضحة مرجعها غير واضح ولا دليل من الكتاب أو السنة على هذه الكلمة؛ يعني التعبير بأصل الإيمان وعدم التفريق فيما بين الإيمان اللغوي والشرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 [المسألة الثانية] : أنَّ أصل الإيمان إذا قلنا هو التصديق، فإنَّ التصديق يتفاوت. التّصديق نفسه الذي هو حد الإيمان -لأنهم عَرَّفُوا الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان- هذا التصديق الذي هو في تعريف الإيمان يتفاوت الناس فيه، وأيضاً يزيد في المعين وينقص. وأسباب زيادة التصديق ونقصان التصديق أمور: 1 - الأول: أنَّ مسائل الشّرع، مسائل الكتاب والسنة كثيرة، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العملية، وهذه كلها يجب الإيمان بها على الإجمال والتفصيل. فإيمانُ وتَصْدِيْقُ مَنْ كَانَ مُقْتَصِرَاً على الإجماليات من جُهَّال المسلمين ليس كإيمان وتصديق من صَدَّقَ بكل ما عَلِمَهُ. فالعَالِمُ تصديقُه مُجْمَلْ وتَصْدِيقُهُ مُفَصَّلْ بكل ما عَلِمَهْ، وأمّا الجاهل فتصْدِيقُهُ مُجْمل وما عَلِمَهُ من الشريعة قليلٌ صَدَّقَ به لكنه تصديقٌ ببعض الأمور. فمن صَدَّقَ بكل الفروع -سواءٌ فروع العقيدة أو فروع الشريعة- من صَدَّقَ بها جميعاً فتصديقه أعلى ممن صَدَّقَ تصديقاً إجمالياً لا تفصيل فيه. فإذاً نفس التصديق من جهة أوامر الشريعة والإيمان بالنصوص يختلف من جهة الإجمال والتفصيل. 2- الثاني: الأعمال الظاهرة أيضاً امتثالاً للأوامر واجتناباً للنواهي تُؤَثِّرْ في التصديق ويؤثر فيها التصديق. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (1) كما في الصحيح، وفي مسند الإمام أحمد قال «إذا زنى العبد ارتفع الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا ترك عاود» (2) ، فإذاً هو حينما يفعل هذه الكبيرة، كبيرة الزنا أو كبيرة شرب الخمر أو كبيرة السرقة أو ما شابهها، حين يفعل، قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ؛ لكن هنا هل زال تصديقه بالكلية؟ لا، لكن التصديق القوي المُسْتَحْضَرْ بالله - عز وجل - وبالدّار الآخرة وبعقابه والحساب والعذاب وما يكون بعد ذلك ومن العقوبات في الدنيا، هذا التصديق المتجزِّئ الكثير، هذا التصديق غاب عنه حين واقع المحظور، فلذلك قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» . فإذاً الأعمال الظاهرة امتثالاً للواجب وانتهاءً عن المحرم هذه تزيد في التصديق، قال - عز وجل - {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] ، وزيادة الإيمان ترجع إلى أركان الإيمان، إذْ تخصيص بعض الأركان دون بعض ليس عليه دليل، زيادة التصديق وزيادة العمل وزيادة الإقرار، وكذلك قوله - عز وجل - {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، {إِيمَانًا} هنا نكرة فتفيد الإطلاق في هذا المقام يعني إيماناً من جهة العمل وإيمان من جهة الإقرار وإيمان من جهة التصديق والاعتقاد. 3- الثالث: أعمال القلوب مختلفة، الإنابة إلى الله - عز وجل -، ومحبة الرب سبحانه والخضوع له والتلذذ بمناجاته والأُنْسْ بتلاوة كتابه والتعرض لنفحاته في الأوقات الفاضلة، هذه أمور تزيد من اعتقاد القلب، وكل أحد يعلم من نفسه أنَّ حاله مع وجود هذه الأمور ومجاهدة النفس فيها ليس كحاله بدونها، وإيقانه بالجنة والنار وبالنعيم وبالعذاب وتوكُلُهُ على الله - عز وجل - ويقينه وقوّته في الإيمان تختلف فيما إذا تعاطى هذه العبادات وفيما إذا تهاون بها. فإذاً إيقانه وتصديقه متصل بعبادات القلوب، وعبادات القلوب تزيد في التصديق والتصديق زيادته يؤثر فيها، فعمل القلب واحد، وإذا قلنا عمل القلب نسميه كذا ونسميه كذا فباعتبار التَّجْزِيء باعتبار الإيضاح؛ لكن في الحقيقة القلب شيء واحد، إذا جاءه التوكل قَوِيَ التصديق، إذا قَوِيَ التصديق قويت محبة الله - عز وجل -، إذا قويت محبة الله سبحانه وتعالى قويت الإنابة إليه وامتثال أوامره والرغبة فيما عنده. فالقلب -إذاً- تفريقُ أعماله إنما هو للإيضاح والبيان، وإلا فكل عملٍ قلبيٍ مؤثر على العمل الآخر صِدْقَاً في الاعتقاد وإنابة وخضوع وامتثال ظاهر وامتثال باطن وإقرار وإيقان. ولهذا تجد أنّ أعظم المؤمنين إيمانا أكثرهم خضوعاً وذلاً لله - عز وجل - وعدم ترفع على الخلق؛ لأنَّ هذا الذي في القلب بعضه يؤثر على بعض. الصلاة يؤثر على الثواب فيها وعلى حُسنها تصديق القلب وخشية القلب وإنابته وحضوره إلى آخره، وكذلك هي تؤثر في هذه الأعمال.   (1) البخاري (2475) / مسلم (211) (2) الترمذي (2625) / المستدرك (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 إذاً في التفريق ما بين أعمال القلوب هذا تصديق وهذا توكل وهذه خشية وهذه إنابة بأنه تفريق منطقي صحيح يعني بمعنى يمكن أن ترى هذه بلا هذه ولا صلة بينهما هذا بحثٌ نظري لا حقيقة له، فالإيمان -إيمان القلب- وأعمال القلوب مترابطة بعضها آخذٌ ببعض فإذا زاد التوكل زاد التصديق، وإذا قوي التصديق واليقين بأسباب الأعمال الظاهرة قوي التوكل قويت الخشية قويت المحبة قوي الرجاء ونحو ذلك. فإذاً من أوجُهِ زيادة التصديق وزيادة أصل الإيمان -إذا صح التعبير موافقةً لأولئك- فإنه يُنْظَرُ فيه إلى تفاوت الأعمال؛ أعمال القلوب. هذه بعض أسباب تفاوت الناس في تصديق القلب، وهناك أوجُهْ أخرى ذَكَرَهَا أهل العلم في مواطنها وخاصَّةً ابن تيمية في كتاب الإيمان؛ فإنه ذكر سبعة أوجه أو أكثر في تفاوت الناس في أصل الإيمان أو في التصديق أو في الاعتقاد، وأسباب الزيادة والنقصان بما يتعلق باعتقاد الناس. (1)   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 [المسألة الثالثة] : قوله (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذا صحيح؛ لكنَّهُ وجه تفاضل وليس كل أوجُهْ التفاضل. (فالتفاضل قد يكون مِنَّةً مِنَ الله - عز وجل - وتَكَرُّمَاً أن يَمُنَّ على أحد بأن يكون أفضل من أحد، والله - عز وجل - يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. (ويكون التفاضل أيضاً بأمورٍ زمانية مثل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه زائدة عن الأمور التي ذكرها وهي (الْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ، وقد جاء في الحديث لمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة أو كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم (1) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي -لما نِيلَ من عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين- فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (2) يعني ولا نصف المد، وذلك فضل خاص زماني لأنهم اتّصلوا وصبحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الوجه الثالث: التفاضل يكون بأعمال القلوب دون الأعمال الظاهرة، فقد تكون الأعمال الظاهرة قليلة؛ لكن أعمال القلوب عظيمة. وأعمال القلوب يُؤْجَرْ عليها العبد في الواجبات، ويُؤْجَرْ على الانتهاء عن المنهيات -منهيات أعمال القلوب من الكِبْرْ والبَطَرْ ورؤية النفس ونحو ذلك وسوء الظن بالله أو سوء الظن بالخلق يعني بالمسلمين-، ومنها أعمال يؤجر على فعلها ويأثَمْ على فعلها؛ يعني يؤجر على فعل بعض الأعمال ويأثم على فعل بعض الأعمال. فإذا كان كذلك كان فعل القلب ميداناً للتفاضل، عمل القلب ميداناً للتفاضل. لهذا يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله أنه سئل: لماذا سَبَقَ الصحابة وفُضِّلوا مع أنّ عبادة من بعدهم يعني التابعين أكثر من عبادتهم؟ فقال الحسن (كانوا يتعبدون -يعني الصحابة- والآخرة في قلوبهم، وهؤلاء يتعبدون والدنيا في قلوبهم) . العمل الظاهر واحد؛ بل ربما يكون أكثر، ولهذا صار الابتلاء بحسن العمل، وحُسْنُ العمل فيه الإخلاص وفيه المتابعة، وإذا اتّفق هذا وهذا في المتابعة، فهل يتّفقان في عمل القلب؟ وهل يتّفقان في الإخلاص؟ وهل يتّفقان في حسن العمل الباطن وفي الخشية والإنابة؟ لا يتفقون، هذا وهذا يصلون جنب بعضٍ وهذا وهذا يختلفون تماما. هذه بعض المسائل المتعلقة بذلك، فتحصَّلَ من هذا أنَّ قوله (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس صواباً بل هو غلط، وليس إيمان الرسل كإيمان عامة أتباعهم، وليس إيمان الناس كإيمان الصحابة، وليس إيمان الصالحين كإيمان الفاسقين، وليس إيمان المُقَرَّبين كإيمان سائر خلق الله من المكلَّفين. هذا فيه اختلاف فهم يختلفون أعظم الاختلاف في إيمانهم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما في قلوبهم من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي وما في قلوبهم من الأعمال الصّالحة وكذلك ما عملوه ظاهراً من الأعمال الصّالحة وانتهوا عما نهاهم الله - عز وجل - عنه، فهم يختلفون في ذلك أعظم الاختلاف. أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من أهل المقامات العالية في الإيمان، وأن يغفر لنا ذنوبنا الكثيرة وزللنا وتقصيرنا، وأن يبارك لنا في قليل أعمالنا، وأن يُصلح لنا نياتنا وذريّاتنا وأهلينا، إنه سبحانه جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.   (1) ابن ماجه (162) (2) البخاري (3673) / مسلم (6651) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.   قال الطحاوي رحمه الله (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.) يقرّر الطحاوي مُعْتَقَدْ أهل السنة في أنّ وَلَايَةْ الرحمن متعلقة بكل مؤمن. فأولياء الرحمن هم المؤمنون، وكلُّ مؤمن له نصيبٌ من وَلَايَةِ الله - عز وجل - التي وَعَدَ بها عباده المؤمنين المتقين. وكذلك يُقَرِّرْ أنَّ التفاضل فيما بينهم يعني فيما بين المؤمنين إنما هو باتِّبَاعِهِم للقرآن وتقواهم وكثرة طاعتهم لله - عز وجل -، فمن كان أكْثَرَ طاعةً لله - عز وجل - وأحسَنَ طاعة وأتْبَعَ للقرآن فإنه أحقُّ بتفضيلٍ في ولاية الرحمن - عز وجل - له. وهذا الأصل الذي قَرَّرَهُ الأئمة في عقائدهم في أنّ كل مؤمن وليٌ للرحمن - عز وجل -، ويتفاضلون في الوَلاية بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى هذا الأصل مُقَرَّرٌ في القرآن وفي السنة: ففي كتاب الله - عز وجل - قال ربنا سبحانه وتعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-64] ، قال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، قوله {الَّذِينَ آمَنُوا} الأظهر فيها أنها نعت للأولياء؛ يعني منصوبة على أنها نعت للأولياء، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} .... المؤمنين المتقين، أو أنها بدل منه والأمر قريب. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون. وكذلك قال الله - عز وجل - {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] ، فبيَّنَ الله - عز وجل - في الآية هذه أنَّ الله سبحانه هو ولي المؤمنين. وكذلك قوله - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] . وكذلك قوله - عز وجل - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55-56] . ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وهي أنَّ وَلَايَةَ الله - عز وجل - للعبد إنما هي بسبب إيمانه، وكل مؤمن له نصيبٌ من التقوى بحسب إيمانه، فإنه ما آمَنَ إلا طلباً للأمن، والأمن تقوى وخوف وخشية، يعني طلب الأمن تقوى وخوف وخشية. إذا تَبَيَّنَ هذا الأصل وهو واضح في معتقدهم -يعني في مُعْتَقَدْ أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم- فهذه المسألة وهي: مسألة أولياء الرّحمن، ومسألة الكرامة، ومن هو الأكرم عند الله - عز وجل -، يمكن أن نُبَيِّنَها في مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 [المسألة الأولى] : الولي في اللغة: هو الناصر والمعين {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] ، يعني إنَّ ناصري ومُعِيني الله - عز وجل -. والوَلَايَةَ في اللغة -بالفتح- المحبة والنُّصْرَةْ. والوِلَايَة -بالكسر- الإمارة أو السُّلْطَة. يعني في غالب استعمال العرب، ومنه قول الله - عز وجل - {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44] ، يعني المحبة والنُّصْرَة يستحقها الرب - جل جلاله -. وفي تعريف أهل العلم بما فهموا من الأدلة قالوا: الولي هو كلُّ مؤمِنٍ تقي ليس بنبي. ويمكن أن تقولَ: كل مؤمن ليس بنبي؛ لأنَّ كل مؤمن له نصيب من التقوى. لكن في الاصطلاح الخاص لابد من تكميل الإيمان والتقوى بحسب الاستطاعة، كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 [المسألة الثانية] : في دليل هذا الأصل وهو قول الله - عز وجل - {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فجَعَلَ الرب - عز وجل - لمن أوْحَى إليه اسماً -وهو اسم النبي أو الرّسول- ولمن أطاع وآمن واتقى اسماً وهو أنَّهُ ولي، فصار اسم الولي غير اسم النبي، فهذا شيء وهذا شيء، وكل نبي له وَلَايَة بِحَسَبِه. فإذاً الوَلَايَةُ داخلةٌ في النبوة لأنَّ النبوة أعظم وأرفع، والإيمان والتقوى هما سببا الوَلاية. وإذا كان كذلك، فإنَّ المُتَقَرِرْ عند أهل السنة والجماعة: أنَّ الإيمان يتفاضل أهله فيه والتقوى يتفاضل أهلها فيها. وإذا كان الإيمان مُتَفَاضِلاً والتقوى متفاضلةً فينتج من ذلك أنَّ وَلاية الله لعبده متفاضلة. فيجتمع -إذاً- في حق المؤمن المُعَيَّنْ ما يُوجِبُ الولاية من الله - عز وجل - بإيجابه على نفسه ووعده الحق، وما يُسَبِّبُ العداوة. فمادة الإيمان والتقوى أثرُهَا وَلَاية الله - عز وجل - لعبده وهي محبته له ونُصْرَتُهُ له. ومادة الظلم والطغيان والذنب عليها وعيد من الله - عز وجل - بسلب الوَلَايَة الكاملة، فهذه تجتمع في حق المؤمن، من جهة يكون ولياً ومن جهةٍ يكون ظالماً لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 [المسألة الثالثة] : الله - عز وجل - وليٌّ للعبد، والعبد أيضاً وليٌّ لله - عز وجل -، وهذا عند أهل السنة والجماعة له جهتان: - جهة الوَلاية من الله. - وجهة الوَلاية مِنَ العبد. فالله - عز وجل - يَنْصُرُ عبده، والعبْدُ ينصُرُ ربه - جل جلاله -. والله - عز وجل - يُحِبُّ عبده المؤمن التَّقي، والمؤمن التقي يُحِبُّ ربه - جل جلاله -. فهاتان جهتان تجمع الوَلَاية من جهة المحبة والنُّصْرَةْ من العبد لربه -يعني محبته لله ولرسوله ولكتابه ولدينه-، وكذلك نُصْرَتُهُ لله - عز وجل - ولكتابه ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم. فمن العبد فِعْلُ وَلَايَةْ، ومن الرب - عز وجل - وَلَايَةْ للعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 [المسألة الرابعة] : الأولياء قسمان فيما دَلَّتْ عليه الأدلة: - مقتصدون. - وسابقون مُقَرَّبون. وذلك أنَّ الله - عز وجل - جَمَعَ في آية سورة فاطر أنواعَ الذين أُورِثُوا القرآن فجعلهم ثلاثة أصناف في قوله {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فجعلهم ثلاثة أصناف: - الظالم لنفسه. - والمقتصد. - والسابق بالخيرات. والظالم لنفسه لا يستحق اسم الإيمان المطلق ولا التقوى المطلقة، فخَرَجَ من قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فبقي أنَّ الأولياء المؤمنين المتقين صنفان: - المقتصد. - والسابق بالخيرات. والسابق بالخيرات أطوَعُ وأتبَعُ للقرآن مِنَ المقتصد، فنصيبه من الولاية وهي محبة الله - عز وجل - له ونُصْرَتُهُ له أعظم من نصيب المقتصد. وهؤلاء هم الذين جاء فيهم الحديث المشهور المسمى بحديث الولي وهو قوله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته -هذا سابق بالخيرات- كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له من ذلك» (1) . رواه البخاري وغيره، وهو حديث صحيح لا مَطْعَنَ فيه، فدَلَّ الحديث على أنَّ السابق بالخيرات أحَقْ وأعظم وَلاية لله - عز وجل - من الذي يتقرب إلى الله بالفرائض. قال «وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، وما افْتَرَضَهُ الله - عز وجل - على العباد أوامِرْ يمتثلها ونواهٍ يجتنبها، فيتقرب إلى الله بفعل المأمور، ويتقرب إلى الله - عز وجل - بترك المنهي المُحَرَّمْ، وهذا هو حال المقتصد، ثم ذَكَرَ الفئة الثانية وهم السابقون بالخيرات.   (1) البخاري (6502) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 [المسألة الخامسة] : ارتبطت مسألة الوَلَاية -ولاية الله - عز وجل - للمؤمن العبد- بمسألة الكرامة، ولهذا أكثر من يتكلم عن الأولياء في صفاتهم وتقرير المُعْتَقَدْ فيهم لابد أن يتكلم عن الكرامات. وهذه أشار إليها الطحاوي في قوله (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) . والكرامة هذه عُرِّفت بأنها: أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي. وهي متصلة بالآية والبرهان عند الأنبياء، وبالخوارق مُطلقاً عند الأنبياء والأولياء والكهنة والسحرة وأشباههم. ولهذا فتعريف الكرامة بأنها أمرٌ خارقٌ للعادة جَرَى على يدي ولي متصلٌ بذلك: أولا من كونها خارقة للعادة. وثانيا هذه العادة عادة من؟ والثالث أنه جرى على يدي ولي. فقولهم (أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي) أخْرَجَ الخوارق التي تجري على أيدي الكهنة والسحرة، وأخْرَجَ الخوارق التي هي الآيات والبراهين والمعجزات التي تجري على أيدي الأنبياء. لهذا يُقَرّرونَ في هذه المسألة أنواع الخوارق، وسيأتي في آخِرِ هذه العقيدة المباركة قول الطّحاوي (وَلاَ نُفَضِّلُ أَحَداً مِنَ الأوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمُ السَّلامُ، ونقولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأوْلِيَاءِ. وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِم، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِم) فنرجئ الكلام المُفَصَّلْ عن الكرامات وما يتعلق بها إلى موضعه. لكن الذي يتصل بهذا البحث وهو أنَّ المؤمن ولي الرحمن أنّ الكرامة هذه التي يُفردُونها بالبحث هي ما اشتهر عند الناس أنها أَثَرُ الوَلاية، والكرامة عندهم أمرٌ خارق للعادة -مثل ما عرفناه لكم-. وهذا ليس بدقيق؛ لأنَّ الكرامة بعضُ أنواع البشرى، والله - عز وجل - ذَكَرَ أنّه جعل لأوليائه البشرى فقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-63] . و {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} منها الإكرام بأمْرٍ خارقٍ للعادة يُجْريهُ الله لهذا الولي، قد يشعر به وقد لا يشعر، وقد يَتَفَطَّنْ لأثره وقد لا يَتَفَطَّنْ {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:100] ، لكن البشرى التي وعد الله - عز وجل - بها أولياءه إكراماً هذه كثيرة الأنواع وكثيرة الأسباب. فالسلف اختلفوا في تفسير البُشْرَى واختلافهم من باب اختلاف التنوع؛ لأنَّ كلاً ذَكَرَ بِشارة: 1 - فمن البشارة وعد الله - عز وجل - بنصرة المؤمن التقي {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] ، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] . 2- كذلك البشرى في الدنيا بأنَّ الله - عز وجل - يثبته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] (1) . : [[الشريط الواحد والثلاثون]] : - من البشرى وعد الله - عز وجل - بمعيته لعبده، معية التوفيق والتأييد في كل موطن -في الحِجَاجْ باللسان أو في المُجَاهَدَة بالبدن أو في ترك مُشْتَهَيَات النفس والرغبة فيما عند الله - عز وجل -.? - من البشرى التي ذُكِرَتْ في الآية الرؤية الصالحة كما ثَبَتَ في الصحيح «لم يبقَ من النبوة إلا المُبَشِّرَات الرؤية الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له» (2) وقد رَأَى عدد من أهل العلم لبعض العلماء والأئمة أنَّهَم في الجنة وأنهم مع الأئمة أو مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع الصحابة ونحو ذلك، وهذه من المُبَشِّرَات. - من البشرى في الحياة الدنيا أنَّ الله - عز وجل - يجعَلُ بعض الأعمال التي عَمِلُوها مُكَفِّرَةً لسيئاتهم -الكبائر والصغائر جميعاً-، كما تَفَضَّلَ الله - عز وجل - لأوليائه من الصحابة من أهل بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (3) قال يقتضي مغفرة الكبائر والصغائر وهي التي غفرت لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ما فعل من إسراره بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَسِيرِهِ إلى مكة إلى الكَفَرَةْ من قريش. فالبشرى إذاً أنواع عظيمة: 1 - وَعْدُ الله - عز وجل - بالجنة لعبده 2 - توفيقه لمِحَبَّتِهِ للإيمان 3 - محبته للعمل الصالح، محبته للقرآن 4- انشراح صدره بالصلاة وبتلاوة كتابه 5 - الأُنْسْ بالله جل جلاله والرغبة في ذلك والاشتياق إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى والإسراع في ذلك هذه كلها من أنواع البشرى التي يُبَشِّرُ الله - عز وجل - بها في ذلك. فإذاً كرامة الله - عز وجل - لعبده بأن جَعَلَ الله له البُشْرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن البشارة هذه {لَهُمْ الْبُشْرَى} منها أنواع الكرامات. لكن أنواع الكرامات قد تحصل وقد لا تحصل، قد تكون للولي وقد لا تكون. كما سيأتي بَحْثُهُ من أنَّ الكرامة بحسب حاجة العبد إليها لا بِحَسَبْ إيمانه وتقواه. يعني ليس بحسب رِفْعَةْ مقامه وأنَّهُ كلما ارتفع المقام أُعْطِيَ كرامة، لا، ولكن بحسب حاجته، وهذا له تفصيل إن شاء الله يُرْجَؤُ إلى موطنه، لكن هذ نوع من البشرى وأنواع البشرى التي للأولياء كثيرةٌ متنوعة. - ومنها التسديد في السمع والبصر وما يكتبه بيده وما يمشي برجله كما جاء في حديث الولي قال «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» يعني أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في سمعه، فلا يأنس لسماع إلا ما يحبه الله، أُسَدِّدُهُ في بصره وأُوَفِقُهُ، فلا يأنس لنظر ولا إبصار إلا ما يحبه الله - عز وجل -، أُسَدِّدُهُ في يده التي يبطش بها فلا يبطش ولا يعتدي إلا بما أذن الله - عز وجل - به، أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في رجله في ممشاه فلا يمشي إلا ممشىً يحبه الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال هنا «ورجله التي يمشي بها» يعني يكون فيما يُحِبُّ الله - عز وجل -. وهذا أمر عظيم أن يكون إِلْفْ العبد ما يُحِبُّ الله - عز وجل -، ولا تُنَازِعُهُ نفسه للشر، لا تُنَازِعُهُ نفسه للمعصية، لا تُنَازِعُهُ نفسه لمخالفة الأمر وارتكاب المنهي، يكون إلفُهُ الخير وإلفُهُ ما يحبه الله - عز وجل -، هذا من إعانة الله - عز وجل - العبد على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى قرينه الذي يأمره بالشر. فهذا إذاً نوع من الإكرام وهي بُشْرَى يَحُسُّهَا العبد ويحمد الله - عز وجل - عليها ويسأله سبحانه وتعالى الثبات على ذلك.   (1) انتهى الشريط الثلاثون. (2) البخاري (6990) (3) سبق ذكره (350) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 [المسألة السادسة] : [أولياء الله] هم المؤمنون المتقون، ومن أعظم مظاهر التقوى فيهم عدم تزكية النفس؛ لأنَّ الله - عز وجل - قال {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:32] ، فجَعَلَ العلم بالتقوى مَوكُولاً أو مِنْ خصائصه سبحانه، جعله مَوكُولاً إلى علمه سبحانه وتعالى. فإذاً صفة المؤمن التقي الذي هو وليٌ لله - عز وجل - أنَّهُ لا يُزَكِّيْ نفسه، فمن زَكَّى نفسه وقال: أنا تقي أو أنا من أولياء الله ونحو ذلك، فهو حقيقٌ بالبُعْدِ عن استحقاق هذا اللفظ، لأنَّ التواضع لله - عز وجل - والذُلَّ لَهْ والخضوع له سبحانه وتعالى والخوف منه والعلم بأنَّ العبد مهما عمل لن يَبْلُغَ التقوى هذا يوجِبْ أن لا يُثْنِي على نفسه بأنَّهُ وَلِي وأنه مُتَّقٍ ونحو ذلك. فإذاً ما شاع في العصور المتأخرة وهو موجود إلى الآن من أنَّ طائفة يذكرون لِمُرِيدِيهِمْ، يذكرون لأتباعهم أنهم أولياء ويُحَدِّثُونَ بكراماتهم، هذا من أسباب الجرح في حقيقة التقوى، ويعني ذلك أنَّ أولياء الرحمن ليسوا على هذا الوصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 [المسألة السابعة] : لشيخ الإسلام ابن تيمية مَصَنَّفْ مُهِمْ في الفرق ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان سماه (الفرقان ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) . يحسُنُ مطالعته (1) في معرفة صفات أولياء الرحمن، وصفات أولياء الشيطان لأنه بَسَطَ هذه الصفات بَسْطَاً شافيا كافيا كعادته رحمه الله وأجزل له المثوبة وجزاه عنا وعن أهل السنة خير الجزاء.   (1) وللشيخ صالح آل الشيخ شرحا لهذا المصنف في 9 أشرطة وهي مفرغة تحت اسم: التعليقات الحسان على الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 [المسألة الثامنة] : أولياءُ كُل أمَّةٍ شاهدون لأنبيائها ولِرُسُلِهَا، مُؤَيِّدُونَ لما اتَّصَفُوا به لكون ما جاء به الرسول الذي اتبعوه حقاً. فأولياء بني إسرائيل يشهدون بِفِعْلِهِمْ واتِّبَاعِهِمْ على أنَّ ما جاء به موسى حَقٌ من عند الله - عز وجل -، وكذلك حواريو عيسى وهم أولياء يشهدون بِفِعْلِهِمْ ونُصْرَتهم ووَلَايَتِهِم أنّ ما جاء به عيسى حق، وكذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل أَتْباع الرسل يشهدون بما اتصفوا به من الإيمان والتقوى والجهاد والعلم والبذل بأنَّ رسالة محمدصلى الله عليه وسلم حق. ولهذا تتصل مباحث الأولياء والكرامات بمعجزات الأنبياء، فالكرامة والوَلاية -يعني أنْ يكون ولياً وأن يكون له كرامة- لها اتصال بالمعجزات التي هي الآيات والبراهين. فكل اتِّبَاعْ شاهِدٌ لأصله، وكل كرامة دالَّةٌ على المعجزة التي أُعْطِيَها النبي عليه السلام أياً كان ذلك النبي. وهذا أَصْلٌ مهم يقضي بأنَّ الولي لا يخرج عن طاعة النبي الذي اتَّبَعَهُ، بخلاف ما زعمت طائفة من الغلاة المتصوفة والرافضة من أنَّ الولي قد يكون أفضل من النبي كما سيأتي بيانه في موضعه مُفَصَّلاً إن شاء الله، وصَنَّفَ فيه الحكيم الترمذي ختم الأولياء) كتاب معروف طُبِعَ، وصَنَّفَ فيه أيضاً ابن عربي الطائي وذَكَرَ فيه أنَّ الولي يكون أفضل من النبي، وأيضا هذا مُعْتَقَدْ الرافضة من أنَّ الأولياء أفضل. الأصل العام الذي ذكرنا لك في هذه المسألة تُخَالِفُ كل هذا من أنَّ الولي ناصِرٌ وتَبَعٌ؛ بل كونه ولياً يشهد لنبيه الذي اتّبعه، وبالتالي يكون تابعاً دائماً والتابع متأخر. نكتفي بهذا القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الأسئلة : س1/ ذَكَرَ أحد الباحثين أنَّ الإرجاء أثَّرَ على بعض العلماء فلم يُكَفِّرُوا تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، فهل هذا الكلام على إطلاقه؟ ج/ هذا الكلام غير صحيح، فليس لمسألة تكفير تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً صلة بالإرجاء. فالنزاع جارٍ ما بين أهل السنة في تكفير تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وليس في هذا فحسب؛ بل في تكفير من ترك رُكناً من أركان الإسلام، تكفير تارك الصلاة وغيره، ترى من ترك ركناً من أركان الإسلام الزكاة والصيام والحج، عن الإمام أحمد أيضاً وعن غيره، حتى الإمام أحمد ثَمَّ خلاف عنده -يعني في الروايات- في تكفير من ترك رُكْنَاً من أركان الإسلام. ومن العجائب أنَّ الإمام أحمد رحمه الله له في هذه المسألة خمس روايات في هل يكفر من ترك أركان الإسلام العملية -يعني غير الشهادتين-: الرواية الأولى: أنه يكفر بترك أي ركن من أركان الإسلام. الرواية الثانية: أنه يكفر بترك الصلاة والزكاة. والثالثة: يكفر يترك الصلاة والزكاة إذا قاتل عليها الإمام؛ يعني إذا قاتَلَ في الزكاة الإمام، ليس مطلق الترك. والرابعة: يكفر بترك الصلاة فقط. الخامسة: نسيت الخامسة. المقصود أنّ الخلاف في تكفير من ترك رُكْنَاً من الأركان تهاوناً وكسلاً ليس له صلة بالإرجاء، وما ذكره الباحث محل نظر. س2/ ما هو ضابط الإعراض الذي هو من نواقض الإسلام؟ ج/ الإعراض ذَكَرَهُ العلماء في باب حكم المرتد، وذَكَرَهُ إمام الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الناقض العاشر في رسالته النواقض، قال: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. والدليل على أنَّ الإعراض ناقِضْ من النواقض قول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف:3] ، في أول سورة الأحقاف {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] ، وكذلك قوله جل جلاله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24] ، ونحو ذلك {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] ، ونحو ذلك من الأدلة. والإعراض ضابطه أنه لا يتعلم الدين ولا يعمل به، ليس له هِمَّةْ في معرفَةِ توحيدٍ ولا عبادة لا من جِهَةِ العلم ولا من جهة العمل؛ يعني جميعاً، لا من جهة العلم ولا من جهة العمل جميعاً؛ بل لا يهمه الأمر وليس من شأنه هذا الأمر مع تمكنه من ذلك. مثاله شخص في بلدنا عنده الوسائل كافية، والكتب موجودة، والدراسة موجودة، وأهل العلم موجودين، والخُطَبْ والجُمَعْ، ولا يهتم بهذا أبدا، مُعْرِضْ تماماً؛ مادِّي لا يهتم لا بصلاةٍ ولا بسماع آية ولا بسماع خطبة ولا يتعلم. هذا هو الذي يكفر بالإعراض، لا يتعلم الدين ولا يعمل به، لا يرفع به رأساً ولا يهمه لا من قريب ولا من بعيد، ولو احتاج خبزاً لمعيشته لذهب وبحث حتى يأتي به، لو احتاج لأمر في بيته لذهب حتى يأتي به، وأما الدين فهو مُعْرِضٌ عنه لا يتعلم ولا يعمل، فهذا هو ضابط الإعراض. لا يبحث عن علم ولا يهتم به -يعني في توحيد الله - عز وجل - وفي بيان الواجب ومعرفة ما أنزل الله - عز وجل -- ولا يهتم بالعمل جميعا؛ يعني علم وعمل لا يهتم بهما. أما إذا كان عنده علم ولم يعمل أو كان عنده عمل ولا يعلم هذا لا يُسَمَّى مُعْرِضَاً. وتطبيقها على المُعَيَّنْ صعب جداً، فلان مُعْرِضْ تماماً. غالب أهل القبلة بل لا يوجد أحد من أهل القبلة يعني من يَصِحْ ممن شهد أن لا إله إلا الله أو عنده انتساب أنه لا يهتم أصلاً، مُعْرِضْ تماما. لكن قد يكون أحياناً تأتي دعوة للتوحيد مثل ما حصل في وقت إمام الدعوة، يعني أناس يرون جهاد قائم ودعوة ومُجَادَلَة ومجاهدة باللسان ومجاهدة بالسنان، وهو لا يهتم، لا يسأل، يقول أنا ما علي منهم ولا عَلي من هذا الدين، ولا يعني لنفسه؛ يعني مادي. يمكن أنك تُلَخِّصْهَا المُعْرِضْ هو المادي البحت، لا يتعلمه ولا يعمل به. س3/ قال بعضهم: إنَّ جُلْ السلف الصالح كانوا من الصوفية، فهل هذا صحيح؟ ج/ الصوفية ما نشأت إلا في القرن الثاني الهجري؛ يعني بعد سنة مائة وخمسين (150) كَنِحْلَةْ بَدَأَتْ تتأطر في عُزْلَةْ وأَوْرادْ وأشياء. والسلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة الصحابة والتابعون وتبع التابعين. فهذا الكلام الرد عليه من جهات كثيرة؛ لكن ليس كلاماً ذا بال. س4/ ذكرت في الدرس السابق الخلاف في تعريف الإيمان وأنَّ الخلاف صوري من وجه وحقيقي من وجه آخر، أرجو إعادة هذه النقطة وذلك لأهميتها؟ ج/ ذكرنا لكم أنَّ عدداً من أهل العلم قالوا: إنَّ الخلاف صوري أو لفظي يعني، غير معنوي وغير حقيقي. وذكرنا أنَّ هذه المسألة لها جهتان: الجهة الأولى: جهة الحكم. والجهة الثانية: جهة امتثال الأوامر العلمية والعملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 من جهة الحكم ومرتكب الكبيرة وخروجه من الإيمان و [ ..... ] ، المرجئة -مرجئة الفقهاء- كحماد بن أبي سليمان والإمام أبي حنيفة ومن تبِعَهُمْ ليس ثَمَّ خلاف مع بقية أهل السنة في الحكم، فهم لا يُكَفِّرُونَ مرتكب الكبيرة، وأيضاً لا يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب؛ بل الحنفية من أشد الناس في التكفير وفي الحكم بالردَّة كما هو معروف من كتبهم. ولهذا ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان لما ذَكَرَ الخلاف -وهذه احتج بها بعضهم وليست في محل الاحتجاج- قال: (وأغلبُ أو قال أكثر الخلاف الذي بين أهل السنة في مسألة الإيمان لفظي) . وهذا نستفيد منه فائدتين: الفائدة الأولى: أنَّ مرجئة الفقهاء لا يُخْرَجُونَ من أهل السنة في هذه المسألة إِخْرَاجَاً مُطلقاً؛ بل يُقَيَّدْ يُقال أنهم من أهل السنة إلا في مسألة الإيمان، فهم من جملة أهل السنة إلا في هذه المسألة. فشيخ الإسلام في كتابه الإيمان يُدْخِلْ مرجئة الفقهاء خاصة في عموم أهل السنة؛ لأنَّ الخلاف كما قال أكثَرُهُ لفظي. الفائدة الثانية: أنَّ قوله أكثره لفظي يدلُّ على أنَّ ثَمَّةَ منه ما ليس كذلك، وهو الذي ذكرته لك أنه من جهة الأوامر واعتقاد ذلك، وامتثال جهة الأوامر العملية والعلمية. س5/ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى أنَّ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فهل هذا التقسيم كان معروفا، مُجْمَعَاً عليه عند السلف؛ لأنَّ الأحناف فيما أعلم يُدْخِلُونَ العمل في مسمى الإسلام؟ ج/ الإسلام والإيمان هل هما شيء واحد؟ أم هما أمران مختلفان؟ وهل إذا اجتمعا افترقا أو لا؟ هذه مسألة فيها خلاف كبير بين السلف، مسألة الإيمان والإسلام، الخلاف فيها: - من قال الإيمان والإسلام واحد. - أو قال هما شيئان مختلفان. - أو قال إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. فالكل من أقوال أهل السنة، الخلاف في هذه المسألة لا يُخْرِجْ القائل من أهل السنة. [ .... ] فثَمَّ جَمْعْ قالوا الإسلام هو الإيمان، واستدلوا عليه بقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] . ومنهم من قال لا، الإسلام شيء والإيمان شيء مختلف تماماً عنه، ويستدلون عليه بقوله {قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، فجعل الإيمان شيئًا وجعل الإسلام شيئا آخر، وكذلك حديث جبريل قال الإسلام كذا والإيمان كذا. والثالث الذي هو التحقيق أنّ الإسلام لابد له من إيمان حتى يَصِحْ، والإيمان لابد له من إسلام حتى يصح، فليس ثَمَّ مسلم بلا أي قَدْرْ من الإيمان وليس ثَمَّ مؤمن بلا أي قدْر من الإسلام؛ بل لابد هذا وهذا، والإسلام على كماله والإيمان على كماله قد يُطلق الإسلام مع الإيمان فيُعْنَي بالإيمان ما جاء في حديث جبريل: - الأعمال: الباطنة؛ يعني الإيمان الباطن. - والإسلام الظاهر. مثل ما جاء في الحديث الذي رُوي في مسند الإمام أحمد قال «الإسلام علانية والإيمان في القلب» (1) فيجتمعان فتكون هذا دلالته على حديث جبريل، تكون دلالته الشهادتين والأركان العملية الأربع، والإيمان التصديق الباطن مع العلم. ويفترقان فيكون الإسلام يدل على الإيمان، ويكون الإيمان يدل على الإسلام. المسألة الخلاف فيها سائغ، يعني من خالف فيها، الخلاف منقول عن أئمة السنة؛ ولكن التحقيق هو ما ذكرنا. زادني الله وإياكم من كل خير ومن حمل الفقه في الدين، وغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومن له حق علينا، ووفق ولاة أمورنا وعلماءنا لكل خير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)   (1) المسند (12404) (2) انتهى الوجه الأول من الشريط الواحد والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.   قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) لَمّا ذَكَرَ الإيمان وأنَّهُ الإقرارُ باللسان والتصديق بالجنان، ومَرَّ معك أنَّهُ لابد فيه من العمل وهو جزء مسماه، عَرَّفَ الإيمان الذي يُصَدَّقْ به والذي يُقَرْ به. ما هو الإيمان؟ (الْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) تصديق بالجنان بأي شيء؟ وإقرار باللسان بأي شيء؟ فذَكَرَ لك أركان الإيمان الستة المعروفة التي دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهذه الأركان الستة تسمى أركان الإيمان؛ لأنها جاءت حصراً في جواب سؤال وهو قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإيمان؟ قال «الإيمانُ أن تؤمن باللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكتبهِ، وَرُسُلِهِ، واليومِ الآخِر، وَالقَدَرِ: خَيْرِهِ وشَرِّهِ» (1) قال: صدقت. وسُمِّيَت أركان الإيمان هذه عند أهل السنة والجماعة وعند غيرهم أيضاً؛ لأنها جاءت جواباً على سؤال، والأصل في الجواب أنه يقتضي الحصر والحد الأدنى مما يَصْدُقُ عليه الجواب، وذِكْرُهَا للتنصيص عليها في القرآن والسنة: أما في القرآن فجاءت في غير موضع كقول الله - عز وجل - {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] . و {الْبِرَّ} هنا المقصود به الإيمان. وكذلك قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] . وكذلك قوله جل جلاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] . وفي القَدَرِ قوله - عز وجل - {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وكذلك قوله جل جلاله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] . ومن السنة حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه مسلم في الصحيح -المعروف بحديث جبريل- حيث جاء أعرابي في الحديث المعروف لديكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يُرَى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، إلى أن سأله عن الإيمان فقال أخبرني عن الإيمان فذكر هذه الستة. وكذلك هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهذه الأصول الستة، أركان الإيمان الستة هي التي يجب التصديق بها والإقرار بها لساناً؛ يعني يُقِرْ بلسانه أنَّهُ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وكذلك يعتقد بقلبه مُصَدِّقَاً بهذه الأشياء الستة. وقد مر معنا فيما قبل تفصيل الكلام على هذه الأركان الستة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ويأتي الكلام على الإيمان باليوم الآخر تفصيلاً، وتتمة الكلام على الإيمان بالقدر. وعلى هذه الجملة نذكر بعض المباحث والمسائل.   (1) سبق ذكره (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 [المسألة الأولى] : أنَّ هذه الستة يُعَبَّرُ عنها بالأركان، وكلمة الأركان سواءً أركان الإسلام أو أركان الإيمان أو غير ذلك هي تسمية اصطلاحية، لم يأتِ بها الدّليل أنَّ هذا ركن. فالأدلة ليس فيها تفريق في المباني ما بين الركن وما بين غيره من حيث التّسمية. وفي العبادات أيضاً ليس في الأدلة تسمية الأركان أركاناً والواجبات واجبات. والعلماء من جهة الاصطلاح وما دلَّ عليه الدليل: - جعلوا ما يقوم عليه الشيء ويسقُطُ بسقوطه رُكناً. - وجعلوا ما يتمّ به الشيء على جهة اللزوم جعلوه واجباً. ولهذا سَمُّوا أركان الإسلام الخمسة أركاناً وهي واجبات؛ لأنَّ الركن أعظم من الواجب فيُسَمَّى واجباً وهو ركن بسقوطه يسقط البناء. ومما يدلّك على أنَّ التسمية اصطلاحية أنهم مع اتِّفَاقِهِم على أنَّ أركان الإسلام خمسة فهم اختلفوا اختلافاً شديداً فيمن ترك ركناً من هذه الأركان الخمسة غير الشهادتين والصلاة والزكاة؛ يعني من ترك الصيام أو ترك الحج فهل يقال انهدم إسلامُه. وكذلك في أركان الإيمان هل من تَرَكَ بعض أفراد هذه الأركان يعني شكَّ أو تَرَكَ الإيمان ببعض ما يتصل باليوم الآخر لجهله أو لتأويله أو نحو ذلك هل يسقط الركن في حقه؟ أو ما تتصل به مسائل القدر هل يسقط الركن في حقه؟ مما للعلماء فيه بحث. هذا مهم لك لأجل أنَّ تسمية الركن تسمية اصطلاحية، ولا يعني أن تُرَتِّبَ عليها أنَّ ذهاب ما تظن أنه الركن أو بعض أفراده أنَّهُ يعني عدم صحة الإيمان أو عدم صحة الإسلام أو الكفر. وحقيقة الركن في الاصطلاح هو ما تقوم عليه ماهية الشيء ولا يُتَصَوَّرُ بدونه. والإيمان بالله - عز وجل - ركْنٌ، فمن لم يؤمن بالله لم يصحّ إيمانه، كذلك الإيمان بالملائكة وأنهم موجودون وعلى نحو ما فصَّلنا لك في القَدْرِ المُجْزِئِ من الإيمان هذا ركن. فلكل ركنٍ من هذه الأركان الستة قَدْرٌ يَصِحُّ به، وهناك شيء زائد قد يكون واجباً؛ ولكن يأثم الإنسان على عدم الإيقان به ولكن ليس داخلاً في حد الركن؛ يعني بمعنى إذا سَقَطْ أو لم يأت به فإنه لا يَصِحّ إيمانه. فإذاً الإيمان إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، وما يتصل بأركان الإيمان الستة هذه تصديق بالجنان على نحو ما فصلنا لك سابقا في القَدْرِ المجزئ من كل مسألة وركن منها. من تتمة البحث مسألة أركان الصلاة وواجبات الصلاة، ثَمَّ خلاف كبير بين العلماء هل هذا ركن أو هذا واجب؟ ولماذا سَمَّوا هذا ركناً وهذا واجباً؟ إلى آخره مما له صلة بفهمك لمعنى الركن ومعنى الواجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 [المسألة الثانية] : خلاصة الكلام على هذه الأركان السّتة بحيث يمكنك معه أن تُقَرِّرْ حقيقة الإيمان وعقيدة السلف فيما يتصل بهذه الأركان الستة. 1- أولاً الإيمان بالله: الإيمان بالله ثلاثة أقسام: @ إيمان بالربوبية: يعني إيمان بأنَّ الله واحد في ربوبيته، في تدبيره لهذا الملكوت، وفي رجوع كل شيء إليه. @ إيمان بالألوهية: يعني بأنَّ الله واحد في استحقاقه العبادة، ولا أحد معه يستحق شيئا من العبادة. @ إيمان بالله في أسمائه وصفاته: يعني بأنَّ الله واحدٌ في أسمائه وصفاته ليس له مثيلٌ ولا ند وليس له كُفُو وليس له سَمِيٌ في أسمائه وصفاته من جهة الكيفية ومن جهة تمام المعنى وشمول ما دلّ عليه الاسم والصفة من المعنى. 2- ثانياً الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة إيمانٌ بأنهم موجودون، وهذا الإيمان فيه إجمال وتفصيل، وكلُّ من عَلِمَ شيئاً مما جاء في الدليل من كتاب الله جل جلاله أو في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحيحة فإنه يجب إيمانه به، كما ذكرنا لك سابقاً أنَّ القَدْرَ المجزئ للإيمان بالملائكة الإيمان بوجود الملائكة، وأنهم عُبَّادْ لله - عز وجل - لا يُعبَدُون. 3- ثالثاً الإيمان بالكتب: وهو الإيمان بكل كتاب أنزله الله - عز وجل - ما عَلِمْنَا منه وما لم نعلم، إيماناً إجماليا في المجملات -يعني فيما لم نعلم- وتفصيلياً فيما وقفنا على اسمه من كتب الله - عز وجل -. 4- رابعاً الإيمان بالرسل: الإيمانبالرسل أيضاً على نفس المنوال؛ إيمانٌ بأنَّ الله - عز وجل - أرسَلَ رُسُلاً وأيّدهم بالبراهين والآيات والمعجزات، وجعلهم هُدَاةً إلى الحق دالّين عليه، وهم كثير منهم من قُصَّ علينا ومنهم من لم يُقَصَّ علينا، فتؤمن بهم إجمالا ونؤمن بهم تفصيلا فيما بلغنا تفصيله. هذه كلها جمل سبق الكلام عليها مُفَصَّلاً -تذكرون- في مواضعها. 5- خامساً الإيمان باليوم الآخر: القَدْرْ المُجْزِئْ منه أن يؤمن العبد ويوقن ويُصَدِّقْ بأنَّ هناك يوماً يبعث الله فيه العباد فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ثُمَّ تحته مباحث كثيرة من الحال في البرزخ، ثم ما بعد النفخة الأولى، ثم ما بعد النفخة الثانية، ثم اجتماع الناس في العَرَصَات -عرصات القيامة-، ثم الحوض، ثم الصحف، ثم الميزان والصراط والظُلْمَة والنار والجنة والحساب والاقتصاص وانقسام الناس كل ما في القرآن من ذلك. واليوم الآخر كثيرٌ تفاصيله في القرآن جداً، وكذلك في السنة كثيرٌ تفاصيله. ويمكن أن يضبطه طالب العلم من جهة التفصيل بأن يُرَتِّبَ ما جاء فيه من الأدلة في القرآن أو في السنة، يرتبها في قلبه من حين نفخة البعث إلى دخول أهل الجَنة الجنة ودخول أهل النّار النار. تُرَتِّبْ ما يحدث على مراحل: النفخة، ما يحصل بعدها، مسير الناس، كيف يجتمعون، ما يحصل أثناء اجتماعهم بما جاء في الأدلة، ثم بعد ذلك ما هي الأشياء التي تحصل تباعاً شيئاً فشيئاً وتفاصيل ذلك إلى دخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ، وسيأتي تفصيلٌ للكلام على اليوم الآخر إن شاء الله تعالى في آخر هذه العقيدة المباركة. 6- سادساً الإيمان بالقدر: ذكرنا لك أنَّ مراتب الإيمان بالقدر أربع، وأنه يجب على العبد والقَدْرْ المجزئ من الإيمان به أن يعلَمَ أنَّ كل شيء يحصل إنما هو بإذن الله وبمشيئته وبعلمه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الرب جل جلاله قَدَّرَ كل شيء إجمالاً وتفصيلاً. الإيمان بالقدر كما ذكر قال (وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) والخير والشر والحلو والمر في القَدَرْ المقصود بها ما يضاف للعبد من القَدَرْ -يعني المقدور- فالقَدَرْ له جهتان: - جهة صفة الله - عز وجل - وفعل الله - عز وجل -: وهذه مرتبطة بعددٍ من صفات الرب جل جلاله: أولها العلم، والثاني الكتابة والمشيئة والخلق والحكمة وهي وضع الأمور مواضعها اللائقة بها الموافقة للغايات المحمودة منها، والعدل في حُكْمِهِ - عز وجل - القدري وهو وضع الأمور والمقادير في مواضعها، هذه جهَةٌ تتعلق بالله جل جلاله. - جهة تتعلق بالعبد: وهي المقدُورْ، وقوع المقدور وقوع المُقَدَّر عليه، وقوع القَدَرْ عليه أو حصول القَدَرْ وهذه تسمى المقدُور، وتسمى القضاء كما أسلفنا لكم في الفرق ما بين القَدَرْ والقضاء. هذا المُقَدَّر هو الذي ينقسم إلى خير وشر وإلى حلو ومر. أما الجهة الأولى وهي صفة الله - عز وجل - فليس فيها شر؛ بل كلها خير؛ لأنَّ الله - عز وجل - طيبٌ ولأنه سبحانه ليس في أفعاله إلا الجميل والخير وما يؤولُ إليه فِعلُهُ وقَدَرُهُ هوالحكمة وما ينبغي أن تكون الأمور عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 لهذا صحّ عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه في الليل أنه قال في ثنائه على ربه - عز وجل - «والشر ليس إليك» (1) ؛ يعني أنّ الشر ليس إلى الله - عز وجل - فِعْلاً وليس إلى الله - عز وجل - إضافة، فلا يُنْسَبْ الشر إلى الله سبحانه وتعالى لا من جهة الفعل ولا من جهة إضافة الشر إليه، وإنما هو شَرٌ بالنسبة إلى العبد فيؤمن بما كان خيراً، له بما كان حسنة في حقه، ويؤمن بما كان شراً في حقه أو كان سيئة تسوؤه في حقه، وكذلك ما كان حلواً وما كان مُرَّاً. وهذا للعباد فيه أحوال عظيمة، وهو الذي يظهر من العبد الإيمان به؛ يعني الإيمان بالمَقْدُورْ، يعني ما موقفه من المقدور هذا شر وخير بالنسبة إليه. لكن معظم الناس -حاشا أهل العلم والحكمة- لا ينظرون إلى الجهة الأولى وهي جهة فعل الله - عز وجل - وعلمه ومشيئته وتقديره وخلقه ونحو ذلك في وقوع المُقَدَّرَاتْ عليهم أو فيما يرون من تقدير الله - عز وجل - الناس، هذا حاله كذا وهذا حاله كذا، لا ينظرون إلى الجهة الأولى، في الغالب يكون نظرهم من جهة الإضافة إليه، هذا حلو بالنسبة له هذا شر، ينظر إلى الناس هذا جاءه كذا وما جاءه كذا، هذا من صفته كذا وليس من صفته كذا. ولأجل هذا نُصَّ على الخير والشر والحلو والمر هنا، وأصله -التنصيص عليه- في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أن تؤمن بالقدر خيره وشره» (2) وفي الحديث الآخر أيضا قال «خيره وشره وحلوه ومره» (3) ، وهذا هو الذي يُحَاسِبْ العبد نفسه عليه فيما يراه حاصلاً من المُقَدَّرْ. ومن جهة الإيمان بالقَدَرْ يأتي كثير من السّيئات التي يُصَاب العبد بها، وهي جهة سوء الظن بالله عز وجل. ولهذا كان الإيمان بالقدر خيره وشره فيما يضاف إلى العبد من وقوع المُقَدَّرَات كان الإيمان به عظيماً؛ لأنَّ أكثر الخلق يُسيئون الظن بالله - عز وجل - وهذه من سِمَةِ أهل الجاهلية {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] ، يأتيه الشيطان في خاطره فيما وقع عليه مما يسوؤه من الشر يقول: غيري كذا وأما لا أستحق هذا أو كيف يحصل هذا ونحو ذلك. ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله حينما ذكر سوء الظن بالله - عز وجل - وقال في أواخر بحثه (ففتش نفسك فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إِخالُك ناجيا) (4) وقلَّ من يسلم من سوء الظن بالله - عز وجل - ومن الاعتراض. فهو أعظم وأكثر من التَطَيُّرْ؛ لأنَّ التَطَيُّرْ يحصل أحياناً؛ ولكن وقوع المُقَدَّرَات هذا كل لحظة. ولهذا ينبغي للعبد في إيمانه بالقدر خيره وشره؛ بل يجب عليه أن يُحَسِّنْ الظن دائما بالله - عز وجل -، وأن يُسَلِّمَ لما أراده الله - عز وجل - بعبده من الأمور الكونية.   (1) مسلم (1848) / أبو داود (760) / الترمذي (3422) / النسائي (897) (2) سبق ذكره (9) (3) ابن حبان (168) / المعجم الكبير (13581) / مصنف ابن أبي شيبة (30429) (4) زاد المعاد (3/196) / إغاثة اللهفان (2/256) / مفتاح دار السعادة (2/71) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 [المسألة الثالثة] : الإيمان إقرارٌ وتصديقٌ وعمل، وهذه الأركان أركان الإيمان الستة لا يظهر تعلُّقُها بنفسها بالعمل، فهي كلها أمور اعتقادية بحتة، فأين العمل في هذه الأركان الستة؟ الجواب عن هذا من جهتين: أ - الجهة الأولى: أنَّ العمل مُتَضَمَّنٌ في هذه الأركان الستة: فالإيمان بالله إيمانٌ بربوبيته وألوهيته وبالأسماء والصفات. والإيمان بتوحيده في العبادة يعني بأنه هو المستحق للعبادة وحده - عز وجل - فيه التوجه إليه بالعبادة. وكذلك الإيمان بالربوبية فيه الاعتراف له بالربوبية. وهذا يَلْزَمُ منه أن يُعْبَدْ أو أن يُشْكَرْ أو نحو ذلك وهذا مَدْخَلٌ للعمل في الإيمان. الإيمان بالملائكة يتصل به العمل من جهة المراقبة، باعتقاده أنَّ الملائكة موجودون وأنَّ منهم من يُرَاقب العبد ويكتب ويحسب عليه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . الإيمان بالكتب فيها الإيمان بأعظم الكتب وهو القرآن، والإيمان بالقرآن فيه العمل بما في القرآن من أوامر ونواهٍ والحكم به، وهذا عمل. الإيمان بالرسل فيه الإيمان بمحمدصلى الله عليه وسلم؛ بل هو أعظم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه رسول لابد فيه من العمل. الإيمان باليوم الآخر وأن الله يحاسب العباد فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يَبْعَثُ على العمل في أن يَتَقِيَ السوء ويعمل بالخير. الإيمان بالقدر كذلك من جهة أنه متضمّن إلى أنَّ العبد لا يعمل عملاً يسخط الله - عز وجل - فيما قدر، ويعمل عملاً يشكر الله - عز وجل - به فيما قدر. لأنَّ القدر إما خير يستوجب الشكر، أو شر بالنسبة للعبد (1) : [[الشريط الثاني والثلاثون]] : يستوجب الصبر، وهذه أعمال. هذه هي الجهة الأولى من التعلق. ب - الجهة الثانية: أنه لا يُتصَوَرُ في الشرع أنَّ ثَمَّ إيمان بلا إسلام، كما أنَّهُ لا يُتَصَوَّرْ أن ثمة إسلاماً بلا إيمان. فكل إسلامٍ لابد فيه من قَدْرٍ من الإيمان يصح معه الإسلام الظاهر. كذلك كل إيمان بهذه الأركان السّتة الباطنة الاعتقادية لابد معه من عملٍ، من إسلامٍ، يُصَحِّحُ هذا الإيمان. ولهذا كان من الشرطِ في صحة الإسلام أن يكون ثَمَّ إيمان، وفي صحة الإيمان أن يكون ثَمَّ إسلام. فلا يُتَصَوَّرُ مسلمٌ ليس معه من الإيمان شيء، ولا يُتَصَوَّرُ مؤمنٌ ليس معه من الإسلام شيء. فإذاً دَخَلَ العمل بدخول الإسلام -وهو أركان الإسلام- في صحة هذا الإيمان، فالإيمان المُنْجِي إيمانٌ لابد معه من إسلام، وهذا ظاهرٌ بَيِّنْ في أنَّ الله لا يقبل عمل أحدٍ حتى يكون مؤمناً.   (1) انتهى الشريط الواحد والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 قال بعدها (وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ) .   (نَحْنُ) يعني به أهل الإسلام -أهل القبلة-. (مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ) يعني بأركان الإيمان الستة. وفي الإيمان بالرسل للتنصيص على ذلك وكذلك الإيمان بالكتب، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ؛ وذلك لأنَّ الله - عز وجل - أثنى على عباده بعدم التفريق بين الرسل؛ لأنَّ الرسل جميعاً جاءوا بشيءٍ واحد قال - عز وجل - {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، وهذا قول أهل الإيمان بثناء الله - عز وجل - عليهم، وكذلك قول الله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِوَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:150] ، وهذا فيه الذم الشديد لهؤلاء اليهود. (نُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ) يعني أنَّ الرسول الذي بُعِثَ إلى قومه برسالةْ فكل ما قاله عن الله - عز وجل - حَقْ ما عَلِمْنَا منه وما لم نعلم، فلم يَقُل رسولٌ من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم قولاً ينسبه إلى الله - عز وجل - ويجعله من شريعته، من دينه ولا يكون في ذلك مُحِقَّاً؛ بل كل ما قالته الرسل فيما بلَّغوا عن الله - عز وجل - حق يجب التصديق به إجمالاً فيما لم نعلم وتفصيلاً فيما عَلِمْنا وعُلِّمنا. والرسل صلوات الله وسلامه عليهم دينهم واحد -كما سيأتي في المسألة التالية-. يريد الطحاوي بذلك أنَّ نَفْسَ أهلِ السنة وأهل القبلة سليمة تجاه رسل الله - عز وجل - فيؤمنون بالجميع ويُسَلِّمُونَ للجميع، خلافاً لأهل الملل الباطلة الزائغة الذي يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] . على هذه الجملة بعض المسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 [المسألة الأولى] : الرّسل دينهم واحد، والله - عز وجل - لم يبعث رسولاً إلا بدين الإسلام. ولكن الشّرائع تختلف كما قال - عز وجل - {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، وقال {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وقال {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] يعني سواءٌ أكان من قبل محمد صلى الله عليه وسلم أم كان بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقبل الله من أحد إلا الإسلام. فالرّسل جميعا دينهم واحد كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «الأنبياء إخوة لعلاّت الدين واحد والشرائع شتى» (1) . وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ أهل الإسلام وخاصَّةً أهل السنة والجماعة لا يقولون ولا يعتقدون بأنَّ الأديان التي جاءت من السماء متعددة، كما يقول الجاهل الأديان السماوية، فالسماء التي فيها الرب - جل جلاله - وتقدس في علاه ليس منها إلا دينٌ واحد، وهو الإسلام، جاء به آدم عليه السلام، وجاء به نوح وجاء به جميع المرسلين إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فدين موسى عليه السلام الإسلام، ودين عيسى عليه السلام الإسلام، ودين إبراهيم عليه السلام الإسلام، وهكذا، فجميع المُرسلين جاؤوا بدين الإسلام الذي لا يقبل الله - عز وجل - من أحد سواه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . ومن الباطل قول القائل الأديان السّماوية، ففي هذا القول تفريق بين الرسل؛ لأنَّ الرسل دينهم واحد نُصَدِّقُهُمْ كلهم على ما جاءوا به لم يأتوا بعقائد مختلفة ولا بأخبار مختلفة غيبية، فكل الرسل يُصَدِّقُ بعضهم بعضاً فيما أخبروا به عن غيب الله - عز وجل -، ما يتعلق بأسماء الله - عز وجل -، بصفاته بذاته العلية - عز وجل -، بالجنة بالنار، فالأخبار ليس فيها نسخ، الأخبار ليس فيها تغيير ما بين رسول ورسول، فالأمور الغيبية كل ما جاءت به الرسل فيها حق. لهذا نُصَدِّقُ إجمالاً بكل ما جاءت به الرسل، ونحبهم جميعاً ونتولاهم جميعاً، وننصرهم جميعاً ننصر دينهم -دين الإسلام- الذي جاءت به الرسل جميعاً.   (1) سبق ذكره (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 [المسألة الثانية] : شرائع الرسل تختلف وهي التي تُضَافْ إليها الملة، فيقال اليهودية، يقال النصرانية ونحو ذلك، هذا باعتبار الشرائع، باعتبار اختلاف الشرائع. والشريعة هي: ما لا يختص بأمور الغيب مما يتعلق بالأمور العَمَلِيَّة، الله - عز وجل - يَشْرَعُ ما يشاء بما يوافق حكمته البالغة تقدس ربنا وجل في علاه. فإذاً الفرق ما بين الدين العام والشريعة: - أنَّ الدين العام هو ما يتصل بالغيب. - والشريعة هي ما يَخْتَلِفُ به من جهة العمل. ولهذا تجد بين بعض الرسالات ربما كان في الشرائع اختلاف في بعض الوسائل، مثلاً وسائل الشرك، ففي بعضها ما يُبَاح وفي بعضها مُنِعَتْ. مثلاً اتخاذ التماثيل كان مباحاً في شريعة موسى وسليمان {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبإ:13] ، كذلك بعض أنواع التوسل، بعض أنواع الانحناء والتحية، هذه وسائل راجعة إلى جهة العمل ليس على جهة الاعتقاد الغيبي وما يختص الله - عز وجل - به. هذه منعُهَا مَنْعُ وسائل، فهي راجعة إلى الشرائع وما يَشْرَعُهُ الله - عز وجل - لكل أمة. أما العقيدة المتصلة بالغيب فهذا هو الدين العام، دين الإسلام العام الذي بعث الله به جميع المرسلين. محمد صلى الله عليه وسلم له خصوص وهو أنَّ رسالته جمعت دين الإسلام وشريعة الإسلام. فالاسم -اسم الإسلام الكامل- الأحق به محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّ شريعته سَمَّاهَا الله الإسلام ولأنَّ الدين الذي جاء به الإسلام، كما جاءت به جميع الرسل. فجمع الله له ما بين شريعة الإسلام ودين الإسلام فصار مُخْتصاً بهذا الإسلام دون غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 [المسألة الثالثة] : (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) خلافاً لكل أهل الملل والديانات. ويجوز أن نقول ديانات؛ لأنَّ لكل أمَّةٍ دين، لكن ما نضيفها إلى السماء؛ يعني ما نقول ديانات سماوية، الديانات اليهودية والنصرانية إلى آخره باعتبار ما هي عليه. هذه جميعا فَرَّقَتْ بين الرسل. ولهذا في الحقيقة من فَرَّقَ بين الرسل فليس له حَظٌ في الإيمان بالرسل، حتى إنَّ رسولهم الذي أُرْسِلَ إليهم ما دام أنهم فرَّقُوا فليس لهم حظ في الإيمان به. فإذاً نقول: حقيقةً النصارى لم يؤمنوا بعيسى، حقيقةً اليهود -بعد تحريف الدين- لم يؤمنوا بموسى عليه السلام، وإنما أحبّوا وآمنوا بشيء وضعوه في أذهانهم سَمَّوهُ عيسى وسموه موسى وسموه داوود وسموه سليمان، وإلا فالرسل مُتَبَرِّئون ممن عبدهم أو ممن لم يؤمن بكل رسول. من الذي آمن؟ المسلمون آمنوا بكل رسول. لهذا الأحق بحماية ميراث الأنبياء جميعاً والرسل وبالدفاع عنهم وبأن يَرِثَ ما ورَّثُوهُ هم أهل الإسلام، ولهذا جعل الله - عز وجل - القرآن مهيمنا على كل كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 قال بعدها (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لَا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ)   هذه الجملة يقرر فيها الطحاوي رحمه الله عقيدة أهل الأثر وأهل السنة في أهل الكبائر، مُخَالِفين في اعتقادهم ذلك لطوائف الضلال من الخوارج والمعتزلة والوعيدية بعامة. فأهل السنة في أهل الكبائر وسط ما بين فرقتين غالية كالخوارج والمعتزلة وجافية كالمرجئة. وسَطٌ ما بين من يقول (يخرج من الإيمان بكل كبيرة) وما بين من يقول (لا يضر مع الإيمان كبيرة) . فيعتقد أهل السنة والجماعة أنَّ أهل الكبائر من هذه الأمة مُتَوَعَّدُونَ بالنار؛ لكن إذا دخلوها وكانوا مُوَحِّدِينَ فإنهم لا يخلدون فيها، وقد يعذِّبهم الله - عز وجل - وقد يغفر لهم. وهذه مسألة واضحة من جهة الصّلة بمباحث الإيمان -كما سيأتي-، وسبق أن تكلمنا عن القول أو صلة البحث في الكبائر وأهل الكبائر مع الإيمان والمسألة المُسَمَّاةْ بمسائل الأسماء والأحكام. ودليل الطحاوي على هذه الجملة من النصوص كثير لا يُحْصَى-يعني كتقعيد-أنَّ كل آية فيها ذِكْرُ وَعْدٍ لأهل الإيمان فإنه يدخل فيها أهل الكبائر؛ لأنهم يدخلون في أنهم مؤمنون. وكل وعيد جاء لأهل الكفر بالخلود في النار فإنه يخرج منه أهل الكبائر من هذه الأمة إذا ماتوا موحّدين؛ لأنهم ليسوا من أهل الإشراك والكفر. فنصوص الوعد تشمل أهل الكبائر، ونصوص الوعيد للكفار لا يدخُلُهَا أهل الكبائر، وإنما لأهل الكبائر من هذه الأمة وعيدٌ خاص في أنهم قد يُعذَّبون وقد يُغفر لهم، وأنهم يَؤُول بهم الأمر بتوحيدهم إلى الجنة. ومن ذلك قول الله - عز وجل - في وعد أهل الإيمان {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] ، وهذا في حق الصحابة رضوان الله عليهم، وكان منهم بالنَّصْ من عَمِلَ بعض الكبائر، وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] ، وكذلك قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء:57، 122] ، ونحو ذلك من آيات الوعد التي فيها وَعْدٌ لأهل الإيمان بدخول الجنة تشمل أهل الكبائر لأنهم مؤمنون. ومِنَ السّنة ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من دخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق إذا مات على التوحيد. والمسألة مشهورة؛ يعني الأدلة فيها أنواع «يَخْرُجُ من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (1) ، «أخْرِجُوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (2) ، «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» (3) ، «من قال لا إله إلا الله مُخْلِصَاً من قلبه أو نفسه دخل الجنة» (4) كما رواه البخاري عن أبي هريرة؛ يعني أنواع النصوص في وعد المؤمنين بعامة، وكذلك في التنصيص على أنه يدخل الجنة وإن حصلت منه الكبيرة. نذكر هنا مسائل:   (1) الترمذي (2598) (2) الترمذي (2593) (3) أبو داود (3116) (4) البخاري (99) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 [المسألة الأولى] : (أهل الكبائر) يُسَمَّى من ارتكب الكبيرة أنه من أهل الكبائر، أو يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر إذا اجتمع فيه وصفان: - الأول: العلم. - والثاني: عدم التوبة. فإذا عَلِمْ أنَّ هذا الفعل معصية واقتَحَمَهُ وكان مَنْصُوصَاً عليه أنَّهُ من الكبائر فيكون من أهل الكبائر. والثاني أن لا يكونَ أَحْدَثَ توبة فإذا أحدث توبة فلا يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيراً، على أقوال شتى -ذكر لك عددا من الأقوال الشارح ابن أبي العز-: - فمن أهل العلم من قال هي سبع مُقْتَصِراً على حديث «اجتنبوا السبع الموبقات» (1) . - ومنهم من قال هي سبعون -يعني من جهة العدد-. - ومنهم من قال كل معصية كبيرة. وهذه الأقوال ليست جيدة؛ بل الجميع غلط، فلا يُحَدُّ العدد بِحَدْ لعدم النص عليه، وليست كل معصية كبيرة للفَرْقِ في القرآن -كما سيأتي-، وكذلك ليست هي سبعين؛ يعني لم يثبت في العدد ولا في أنَّ كل معصية كبيرة شيء يمكن أن يُستَدَلَ به على ذلك. ولهذا صار أجود الأقوال في الكبيرة قولان: 1- القول الأول: أنّ الكبيرة ما فيه حَدٌ في الدنيا أو عيدٌ بنار أو غضب. 2- والقول الثاني: أنّ الكبيرة هي المعصية التي يُؤَثِّرُ فِعْلُهَا في أحد مقاصد الشّرعْ أو كُلِّيَاتِهِ الخمس، مقاصد الشّرع العظيمة أو في أحد كلياته الخمس. والقول الأول هو المعروف عن الإمام أحمد وعددٍ من أهل العلم من أهل السنة. والقول الثاني اختاره جمع من العلماء كالفقيه العز بن عبد السلام في قواعده، وقوّاهُ جمعٌ ممن تبعه في ذلك، وذكره النووي أيضاً في شرحه على مسلم من الأقوال القوية في المسألة. هذان القولان قريبان. والقول الأول عُرِّفَتْ فيه الكبائر بـ (ما فيه حد في الدنيا أو وعيد) . (حد في الدنيا) يعني ما رُتِّبَ عليه حَدْ مَحْدُودْ، مثل السرقة فيها حد كبيرة، الزنا فيه حد كبيرة، شرب الخمر فيه حد كبيرة، السحر فيه حد كبيرة، الشرك بالله - عز وجل - هو رأس الكبائر، وكُلُّ ما رُتِّبَ فيه حد، فهذا ضابط لمعرفة أنه كبيرة. (أو وعيد) ما تُوُعِّدَ عليه بالنار، فِعْلٌ تَوَعَدَ الله - عز وجل - عليه بالنار، جاء في الكتاب أو السنة التَوَعُّدْ عليه بالنار، قتل النفس هذا فيه حد وأيضاً تَوَعُّدْ بالنار، والخيانة، وأكل المال بالباطل أكل مال اليتامى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] ، وأشباه ذلك، فما كان فيه حد أو كان توعد بنار فهذا ظاهر في أنه كبيرة. ابن تيمية أضاف (ما نُفِيَ فيه الإيمان -لا يؤمن-، أو جاء فيه -ليس منا-) : ما نُفِيَ فيه الإيمان (لا يؤمن) : يعني أضاف على التعريف الأول ما نُفِيَ فيه الإيمان «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» (2) يقول: عَدَمُ أَمْنِ الجار من البوائق والاعتداء عليه هذا صار من الكبائر؛ لأنه نَفَى فيه الإيمان، ونَفْيُ الإيمان لا يُطْلَقُ عند ابن تيمية إلا على نَفْيِ الكمال الواجب، ولا يُنْقِصْ الكمال الواجب عنده إلا ما كان كبيرة. أو جاء فيه (ليس منا) : ليس منا من فَعَلَ كذا، ليس منا من غش، «من غشنا فليس منا» (3) ، «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (4) هذا يدُلْ على أنَّ الفعل كبيرة عند ابن تيمية؛ لأنَّ النفي هذا (ليس منا) يقول يتوجَهُ إلى أنَّهُ ليس من أهل الإيمان وهذا النفي يرجع إلى الأول في أنه فَعَلَ كبيرة. وذكرت لكم مرة أو أكثر أنَّ ابن عبد القوي في منظومته في الآداب الطويلة ذكر التعريف بقوله: فما فيه حد في الدُّنى أو تَوَعُدٌ ****** بأخرى فَسَمْ كبرى على نَصِّ أحمدِ وزاد حفيد المجد أو جا ****** وعيدُه بنفي لإيمان وطرد لمُبْعَدِ يعني جَمَعَ قول الإمام أحمد واستدراك ابن تيمية عليه. والتحقيق أن يُقال هذه الأقوال أعني هذين القولين قريبة، وهي صواب، وما كان فيه قَدْحٌ في مَقْصَدْ من مقاصد الشارع أو ضروري من الضروريات الخمس وصار إِحْدَاثُهُ أو فِعْلُهُ مَضَرَّتُهُ وإِفْسَادُهُ يرجع إلى هذه فهو في الحقيقة يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه حد أو يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه لعن أو طرد أو وعيد. يدخل في التعريف الأول -يعني على كلام ابن تيمية- اللعن، كل ما فيه لعن أيضاً يدخل في حد الكبيرة -سبق أن ذكرنا لكم شيئا من ذلك-.   (1) سبق ذكره (264) (2) سبق ذكره (264) (3) مسلم (294) / ابن ماجه (2224) (4) البخاري (1294) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 [المسألة الثانية (1) ] : هل الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة أم لا؟ يعني من أَصَرَّ على كبيرة قلنا هو من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ للعلماء في ذلك قولان: القول الأول: أنَّ الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرُهَا كبيرة، كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم كابن عباس وغيره. - القول الثاني: أنَّ الصغائر تختلف، وأنَّ الإصرار على الصغائر لِمَنْ تَرَكَ الكبائر لا يبقى معه صغيرة؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل الصلاة إلى الصلاة مُكَفِّرَات لما بينهن، إذا اجتُنِبَتْ الكبائر وجعل رمضان إلى رمضان مُكَفِّرَاً لما بينهما إذا اجتُنِبَتْ الكبائر، وهكذا العمرة إلى العمرة، وهكذا الحج ليس له جزاء إلا الجنة، الحج المبرور «ومن حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (2) ، ونحو ذلك من الأذكار التي يمحو الله بها السّيئات، كذلك اتْبَاع السّيئة الحسنة، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الموحد الذي لم يفعل الكبائر فإنَّ هذه العبادات العظيمة بفضل الله - عز وجل - تمحو عنه الصغائر التي وقعت منه، فلا يُتَصَوَّرْ أنَّ الصغائر تجتمع في حقه فتتحول إلى كبيرة، وهذا النّظر ظاهر من حيث الاستدلال. ومن قال: إنَّ المُدَاوَمَة على الصغائر تحولها إلى كبيرة. يحتاج إلى دليل واضح من الكتاب أو السنة، والأدلة كما ذكرت تدلُّ على أنَّ الصغيرة من الموحد تُكَفَّرْ، فلا تجتمع عليه؛ ولكن هذا بشرط اجتناب الكبائر كما قال - عز وجل - {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء:31] . نقف هنا، ونكمل بقية المسائل على بحث الكبائر في الدرس القادم إن شاء الله تعالى. وفّقكم الله لما يحب ويرضى، وجمعنا على الحق والهدى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.   (1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة وإنما هي تابعة لما قبلها، وقد جعلتها في مسألة مستقلة تنبيهاً عليها. (2) البخاري (1521) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة س1رحمه الله ما توجيهكم لحديث البطاقة وحديث «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطيئة ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه مسلم (1) مع العلم أنَّ صاحب الكبيرة تحت المشيئة؟ جرحمه الله ما فهمت وجه الاستشكال؛ لكن لعله أنه فَهِمْ من العموم في حديث «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» فَهِمْ من العموم أنَّ هذا يعارض كون صاحب الكبيرة تحت المشيئة إذا مات غير تائب. وهذا غير وارد لأنَّ النصوص يُصَدِّقُ بعضها بعضاً، والآيات يفسر بعضها بعضاً، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وكذلك الوعد لا ينافي الوعيد، فقوله «أتيتك بقرابها مغفرة» هذا وعدٌ من الله - عز وجل - لمن حقَّقَ التوحيد لا يُشْرِكُ بالله شيئا، وكون صاحب الكبيرة تحت المشيئة لا يُعَارِضُ هذا الأصل؛ لأنَّ هذا والوعد والوعيد يُطلقان ويكونان على إطلاقهما، وكذلك يجتمعان في حق المعين، فيجتمع في حق المعين الوعد والوعيد، وهذا في حق مرتكب الكبيرة، ويدخُلُ في عموم أهل الإيمان الذين وعدهم الله - عز وجل - بالجنة، كل مؤمن وعَدَهُ الله - عز وجل - بالجنة، يدخل في المسلمين الذين جعل الله - عز وجل - لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في آية الأحزاب {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] ونحو ذلك. فأهل السنة والجماعة في مثل هذه الأدلة التي فيها الوعد وفيها الوعيد، يُعمِلُونَ الوعد ويُعمِلُونَ الوعيد والوعد بشرطه والوعيد أيضا بشرطه، فلا مُنافاةَ ما بين الأدلة بل الأدلة يُصدِّق بعضها بعضا. س2/ رحمه الله ما الضابط في التفريق بين الفعل والصفة في صفات الله - عز وجل - وأفعاله؟ ج/ رحمه الله صفة الرب - جل جلاله - مُشتملة على فِعلٍ له سبحانه وتعالى ومُشتملة على ما هو لازِمٌ من غير الفعل؛ يعني أنَّ صفات الرب - جل جلاله - منها ما هو صِفَةُ فعل ومنها ما هو صفة ذات، فليست كلها متعدية تَعَدِّي الأفعال. فمثلا وجه الرّب - جل جلاله - صفة وليس بفعل، اليدان للرب - جل جلاله - وصف له سبحانه وليستا باسْمٍ ولا فعل. فإذاً الفعل هو فِعْلٌ يفعله الله - عز وجل - له أثره، فالصفات منها ما هو صفة فعلٍ مثل الرحمة وهي صفة ذات لكن لها أثرها ومثل النزول وأشباهه والغضب الرضا، وهذا يتعلق بالمخلوق، فيفعله - عز وجل - ويتصف به سبحانه وتعالى. وهناك القسم الآخر التي هي صفات الذات، صفات الذات كثيرة لا علاقة لها بالأفعال. فإذاً نقول: ليست كل صفة لله - عز وجل - فِعْلاً، فقد تكون متعلِّقَة بفعل أو لها فعل أو أثرُها فيه فعل، وقد لا يكون ذلك، ولهذا لا يُشْتَقُ من الصفة فِعْلْ مُطْلَقَاً، كما أنه لا يُشتق من الفعل صفة مطلقاً، وذلك أنّ الأفعال أوسع في باب وصف الله - عز وجل - من الصفات، فقد يكون ثَمَّ فعل لله - عز وجل - ولا نشْتَقُ منه صفةً؛ يعني لا نشتق من الحدث المُسْتَكِنّْ في الفعل صفة لله - عز وجل -. مثلاً الأفعال المنقسمة إلى محمود ومذموم مثل المكر {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] ، ومثل {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، ومثل {مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14-15] ، ونحو ذلك من الأسماء نشتق منها صفات مُطْلَقَاً (2) ، ونقول الفعل أُطْلِقَ على الله - عز وجل - فنقول له صفة الاستهزاء، له صفة المخادع، له صفة المكر، وهكذا، بل تُطْلَقْ هذه الصفات مُقَيَّدَة لأنَّ المكر والمخادعة والاستهزاء ليست كمالاً في كل حال؛ بل قد تكون كمالاً، وقد تكون نقصاً، فتكون كمالاً إذا كانت بحق، ومن آثار صفات الكمال الأخّرْ، وتكون نقصاً إذا كانت بباطل، وكانت من آثار صفات النقص في المخلوق. فإذاً باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وليس كل فعل نشتق منه صفة لله - عز وجل -، وليست كل صفة نشتق منها الفعل لله - عز وجل -؛ لأن الصفات منها ما هو صفة ذات ومنها ما هو صفة فعل. نكتفي بهذا.   (1) مسلم (2687) (2) - لعل مراد الشيخ (ونحو ذلك من الأفعال لا نشتق منها صفات مطلقاً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 [المسألة الثالثة] : في قوله (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) هذه الجملة أو شبه الجملة لا مفهوم لها، فليس هذا الحكم خاصاً بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل هو عام لهذه الأمة ولغيرها؛ لأنه: - لم يَدُلَّ دليل على تخصيص هذه الأمة بهذا الفضل. - ولأنَّ هذه ترجع إلى قاعدة الوعد والوعيد، وهما مما تشترك فيه الأمم لأنَّ أصلها واحد، قال (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ فِي النَّارِ لَا يَخْلُدُونَ -أو يُخَلَّدُونَ-) بشرط (إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 [المسألة الرابعة] : دخول أَهْلُ الكَبَائِرِ في النَّارِ، هذا وعيد، وهذا الوعيد يجوز إخلافُهُ من الرب - جل جلاله -؛ وذلك أنَّ مرتكب الكبيرة إذا تابَ في الدنيا تابَ الله عليه، وإذا طُهِّرَ بِحَدٍ أو نحوه كتعزير فإنه تكون كَفَّارَةْ له. فإذاً يكون مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد إلا في حالات: الحال الأولى: أن يكون تائباً كما ذكرنا لك؛ لأنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها، قال الله - عز وجل - في آخر سورة الزمر {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أجمَعَ أهل التأويل والتفسير-: أنها نزلت في التّائبين، فمن تَابْ تابَ الله - عز وجل - عليه، فلا يلحق التائب وعيد لأنه قد مُحِيَتْ عنه زلته وخطيئته بالتّوبة. 2- الحال الثانية: أن يُطَهَّرَ من تلك الكبيرة إما بِحَدْ كمن شرب الخمر مثلاً فأُقيمَ عليه الحد فهو طهَّارَةْ وكفَّارة له، وكذلك من قَتَلَ مسلماً فقُتِلَ، أو من قَتَلَ مسلماً خطأً فَدَفَعَ الدّية، فإنَّ هذا كفارةٌ له، أو سرق فقُطِعَتْ يده فهو كفارة له، أو قَذَفْ فأقيم عليه حد القذف (1) فهو كفارة له، أو زنى إلى أخره، أو كان تعزيراً أيضاً فإنه طهارة. يعني أنَّ ما يُقَامُ على المسلم من حد أو تعزير من عقوبة في الدنيا فإنها من جنس العقوبة في الآخرة تُطَهِّرُهُ من هذا الذنب. 3- الحال الثالثة: بعض الذنوب الكبائر تكون لها حسنات ماحية، مثلاً الصدقة في حق القاتل قال - عز وجل - {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، ومثل الجهاد العظيم فإنه يُنْجِي من العذاب الأليم، قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] ، والعذاب الأليم هو لمن فعل الكبيرة؛ لأنه وعيد شديد. 4- الحال الرابعة: أن يكون الله - عز وجل - يغفر له ذلك لأسباب متعددة، ذكرنا لكم شيئا منها فيما مضى في العشرة أسباب المشهورة (2) وقد يدخُلُ بعضها فيما ذكرنا لكم آنفا. 5- الحال الخامسة: أن يغفر الله - عز وجل - له بعد أن صار تحت المشيئة. يعني يوم القيامة، لا يكون عنده حسنات، ولا يكون أتى بشيء؛ ولكن يغفر له الله - عز وجل - مِنَّةً منه وتَكَرُّماً. وهؤلاء هم الذين يقال عنهم تحت المشيئة؛ يعني إذا لم يتوبوا ولم يُقَم عليهم الحد أو طُهِّرُوا ولم يأتوا بشيءٍ من أسباب تكفير الذنب، فإنهم تحت المشيئة إن شاء الله - عز وجل - غفر لهم وإن شاء عذّبهم في النار ثم يخرجون لا يخلدون. وهنا شَرَطَ المؤلف -شرط الطحاوي- رحمه الله لهؤلاء الذين لا يَخلُدون في النار إذا دخلوها -يعني لمن لم يغفر الله - عز وجل - له؛ بل شاء أن يعذبه- شَرَطَ له شرطين نذكرهما في المسألة الخامسة.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني والثلاثين. (2) انظر (372) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 [المسألة الخامسة] : من لم يُغْفَرْ له ممن لم يتب فإنه يُشتَرَطُ لعدم خلوده في النار شرطان: @ الشرط الأول: أن يكون مات على التوحيد، وهذا كما هو شرطٌ عام في دخول الجنة، كذلك هو شرطٌ عام في الخروج من النار، كما ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان» (1) ، فالتوحيد أساس لعدم الخلود في النار، فكل موَحِدٍ لابد أن يخرج من النار. @ الشرط الثاني: أنه لا يَخْلُدُ في النار إذا لم يأتِ في ارتكابه لهذه الكبيرة بما يجعله مُسْتَحِلاً لها، فقد يكون من جهةٍ مُوَحِّداً في الأصل، في نطقه بالشهادتين، ويكون من جهة أخرى في هذه الكبيرة بعينها مُسْتَحِلاً لها، وهذا بقيد: 1 - أن تكون الكبيرة مما أُجْمِعَ على تحريمه. 2 - وكان المُسْتَحِلُّ لها غير متأول. وهذه قد تدخل مع شيء من النظر في الحال الأول لأنَّ حقيقة الموحد هو أنه غير مستحلٍ لشيءٍ من محارم الله - عز وجل -.   (1) سبق ذكره (436) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 [المسألة السادسة] : الخلود في النار نوعان: خلودٌ أمدي إلى أجل، وخلودٌ أبدي. - والخلود الأمدي: هو الذي تَوَعَّدَ الله - عز وجل - به أهل الكبائر. - والخلود الأبدي؛ المُؤَبد: هو الذي تَوَعَّدَ الله - عز وجل - به أهل الكفر والشرك. & فمن الأول: قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، فهذا خلود لكنه خلود أمدي؛ لأنَّ حقيقة الخلود في لغة العرب هو المُكث الطويل، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً ثُمَّ ينقضي، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً مؤبداً. & ومن الثاني: وهو الخلود الأبدي في النار للكفار قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] ، وكذلك قوله - عز وجل - في آخر سورة الأحزاب {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64-65] ، هذا خلود أبدي. ولذلك يُمَيَّزْ الخلود في القرآن بالأبدية في حق الكفار، وأما في حق الموحدين فإنه لا يكون معه كلمة (أبداً) . وهذا الذي بسببه ضَلَّتْ الخوارج والمعتزلة فإنهم رأوا (خالدين فيها) في حق المُرَابي وفي حق القاتل فظنوا أنَّ الخلود نوع واحد، والخلود نوعان. ومما يتصل بهذا أيضاً لفظ التحريم في القرآن، ولفظ عدم الدخول للجنة في القرآن، وكذلك عدم الدخول إلى النار. يعني لفظ التحريم (إنَّ الله حَرَّمَ الجنة) ، أو (حَرَّمَ الله عليه النار) ، أو (لا يدخل الجنةَ قاطع رحم) ، أو (لا يدخلون الجنةَ) ، ونحو ذلك. فهذه مما ينبغي تأمُلُهَا وهو أنَّ التحريم في القرآن والسنة ونفي الدخول نوعان: - تحريمٌ مؤبد. - وتحريمٌ إلى أمد. كما أنّ نفي الدخول: - نفْيُ دخولٍ مؤبد. - ونفي دخولٍ إلى أمد. فتَحَصَّلَ من هذا أنَّ الخلود في النار نوعان: خلود إلى أمد، وخلود أبدي. وأنَّ تحريم الجنة -كما جاء في بعض النصوص- أو تحريم النار وقد يكون تحريماً إلى أمد وقد يكون تحريماً إلى الأبد. وكذلك نفي الدخول (لا يدخل الجنة) (لا يدخل النار) هذا أيضا نفي دخولٍ مؤبد أو نفي دخولٍ مؤقت وهذا التفصيل هو الذي به يفترق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح مع الخوارج والمعتزلة وأهل الضلال بجميع أصنافهم فإنهم جعلوا الخلود واحداً وجعلوا التحريم واحداً وجعلوا نفي الدخول واحداً، والنصوص فيها هذا وهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 [المسألة السابعة] : في قوله (لَا يَخْلُدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) هذه الجملة معروفة أصلاً لأنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فهي من باب التأكيد ليست إشارة لخلاف ولا إشارة لشرط ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 [المسألة الثامنة] : في قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ) هنا توقف الشارح ابن أبي العز عند قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) وتَعَقَّبَ الطحاوي في لفظ (عَارِفِينَ) وأنَّ المعرفة ليست ممدوحة، فإنَّ بعض الكفار كانوا يعرفون، إبليس يعرف، وفرعون يعرف، وأنَّ في هذا القول وهو (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) فيه نوع مشاركة للجهمية ولغلاة المرجئة. وهذا التعقيب من الشارح رحمه الله في هذا الموطن فيه نظر؛ لأنَّ لفظ العارف أو المعرفة هذه ربما جاءت في النص ويُرادُ بها التوحيد والعلم بالشهادتين، فكأنَّ الطحاوي يقول: بعد أن لقوا الله عالمين بالشهادتين مؤمنين. وهذا جاء في حديث معاذ المشهور أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بعثه إلى اليمن قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم عرفوا ذلك فأعلمهم» (1) إلى آخره وهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح، فاستَعْمَلَ لفظ المعرفة ويُعنَى به العلم بالشهادتين. وتوجيه كلام الطحاوي إلى هذا الأصل أولى من تخطئته فيه؛ لأنَّ الأصل في كلام العلماء الإتباع إلا ما دَلَّ الدليل على خلافه.   (1) البخاري (7372) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 [المسألة التاسعة] : في قوله (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ - عز وجل - فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48، 116] ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) هذه الجملة الطويلة تقريرٌ لأصل عند أهل السنة والجماعة خالفوا به الخوارج والمعتزلة: أنَّ أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين تحت المشيئة. وقول الله - عز وجل - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني في الكبائر لمن مات غير تائبٍ منها. والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الآية وآية سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، وهنا {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأطْلَقَ في آية الزمر وهنا قال {لِمَنْ يَشَاءُ} ، وذلك أنَّ هذه الآية في حق غير التائبين، وأما آية الزمر ففي حق من تاب. فهو سبحانه لمن مات غير تاب إن شاء غفر وعفا وهذا فضل وإن شاء عَذَّبَ وهذا عدل منه سبحانه بعباده. ثم قوله (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ) هذا فيه ذِكْرُ سببين للخروج من النار في حق أهل الكبائر. وهذان السَّببان ضَلَّتْ فيها الفرق من المعتزلة والخوارج ومن شابههم: 1- السبب الأول: رحمة الله - عز وجل -، والرحمة قاعدة عامة في كل فَضْلٍ يحصل للعبد في الدنيا وفي الآخرة. فالخروج من النار برحمة الله، التخفيف من الحساب برحمة الله، دخول من دَخَلَ الجنة برحمة الله - عز وجل -، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يُدْخِلَ أحَدَكُم الجنة عملُه» (1) أو «لن يَدْخُلَ أحدكم الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، فهذا السبب عام، فكل من خَرَجَ هو برحمة الله، حتى فيمن شَفَعْ وشُفِّعْ فإنَّ العبد يخرج بعد شفاعة الشافعين برحمة الله - عز وجل -، وهذا يعني أنَّ قوله (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ) أنها نفهم منها أنه أراد شيئاً مستقلاً وهو أنه محض تفضِّلٍ منه - عز وجل -؛ عَذَّبَ ثم أخرجهم برحمته. وهذه الرحمة في هذا الموطن لها تفسيران: - الوجه الأول: أنَّ جَعْلْ الكبيرة مع ما فيها من عِظَمْ المبارزة لله - عز وجل - والتهاون بأمره ومخالفته وارتكاب نهيه، أنَّ هذه الكبيرة لم يحكم الله - عز وجل - على من ارتكبها أنَّهُ يُعَذَّبُ أبدًا. فكون العذاب إلى أمد رحمة، ثم انقضاء العذاب رحمة، ثم بعثهم إلى الجنة أيضا رحمة. - الوجه الثاني: أنّ الله - عز وجل - يُخرجُ من النار أيضاً أقواماً صاروا حِمَماً، يعني صاروا على لون السواد من شدة العذاب -والعياذ بالله-، ثم يُلْقَونَ في نهر الحياة فينبُتون فيه من جديد كما تنبت الحِبَّةُ في جانب الوادي وحميل السيل، وهذا أيضاً رحمةٌ من الله - عز وجل - في حق من ارتكب الكبيرة. 2- والسبب الثاني: شفاعة الشافعين من أهل طاعته. وشفاعة الشافعين: - أعلاها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر أن يخرجوا من النار. - ثم شفاعة الملائكة للمؤمنين الذين ارتكبوا الكبائر أن يخرجوا من النار. - ثم شفاعة الوالدين لأولادهما. - وهكذا شفاعة المُحِبْ لحبيبه من أهل الإيمان فيمن شاء الله - عز وجل - أن يُشَفِّعَهُ. وهذان الأمران: الرحمة على ما ذكرت، وشفاعة الشافعين أيضاً على هذا الوصف- وقد تقدم أظن بحث الشفاعة مُطولاً-، وهذان خالف فيهما أهل الفرق وخاصةً الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.   (1) سبق ذكره (378) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 [المسألة العاشرة] : قال (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ) هذه الجملة يُذَكِّرُ بها الطحاوي رحمه الله كُلَّ من أَنْعَمَ الله - عز وجل - عليه بنعمة أن يتذكَّرْ بأنه أُنْعِمَ عليه وتُفُضِّلَ عليه وأُحْسِنَ إليه ومَنَّ الله - عز وجل - عليه بهذه النعمة، فالذي عَصَى الله - عز وجل - وعفا الله عنه أو عَذَّبَهُ ثم أنجاه، هذا كله من آثار تولي الله - عز وجل - لأهل الإيمان. وهذا يدل على أنَّ وَلاية الله - عز وجل - لعباده المؤمنين تتبعض ليست كاملة، فإنَّ وَلايَة الله - عز وجل - -وهي محبته لعبده ومودته له ونُصرتُه له وتوفيقه ونحو ذلك- لا يكون جملةً واحدة؛ إما أن يأتي في المعيّن وإما أن يزول كقول الوعيدية، بل يجتمع في حق المعين في الدنيا والآخرة أنه محبوبٌ من جهة ومُبغَضٌ من جهة، مُتولاً من جهة ومخذول من جهة أخرى. وهذا هو الذي أراده في أنَّ أهل الكبائر في اعتقاد أهل السنة والجماعة لا يَخْلُون من نوع وَلايَةِ لله - عز وجل - لهم، فالله - عز وجل - (تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) يعني أهل توحيده، (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ) في الدنيا والآخرة (كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) ؛ يعني أهل الكفر الذين {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] ؛ بل لهم نصيب من وَلايَةِ الله - عز وجل -. فوَلايَةُ الله وهي محبَتُهُ ونُصرَتُهُ في حق المُعيَّن من أهل القبلة تتبعَّض، يعني تكون في فلان أعظم منها في فلان، فالمؤمن المًسَدَّد الذي كَمَّلَ إيمانه بحسب استطاعته له من وَلايَةِ الله - عز وجل - الولاية الكاملة التي تناسب مقامه في الإيمان، والذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً له نصيب من محبة الله - عز وجل - ووَلايَتِهِ ونُصرَتِهِ بحسب ما عنده من الإيمان. فإذاً في حق المُعَيَّنْ حتى من أهل الكبائر يجتمع فيه وَلَايَة من جهة وخُذلان من جهة أخرى، وهذا هو معتقد السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ثم دعا آخراً ب قوله (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ)   وهذه الجملة رُوِيَتْ في حديث لكن لا يصح، وهي دعاءٌ طيب. ومعنى (وَلِيَّ الْإِسْلَامِ) يعني ناصر الإسلام؛ لأنَّ الولي هو الناصر، والله - عز وجل - وَعَدَ بنصر دينه سبحانه وتعالى قال - عز وجل - {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] . وقال أيضاً - عز وجل - {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] ، ونحو ذلك كقوله في آخر الصّافات {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] . فقوله (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ) يعني اللهم يا ناصر الإسلام وأهله، فالله - عز وجل - وَعَدْ بنُصرة دينه ونصرة أهل الإسلام ووعده حق. فنسأل الله - عز وجل - الذي وَعَدَ بنصر الإسلام ونصر أهل الإسلام أن يثبتنا على هذا الدين حتى نلقاه، وأن يرينا نَصْرَ دينه وإعجاز كلمته وإعلاء رايته إنه سبحانه على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.   قال رحمه الله (وَنَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ) هذه الجملة يريد بها تقرير ما دلَّتْ عليه الأدلة العامة والخاصة في أنَّ الصلاة عند أهل الأثر، أتباع الصحابة رضوان الله عليهم تُقَامُ خلف كل إمام؛ إمام عام وهو ولي الأمر أو إمام خاص وهو إمام المسجد -سواءٌ أكانَ براً أو كان فاجراً- إذا كان من أهل التوحيد؛ يعني من أهل القبلة. وهذا يريد به مخالفة من ضلُّوا عن سبيل السلف فيمن لم يُصَلُّوا إلا خَلْفَ من يماثلهم في العقيدة أو يماثلهم في العمل أو يكون سليماً من الفجور، يعني لا يصلون إلا خلف من يعلمون بِرَّهُ وتقواه ونحو ذلك. وهذا صنيع الخوارج وكل أنواع المُتعصِّبَة من الضُلاَّل من أهل الفرق جميعاً. فكل فرقة من الفِرَقْ تُكَفِّرْ الفرقة الأخرى أو تُضَلِّلُها ولا يرون الصلاة خلف الآخرين، ولو كانوا مبتدعةً أو كانوا فجاراً، فإنهم يقولون: لا نصلي إلا خلف من نعلم دينه أو خلف من هو مثلنا في الاعتقاد. بل زاد الأمر حتى صار أصحاب المذاهب المتبوعة: الشافعية والحنفية المالكية لا يصلي أحدٌ منهم إلا خلف من كان على مثل مذهبه الفقهي، وهذا مخالف لهدي السلف الصالح في أعظم مُخَالَفَةْ في مسائل البِدَعْ والاعتقاد، ومسائل الفقه كذلك مخالفتها شنيعة جداً. وكذلك يرون الصلاة على كل ميتٍ من أهل القبلة ما دام أنَّه مات على التوحيد ولم يُعرَفْ بكفرٍ أو نفاق. وتحت هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 [المسألة الأولى] : الصّلاة خلف الإمام الأعظم أو الأمير الخاص هذه سُنَّةٌ ماضية دلَّ عليها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلَّ عليها عمل السلف الصالح. أما السّنة ققد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره أنه ذكر الأئمة والأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فقال «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم» (1) . وكان السلف إذا صلَّوا خلف من يعلمون فجوره فإنهم لا يفارقونه لأجل فجوره، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى خلف أمير الكوفة الفجر وصلاها أربعاً فقال ذاك الأمير: أزيدكم؟ يعني هل أنا نَقَصْتُ من الصلاة وكان في سُكرِهِ، فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة (2) . فلم يحمله فِعْلُ الكبيرة، شرب الخمر وما ظهر من أماراتها من تضييع عدد الركعات من أن لا يصلي خلفه لأنَّ مصلحة الاجتماع وعدم التفرق عن الأمير أعظم من هذه المصلحة الخاصة. كذلك لما أُمِّرَ الحجاج بن يوسف الثقفي على الحج في سنةٍ من السنوات من قِبَلِ خلفاء بني أمية وحَجَّ بالناس، فجاء يوم عرفة وكان ابن عمر هو مفتي الحج بأمر ولي الأمر، فجاء ابن عمر للحجاج وقال له: اخرج إلى الصلاة -لمَّا قَرُبَ الزوال- لأنَّ هذه هي السنة أن يصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً في أول وقت الظهر. فقال: أُخْرُجْ إلى الصلاة. فقال الحجاج: أفي هذه الساعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم أترغب عن السنة؟ فخرج فصلى الحجاج وصلى خلفه ابن عمر وصلى وراءه المسلمون. (3) وهذه أيضاً ثبتت عن أنس في صلاته خلف الحجاج، وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم وجمعٌ كثير من التابعين صَلَّوا خلف من يعلمون فجوره ويعلمون إسرافه بقتلٍ أو معاصٍ كبائر ونحو ذلك. والصلاة خلف هؤلاء سُنَّةٌ ماضية وعمل للسلف، لذلك صار من المتقرر في قواعد أهل السنة والجماعة أن يصلي المرء خلف الإمام على أي حالٍ كان ما دام أنه مسلم، ويصلي خلف الأمير -الأمير العام أمير البلد-، ويصلي خلف الأمير المُقَيَّدْ أيضاً -أمير السفر أو أمير الحج أو المسؤول أو نحو ذلك-؛ لأنَّ مصلحة الاجتماع مطلوبة والخلاف شر، وهذه صارت سُنَّةْ ماضية لأهل السنة والجماعة.   (1) البخاري (694) (2) الإستيعاب (1/492) (3) الموطأ (896) / النسائي (3009) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 [المسألة الثانية] : مما نَصَّ عليه السلف أيضاً في هذا الأصل أنَّ الصلاة نراها ونفعلُهَا خلف كل إمامٍ بر أو فاجرٍ أو أيضاً ممن نجهل عقيدته. وقد بَدَّعَ الأئمة الأربعة وأئمة السلف من قال لا أصلي خلف أحدْ إلا بعد أن أعلم عقيدته؛ بل يُصَلَّى خلف مستور الحال، ومن لا نعلم حاله ولا نبحث ولا نمتحن الناس في عقيدتهم قبل الصلاة، ونرى هل هو موافق أم ليس بموافق، هل هو مبتدع أم ليس بمبتدع. نرى ظاهر الأمر، وما دام أنَّ ظاهر الأمر السلامة فإننا نصلي خلفه دون بحث. فإذاً على هذا الأصل لا يجوز امتحان الناس في عقيدتهم عند إرادة الصلاة، ولا بَحْثْ أَمْرْ الباطن وإثارة الباطن؛ لأنَّ الأصل الظاهر. وهذا هو الذي نصَّ عليه الأئمة الأربعة وجماعة كثيرون من أئمة السلف، وقرَّرَهُ المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 [المسألة الثالثة] : قوله (خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) هذا إذا كان إماماً مُرَتَّبَاً، ولم يكن بوسع المرء أن يختار الأمثل. أما إذا كان في سَعَةْ في أن يختار من هو أمثل لصلاته وإمامته، فإنه يتعيَّنْ عليه أن يصلي خلف الأقرء ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) (1) ،. وهذا في حال الاختيار، يعني جماعة موجودون من يقدموا؟، تَقَدَمْ رجل يُعْرَفْ عنه فجور فيقال له تأخر؛ لأنه ليس بإمامٍ للمسلمين وليس أميراً وليس إماماً راتباً في هذا المسجد أو في هذا المكان، فلم يتقدم؟ فتقديمه والرضا بذلك هذا نوع قصور بل مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المسائل ما فيها حياء ولا فيها مجاملات، يعني إذا كان الأمر في الاختيار لا تجعل أحد يتقدم ممن هو معروف بفجور أو بدعة أو مخالفات أو كبائر أو نحو ذلك من المسائل؛ لأنَّ هذا الإمام هو بين يدي الله - عز وجل -، وهو مُقَدَّمْ الوفد بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدعو لهم ويَؤُمُهُم فلا يُجَامَل في هذه المسائل. مما يتصل بذلك أيضاً إذا كانت صلاة الجماعة، وإذا تَرَكَ هذا المسجد فإنه يَجِدُ مسجداً آخر فيه إمامٌ أسلم له في دينه وأَتْبَعْ، فإنه يذهب يصلي خلف الأسْلَمْ؛ لأنَّ هذا مما فيه السَّعَةْ؛ يعني لم يتعين عليه أو ليس ثَمَّ مفسدة أن يصلي خلف هذا، بخلاف ما إذا كان هذا الإمام أمير البلد أو ولي الأمر أو نحو ذلك فإن التخَلُّفَ عنه يثير مفسدة والأصل الجواز.   (1) مسلم (1564) / أبو داود (582) / النسائي (780) / الترمذي (235) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 [المسألة الرابعة] : أهل القبلة هم من يُوصَفُ بالإسلام، والذين يُوصفون بالإسلام أنواع: 1- النوع الأول: المؤمنون الصالحون. 2- النوع الثاني: مسلم له فجور بمعاصٍ مختلفة. 3 - النوع الثالث: مسلم له فجور بمعاصٍ خاصة يأتي بيانها. 4 - النوع الرابع: المنافق. @ أما القسم الأول: فالصلاة على من مات منهم قُرْبَةْ وحَقْ، في أنَّهُ إذا مات المسلم المُسَدَّدْ أن يُصَلَّى عليه وأن تُشهَدَ الصلاة عليه وأن تُشهَدَ جنازته لأنَّ هذا من حق المسلم على المسلم. @ وأما القسم الثاني: أن تكون الصلاة على من له فجور عام؛ يعني المعاصي المختلفة، هو ممن خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيئا وعُرِفَ بذلك في معاصٍ مشهورة عنه، فهذا يُصَلَّى أيضاً عليه بإطلاق، ولا يُشرَعُ التخلف عن الصلاة عليه إذا كان غير داعٍ ومُعْلِنٍ لهذا الفجور بدعوة غيره إليه. @ أما القسم الثالث: من أهل الإسلام هو من له فجور بكبائر خاصَّةْ، وهي التي جاء الدليل بأن يَتْرُكَ طائفة الصلاة عليه، مثل الغَالْ، ومثل من قَتَلَ نفسه، وأشباه هذه الذنوب، ومن أقيم عليه الحد -حد القتل- وأشباه ذلك، فهذا يُصَلِي عليه بعض المسلمين ويترك الصلاة عليه أهل الشَّارَةْ والعلم، كما جاءت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. @ وأما القسم الرابع: أهل النفاق، والنفاق قسمان: 1- القسم الأول: نفاق يعلمه كل أحد، وهذا لا يكون في المسلمين لأنه يكون زنديقاً؛ يعني مُعْلِنْ الاستهزاء بالله - عز وجل - في كتبه أو في قصائده أو نحو ذلك، مُعْلِنْ عدم الإيمان بالقرآن ولا بالمعاد وأشباه ذلك فهذه زَنْدَقَةٌ ظاهرة. ب - والقسم الثاني نفاقٌ خَفِي يَعْلَمُهُ البعض ولا يَعْلَمُهُ البعض. & أما القسم الأول وهو الظاهر فهو لا يجوز الصلاة على من كان زنديقاً أو منافقاً وذلك لقول الله - عز وجل - في المنافقين {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] ، إلى آخر الآية، وقال - عز وجل - أيضا لنبيه {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] ، فمن كان معلوماً ظاهراً النفاق منه -الزندقة، محاربة الدين والزندقة الظاهرة، الكفر الظاهر مما يكون معه المرء منافقاً خالص النفاق- فهذا لا يُصَلَّى عليه فيجب على المسلمين أن لا يُصَلُّوا عليه؛ لأنه حينئذ لا يكون من أهل القبلة بالوصف العام. & وأما القسم الثاني وهو من نفاقه مُلْتَبِسْ، هل هو منافق أم ليس بمنافق؟ فهذا من عَلِمَ نفاقه بيقين له أن لا يصلي عليه، إذا حَضَرَ في المسجد أو نحو ذلك، فإنه إذا علم نفاقه بيقين فإنه لا يُصَلِّيْ عليه ويترك البقية يصلون لأنَّ الصلاة عليه هي باعتبار الإسلام الظاهر ولم يظهر منه ما يخالف هذا الأصل. ويدل على ذلك أنَّ عمر رضي الله عنه كان لا يصلي على من لا يعلم حاله إلا إذا صَلَّى عليه حذيفة؛ لأنَّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين، فكان عمر بن الخطاب الخليفة الرّاشد ينظر هل يُصَلِّي عليه حذيفة أم لا يصلي عليه؟ فإن صَلَّى عليه حذيفة أو توجه للصلاة عليه أو لم يحكم عليه فإنه يصلي عليه. وهذا يدل على التفريق في هذه المسائل، ما بين ما يُعْلَمُ من حال المنافق وما لا يُعْلَمُ. فمن عَلِمَ حاله لم يُصَلَّ عليه ومن لم يعلم فإنه يُصَلِّي عليه، ولا يَلْزَمُ من عَلِمْ أن يُعْلِنَ وينهى الآخرين عن الصلاة عليه؛ لأنَّ الأصل هو ظاهر الإسلام. وقد قرَّر الأئمة من أهل السنة أنَّ المنافق له أحكام المسلمين؛ لأنَّ له حكم الإسلام الظاهر فيرث ويورث ويُصَلِّيْ عليه من لا يعلم حاله ونحو ذلك مما هو من آثار الإسلام الظاهر (1)   (1) انتهى الشريط الثاني والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 : [[الشريط الثالث والثلاثون]] : الأسئلة س1/ فإن لم يكن مرتكب الكبيرة من أهل الوعيد، إلا في حالات ذكرتم فيها بعض الذنوب ... وقال الله - عز وجل - {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، وما وجه ذلك؟ ج/ وجهها الإطلاق؛ يعني من تصدَّقَ بِقَتْلِ القاتل فهو كفَّارة له، والقتل كبيرة فكفارته كونها تُكَفِّرْ الصغائر غير مناسب، تُكَفِّرْ ما يقابلها من كبيرة، ولهذا قال العلماء في تفسير {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} يعني فيما يناسب عِظَمْ العمل، ذاك قتل والآن يستحق أن يُقْتَل وأن يُسْفَكَ دمه فهو تصدق به، تصدق بتلك النفس يعني باستحقاقه القتل {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] ، واضح. س/ [ ..... ] كفَّارة لمن قتل وكفَّارة للمتصدّق، الكفَّارة هنا هل هي للصغائر، الصغائر تُكَفِّرها الصلاة إلى الصلاة، لكن كفارة لما يناسب؛ لأنَّ عِظَمْ الذنب يقابله عِظَمْ التكفير. س2/ الصلوات الخمس والجمعة ورمضان هل يكفر الله سبحانه بها الكبائر والصغائر أم لا يكفر إلا الصغائر، أما الكبائر فلا بد لها من توبة؛ لأنَّ من أهل العلم من يقول بذلك؟ ج/ الحديث نصَّ على أنَّ الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إلى رمضان أنها مُكفرات لما بينهما ما اجتُنبت الكبائر، فتُكفر الصغائر، الصلاة في الجماعة إلى الصلاة في الجماعة تُكفر ما بينهما من الصغائر؛ لكن الكبائر لابد فيها من توبة. وأما من قال أنَّ هذه الحسنات تُكفر الصغائر والكبائر كابن حزم وغيره، وهذا قول باطل وردَّ عليه ابن عبد البر في التمهيد رداً جيّداً مطولاً. س/ عدم الإصرار على الكبيرة ألا ... ؟ لا، لأنه لو كانت الكبيرة تُكفَّر بغير التوبة ما يبقى أحد من أهل القبلة يلحقه وعيد، ولهذا قال ابن رجب رحمه الله في معرض كلامٍ له (ومن قال إن الكبائر تُكفَّر بمثل هذه الأمور فهذا أشبه بقول المرجئة؛ لأنَّ المؤمن يصلي ويصوم ويحج ويعتمر إلى آخره) ، معناه أنَّ كل هذه الأفعال تكفر الكبائر، يعني أنَّ أهل الإسلام سيموتون ولا .... ؛ بمعنى أنه لا يلحق مسلم وعيد، وهذا أشبه بقول أهل الإرجاء. فالصحيح أنَّ الأحاديث التي فيها تكفير السيئات بفعل الطاعات أنَّ هذا للسيئات الصغائر. في بعض الأعمال خلاف، بعض الأعمال مثل الحج قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» (1) يعني هذا التمثيل يدخل فيه الصغائر والكبائر ولذلك فيه طائفة من أهل العلم خصُّوا الحج، قالوا الحج غير العمرة إلى العمرة «حج فلم يرفث ولم يفسق» هذا يكفر الكبائر والصغائر، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحج بالجهاد، والجهاد يمحو الله - عز وجل - به السيئات لأنها حسنة عظيمة، وهذه فيها خلاف؛ لكن القاعدة أنَّ الحسنات من الصلاة والصيام والجمعة والعمرة إلى العمرة أنها مُكَفِّرَة للصغائر دون الكبائر بشرط اجتناب الكبائر؛ لقوله {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] . فجعل شرط التكفير اجتناب الكبائر. ثم هنا اختلف العلماء هل ترك الكبيرة وحده تُكفَّر به السيئات أم لابد أن يترك الكبيرة مع عمل صالح؛ يعني ترك مع فعل، أم الترك وحده مُكَفِّر؟ على قولين: والظاهر من قول المحقّقين أنَّ ترك الكبيرة لا تُكَفَّر به السيئات وحده بل لابد من فعل. يعني ترك الكبيرة مع الصلاة إلى الصلاة، ترك الكبيرة مع عمرة إلى عمرة، ترك الكبيرة مع رمضان إلى رمضان وهكذا، وهذا هو الذي تجتمع به الأدلة. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد. س3/ قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في قوله: الشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة، ما المقصود؟ ج/ يعني أنَّ الله - عز وجل - أثبت شفاعة ونفى شفاعة. نفى شفاعة فقال {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] ، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] ، هذه شفاعة منفية. وهناك شفاعة مُثبَتَة، وهي في قوله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] , {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، فأثبت شفاعة ونفى شفاعة. فإذاً الشفاعة المنفية هي عن أهل الكفر والشرك. والشفاعة المثبتة بشرطين الإذن والرضا، هذا مراد الشيخ.   (1) سبق ذكره (438) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الأسئلة: س1/ كيف نجيب على الإشكال في الأحاديث النبوية التي تذكر دخول الجنة والنار بالفعل الماضي، مثل حديث «عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت بها النار» (1) ، هل المقصود عذاب القبر أم ماذا؟ ج/ ما ذُكِرَ من العذاب لمن أخبر الله - عز وجل - أنه يُعَذَّب في النار أو يُعَذَّب مطلقاً أو أنه عُذِّب، هذا محمول عند أهل السنة والجماعة على حقيقته، فإنَّ الجنة والنار مخلوقتان الآن لا تفنيان ولا تبيدان. فمن شاء الله - عز وجل - أن يعذبه في النار من أهل القبلة أو من استحق النار من أهل الشرك والضلال فهو إذا مات في النار وهو في قبره يكون مُعَذباً في النار، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، وقد قال - عز وجل - في سورة غافر لما ذَكَرَ عذاب آل فرعون قال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فدَلَّت الآية على أنَّ عذاب أولئك في النار حاصل في زمنين: الآن وبعد قيام الساعة. وكلها على حقيقتها يعذبون في النار؛ لأنَّ الواجب الأخذ بالظاهر، وهذه أمور غيبية، والنار مخلوقة والجنة مخلوقة والنعيم في الجنة حاصل الآن والعذاب في النار حاصل الآن. لكن ينبغي أن يُفهَمَ أنَّ العذاب في البرزخ يختلف عن العذاب في الآخرة: وهو أنَّ العذاب في البرزخ يقع على الروح والبدن تَبَعْ، كما أنَّ النعيم في البرزخ للروح والبدن تَبَعْ. وأما بعد قيام الساعة فإنَّ النعيم والعذاب للإنسان بروحه وبدنه جميعا في أكمل تعلقٍ بينهما. ويوضِّح ذلك أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ نَسَمَةْ المؤمن وروح المؤمن أنها في الجنة، وأنَّ روح الكافر يؤخذ بها في النار، فالعذاب والنعيم في البرزخ يقعان على الروح، ليس الروح فقط ولكن الروح والبدن تبع، بعكس الحياة الدنيا، الحياة الدنيا التنعم أو التعذُّب يكون على البدن والروح أيضاً تتنعم وتتعذب لكن بالتّبع، وبعد الموت عكس حالة الحياة الدنيا هي على الروح والبدن تبعٌ لها، وهذا هو ما قرَّرَهُ أئمة أهل الإسلام. وهذا خلاف قول من يقول أنَّ النعيم يكون للروح والعذاب على الروح فقط وأنَّ البدن في البرزخ لا يُعَذَّبْ، هذا غلط كبير ولا ينبغي أن يُنْسَبَ هذا إلى أحد من أئمة الإسلام؛ بل هو على الروح والبدن جميعاً؛ وذلك أنَّ الأدلة جاء فيها أنَّ الميت يُعَذب، وأنَّ الإنسان يُعَذّب، والميت والإنسان اسم لبدنه وروحه معاً، فمن ادعى الانفصال فلابد له من إقامة دليل على ذلك، هذا من جهة في جواب السؤال. والجهة الأخرى هو أنَّ ما جاء في الكتاب أو السنة من التعبير عن الشيء بالفعل الماضي له أنحاء: الأولى: أن يُعَبَّر أو يوصَفْ الشيء الذي لم يتحقق، لم يأتِ بعد، بالفعل الماضي، أو الذي يكون دائم التحقق بالفعل الماضي. مثال الأول {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} {أَتَى} هذا فعل ماضٍ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} يعني بقيام الساعة {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ؛ يعني كأنَّه من شدة التأكيد على حصوله وأنه يقيناً حاصل لا محالة، ووقوعه لا شك فيه ولا ريب، كأنه قد وقع وانقضى، والناس يرون ما وقع وانقضى يقيناً؛ لأنهم شاهدو، حصل أمس وشاهده الناس وانتهى، فيُعَبَّرُ عما يُسْتَقْبَلْ بالماضي إذا كان وجوده وتحصيله يقيناً بلا ريبٍ ولا شك، وكأنه قد وقع وانقضى في حصول اليقين لمن علم به. والوجهة الثانية: أو الحال الثانية أن يكون الشيء منه ما وقع ومنه ما يقع الآن ومنه ما يقع في المستقبل، وهذا وصْفُهُ بالفعل الماضي، التعبير عنه بالفعل الماضي لتَحَقُقِ الاتصاف به وللتأكيد على الاتصاف به، وهذا ما يُحمَلُ عليه مثل قول الله - عز وجل - {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] ، {كَانَ اللَّهُ} هذا فعل ماضي، الله - عز وجل - سميع بصير صفة ذاتية في الماضي والحال والاستقبال، هذا للتأكيد على تحقق هذا الاتصاف وتحقق آثاره، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف:45] ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47، الأحزاب:37] ، وهكذا في أمثالها مما يدل على هذا المعنى. س2/ هل الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن جميعها من كلام الله وكُتِبَتْ مثل ما كُتِبَ القرآن الكريم؟ أم أنها لم تُكْتَبْ حتى تُوُفِّيَ الرسل الذين نزلت عليهم وكتبها من بعدهم؟   (1) البخاري (3318) / مسلم (6845) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ج/ لا أعلم شيئا يدل على تعميم أنَّ الكتب السماوية جميعا كُتِبَتْ، أو أنها نُقِلَتْ بعد ذلك؛ لكن الكتب السماوية بمعنى الكتب التي أنزلها الله - عز وجل - هي كلام الرب أأوحاه إلى الرسول البشري بواسطة جبريل عليه السلام، ومنها ما اختصه الله - عز وجل - بأنْ كتبه بيده كصحف موسى عليه السلام قال - عز وجل - {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] ، فالله - عز وجل - كتبها بيده الكريمة العظيمة تبارك ربنا وتعالى وتقدس. فالأصل أنَّ الكتب السماوية كلام الله - عز وجل -، وأنها كُتِبَتْ، وهل هذا يعُمُّ كل كتاب أم يُستثنى منه بعضها تحتاج المسألة إلى بحث وتحقيق. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.   قال رحمه الله (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) يريد العلامة الطحاوي رحمه الله أنّ أهل السنة والجماعة يتَّبِعُونَ في الأمور الغيبية ما دلَّ عليه الدليل من كتاب الله - عز وجل - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يَقْفُون ما ليس لهم به علم ولا يقولون على الله - عز وجل - ما لا يعلمون امتثالاً لقوله سبحانه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وامتثالاً لقوله - عز وجل - {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، فَحَرَّمَ الله - عز وجل - القول عليه بلا علم، ومن القول عليه بلا علم أن يُشهَدَ في أمرٍ غيبي أنَّ الله - عز وجل - لا يغفر لفلان، أو أنَّ فلاناً من أهل الجنة؛ يعني قد غُفِرَ له، أو أنه من أهل النار المُعَيَّن لأنه لم يشأ الله أن يغفر له. فأصل هذه المسألة وهي ما قَرَّرَهُ من أننا لا نُنَزِّلُ أَحَداً من أهل القبلة جنةً ولا ناراً، هذه لأجل أنَّ هذا الأمر غيبي والله - عز وجل - حًكمُهُ في أهل القبلة قد يُعذِّبْ وقد يغفر؛ يغفرُ لمن يشاء ويعذبُ من يشاء، فمن نزَّلَ جنةً أو ناراً أحداً من أهل القبلة ممن لم يدل الدليل على أنه من أهل الجنة أو من أهل النار فقد قال على الله بلا علم وتجرأ على الرب جل جلاله. فالواجب اتِّبَاعْ النص وتقديس الرب - عز وجل - وتعظيم صفات الرب جل جلاله، وأن لا يُشْهَدَ على مُعين من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة جزماً أو من أهل النار جزماً إلا من أخبر الوحي بأنه في هذا الفريق أو في هذا الفريق. وهذا نَصَّ عليه خِلافاً لأهل الضلال في مسائل الأسماء والأحكام من المعتزلة والخوارج قبلهم ومَنْ يرون السيف ونحو ذلك ممن يشهدون لمن شاءوا بالجنة ولمن شاءوا بالنار؛ بل قد شَهِدُوا على بعض الصحابة بأنهم من أهل النار وعلى بعضهم من أنهم من أهل الجنة بمحض أهوائهم وآرائهم. وأهل السنة يخالفون الفِرقْ الضالة في هذا الباب ويتَّبِعُون ما دلّ عليه الدليل ويُعظمون الله - عز وجل -، ولا يتجاسرون على الغيب، ويُعَظمون صفة الرب سبحانه بأنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. وتحت هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 [المسألة الأولى] : أنَّ هذا الحكم ذَكَرَ أنه مختصٌ بأهل القبلة فقال (وَلَا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ) يعني من أهل القبلة (جَنَّةً وَلَا نَارًا) ؛ لأنَّ أهل القبلة ظاهرهم الإسلام والله - عز وجل - قد وَعَدَ المسلم بالجنة، وقد تَوَعَّدَ من عصاه من أهل الإسلام بالنار. فهذا الحكم مختصٌ بأهل القبلة، فمن مات من أهل الإسلام لا يُشْهَدُ عليه بأنه من أهل النار ولا يُشْهَدُ له بالجنة، إلاّ من شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. وإذا تبيَّنَ هذا فلا يدخل في كلامه من مات على الكفر وقد كان في حياته كافراً؛ كان طول حياته نصرانياً، أو كان طول حياته يهودياً، أو كان طول حياته وثنياً أو مشركاً الشرك الأكبر المعروف؛ يعني من أهل عبادة الأوثان أو ممن لا دين له. فهؤلاء لا يدخلون في هذه العقيدة؛ بل يُشهَدُ على من مات منهم بأنه من أهل النار؛ لأنه مات على الكفر وهو الأصل. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حيثما مررت بقبر كفار فبشره بالنار» (1) وهذا عموم وهو الموافق للأصل، وهو أنَّ من مات على الكفر نحكم عليه بالظاهر، ولا نقول قد يكون مات على الإسلام؛ لأنَّ هذا خلاف الأصل. والقواعد المُقَرَّرَةْ تقضي باتباع واستصحاب الأصل. لهذا المسلم نستصْحِبُ أصلَه -كما سيأتي- فلا نشهد عليه بشركٍ ولا كفرٍ ولا نفاق إذا مات، كذلك نستصحب الأصل في من مات على الكفر من النصارى واليهود والوثنيين وأشباه هؤلاء. ومِنْ أهل العلم من أدخَلَ الحكم على المُعَيَّنْ الذي ورد في هذه الجملة الكفار بأنواعهم فقال: حتى الكافر لا نشهد عليه إذا مات لأننا لا ندري لعله أسلم قبل ذلك. وهذا خلاف الصواب وخلاف ما قرَّرَهُ أهل التوحيد وأئمة الإسلام في عقائدهم، فإنَّ كلامهم كان مُقَيداً بمن مات من أهل القبلة، أما من لم يكن من أهل القبلة فلا يدخل في هذا الكلام.   (1) سبق ذكره (105) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 [المسألة الثانية] : ذكرنا لك أنَّ أصل هذه العقيدة تعظيم صفات الله - عز وجل - وعدم الخوض في الأمور الغيبية، والعلماء في إعمالِ هذا الأصل في هذه المسألة لهم أقوال: 1- القول الأول: من قال: لا أشهد لأحدٍ ولا على أحدٍ مُطلقاً، وإنما نشهد للوصف للجنس دون المعين، فنقول: المؤمن في الجنة، والظالم في النار، والمؤمن المسدد في الجنة، ومرتكب الكبيرة متوَعَدْ بالنار، ونحو ذلك من ذكر الجنس والنوع دون ذكر المعين، إعمالاً منهم للأصل الذي ذكرنا، وأنَّ الحكم بالخاتمة أمرٌ غيبي لا ندري هل حصل الختام بالتوحيد أم لا. 2- القول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم وأئمة أهل الحديث والسنة والأثر أنَّ هذه المسألة غيبية فمجالها ومدارها على قاعدة الأمور الغيبية أنّه يُقْتَفَى فيها الدليل دون تجاوز للقرآن والحديث، فلا يُنَزَّلُ أحد جنة ولا نار إلا من أنزله الله - عز وجل - الجنة أو أنزله النار بدليلٍ من الكتاب أو من السنة، وسواءٌ في هذا النوع الوصف الجنس أو المعين. فجاءت الشهادة لأبي بكر رضي الله عنه بأنه من أهل الجنة في القرآن، وجاءت الشهادة لأهل البيت بأنهم مُطَهَّرُون أيضا بالقرآن منهم علي رضي الله عنه وفاطمة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله - عز وجل - فيهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ونحو ذلك، وجاء في السنة الشهادة على مُعَيَّنِينَ من الصحابة بأنهم في الجنة كما في العشرة المبشرين بالجنة: الخلفاء الأربعة، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاس، وسعيد بن زيد إلى آخره، وكذلك الشهادة لبلال رضي الله عنه، ونحو ذلك ممن جاء في الحديث أنه من أهل الجنة، وكذلك من شُهِدَ عليه بالنار ممن هو منتسب إلى القبلة مِما جاء في السنة فإننا نشهد عليه بالنار. وهذا القول هو المراد بكلام الطحاوي هذا وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة. 3- القول الثالث: فهو مثل القول الثاني؛ لكنه زاد عليه بأنَّ الشهادة المستفيضة للإنسان من أهل القبلة بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل الوعيد فإنه يُشهَدُ للمعين أو يُشهَدُ عليه بالشهادة المستفيضة. وهذا جاء رواية عن الإمام أحمد وعن غيره من الأئمة واختارها الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمهم الله تعالى، وقال (دلت السنة على هذا الأصل فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثْنِيَ عليها خيراً فقال «وجبت» ، ثم مُرَّ بجنازة أخرى فأثنى الصحابة عليها شراَ، فقال «وجبت» ، قالوا يا رسول الله ما وجبت؟ قال «تلك أثنيتم عليها خيرا فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه» (1) ، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال «بالثناء الحسن وبالثناء السيئ» (2) . فيدخل في هذا القول المعرُوفون الذين شُهِدَ لهم بقدم الصدق من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من شُهِدَ له من أئمة الإسلام بهذا المقام كالإمام مالك مثلاً والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم ونحوهم من أئمة الإسلام. * والأظهر هو القول الثاني وهو قول الجمهور؛ لأنّ الشهادة بالاستفاضة هذه الدليل يتقاصر على أنْ يُشهَدَ له مطلقاً، ولكن يكون الرجاء فيه أعظم، ولهذا في الحديث الأول قال «وجبت» ، فدلَّ على أنَّ شهادتهم له في مقام الشفاعة له لأنه قال «أثنيتم عليها خيرا فوجبت» فدل على أنَّ الوجوب له بالجنة مترتب على الثناء عليه بالخير، وليس الثناء عليه بالخير نتيجة وإنما هو سبب لوجوب الجنة، فكأنه في مقام الشفاعة له والدعاء له، وليس هذا مطلقاً. والحديث الثاني أيضا يُحْمَلْ على هذا بأنه في مقام الشفاعة والدعاء له، بالإضافة إلى أنّ القول الأول هو قول الأكثر من أئمة أهل الإسلام.   (1) البخاري (1367) / مسلم (2243) (2) ابن ماجه (4221) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 [المسألة الثالثة] : أننا إذا لم نشهد لأحدٍ أو على أحدٍ فإنَّ المقصود المُعَيَّنْ، أما الجنس والنوع فنشهد للجنس والنوع، فنشهد على الظالم بالنار دون تنزيله على معين، ونشهد للمطيع بالجنة دون تنزيله على معين. والمقصود إذا مات على ذلك، إذا مات المطيع على الطاعة، وإذا مات الظالم على الظلم؛ لأنَّ المسألة مبنية على ما يُختَمُ للعبد، وقد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يَكُونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (1) ، وهذا يدل على أنَّ الأعمال بالسوابق -سوابق الكتاب- وبالخواتيم، وهذا يمنع من الشهادة المُعَيَّنَة لأنَّ الأعمال بالسوابق والخواتيم، والله - عز وجل - خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا غيبي، وخَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهذا أمر غيبي. فإذاً الشهادة على الجنس أو للجنس بالجنة أو على نوع بالنار هذا المقصود من مات على ذلك، من مات على الطاعة فإننا نشهد لجنس الميتين على الطاعة، ولجنس من مات على الكبيرة بأنَّهُ مُتوَعَد بالعذاب قد يغفر الله - عز وجل - له وقد يُؤاخذه بذنوبه.   (1) البخاري (3208) / مسلم (6893) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 [المسألة الرابعة] : أننا مع ذلك كله فإننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. أهل السنة أهل رحمة لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بهذه الأمة، فيرِثُ أهل السنة الرحمة من صفاته صلى الله عليه وسلم، فيرحمون هذه الأمة، ومن رحمتهم لها أنهم يرجون لأهل الإحسان ويخافون على أهل الإساءة. ورجاؤُهُم لأهل الإحسان يحمِلُهُم على أن يَدْعُو لهم وأن يُصَلُّوا عليهم إذا ماتوا؛ لأنَّ حق المسلم على مسلم ست ومنها أنه إذا مات يُصَلِّي عليه ويدعو له. وتَحْمِلُهُم الرحمة للمسيء أنه إذا مات على الإساءة أنه يُخافُ عليه الإساءة، فيُسْأَلْ الرب - عز وجل - أن يغفر له ذنبه وأن يتجاوز عن خطيئته وأن يبارك له في قليل عمله، ونحو ذلك من آثار الرحمة. ولهذا يدعو المسلم لجميع المسلمين لمن كان منهم صالحاً ومن كان منهم غير صالح؛ بل من الدعاء الذي تداوله أهل السنة والعلماء أن يُسأَلْ الرب - عز وجل - أن يُشَفَّعَ المحسن في المسيء، وأن يُوهَبْ المسيء للمحسن، مثل ما في دعاء القنوت الذي يتداوله الأكثرون: وهب المسيئين منا للمحسنين، (هب المسيئين) يعني من كان مُسيئَاً عاصياً عنده ذنوب هبه للمحسن فَشَفِّعْ المُحْسِنَ فيه في هذا المقام بالدعاء. وهذا كله من آثار الرحمة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، فإنه كان بهذه الأمة رحيماً؛ بل كان رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم. فإذاً نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولرجائنا للمحسن آثار، ولخوفنا على المسيء آثار. فرجاؤنا للمحسن يحمِلُنَا على توليه وكثرة الدعاء له ونُصْرَتِهِ واقتفاء أثره. وخوفنا على المسيء يحملنا على الدعاء له والاستغفار ونحو ذلك، فكان أسيراً للشيطان، ونسأل الله - عز وجل - له المغفرة الرضوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 [المسألة الخامسة] : (1) وهي مسألة الشهادة بما يدل على الشهادة بالجنة، مثل أن يقال فلان شهيد، إذا كان شهيداً فالله - عز وجل - ذكر ونَصَّ على أن الشهداء بالجنة. وكذلك الشهادة له بالمغفرة، المغفور له، المرحوم، النفس المطمئنة، ونحو ذلك، مما هو من أسباب دخول الجنة. فإذا شُهِدَ له بهذه الأوصاف بأنه غُفِرَ له فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، فإذا شُهِدَ له بأنه مرحوم فقد شُهِدَ له بأمر غيبي، إذا شُهِدَ له بأن نفسه مطمئنة {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:28-30] ، فقد شُهِدَ له بالجنة. فإذاً الشهادة للمُعَيَّنِ بالجنة ممنوعة، وكذلك بما يَدُلُّ على أنه يُشهَدُ له بالجنة، مثل هذه الأسباب ونحوها. من ذلك الشهادة له بأنه شهيد وقد جاء في صحيح البخاري بحث هذه المسألة، وبَوَّبَ عليها هل يقال فلان شهيد؟ وذكَرْ أثر عمر (إنكم تقولون لمن مات في معارككم فلانٌ شهيد فلانٌ شهيد، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله، والله أعلم بمن يقتل في سبيله) (2) . لأنه هل كان يُقَاتِلُ يريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ هذا أمر غيبي فلذلك لا تجوز الشهادة لمعين؛ لكن نرجوا له، من مات في أرض المعركة نرجوا له الشهادة، نقول نرجوا له أن يكون شهيداً وهذا تبع للأصل أننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. نسأل الله سبحانه لنا جميعاً أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن يجزل لنا الأجر على قليل عملنا، وأن يغفر لنا كثرة الذنب والخطايا فإنه سبحانه جوادٌ كريم، اللهم فأجب واغفر جماً إنك على كل شيء قدير.   (1) هذه المسألة لم يذكرها الشيخ وإنما وردت في سؤال فقال الشيخ هذه كان ينبغي أن نذكرها في الشرح فتُضَافْ عليه. (2) سبق ذكره (211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 قال رحمه الله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.)   هذه الجملة مثل الأولى في تقرير هذه العقيدة المباركة وهي أنَّ الأمر ما دام تَبَعْ للخاتمة، والخاتمة مُغَيَّبَة وهذا أمر غيبي فلا نَقْفُ ما ليس لنا به علم، ولا نتجَرَأْ على الله - عز وجل - في وصف شيءٍ والحكم يَتَعَلَّقُ به والحكم على عباده بدون دليل. لهذا نعتبر الظاهر من كل أحد، فمن كان ظاهره السلامة في الدنيا ومات على ذلك، فإننا نحْكُمُ بالظاهر، والله يتولى السرائر، ومن كان ظاهره الكفر أو ظاهره الشرك أو ظاهره النفاق فإننا نحكم بالظاهر؛ ولأنه ظهر منه ذلك وأمره إلى الله - عز وجل -. وفيها بعض المسائل (1) :   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث والثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 [المسألة الأولى] : قوله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ) يعني على المُعَيَّن من أهل القبلة، وهذا يدلُّ على أنَّ المُعَيَّن من أهل القبلة قد يجتمع فيه إيمان وكفر، ويجتمع فيه إسلام وشرك، ويجتمع فيه طاعة وإسلام وإيمان ونفاق، وهذا هو المُتَقَرِّرْ عند الأئمة تَبَعَاً لما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ المُعَين قد يجتمع فيه الإيمان فيكون مؤمناً ويكون عنده بعض خصال الكفر؛ يعني من الكبائر مما لا يُخرجه من الإيمان. فمثلا قتال المسلم كفر وسبابه فسوق كما ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (1) ، فسِبَابُ المسلم فسوق وقتاله كفر فيجتمع في المسلم فسوقٌ وطاعة وكفرٌ وإيمان، كذلك قال صلى الله عليه وسلم «ثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت» (2) ونحو ذلك من خصال الكافرين، فلا يعني وجود بعض خصال الكُفْرْ في المُعين أن يُحْكَمْ عليه بالكفر، الحكم بغير ما أنزل الله في حق القاضي أو في حق المُعَين إذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله وهو لا يعتقد جواز ذلك أو يعلَمْ أنَّ بحكمه عاص، يعني حَكَمَ وهو يعلم أنه بحكمه عاصٍ ومُخطِئ فإنه اجتمع فيه كفر وطاعة. فلا يُخرَج أحد من الإيمان بخصلة من خصال الكفر وُجِدَتْ فيه، أو خصلة من خصال الشرك وُجِدَتْ فيه، أو خصلة من خصال النفاق وُجِدَتْ فيه، فإن المؤمن يجتمع فيه هذا وهذا. ولهذا قال (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلَا بِشِرْكٍ وَلَا بِنِفَاقٍ) إذا كان مُسْتَسِرَّاً بذلك (مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) ، فإن ظَهَرْ تَشْهَدُ عليه بقدر ما ظَهَرْ، والشهادة عليه جوازاً لا وجوباً كما سيأتي في المسألة التي بعدها. كذلك الشرك يكون مؤمن ويكون عنده شرك أصغر، يكون عنده حلف بغير الله مما هو من الشرك الأصغر، أو تعليق التمائم واعتقاد أنها أسباب، أو نسبة النِعَمْ إلى غير الله - عز وجل - أو نحو ذلك من أمور الشرك الأصغر أو الشرك الخفي من يسير الرياء ونحوه، فيجتمع في المؤمن هذا وهذا. وكذلك بعض خصال النفاق يكون المؤمن مطيعاً مسلماً؛ لكن عنده خصال النفاق إذا وعد أخلف، وإذا حدَّثَ كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ونحو ذلك من خصال النفاق.   (1) البخاري (6044) / مسلم (230) (2) مسلم (236) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 [المسألة الثانية] : أنَّ قوله (وَلَا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ) يعني أنَّه إذا ظَهَرَ منهم فإننا قد نشهد عليهم، يعني يجوز لنا الشهادة إذا ظهر منهم شيء من ذلك، وجواز الشهادة عليهم منوطٌ بالمصلحة؛ لأنها من باب التعزير، فقد يجوز أن يُشْهَدَ على مُعَيَّنْ ببعض خصاله؛ خصال الكبائر التي فيه أو الشرك الأصغر الذي فيه أو بعض خصال النفاق الذي فيه إذا كانت الشهادة عليه بذلك عَلَنَاً فيها مصلحة مُتَعَدِّيَة، أما إذا لم يكن فيها مصلحة، فإنَّ الأصل على المسلم أنه لا يُشْهَدُ عليه بل يُسْتَرُ عليه. وهذا يدل على أنَّ الأصل في المؤمن ما دام اسم الإيمان باقياً عليه الأصل فيه أن يكون على اسم الإسلام وعلى اسم الإيمان وعلى اسم الطاعة، فلا يُنْتَقَلْ عن الأصل في الثناء عليه وفي الشهادة له بالإسلام والإيمان والتسديد إلاّ إذا كانت فيها مصلحة. فإذاً ليس الأصل الشهادة على المُخَالف أو على من فيه كُفْرْ (خصلة من كفر أو شرك) نشهد عليه بهذه الأشياء؛ بل هذه منوطة بالمصلحة المتَوَخَّاة؛ لأنها من باب التعزير، ويدل على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما شَهِدَ على هؤلاء الذين فعلوا هذه الأشياء إلا على مُعَيَّنِيْنْ قِلَّة، وأما الأكثر فإنه صلى الله عليه وسلم حَمَلَهُمْ على الظاهر، وأهل النفاق الذين باطنهم نفاق ما أعلن أسماءهم صلى الله عليه وسلم ولا شهد عليهم لكل أحد لأن المصلحة بخلاف ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 [المسألة الثالثة] : هذا كله في أهل القبلة، أما من خَرَجَ من الإسلام بكفرٍ أكبر أو بشركٍ أكبر أو بردةٍ وقامت عليه الحجة في ذلك فإنه يُشهَدُ عليه بعينه لأنه ظهر منه ذلك واستبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وَلَا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ. وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ.   قال رحمه الله أيضاً (وَلَا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ) يريد بهذه الجملة أنَّ أهل الحديث والأثر والسنة والجماعة لا يعتقدون جواز الخروج على هذه الأمة وتفريق الجماعة بالسيف، وأيضا لا يرون جواز قتل أحد من هذه الأمة لغير الإمام الذي بيده الأمر. وهذا منهم اتِّبَاعَاً لما دَلَّتْ عليه الأدلة من حفظ دم المسلم وعدم جواز إراقته وأنَّ «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» (1) ونحو ذلك من الأصول، والأدلة التي سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله. وأرادوا بذلك أيضاً مخالفة الطوائف التي استباحت دم المسلمين رأت الخروج على جماعة المسلمين بعامة بالخروج على الإمام ولي الأمر أو بجواز قتل من حكموا هم بردته أو بكفره. وهم طوائف الخوارج والمعتزلة، وطائفة ممن يُنْسَبُ إلى الفقه من أتباع المذاهب فإنَّ طائفةً من أتباع المذاهب أيضاً - وهم في الجملة منسوبون إلى السنة- تَأَثَّرُوا بمذهب الخوارج في هذا والمعتزلة ونحو ذلك فَرَأَوا جواز الخروج -كما سيأتي- ورأوا جواز قتل المعين للعامة ولا يُخصُّ ذلك بولي الأمر. فيريد من ذلك تقرير القول الحق والمنهج العام لأهل السنة الذي صاحوا به وأعلنوه وصاحوا بالمخالف فيه من أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخرج على أحد من هذه الأمة بالسيف ولا أن تُستباح الدماء ولا دم أحد إلا ببرهان من الله - عز وجل -. وفيها مسائل:   (1) مسلم (6706) / أبو داود (4882) الترمذي (1927) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 [المسألة الأولى] : قوله (وَلَا نَرَى السَّيْفَ) هذه الكلمة مصطلح شائع عند العلماء والناس في القرون الثاني والثالث والرابع، فكان يُمَيَّزْ مَنْ من يُحَبِّذْ الخروج ولو لم يدخل فيه بِفِعْلِهِ وإنما يَسْتَحْسِنُهُ لفظاً ويُؤَيِّدُ من يَفْعَلُهُ، كان يُوصم عند الأئمة بأنه كان يرى السيف، ويُوصَفْ من خالفهم ثناءً عليه بأنه كان لا يرى السيف. وقد ضَعَّفَ الأئمة جمعاً من الرواة وقدحوا فيهم بقولهم كان يرى السيف. والإمام أحمد حذَّرَ من عدد وكذلك سفيان وغيرهما ووكيع وجماعة كانوا يُحَذِّرُونَ من فلان؛ لأنه كان يرى السيف. فإذاً مصطلح (لَا نَرَى السَّيْفَ) هذا يراد به أحد فئتين: - الفئة الأولى: من يرى الخروج على الولاة بعامة، سواء أدخل في الخروج بلسانه ويده أم كان يراه عقيدة. - الفئة الثانية: من رأى جواز قتل المعين إذا ثبت عِنده كفر منه أو ردة، ولا يكل ذلك إلى الإمام. والسلف يُسَمُّونَ من كان على أحد هذين الوصفين يقولون (كان يرى السيف) . وفي تهذيب التهذيب عِدَّةْ تراجم، كثير من التراجم ممن طَعَنَ فيهم الأئمة بهذا القول كان يرى السيف ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 [المسألة الثانية] : هذه الجملة دَلَّ عليها القرآن والسنة في مواضع كثيرةٍ منها: قوله - عز وجل - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، وقوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] ، ومنها قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] ، يعني لا يكون لمؤمن أن يتجرأ ويسفك دم مؤمن واحد إلا خطأ، أَمَّا يَتَعَمَّدْ فهذا معه لا يستحق وصف الإيمان؛ لأنه ارتكب هذه الكبيرة العظيمة التي قال الله - عز وجل - فيها بعد ذلك {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] . وأيضاً قول الله - عز وجل - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} -يعني بالقتل- {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] ، فدَلَّ على أنَّ من تَجَرَأَ على المُقَاتَلَةْ أنه ليس من أمر الله في شيء؛ بل خَرَجَ عن أمر الله وهو شريعته ودينه الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها أيضاً في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ، وفي اللفظ الآخر «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) ، فهذا يدل على أنَّ الأصل أنْ لا أحد يتجرأ ويسفك الدم أو يراه. فلا يحل ذلك فِعْلاً، وكذلك لا يحل أن يُعْتَقَدَ جواز قتل مسلم باقٍ على اسم الإسلام وهو ليس من هذه الأصناف الثلاثة.   (1) البخاري (6878) / مسلم (4470) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 [المسألة الثالثة] : قوله (إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ.) يعني من الأمة. ووجوب السيف (وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ) هذا لمن بيده السيف وهو ولي الأمر المسلم. فولي الأمر هو الذي بيده أن يسفك الدم تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، فيقتل تحقيقاً للشرع لا بمحض الهوى، ويحكم ويأمر بالقتال أو يأمر بقتل معين أو بقتال طائفة ونحو ذلك، فهو الذي بيده السيف وهو الذي له هذا الحكم. وليس لآحاد الناس من العلماء أو من العامة هذا الأمر، يعني أن يَقْتُلُوا؛ لأنَّ السيف ليس بيدهم وإنما السيف بيد ولي الأمر الذي بيده الحَلْ والأمر والنهي وبيده الأمور في القتال وفي إقامة الحدود وأشباهها. * وهذا يبين أنَّ المسألة التي تظهر في بعض الأمكنة وهي مسألة الاغتيالات؛ أن يُغْتَالَ من ظاهره الإسلام، أو من لم يَحْكُمْ عليه ولاة الأمر -من العلماء في الأمر الديني والحكام والأمراء في الأمر العام- من لم يحكموا عليه بأنه يقتل، فلا يحل لأحد أن يتجرأ على قتله أو على اغتياله. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أباح اغتيال كعب بن الأشرف في القصة المعروفة لمصلحة عامة ولأنه هو الإمام. وإلا فالأصل العام بالشريعة أنَّ هذا الأمر للإمام أولاً ثُمَّ أنَّه لا يُؤَاخَذُ أحد إلا بظهور ذلك منه وحُكْمٍ شرعي عليه. فمن ظَهَرَتْ منه زندقة أو كفر أو رِدَّةْ ولم يَحْكُمْ عليه ولي الأمر بذلك فلا يحل لأحد أن ينتهك دمه وأن يسفك دمه؛ لأنَّهُ حينئذ له حكم الزنادقة وله حكم المنافقين، والنبي صلى الله عليه وسلم سيرته مع المنافقين ظاهرة، والصحابة ربما عَلِمُوا أنَّ فلاناً منافق ولم يتجرؤوا على قتله حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في قتل عدد فلم يأذن لهم، قال لهم مرة «لا، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وأولئك النفر الذي استهزؤوا ونزل فيهم قول الله - عز وجل - {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ، والقصة المعروفة في سبب نزولها ولم يَرِد أن محمداً صلى الله عليه وسلم قتلهم. ولمَّا حصلت القصة المعروفة قالوا له يا رسول الله: أنقتل هؤلاء؟ قال «لا، لا يُتحَدَّثْ أن محمدا يقتل أصحابه» (1) . وكانوا يستأذنونه، فقال عمر لمَّا حَصَلَ من حاطب رضي الله عنهم ما حصل قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، وهذا استئذان من النبي صلى الله عليه وسلم. فإذاً القاعدة الماضية والتي دلَّتْ عليها الأدلة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة، وكذلك ما قَرَّرَهُ الأئمة من أنَّ الحكم بقتل أحد أو تنفيذ ذلك ليس إلا لولي الأمر، وهذا فيه من المصالح العظيمة وتحقيق المقاصد الشرعية ما يجب معه الاعتناء بهذا الأصل، وأن لا يَدْخُلُ أحد من المسلمين في هذه التبعة العظيمة بقولٍ أو بفعل. ولهذا جاء في الحديث وفي إسناده بحث لكن حسَّنَهُ عدد من أهل العلم رواه ابن ماجه وغيره «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لم يرح رائحة الجنة أو كان من أهل النار (2) » وهذا فيه الإعانة على قتل مسلم بشطر كلمة، فكيف من يتكلم بلسانه ويُعين على قتل مسلم أو يُفتي بذلك، وهو ليس من ولاة الأمر من العلماء أو القضاة أو ممن جُعِلَ لهم ذلك. فالواجب في هذا الأمر رعاية هذا الأصل العظيم، والسلامة في هذا الأصل، ولا يَتَجَرأَ أحد على هذا المقام؛ لأنَّ الأصل حُرْمَةْ دم من أَظْهَرَ الإسلام، ومن حصل منه ردة أو عُلِمَتْ منه زندقة أو نفاق فيوكل إلى ولي الأمر، ولا يجوز لآحاد الناس منهم أن يفتئتوا على ولي الأمر وأن يقْتُلُوا، ولو جاز ذلك لتسابق الصحابة رضوان الله عليهم على قتل المنافقين الذين علموا نفاقهم؛ بل لَقَتَلَهُم الرسول صلى الله عليه وسلم. والمسألة منوطة بالمصلحة وبإذن الإمام سواءٌ من القتل الابتدائي ممن عُلِمَ نفاقه أو رِدَّتُهُ أو زندقته، أو في الاغتيال الذي فيه قتل دون رجوع إلى الإمام. نكتفي بهذا القدر، ونقف عند قوله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) .   (1) البخاري (3518) / مسلم (6748) (2) ابن ماجه (2620) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الأسئلة : س1/ تكلمتم أنَّ النصارى كفار يجوز الجزم بدخولهم النار فما موقفنا أمام الآيات التي تستثني بعضهم؟ ج/ ما جاء من استثناء بعضهم هو استثناء لمن مات مؤمناً، لمن أسلم، من أسلم منهم فله حكم أهل الإسلام هذا ما مات على الكفر، كقوله - عز وجل - {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] ، هذا في فئة آمنت أسلمت، لهذا قال - عز وجل - بعدها {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83-84] ونحو ذلك، فهؤلاء فيمن أسلم، وأما من يسلم فإنه باق على كفره. س2/ إذا لم يكن للمسلمين إمامٌ مسلم يقيم الشرع مثل الأقليات المسلمة، فهل لرئيسهم المسلم أو لإمام المسجد أن يقيم الحدود عليهم؟ ج/ هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل وبحث، وهذه كل صورة لها حكمُها وكل بلد لها حكمها، فيَلْزَمْ أولئك أن يستفتوا أهل العلم ويأخذوا الفتوى، ليس ثَمَّ قاعدة؛ لأنَّ كل بلد لها حكمها، وكل أقلية لها حكمها وقد يدخلون في أشياء بمحض اجتهادهم، تكون عليهم ضرر، تكون تلك الأشياء عليهم ضرراً في عاقبة أمرهم، فلابد من استفتاء أهل العلم الراسخين فيه، وتُنْزَلْ كل مسألة منزلتها. س3/ كيف قتلت حفصة أم المؤمنين الساحرة التي سَحَرَتْهَا وكيف قتل جُنْدُبْ الساحر الذي كان عند الوليد بن عبد الملك وليس لهما من الأمر شيء. ج/ آخر السؤال: ليس لهما من الأمر شيء، هذا يحتاج إلى دليل؛ يعني فيه نوع تأصيل وهو ليس بظاهر. الظاهر العلماء لما ذَكَرُوا هاتين الصورتين وأمثالها قالوا إنَّهُ مُخَوَّلْ لهما ذلك. وما جاء في الأحاديث قد يكون ثَمَّ فيه اختصار، ففي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يكون اختصار فكيف بأفعال الصحابة رضوان الله عليهم، والأصل أنه لا تُعَارَضْ الأصول الشرعية والأدلة من الكتاب والسنة بفعل بعض الصحابة، فإذا فَعَلَ أحد من الصحابة فِعْلَاً يخالف الأصول، فإننا نُرْجِعُهُ إلى الأصول ونحمله على المُحْكَمَات؛ بل بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بل بعض آيات القرآن إذا كان فيها اشتباه ولم يتضح لنا وجهها وكونها مخالفة للقواعد أو الأصول أو للآيات الأخرى فنُرْجِعُهَا إليها، فيكون من باب حمل المتشابه على المحكم وفهم المتشابه بالمحكم. أفعال الصحابة رضوان الله عليهم ليست حجة بمجردها فنفهمها على وفق الأدلة، فالعبرة بالدليل الكتاب والسنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم سنته، أما فعل الصحابة فالصحابة حصل منهم أو بعض التابعين حصل منهم خروج أصلاً على الأئمة، فهذا اجتهاد اجتهدوه في بعض المسائل؛ لكن لا يُوَافِقُ الأدلة من الكتاب والسنة ولا يُوَافِقُ ما قرَّرَهُ الأئمة من الصحابة وأئمة الإسلام في أصل الاعتقاد وفي الاتباع. لهذا كتأصيل لا تُعَارَضْ الأدلة بفعلٍ قد يكون لم يُنْقَلْ جميع أسبابه، قد يكون أُختُصِرْ إلى آخره. فإذاً ليس لهما من الأمر شيء، هذه محل نظر وتحتاج إلى تأمل يعني في وجه هذه المقولة. وهذا ذكرته لكم مرة في محاضرة بعنوان قواعد القواعد في كيف تفهم الأدلة؟ كيف تفهم أفعال السلف؟ الآن كل واحد يجيء يقول السلف فعلوا كذا؛ لكن فعل السلف أقل درجة من نص القرآن، والله - عز وجل - جعل نصوص الوحي منها محكم ومنها متشابه، وما ضَلَّتْ الفرق إلا بأخذ المتشابه من كلام الله بأخذ المتشابه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الرجوع فيه إلى العلماء من الصحابة والرجوع فيه إلى المُحْكَمْ فكيف بمن نَزَلَ مراحل واستدل بالمتشابه من أفعال السلف، هذا لابد أن يكون عندك فهم كيف تَعَامَلْ الأئمة والسلف في هذا، ويكون قاعدة لك في حمل المتشابه من أفعالهم على المُحْكَمْ من النصوص؛ لأن الأصل أنهم لا يخالفون وإذا لم يكن ثَمَّ مجال للحمل فيكون اجتهاد منهم خالفوا فيه الدليل وأمرهم إلى الله عز وجل. ولهذا جاء في كلام علي رضي الله عنه في مقابلته لبعض الفرق قال (إذا سمعتم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فَظُنُّوا به الذي هو أهْنَاهُ وأَفْقَاهْ) الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون فيه أيضاً مجال شبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 مثلاً الحديث المشهور أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له يا رسول الله إن امرأتي لا تَرُدُّ يد لامس. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «غَرِّبها» وفي رواية «فارقها» ، قال: يا رسول الله أخاف أن تَتْبَعُهَا نفسي. وفي الرواية الأخرى قال: يا رسول الله إني أحبها. قال «فاستمتع بها» (1) . قال الإمام أحمد: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره أن يبقيها مع فجورها، ولهذا صار تفسير (إن امرأتي لا ترد يد لامس) ليس معناه أنها تمشي في الفاحشة، أي أنَّ كل من جاءها يريدها في نفسها وافقت، وإنما معناه القول الثاني الذي هو قول جمهور العلماء أنها تتصرف في مالي، ومن أراد من قرابتهافإنها تأخذ من مالي في البيت وتعطيه، يعني تصرفت وأرهقتني في التصرفات المالية إلى آخره، هذه لا ترد يد لامس. يد لامس لها أو يد لامسٍ لمالي؟ هذا ما ذُكِرْ، فهنا نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال علي الذي هو أهناه وأفقاه. وهكذا أفعال السلف الصالح نظن بها الذي هو موافق للدليل، هذا الأصل أن تحملها على موافقة أهل السنة، موافقة أفعالهم للدليل، إذا خالفوا الأدلة فإنها اجتهاد، هم بشر يجتهدون ويُؤْجَرُون على اجتهادهم وقد يصيبون وقد يخطئون. أسأل الله - عز وجل - أن يبارك لي ولكم في العلم والعمل، وأن يقينا العِثَارْ وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)   (1) النسائي (3465) (2) انتهى الشريط الثالث والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 : [[الشريط الرابع والثلاثون]] : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نعوذ بك اللهم من فتنة القول، كما نعوذ بك اللهم من فتنة العمل. الأسئلة: س1/ ورد في فتح المجيد حديث زينب زوج عبد الله بن مسعود أنها كانت تختلف إلى يهودي فيرقي لها عينها فتهدأ، إلى آخره، ما صحة الحديث وما توجيهه؟ ج/ الحديث هذا معروف، وهو سبب قول ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الرقى والتمائم والتولة شرك» (1) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد وأبو داوود وجماعة. أما قراءة اليهودي وكون اليهودي يرقي حَمَلَهُ العلماء على أحد الوجهين: الأول: أنه كان يرقيها بذكر الله، بالدعاء العام، والرُّقية تكون بكتاب الله - عز وجل - وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالدعاء الذي ينفع المشتمل على: خير واستعانة واستغاثة وتوسل إلى الله - عز وجل - ونحو ذلك، فيُحْمَلْ على أنه كان يدعو ورقيته كانت دعاء. والثاني: أنه كان يرقي بالتوراة، بما يعلمه من التوراة مناسباً للرقية، وهذا الوجه رُجِّحْ بقول ابن مسعود رضي الله عنه (إنما ذلك الشيطان كان ينخسها بيده) ، فإذا رقى اليهودي سكنت، وهذا يدل على أنَّ الرقية عنده لم تكن مشروعة على هذا النحو فلا تُحْمَل على أنها رقية بذكر الله - عز وجل - مطلقاً.   (1) أبو داود (3883) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ.   قال الطحاوي رحمه الله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) هذه الجملة يذكر فيها العقيدة التي أجمع عليها أئمة السلف الصالح ودوَّنُوهَا في عقائدهم وجعلوا من خالفها مُخالِفَاً للسّنة وللجماعة بأنّا (لَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) ؛ يعني الخروج بالسيف بالبغي عليهم أو بتشتيت الاجتماع وتفريق الكلمة، أو باعتقاد الخروج، أو باعتقاد جوازه أو ذهاب مذهب من أجازه-كما سيأتي-. فقوله (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ) ، (وَلَا نَرَى) يعني أهل السنة والجماعة المُتَّبِعِينَ للأثر ولهدي السلف ولما كان عليه الصحابة ولِما دلَّتْ عليه الأدلة، هؤلاء لا يَرَوْن الخروج على الأئمة وولاة الأمر حتى ولو كان عندهم جور وطغيان وظلم، فإنه يجب أن يُطاعوا؛ لأن طاعتهم فريضة، هاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 [المسألة الأولى] : لفظ الأئمة وولاة الأمور مما جاء به الكتاب والسنة. فولي الأمر العام -يعني ولي الأمر للأمة للناس- يُطْلَقُ عليه ولي الأمر، ويُطْلَقُ عليه إمام. أما ولي الأمر فقد جاء في الكتاب قال الله - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وسُمُّوا وُلَاةَ الأمر؛ لأنَّ ما يَنْفُذُ من الأمور الشرعية والأمور الاجتهادية في الناس إنما يكون عن أَمْرِهِمْ، فالأمر راجع إليهم. فإذاً ولي الأمر هو من بيده الأمر والنهي أو بالعُرْفْ المعاصر القرار الذي يَنْفُذُ في الناس، كما قال - عز وجل - {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . وهذا جاء في السنة في عددٍ من الأحاديث كما جاء في الآية بتسمية الحكام بولاة الأمور. أما لفظ الأئمة فولي الأمر هو الإمام، ومن ولَّاهُ الله أمر الناس وابتلاه بذلك فيُسَمَّى إماماً؛ لأنه يُؤْتَمْ بأمره ونهيه وقراره وما يختاره اجتهاداً للأمة. ولفظ الأمام لولي الأمر جاء في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (1) ، وهذا ظاهر في تسمية ولي الأمر إماماً.   (1) مسلم (4910) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 [المسألة الثانية] : الأصل أنَّ ولي الأمر يجمع ما بين: - حسن التدبير في أمور الناس العامة، في أمور دنياهم وما يُصْلِحُهُمْ وما يحفظ بيضتهم ويدفع عنهم الأعداء. - العلم بأحكام الشريعة بما يناسب، ولا يُشْتَرَطُ فيه أن يكون الأعلم كما هو مبسوط في مكانه في كتب الفقه. واجتمعت الصفتان في الخلفاء الراشدين الأربعة وفي معاوية رضي الله عنه وفي عددٍ من الأئمة وولاة الأمور في التاريخ إلى الآن. ولكن ربما لم يجتمع في ولي الأمر الصفتان فحينئِذْ يكون ما يُشْكِلُ على الناس في أمر دينهم فَمَرْجِعُهُم فيه إلى أهل العلم بالدين، وما يكون من قبيل الأمر العام للناس فإنه يكون لولي الأمر العام، وولي الأمر العام يستشير ويأخذ بقول أهل العلم فيما يرى أن يستشيرهم فيه. وهذا المَأْخَذْ هو وجه قول من قال (إن ولاة الأمر هم الأمراء والعلماء) ؛ يعني كلاًّ فيما يخصه: - الأمراء في الأمر العام، الأمر الدنيوي وما يُصْلِحُ الناس وما به تكون حياتهم. - والعلماء فيما يكون من أمر الدين بما يأتون وما يذرون. وهذا ليس هو الأصل، وإنما الأصل أنَّ ولي الأمر هو من يعلم، وهو الذي جاءت فيه الآيات {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وكذلك {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، لأنَّ الأصل اجتماع الصفتين في ولي الأمر. فإذا لم تجتمع الصفتان أُعْطِيَ ولي الأمر الذي بيده الأمر والنهي حق الإمام، وفي المسائل الدينية يُسْتَفْتَى ويُسْأَلْ أهل العلم. ولهذا اجتنب كثير من العلماء بل أكثر العلماء والأئمة أن يُطْلِقُوا على العالم ولي الأمر؛ لأجل أن يكون هناك افتئات وخروج ولأجل أن لا يكون هناك مأخذ لمن يريد الخروج على الإمام أو ولي الأمر. ومنهم من استعمل هذا وهذا؛ يعني أنَّ الأمور الدينية يُرجَعُ فيها إلى من يلي الأمر الديني، وهم العلماء في أمور الفتوى وفيما يأتي المرء ويذر فيما بينه وبين ربه - عز وجل -، وفي الأمور العامة فتكون لولاة الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 [المسألة الثالثة] : الخروج على ولاة الأمور وعلى من انْعَقَدَتْ له بَيْعَةْ هو مذهب طوائف من المنتسبين إلى القبلة، منهم الخوارج والمعتزلة، وبعض شواذ قليلين من التابعين وتبع التابعين، وبعض الفقهاء المتأخرين ممن تأثروا بمذهب المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذي عليه الصحابة جميعاً وعامة التابعين وهكذا أئمة الإسلام من أنَّ الخروج على ولي الأمر مُحَرَّمٌ وكبيرة من الكبائر، ومن خرج على ولي الأمر فليس من الله في شيء. والأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة متعدّدة، احتجّ بها الأئمة ورأوا أنَّ من خالفها ممن تأول مِنَ السلف أنهم خالفوا فيه الدليل الواضح البَيِّنْ المتواتر تواتراً معنوياً، كما سيأتي ذكر الأدلة إن شاء الله. فإذاً أهل السنة والجماعة لما رَأَوْا ما أحْدَثَتْهُ اجتهادات بعض الناس ممن اتُّبِعُوا فخرجوا على ولاة الأمر من بني أمية، أو خَرَجُوا على ولي الأمر، على بعض ولاة الأمر من بني العباس، أو قبل ذلك ممن خرجوا على علي رضي الله عنه؛ بل قبل ذلك على عثمان وإن لم يكونوا من المنتسبين للسنة في الجملة، ذَكَرُوا هذا في عقائدهم ودَوَّنُوهْ، وجعلوا أنَّ الخروج بدعة لمخالفته للأدلة. وتلخيص ذلك أنَّ اجتهاد من اجتهد في مسألة الخروج على ولي الأمر المسلم كان اجتهاداً في مقابلة الأدلة الكثيرة المتواترة تواتراً معنوياً مِنْ أنَّ ولي الأمر والأمير تجب طاعته وتَحْرُمُ مخالفته إلا إذا أمر بمعصية فإنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله. ومِنْ أهل العلم من قال تَوَسُّعَاً في اللفظ (الخروج على الولاة كان مذهباً لبعض السلف قديم، ثم لما رُئِيَ أنَّهُ ما أَتَى للأمَّة إلا بالشر والفساد فأجمعت أئمة الإسلام على تحريمه وعلى الإنكار على من فعله) كما قاله الحافظ ابن حجر * وهذا فيه تَوَسُّعْ لأنَّهُ لا يقال في مثل هذا الأمر أنه مذهب لبعض السلف، وإنما يُقَالُ إنَّ بعض السلف اجتهدوا في هذه المسائل من التابعين كما أنه يوجد مِنَ التابعين من ذهب إلى القَدَرْ والقول المنافي للسّنة في القَدَرْ، ومن ذهب إلى الإرجاء، ومن ذَهَبَ إلى إثبات أشياء لم تَثْبُتْ في النصوص، فكذلك في مسألة طاعة ولاة الأمور فربما وُجِدَ منهم الشيء الذي الدليل بخلافه، والعبرة بما دَلَّتْ عليه الأدلة لا باجتهاد من اجتهد وأخطأ في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 [المسألة الرّابعة] : هذا الأصل الذي قرَّرَهُ الطحاوي رحمه الله دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة: أمّا القرآن فمنه قول الله - عز وجل - {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ووجه الدلالة منه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال «من يُطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني» (1) . وقال الله - عز وجل - أيضا في سورة النساء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، قال ابن القيم رحمه الله وقاله غيره أيضاً: لفظ {أَطِيعُوا} جاء في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يعني الأمر بالفعل {أَطِيعُوا} ثُمَّ لَّما ذَكَرَ وُلَاةْ الأمور لم يُكَرِّرْ الفعل {أَطِيعُوا} ، فقال {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قالوا: وفي هذا مناسبة أنَّ طاعة ولي الأمر المسلم لا تكون إلا في غير مخالفة طاعة الله وطاعة رسوله، أما إذا كانت طاعته فيها مخالفة لطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني أَمَرَ بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلم يُكَرِّرْ الفعل لأنَّ طاعة الله تجب استقلالاً؛ ولأنَّ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً، وأما طاعة ولي الأمر فإنها تجب تَبَعَاً لا استقلالاً. لهذا الرجل الذي أمَّرَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على سرية وقال لهم «أطيعوه» فأجَّجَ ناراً وأمر الناس أن يقتحموها، فأَبَوا وقالوا: إنَّما فررنا من النار، يعني بالإيمان والإسلام، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال «أَمَا لو أنهم أطاعوه لم يخرجوا منها» (2) ؛ لأنهم أطاعوه في معصية الله - عز وجل -، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن الأدلة قول الله - عز وجل - {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] الآية، ووجه الدّلالة من الآية أنّ الله - عز وجل - أَمَرَ داوود، وفي أَمْرِهِ أَمْرْ للأنبياء أَمْرْ لمن وَلِيَ الأمر أن يحكم بين الناس بالحق وأن لا يتّبع الهوى، وهذا مقصد والوسائل لها أحكام المقاصد، فطاعة ولي الأمر فيما فيه تحقيق الحق وتكثير الخير وتقليل الشر وإبعاد الهوى، هذه لها حكم المقصد فتكون واجبة وجوب المقاصد؛ لأنها وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني» (3) . وأيضاً ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وفيما كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (4) . وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال «إنما الطاعة في المعروف» (5) يعني طاعة ولي الأمر في المعروف. وأيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله ولا ينزعَنَّ يداً من طاعة» (6) . وأيضاً صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . وأيضاً في الباب الحديث الذي ذكرت لكم أنه صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» ، ثم سئل صلى الله عليه وسلم فقيل له: أفلا نقاتلهم؟ يعني هؤلاء الذين نُبْغِضُهُمْ ويُبْغِضُونَنَا ونلعنهم ويلعنوننا، قال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا مَنْ وَلِيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يدا من طاعة» (7) . وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» . والأدلة على كثيرة في السنة كثيرة جداً وأُفْرِدَتْ بالتأليف، وحَرِيٌ بطالب العلم أن يتتبعها في هذا الموضوع المهم الذي تكثر فيه الأهواء، وأصل الاتباع أن يَتَخَلَّصْ المرء من هواه، فقد كثر التأويل من القديم من عهد الصحابة، التأويل والتبرير في هذه المسائل، والواجب على المرء أن يموت على الطريقة الأولى بغير تغيير ولا تبديل. وهذه المسائل من المسائل التي كثر فيها التغيير والتبديل إمَّا عملاً وإما اعتقاداً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والسنة عزيزة واتباع طريقة السلف مطلوبة، والواجب على المرء أن يُخَلِّصَ نفسه من هواها، وأن يمتثل ما دلت عليه السنة دون مخالفة.   (1) البخاري (2957) / مسلم (4852) (2) البخاري (4340) / مسلم (4871) (3) مسلم (4859) (4) مسلم (4869) / النسائي (4206) (5) البخاري (7145) / مسلم (4871) (6) مسلم (4911) (7) مسلم (4910) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 [المسألة الخامسة] : الخروج على ولي الأمر يكون بشيئين: - الصورة الأولى: عدم البَيْعَةْ واعتقاد وجوب الخروج عليه أو تسويغ الخروج عليه. وهذا هو الذي كان السلف يطعنون فيمن ذهب إليه بقولهم (كان يرى السيف) ؛ يعني اعتقاداً ولم يُبَايِعْ. - الصورة الثانية: وهي المقصودة بالأصالة أنهم الذين يخرجون على الإمام بسيوفهم، يعني يَخْرُجْ على الإمام ويجتمعون في مكان ويريدون خلع الإمام وتبديله، أو إحداث فتنة بها يُقْتَلْ ولي الأمر أو يُزال أو نحو ذلك؛ يعني الخروج بالعمل عليه سعياً في قتله أو إزالته. فهاتان الصورتان للخروج. والخروج على هذا: - يكون بالاعتقاد - ويكون بالعمل. * أما الصورة الثالثة التي أدخلها بعض أهل العلم فيها وهي الخروج بالقول؛ لأنَّ ولي الأمر يكون الخروج عليه بالقول، فهذه لا تَنْضَبِطْ؛ لأنَّ الخروج بالقول قد يكون خروجاً وقد لا يكون خروجاً، يعني أنه قد يقول كلاماً يؤدي إلى الخروج فيكون سعياً في الخروج، وقد يقول كلاماً هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يوصِلُ إلى الخروج ولا يُحْدِثُ فتنة في الناس، وهذا لا يدخل فيه. ولهذا من أدخل من أهل العلم الخروج بالقول في صور الخروج، فإنَّ الخروج بالقول فيه تفصيل، لا يُطْلَقْ القول بأنه ليس بخروج ولا أنَّهُ خروج. ومعاوية رضي الله عنه قتل بعض الصحابة لما خَرَجُوا على أميرهم بالقول (1) ... [ ...... ] أنَّ يقول للناس شيئاً أو أنَّ الناس كرهوه فاجتمع حجر بن عدي أو عدي بن حجر مع بعض أصحابه فحصبوه، حصبوا الأمير وقالوا: لا نسمع ما تقول، فَأَرْسَلَ إلى معاوية فأمر معاوية بأن يُؤْخَذُوا وأن يُسَيَّرُوا إليه، وكانوا سبعة عشرة رجلاً منهم الصحابي هذا، فقبل أن يَصِلُوا إلى دمشق أمر بهم فَقُتِلُوا (2) ، وهذا اسْتُدِلَّ به على أنَّ فعل معاوية رضي الله عنه مَصِيْرٌ منه إلى أنَّ الخروج يكون بالقول، وتُنَزَّلْ على هذا الأحاديث. وهذا الاستدلال محل نظر وليس بجيد؛ بل معاوية رضي الله عنه فعل ذلك تعزيراً وله اجتهاده في هذا الأمر. فإذاً نقول الذي عليه أهل العلم في تقرير العقائد أنَّ الخروج يكون في صورتين: - الصورة الأولى: عدم البيعة واعتقاد جواز الخروج أو تسويغه أو وجوبه؛ يعني على ولي الأمر المسلم. - والصورة الثانية: السعي باليد بالسيف بالسلاح على ولي الأمر. أمَّا بالقول فهذه فيها تفصيل فقد تكون وقد لا تكون.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع والثلاثين. (2) انظر المستدرك (5981) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 [المسألة السادسة] : الخروج على الولاة والأئمة له أسباب، ولم يَخْرُجْ أحَدْ إلا وله في خروجه تأويل: @ فالخروج على عثمان رضي الله عنه الذي أدى إلى مقتله رضي الله عنه وأرضاه كان بسبب التصرفات المالية لعثمان رضي الله عنه وتوليته قَرَابَتَهُ، فَتَجَمَّع الخوارج ممن يدينون بالخروج منكرين هذا الأمر متأولين، فخرجوا عليه حتى قتلوه رضي الله عنه وأرضاه في قصة مبكية حتى إنَّهُ رضي الله عنه لم يُدْفَنْ إلا ليلاً وتَبِعَهُ ثلاثة أو أربعة صُلِّيَ عليه سِرَّاً، ثم أُخِذَ ليلاً على النعش بسرعة ولم يُدْفَنْ في البقيع وإنما في حائط، يعني في بستان قريب من البقيع، حتى لا يُعْرَفْ أنه دُفِنْ، حتى جاء في الرِّواية أنهم كانوا من سرعة مسيرهم به قالوا نسمع رأسه يضرب في نعشه من شدة السير به خشية أن تصل أيدي الخوارج إليه. وهذا بسبب التأويل، التأويل في المال عندهم، يعني تَأَوَلُوا خروجهم بالرغبة في الصلاح في الأمور المالية، وكذلك في مسائل التولية ونحو ذلك. وأجْمَعَ الصحابة رضوان الله عليهم على تصويب عثمان وعلى مُعَاداةِ هؤلاء، رضي الله عن الصحابة أجمعين وخَذَلَ من خالف سبيلهم إلى يوم الدين. @ والسبب الثاني رُؤْيَةِ المرء ما يكره: في نفسه أو في بلده أو في مجتمعه بعامة، ما يكرَهُهُ ديناً أو ما يكرَهُهُ دُنْيَاً. وهذا السّبب في رؤية المرء ما يكرهه قد يكون معه عدم صبر فيُؤَدِيهِ إلى الانتصار مُتَأوّلَاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون آخذاً بالخروج أو خارجاً فعلاً. وهذه المسألة وهي مسألة رؤية ما يكره المرء في الدين أو في الدنيا أعْظَمُهَا ما حَصَلَ في عهد الإمام أحمد رضي الله عنه حيث رأى ورأى أئمة الحديث ما يكرهون في أعظم مسألة وهي مسألة خلق القرآن؛ حيث دُعِيَ الناس إلى القول بخلق القرآن الذي هو الكفر، وأُلْزِمُوا بذلك حتى وقع بعض الأئمة الكبار في الإجابة خشيَةً من بعض مسائل الدنيا. والإمام أحمد لما قيل له بالخروج نفض يديه وقال: إياكم والدماء، وأَخَذَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» . (شيئا يكرهه) هذه عامة لأنها جاءت في سياق الشرط، وهذه تعمّ الكراهة الدينية والكراهة الدنيوية، فأَمَرَ بالصبر، والصبر معناه لزوم الطاعة وعدم الخروج. وكذلك ما دلَّ عليه الحديث الآخر «ألا من رأى أميره يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يدا من طاعة» ، وعلى هذا كان هدي الصحابة، فابن مسعود رضي الله عنه صَلَّى خلف أمير الكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه، وصَلَّى وهو يشرب الخمر فصلوا معه حتى صَلَّى بهم الفجر أربعاً، ثم لما سَلَّمْ قال: أزيدكم؟ يعني هل أنا نقصت من الصلاة قالوا لازلنا معك اليوم في زيادة (1) . والنصوص الدالة على وجوب الطاعة بالمعروف وتحريم نكث البيعة ونحو ذلك تدلُّ على عدم اعتبار هذا السبب سبباً للخروج، وهو أَنْ يَرَى ما يَكْرَهُهُ ديناً أو ما يكرهه دنياً، إلا أن يرى كُفْراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، كما جاء في الحديث قال: أفلا ننابذهم؟ أو قال: أفلا نخرج عليهم؟ قال «لا إلا أَنْ تَرَوا كُفْرَاً بُوَاحاً عندكم من الله فيه برهان» (2) . والعلماء في هذا الحديث لهم قولان: القول الأول: أنه عند رؤية الكفر البواح فإنه يَجِبُ الخروج، وإذا قالوا يَجِبْ؛ فمعناه أنَّ أخذ العدة والوسيلة فإنها تجب وجوب وسائل للمقاصد. وهذا قول طائفة من أهل العلم متفرقين في شروحهم للأحاديث. 2- القول الثاني: أنَّ هذا يجوز ولا يجب؛ بل الصبر أولى إلا إذا كان تغيير هذا الولي الذي كَفَرَ ليس فيه مفسدة من سفك الدماء.   (1) سبق ذكره (450) (2) البخاري (7056) / مسلم (4877) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 [المسألة السابعة] : الأئمة وولاة الأمور طاعتهم مِنْ طاعة الله - عز وجل - ومِنْ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطاعة المؤمن لهم في المعروف عبادة وقُرْبَةْ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل طاعتهم من طاعته حِفْظَاً لبيضة هذه الأمة وجمعاً للكلمة وقوةً لها على أعدائها. والعلماء ذكروا أنَّ تصرفات ولاة الأمور يعني من حيث التنظير تكون على أحد أنحاء: 1- الأول: أن يأمروا بالطاعة، أن يأمروا بشيءٍ فيه طاعة، يأمروا الناس بإقامة الصلاة، يأمروا الناس بإيتاء الزكاة، يأمروا الناس بأداءْ الحقِّ الشرعي بعامَّة، ينهون الناس عن المحرمات، يقيمون الحدود، يأمرون بالمعروف ينهون عن المنكر ونحو ذلك مما هو مَعْلُومٌ الأمر به أمر إيجاب أو أمر استحباب أو معلومٌ النهي عنه نهي تحريم أو كراهة في الشَّريعة. 2- الثاني: أن يأمروا بأَمْرٍ اجتهادي لهم فيه اجتهاد، وهذا الاجتهاد إما أنْ يكون عن خلافٍ شرعي واختاروا أحد الأقوال أو أحد الرأيين أو أحد الوجهتين، أو اجتهادهم كان مبنياً في مسائل حادثة لا يَعْلَمُ الناس لها الحُكْمْ، أو لم يُرَاد أن تُبْحَثْ مثل المسائل الدنيوية والمسائل العامة التي تجري في الناس. 3- الثالث: أن يأمروا بمعصية الله - عز وجل -. @ أما الأول فإن طاعتهم في ذلك واجبة بالإجماع وطاعتهم في ذلك من طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. @ والثاني: وهي المسائل الاجتهادية فإنَّ ولي الأمر إذا ذَهَبَ إلى أحد الأقوال في المسألة واجتهد، أو اجتهد في المسألة اجتهاداً له لا يُخَالِفُ مُجْمَعَاً عليه، فإنَّ طاعته في ذلك متعينة أيضاً إذا كان متعلقاً بالأمة بعامة. فالمسائل الاجتهادية داخلة في عموم الأحاديث التي فيها الطاعة في المعروف؛ لأنَّ طاعة الأمير في المعروف التي جاء فيها الدليل، إنَّما الطاعة في المعروف تشمل الصورتين: الصورة الأولى والصورة الثانية لأن الاجتهاد مُعتبرٌ شرعاً. @ والثالث: وهي أن يأمر بمعصية الله - عز وجل -، فالأمر بالمعصية قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، وعلى كلٍّ فلا تجوز طاعته فيما فيه معصيةٍ لله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا طاعة لمخلوقْ في معصية الخالق لقوله صلى الله عليه وسلم «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره إلا أن يؤمر بمعصية» . فإذاً الأدلة التي فيها الأمْرْ بطاعة ولي الأمر، أو التي فيها بيان الطاعة، إنما الطاعة في المعروف، تُفْهَمُ معاً ولا يُضْرَبُ بعضها ببعض؛ يعني أنَّ ولي الأمر يطاع إلا في المعصية: - يُطَاع فيما فيه طاعة. - ويطاع في المسائل الاجتهادية. - ولا يطاع بما فيه معصية لله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 [المسألة الثامنة] : قوله في آخر الكلام (وَإِنْ جَارُوا) هذا فيه تَبْيِينْ لأَصْلِ المسألة أنَّ الطاعة لا تُتَقَيَّدْ بأنها لولي الأمر العدل؛ يعني للعادل من الأئمة أو للتقي من الأئمة أو لمن يسير في كل الشرع من ولاة الأمر؛ بل وإن كان منه جَوْرْ فإنه يُطَاع. والجَوْرْ يكون في صورتين: - الصورة الأولى: جورٌ في الدين. - الصورة الثانية: جورٌ في الدنيا. والجَورْ في الدين ضابطه أن لا يَصِلَ فيه إلى الكفر. والجَورْ في الدنيا يطاع فيه حتى ولو أخذ مالك وضرب ظهرك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» (1) . ومن أهل العلم من فَرَّقَ بين ولاة العدل وولاة الجور في الطاعة، فقال: - ولي الأمر ذو العدل يطاع مُطْلَقَاً إلا في المعصية. - وأما ولي الأمر بالجور فإنه لا يُطَاع إلا فيما يُعْلَمُ أنه طاعة، أما إذا لم نعلم أنه طاعة قال فلا يُطَاعْ. وهذا الكلام وإن كان منسوباً إلى بعض كبار أهل العلم المتقدمين؛ لكنه في مقابلة النصوص، ومُخَالِفٌ لإطلاق الأئمة في هذه المسائل. والتفريق بين إمام العدل وإمام الجور له أصلٌ من كلام الأئمة؛ لكن في غير هذه الصورة. فهم فَرَّقُوا ما بين إمام العدل وإمام الجور في صورة الأمر بالقتل أو بالاعتداء، فإنه إذا كان يُعْلَمْ أنَّ جوره في قتل من لا يستحق القتل فإنَّهُ إذا أَمَرَ أحداً أن يقتل فلاناً، قالوا: لا تتعين عليه الطاعة؛ لأنَّه قد يكون قَتْلُهُ ظُلْمَاً إذا لم يَسْتَبِنْ له أنه مستحقٌّ للقتل، وهذا يكون في أزمنة الفِتَنْ ونحو ذلك والعِدَاءات، يقول: أُقْتُلْ فلانَاً، ولا يسأل. فهنا فَرَّقَ طائفة من الأئمة المتقدمين ما بين إمام العدل وإمام الجور، قالوا: إمام العدل لا يُسْأَلْ، وأما إمام العدل فَيُتَحَرَى إذا كان يُعْرَفْ أنَّهُ يسفك الدماء فإنه لا يَقْتُلُ أحداً إلا إذا استبان له أنه مستحقٌ للقتل. * والذي يظهر في هذه المسألة ويتعيّن الأخذ به أن يُعمَلْ بِمُطْلَقَاتْ الأدلة؛ لأنَّ المسائل إذا اشتبهت وجَبَ الرجوع -خاصة في مسائل العقيدة- وجب الرجوع إلى ظاهر الدليل، ولا يَسُوغْ لأحد مخالفة ظاهر الدليل فيما أجمع العلماء على جَعْلِهِ عقيدة، وهي مسألة الخروج على الولاة وطاعة ولاة الأمر. فحينئِذْ دلّتْ الأدلة على ما ذكرنا من أنَّ ولي الأمر يُطاع في الطاعة ويُطَاعُ في المسائل الاجتهادية، ولا يطاع في صورة -صورة واحدة-؛ وهي أن يأمر بمعصية الله - عز وجل - فلا سَمْع ولا طاعة. ويكون إذاً الجور ليس سبباً في الخروج -سواء كان جوراً في الدين أو كان جوراً في الدنيا-؛ بل أكثر ما يكون الخروج بسبب الجَوْرِ في الدنيا، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج أهل السنة قال: أكثر تأويل من خَرَجْ بسبب جور بعض الولاة في أمور الدنيا. فإذاً قوله هنا (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) يعني به أنّ عقيدة السلف الصالح أن يُسْمَعَ ويُطَاعْ ولي الأمر، ويحافظ على البيعة، ولا يخرج المرء ولا يَلْقَى الله وليس له حجة بنزع اليد من الطاعة، ومهما كان الذي رآه إذا لم يَرَ الكفر البَوَاحْ الذي فيه من الله برهان.   (1) مسلم (4891) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 قال الطّحاوي رحمه الله بعدها (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ)   يريد أنَّ هَدْيَ السّلف الصالح وأئمة الإسلام أنَّهُمْ لا يَدْعُونَ على ولي الأمر والأئمة؛ لأنّ الدعاء عليهم سِيْمَا أهل الخروج وسِيمَا الذين يرون السيف إما اعتقاداً أو عملاً. وهدي السلف الصالح أنهم يدعون لهم ولا يدعون عليهم؛ لأنَّ: - بالدعاء لهم الصلاح والمعافاة كما سيأتي. - وفي الدعاء عليهم توطين القلوب على بُغْضِهِمْ وهو سَبَبٌ من أسباب اعتقاد الخروج عليهم والوسائل لها أحكام المقاصد، فكما أنَّ المقصد وهو الخروج واعتقاد الخروج ممنوع عند الأئمة في عقائدهم، فكذلك وسيلته في القلوب هي الدعاء عليهم لأنه يُحْدِثُ البغض لهم والبغض يؤدي إلى الخروج عليهم. وهذه تَضُمُّهَا إلى قوله في آخر الجملة (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ) يعني أنَّ هدي السلف وأئمة الإسلام في عقيدتهم أنَّهُ كما أنَّا لا ندعو عليهم فإننا لا نسكت؛ بل ندعو لهم بالصلاح والمعافاة. والدعاء لولي الأمر بالصلاح دعاءٌ للأمَّةْ في الواقع؛ لأنَّ صلاحه صلاح للناس. (وَالْمُعَافَاةِ) يعني أن يُعَافيه الله - عز وجل - مما ابتلاه به أو مما أَجْرَاهُ في رعيته من الأمور المخالفة للدين. وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم -أظنه أبا ذر- كان يتكلم في معاوية رضي الله عنه في بعض تصرفاته السلوكية أو المالية أو التولية، فأتى به وقال له: يا فلان أليس لك ذنوب؟ قال: بلى. قال: فما ترجو في ذنوبك؟ قال: أرجو العفو والمعافاة من الله - عز وجل -. قال معاوية رضي الله عنه: أفلا رجوتَ لي ما رجوتَ لنفسك. قال فسكت. وهذا يدل على أنَّ الدعاء بالصلاح والمعافاة والتوفيق لولاة الأمر أنَّهُ هو الهدي الماضي وهو الذي يوافق الأصول الشرعية. وقد قال جمع من الأئمة منهم الفضيل بن عياض ومنهم الإمام أحمد وجماعة (لو كان لنا دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان) (1) . وقد نصّ البربهاري رحمه الله في كتابه شرح أصول السنة على أنَّ (من سيما أهل البدع الدعاء على ولاة الأمور ومن سيما أهل السنة الدعاء لولاة الأمور) . فهذه المسألة التي ذكرها الطحاوي هنا مقررة في كتب الأئمة تقريراً مستفيضاً.   (1) شرح السنة (107) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 *قال رحمه الله (وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - عز وجل - فَرِيضَةً)   يريد أنَّ أهل السنة لا ينزعون اليد من طاعة ولي الأمر. وذَكَرَ اليد لأنها وسيلة البيعة؛ لأنَّ البيعة تكون بصفقة اليد، وهذه هي بيعة أهل الحل والعقد بأن يبايع يداً بيد، وبيعة الناس تكون بمبايعة أهل الحل والعقد أو بمبايعة بعض المؤمنين لولي الأمر. (ولا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ) يعني بعد البيعة باليد؛ لأنَّ هذا سيما الخوارج. (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ) طاعة ولي الأمر في غير المعصية من طاعة الله - عز وجل - فريضة واجب ما لم يأمروا بمعصية، وهذه الجملة مُقَرَّرَة فيما سلف وواضحة في دلالتها. نقف عند قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ) جعلنا الله وإياكم من المتبعين للسنة والجماعة المُهَيَّئِيْنَ لذلك إنه سبحانه جواد كريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الأسئلة : س/ ما ضابط الكفر البواح؟ ج/الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، الذي عليه دليل، يعني واضح بَيِّنْ، وبعض أهل العلم قال أنه ترك الصلاة، أنه ما يأمر بالصلاة، وينهى عنها، مثل ما جاء في الحديث قال «ما أقاموا فيكم الصلاة» ففهموا حديث الكفر البواح بإقامة الصلاة، وآخرون قالوا: لا، ما يشترط إقام الصلاة، الكفر البواح هو إذا حصل منه كفر عندنا من الله فيه برهان وليس له شبهة فيه ولا تأويل. نُخْرِجْ منه صورة المأمون وأمثاله في عهد الإمام أحمد؛ لأنه كانت عندهم بنوع تأويل، أطاعوا بعض العلماء في هذه المسألة، وواضح في الحديث قال «عندكم فيه من الله برهان» يعني شيء مجمع عليه واضح. س2/إن قال قائل إنَّ معاوية خرج على علي رضي الله عنه؟ ج/لا، هو ما دخل في البيعة أصلا. س3/ فإن قيل إنَّ البيعة ثبتت لعلي؟ ج/ثبتت لعلي من أهل المدينة، وأهل الشام قالوا ما نبايعك حتى تُسَلِّمْ لنا قتلة عثمان؛ لأنَّ قتلة عثمان صاروا جيش علي، يعني الخوارج الذين قتلوا عثمان أجبروا علي أنه يخرج وخرج، علي رضي الله عنه اجتهد وصارت البيعة له وأهل الحل والعقد في المدينة. فمعاوية رضي الله عنه قال: لا، ما نبايع حتى تُسَلِّمْ لنا قتلة عثمان، ويرى معاوية أنه هو ولي الدّم {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] ، يقول أنا وليه، أنا ولي دم عثمان أنا أقرب الناس إليه، سَلِّمْ لي القتلة كي أقتلهم، فعلي رضي الله عنه خشي إن سلمهم تصير فتنة أعظم، فأراد أنه يجتمع هو وإياه وسار إليه على أساس يجتمع معه ويبحث معه إلى آخره، فاجتمع معاوية، نقلوا له طبعاً الخوارج أنَّ هذا علي سار بجيشه فسار يخشى أنه يباغته، ثم لما اجتمعوا هذا في جهة وهذا في جهة، وقَصْدْ معاوية خير أنه يبحث مع علي وقصد علي رضي الله عنه خير أنه يبحث مع معاوية، حَرَّكْ الخوارج الحرب بين الجهتين ووقعت وقعة صفِّين، هم الذين حركوها من تحت، لا الصحابة يريدون، وقعت بغير اختيارهم. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك (1) .   (1) انتهى الشريط الرابع والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 : [[الشريط الخامس والثلاثون]] : وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.   الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: قال الطحاوي رحمه الله هنا (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.) هذه الجملة ذَكَرَهَا بعد الكلام على الخروج على الولاة أو قتل أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لظهور معنى الجماعة في ذلك. وكلُّ ما ذَكَرَه من أول العقيدة إلى آخرها -يعني فيما أجمع عليه أهل السنة والجماعة- داخِلٌ في هذه الجملة. فكُلُّ مسائل العقائد التي قَرَّرَهَا أئمة الإسلام فإنها اتِّبَاعْ للسنة وللجماعة، وكُلُّ مُخَالَفَةْ لهذه العقائد التي دلَّ عليها الكتاب والسنة وقرَّرَهَا الأئمة فهي شذوذ وخِلافٌ وفُرْقَةْ. ولهذا هذه الجملة قاعدة عظيمة من قواعد العقائد بجميع تفاصيلها، كما سيأتي في بيان السنة والجماعة وبيان ما يُضاد ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا الاتِّبَاعْ الذي ذَكَرَهُ -اتِّبَاعْ السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والخلاف والفرقة- هو منشأ السَّيْرْ على ما كانت عليه الجماعة الأولى؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أوْرَثَ الجماعة الأولى -وهي جماعة الصحابة رِضوان الله عليهم- أورَثَهُمْ العلم النافع والعمل والهدى في أمور الدين كلِّه، في الأمور العلمية والأمور العملية. فَأَجْمَعُوا على مسائل العلم والعقيدة والتوحيد، وعلى كثيرٍ من مسائل العمل، واختلفوا في بعض مسائل العمليات والفروع. ثُمَّ صار سبيل المؤمنين الذي هو سبيل الجماعة الأولى، صار عَلَماً على اتِّبَاعِ النبي صلى الله عليه وسلم وترك الأهواء، ثُمَّ تَبِعَهُمْ التابعون، ثم هكذا إلى زماننا؛ بل إلى أن يموت آخر المؤمنين. وهذا الأصل من أهم الأصول التي يُقَرِّرُهَا أئمة الإسلام؛ لأنه أصل وما بعده فرع. فالخلاف في توحيد العبادة، أو في طريقة إثبات الربوبية، أو في الأسماء والصفات، أو في الإيمان، أو في القَدَرْ، أو في الصحابة، أو في التعامل مع ولاة الأمور، أو في أي مسألة من المسائل التي تُذْكر، الخلاف في ذلك خِلافٌ للجماعة الأولى. ولهذا قال من قال من أئمة الصحابة (إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد) . (إذا فسدت الجماعة) يعني إذا صارت الجماعة في اختلاف، فإنَّ المصيب منهم من وافق الجماعة التي كانت مجتمعة، غير مختلفة. ولهذا صار هذا الأصل عَلَمَاً على أهل السنة والجماعة أتباع الصحابة والسلف الصالح، فَسُمُّوا أهل السنة والجماعة لهذا الأصل لأنهم يتَّبِعُونَ السنة والجماعة، ويأتي تفسير السنة وتفسير الجماعة. وهذا الذي ذكروه هنا أخذوه من النصوص التي لا تُحْصَى في الكتاب والسنة في الأمر بالاجتماع نصاً أو معنى، وفي النهي عن الفرقة نصاً أو معنى. فمن ذلك قول الله - عز وجل - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، ومنه قوله - جل جلاله - {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، ومنه أيضاً قول الله - عز وجل - {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ،ومنه قوله أيضاً - جل جلاله - {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] ؛ يعني على الرسول ما حُمِّلَ من بيان السنة وبيان الشريعة وتبليغ ذلك. {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من اتباع السنة والجماعة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فحُمِّلَ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ وحُمِّلَتْ الأمة الاتباع والمتابعة. ومنه أيضا قول الله - عز وجل - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في اتباع الجماعة والنهي عن الافتراق. والسنة فيها من ذلك شيءٌ كثير: كقوله صلى الله عليه وسلم «وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» (1) ، وفي رواية قال «هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (2) .   (1) سبق ذكره (5) (2) سبق ذكره (344) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ومنه أيضاً الأحاديث التي في خروج الخوارج وخلاف الخوارج للصحابة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، فقال في وصفهم «يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم» (1) وذلك لمخالفتهم للسنة والجماعة. كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أهل الأهواء «يتجارى بهم الهوى كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى منه مفصل أو عِرْقْ إلا دخله» (2) . ومنه أيضا ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم بقوله «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» (3) . ومنه أيضا قوله «من أتاكم وأمْرُكُمْ جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان» (4) . ومنه أيضا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ألا يَجْعَلَ بأس هذه الأمة بعضها ببعض قال «فمنعنيها» . ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على هذا الأصل العظيم. فإذاً هذا الأصل الأدلة عليه في منزلة التواتر لكثرة ما دلَّ عليه؛ بل هو أظهر أصول الشريعة، فإنَّ الخلاف والفُرْقَةْ عمَّا كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة الأولى هو حقيقَةً خلافٌ لرب العالمين واتّباع غير السبيل الذي يرضى عنه - جل جلاله -. فإذاً هذا الأصل -كما ذكرنا في أول الكلام- ذَكَرَهُ الطحاوي؛ لأنَّ كل مسائل العقيدة يتفرع عنه. وإذا تبين ذلك فنقول: إنَّ مسائل الاعتقاد التي يذكرها أهل السنة والجماعة: - منها ما هو من سبيل المقاصد. - ومنها ما هو من سبيل الوسائل إلى المقاصد. - ومنها ما هو من سبيل المحافظة على المقاصد. @ فأما الأول وهو المقاصد هي: أركان الإيمان الستة. @ وأما الثاني وهو وسائل المقاصد فهي القواعد العامة في التلقي والأخذ لأنها لا يُحْفَظُ أصل إلا بدليل، بقاعدة. ولهذا صار هذا الكلام هنا وهو قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ.) هذا له حكم المقاصد من جهة وله حكم الوسائل من جهةٍ أخرى؛ لأنَّ اتباع السنة والجماعة مقصد تعبُّدِي مطلوب {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] ، والثاني وهو اجتناب الشذوذ والخلاف والفُرْقَة هذا من وسائل المحافظة على أصول الاعتقاد. وفي هذه الجملة مسائل:   (1) البخاري (3610) / مسلم (2500) (2) أبو داود (4597) (3) المسند (19369) / مسند الشهاب (15) (4) مسلم (4904) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 [المسألة الأولى] : في قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ) الاتباع هو أن تَقْفُوَ أثر الشيء، تَبَعَهُ أي قَفَا أثره، اتِّبَاع الحق أن تَقْفُوَ الأثر. والأَثَرُ سواءٌ أَكَانَ أثر دليل أو كان أثر مسير -يعني أثر قول أو أثر مسير- كلٌ منهما دليل. ولهذا صار الاتِّبَاعُ موسوماً عند أهل العلم بأنه أخذ القول بدليله. ويقابل هذا التقليد، يقابل الاتباع التقليد. والتقليد قَبُولْ القول والتِزَامُهُ دون حجةٍ واضحة. لأنه إن كان عنده حجة فهو مُتَّبِع ولو كان مُتأولاً أو مُخْطِئاً، وإذا كان ليست عنده حجة وإنما يتعصب أو يقبل قول الغير هكذا لأنه قاله فقط مع ظهور الحُجَّةْ في خلافه، فهذا يُسمى مُقَلداً لأنه جعل القول قِلادةً له دون بيانه. والتقليد في الاعتقاد فيه تفصيل: - فما كان مما يُشْتَرَطُ لصحة الإسلام والإيمان فلا ينفع فيه التقليد؛ بل لابُدَّ فيه من أخذ القول بدليله وجوباً؛ لأنَّ هذا هو العلم الذي أمر الله - عز وجل - به في قوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] . - أَمَّا التقليد في الاستدلال فلا بأس به؛ يعني أن يَعْلَمَ وجه الدليل من الحُجَّةْ ويُقَلِّدُ العالم في الاقتناع بهذا الدليل يعني بوجه الاستدلال، فهذا لا بأس به لأنَّ المجتهد في فهم الدليل هذا قليل في الأمة. فإذاً الواجب في الاتباع وما يَحْرُمُ من التقليد في العقيدة هو ما كان من أصول الإسلام؛ يعني ما لا يصح الإسلام إلا به، مثل العلم بالشهادتين، وأركان الإيمان الستة، وفرض أركان الإسلام الخمسة. إذا كان التقليد كذلك فهل يُشْتَرَطُ استدامة العلم واستصحاب العلم والاتِّبَاع أم لا يُشْتَرَطْ؟ الذي عليه العلماء المحققون وقرَّرُوهُ أنَّ الاستدامة ليست شرطاً، وإنما يكفي أن يَعْلَمَ الحق في هذه المسائل في عمره مرةً بدليله، ويأخذ ذلك ويقتنع به، يأخذ ذلك عن دليل وبيِّنَة، ثم يعمل بما دلَّ عليه. فمن تَعَلَّمَ مسألةً، مثلاً تَعَلَّمَ معنى الشهادتين في عمره، ثم بعد ذلك نسي المعنى، أو تَعَلَّمَ أدلة أركان الإيمان ثم نسي، أو تَعَلَّمَ فرضية الأركان الخمسة، أركان الإسلام أو الأربع العملية ثم جاءه فترة ونسي، فإنَّ هذا لا يؤثر ولا يأثم بذلك، المهم أن يكون أصل استسلامه عن دليلٍ فيما لا يصح الإيمان والإسلام إلا به. * وهذا هو حكم التقليد عند أهل السنة والجماعة ووجوب الاتباع. وأما المخالفون من أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وجماعات فإنَّهُمْ جعلوا العلم الواجب هو النَّظَرْ أو القصد إلى النظر أو إلى آخره من أقوالهم، ويعنون بذلك النظر في الكونيات. وأهل السنة يقولون: الاتِّبَاع النظر في الأدلة الشرعية، يعني النَّظَرْ في الشرعيات. وأولئك عندهم النظر في الكونيات؛ لأنهم جعلوا أنَّ أصل الإسلام والإيمان إنما يصح إذا نظر في برهان وجود الله - جل جلاله -. وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: وجود الله - عز وجل - مركوزٌ في الفِطَرْ، وإنما يتعلم ما يجب عليه أن يعتقده وما يجب عليه أن يعلمه مما أمر الله - عز وجل - به، وجعله فارقاً بين المؤمن والكافر. وبالمقابل التقليد عندهم في الكونيات، وعندنا التقليد في الأقوال والشَّرعيات. وثَمَّ تفاصيل لمسألة الإتِّبَاعْ والتقليد في مناهج التلقي ما بين أهل السنة والمخالفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 [المسألة الثانية] : في قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ) السُّنَّة يُراد بها العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل الاعتقاد؛ في المسائل الغيبية وما يتّصل بذلك من الوسائل وما يُحافَظُ به على الأصول. فما دَلَّتْ عليه الأدلة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عليه هديه فإنَّهُ السنة الماضية التي يجب اتِّبَاعُهَا وترك ما خالفها؛ لأنَّ المسائل العلمية في [ ..... ] الغيبيات البيان فيها واضح وليست مجالاً للاختلاف وتنوع الآراء والأقوال. ولهذا سمَّى طائفة من العلماء ممن صنَّفُوا في التوحيد كتبهم السنة، وهي كثيرة جداً كالسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والسنة لابن أبي عاصم، والسنة للطبراني، وكذلك السنة في كتب الحديث -يعني في أثناء الكتاب- قد يُبَوِّبُ بعضهم بكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة أو السنة أو ما أشبه ذلك. فإذاً يجمع السنة أنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العِلْمْ في هذا الموطن؛ في العِلْمِيَّاتْ، يعني فيما يُعْلَمْ ويُعْتَقَدْ فإنَّ منهجنا اتباع السنة في ذلك وأن لا نخوض فيه بالعقليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 [المسألة الثالثة] : الجماعة تُطْلَقُ إطلاقين: & تُطْلَقْ الجماعة ويراد بها الجماعة في الدين، الجماعة في العلم بما أمر الله - عز وجل - به أن يُعْتَقَدْ، أو في تصديق الأخبار في الكتاب والسنة. وهذه الجماعة تكون في الدين، الجماعة في الدين؛ يعني الاجتماع على الدين الواحد. & والمعنى الثاني للجماعة الجماعة في الأبدان، أنْ يجتمعوا في أبدانهم وأنْ لا يكون بأْسُهُم بينهم، وأن لا يتفرَّقُوا في أبدانهم بأنواع التَّفَرُّقْ. ومسائل الاعتقاد تجمع هذين الأصلين، تجمع الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان، وكل المسائل التي تُذكَرُ في مسائل العقيدة منها ما يرجع إلى هذا، ومنها ما يرجع إلى الثاني. ثُم هذا اللفظ (السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ) صار عَلَماً على من كان على ما كانت عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة رضوان الله عليهم. والذي عليه أئمة أهل الحديث والمحققون من أهل الإسلام أنَّ هذا اللفظ (أهل السنة والجماعة) إنما يدخل فيه أهل الحديث والأثر الذين لم ينحرفوا في مسائل الاعتقاد. وقد ذهب بعض الحنابلة من المتأخرين وبعض الأشاعرة وجماعات من الفقهاء إلى أنَّ لفظ (أهل السنة والجماعة) يشمل ثلاث طوائف: - يشمل أهل الحديث والأثر. - والأشاعرة. - والماتريدية. وممن صرَّحَ بذلك السَّفَّاريني في كتابه لوامع الأنوار وجماعة آخرون. وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الأشاعرة والماتريدية خالفوا السنة والجماعة في مسائل كثيرة معلومة: @ فهم في إثبات وجود الله - عز وجل - خالفوا طريقة القرآن والسنة. @ وفي تفسير (لا إله إلا الله) خالفوا ما دلَّ عليه القرآن والسنة وكان عليه السلف. @ وفي إثبات الصفات خالفوا وقالوا طريقة السلف أسلم وطريقتنا أعلم وأحكم وجعَلُوا الصواب بين التأويل والتفويض: وكل نص أوهم التشبيهَ أوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تنزيهَا فالتأويل عندهم حق والتفويض حق وأما الإثبات فليس بحق. @ وفي مسائل الإيمان خالفوا، وقالوا بالإرجاء وعندهم الإيمان هو التصديق فقط دون الإقرار والعمل، @ وفي مسائل القدر هم جبرية متوسطة. وفي مسائل أُخَرْ خالفوا أيضا مما يضيق المقام عن ذكره. فإذاً من خالف في هذه الأصول العظيمة في الغيبيات والعقائد فإنَّ إدراجه في أهل السنة والجماعة وفي الفرقة الناجية هذا ليس بواضحٍ من جهة الدّليل والإتباع، ولهذا هم يدخلون في الفِرَقْ المخالفة للسنة والجماعة. لكن ينبغي أن يُعْلَمْ أنَّ إطلاق السنة قد يُرَادْ به ما يقابل الرافضة والشيعة والخوارج، فيدخل في إطلاق أهل السنة الأشعرية والماتريدية والمرجئة وجماعات لأجل مقابلتهم بالفرق التي ضلالها عظيم. لهذا من الأفضل؛ بل من المُتَعَيِّنْ عند إطلاق أهل السنة والجماعة أن يُنتَبَهْ أن لا يكون شعاراً يدخل فيه من ليس من أهل السنة والجماعة حتى لا يَضِلَّ الناس، وحتى يكونُ مُقتصراً على من اعتقد الاعتقاد الحق، والباقون يمكن أن يُقَال عنهم أهل السنة؛ ولكن لا يُوصفون بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم فَرَّقُوا دينهم وكانوا شيعاً ولم يقيموا الدين كما أمر الله - عز وجل -؛ بل فَرَّقُوا في ذلك وأخذوا ببعض الكتاب وتركوا بعضًاً كما هو معلوم من تفاصيل أقوالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 [المسألة الرابعة] : في قوله (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ) : الاجتناب هو التَّرْكْ، ويريد بالترك أنه يَتْرُكُهُ ديناً وتَعَبُّدَاً وتقرباً إلى الله - عز وجل - لملازمته للسنة والجماعة. والشذوذ: هو الانفراد، وقد جاء في حديث وفي إسناده ضعف «ومن شذَّ شذَّ في النار» (1) يعني من انفرد عن الجماعة التي وَعَدَهَا الله - عز وجل - بالجنة فإنه سينفرد عنهم أيضاً في الآخرة في النار، وهذا من جهة الوعيد. فمعنى الشذوذ في العلم والعقيدة الإنفراد بأشياء ليس عليها الدليل ولم تكن عليها الجماعة الأولى. ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله وجماعة من أئمة السلف يقولون في مسائل العقائد (لا نتجاوز القرآن والحديث) ؛ لأنه إذا تجاوز المرء القرآن والحديث بمسائل الغيبيات والعقائد فإنه لا يُؤْمَنْ عليه الخلاف ولا يُؤْمَنْ عليه أن ينفرد بآراء ليست مُدَلَّلاً عليها. والشذوذ قد يكون: - في أصل من الأصول-يعني الانفراد. - في فرعٍ لأصْلٍ من أصول الاعتقاد. فالشذوذ مرتبتان: 1 - المرتبة الأولى: أن ينفرد ويَشُذْ في أصل من الأصول؛ يعني في الصفات، في الإيمان، في القدر، فهذا بانفراده في الأصل يخرج من الاسم العام المُطْلَقْ لأهل السنة والجماعة. 2 - المرتبة الثانية: أن يوافق في الأصول؛ لكن يُخَالِفُ في فرعٍ لأصل أو في فَرْدٍ من أفراد ذلك الأصل. مثلاً يؤمن بإثبات الصفات وإثبات استواء الرب - جل جلاله - على عرشه وبعلو الرب - جل جلاله - وبصفات الرحمن سبحانه وتعالى؛ لكن يقول: بعض الصفات أنا لا أثبتها، لا أثبت صفة السّاق لله - عز وجل -، أو لا أثبت صفة الصورة لله - عز وجل -، أو أُثْبِتُ أنَّ لله أعيناً، أو أثبت لله - عز وجل - كذا وكذا مما خالف به ما عليه الجماعة. فهذا لا يكون تاركاً لأهل السنة والجماعة؛ بل يكون غَلِطَ في ذلك وأخْطَأْ ولا يُتَّبَعُ على ما زلَّ فيه بل يُعْرَفُ أنه أخطأ، والغالب أن هؤلاء مُتَأَوِلُونَ في الاتباع. وهذا كثير في المنتسبين للسنة والجماعة كالحافظ ابن خزيمة فيما ذكر في حديث الصورة، وكبعض الحنابلة حينما ذكروا أنَّ العرش يخلو من الرحمن - جل جلاله - حين النزول، وكمن أثبت صفة الأضراس لله وأثبت صفة العضد أو نحو ذلك ممَّا لم يقرره أئمة الإسلام. فإذاً من شذَّ في ذلك في هذه المرتبة، يقال: غَلِطَ وخالَفَ الصواب؛ ولكن لم يخالف أهل السنة والجماعة في أصولهم؛ بل في بعض أفرادِ أصلٍ وهو مُتَأَوِّلٌ فيه. وهذا هو الذي عليه أئمة الإسلام فيما عاملوا به من خالف في أصل من الأصول في هذه المسائل، وكُتُب ابن تيمية بالذات طافحة بتقرير هذا في من خالف في أصل أو خالف في مسألة فرعية ليست بأصل.   (1) الترمذي (2167) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 [المسألة الخامسة] : في قوله (وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ) الخلاف شَرٌّ ومذموم في الشريعة. والخلاف يُطلق ويُراد به الاختلاف أيضاً كما قال - عز وجل - {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] ، فمدح من لم يَخْتَلِفْ وذَمَّ من كان في اختلاف. وأهل الاصطلاح يُفَرِّقُونَ بين الخلاف والاختلاف، وهذا ليس هذا مورده وإنَّمَا في هذا الموضع الاختلاف والخلاف بمعنىً واحد وهما شر، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (الخلاف شر) (1) . والخلاف له صورتان: 1- الأول خلاف في العِلْمِيَّاتْ: في العلم والعقيدة، وهذا البحث فيه كالبحث في الشذوذ والفرقة الآتي. 2- الثاني الخلاف في العَمَلِيِّاتْ: يعني فيما يُسَمَّى بالفروع. والخلاف الثاني في الفروع ليس مُبَاحَاً أو مأذوناً به دائماً؛ بل قد يكون الخلاف مذموماً ولو كان في الفروع، وذلك إذا كان سيترتب عليه مفسدة في الناس أو افتراق أو إساءة ظن أو مخالفة لأئمة المسلمين. ولهذا ابن مسعود رضي الله عنه في قصته مع عثمان كان يُقَرِّرْ ويَذْكُرْ أنَّ السنَّة أن يُصَلِّي أهل منى في منى ركعتين للرباعية وعثمان رضي الله عنه صَلَّى الرباعية أربعاً وكان ابن مسعود يُصَلِّي معه أربعاً، فقيل له في ذلك: تقول السنة ركعتان وتصلي مع عثمان أربع؟ فقال: الخلاف شر. وهذا من عظيم فقهه رضي الله عنه مع أنَّهُ كان بينه وبين عثمان رضي الله عنه خُصومة أو نوع خلاف واختلاف في مسألةِ عطائه، فكان يَطْلُبُهُ وعثمان لم يُعْطِهِ عَطَاءَهُ الذي كان يرى ابن مسعود أنَّهُ له؛ لأنَّ ابن مسعود بدري، وكان له في ذلك قولْ يجادل به عثمان معروف؛ لكن مع ذلك تَخَلَّصَ من هوى نفسه وقال (الخلاف شر) . فإذاً الخلاف في الفروع، في العمليات ليس دائما مأذوناً به أو لا يُعَابُ صاحبه؛ بل قد يُعَابُ إذا كان في الخلاف مفسدة أوفُرْقَة أو الخلاف يُسَاءْ به الظن أو يَسُدُّ أبوابا من الخير ونحو ذلك. والطحاوي هنا لا يريد تقرير هذا البحث الثاني، وإنما يريد أنَّ الخلاف الذي هو بمعنى الشذوذ والفُرْقَةْ يُجْتَنَبْ ويُحْذَرْ منه.   (1) أبو داود (1960) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 [المسألة السادسة] : الفُرْقَةْ هنا بمعنى الافتراق، والفُرْقَةْ أكثر النصوص في النهي عنها. والأمر بالجماعة معه النهي عن الفرقة لأنه لا يجتمع الناس إلا إذا انتهوا عن الافتراق والفُرْقَةْ. ولهذا كما قَدَّمْتُ لك بعض الآيات نَهَى الله - عز وجل - عن الافتراق فقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، دَلَّتْ هذه الجملة من الآية على أنَّ النهي عن الفُرْقَةْ هنا المقصود به الفُرْقَةْ في الأبدان، ثم قال - عز وجل - {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، وهذه الفُرْقَة في الدين، وهذا كما في قوله مثلاً في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، يعني في الدين. فتحَصَّلَ من هذا أنَّ الأدلة دَلَّتْ على أنَّ الفُرْقَةْ قسمان: - فُرقة في الأبدان. - وفُرقة في الدين. مُقَابِلَةٌ للجماعة التي هي: - جماعة في الدين. - وجماعة في الأبدان. فكذلك الفُرْقَةْ فُرقة في الدين وفُرقة في الأبدان. @ أما فُرقة الدين: فتكون بانتحال الأهواء والأخذ بطريقة أهل الهوى من الخوارج فمن بعدهم. وأعظم أهل الأهواء الخوارج -يعني ممن خَرَجَ على الصحابة-، ثُمَّ بعد ذلك إلى أن أتت الأقوال الكُفْرِيَة عند الجهمية والحلولية إلى آخره. وهذا أعظم افتراق في الدِّيْنْ، فإنّ الله - عز وجل - جعل الدين واضحاً لا لَبْسَ فيه، في أصوله وعقائده وفي قواعده العلمية لا لَبْسَ فيه، ولهذا قال - عز وجل - {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ (1) بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . : [[الشريط السادس والثلاثون]] : فإذاً كل أنواع الافتراق التي حدثت إنما كانت لأجل الهوى، ولذلك سُمُّوا أهل الأهواء. هل وجود المتشابه في القرآن والسنة يُعْتَبَرُ سبباً في خروج أهل الأهواء؟ الجواب ليس كذلك؛ لأنَّ الله - عز وجل - بيَّنَ أنَّ أهل الأهواء في قلوبهم زيغ قبل أن ينظروا إلى الأدلة، فقال - عز وجل - {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، قال سبحانه في أول الآية {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فبيَّنَ - جل جلاله - أنَّهُ جَعَلَ كتابه منه محكم ومنه متشابه، يعني يشتبه على المرء العلم به. ما الذي حصل؟ أنَّ الذين في قلوبهم زيغ اتَّبَعُوا قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} فأَثْبَتَ الزيغ في قلوبهم ثم وصفهم باتباع المتشابه. فإذاً المتشابه في الكتاب والسنة ابتلاء ليظْهَرَ أهل الأهواء من أهل السنة والجماعة، فحُصُولُ الهوى والزيغ في القلب ينتج عنه أن يبحَثَ عمَّا يُؤَيِّدُ به هواه ويُؤَيِّدُ به زيْغَهُ، وهذا ما نصت عليه الآية قال {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} بالفاء الترتيبية. ولهذا قال الأئمة (إنَّ أعظم ما أمر الله - عز وجل - به الاجتماع، وأعظم ما نهى الله - عز وجل - عنه الافتراق) ؛ لأنَّ حقيقة الاجتماع اجتماع في الدين وفي الأبدان وبهما صلاح العباد، وأعظم المصائب الافتراق وبهما يحصل البلاء كله. فالشرك فُرْقَة، والتوحيد جماعة. والبدعة فُرْقَة، والسنة جماعة. والعقائد الصحيحة جماعة، والعقائد الفاسدة فُرْقَة. الاستدلال بالكتاب والسنة وصحة منهج التلقي جماعة، والاستدلال بالأهواء والعقول وما ألْفَ المرء آباءه وأقوامه عليه فُرقَة؛ لأنّه خالف المنهج الصحيح في الاستدلال. الاجتماع مع جماعة المسلمين وأئمتهم جماعة، والافتراق وترك أئمة المسلمين وجماعتهم فُرقة. وهكذا، فكل خير في الجماعة والسنة، وكل شر في الشذوذ والخلاف والفُرقة.   (1) انتهى الشريط الخامس والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قال بعدها رحمه الله (وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ)   الحب والبغض من مسائل النفس التي يدخلها الهوى. وقاعدة الشريعة والقرآن والسنة والصحابة أنَّ العبد لا يكون حقيقةً مستسلماً حتى يتخلّص من هواه. ومِنَ الهوى الذي يُتَخَلَّصُ منه الهوى في مَحَبَّتِهِ والهوى في بُغْضِه، ونستغفر الله ونتوب إليه. فمن أَحَبَ ما يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله، ومن يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله فقد تَخَلَّصَ من هواه، ومن أبْغَضَ ما يُحِبُّ الله - عز وجل - ورسوله من الحق أو أبْغَضَ من يُحِبُّهُ الله ورسوله فلم يتخلّص من هواه؛ بل الهوى هو الذي قاده إلى ذلك. ولهذا كان من أعظم ما يتميز به أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والأثر الذين تخلَّصُوا من أهوائهم أنهم أهل عدل في أقوالهم حتى مع مخالفيهم، فيُحِبُّونَ أهل العدل؛ لأنَّ الله يُحِبُّهُم وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُحِبُّونَ أهل الأمانة؛ لأنَّ الله - عز وجل - يحبهم ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبغضون أهل الجور والخيانة لأنَّ الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم يبغضونهم. فإذاً أصل هذه الجملة أساسها أنَّ محبة المؤمن المتبع لعقيدة السلف وبُغضَهُ يكون تبعاَ لنص الكتاب والسنة فيما يُحِبْ وفيما يُبْغِضْ، كما قال - عز وجل - {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» (1) وهذا الإيمان الكامل هو الذي يتخلص فيه صاحبه من الهوى. وهاهنا مسائل قليلة:   (1) رواه الإمام المقدسي في كتاب الحجة على تارك المحجة بإسناد صحيح حسب ما ذكره النووي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 [المسألة الأولى] : أهل العدل وأهل الجَوْر متقابلان، كما أنَّ أهل الأمانة وأهل الخيانة متقابلان -يعني هؤلاء يقابلون هؤلاء، هؤلاء ضد هؤلاء، هذا صنف وهذا صنف-، ولا أعني بالتَّقَابُلْ والتضاد المصطلح الكلامي أو المنطقي فيه. فمن هم أهل العدل، ومن هم أهل الجَوْر؟ العدل أَمَرَ الله - عز وجل - به أَمْرَاً مُطلَقَاً فقال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] ، وأقام السموات والأرض على العدل، ودينه وأحكامه كلها عدلٌ وخيرٌ للعباد في مآلهم وفي حاضرهم. العدل الذي أمر الله - عز وجل - به أن يُعطَى كل ذي حق حقه، أن تُعْطِي الله - عز وجل - حقه الذي أمرك به، وأن تُعْطِي رسوله صلى الله عليه وسلم حَقَّهُ الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي الصحابة حقهم الذي أُمِرْتَ به، وأن تُعْطِي المؤمنين حقهم الذي أُمِرْتَ به، وهكذا في سائر أحكام في الشريعة. ولهذا قال بعض التابعين على هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} ، قال (أتت هذه الآية على جميع المأمورات) ؛ يعني في العلميات وفي العمليات؛ لأنَّ المأمور: - إما أن يكون عَدْلَاً في العلم والعمل. - وإما أن يكون فَضْلاً في العمليات والعبادات وأنواع التعامل. يقابله أهل الجور وهم أهل الظلم، والجَورُ هو الحَيْفْ وهو بمعنى الظلم. وأهل الظلم: - تارَةً يكون ظلمهم في حق الله - عز وجل -. - وتارَةً يكون ظلمهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم. - وتارَةً يكون ظلما في حق العباد أو في حق أنفسهم. فإذاً هذه المَحَابْ؛ محبة أهل العدل والأمانة وبُغْضْ أهل الجور والخيانة هذه تَبَعْ لمحبة الله - عز وجل - ولبُغْضِه، وأهل العدل يُقَابِلُونَ أهل الجور بهذا المعنى. إذا تبيَّنَ هذا فإنَّ المتقرر عند أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - يُحِبُّ ويُبْغِضْ، وهما صفتان حقيقيتان على ما يليق بجلال الرب - عز وجل -، لا يماثل في محبته وبُغْضِهْ محبة العباد وبغضهم، تعالى ربنا عن ذلك وتقدّس. والله - عز وجل - يُحِبُّ العبد لما فيه من الصفات الحسنة، صفات الإيمان والعدل والطاعة، ويُبْغِضُ العبد لما فيه من صفات الظلم والطغيان أو المعصية والمخالفة ونحو ذلك. فإذاً قرَّرُوا أنَّهُ يجتمع في حق المعين في صفات الله - عز وجل - أنّ الله يُحِبُّ العبد من جهة ويبغضه من جهة. وهذا يخالف قول المبتدعة الذين قالوا: المحبة والبغض شيءٌ واحد، فالله - عز وجل - يُحِبُّ العبد الكافر حال كفره إذا كان سيوافيه على الإيمان، ويُبْغِضُ العبد المؤمن الصالح حال إيمانه إذا كان سيوافيه على الكفر. وهذا هو المسألة الموسومة بمسألة (الموافاة) عندهم، وهي مسألة المحبة والبغض عندهم أزلي، فالله يُحِبُّ من يُحِبْ مطلقاً ويُبْغِضُ من يبغض مطلقاً، والمحبة عندهم مؤولة بإرادة الخير، والبغض عندهم مُؤَوَلْ بإرادة الخذلان. إذا تبيَّنَ ذلك فإنَّ المؤمن فيما يُحِبُّ من إخوانه المؤمنين يُحِبُّهُمْ بقدر ما معهم من الإيمان والعدل والأمانة، ويبغِضُ فيهم بقدر ما معهم من الجَوْر والظلم والخيانة. فالمؤمن تَبَعٌ لمحبة الله - عز وجل - ليس عنده حبٌ كامل أو بغضٌ كامل؛ بل يُحِبُّ بقدر الطاعة ويُبْغِضُ بقدر المعصية، وهذا من العدل حتى في رغبات النفس وفي نوازع القلب. فإذاً يجتمع في المسلم العاصي الحب من جهة والبغض من جهة، ترى حسناته فتَسُرُّكْ فتحبه، وترى سيئاته فتسوؤك فتبغِضُهُ من هذه الجهة. فإذاً الحب الكامل لأهل الكمال والبغض الكامل لأهل الكفر، والمؤمن الذي خلط عملاً صالحا وآخر سيئاً فإنه يُحَبُّ من جهة ويُبْغَضُ من جهة. وهذا أهل السنة والجماعة فيه تبع لما دلت عليه النصوص التي أوجبت موالاة المؤمن ما دام اسم الإيمان باقياً عليه، والبراءة من الكافر ما دام اسم الكفر عَلَمًا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 [المسألة الثانية] : الأمانة والخيانة متقابلان أيضاً، ويُعنَى بالأمانة هنا الوفاء بأمانة التكاليف التي أخذ الله - عز وجل - العهد من آدم عليها في قوله {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] ، وأصح الأقوال في تفسير الأمانة هنا أنها أمانة التكاليف؛ يعني أن يَقْبَلَ أنه يُخَاطَبُ بالأمر والنهي، وبعد ذلك الثواب والعقاب. والخيانة ضد الأمانة وهي عدم رعاية التكاليف، فَرَجَعَ الأمر إلى أنّ حقيقة الأمانة في معناها الواسع يرجع إلى التكاليف العَقَدِيَة وإلى التكاليف العملية، والخيانة ترجع إلى التكاليف العقدية -خان فيها- وإلى التكاليف العملية. فالأمر إذاً فيه نوع ترادفٍ في معناه الواسع مع العدل والجور. فأهل العدل والأمانة بالمعنى الواسع يقابلون كطائفة أهل الجور والخيانة، فهؤلاء يُحَبُّونَ وهؤلاء يُبْغَضُونْ، ومن كان فيه عدل وأمانة وفيه جور وخيانة فإنه يُحَبُّ من جهة ويُبْغَضُ من جهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 قال بعد ذلك رحمه الله (وَنَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ)   (نقول) يريد به أتْبَاعْ الأئمة الأربعة وأتباع أهل الحديث والأثر، فإنهم يمتثلون ما أَمَرَ الله - عز وجل - به في أنَّهُمْ لا يقولون على الله ما لا يعلمون، وأنهم لا يَقْفُونَ ما لا يعلمون، امتثالاً لقوله - جل جلاله - {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وقال - عز وجل - في بيان المحرّمات {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] . فالقول على الله - عز وجل - بلا علم محرم وهو قرينٌ للكفر والشرك؛ لأنَّهُ ما حصل الشرك والكفر وعبادة غير الله - عز وجل - إلا بالقول على الله بلا علم، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ، فإذاً كل ضلال حصل إنما هو بالقول على الله - عز وجل - بلا علم. فأهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر فيهم تَخَلِّي عن أهوائهم وغَلَبَة لأنفسهم وامتثال لأمر الله - عز وجل - وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: الله أعلم فيما لا يعلمون. ولهذا جبريل عليه السلام -في حديث جبريل في سؤاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث المعروف السؤال عن الإسلام والإيمان إلى آخره- قال عمر رضي الله عنه في آخره لمَّا سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عمر أتدري من السائل؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم» (1) ، فالصحابة رضوان الله عليهم استعملوا هذا الأصل في عهده صلى الله عليه وسلم واستعمله العلماء والأئمة إلى وقتنا الحاضر. ونذكر مسألتين:   (1) سبق ذكره (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 [المسألة الأولى] : في قول (اللَّهُ أَعْلَمُ) أفعل التفضيل هنا (أَعْلَمُ) : - إما أن ترجع إلى المتكلم، يعني نقول: الله أعلم منا أو مني فيما اشتبه علينا علمه. - أو الله أعلم بحكم هذه المسألة من خلقه. @ فالأُولى: فيها إرجاع للمتَكَلِّمْ. @ والثانية: فيها إرجاعٌ إلى الجميع. وأفعل التفضيل هنا (أَعْلَمُ) ليس معناها اشتراك الجميع في العلم في هذه المسألة؛ لأنَّ العبد إذا لم يعلم شيئاً قال: الله أعلم، ولو أراد (مني) فإنه لا يعني أنَّ عنده علم قليل. ولهذا صار معنى (الله أعلم) أي الله هو العالم بحكم هذه المسألة فأنا لا أعلم. وقول (الله ورسوله أعلم) ، لم يذكرها هنا لأنه لا يُقَال الله ورسوله أعلم إلا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد وفاته فلا يقال إلا الله أعلم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم انقطع عن دار التكليف ودار الوحي الذي هو العلم الذي ينزل به جبريل عليه السلام عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 [المسألة الثانية] : قوله (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) الاشتباه يعني بِهِ وُرُودْ ما لا تَعْلَم مُطْلَقَاً أو فيما تعلم واشتبه عليك هل هو الصواب أم لا. ولهذا قال العلماء الاشتباه والمتشابهات المراد منها فيما جاء في النصوص {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، وهنا قال (فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ) المراد بـ: (ما اشتبه، والمتشابهات) المُتَشَابِهْ الإضافي النّسبي لمن قال هذه الكلمة، وأما المُتَشَابِهْ المُطْلَقْ فيما فيه تكليف علماً أو عملاً فإنه لا يوجد في الكتاب والسنة. فكل ما فيه تكليف في الكتاب أو السنة -تكليف بالأوامر والنواهي- في العلم أو في العمل فلا يكون مُشْتَبِهَاً على الأمة كلها؛ بل قد يشتبه على البعض ويعلمه آخرون؛ لأنَّ الاشتباه الموجود نسبي إضافي بحسب علم العبد، لهذا قد يَرِدُ على العالم أو على من هو أقل علماً أو على الإمام مسائل يشتبه عليه فيها العلم أو لا يعلمها أصلاً. ترد عليه آية لا يعلم معناها أو مَخْرَجَها، فيسأل عنها، عمر رضي الله عنه سَأَلَ عن آيات، أبو بكر رضي الله عنه جاء عنه أنه قال (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) (1) ، وعمر رُوي عنه نحو هذه الكلمة وسأل عن تفسير آيات وسُئِلَ، والصحابة لم يزل بينهم إِرْجَاعْ في المسائل إلى بعضهم بعضاً، بعضهم يُرْجِعُ إلى بعض المسائل. فإذاً هذا أصل في أنّ المرء إذا لم يعلم يقول (الله أعلم) ، ويُحِيلُ إلى غيره ممن يعلم. الاشتباه هنا كما ذكرت لك قد يكون اشتباهاً في الدليل، وقد يكون اشتباهاً في المدلول: @ في الدليل: ما عَرَفْتَ وجه الدليل أو المسألة، لا تعرف دليلها أصلاً، ليس معنى ذلك أنها ليست بحق؛ لأنَّ علماء الأمة يعلمون دليلها. @ في المدلول: يكون الدليل معك؛ لكن وجه الاستدلال يشتبه عليك، فلا تَخُضْ في كتاب الله تفسيراً ببيان وجه استدلال وأنت ليس عندك علم به، فتقول (الله أعلم، هذا هو الدليل لكن إيش وجه الاستدلال الله أعلم. لهذا الإمام مالك يُذْكَرْ عنه أنه سُئِلَ عن أربعين مسألة أو عن ثلاث وثلاثين مسألة فأجاب عن أربع والبقية قال (الله أعلم لا أدري) . وهذا من عظيم تعظيمهم لله - عز وجل - وأن يقولوا في دين الله ما لا يعلمون. وهذا في الحقيقة القاعدة هذه أو هذا الأصل تحتاجه كثيراً في النقاش؛ لأنَّ المرء إذا ناقش غيره قد يأتيه الشيطان ويقول أنت تعلم كل شيء، فيترك لا أعلم ويترك الله أعلم ويترك لا أدري فيقع ويأثم. وهَدْيُ أهل السنة والجماعة التواضع في العلم كما أنَّهُ التواضع لله - عز وجل - في العلم والعمل، لهذا قال ابن المبارك رحمه الله (إنَّ للعلم طغياناً كطغيان المال) (2) . والله - عز وجل - وصف أهل المال بقوله {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-8] ، كذلك المرء قد يزداد عنده العلم حتى تُكْسِبَهُ تلك الزيادة طغيانَاً فيَتَعَدَّى على غيره، ولا يسلك مع الناس سبيل الشّرع في العدل في اللفظ وحمل أقوالهم ونحو ذلك مما يجب على المرء أن يعدل فيه؛ لأنَّ من أراد أن يُقَيِّمْ الأقوال فهو قاض، والقاضي يجب عليه أن يحكم بالعدل لا أن يحكم بالهوى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] ، والمرء إذا أخطأ (الله أعلم) جاءه كل غلط، تأتيه الآراء الخطأ ويقتنع بها ويُؤَيِّدُهَا ثم يَتَعَصَّبْ لها ثم يحصل فساد من أقواله؛ لكن إذا عَوَّدَ نفسه أن يمتثل هذا الأصل وهو ما لا يعلم يقول (الله أعلم) فُتِحَتْ لقلبه أنوار من العلم، ثم إذا عَلِمَ العلم ثبت عنده بإذن الله تعالى، تَوَاضَعْ لله - عز وجل - ومن تواضع لله - عز وجل - رَفَعَهُ. هذه بعض الكلمات على هذا الأصل. أسأل الله - عز وجل - أن يوفقني وإياكم لما فيه رضاه، وأن يغفر لأئمتنا الذين وَرَّثُونَا هذا العلم النافع، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته وأن يُورِدَنَا حوض نبيه، إنه سبحانه أكرم مسؤول جوادٌ غفورٌ رحيم.   (1) سبق ذكره (149) (2) حلية الأولياء (4/55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الأسئلة : س1/ يقول ذَكَرْتَ أنَّ لفظ (أهل السنة والجماعة) صار عَلَمًا على من اقتدى بالصحابة، وذكرت أنَّ هذا اللفظ يُرَادُ به أهل الحديث والأثر، ألا ترى أنَّ هذه الألفاظ مُحْدَثَةْ ليست على نهج الله، فقد قال الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] ، فلماذا لا نلتزم بهذا المصطلح القرآني حتى وإنْ صارَ عَلَمَاً على طائفة معينة؟ فلماذا لا نلتزم به ونترك غيرها من المصطلحات الحادثة؟ وجزاكم الله خيرا. ج/ أولاً قبل الدخول في الجواب استعمال لفظ (المصطلح القرآني) هذا استعمال حادث -والأخ عنده يعني رغبة في الاتِّبَاع-، لفظ المصطلح القرآني أو المصطلحات القرآنية هذه من الألفاظ الحادثة التي مرت قرون الإسلام ولا تعرف هذا اللفظ، وهذا لأنَّ كلمة (المصطلح) تعني اصطلاح، والاصطلاح هو أنْ يكون هناك من اصطلح مع غيره على هذه التسمية. والله - عز وجل - أنزل القرآن بلسانٍ عربيٍ مبين، فإذاً العلماء يقولون: الدِّلالات القرآنية، الألفاظ القرآنية، المعاني، الآيات، ونحو ذلك مما هو مُسْتَعْمَلْ عند السلف. أما ما جرى السؤال عليه، فالتأصيل الذي ذكره صحيح، والتطبيق قاصر. أمَّا التأصيل فهو صواب؛ في أنَّهُ لا يُحدَثُ ألفاظ وأسماء يُجْمَعْ الناس عليها ويَتَعَصَّبُونَ لها، وهي ليست من الألفاظ الشّرعية؛ لأن َّهذا نوع من الفُرْقَةْ والخلاف والافتراق. ولهذا قال العلماء: الله - عز وجل - سَمَّى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ومؤمنين، وَسَّمى منهم المهاجرين، وسَمَّى منهم الأنصار، وسَمَّى منهم الأعراب، وسَمَّى منهم إلى آخره، وهذه التسميات لأجل مجيئها في القرآن فهي شرعية، وهذه التسميات الشرعية إذا تُعُصِّبَ لها مع أنَّهَا شرعية صارت مذمومةً حاشا اسم الإسلام والإيمان. لهذا لما قام رجل من المهاجرين لأجل خلاف وقال: يا للمهاجرين. ينتخي بهم، وقام غلام من الأنصار فقال: يا للأنصار. ينتخي بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» (1) لم؟ لأنَّ النخوة هنا والتَّعَصُّبْ صار لطائفةْ من المؤمنين وللفظٍ ليس هو لفظ الإسلام والإيمان أو المسلمين والمؤمنين فصار هذا مُحْدِثَاً للتفرق، ولهذا قال (أبدعوى الجاهلية) ؛ لأنَّ الجاهلية هم الذين ينتخون ويتعصبون للأسماء دون غيرهم. فكذلك الأسماء المحدَثَة في الأمة إذا تُعُصِّبَ لها دون غيرها فإنه يكون ذلك مردوداً على أصحابه، مثلاً اسم الحنابلة، اسم الشافعية، اسم المالكية، اسم السعوديين، اسم المصريين، اسم الشرقيين المغاربة الشُّوام إلى آخره، هذه أسماء إذا كانت في الأمَّة لأجل التعريف فإنَّ هذا الأمر فيه واسع؛ لكن إن كان ثَمَّ تَعَصُّبْ عليها وذم لما خالفها لأجل الاسم، أن يمدح الشافعية لأجل أنهم شافعية، أو يذم الحنابلة لأنهم ليسوا بشافعية، أو العكس فإنّ هذا من التعصُّبْ المذموم، وهو من التفرق والأخذ بالشعارات أو الأسماء التي لم يُدُلَّ عليها الدليل. إذا تَبَيَّنَ هذا الأصل وهو ما ذكره السائل جزاه الله خيرا في سؤاله، فإنَّ لفظ السنة والجماعة لفظان شرعيان قد ثبتا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (2) ، وسنَّتُهُ هي سنته وسنة الخلفاء الراشدين هي ما كان عليه الجماعة في وقت الخلفاء الراشدين، وفي الجماعة قال صلى الله عليه وسلم في الفِرَقْ «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة» ، فالله - عز وجل - أَمَرَ باتِّبَاعِ نبيه صلى الله عليه وسلم فقال {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، مطلقاً في كل مسألة {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، مطلقاً في كل مسألة يعني الأخذ بالسنة. فإذاً الأصل باتباع السنة واتباع الجماعة والثناء على اتباع السنة والثناء على الالتزام بالجماعة، هذا الأصل موجود في النصوص. جاء في أواخر زمن الصحابة، في عهد عثمان وفي عهد علي رضي الله عنه بدأ خروج أهل الأهواء، وأهل الأهواء وهم الخوارج مثلاً في أول الأمر ثُمَّ الشيعة ثم المرجئة ثم القدرية، هؤلاء أهل الأهواء صارت لهم هذه الأسماء وهم مسلمون لا نُكَفِّرُهُمْ؛ لكن ليسوا آخذين بكل الحق فصار الاسم الذي سُمُّوا به عَلَمًا لهم على ترك بعض الحق والافتراق. فإذاً تَبَقَّى الطائفة الأولى التي كانت مواصلة للمأمور به من السنة والجماعة يبقون يُقَابَلُونْ، إن قلنا هؤلاء -أعني من مشى على الطريق ولزم السنة والجماعة- هؤلاء هم المسلمون، فماذا نسمي الآخرين؟ نقول: هؤلاء هم المسلمون أيضاً، إذاً لم يَصِرْ فرقاً بين السنة والبدعة وما بين الاتباع والمخالفة ولا ما بين الخارجي والصحابي.   (1) البخاري (4905) / مسلم (6748) (2) أبو داود (4607) / الترمذي (2676) / ابن ماجه (42) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فإذاً لَزِمَ الفَرْقُ، واسم الإسلام من ورع الصحابة رضوان الله عنهم وعدلهم أنَّ الذين قاتلوهم وضَلَّلُوهُمْ لم يُخْرِجُوهم من الإسلام بل أبقوا عليهم اسم الإسلام واسم الإيمان؛ لكن من كان على وَفْقْ ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين تميَّزُوا بالاسم الذي هو الاسم الأصلي وهو أنَّهُمْ أهل السنة وأهل الجماعة، ولا يَصِحْ أن يقال إنهم مسلمون فقط؛ لأنه إن قيل إنهم مسلمون فغيرهم أيضاً مسلمون، وهذا التخصيص لهم هو في الأصل مطابق لقولهم مسلم، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسلم يُقابل المنافق، المؤمن يقابل المنافق، والمسلم هم أهل السنة والجماعة، فلم يكن ثَمَّ فرق في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر ما بين المسلم وما بين أهل السنة والجماعة؛ الدلالة واحدة، مسلم مؤمن أهل السنة والجماعة الكل واحد لا فرق. متى ظهر الاعتناء بأهل السنة والجماعة؟ لَمَّا ظَهَر الاختلاف. والاعتناء بالاسم تمييزاً ليس ثناءً فقط لمن اتبع للسنة والجماعة؛ ولكن هو أيضاً عدل مع من خالف؛ لأنَّ الذي خالف لو قلنا هؤلاء مسلمون لكان ألئك نقول كفار، كيف تُخَصُّونَ أنتم بالمسلمين والآخرون؟ فإذاً صار عند السلف من كان على الطريقة الأولى يقال له أهل السنة والجماعة ومن كان مُخَالفاً يقال له أهل الأهواء المرجئة الخوارج إلى آخر ذلك. ولهذا أجمع أئمة الإسلام على صحة هذه التسمية من أهل الحديث؛ بل ومن غيرهم من الأشاعرة والماتريدية على أنَّ تسمية أهل السنة والجماعة صحيحة، وهذا اتفاقٌ منهم على ذلك، فالتسمية صحيحة مُجْمَعْ عليها؛ لكن دلالتها مُخْتَلَفْ فيها، والاختلاف في الدلالة لم يرد له ذكر في السؤال، إنما كان السؤال في إحداث الاسم فإيضاحه بما مر، والله الموفق. س2/ ما يجده المسلم من ميل ومحبة للكافر إذا أحسن إليه كالطبيب والدكتور فهل يؤثر على الولاء والبراء، وكذلك محبة الزوج المسلم لزوجته الكتابية، هل يؤثر على الولاء والبراء علماً بأنه لو أبغضها لما تزوجها؟ ج/ الحب هنا ليس مطلقاً، ما أحب الكافر مطلقاً ولا أحب الكتابية مطلقاً، وإنما أحبَّ ذاك لأجل النفع الذي وصل إليه منهم، وهذا محبة في واقع لنفسه لأمر دنيوي، ولهذا ذكر العلماء أنَّ محبة الرجل لزوجه الكتابية لا بأس به؛ لأنه كما ذكر لو لم يحبها أو يكون لها مودة في قلبه لما أبقاها معه. لكن المحبة التي هي في الولاء والبراء، لأنَّ الحقيقة الولاء والبراء هي المحبة والبغض: المحبة لدينه ومن أحب الكافر لدينه فإنه يكفر. أو المحبة لدنياه مُطلقَاً وهذه مُوادة له لا تجوز ونوع موالاة. والثالث محبةٌ مُقَيَّدَة لأجل النفع المُقَيَّد الحاصل له منه فهذه فيها سعة لأجل أنَّ النفوس جُبِلَتْ على حب من أحسن إليهم. والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يحسن إليهم. استدل أهل العلم (1) على هذه الصورة الثالثة بحديث أظنه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وكانت أمها مشركة وقدمت عليهم في المدينة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها قالت: أَأَصِلُ أمي؟ قال: «نعم صِلِي أمك» (2) والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة. والاستدلال الثاني وهو استدلال ضمني بأنَّ الله - عز وجل - نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال - عز وجل - {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8،9] ، وقوله هنا {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة. المقصود من ذلك أن يعلم أنَّ الولاء والبراء للكافر -يعني للمعين- ثلاث درجات: 1- الدرجة الأولى: موالاة ومحبة الكافر لكفره، وهذا كفر. الدرجة الثانية: محبته وموادته وإكرامه للدنيا مطلقاً، وهذا لا يجوز ومحرم ونوع موالاة مذموم. الدرجة الثالثة: وهو أن يكون في مقابلة نعمة أو في مقابلة قرابة، فإن نوع المودة الحاصلة أو الإحسان أو نحو ذلك في غير المحاربين هذا فيه رخصة.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس والثلاثين. (2) البخاري (2620) / مسلم (2372) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ.   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: يقول العلامة الطحاوي رحمه الله (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ.) يريد بذلك أَنَّ أهل السنة والجماعة المتبعين للآثار لا يُعَارِضُون الآثار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام بالأقْيِسَةْ أو بالدِّلالات العقلية، وإنما يجعلونها مُقَدَّمَةً على ما هو دونها من القياس والدلالة العقلية ونحو ذلك؛ لأنَّ منهج الاستدلال عندهم أنْ يُؤْخَذَ بما جاء في الكتاب والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء في القرآن حق وما جاءت به السنة حق، والحق يعضد الحق ولا يعارضه أو يناقضه؛ بل هذا يدل على هذا كما السنة تدل على القرآن وتُبَيِّنُهْ. وهذه المسألة كما هو ظاهر مسألة المسح على الخفين هي من مسائل الفقه لا من مسائل العقيدة؛ ولكن أُدْخِلَتْ في مسائل الاعتقاد لأجل أنَّ أهل السنة تميَّزُوا عن عدد من الفرق بأنَّهُمْ يرون المسح على الخفين، والمخالف في ذلك هم الخوارج -أعني طائفةً منهم- والرافضة وعدد من الناس مختلفون في أماكنهم لا يُنْسَبُونَ إلى فرقة من الفرق. فلأجل مخالفة تلك الفرق صارت المسألة من المسائل العقدية؛ لأنَّهَا تُمَيِّزْ أهل العقيدة الحقة من الفرق الباطلة، فصارت هذه المسألة وهي المسح على الخفين صارت عَلَمَاً يُفَرَّقُ به ما بين السني وما بين الرافضي والخارجي ونحوهما. ولهذا فإنَّ مسائل الاعتقاد أعني المسائل التي تُذْكَرْ في العقيدة في مصنفات أهل السنة في الماضي وفي الحاضر على أقسام منها: 1- القسم الأول: ما هو في بيان الأركان الستة. 2- القسم الثاني: ما تميَّز به أهل السنة عن غيرهم في مسائل المعاملة؛ معاملة ولاة الأمر أو معاملة المبتدع أو معاملة العصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التعامل مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته صلى الله عليه وسلم وهكذا. 3- القسم الثالث: ما هو من المسائل الفُروعية لكن القول بها صار عَلَمَاً لأهل السنة في مقابلة بعض فرق الضَّلالْ، فتُذْكَرْ في العقائد؛ لأنها مَيْزَةٌ لهم في مقابلة الفِرَقْ التي خالفت في ذلك. 4- القسم الرابع: أخلاق أهل السنة وصفاتهم التي تَحَلَّوا بها من العبادة واحتقار النفس والعمل الصالح والأمر والجهاد والدعوة والإحسان إلى الخَلْقْ والتواضع ونحو ذلك من المسائل التي ربما ذكرها بعض الأئمة في مصنفات الاعتقاد. وهذه المسألة التي ذكرها الطحاوي هنا من القسم الثالث وهي المسائل الفروعية التي صارت عَلَمَاً لأهل السنة في مقابلة بعض الفرق الضالة. وهاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 [المسألة الأولى] : في قوله (وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) ، كلمة (أرى) و (نَرَى) إذا قالها العالم فيعْنِي بها ما رآه عِلْمَاً وما رآه شرعاً، ليست رَأْيَهُ المجرد عن الدليل بأنواع الأدلة. وهذا هو الموافق لهذه المسألة ولغيرها، فإذا قال الإمام أَرَى أن يكون كذا فيكون مُعْتَمِدَاً على أحد الأدلة. وأنواع الأدلة عند الأصوليين ثلاثة عشر دليلاً منها وهو أولها النص من القرآن، والنص من السنة، ثم الإجماع ثم القياس إلى آخر الأدلة المعروفة. والذي يَرَى هنا في قوله (نرى) المقصود بهم أهل السنة، وهؤلاء منهم أهل الأثر ومنهم بعض الفرق التي تخالف في الصفات، فهذه المسألة -كما ذكرتُ لك- خالف فيها الروافض والخوارج وعدد من العلماء أو من الناس المختلفين في فرقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 [المسألة الثانية] : (الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ) جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متواتر لأنه منقولٌ عن نحو ثمانين من الصحابة رضوان الله عليهم، فَنَقْلُهُ من حيث الدّليل بالسنة متواتر، وكذلك نَقَلَهُ فئام من الأمّة؛ بل نقلته الأمة جيلاً بعد جيل بالرؤية وبالعمل، فهو متواترٌ نقلاً ومتواترٌ عملاً. وأمَّا المسح على الجوارب فليس كذلك؛ لأنَّهُ نُقِلَ عن نحو سبعة أو ثمانية من الصحابة أو أكثر بقليل، ولهذا المسح على الجوربين فيه خلافٌ فقهي معروف عند أهل السنة. أما المسح على الخفين فهو أصل من الأصول العظيمة في العمل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تواتَرَ عنه المسح وفَعَلَهُ صحابته وتواتر عنهم ونقلوه نقلاً قولياً وعملياً. والآثار فيها مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين في أسفاره وفي الحضر أيضاً، كما قال صلى الله عليه وسلم «يمسح المقيم يوما وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن» (1) ، فهذا معنى قوله في السفر والحضر؛ لأنَّ السُّنَّةَ ماضية في هذا وهذا.   (1) مسلم (661) / النسائي (128) / ابن ماجه (552) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 [المسألة الثالثة] : مما أُسْتُدِلَّ به على المسح على الخفين من القرآن قوله - عز وجل - في آية الوضوء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، أسْتُدِلَّ به على أنَّ المسح هنا -مسح الأرجل- يُرَادُ به المسح على الخفين، والقراءة هكذا بالجر هي أحد القراءتين السبعيَّتَين، هاهنا قراءتان: - القراءة الأولى {وَأَرْجُلَكُمْ} بنصب الأرْجُل عطفاً على المغسولات. - والثانية {وَأَرْجُلِكُمْ} عَطْفَاً على الرأس عند أصحاب هذا القول؛ يعني فتكون مجرورة. وهذا الاستدلال فيه نظر، وإن كان محلُّهُ كتب الفقه؛ لكن من باب الاستطراد نذكره، فيه نظر لأنَّ المسح على الخفين لا يكون إلى الكعبين، وإنما يَمْسَحُ ظاهر الخف على ظاهر القدم، وليست السُّنَّة أن تُسْتَوعَبْ الرجل مسحاً إلى الكعبين، ولهذا صار القول الظاهر في الآية على قراءة الجر أنَّ لها توجيهين: 1- التوجيه الأول: أن يكون هذا الجر لأجل المجاورة، والجر بالمجاورة أسلوب عربي معروف كثير الاستعمال، ومنه قول الله - عز وجل - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] ، مع أنَّ الألم وصف للعذاب، وأما اليوم فهو ظرف ولا يُوصف اليوم بأنه مؤلم أو ليس بمؤلم، ولهذا صار الظاهر هنا في هذه الآية أنَّ معناها إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، يعني عذاباً أليماً في يوم، كما هو القول الأظهر من قولي العلماء هنا. وجُرَّ هنا لأجل المجاورة فهي أسهل في اللفظ ولأجل الختام قال {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، وأما في لغة العرب فهو كثير معروف ومنه قول الشاعر: فظلّ طُهَاةُ اللحم ما بين مُنْضِجٍ خفيفاً شواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ (ما بين منضج خفيفاً شواء) ؛ لأنها مفعول لاسم الفاعل. (خفيف شواء) فجر شواء لأنها مضاف إليه. ثم قال (أو قديرٍ) مع أنَّ حقها أن يقول أو قديراً لأنها معطوفة على ما يُنْضَجْ لكنه جَرَّهَا بالمجاورة. 2- التوجيه الثاني: أنَّ قراءة الجر إذا كانت معطوفة على الرأس فإنه يكون المسح هنا بأنَّ العطف في مقام تسليط الفعل الأول على الجملة الثانية أو على الاسم الثاني. فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. والمسح هنا لما جَعَلَ له غاية وهي أنه إلى الكعبين دلَّ على دخول الكعبين في المسح، وهذا يدل على أنَّ المسح المراد به هنا الغسل الخفيف؛ لأنَّ العرب تُطْلِقُ على الغسل مسحاً لأنَّهُ إمرارٌ خفيف وهو موجودٌ في اللغة، ومنه قوله تعالى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] يعني مَرَّ عليها قتلاً على خفة. فالمسح يكون بمرورٍ على خِفَّة، فالمسح الذي هو من الغَسْلْ هو غسل خفيف وهو مستعمل عندهم حيث يقولون مثلاً تَمَسَّحْتُ للصلاة إذا أراد أن يكون وضوؤه خفيفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 [المسألة الرابعة] : قراءة الجر هذه بأبْعَدَ من أن تكون دليلاً على المسح على الخفين؛ قيل إنَّهَا دليلٌ على إبطال المسح على الخفين، وهذا هو الذي يتوجه إليه من يتكلم على الآية وذَكَرَهُ عندكم الشارح والرَّدُّ بَأَوْجَهْ أن يكون بالوجهين السالفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 قال بعدها (وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا)   يريد بذلك رحمه الله تقرير مسألة من المسائل الفقهية التي صار القول بها عَلَماً على أهل السنة مُخَالَفَةً للروافض والخوارج أيضاً، وهي أنّ الإمارة والوِلاية يُمْضَى مع أهلها -يعني مع الأمير أو ولي الأمر- في الطاعة والمعروف والحج والجهاد والعبادات جميعاً، سواءٌ أكان براً أو فاجراً، وسواءٌ أكان مطيعاً أم عاصياً، وسواءٌ أكان كاملاً كالخلفاء الراشدين أم كان يخلط عملا صالحاً وآخر سيئاً كغيره. وذلك لأنَّ الحج عبادة عظيمة يجتمع فيها الخلق الكثير فلابد أن تُقَام عبادةً لله - عز وجل -، ثم لابد أن يكون فيها ولها أمير يُسَيِّرُ الناس وإلا لكانوا فوضى فيما يرون؛ لأنَّ أهواء الناس لا حد لها ولا غاية لها. والجهاد فيه مقابلة الأعداء والنكاية بهم وإذلال العدو وهذا لا يكون إلا بولاية، والولاية هي التي تُسَيِّرُ هذا الأصل، وبر ولي الأمر أو عدم بِرِّهِ، صلاحه أم فساده هذا يرجع إلى نفسه، وهذه الأمور -أمور العبادات- من المعروف الذي يجب على المسلم أن يطيع فيه ومِنَ البر والتقوى التي يجب أن يتعاون مع ولاة الأمر فيه، كما قال - عز وجل - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، الخطاب لجميع المؤمنين بجميع طبقاتهم. ونذكرهنا بعض المسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 [المسألة الأولى] : أنّ المُخَالِفْ في هذا الأصل هم الروافض والخوارج أو من شابه الخوارج. * أما الروافض فامتنعوا من الحج والجهاد مطلقاً حتى يخرج المعصوم؛ وهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم وهو المدعو محمد بن عبد الله العسكري الذي يزعمون أنه دَخَلَ السرداب وكان صغيراً، دخلت به أمه وهم ينتظرون خروجه، فلم يَحُجُّوا، أو رأوا أنَّ الحج غير قائم، لا يرونه إلا مع معصوم وكذلك الجهاد لا يرونه إلا مع معصوم. وليتهم أخذوا بهذا وانتظروا خروجه ولم يُشْغِلُوا المسلمين ببدعهم وفتنتهم. * وأما الخوارج فعندهم أنَّ هذه الأعمال إنما هي تبع للوِلاية، والوِلاية عندهم لا تصلح في مَنْ لم يكن بَرَّاً فلا بد أن يكون الإمام براً صالحاً تقياً كاملاً حتى يُجَاهَدَ معه وحتى يُحَجَّ معه، وإلا نَصَّبُوا لهم أميراً وصاروا يجاهدون معه ويحجون معه ولا يدينون بدين الجماعة، وهذا ظهر منهم في خلافهم لعثمان رضي الله عنه ثُمَّ وفي خلافهم لعلي رضي الله عنه ثُمَّ في قتالهم لخلفاء بني أمية إلى آخره. وممن يشبه الخوراج في ذلك من لم ير الطاعة -الطاعة في الحج والجهاد وما فيه مصلحة عامة للمسلمين وما هو من البر والتقوى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إلا مع الإمام الصالح الذي ليس عنده فساد أو ليس عنده محرمات. وهذا قولٌ يُلْحَقُ بأقوال الخوارج؛ لأنَّ الحج والجهاد وكل أنواع المعروف أوْجَبَ النبي صلى الله عليه وسلم الطاعة فيها فقال «إنما الطاعة في المعروف» (1) والمعروف هو ما عُرِفَ في الشرع أنه ليس بمعصية وأعلاه الطاعات التي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله - عز وجل -.   (1) سبق ذكره (478) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 [المسألة الثانية] : قوله (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) هذا المقصود منه إلى قرب قيام الساعة؛ يعني إذا كان يوجد ولي أمر مسلم وجماعة وإمام وأناس يَحُجُّون ويُجَاهدون. والذي دَلَّتْ عليه الأحاديث أنه يُتْرَكُ ذلك قبل قيام الساعة ولا يبقى في الأرض من يقول الله الله؛ يعني أطع الله أطع الله أو اتق الله اتق الله. وهذا كثير عند أهل العلم حتى في العقائد يذكرون إلى قيام الساعة، ويريدون به ما يَقْرُبُ مما هو زمن وجود المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 [المسألة الثالثة] : قوله (لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا) يعني لا يُبْطِلُ الحج شيء من معصية الولاة ولا ينقض الحج والجهاد مع ولاة الأمر شيء من فجورهم أو نَقْصِهِمْ؛ لأنَّ هذه من العبادات العظيمة فلا تبطل بمخالفة المرء على نفسه؛ بل يجب القيام بها الحج مع المسلمين والجهاد مع المؤمنين بأمرٍ عام. وهذا الأصل الذي ذُكِر -تذكرونها في أول الكلام- مضى عليه هَدْيُ الصحابة رضوان الله عليهم، فقد حَجَّ عدد من الصحابة أو حَجَّ الصحابة في عهد بعض ولاة بني أمية وكان فيهم من النقص ما فيهم؛ بل أُمِّرَّ الحجاج بن يوسف الثقفي على الحجيج من قبل والي بني أمية -والحجاج معروف بسفكه للدماء وظلمه وعدوانه وعدم رعايته للعلماء ولا لنفوس المؤمنين- مع ذلك أُمِّرَّ على الحج، وكان عالم الحج ابن عمر رضي الله عنه -لأنه كان هدي السلف أن يكون ثَمَّ أمير وثَمَّ عالم يفتي الناس-، فكان ابن عمر هو الذي يُفْتِي الناس، وقيل للحجاج لا تعمل شيئاً من أمور الحج إلا بأمر ابن عمر -يعني في مناسك الحج-، فحج معه ابن عمر وصلى وراءه في حجة الوداع -يوم عرفة أتاه عند زوال الشمس وقال: أُخرج، قال: أفي هذه الساعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم سنة أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فخرج فخطب الناس ثم صلى بهم الظهر والعصر، وكان ممن صلى خلفه ابن عمر وطوائف من الصحابة وسادات التابعين (1) . فهذا الأصل كثير عند السلف كانوا يفعلونه، وتَلَقَوهُ جيلاً بعد جيل في مُضِيِّ الحج والجهاد مع ولاة الأمر مهما كانت مرتبتهم؛ لأنَّ ذلك فيه إعلام للدين وإعانة على الحق والهدى.   (1) سبق ذكره (450) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ)   نؤمن أي نُصَدِّقُ ونعتقد وجود الكرام الكاتبين كما أخبرنا ربنا - عز وجل - بذلك وهم الملائكة الذين كَرَّمَهُم الله - عز وجل - بأنواع التكريم، وجعلهم مُوَكَّلين بابن آدم يكتبون عمله؛ ما يصدر منه من قول أو عمل. فهؤلاء الذين يُقَارِنُونَنَا من الكَتَبَة نؤمن بهم؛ لأنَّ الله - عز وجل - أخبرنا عنهم وأخبرنا عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهذا فرعٌ للإيمان بموجود الملائكة أصلاً، فهذا تبعٌ لركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة، وقد مَرَّ معنا أنَّ الإيمان بالملائكة له درجتان: 1 - الدرجة الأولى: إيمانٌ واجبٌ وفرض إجمالي وتفصيلي. 2 - الدرجة الثانية: إيمانٌ بما أخبر الله - عز وجل - مُطلقاً ما علمنا وما لم نعلم، وما جاء في السنة ما علمنا وما لم نعلم، وكل من بلغه شيء وجب عليه الإيمان به. فالإيمان بالكرام الكاتبين ليس شرطاً في صحة الإيمان، ليس رُكْنَاً في صحة الإيمان بحيث إنَّ من قال ليس ثَمَّ من يكتب من الملائكة، فيُقَال إنه لم يصح إيمانه بل هو كافر، إلَّا إذا عُرِّف بالآيات والأحاديث فأنكر فهنا له حُكْمُ أمثاله من المنكرين ما في الكتاب أو السنة، وإنما الإيمان الذي يتحقق به ركن الإيمان بالملائكة كما ذكرنا لكم، هو أن يؤمن بوجودهم وأنهم يعبدون الله لا يُعْبَدُون. ثُمَّ الإيمان التفصيلي: فكل من سمع آية أو حديثاً صحيحاً واضحاً فيه الخبر بالغيبيات وجب عليه التصديق بذلك واعتقاد ما دل عليه. والطحاوي فَرَّقَ الكلام على أركان الإيمان، وكثيرْ من العلماء الذين صَنَّفُوا في العقيدة ما رتَّبُوا الكلام على مسائل الاعتقاد بترتيبٍ منهجي؛ يعني ما جعلوا الكلام على الإيمان بالله وما يتّصل به أولاً ثم بالملائكة ثم بالكتب ثم بالرسل ثم بالقدر ثم باليوم الآخر، ثم انتقلوا إلى القسم الثاني إلى آخره؛ بل فرقوا ذلك. وهذا راجع إلى ما درجوا عليه من أنَّ المرء يكتب عقيدته بحسب ما يحضُرُهُ من المسائل، ولم يقصدوا فيها الترتيب المنهجي وإلا فمسائل الإيمان بالملائكة الكاتبين أو بملك الموت هذا متصل بإيمان بالملائكة. وهاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 [المسألة الأولى] : قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ) إلى آخره، أخَذَهُ من قول الله - عز وجل - {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، فوصفهم الله - عز وجل - بأنهم حَفَظَة علينا وبأنهم كرامٌ وبأنهم كتبة، والآيات التي تَدُلُّ لهذا الأصل متعددة -يأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى-. لكن هاهنا على هذه الآية وعلى لفظ الطحاوي رحمه الله: وَصَفَ الله - عز وجل - الملائكة هؤلاء: - الوصف الأول: بأنهم حَفَظَة على ابن آدم. - الوصف الثاني: بأنهم كَتَبَة. - الوصف الثالث: بأنهم يعلمون ما تفعلون. @ أما الوصف الأول: وهو أنهم حَفَظَة على ابن آدم فَفَرْقٌ ما بين أن يكون حافِظَاً على ابن آدم وما بين أن يكون حافظاً لابن آدم -وسيأتي بيان الفرق في المسائل التي بعدها-، ففي هذه الآية أنهم حَفَظَة على ابن آدم؛ يعني يحفظون على ابن آدم ما يصدر منه. @ ثُمَّ وَصَفَهُم بوصف ثانٍ: أنهم إذا حَفِظُوا على ابن آدم ما صَدَرَ منه فإنهم يكتبونه في صحُفْ عندهم بأيدي الملائكة، والملك مُوَكَّل بكتابة الحسنات والملك الآخر موكّل بكتابة السيئات. فإذاً الكتابة منقسمة إلى كتابة للحسنات في صحف والكتابة للسيئات في صحف. @ الوصف الثالث: أنَّهُ قال {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، والفعل الذي يفعله ابن آدم: - يكون بقلبه فيشمل أعمال القلوب. - ويكون بلسانه ويشمل ما يُحَرِّكُ به لسانه ولو لم ينطق به. - ما يعمله بجوارحه المختلفة من الأيدي والأرجل والفرْج واللسان إلى آخره، فكل ما يعمله بجوارحه أيضاً تَعْلَمُهُ الملائكة. هذه دلالة الآية. هل يُكْتَبُ هذا كله؟ ظاهر الآية أنَّ هذا بأجمعه يُكْتَبْ. وآية سورة (ق) فيها قول الله - عز وجل - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . {رَقِيبٌ} يراقبه. {عَتِيدٌ} يعني مُعَدٌّ للحفظ عليه ولمراقبته، فكل شيء -يعني مما يلفظه- يُعْلَمْ فَيُكْتَبْ. ودلالة آية الانفطار هذه تشمل الأصناف الثلاثة، وهذا هو الصحيح أنَّ الملائكة تكتب أعمال القلوب؛ لأنها أفعال، وتكتب عمل اللسان ونطق اللسان، وتكتب عمل الجوارح؛ وذلك لأنَّ عمل القلب منه ما هو واجب وهو إخلاصه ونيته وتوكله على الله وخوفه ورجاؤه ونحو ذلك، من أعمال القلوب، وهي أعظم العبادات التي يتعبد بها المرء رَبَّه هذه العبادات الجليلة. ثُمَّ من أعمال القلوب ما يكون من باب إتيان السيئات مِنَ: الهم، أو إرادة السيئة والعزم عليها، أو من المنهيات من سوء الظن بالمسلم، أو سوء الظن بالله - عز وجل -، أو نحو ذلك من الكِبْرْ إلى آخره من المنهيات. والملائكة يعلمون هذا كله. وعِلْمُهُمْ به، هل هو لقدرتهم عليه ذاتاً؟ أو لأنَّ الله - عز وجل - أقْدَرَهُمْ عليه لأنهم مُوَكَّلون بهذا الأمر؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ الملائكة ليس لهم سلطان على ابن آدم ولا علم بالغيب، وإنما الله - عز وجل - أقْدَرَ هذا الصنف من الملائكة بخصوصه على الإطلاع لأنهم موكلون بالكتابة، والقلب يُحَاسَبْ عليه الإنسان واللسان يُحَاسَبْ عليه وكذلك الجوارح يحاسب عليها. فإذاً كل هذه تُكْتَبْ وحتى ما يكون من قبيل الهَمِّ الذي يَهُمْ به الإنسان فإنه يُعْلَمْ ويُحفَظْ، ثم هل يُكْتَبُ عليه أو يُكْتَبُ له؟ هذا فيه البحث المعروف لديكم في أنّ «الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (1) والمقصود بـ (ما حدّثت به أنفسها) ما هو من قبيل الهم أو من قبيل الوسوسة أو من قبيل حديث النفس؛ لكن إذا انْتَقَلَ الهم أو حديث النفس إلى العزم والإرادة على الشرّ صار مُؤَاخَذاً عليه، إذا انتقل حديث النفس أو الهم هذا إلى شرف المكان وهو مكة فإنه يُؤَاخَذُ عليه في قول بعض أهل العلم وهكذا. فإذاً {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} هذه عامة يمكن أن يُسْتَثْنَى منها ما تجاوز الله - عز وجل - لهذه الأمة عنه والباقي على عمومه. وهذا مما يُعْظِمُ الخوف من حركات العبد وفي قلبه ولسانه وجوارحه، ويُعْظِمْ عند العبد المؤمن شأن الاستغفار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْسَبُ له في المجلس الواحد أنه يستغفر ويتوب إلى الله مائة مرة؛ لأجل عِظَمْ ما يفعله وما تَعْلَمُهُ الملائكة، فإنَّ أشباهنا أعظم وأعظم وأعظم حاجة إلى كثرة الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله - عز وجل -.   (1) البخاري (5269) / مسلم (347) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 [المسألة الثانية] : كثير من العلماء عند هذه المسألة -عند ذكر الكرام الكاتبين وعند الآية- يجعلون الكَتَبَة والحَفَظَة شيئاً واحداً، فيجعلون الجميع أربعة ملائكة: - منهم اثنان للكتابة. - اثنان للحفظ. وهذا دَرَجَ عليه كثيرٌ من العلماء في شروحهم حتى شارح الطحاوية عندكم نَسَجَ على هذا المنوال. وهذا الأمر يحتاج إلى نظر وجمع للنصوص والأحاديث حتى تُنْظَرَ في دلالتها، والذي يظهر لي بنوعٍ من التأمل وليس ببحثٍ مستفيض: أنَّ الملائكة الكتبة غير الحَفَظَة. فالحَفَظَة يحفظون الإنسان، وأمَّا الكتَبَة فإنهم يحفظون عليه. الحَفَظَة هم المُعَقِّبَات الذين ذكرهم الله - عز وجل - في قوله في سورة الرعد {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، أوجَهْ التفاسير فيها أنَّ معنى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعني يحفظونه بأمر الله؛ يعني يحفظونه وحِفْظُهُمْ له بأمر الله لهم أن يحفظوه، وفيه -يعني في الحفظة- قوله صلى الله عليه وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة أربعة بالليل وأربعة بالنهار فيجتمعون» (1) إلى أخر الحديث «فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» (2) : [[الشريط السابع والثلاثون]] : وهذا الحديث يدل على أنَّ الحفظة هؤلاء يتعاقبون، منهم من يحفظ بالليل ومنهم من يحفظ بالنهار، وأنَّ هؤلاء يلتقون في وقت الصلاة، يعني في هذا الوقت من اليوم ثم يُفَارقون العبد. وهذا خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية الأخرى والأحاديث في وصف الملائكة الكَتَبَة في أَنَّهُم لا يُغَادرون ابن آدم ولا يفارقونه على أيّ حال كان فيها حاشا الجنابة. فإذاً نقول: الذي يظهر من الأدلة التفريق في الحفظ ما بين الحفظ لابن آدم والحفظ عليه: - فحفظ ابن آدم هذا عمل الملائكة الذين يتعاقبون؛ المُعَقِّبَات. - وأما الحفظ عليه فهذا عمل الكَتَبَة. والكَتَبَةُ اثنان: أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات. وأما الحَفَظَة: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم أربعة يتعاقبون في الليل والنهار.   (1) البخاري (555) / مسلم (1464) (2) انتهى الشريط السادس والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 [المسألة الثالثة] : الإيمان بالكَتَبَة يقتضي الإيمان بأنَّهُمْ يَكْتُبُون؛ لأنَّ أصل المسألة الإيمان بالملائكة الكَتَبَة، ويقتضي ذلك الإيمان بأنهم يكتبونَ في صحف، وقد جاءت الأدلة في السنة أنَّ منهم من يكتب الحسنات ومنهم من يكتب السيئات. وربما تنازعوا في كتابة بعض الأشياء فيحكم الله - عز وجل - بينهم. والكتابة هذه في صحف الملائكة هذه هي التي تُجْمَعْ على العبد، وهي كتَابُهُ الذي يُجْمَعُ معه في عنقه إذا أُدْخِلَ القبر، وهو الذي جاء فيه قول الله - عز وجل - {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، وهي الصُّحُفْ التي يُحَاسِبُ الله - عز وجل - العبد بها فَيُقَرِّرُه على ما فيها من أعمال، وفيه أنَّهُ يَسْأَلُهُم ربنا - عز وجل - هل ظَلَمَكُم ملائكتي؟ فيقولون: لا يا رب، يعني بعد أن يُحَاسِبَهُم الرب - جل جلاله -. وإذا كان كذلك فإنَّ مقتضى الإيمان بالكتابة وأنَّ الإنسان على ما في قلبه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة لسانه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة جوارحه يُكْتَبُ له أو عليه، فإنَّ عِظَمْ الإيمان بهذا الأصل يطلب العبد إلى أَنْ يَجعَلَ صحائفه ليس فيها إلا الخير، وإذا عمل شيئاً من السوء فليُعظْمِ ْالحسنات الماحية وليُعظْمِ الاستغفار الذي يمحو الله - عز وجل - به السيئات. ولهذا صار من نتائج الاعتقاد الصحيح أنَّ العبد يكون أذل ما يكون لله - عز وجل -، فأصحاب العقيدة الحَقَّة يَذِلُّونَ لله - عز وجل - حتى ولو عَصَوا أو صار عندهم ما صار فإنهم أكثَرُ ذُلَّاً لله - عز وجل -؛ لأنَّ عندهم من الإيمان بالغيبيات واليوم الآخر وبالكتابة وبمعرفة الله - عز وجل - والعلم به وصفاته وما هو عليه - جل جلاله - من نعوت الجلال والكمال ما يوجب عليهم قسراً أن لا يكون في قلوبهم إعراض أو كِبْرْ أو طاعة للشيطان في البعد عن ربهم - جل جلاله -. ولهذا الوصية للجميع أنّهم إذا عَلَّمُوا العقيدة فإنهم يُعَلِّمُونَهَا لأنَّ صلاح القلب به تَصْلُحْ الأعمال، وهذا واقع. وأما أهل الكلام وأهل البدع فإنهم يُعَلِّمُونَ مسائل الاعتقاد كمسائل عقلية، مسائل عقلية ينظرون إليها نظراً عقلياً برهانياً، عقلياً أو نقلياً دون نظر في آثار ذلك، ولهذا تجد فيهم من قسوة القلوب ومن قلة العبادة، وترك التواضع، والكِبِرْ إلى آخره من الصفات المذمومة ما فيهم. بخلاف أهل الحق من أهل السنة والحديث والعبادة، فإنهم ألْيَنْ قُلُوباً لأجل ما معهم من العلم بالله - عز وجل -، وأكثر تواضعاً للخلق، ونفع للعباد وخوف من الله - عز وجل -، لأجل صحة العقيدة أثمرت في قلوبهم وفي أعمالهم. زادني الله - عز وجل - وإياكم من الهدى وغَفَرَ لنا ما كان منا من نقصٍ أو ضعف أو ذنب أو خطيئة إنّه سبحانه غفور رحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ)   مَلَكُ الموت الذي يقبض الأرواح ذَكَرَهُ الله - عز وجل - في القرآن في قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] ، فالإيمان به إيمانٌ بالملائكة وإيمانٌ بما ذَكَرَ الله - عز وجل - وأخْبَرَ به من ملك الموت بخُصُوصِهِ ومن الرُّسُل التي تتوفى نفس المؤمن. فالإيمان بذلك فرض، والذين يُنْكِرُونَ الغيبيات ربما أنْكَرُوا حقيقة المَلَكْ الذي يقبض الأرواح، ومنهم من يقول: الروح إذا ذهبت فإنها تذهب إلى جسد آخر فَتَحِلُّ فيه، ونحو ذلك من أقوال الحلولية أو التناسخية أو ما أشبه ذلك ممن يرون التَّجَسُّدْ، يعني العودة إلى التَجَسُّد كما يزعمون من أهل القديم والحديث من المنتسبين للإسلام أو من ملل الكفر والضلال. يريد الطحاوي رحمه الله بهذه الكلمة أن يقول: إنَّ أهل السنة والجماعة مُسَلِّمُونَ للنص فيؤمنون بملك الموت وأنه يقبض الأرواح وأنه مُوَكَّلٌ بها، مُفُوِّضٌ إليه قبض الأرواح، وهذا ظاهر في دلالة الآية على ما ذكرنا. ونذكر عدة مباحث ومسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 [المسألة الأولى] : ملك الموت جاء ذكره مَرَّة مُفْرَدَاً وجاء ذكره في موضع آخر في القرآن مجموعَاً بأنهم رسل في سورة الأنعام في قوله {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت وجنود ملك الموت، فهو لهم كالملك أو كالأمير الذي يأمرهم ويطيعونه، هذا منهم من يقبض نفس فلان ومنهم من يقبض نفس فلان إلى آخره، فقوله - عز وجل - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} هو بمعنى قوله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61] ؛ لأنَّ ملك الموت ومن معه يمتثلون أمر الله - جل جلاله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 [المسألة الثانية] : متى يقبضون الروح هل هو بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ من الله - عز وجل -؟ أوإذا انتهى الأجل بما معهم من صُحُفْ بأنَّ أَجَلَ فلان ينتهي بالوقت الفلاني؟ خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة. والذي يظهر هو الأول لأنَّهُم وُكِّلُوا والمُوَكَّلْ يقبض بأمر المُوَكِّلْ وهو الله - جل جلاله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 [المسألة الثالثة] : قوله (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) جاء فيه الآية نَصَّاً أنَّهُمْ مُوَكَّلُون، وهذا لا يعني أنَّ المُوَكِّلَ غائب أو أَنَّ المُوَكِّلَ قاصر؛ ولكنَّ الله - عز وجل - خلق الملائكة وجَعَلَ لهم هذه المهمة وغيرها من المهام للتَّعَبُّدِ لا لِنَقْصٍ في ملكوت الله - عز وجل - أو في صفاته - جل جلاله -؛ بل هو الكامل وله الصفات الكاملة سبحانه ولكن لأجل التَّعَبُّدِ بذلك. وهذا فيه من الاعتقاد بتصرف الله - عز وجل - في ملكوته في جميع الخلائق ما يطول وصفه، إذا نُظِر إلى سَعَةِ ملك الله وسَعَةِ التصرفات في الملكوت وكثرة الملائكة وأنهم مُوَكَّلُون هذا بكذا وهذا بكذا إلى آخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 [المسألة الرابعة] : ذكر لك هنا الشارح ابن أبي العز كلاماً طويلاً في الكلام على الأرواح والروح وحقيقتها والنفس والفَرْقُ بينها وبين الروح، وهل الروح مخلوقة الآن، الأرواح مخلوقة أوغير ذلك من البحوث التي هي استطراد، لأجل ذِكْرْ الطحاوي لفظ (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) . وتَبِعَ في ذلك؛ بل نقل نَصَّاً ما فتاوي ابن تيمية في الجزء الرابع من البحث في مسألة الروح والنفس والبحث في الآية {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، بما يُطَالَعُ ويُسْتَفَاد من كلامه إن شاء الله تعالى. يعني مباحث الروح ليست من المباحث المهمة في فهم كلام الطحاوي في هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 [المسألة الخامسة] : في قوله (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) لفظ (الْعَالَمِينَ) يريد به هنا من له رُوحْ من المُكَلَّفين. (بِقَبْضِ أَرْوَاحِ العَالَمِينَ) يعني من له روح من المكلفين دون غيرهم، وذلك لِدِلَالَةْ ظاهر الآية على ذلك بقوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} {يَتَوَفَّاكُمْ} الخطاب للمُكَلَّفين من الجن والإنس. ولفظ (العَالَمينَ) له في القرآن عدة إطلاقات: 1- الإطلاق الأول: وهوالمعروف وهو أنه اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، وهذا هو الذي يُذْكَرْ عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يقول العلماء: العالمون اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، فكل ما سوى الله عَالَمْ وأنا واحِدٌ من هذا العالم. لكن هذا الاستدلال أو هذا التفسير ليس تفسيراً وحيداً؛ يعني ليس إطلاق لفظ (العَالَمينَ) على هذا المعنى فقط، فإنَّ العالمين كلفظ في الكتاب والسنة يطلق على هذا المعنى ويُطْلَقُ إطلاقات أُخَرْ. 2- الإطلاق الثاني: أنَّهُ يراد بـ (العَالَمينَ) الناس الذين تُشَاهِدُهُم، كما في قوله - عز وجل - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} ، ومعلومٌ أنَّ {الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} لا يشمل الملائكة لأنهم ليسوا بإناث ولا يشمل الجن لأنهم لا يدخلون في هذا اللفظ. فقوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} يعني به - عز وجل - أو معنى الآية يعني الناس الذين يأتُونَهُم ويَرَونَهُم. 3 - الإطلاق الثالث: يأتي لفظ (الْعَالَمِينَ) ويُرَادُ به أهل الزمان الواحد من الإنس والجن، أهل الزمان الواحد يقال لهم عالمَوُنْ، وهذا يُسْتَدَلُّ عليه بقول الله - عز وجل - {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] ؛ يعني بهم بني إسرائيل اخْتِيرُوا على العالمين المراد بهم أهل الأرض في ذلك الوقت، أهل ذلك الزمان من الجن والإنس، وقد اختار الله - عز وجل - بني إسرائيل على علم لأنَّهم أصلح ذلك الزمان. وهذه الإطلاقات الثلاث موجودة أيضاً في السنة. ومن أهل العلم من يُقَسِّمْ هذا التقسيم ومنهم من يقول إنَّ المراد هو الأول فقط. وهذا الإطلاق الأول (عَالَمْ) وهو أنَّ كل ما سوى الله - عز وجل - عَالَمْ وأنا واحد من هذا العالم، هذا عامٌّ يُرَادُ به الخصوص في مواضع. وهذا وَجْهْ هو قوي وواضح؛ يعني أنَّ السياق يَدُلُّ على إخراج بعض ما دل عليه العموم، فقول الله - عز وجل - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} معلومٌ أنَّهُ لا يدخل فيهم الجن ولا يدخل فيهم من ليس مُشَاهَدَاً لهم إلى آخره، فلم يأتوا كُلَّ ذَكَر وإنما أَتَوا بعض الذكور الذين رَأَوهُمْ، فيكون هذا من العام الذي أُرِيْدَ به الخصوص، كذلك قوله {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} يُرَادُ به العَالَموُن الذين في زمانهم فهذا من العام المخصوص؛ لأنهم لم يُفَضَّلُوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يُفَضَّلُوا على الملائكة فيكون هذا من العام المراد به الخصوص. المقصود من ذلك أنَّ قوله هنا (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) يُرَادُ به العالَمون الذين لهم روح ومن المكلّفين. نقف عند هذا إن شاء الله تعالى، ونكمل غَدَاً بإذن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ. وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: قال رحمه الله هنا (وَنُؤْمِنُ ... بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ) هذه الجملة تقريرٌ لما يجب الإيمان به بما دلّ عليه النص من الكتاب والسنة من أنَّ القبر يُعَذَّبُ أهلُه فيه ويُنَعَّمُ أهله فيه، فما بين مُعَذَّبٍ ومُنَعَّم، وما بين مُعَذَّبٍ دائماً وما بين مُنَعَّم دائماً. وهذا الأصل في الإيمان بعذاب القبر وبسؤال منكر ونكير وفتنة القبر، قد دَلَّ عليه القرآن والسنة وتظاهرت الأدلة وتواترت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على أنَّ القبر والبرزخ يكون فيه عذاب ويكون فيه نعيم للإنسان المكلَّف على ما يَحْكُمُ الله - عز وجل - به على الميت. وأصل هذه المسألة في إيرادها في العقائد لأجل أنَّ طائفةً من المعتزلة والجهمية والفلاسفة وأهل الكلام يُنْكِرُونَ عذاب القبر ويُنْكِرُونَ السؤال والفتنة، وذلك لعدم إيمانهم بِدِلَالَةِ السنة والحديث على ذلك، ويتأولون ما جاء في القرآن مما يَدُلُّ على عذاب القبر. ومن جنس المسائل السابقة فإنّ تقرير هذه المسألة في العقائد له أوجه: 1- الوجه الأول: أنَّ عذاب القبر وفتنة القبر أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد؛ لأنَّهَا لا تُدرَك بالنظائر ولا تُدرِكها العقول؛ بل تَحَارُ فيها العقول، فيجب الإيمان بها والتسليم على نحو ما جاء في الخبر الصادق في الوحي. 2- الوجه الثاني: أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة دَلَّتْ على حصول العذاب في القبر والنعيم فيه، وعلى السؤال والفتنة في القبر، وهذه في كثرتها معنىً تَدُلُّ على تواتر الدليل بثبوت العذاب وأنَّ دار البرزخ محل للنعيم وللعذاب على الإنسان، وإذا كان كذلك فيجب التسليم لما دَلَّ عليه الدليل، فكيف إذا كان متواترا معنىً أو متواتراً لفظاً وهو أعلاه. 3- الوجه الثالث: أنَّ المخالفين خَالَفُوا في هذا ممن يُحَكِّمُونَ العقل ويَرُدُّونَ عَالَم الغيب إلى عَالَم الشهادة، ويقيسون الأمور الغيبية على الأمور المُشَاهَدَة، ويُحَكِّمُونَ العقل فيما جاءت به النصوص في أنَّ هذا يُعْقَلْ وأنَّ هذا لا يُعْقَلْ فيحملونه على العقول. فلأجل مخالفة الضالين ممن ذكرنا من طوائف من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام وبعض فقهاء السنة إمَّا في كل المسألة أو في بعضها نَصَّ عليها وصارت من مسائل العقائد التي يُعْلِنُ أهل السنة الإيمان بها وتقرير ما دلت عليه. وكما ذكر لك الطحاوي هنا أنَّ هذا الإيمان سِمَةٌ لأهل السنة والجماعة المُسَلِّمِينَ للنُّصُوص، وأنه تَبَعٌ لما جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَصَّ الطحاوي على الأخبار ولم يذكر الآيات؛ لأنَّ الأخبار متواترة معنىً في الدلالة عليه، وأما الآيات فإنها قليلة وهي مجال للأخذ والتأويل عند من تَأَوَّلَ، والحجة هنا ظاهرة فيما تواترت بها السنة. فيجب أن يكون على ما أوْرَدَهُ هنا يجب أن يكون الاستدلال قائماً على الكتاب والسنة؛ لكن إن كان المُعَارِضْ يَتَأَوَّلُ أحد الأدلة فإنه يُسْتَدَلُّ عليه بما لا يكون مجالاً لِتَأَوُّلِهِ فيه، وهذا هو الذي صنعه الطحاوي رحمه الله هنا. والأَدِلَّة التي دَلَّتْ على هذا الأصل من كتاب الله - عز وجل - ومن السنة كثيرة، يمكن أن تُراجَع في كتاب الروح للعلامة ابن القيم أو في شرح ابن أبي العز لهذا المتن، ونذكرمنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 1 - قول الله - عز وجل - لمَّا ذَكَرَ آل فرعون قال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] . 2 - وقال أيضاً - عز وجل - {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] . 3 - وقال - عز وجل - أيضاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال:50-51] . 4 - في آية الأنعام {وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] فقوله - عز وجل - هنا {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هذا متعلقٌ بإخراج الرُّوحِ من بدن الكافر، و {الْيَوْمَ} دِلَالَة على بداية العذاب وهو بداية الحياة البرزخية. 5 - وكذلك من الأدلة في القرآن قول الله - عز وجل - {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:48] ، ويَعْنِي بـ {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} العذاب الأكبر يوم القيامة، وهو ما يكون في البرزخ، وهكذا في أنواعٍ من الأدلة. وهذه كما ذكرنا لك ربما تَأَوَّلَهَا المُعَارِضُ من الفِرَقِ الضالة؛ لكن كثرتها وظهور كلام السلف فيها يدلّ على أنها في عذاب القبر والبرزخ. وأما السنة فهي كثيرة جدا منها: 1 - قوله صلى الله عليه وسلم «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» (1) . 2 - ومنها «أنَّ المسؤول في القبر إذا أجاب بالإجابة الصائبة فيُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من نعيمها ونسيمها، إلى آخره، وأما الذي لم يُحسن الجواب أو الكافر أو الفاجر أو المنافق فيُفتح له باب إلى النار فيأتيه من حَرِّهَا وسمومها» (2) إلى آخره. 3 - ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما مَرَّ على قبرين «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير» (3) فأثبت أنهما يعذبان. 4 - وذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ المسؤول «يُضْرَبْ إذا لم يحسن الجواب بمطرقة أو بمِرْزَبَّةٍ من حديد يسمعها من يليه إلا الجن والإنس» (4) . 5 - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر» (5) . 6 - ومنه أيضاً سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة بأنواع الأدعية للميت أن يقيه الله - عز وجل - عذاب القبر، وربما دعا لصغير لم يبلغ الحلم أن يقيه الله عذاب القبر (6) . والأدلة في السنة على هذا كثيرة جداً كما ذكرنا تبلغ مبلغ التواتر المعنوي المختلف. فإذاً الأدلة على ذلك من الكتاب متنوعة، ومن السنة متواترة، وهذا يُثبت هذا الأصل العظيم، ويكون فيه أعظم رد على المخالفين من الفِرَقِ الضالة. إذا تبيَّن ما قرَّرَهُ هنا الماتن نذكر هاهنا عدَّة مسائل:   (1) الترمذي (2460) (2) المسند (18557) (3) البخاري (218) / مسلم (703) (4) أبو داود (4753) (5) مسلم (7392) / النسائي (2058) (6) النسائي (1983) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 [المسألة الأولى] : قوله (بِعَذَابِ الْقَبْرِ) عذاب القبر اسم (1) لما بعد الموت، وقيل عنه عذاب القبر تَغْلِيباً، وقد يكون عذاباً في القبر وقد يكون عَذَابَاً في غير القبر. يعني أنَّ من فارَقَتْ روحه جسده فإنَّهُ إمَّا أن يُنَعَّمْ وإما أن يُعَذَّبْ، وغالب الناس من جميع الملل والنِّحَلْ والديانات يُقْبَرون، فلذلك صارت سِمَةً للمسألة اسم نعيم القبر أو عذاب القبر، وإلا فحقيقتها عذاب البرزخ ونعيم البرزخ؛ لأنَّ الحياة المقصود بالتَّنَعُّمِ أو العذاب فيها هي الحياة الثانية وهي الحياة البرزخية. فالحياة ثلاث: - الحياة الدنيا. - والحياة البرزخية. - والآخرة. والمقصود هنا الحياة البرزخية ولذلك من دُفِنَ أو من لم يُدْفَنْ وأُحْرِقَ وذُرَّ أو من أُكِل فَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ أو مَنْ رُمِيَ في البحر ولم يُقْبَرْ أو إلى آخره، أو من رُفِعَ في مكان ولم يُجْعَلْ تحت الأرض في قبر، فالجميع صاروا إلى حياةٍ برزخية. فإذاً قول العلماء عذاب القبر أو ما جاء في الدليل في بعض النصوص من تسميته عذاب القبر هذا من باب التغليب؛ لأنَّ غالب الناس يُدْفَنُون. وقوله هنا (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا) يعني بِحَسَبِ عِلْمِ الله - عز وجل - فيه، فمن هُوَ أهل للعذاب عُذِّبْ، ومن هو أهل للنعيم صار في نعيم.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع والثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 [المسألة الثانية] : عذاب القبر مُسَلَّطٌ على الإنسان المُكَلَّفْ، والإنسان المُكَلَّفْ اسْمْ لِرُوحِهِ وجَسَدِهِ، ولذلك الأدلة التي دَلَّتْ على حصول عذاب القبر تتناول الروح والجسد معاً، فالعذاب والنعيم يقع على الروح ويقع على الجسد. يقع على الروح مُتَّصِلَةً بالجسد بنوع من الاتصال الذي يصلح للحياة البرزخية، ويقع على الروح مُجَرَّدَة، وربما على البدن مُجَرَّدَاً؛ يعني على البدن وحده ونحو ذلك. ذكر هذا طائفة من العلماء لأجل دِلَالَةْ النصوص على هذا وهذا. والظاهر أنَّ العذاب والنعيم وما يحصل في البرزخ يقع على الإنسان بروحه وجَسَدِه؛ لكن تَعَلُّقْ الروح بالجسد هنا يختلف، لهذا صار قول أهل السنة والجماعة أنَّ العذاب يقع على الروح وعلى الجسد، وأنَّ النعيم أيضاً في المقابل للروح وللجسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 [المسألة الثالثة] : المخالف في تَعَلُّقْ الروح بالبدن هنا ربما كان من المنتسبين للسنَّة، فمن المنتسبين للسنة من العلماء من يقول العذاب على الروح والنعيم للروح وأما البدن فإنه لا يُعَذَّبْ ولا يُنَعَّمْ كما ذكرنا، ولهذا صارت أقوال أهل السنة في هذه المسألة؛ يعني المنتسبين للسنة ثلاثة أقوال: 1- القول الأول: قول أهل السنة الذي دَوَّنوه في عقائدهم وقَرَّرَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّ العذاب -كما ذكرنا- والنعيم يقع على الروح والجسد معاً على هذا وهذا. 2- القول الثاني: أَنَّهُ على الروح فقط دون الجسد، وهذا قول طائفة منهم ابن حزم، وطائفة من المعتزلة والأشاعرة وجماعة، هذه إضافة المعتزلة والأشاعرة، وأقوال أهل السنة يدخل فيها ابن حزم. 3- القول الثالث: أَنَّ العذاب والنعيم يكون للروح والبدن ما دام باقياً، وأما إذا تحلل فإنه يكون العذاب والنعيم للروح فقط. وظاهر الأدلة كما ذكرنا هو الأول وهو الذي قَرَّرَهُ الأئمة وللمسألة تفصيل وردود على ابن حزم وعلى غيره تُطْلَبْ من المطولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 [المسألة الرابعة] : الروح والبدن ذكر العلماء أن لها أربعة (1) أنواع من التعلق وهو: 1- أنَّ الروح تتعلق بالبدن قبل الولادة وبعد نفخ الروح: وهذا التعلق ناقص ليس للروح فيه إدراكات ولا إحساس، ولهذا الجنين في بطن أمه لا يحصل له بكاء ولا ضحك، إلى آخره من الأشياء التي يُسْتَدَلُّ بها على حصول الإحساس عنده في روحه حيث تعلقت ببدنه. 2- تعلق الروح بالبدن بعد الولادة: والروح تَتَنَمَّى معلوماتها وإدراكاتها مع الزمن، وتوحيدها وضِدُّهُ والشرك مع الزمن، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، إذا صُرف عن الفطرة فإنه يكون بالتعليم يَتَنَمَّى هذا في الروح، والبدن يتبع الروح في ذلك، فعنده من الاستعداد ما عند الروح فهو كالآلة وبينهما تَعَلُّق كبير؛ لكن الحياة المحسوسة للبدن من جهة النماء والاستعدادات إلى آخره والرُّوحُ هنا تبعٌ له. 3- تعلق الروح بالبدن في البرزخ: الحياة البرزخية بعكس الحياة الدنيا؛ لأنَّ الروح هنا اكتملت، والبدن في انتهاء، وأما الروح فقد اكتملت، فالحياة للروح والبدن تَبَعْ؛ يَتْبَعُ الروح فيما يختص بالروح، فإذا تَنَعَّمَتْ الروح وَصَلَ إلى البدن من النعيم، وإذا تَنَعَّمَ البدن يحصل ويصل إلى الروح النعيم أو العذاب، ولك أن تقيس ذلك بالحياة الدنيا فإنه في الدنيا يحصل العذاب والنعيم للروح والبدن لا يصيبه ظاهراً عذاب أو نعيم؛ لكن يصل إليه لأجل تَعَلُّقْ الروح به والحياة في البرزخ للروح والبدن تبع؛ لأجل أنَّ النماء لا يكون للبدن بل يكون إلى زوال والروح مُسْتَقرُّها عند رب العالمين. 4 - تعلق الروح بالبدن في الحياة الأخرى: وهي أنَّ الحياة للروح والبدن جميعاً في أكمل تَعَلُّقْ بحيث إنَّ الروح كاملة للبقاء والبدن كامل للبقاء، لا يعطب البدن بحيث يَفْنَى ولا تعطب الروح، فالحياة بينهما كاملة والتَّعَلُّقْ أكمل ما يكون، ولهذا في الحياة الآخرة النعيم والعذاب يقع على هذا وهذا في أكمل حال. وقد جاء عن بعض السلف في ذكر العذاب أنَّ الروح والجسد اختصما يوم القيامة عند الحساب. فقال الجسد للروح: أنْتِ أمرتني بالشر، ونهيتني عن الخير. وقالت الروح للجسد: لو لم تفعل لما صار عليك العذاب. فاختصما إلى المَلَكْ، فقال: المَلَكْ إنما مثلكما مثل رجلين أعمى لا يَرَى، ومُقْعَدْ لا يستطيع القيام، أتيا على بستان فيه من الثمار، فقال: المُقْعَدْ إني أرى كذا وكذا من الثمار ولكني لا أستطيع الوصول إليه. وقال الأعمى: إني لا أرى شيئاً ولكني أستطيع الوصول إليه إنْ أرشدتني. قال له المقعد احملني: وأنا أتناول لي ولك، فالعمل صار بينهما جميعاً. قال الملك: فكذلك أنتما فلوما حالكما. وهذا واقع؛ لأنَّ حقيقة الروح والبدن في تَعَلُّقِهِما لا يعلم مداه إلا رب العالمين؛ لهذا وجب التسليم لما دَلَّتْ عليه النصوص في حال الروح وفي حال البدن وفي تَعَلُّقِ هذا وهذا دون أخْذٍ بما يدل عليه العقل المخطئ.   (1) قال الشارح في شرحه للطحاوية بتحقيق أحمد شاكر صفحة 395: فالروح لها خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه إلتفات البتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيمة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا، فالنوم أخو الموت. فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 [المسألة الخامسة] : عذاب القبر هل هو عامٌّ لجميع فئات الأمة أم هو لبعض الفئات؟ يعني هل يشمل غير المُكَلَّفِين أم إنَّ عذاب القبر ونعيم القبر للمُكَلَّفِين؟ يعني من مات وهو صغير لم يبلغ سن التكليف أو مات وهو مجنون أو إلى آخره، ممن ليسوا محل التكليف، هل يحصل لهم في القبر نعيم أو عذاب؟ والجواب: أنَّ المُتَقَرِّرْ عند أئمة الإسلام أنَّ نعيم هؤلاء إذا لم يجر عليهم التكليف أنهم في ذلك تبع لحال آبائهم، فآباؤهم لمَّا كانوا مسلمين فإنَّ هؤلاء من أهل الجنة، فأطفال المسلمين الذين يموتون هم من أهل الجنة ومن أهل النعيم؛ لأنهم على الفطرة ولم يَجْرِ عليهم التكليف. والصغير تُكْتَبُ له الحسنات لأنها فَضْلٌ من الله - عز وجل - ونِعْمَةْ، ولا تُكْتَبُ عليه السيئات لأنه لم يَجْرِ عليه القلم، فإذا عمل بحسنة تكتب له ويثاب عليها، وإذا عمل بسيئة فإنه لا يُؤَاخَذُ عليها لأنه لم يجر عليه التكليف، فيكون تَنَعُّمُهُ في القبر هو الأصل؛ لكن قد يُعَذَّبْ كما ثبت في السنة في الموطأ وغيره أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لصبي أن يقيه الله عذاب القبر (1) ، فهل يكون معنى عذاب القبر هنا العذاب الذي يصيب المكلفين أو هو معنىً آخر؟ اختلف العلماء في ذلك -يعني علماء السنة-: 1- القول الأول: إنَّهُ يُصِيبُهُ العذاب كما يُصِيبُهُ النعيم، والله - عز وجل - أعلم بما كان سيعمل لو كَبُر، وهذا قول طائفة من أهل السنة. 2- القول الثاني: وهو الصحيح الذي عليه أهل التحقيق أنَّ العذاب هنا ليس المراد منه العذاب الذي يصيب الكبار وهو العذاب على السيئات؛ لأنَّ الصغير ومن مات وهو مجنون لم يُكَلَّفْ -يعني جُنَّ وهو صغير ثم كَبُر ولم يُكَلَّفْ وأشباه هؤلاء- فإنهم ليس عليهم سيئات حتى يُعَذَّبُوا عليها؛ لأنَّ هذا الأصل واضح أنَّ القلم لا يجري إلا مع البلوغ. فإذاً تُفهم أحاديث الدعاء للصغار بأن يقيهم الله عذاب القبر كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لصغير بقوله «اللهم قِهِ عذاب القبر» أنَّ العذاب هنا هو الألم الذي يحصُلُ للمدفون، والألم ليس دائماً في مقابلة سيئات عَمِلَهَا فقد يكون من أنواع الآلام التي الله أعلم بها مما يحصل في القبر كضمته أو أشباه ذلك مما يكون فيه من الموجعات؛ لكن الألم لا يعني العذاب، والقبر والبرزخ عَالَمٌ الله أعلم به. * لذلك نقول: الصحيح أن يُحمل قول النبي في دعائه لمن لم يجر عليه التكليف «اللهم قِهِ عذاب القبر» على أنَّ المراد الألم والسوء وليس المراد العذاب الذي هو في مقابلة السيئات لأنَّ الصغير لم يجر عليه التكليف.   (1) الموطا (536) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ)   منكر ونكير مَلَكَانْ يأتيان الميت ويَسْأَلَانِهِ عن ربه وعن دينه ونبيه. وقد جاء في ذكر المَلَكَينْ عِدَّةْ أحاديث وهي حسنة أو صحيحة في التنصيص على اسميهما أنهما منكر ونكير، أو الأول المنكَر والثاني النكير. وقد قال بعض العلماء إنَّ الأول اسمه المُنْكِرْ -على اسم الفاعل- والثاني النَّكِيْرْ، وهذا ليس بصحيح بل هو مُنْكَرْ ونكير يعني أيضاً مَنْكُورْ، مُنْكَرْ في شكله وهيئته، ونكير أيضاً في شكله وهيئته وذلك لأنهما من صِفَتِهِمَا كما جاء في الحديث أنهما شديدان أزرقان يأتيان في صورة لم يألفها الميت (1) . الإيمان بسؤال منكر ونكير جاءت بها الأدلة في ذكر هذا السؤال وفتنة القبر بأنواعٍ من الذكر في الأخبار فالإيمان بذلك فرض وواجب على ما جاء في السنة. وطوائف من المعتزلة وأهل الكلام والفلاسفة يُنكِرُونَ فتنة القبر، ويقولون: إنَّ هذه ليست بصحيحة وينفون دِلَالَة الدليل عليها وربما تَأَوَّلَهَا بعضهم وربما رَدَّهَا بعضهم لأنها أخبار آحاد. وأهل السنة والجماعة قَرَّرُوا ذلك للأسباب التي ذكرت لك سالفاً في أنها: - أمور غيبية - أنه دلت عليها النصوص. - لمخالفة الفِرَقْ أو بعض الفرق الضالة في ذلك. والأدلة على مجيء المنكر والنكير والسؤال كثيرة في السنة معلومة لا نُطِيل الكلام عليها أو إيرادها، ونذكر بعض المسائل هنا:   (1) الترمذي (1071) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 [المسألة الأولى] : أنّ سؤال الملكين يقع عن ثلاثة أشياء: أولاً: عن ربه. ثانيا: عن دينه. ثالثا: عن نبيه. فيقولون: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فأمَّا المؤمن المُسَدَّدْ الصالح يُثَبِّتُهُ الله - عز وجل - بالقول الثابت ويقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الفاجر المنافق فإنه يقول: ها ها، ها ها -يعني لا أعلم أو لا يُحْسِنْ الجواب- سمعت الناس يقولون شيئا فقلته؛ يعني لا يُلْهِمُهُ الله - عز وجل - حُسْنَ الجواب ولا يثبته عند السؤال. والرب المسؤول عنه هنا (من ربك؟) المقصود به المعبود. (من ربك؟) يعني من تعبد، فالربوبية هنا بمعنى العبادة؛ لأنَّ الربوبية في النصوص تُطْلَقُ ويُرَادُ بها الألوهية في مواضع إذا دَلَّ عليها السياق، وهنا الحال يقتضي أنَّ السؤال ليس هو عن الخالق الرازق المحيي المميت الذي يجير ولا يجار عليه؛ لأنَّ هذه يُقِرُّ بها الجميع، والسؤال عن العبادة لأنها هي محل الابتلاء، فمعنى (من ربك؟) يعني من تعبد؟ ثم سؤال الثاني (ما دينك؟) يعني الذي تدين به، فإن كان يدين بعبادة الله وحده لا شريك له، بالإسلام أخبر بذلك، وإن كان يدين بعبادة الأوثان أخبر عن نفسه فيكون إقراراً على نفسه بعبادة غير الله - عز وجل -، وهكذا في السؤال الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 [المسألة الثانية] : هذا السؤال هل هو مختص بهذه الأمة أم هو لجميع الأمم؟ هذه بَحَثَها العلماء، ولهم أقوال. والقول الظاهر الصحيح منها أنَّ هذا السؤال لهذه الأمة ولجميع الأمم، فالجميع يُسْأَلُ إذا أُدْخِلَ القبر لأجل عدم ورود التخصيص. وأما ما جاء في بعض الأدلة من بعض الأحاديث «إنه أوحي إلي أن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (1) هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأنَّ هذا ليس له مفهوم مخالفة، فإثباته لهذه الأمة لا يعني أنها مخصوصة بذلك.   (1) سبق ذكره (523) برقم 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 [المسألة الثالثة] : سؤال منكر ونكير، هل يكون للكافر أم لمن أجابَ النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً؟، أيضاً اختلف فيها علماء السنة على أقوال. والصحيح منها أنَّ السؤال -لا نطيل الكلام فيها تجدونها في الكتب المطولة- والصحيح أن السؤال يكون لكل مُكَلَّفْ -من المسلمين المؤمنين، ومن المنافقين، ومن الكفار-، وهذا يدل له ورود لفظ الكافر في بعض روايات حديث البراء فيقول «وأما الكافر أو الفاجر» (1) ، وفيها «أما المنافق أو الفاجر» فَذُكِرَ في الروايات المنافق والفاجر والكافر، وهذه سواء حملناها على ورودها بالمعنى أو أنَّ الجميع محفوظ؛ لكن التخصيص ليس له وجه، فالجميع يُسأل عن هذه المسائل؛ لأنها هي فاتحة ما سيكون بعدها في الحياة البرزخية.   (1) انظر البخاري (1338) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 قال رحمه الله بعد ذلك (وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ)   يريد بذلك التصديق والإيمان بما دلت عليه الأحاديث والآيات من أنَّ المقبور يكون في نعيمٍ أو في عذاب وأنَّ قبره إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما جاء في الحديث. وسبب إيراده أنَّ العقلانيين في مسائل عذاب البرزخ والفلاسفة وطائفة من أهل الكلام ينفون أن يكون القبر جنة أو نار، ويقولون بعقولهم إننا نفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لِخُضْرَةْ ولا أثراً لكذا وكذا من النعيم، ونفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لنار، ونلمس الأرض من الخارج ولا نجد أثراً لنار، وهذا من جَرَّاءِ قاعدتهم أنَّ عالم الغيب يُقَاس على عالم الشهادة وأنَّ الجميع يمكن إدراك العقول، يقولون: إنَّ خلق الله واحد وهذا وهذا مداره من حيث القياس واحد. وهذا الأصل الذي أصَّلُوه خلاف ما دَلَّتْ عليه الأدلة من أَنَّ عالم الغيب غير عالم الشهادة، وعالم الملائكة وعالم الجن غير عالم ما نراه، وهكذا في ما لا نراه من المخلوقات فإنَّ قوانينه وسنة الله - عز وجل - فيه تختلف عما نراه. والحياة البرزخية والعذاب والنعيم والجنة والنار لا يعرف كيف يكون إيصال ذلك إلى الإنسان وإلى الأرض إلا رب العالمين - عز وجل -، ولهذا الواجب أنَّ المسائل الغيبية لا تُحكَّم عليها العقول لأنَّ الله - عز وجل - أخبر بها فيؤخذ بها على ظاهرها، وكما ذكر شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وجماعة (بأنّ الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول ولا تأتي بما تُحيله العقول) وهذه قاعدة مهمة في نظرك فيما يلتبس عليك، فإنَّ الشريعة تأتي بأخبار غيبية وبأشياء يحار فيها عقل الناظر لكن العقل الصريح الواضح السليم من الأهواء والآفات والذي يطبق القواعد الصحيحة تطبيقاً صحيحاً يخرج بأنَّ العقل لا يُحِيلُ هذه الأشياء؛ لكن يحار العقل في حقيقتها نعم، لأنَّ العقل إنما نَمَا بما شاهد، فالعقل تَنَوَّعَت إدراكاته ونما فيه أشياء بما شاهد {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، هذه وسائل الإدراك، فعقل الطفل لم يكن شيئاً فنمت فيه الإدراكات بِما شاهد من القوانين، وأما ما لم يُشَاهد فإنه لم يدركه عقله لأنه لم يشاهده ولم يعرف حقيقته، فلهذا لا يسوغ له أن يَحْكُمَ على ما لم ير بما رأى وبما حَصَّلَهُ من معلومات نشأت معه من صغره إلى أن وصل إلى ما وصل إليه. وعالم الغيب ليست قوانينه كعالم الشهادة، خذ مثلاً السموات وما فيها وبُعْدَها، وخذ مثلاً الشمس وبُعْدها وكيف تنير الأرض إلى آخره والقمر وحاله والخسوف والكسوف وأنواع ما يحصل، فإنَّ هذه عند من لا يعرف لا يدرك حقيقتها، وربما أدرك بعض الناس حقيقتها فأدركوا قوانين الرب - عز وجل - وسنة الرب - عز وجل - في بعض خلقه. فإذاً نقول: [ ..... ] لهذا بنى ابن تيمية كتابه العقل والنقل الذي هو (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) أو (درء تعارض العقل والنقل) على هذه المسألة، وهي المسألة التي خالف فيها العقلانيون من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة إلى آخره وهذه من المسائل التي يذكرونها ويُشَنِّعُونَ أو يُؤَكِّدُونَ عليها. ولاشك أنَّ كون القبر روضة أو حفرة هذا من عالم الغيب الذي لا يُدْرَكْ والإنسان تراه نائماً بجنبك وهو إما في نعيم أو في تألم وأنت لا تدري؛ بل ربما استغاث وهو نائم بالذي حوله ويسمع كلامه؛ لكنه لا يجاب لأنَّ عالمه ليس فيه إيصال الصوت إلى الآخر، وهكذا في أنواع مما يدل على هذا الأصل. فإذاً الواجب في هذه المسائل التسليم بالغيبيات بما دلت عليه الأدلة، وأن لا يُقَاس عالم الغيب على عالم الشهادة، وأن لا يَعْتَرِضْ المرء بعقلياته على الشريعة بل يعلم ويُسَلِّمْ بأنَّ العجز عن الإدراك إدراك؛ لأنَّ الله - عز وجل - على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 قال رحمه الله بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ) .   قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ) هذا ركن من أركان الإيمان، فَرْضٌ الإيمان به، ولا يصح إيمانُ أحد ولا إسلامه حتى يؤمن باليوم الآخر، فمن أنكر البعث أو اليوم الآخر فإنه كافر بالله - جل جلاله -، فالإيمان بالبعث ركن من الأركان؛ وهو أنَّ الناس لهم يوم يعودون فيه إلى الله - جل جلاله -. وهذا الإيمان باليوم الآخر له تفاصيل هي التي ذَكَرَ بعضها هنا بأنه إيمان ببعث الناس؛ يعني بقيامهم من قبورهم وإرجاع أرواحهم إليهم، وإيمان بجزاء الأعمال، وإيمان بالعرض، وإيمان بالحساب، وإيمان بقراءة الكتاب، وإيمان بالثّواب، وإيمان بالعقاب، وإيمان بالصراط، وإيمان بالميزان، وإيمان بالجنة، وإيمان بالنار إلى آخره. فحقيقة الإيمان باليوم الآخر أنه إيمانٌ بحصول ذلك اليوم ورجوع الناس إلى ربهم، ثم إيمانٌ تفصيلي بكل ما يجري في ذلك اليوم. وهذا واجِبٌ الإيمان به لمن سمع النص والدليل في كل مسألة من مسائل ذلك اليوم. وهذه التي ذَكَرَ كُلُّهَا دَلَّتْ عليها الأدلة، فجزاء الأعمال يوم القيامة الأدلة كثيرة فيه في القرآن {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] ، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، والآيات تعلمونها كثيرة جداً في هذا الباب؛ بل بعد ذِكْرِ توحيد الله - عز وجل - والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم أكثر ما في القرآن من التقرير تقرير الإيمان بالبعث ورجوع الأجساد؛ لأنَّ أكثر مخالفة المخالفين في هذا الأصل العظيم؛ يعني من المشركين يخالفون في البعث وما يجري مجراه. ونذكر هنا مسائل فيها تفصيل لهذه الجمل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 [المسألةالأولى] : قوله (نُؤْمِنُ بِالبَعْثِ وَجَزَاءِ الأعْمَالِ) لمَّا عَطَفْ دَلَّ على أنه يريد بالبعث بعض ما يكون في اليوم الآخر، وهو بعث الناس من قبورهم. والذي دلّت عليه الأدلة أنَّ الله - عز وجل - يأمر المَلَكْ فينفخ في الصور نفخة الصعق فيَصْعَقْ الناس وتموت الخلائق، ثم تمضي أربعون بعد النفخة الأولى ثم يأمر الملك فينفخ نفخة ثانية -وقبلها يأمر الله - عز وجل - الأرواح فتجتمع في الصور الذي ينفخ فيه الملك-، فينفخ فتذهب الأرواح جميعاً من هذا القرن العظيم، والذي ينفخ فيه إسرافيل، فتذهب الأرواح إلى الأجساد، روح كل إنسان إلى جسده. قبل هذا فيما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية تحصل أشياء حتى تحصل حياة الإنسان من جديد وهي أنَّ الله - عز وجل - يُغَيّر الأرض ويُغَيّر معالمها، وتُسَيَّر الجبال وتُدَكْ، والأرض تكون مستوية وتُعَدْ لمسير الناس إلى أرض محشرهم، ويُمْطِرُ الله - عز وجل - مطراً تنبت منه الأجساد شيئاً فشيئاً حتى تتكامل، وتُخرج الأرض أثقالها من المدفونين، ثم بعد ذلك تكون الأجسام كالأشجار بلا أرواح. فينفخ إسرافيل فتعود الأرواح فتهتزُّ تلك الأجسام فإذا هم قيام ينظرون. هنا يعني هو الظاهر من مراد الطحاوي بالبعث، يعني قيام الأجساد من القبور. وهذا الأدلة عليه في الكتاب والسنة كثيرة كقوله - عز وجل - مثلاً في القرآن {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:68-69] ، وكقوله - عز وجل - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51-52] إلى آخره، وكقوله {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85-86] ، ونحو ذلك من الأدلة، ثم بعد البعث يسير الناس إلى محشرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 [المسألة الثانية] : في قوله (جَزَاء الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الجزاء المراد به المُجَازَاةْ؛ يعني أنهم يُجْزَونَ على أعمالهم الصالحة ويُجْزَونَ على أعمالهم السيئة، على هذا وهذا. والجزاء لا يكون بعد البعث مباشرة؛ بل يكون متأخراً، ولهذا الطحاوي هنا لم يُرَتِّبْ ما يحصل يوم القيامة الشيء بعد الشيء مما يكون في ذلك اليوم العظيم، وإنما قَدَّمَ وأَخَّرْ بحسب أغراضٍ له في ذلك-يأتينا الترتيب إن شاء الله في مسألة لاحقة-. الجزاء بمعنى المجازاة {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني بعد أن يُقَرَّرَ على أعماله ويحاسب والوزن إلى آخره يُجْزَى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 [المسألة الثالثة] : في قوله (الْعَرْض) العرض جاء في الأدلة ذِكْرُهُ نصاً ومعنىً كقوله - عز وجل - {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:18-19] الآيات {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} هذا العرض. وكذلك ما جاء في السنة من قوله صلى الله عليه وسلم «عرضتان جدال ومعاذير» (1) . فالعرض على الرب - عز وجل - كثير في القرآن وفي السنة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48] ونحو ذلك. العرض معناه: أنْ يُعْرَضَ المُكَلَّفْ وأن يُعْرَضَ عمل المكلف. فهناك عرْضٌ للمُكَلَّفِين على رب العالمين، ثُمَّ رب العالمين يَعْرِضُ أعمال كل مُكَلَّفْ عليه. ومعنى العرض أنه يُقَالُ له: عملت كذا في يوم كذا، يعني يعرض عليه أنه عملت وعملت وعملت إلى آخره، فيُعْرَضُ الإنسان ويُعْرَضُ عمله بحيث يراه، وقد يُجَادِلْ وقد يعتذر إلى آخره ثم يكون بعد ذلك الكتاب والحساب إلى آخره.   (1) الترمذي (2425) / ابن ماجه (4277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 [المسألة الرابعة] : في قوله (الْحِسَاب) الْحِسَاب المقصود منه المحاسبة، يعني بعد أن يقرأ الكتاب فإنه يُحَاسَب هذا خير سَتُجْزَى عليه وهذا شرٌ سَتُجْزَى عليه، يحاسب الله - عز وجل - المؤمن حسابَاً يسيراً، ويحاسب الكافر والمنافق حساباً عسيراً. والحساب من حيث هو تقريرٌ للعمل مع الجزاء والعقاب هذا يكون بعد أخذ الكتاب وقبل أخذ الكتاب؛ لأنَّ حقيقة المحاسبة أنَّ الله - عز وجل - يُحَاسِبُهُم على ما عَمِلُوا بعرض ما عملوا من خيرٍ أو شر، وهذا يكون بالشهادة عليه من جسده ومن الكتاب، ويكون قبل ذلك بذكر الله - عز وجل - له. وهذا كله يحصل في سرعةٍ خاطفة، كما قال - عز وجل - {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] قال علماء التفسير: يحاسب الخلائق في ساعة، جميع الخلائق في ساعة {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} ؛ يعني تكون المحاسبة بسرعة لهذا وهذا جميع الخلائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 [المسألة الخامسة] : في قوله (وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ) ويعني بالكتاب الصحف التي كُتِبَتْ فيها أعماله وهو الكتاب الذي يلقاه العبد يوم القيامة منشوراً {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] (1) : [[الشريط الثامن والثلاثون]] : وهذا الكتاب هو الصحف. والصحف هذه تُنْشَرْ للإنسان وتُوَزَع على الناس في الموقف؛ يعني أنَّ الناس في ذلك الموقف تُنْشَر لهم السِّجِلَّاتْ والكتب، ويُؤْمَرُون بأخذها وتتطاير أيضاً إليهم؛ يعني على اختلاف الصفات فمن آخذٍ كتابه بيمينه وآخذٍ كتابه بشماله وراء ظهره. فقِرَاءَةْ الكتاب، العبد يَقْرَأ والله - عز وجل - يُقَرِّرْ العبد على ما عَمِلْ حتى يكون عليه شاهداً.   (1) انتهى الشريط السابع والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 [المسألة السادسة] : في قوله (وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب) يعني بعد الوزن؛ لكن هنا أراد الإيمان بأنَّ هذه الأشياء حاصلة لأجل ورود الدليل بها؛ بل معنى البعث إنما هو حصول الثواب والعقاب، فحَقِيْقَةْ معنى يوم البعث واليوم الآخر أن يُثَابْ المطيع وأن يُعَاقب الكافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 [المسألة السابعة] : في قوله (الصِّرَاط) الصراط هو الطريق، والصراط طريق موضوع على ظهر جهنم؛ يعني فوقها -فوق جهنم-، وهو طريق يُوصِلُ من العَرَصَات من أرض المحشر إلى ساحات الجنة؛ يعني ما قبل دخول الجنة. وهذا العبور على الصراط هو المذكور في قوله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] . والصراط جاءت صفته في السّنّة، وجاء ذِكْرُهُ مُجملاً في القرآن. أما صفته في السنة فإنه: دقيق جداً وطويل، وأنَّ على جَنَبَاتِهِ كلاليب تخطَفُ من قضى الله - عز وجل - أن يكون من أهل النار، وأنَّ الناس في العبور عليه يخافون خوفاً شديداً، فالأنبياء يقولون قبل العبور اللهم سَلِّم سَلِّم. ودون هذا الصراط ظُلْمَةْ لا يَتَبَيَّنْ أحد ممن يريد أن يعبر طريق الصراط إلا المؤمنين بما فيهم العصاة. وأما الكافرون والمنافقون فإنهم يجتمعون في الظلمة ويسيرون ويتهافتون في النار تهافت الجراد. وغير ذلك مما جاء في وصفه وأنه أَدَقُّ من الشعرة وأحَدُّ من السيف، إلى آخره. وهذه الصفات أنكرها المعتزلة وأنكرها العقلانيون والفلاسفة، وقالوا: هذه لا يُعْقَلْ أن يكون الطريق من صفته كذا وكذا. وإذا كان هذا الأمر قد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وثَبَتَتْ به السنة فالإيمان به واجب على نحو ما ورد على ما ذكرنا لكم من أنَّ عالم الغيب لا يقاس على عالم الشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 [المسألة الثامنة] : في قوله (الْمِيزَان) الميزان ذَكَرَهُ الله - عز وجل - في كتابه وجاء في السنة وصفه وذِكْرُهُ، فالإيمان به واجب. والميزان حقيقةً وليس هو العدل كما تقوله المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة أنكروا حقيقة الميزان -كما سيأتي-، وقالوا: الميزان هو العدل مطلقاً، الله يحاسبهم بالعدل. والله - عز وجل - بَيَّنْ أنَّ الميزان يوزن فيه العمل ولو كان مثقال ذرة، قال - عز وجل - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، وقال - عز وجل - {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102-103] الآية، وقال - عز وجل - {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] ، الآية التي ذكرت لكم في الأعراف ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الوزن والموازين. والميزان هنا أفرده قال (وَالْمِيزَانِ) وهو قولٌ لكثيرٍ من العلماء بأنه يوم القيامة ليس ثَمَّ إلا ميزان واحد، وأنَّ الجمع هنا في بعض الآيات في قوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أنَّ هذا على تعدد الموزونات وليس على تعدد الموازين. والصحيح أنَّ الموازين متعددة لأنَّ الله - عز وجل - جَمَعَهَا فقال {نَضَعُ الْمَوَازِينَ} وهذا ظاهِرٌ في إرادة الموازين حقيقة وليست الموزونات؛ لأنَّ الموزونات لا يقال عنها إنها تُوضَعْ، قال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والموزونات لا توصف بأنها تُوضَعْ ولا تُوصَفْ بأنها قسط أيضاً. فإذاً {الْقِسْطَ} يعني العادلة التي لا تظلم في الوزن هذه متعددة على ظاهر الآية. وجاء في السنة أنَّ الميزان له كِفتان: كفة توضع فيها السيئات وكفة توضع فيها الحسنات، فمن ثقلت كفة حسناته أفْلَحْ وأَنْجَحْ ودَخَلَ الجنة، ومن ثقلت كفة سيئاته فهو مُعَرَّضٌ لوعيد الله - عز وجل -. قال بعض العلماء من السنة في عقائدهم: إنَّ الميزان له كفتان وله لسان. وكون الميزان له لسان كما ذكره ابن قدامة في اللمعة وذكره غيره، هذا لا أحفظ فيه دليلاً واضحاً -أو ما اطَّلَعْتُ فيه على دليل واضح-؛ لكن أخذوه من أنَّ ظاهر الوزن في الرُّجْحَان يتبين باللسان، فأَعْمَلُوا ظاهر اللفظ وجعلوا ذلك مثبتاً لوجود اللسان، فينبغي أن تكون محل بحث. الذي يوزن في الميزان ثلاثة أشياء: 1 - يوزن الإنسان نفسه كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما ضَحِكُوا من دقة ساقي عبد الله بن مسعود قال «أتضحكون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من أحد» (1) . 2 - ويوزن أيضاً العمل، فالعمل الصالح يُوضَع في كفة، والعمل السيئ يوضع في كفة. 3 - ويوزن أيضاً صحائف العمل، الصحائف التي تُكْتَبُ فيها الأعمال توزن. وهذا من عِظَمِ عدل الله - عز وجل - وعِظَمِ إرادته أن يقطع عن العبد العذر، وأن يكون حجة العبد عليه من نفسه وعمله وصحائف عمله.   (1) المسند (3991) / ابن حبان (7069) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 [المسألة التاسعة] : وهذه المسألة في ترتيب هذه الأشياء يوم القيامة، وهي مسألة مهمة. فإنَّ ما يحصل يوم القيامة وما يكون فيه الذي جاء في الكتاب والسنة أشياء كثيرة، مثل ما ذَكَرْ قيام الناس، الحوض، الميزان، الصحف، الحساب، العرض، القراءة، تطاير الصحف، الكتاب، الصراط، الظلمة، وهذه أشياء متنوعة، فكيف ترتيبها؟ الظاهر والذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم أنَّ ترتيبها كالتالي: 1 - إذا بُعث الناس وقاموا من قبورهم ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون في أرض المحشر قياماً طويلا، تشتد معه حالهم وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفاً شديداً؛ لأجل طول المقام ويقينهم بالحساب وما سيُجري الله - عز وجل - عليهم. 2 - فإذا طال المُقام رَفَعَ الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم أولاً حوضه المورود، فيكون حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة إذا اشتد قيامهم لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. فمن مات على سنّته غير مًغَيِّرٍ ولا مُحْدِثٍ ولا مُبَدِّلْ وَرَدَ عليه الحوض وسُقِيَ منه فيكونُ أول الأمان له أن يكون مَسْقِيَاً من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته. 3 - ثم يقوم الناس مُقاماً طويلاً ثم تكون الشفاعة العظمى -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم- بأن يُعَجِّلَ الله - عز وجل - حساب الخلائق في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال وأن يقي الناس الشدة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك، يقول «أنا لها، أنا لها» ، فيأتي عند العرش فيخر فيحمد الله - عز وجل - بمحامد يفتحها الله - عز وجل - عليه، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تُعْطَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب. (1) 4 - بعد ذلك يكون العرض -عرض الأعمال-. 5 - ثم بعد العرض يكون حساب. 6 - وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول من ضمن العرض؛ لأنه فيه جدال ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين وأهل الشمال كتابهم بشمالهم فيكون قراءة الكتاب. 7 - ثم بعد قراءة الكتاب يكون هناك حساب أيضاً لقطع المعذرة وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب. 8 - ثم بعدها يكون الوزن، الميزان، فتوزن الأشياء التي ذكرنا. 9 - ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج؛ أزواج بمعنى كل شكل إلى شكله، وتُقَامْ الألوية -ألوية الأنبياء- لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم، ولواء موسى إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله. والظالمون والكفرة أيضاً يُحْشَرُونَ أزواجاً يعني متشابهين كما قال {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22-23] ؛ يعني بأزواجهم يعني أشكالهم ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة وهكذا في أصناف. 10 - ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله - عز وجل - الظُّلمة قبل جهنم والعياذ بالله، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:13-14] الآيات، فيُعْطِيْ الله - عز وجل - المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأما المنافقون فلا يُعْطَون النور فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم والعياذ بالله. 11 - ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً ويكون على الصراط، ويسأل الله - عز وجل - له ولأمته فيقول: «اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم» . فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله ومعه نور أيضاً بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله - عز وجل - له، ويبقى في النار يسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله - عز وجل - أن يُعَذبه. ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنة يعني في السّاحات التي أعدها الله - عز وجل -؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض ويُنْفَى الغل حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل. 12 - فيدخل الجنة أول الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين، فقراء الأنصار إلى آخره ثم فقراء الأمة، ويُؤَخَرْ الأغنياء لأجل الحساب الذي بينهم وبين الخلق ولأجل محاسبتهم على ذلك. إلى آخر ما يحصل في ذلك مما جاء في القرآن العظيم.   (1) حديث الشفاعة في البخاري (4476) / مسلم (495) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 أسأل الله - عز وجل - أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة، وأن يعيذنا من سَخَطِهِ والنار. اللهم لَقِّنَّا حُجَّتَنَا في القبور واجعلنا ممن يأخذه كتابه باليمين وتُحَاسِبُهُ حساباً يسيراً يا أكرم الأكرمين. أسأل الله - جل جلاله - لي ولكم ولأحبابنا جميعاً ولمن له حق علينا المغفرة والرضوان، وأن لا يؤاخذنا بسيئات أعمالنا وأن يغفر لنا ذنوبنا فإنه سبحانه أهل للجود والكرم والمغفرة والرحمة. سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم نسألك العلم النافع والعمل الصالح، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، ومُنَّ علينا بحسن الختام، وقنا الشر وأسبابه، إنك على كل شيء قدير. قال رحمه الله (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يريد بذلك أن يُقَرِّرَ ما دلَّ عليه كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّ الجنة موجودة اليوم، وأنّ النار موجودة وأنَّ الجنة مخلوقة قبل خلق آدم والنار موجودة خَلَقَهَا الله - عز وجل - كما خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً كما قال (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا) . وهذا الأصل قُرِّرَ في العقائد لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله مِنْ أَنَّ هذه المسألة غيبية والدليل جاء بإثباتها، وطائفة من الفِرَقْ الضالة خالفت في هذا الأصل. وأهل السنة يذكرون في عقائدهم -كما سبق أن بَيَّنْتُ لكم- الأمور الغيبية وما يجب أن يُعْتَقَدَ فيها، ويذكرون ما دَلَّتْ عليه النصوص مما يجب التسليم له، ويذكرون أيضاً في عقائدهم ما يتميزون به عن الفِرَقْ الضالة أو عن بعض تلك الفِرَقْ. وهذه المسألة وهي مسألة خلق الجنة والنار، وأنَّ الجنة باقية أبداً والنار باقية أبداً، لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان، كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية. وأصل هذه المسألة -كما سيأتي- مرتَبِطٌ بأصلين كلاميين زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر، وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمُؤثِرَات. فالله - جل جلاله - لم يُجْرِ عالم الغيب على قياس عالم الشهادة، وهذا أصلٌ مهم في بيان ضلال من ضَلَّ في المسائل الغيبية، حيث جَعَلُوا عَالَم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة، فما يصلح لعالم الشهادة يصلح لِعَالَم الغيب، والقوانين والسُنَنْ التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحةً لعالَم الغيب، والله - عز وجل - خلق كل شيء فَقَدَّرَُه تقديراً، كلٌّ له تقديره الخاص. ووجود الجنة والنار عقيدةٌ ماضية دلَّ عليها القرآن والسنة، والأدلة في ذلك كثيرة جداً: نذكر منها قول الله - عز وجل - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، والجنة هذه هي جنة الخلد، التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يَحُولْ. ووَصَفَ الله - عز وجل - حين عُرِجَ بنبيّه أن عنده جنة المأوى فقال - عز وجل - {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13-16] ، فأثبت - عز وجل - أنه حين عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك. والنبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة قال - عز وجل - {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60] ، لهذا لما وَصَفَ لهم حال النار وحال تلك الشجرة قالوا ما قالوا في أَنَّ الزَّقُوم والتَّزَقُّمْ إنما هو خلط التمر بالزبد ونحو ذلك فقال - عز وجل - {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وفي السنة أيضاً في بيان هذا الأصل، وأنَّ نَسَمَةْ المؤمن في الجنة كقوله «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة (1) » وكقوله في أرواح الشهداء «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة» (2) . وكذلك قوله - عز وجل - في الشهداء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170] . ونحو ذلك مما فيه تقرير على أنَّ الجنة موجودة والنار موجودة، وأنَّ هذه سيدخلها من يدخلها وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها. فإذاً أهل السنة قَرَّرُوا هذا في العقائد تَبَعَاً للدليل، وهذا أمرٌ واضح بَيِّنْ فيما دلَّ عليه القرآن والسنة. ونذكر المسائل المتعلقة بهذا:   (1) النسائي (2073) / ابن ماجه (4271) (2) مسلم (4993) / أبو داود (2520) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 [المسألة الأولى] : قوله (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) يعني به أنَّ خَلْقَهُما قد تَمَّ، ليس موقوفاً على قيام الساعة، وليس حال الجنة والنار كحال السموات والأرض {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] ، فذاك شان والجنة والنار شأنهما آخر، فهما مخلوقتان يعني الآن حين قال وحين بعث الله نبيه وقبل ذلك، فهما مخلوقتان لا يُعْلَمُ متى خَلَقَهُمَا الله - جل جلاله -، وإنما خَلَقَهُمَا الله - عز وجل - قبل خَلْقِ الخَلْقْ -يعني قبل خلق آدم قبل خَلْقِ المُكَلَّفِين- وهذا يدلّ عليه قوله {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35، الأعراف:19] والألف واللام في {الْجَنَّةَ} للعهد يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 [المسألة الثانية] : قوله (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يعني أنَّ الجنة خُلِقَتْ للبقاء والنار خُلِقَتْ للبقاء، وهذا هو الذي دَلَّ عليه القرآن والسنة؛ لأنَّ أهل الجنة خالدين فيها أبداً، وأنَّ أهل النار خالدين فيها أبداً، قال - عز وجل - في ذكر النار {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب:63-65] ، وفي الجنة آيات كثيرة جداً فيها ذكر الأبدية، وأنَّ من دخلها فهو خالد فيها أبداً. وهذه الأبدية في الجنة والنار معاً مما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة؛ بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان للبقاء أبداً. والمقصود بالنار هنا في الإجماع جنس النار، فإنَّ الإجماع مُنْعَقِدْ على أنَّ جنس النار باقٍ أبداً. والفِرَقْ المخالفة لهم عدة أقوال في هذه المسألة تبلغ ستة أقوال أو أكثر، وأهمها: 1- القول الأول من الأقوال الضالة: إنَّ الجنة والنار تفنيان في وقتٍ ويبقى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار بالاستصحاب، لا بِتَجَدُدْ النعيم؛ يعني يحصل لهم نعيمٌ تَتَنَعَّمْ به أبدانهم ثم يَقِفْ، وتفنى الجنة. وهذا منهم لأَصْلٍ أَصِّلُوه وهو أنَّ العقل اقتضى أنَّ الحركة التي تبدأ فإنها ستنتهي، وكُلُّ مُتَحَرِّكٍ بَدَأَ بحركة فلابد أن ينتَهِيَ بلا حركة، لهذا قالوا: أهل النار أيضاً لا يستمرون في العذاب بل تفنى النار ويبقى أهل النار ليسوا في نعيم وبذلك يَصِحُّ أنْ يُقَال عنهم إنهم في عذاب دائم. وهذا منسوب إلى الفِرَقْ الضالة الكافرة كالجهمية وطائفة أيضاً من غيرهم. 2- القول الثاني من الأقوال الضالة: إنَّ الجنة تبقى والنار تبقى لكن النعيم ينقطع والعذاب ينقطع، ويكون الجنة يفعل الله - عز وجل - بها ما يشاء والنار يفعل الله بها ما يشاء، وهذا لأجل الأصل السابق ولأجل النظر في القَدَرْ؛ حيث إنَّ استدامة النعيم عندهم على عملٍ صالحٍ قليل لا يُوَافِقُ العدل، واستدامة العذاب على عمل سيئٍ قليل الزمن لا يوافق العدل، ولهذا نفوا هذا الأصل. وثَمَّ أقوال أُخَرْ ليس مناسبا أن تُذْكَر في مثل هذا المكان. أمَّا قول أهل السنة المعروف هو ما ذكرته لك من أنَّ الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبد الآبدين، يُنَعَّمُ أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين، ويُعَذَّب الكفار في النار أبد الآبدين. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش فيُذْبَحْ بين الجنة والنار ثم ينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» (1) ، والتنصيص على الأبدية في نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها يدل على أنَّ المكان الذي يخلدون فيه يبقى، حيث قال - عز وجل - في الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (2) ، وقال في النار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (3) فَهُمْ خالدون في المكان فيقتضي أنَّ المكان أيضاً يبقى أبد الآبدين. * ومن أهل السنة من قال: إنَّ النار منها ما يَفْنَى وينتهي بإنهاء ربِّ العالمين له وهو طبقة أو دَرَكُ الموحّدين من النار، وهي الطَّبَقَةُ العليا من النار؛ لأنَّ الموحدين موعودون بأن يخرُجُوا من النار، فلا يَخْلُدْ في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، لابد لهم من يوم يخرجون منها؛ لأنَّ معهم التوحيد ولو طالت مدتهم، ثم تبقى تلك الطبقة لا أحد فيها فيُفنيِهَا الله - عز وجل -. وهذا منسوبٌ إلى بعض السلف، وجاء في الأثر عن عمر وفي إسناده مقال وضعف: أنَّ أهل النار لو لبثوا فيها كقدر رمل عَالجْ -موضع فيه رمل كثير-، لكان لهم يوم يخرجون منها، وليأتين عليها يوم تَصْطَفِقُ أبوابها ليس فيها أحد (4) . ومما يُنسَبُ أيضاً إلى بعض أهل السنة من أئمة أهل السنة أنَّ فناء النار ممكن وأنَّ فناءها لا يمتنع، وهو القول المشهور عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وعن غيره كابن القيم وجماعة من المتقدمين أيضاً ومن الحاضرين.   (1) سبق ذكره (60) (2) النساء57، 122، المائدة، 119، التوبة:22، 100، التغابن:9، الطلاق:11، البينة:8. (3) النساء:169، الأحزاب:65، الجن:23. (4) انظر رفع الأستار (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وهذا القول مَنْشَؤُهُ -مع عِلْمِ هؤلاء بالدليل وبالنصوص- على وجه الاختصاص النظر في صفات الله - عز وجل -، وذلك أنَّ من المتقرر في النصوص أنَّ صفة الرحمة ذاتية ملازمة للرب - عز وجل -، والجنة من آثار رحمة الله - عز وجل - «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» (1) والنار أَثَرُ غضب الله - عز وجل - والغضب صفة فعلية اختيارية لا تنقَلِبُ إلى أن تكون صفة ذاتية كالرحمة، ولو بقي أثَرُ الغضب لبقي الأصل وهو الغضب، لو بقيت النار وهو أثر الغضب لبقي الغضب أبد الآبدين، وهذا يعني أنَّهُ أصبح صفة ملازمة، وهذا هو مأخذ هؤلاء الأئمة في هذه المسألة. وهذا فيه بحث ونظر معروف في تقرير هذه المسألة؛ لكن من بَحَثَهَا وكثيرٌ من الناس كتبوا فيها لم يلحَظُوا علاقة المسألة في قول هؤلاء بصفات الله - عز وجل -، وهي أصلُ منشأ هذه المسألة. قد قال ابن القيم (سألت ابن تيمية عنها فقال: هذه مسألةٌ عظيمة) (2) ، وذَكَرَ في موضع بعد أن ذَكَرَ أدلة الجمهور أهل السنة وأدلة هؤلاء، فقال في آخره: فإن قلت إلى أي شيءٍ انتهت أقدامكم في هذه المسالة العظيمة؟ قلنا انتهت أقدامنا إلى قول الله - عز وجل - {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] . ومما لا ينبغي أن يُخَاضَ في هذه المسألة؛ لكن لمَّا أوردها الشارح وهي مسألةٌ مشهورة عند طلبة العلم أَوْرَدْتْ عليها هذا التقرير الموجز وهي معروفة بتفاصيل من التعليل لقول ابن تيمية وابن القيم. * ولم يُصِبْ من زَعَمْ أنه لا يَصِحْ نسبة هذا القول إلى الشيخين ابن تيمية وابن القيم.   (1) البخاري (4850) / مسلم (7351) (2) شفاء العليل (1/264) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 [المسألة الثالثة] : قال في ذِكْرِ خلق الجنة والنار (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) وهذا مأخَذُهُ قول الله - عز وجل - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، وهذه الجنة معناه أنَّها موجودة بعد أن نُفِخَ الروح في آدم، وهذا يعني أنَّها تَقَدَّمَتْ قبل خلق آدم. وهذه الجنة التي سكنها آدم للعلماء فيها أقوال أشهرها: - الأول: أنها جَنَّةٌ مخلوقة في الأرض وليست بجنة الخلد. - الثاني: أنَّها الجنة المعروفة دار الكرامة عند رب العالمين. ويُرَجِّحْ جماعة منهم ابن القيم وكثير من المفسرين من المعتزلة ومن أهل السنة أنَّ الجنة هذه ليست هي جنة الخلد، ولهم في ذلك أدلة طَوَّلَ عليها ابن القيم في أول مفتاح دار السعادة بأكثر من أربعين صحيفة في ذكر هذه المسألة. * والصحيح أنَّ الجنة هي الجنة المعهودة لأسباب كثيرة وأدلة من القرآن ومن السنة: من أعظمها قوله - عز وجل - في وصف الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (1) [طه:118-120] إلى آخر الآيات وهذه الصفات (إن لك فيها..) إلى آخره هذه ليست مناسبة للأرض، فالأرض وإنْ كان فيها مكان مرتفع جَنَّةْ إلى آخره مُخْتَلِفْ عن بقية الأرض فلا يوصف مَنْ فيه بهذه الصفات أنَّهُ لا يظمأ ولا يضحى، يعني ما يأتيه شمس فيها ولا يجوع ولا يعرى ونحو ذلك من الصفات، فهذه صفات تدل على أنَّ المكان مُغَايِرْ للأرض. ومن الأدلة أنَّ الله - عز وجل - قال في ذكرها لَّما عصى آدم {اهْبِطَا مِنْهَا} [طه:123] ، وهذا الاهباط والخروج يقتضي أن يكون من جهةٍ عالية، والمكان الذي هو من جنسه فإنَّه وإنْ هَبَطَ منه فإنَّه ليس خارِجاً إلى غيره؛ بل هو منه إلى جنسه ولا تحصل العقوبة بالإهباط وإنَّما العقوبة بالإخراج، والله - عز وجل - جعل في القرآن هذا وهذا، الإخراج والإهباط، إلى أدلةٍ أخرى معروفة. المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) الجنة واحدة هي المعروفة وكل الأدلة التي فيها ذِكْرْ الجنة الغيبية فهي دار الكرامة التي أعدَّهَا الله لعباده.   (1) - انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن والثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 قال رحمه الله (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا)   يعني به قبل خلق السموات والأرض، فإنَّ الله - عز وجل - كتب أنَّهُ سيخلق هؤلاء وهؤلاء وأنَّ الجنة لها أهلها وأنَّ النار لها أهلها، ولما خَلَقَ آدم أيضاً نَشَرَ ذريته من ظهره ثم قَبَضَ قبضة فقال هؤلاء إلى الجنة، وقبض أخرى وقال هؤلاء إلى النار. فالله - عز وجل - خَلَقَ الجنة وجعل لها أهلاً سيدخلونها فضلاً منه وتكرماً، وخلق النار وجعل لها من يملؤها عدلاً منه وحكمة. قال بعدها (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ) وهنا مسألتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 [المسألة الأولى] : الفضل هو الإكرام، والله - عز وجل - عَلَّقَ دخول الجنة بالعمل الصالح {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ، وعَلَّقَ دخول النار بالعمل السيئ وبالكسب السيئ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذه الباء في المقامين هي باء السبب فإنَّ الله - عز وجل - جعل الأعمال الصالحة وأعظمها التوحيد سبباً في دخول الجنة، وجعل الأعمال السيئة وأعظمها الشرك بالله سبباً لدخول النار. ولكن هذا السبب ليس كافياً في تحقيق المراد؛ بل لا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله - عز وجل -، لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «لن يُدْخِلَ أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (1) ، فدلّ على أنَّ أصل دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك لأنَّ: - الفضل هنا هو الامتنان، الفضل هنا هو الإعطاء والإكرام، والأعمال وإنْ كان للعبد فيها أجور فلو قوبِلَتْ بالنعم لصارت القسمة أو لصار الشأن واضحاً في أنَّ العبد قوبلت أعماله بالنِّعَمْ التي كرّمه الله - عز وجل - بها. - وأيضاً لو نظرت إلى أنَّ العمل الصالح أصلاً ما كان من العبد إلا بإعانة وتوفيق من الله - عز وجل -، فأصلاً نشوء العمل الصالح هو بفضل من الله وهدى من الله وإعانة وتوفيق فما يكون نتيجة فلابد أنَّهُ فضل أيضاً من العدل معناه أن يُعَامَل المرء بما يستحقه دون تَفُضُّلٍ عليه، يعني أن يُنظَرَ ويُنَاقَشْ الحساب ويُعْطَى ما يستحق. وأهل النار دَخَلُوا النار بما يستحقون عدلاً مِنَ الله - عز وجل -؛ لأنَّهُ سبحانه لِمَا عَلِمَ بما في صدورهم لم يُعِنْهُمْ إعانةً خاصة ولم يوفقهم للعمل الصالح؛ بل خذلهم يعني لم يوفقهم، ترك إعانتهم على أنفسهم، فوُكِلُوا إلى أنفسهم، وهذا عَدْلٌ أن تَعْمَلَ بما لديك، وبما عندك من الاستعدادات والآلات إلى آخره. ولهذا قال الله - عز وجل - في بيان مِنَّتِهِ لأهل الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، فدلّ على أنَّ الله - عز وجل - مَنَّ على هؤلاء بشيء، ولم يتفضّل على أولئك بل عاملهم بالعدل. وذلك بسبب أنَّ هؤلاء في قلوبهم الخير وهم يريدونه وأقبلوا عليه، وأولئك لا يريدون الخير ولا يحبون سماعه ولم يريدوا الإهتداء أصلاً، فعاملهم الله - عز وجل - بعدله، قال - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:6-7] الآية. فقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني أنَّ الكفر وُجِدَ منهم، الكفر أصلاً في قلوبهم، ولهذا قال في آية النساء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء:137] ، {لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:168-169] الآية، فَدَلَّ هذا على أنَّ المعاملة بالعدل أن يُوكَلَ إلى نفسه، وهو أصلاً لم يُعَنْ ويُتَفَضَّلْ عليه لأنَّهُ لم يسع إلى الخير، لم يُوَفَّقْ لأنه لم يسعَ، وفي قلبه حب للشر ونوع بغض للخير، فلذلك لم يُعِنْهُ الله - عز وجل - على نفسه.   (1) سبق ذكره (378) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 قال بعدها (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ)   يعني أنَّ مَنْ خَلَقَهُمْ الله - عز وجل - كلٌ يعمل لما كُتِبَ في الكتاب أنَّهُ سيؤولُ إليه فإنَّ الله - عز وجل - عالم بما العباد يفعلون، إذا خلقهم فهذا سيفعل الخير على تفاصيله فكتب عليه ذلك وهذا سيعمل الشر على تفاصيله فكتب عليه ذلك، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «اعملوا فكل ميسر لما قد خلق له» يعني أنَّ الله - عز وجل - خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا سيعمل حتى يصل إلى ما خلقه الله - عز وجل - له، وخلق النار إلى آخره، وهذا سيأتي مزيد بيان له في القدر في المسائل القريبة إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 قال (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ)   يعني أنَّ ما يفعله العبد من الخير أو يفعله من السوء فهو لم يحصل ابتداءً منه دون قَدَرٍ سابق، بل الله - عز وجل - قَدَّرَ عليه ذلك. ومعنى قَدَّرَ عليه ذلك أي أنَّهُ سبحانه عَلِمَ ذلك منه وكَتَبَهُ عليه، وأنَّهُ أعانه بالأدوات والقُدْرَةْ والإرادة، بحيث فَعَلَ الخير وفعل الشّر، ما شاء الله كان، وَقَعَ الخير ووَقَعَ الشر بمشيئته، وهو سبحانه خالق كل شيء. وذَكَرَهُ هنا لأنَّ: @ (الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ) لأجل قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» . @ ولأنَّ الفِرَقْ المخالفة في مسألة القدر والخير والشر وأفعال العباد ونحو ذلك طرفان: - الطرف الأول: الجبرية. - والطرف الثاني: القدرية. & والجبرية يقولون: العبد مُجْبَرْ على كل شيء فهو كالريشة في مهب الريح وكحركة الأمعاء في داخل البطن ليس له فيها اختيار؛ بل هو يجري كما يشاء الله - عز وجل -، دون أن يكون العبد مُخْتَارَاً للخير أو مُخْتَارَاً للشر. & والقدرية يقولون: الخير والشر ليسا مُقَدَّرَيْنْ؛ بل العبد يعملهما وهما عمل العبد وخَلْقُ العبد لفعله، والله - عز وجل - يحاسب الناس على ما فعلوا، ليس الخير خَلْقَاً له في فعل العبد، وليس الشر خَلْقَاً له في فعل العبد، ولم يُقَدِّرْهُمَا على العباد فِعْلاً وتركاً، وذلك لأنّه عندهم ينافي العدل الواجب فيما قاسوا به أفعال العباد على أفعال الله - عز وجل -. نذكر هنا عدة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 [المسألة الأولى] : أنَّ الخير والشر المُقَدَّرَيْنْ على العباد؛ يُعنَى بهما ما يصيب العبد من خيرٍ له ومن شرٍ عليه، أمَّا في فعل الله - عز وجل - فليس في أفعاله سبحانه إلا الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاته «والشر ليس إليك» (1) يعني أنَّ أفعال الله - عز وجل - لا توصف بالشر؛ بل كلها عدل أو فَضْلٌ وخير لما فيها من الغايات المحمودة؛ لكن ما يُضَافُ للعبد يكون شرّاً بالنسبة له؛ لكن بالنسبة للقدر هو خير. مثلاً أصيب فلان بفقد والده، أصيب بفقد ماله فهذا بالنسبة له سوء وشر؛ لكن بالنسبة إلى الَقَدْر وفعل الله - عز وجل - هو خير؛ لأنَّهُ لا يُنْظَرُ إلى المسألة بمجردها؛ بل إلى الغاية المحمودة من ورائها، والغاية المحمودة من ورائها أن يَبْتَلِيَ العباد بذلك، يبتلي الحي يبتلي الميت {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] . فإذاً أفعال الله - عز وجل - كلها خير، وأما ما يضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر. فقوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني الخير والشر الذي يحصل للعبد مُقَدَّرٌ.   (1) سبق ذكره (430) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 [المسألة الثانية] : القَدَرْ هنا في قوله (مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني أنَّهما لم يقعا استئنافاً؛ بل الله - عز وجل - يعلم ما سيحصل على العبد وكتب ذلك. وذَكَرْتُ لك أنَّ الفِرَقْ المخالفة في هذه المسألة -في القَدَرْ - أنها طرفان: 1 - الجبرية: والجبرية تنقسم إلى فرقتين: @ الفرقة الأولى الجبرية الغلاة: وهم الجهمية الذين يقولون: الله - عز وجل - يُجْبِرْ العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره. ويستدلون على ذلك بقوله - عز وجل - {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، يقولون إنَّ الذي رَمَى في الحقيقة هو الله - عز وجل - ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رَمَى. وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويُرَدُّ عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين: & الجواب الأول: أنَّ الله - عز وجل - قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} يعني حين رميت فإنَّ الله - عز وجل - هو الذي رَمَى، وظاهر الآية كما هو واضح أنَّهُ أثْبَتَ للنبي صلى الله عليه وسلم رمياً فقال {إِذْ رَمَيْتَ} ، ونفى عنه رمياً بقوله {وَمَا رَمَيْتَ} ، والنظر الصحيح يدلُّ على أنَّهُ لا بد من الجمع ما بين الرمي المَنْفِي والرمي المُثْبَتْ، وهذا يتضح بأنَّ العبد إذا فَعَلَ الفعل فإنَّ الفعل الذي يفعله سَبَبٌ في حدوث المُسَبَّبْ، ولا يحصل المُسَبَّبْ ولا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جُلِّ المسائل؛ بل لابد من إعانة من الله - عز وجل -. وهذا ظاهِرٌ في الرمي بخصوصه؛ لأنَّ الرمي عن بعد له ابتداءْ وله انتهاءْ، فابتداء الرمي من النبي صلى الله عليه وسلم لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة أن يصيب فلاناً المشرك ويموت منه هذا من الله - عز وجل -؛ لأنَّ العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب. ولهذا فيكون العبد هنا مُتَخَلِّصَاً مِن رؤيته لنفسه ومِن حَوْلِه وقُوَّتِهْ مع فعله، فأراد - عز وجل - أن يُعَلِّمَ نبيّه والمؤمنين أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم، فقال: افعلوا ولكن الذي يَمُنُّ عليكم ويُسَدِّدْ رميكم هو الله - جل جلاله -. فيكون إذاً معنى [ ..... ] أصاب بما أعان على التسديد. & الجواب الثاني: أنَّهُ لو قيل على قول الجبرية: إنَّ الله هو الذي يفعل الأشياء لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال في كل فعل فعله العبد (ما فعله ولكن الله فعله) كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زَكَّى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي يُنَزَهْ الله - عز وجل - عنها بالإجماع كقول القائل -أعوذ بالله - وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذ زنيت ولكن الله إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛ لأنَّ القول الحقيق القول الصحيح القول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة. والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة، ما الفرق بين هذه وهذه؟ @ الفرقة الثانية الجبرية المتوسطة: والجبرية المتوسطة -أو يعني الذين هم ليسوا بالغلاة-، هم الذين يتوسطون، فيقولون: العبد مجبور باطناً لكنه في الظاهر مختار، يعني ظاهراً هو يَخْتَارُ فيمشي ويروح ويأتي للمسجد ويذهب إلى المكان الثاني باختياره؛ لكنَّهُ في الباطن مُجْبَرْ. وهذا قول كثير من أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية وجماعة ممن ينحون هذا المنحى بأنَّ الإنسان مجبور لكنه في الظاهر ليس بمجبور. وإذا كان كذلك فإنهم يجعلون أفعال الإنسان له ولكنَّهَا عديمة الفائدة، لا معنى لها. وهؤلاء هم الذين يقال عنهم نُفَاةْ الأسباب. يعني إنَّ الإنسان إذا جامع زوجته فَحَمَلَتْ، يقولون: لم يحدث الحمل بالجماع. إذاً كيف حدث الحمل؟ يقولون: أَحْدَثَ الله الحمل عند التقاء الرجل بالمرأة؛ لكن أنَّ ماء الرجل يلتقي بماء المرأة أو ببويضة المرأة ويحدث منهما حمل بما أجرى الله الأسباب عليه ينفون ذلك، ويطرُدُونَ هذا في كل شيء. فيقولون: إنَّ فعل الإنسان فيما يفعله كحركة السّكين في قَطْعِهَا للورق أو قطعها للخبز أو قطعها لما تقطع، فيقولون بالتمثيل: إنَّ الله هو الذي كأنه يحمل السكين والسكين تتحرك هي التي تقطع؛ لكن في الواقع هي مجبورة على القطع وإن كانت ظاهرا تتحرك وقَطَعَتْ. وهذا القول وهو قول هؤلاء مع زعمهم أنَّهُمْ عقلاء وأنَّهُمْ متكلمون وأنهم فلاسفة إلى آخره، هؤلاء قولهم هذا ينفيه العقل البسيط، فضلاً عن العقل الرصين، وأحْدَثُوا قولاً على هذا يسمى الكسب سيأتي بيانه في موضعه. فالماء عندهم لم يُنْبِتْ الأرض، الله - عز وجل - يقول {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] {فَأَنْبَتْنَا} بإيش؟ بالماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 {أَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني أن النبات خرج بإيش؟ بالماء، الماء سبب والتراب سبب. لكن هل هذا يعني أنَّ الله لم يفعل لم يخلق لم يُنَمِيْ؟ لا. الجماع سبب، لكن هل معناه أنَّ الله لم يفعل؟ لا. فإذاً إثبات الأسباب هو سبيل العقلاء في أنَّ السبب ينتج عنه المُسَبَّبْ، وأنَّ الشيء تَنْتُجُ عنه نتيجته، الفعل ينتج عنه نتيجته، الأثر يقتضي أن يُوجَدَ مؤثر، وهكذا. فإذا صار هنا هواء بارد لابد أنَّ فيه مصدر لهذا الهواء البارد الذي يأتينا. يقول هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -نفاة الأسباب- يقولون: لا، الهواء أرسله الله - عز وجل - عند تشغيل الجهاز. وهذا مما يقتضي العقل أن ينفيه لأنَّهُ غير مطابق للعقل أصلاً. وهؤلاء تجد ذكرهم في كثير من كتب أهل العلم بعنوان نفاة الأسباب. إذا قيل لك نفاة الأسباب يعني الجبرية المتوسطة من الأشاعرة ونحوهم. عمل العبد بين فعل الله - عز وجل - -لأنهم يقولون بخلق الله للأفعال- وبين فعل العبد الحاصل يُسَمُّونَهُ كَسْبَاً ويأتي عند قوله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) . 2 - القدرية: والقدرية أيضاً فرقتان: @ الفرقة الأولى القدرية الغلاة: وهم الذين ينكرون علم الله السابق، ويقولون الأمر مُسْتَأْنَفْ جديد. هل الخير والشر مُقَدَّرْ؟ لا، إنما هو مستأنف جديد، لا يعلم الله الخير حتى يقع، ولا يعلم الشر حتى يقع، تعالى الله عن قولهم عُلُواً كبيراً {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] سبحانه وتعالى. فهؤلاء هم الذين صاح بهم السلف وكفَّرُوهم فقال فيهم الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقرُّوا به خُصِمُوا وإن أنكروا العلم -يعني عِلْمَ الله - عز وجل -- كفروا. هؤلاء فرقة كانت موجودة وانتهت. @ الفرقة الثانية المعتزلة وأشباه المعتزلة: وهم الذين يُسَمَّونْ القدرية، وهم الذين يقولون: إنَّ الإنسان يخلق فعل نفسه، وأنَّ الله - عز وجل - لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً كل ما هو سيئ، لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً الشر ولا القتل ولا إلى آخره. ويقولون أيضاً: إنَّ فعل العبد واستطاعة العبد وقدرة العبد، هذه ليس لله - عز وجل - فيها مأخذ؛ بل قدرة المطيع وقدرة العاصي وقدرة المؤمن وقدرة الكافر، إرادة المؤمن، إرادة الكافر للعمل واحدة. وهذا الأصل الذي قالوه وذهبوا إليه لأجل شبهةٍ عندهم وضلالٍ عندهم، وهو أنهم قالوا: إنَّ العدل يوجب على الله - عز وجل - أن يساوي بين العباد، والظلم بالتفريق ما بين هذا وهذا، ما بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي هذا ظلم. فَحَكَّمُوا عقولهم وآراءهم في فعل الله - عز وجل - وفي تَصَرُّفِهِ وصفاته - عز وجل -، والله سبحانه وتعالى يقول {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107، البروج:16] ويقول - عز وجل - {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . وقوله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لجهتين: - الجهة الأولى: أنَّ الله - عز وجل - له التصرف في ملكه كيف يشاء. - الجهة الثانية: أنَّ الله - عز وجل - له الحكمة البالغة فيما يفعل، وفيما يُجْرِيه في ملكوته ويشاؤه، والعباد قاصرون عن معرفة الحِكَمْ في أنفسهم، فكيف بالحِكَمْ في أفعال الله - عز وجل - وصفاته وتصرفه في ملكوته. وهؤلاء المعتزلة هم الذين يكثر رد الأشاعرة عليهم في مسائل القدر وهم كالأشاعرة في المخالفة لما دَلَّتْ عليه الأدلة. * الخلاصة: أنَّ هؤلاء وهؤلاء كُلٌ نَزَعَ بأدلة مختلفة، فهدى الله - عز وجل - أهل السنة ومَنَّ عليهم بأنهم لم يُفَرِّقُوا بين الكَلِمْ، ولم يُفَرِّقُوا بين الكتاب؛ بل اخذوا بكل الأدلة فقالوا: - بخلق الله - عز وجل - لفعل العبد. - وأنّ العبد يفعل حقيقة. - وأنَّ الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. فأعملوا كل النصوص والأدلة، وقالوا إنَّ ربك فعال لما يريد سبحانه وتعالى، لا مُعَقِّبَ لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، جرى الأمر على ما يريده الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. ثم أَعْمَلُوا العقل الصحيح في أنَّ الإنسان يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ مُخْتَار، يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ يذهب إلى الخير ويذهب إلى الشر، يذهب إلى الخير فينشرح صدره له، ويذهب إلى الشر فيقتل ثُمَّ يندم وتُعَاقِبُهُ نفسه وتؤنبه نفسه على ذلك. ففي الإنسان ما يُحِسُّ به أنَّهُ يختار ويختار؛ يختار الشر ويختار الخير، وهذه ضرورة في قَلْبِ كل أحد لا مَفَرَّ منها، فالإنسان مختار لهذا ومختار لهذا. ثم ثالثاً يُقال: إنَّ أهل السنة نظروا إلى المسألة في قولهم في القدر في أنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ على العباد بأنَّ من احتج على القدر فإنه يناقض نفسه، لماذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 لأنَّهُ كل من قال في القدر قولاً؛ يقول مثلاً: إنَّ الله - عز وجل - كتب علي السيئات وجعلني أفعل الشر وكذا ثُمَّ يُعَذبني بالنار؛ لكنهم لا يتجاسرون أن يُحَكِّمُوا القضية المقابلة لذلك وهي أن يقول القائل: كذلك إذا جعلني أصلي جعلني أطيع الله - عز وجل - وجعلني أفعل من الخيرات، فلماذا يثيبني؟ والمسألة هذه بمقابل هذه. فإذا قال القائل كتب علي السيئات فلماذا يعذب؟ فكذلك لابد أن يقول وكتب علي الخير فلماذا يُثِيْبْ؟ والإنسان بطبيعته يهرب مما هو عليه، فلا يُقِر على نفسه بما فيه مصلحته بأنَّ الخير الذي هو مصلحة له فيذهب ويسكت عنه؛ لأنَّهُ فيه مصلحة له. لكن يأتي بما فيه مضرة عليه أو بما فيه تبرير لفعله ليهرب من الواقع. والحقيقة أنَّ العقل الصحيح وإدراك الإنسان لنفسه وفطرته وضرورياته يَجِدْ أنَّهُ يفعل الخير اختياراً ويفعل الشر اختياراً، يفعل الخير فتنشرح نفسه له، ويفعل الشر فتنكره نفسه عليه؛ لأنه مفطورٌ على حب الخير وعلى كراهة الشر. فإذاً اختياره دليل فطري في كل إنسان، مثل إحساس الإنسان، تحس بالشيء، الأعمى يحس ويقول هذا كذا ويستدل به ويكون مُتَيَقِّنَاً؛ لأن دليله صار ضرورياً، وكذلك يُحِسْ بالأمر الآخر فيكرهه لنفسه لأنَّ دليله صار ضرورياً. نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.   الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً، أما بعد: مضى معنا طائفة من الكلام على الإيمان بقدر الله - عز وجل - خيره وشره، وأنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ من الله - عز وجل - فما يصيب العبد من خير فهو من الله - عز وجل - تقديراَ وتدبيراَ، وما يصيب العبد من شر وسوء فإنَّهُ من الله - عز وجل - تقديراً وتدبيراً. ومَرَّ معنا مراتب الإيمان بالقَدَرْ وما يتصل بهذا المبحث مما فيه تقريرٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة، التي أَمَرَ الله - عز وجل - بالإيمان بها والتسليم لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فيها. ومَرَّ معنا أيضاً أنَّ القدر سِرُّ الله - عز وجل - في خلقه، لم يعطِ حقيقته لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مُرْسَلْ، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء، وهو - عز وجل - الخالق لكل شيء، وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ونحو ذلك من المباحث والموضوعات التي سبق الحديث عنها، وسبق تقريرها على ما جاء في كتاب الله - عز وجل - وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومبحث القَدَرْ من المباحث العظيمة في الملة، ولأجل كونه سراً من أسرار الله - عز وجل -، وإدراك كُنْهِهِ وحكمة الله - عز وجل - في عباده غير متحققة من كل وجه، فلذلك صار الخائض في القدر بلا دليل عُرْضَةً لمزلة القدم؛ بل لم يخض في القدر أحد بغير حجة وبرهان إلا وزلَّتْ قدمه وتَنَكَّبَ سواء الصراط. ولهذا ينبغي أن يُتكَلَمَ في القدر بما جاء في النص دون زيادة لأنَّهُ أمر غيبي، ولا يمكن للعبد أن يخوض في الأمور الغيبية إلا مع الدليل، ودون الدليل فهو كالذي يسير في الظلمات ليس بخارج منها. والمخالفون في القَدَرْ كثيرون، ولهذا الطحاوي رحمه الله لم يُرَتِّبْ الكلام على مسائل القَدَرْ في موضعٍ واحد حتى يُمْكِنَ الناظر أن يبسط الكلام فيه بتقرير قول أهل السنة وقول المخالفين، وما يترتّب على ذلك؛ بل فَرَّقَهْ فأتى في آخر رسالته هذه بشيء من الكلام على القَدَرْ؛ لكن من جهة النظر إلى خلاف المخالفين. ولهذا هذه الجمل التي معنا من قوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) إلى قوله (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) هذه كلها لأجل خلاف المخالفين من الجبرية والقدرية. وقبل أن نخوض في بيان كلامه وما فيه من المسائل نُلَخِّصْ شيئاً من أسباب الضلال في القَدَرْ، والذي به خَرَجَ القدرية سواء الغلاة أم المعتزلة أو الجبرية أو من ضَلَّ في مسألةٍ أو في مسائل في هذا الباب. (1) 1- السبب الأول: هو ترك الاقتصار على ما جاء في الكتاب أو السنة من الواضحات المُحْكَمَات التي تُبَيِّنُ حقيقة القَدَرْ، والأخذ بما فيهما من المتشابهات وجعل ذلك أصلاً. ومعلومٌ أنَّ الواجب على العبد أن يأخذ بالمُحْكَمْ وأن يَرُدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فقد أمر الله - عز وجل - بذلك، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّةً على الصحابة وهم يتنازعون في القَدَرْ، كلٌّ يَنْزِعُ إلى قوله بآية، فكأنما فُقِئَ في وجهه حَبُّ الرُّمَان صلى الله عليه وسلم، يعني أحْمَرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا لأجل أنَّ الواجب على العباد أن يُسَلِّمُوا للمحكمات والأصول العامة وأن يَرُدُوا المتشابه إلى المُحْكَمْ على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم. وبالتالي فإنَّ كل تفسيرٍ لآيات القَدَرْ لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضوان الله عليهم فإنَّهُ باطلٌ وضلال؛ لأنه من الأخذ بالمتشابه وترك المحكم. 2- السبب الثاني: أنَّ العباد لم يعرفوا حكمة الله - عز وجل - في الأشياء ولا حِكْمَتَهُ فيما يُقَدِّرُ ويخلُقُ من الخير ومن الشر أو من المخلوقات بعامَّةْ، ولما لم يُدْرِكُوا الحكمة عارضوا فِعْلَ الله - عز وجل - في ملكوته بما يرون من ظاهر رأيهم. فعارض الجاهل العالم واقتنع بجهله فصار على شُعْبَةِ ضلالة. ومعلومٌ أنَّ حكمة الله - عز وجل - في خلقه منها ما هو مُدَلَّلٌ عليه، ومنها ما ليس بمعروف، ولذلك إذا جُهلت الحكمة فإنَّ المرء يُسَلِّمْ ولا يعترض. (2) : [[الشريط التاسع والثلاثون]] : وقد ذَكَرَ جماعة من أهل العلم أنَّ سبب الضلال في القدر هو الجهل بحكمة الله فيما يخلق ويُقَدِّرْ، ثُمَّ الخوض في ذلك وقد لخَّصَها شيخ الإسلام بقوله فيما ذكرته لكم مراراً في تائيته حيث يقول: وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ وهذا حق لأنَّ حِكْمَةَ الله غير معلومة؛ بل جَعَلَ الله - عز وجل - مثالاً لمن جَهِلَ حكمته في أنَّهُ حُرِم العلم، كقصة موسى مع الخضر عليه السلام، وهذا ظاهر بَيِّن لمن يتأمل سورة الكهف، فإنَّ موسى عليه السلام عارَضَ الخَضِرْ لظاهر رأيه، والخَضِرْ يعمل على ما أمر الله - عز وجل - بما يوافق حكمته، وهي الغاية المحمودة من وراء الأفعال، فلما عَارَضْ، كان ممن لم يستطع صبرا فَحُرِمَ العلم، قال {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] . 3- السبب الثالث: هو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال العباد فيما هو من قبيل العدل والظلم. فنظروا إلى أفعال الرب - عز وجل - فجعلوا ما هو عَدْلٌ في تصرفات البشر واجِبَاً وعدلاً في تصرفات الرب - جل جلاله -، وجَعَلُوا ما هو ظلمٌ من تصرفات البشر محرّماً أو منفياً وظُلْمَاً في تصرف الرب - جل جلاله -. وهذا هو ضلال القدرية المعروف حيث جعلوا العدل والظلم في تفسيرها في حق الله - عز وجل - كتفسيرها في حق المخلوق، فقاسوا هذا على هذا وضَلُّوا في هذا الباب؛ لأنَّ الخالق - عز وجل - لا يُقَاسُ على المخلوق في أفعاله وفي تدبيراته في ملكوته. 4- السبب الرابع: إحداثُ ألفاظ ومصطلحات جُعِلَتْ أصلاً في هذا الباب، ثم حُمِل الكتاب والسنَّة عليها، مثل لفظ الاستطاعة بتفسيرهم، والطاقة، وما لا يطاق، والتكاليف وأشباه ذلك. ومنها أيضاً عند الجبرية الكسب ونحوه. ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور الغيبية كالقَدَرْ الاصطلاح عليها بألفاظ وأسماء لمُسَمَيَّات لم يأتِ عليها برهان أنَّهُ يجعل المرء يُؤَصِلُ ويُقَعِّدْ بشيء لا أساس له. ولهذا لَمَّا فهموا وظنوا من الشريعة أنَّهُ يُقال كذا، مثلاً الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، أو قالوا الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل -كما سيأتي-، أو قالوا الكسب هو الاقتران، أو قالوا كذا وكذا في تكليف ما لا يطاق -كما سيأتي الآن في هذه المواضع-، فسَّرُوها بتفسيراتٍ تَخُصُّهُم. ولهذا ضَلُّوا في أصلٍ يجب الرجوع فيه إلى الدليل؛ لأنَّ إحداث لفظ وإحداث مصطلح لا شك أنَّهُ سيترتب عليه أشياء كثيرة. وسيأتي الكلام على الكسب مثلاً وهو أنَّ الكسب مع وروده في الدّليل في قوله مثلا {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك مع ورود لفظ كَسَبَ، يَكْسِبُ، والكَسْبْ فإنَّ التفسيرات تَنَوَّعَتْ فيه وأحدثوا له فهماً جديداً غير المراد بالكتاب والسنة، فصار ثَمَّ كَسْبْ عند الجبرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند القدرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند أهل السنة لأجل أنَّ هذا اللفظ في أصله وإن كان وارداً لكن جُعِلَ مُصْطَلَحَاً على فكرة جديدة توافق ما هم عليه. فإذاً المصطلحات الجديدة في مسائل القَدَرْ هي سبب الافتراق فيه والضلال فيه، ولو أُلغِيَتْ هذه المصطلحات وبَقِيَ الناس على ما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ كثير من الخلاف فيه سيذهب. ولهذا عند النقاش والحوار مع المخالف في هذه المسائل سَيُبْحَثْ معه أصلاً في اللفظ وفي نشأته، ومن أين أتوا بهذه الألفاظ والتعريفات. لهذا العلم بالقرآن والسنة حُجَّةْ على كل مخالفٍ أحدث المصطلحات؛ لأنَّ إحداث المصطلحات عقلي واتِّبَاعُ الكتاب والسنة نقلي، ولهذا يغلب النقل العقل الحادث والمصطلح عليه في هذه المسائل. 5- السبب الخامس: من الأسباب التي أنشأت الخلاف والفُرْقَةْ في أبواب القَدَرْ، ما يَصْلُح أن يُقرًّرْ بأنْ نقول: إنَّ التساوي بين العباد في فعل الله - عز وجل - وادعاء أنَّهُم سواءْ في كل شيء -يعني فيما يفعل الله - عز وجل - بهم- هذا مع كونه مخالفة للدليل؛ لكنه نَشَأَ عنه تفريعات وأقوال جعلت الأقوال المخالفة في القَدَرْ كثيرة. أعيد صياغة هذا السبب بأن نقول: من أسباب ومنشأ الضلال في القَدَرْ الحكم على أفعال الله - عز وجل - بأحكام من جهة النظر إلى الخلق، فجعلوا فعلاً لله - عز وجل - واجباً عليه بالنسبة للجميع، وجعلوا فعلاً لله - عز وجل - ممتنعاً عليه بالنسبة للجميع. وسيأتي فيما سنذكر اليوم إن شاء الله أنَّ خلاف القدرية في مسألة الاستطاعة ناشئٌ عن أنهم قالوا: الواجب على الله - عز وجل - أن يجعل الناس سواسية فيما يُعطيهم، فكون هذا يُوَفَّقْ وهذا يُخْذَلْ هذا غير سائغ؛ لأنَّهُ تفريق، فإذا جعلنا الأصل هو أن يكون الناس سواسية، فإنَّ هذا قاعدة نبني عليها غيرها من مسائل القَدَرْ. وهذا التقعيد أو هذه المقدمة نشأ عنها كثير من الخلاف، خاصَّةً عند المعتزلة، ولهذا نشأت أقوال كثيرة مُحْدَثة في القَدَرْ، وخلاف متنوع في المسائل العقلية، وما يجب على الرب - عز وجل - وما لا يجوز عليه. وهذه تتضح أكثر ببحثنا في الاستطاعة إن شاء الله. إذا تَبَيَّنَ هذا فالواجب في مسائل الغيب بعامَّة أن لا يُتجاوَزْ القرآن والحديث، وأن يُسَلَّمْ للدِّلَالَةْ، وإذا أشكل على المرء شيء فواجبٌ عليه أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] كما يقول الراسخون في العلم، مع أنهم يعلمون التأويل في كثير؛ لكن قد لا يعلمون التأويل في بعضٍ؛ يعني طائفة من الراسخين قد لا يعلمون ويعلمه غيرهم، فيقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} . أما ضرب النصوص بعضها ببعض، أو الأخذ بالمتشابه وترك المحكمات، أو قياس أفعال الله - عز وجل - على أفعال خلقه، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرنا، أو الخوض في الحِكَمْ والمصطلحات، فإنَّ هذا يُنْشِئُ الافتراق والضلال في هذا الباب لأنَّهُ أمرٌ غيبي بحت. لهذا ما أحسن قول من قال -قول علي رضي الله عنه وقول غيره (القدر سر الله فلا تكشفه) . يعني لا تحاول كشفه فإنَّ من حاول كشفه لا شك أنَّهُ سيضل؛ لأنَّهُ سِرٌّ من الأسرار اختص الله - عز وجل - به. هذه مقدمة للمسائل التي سيأتي بيانها إن شاء الله.   (1) وقد ذكر الشيخ بعضاً منها، تجدها في (68) ، وكذا (224) (2) انتهى الشريط الثامن والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 قال الطحاوي رحمه الله (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ- يعني الاستطاعة- مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}   يريد رحمه الله أن يُقَرِّرْ أنَّ مسألة الاستطاعة وهي القُدْرَةْ والطاقة اختلف فيها الناس ما بين الجبرية إلى القدرية، والقول الوسط فيها هو قول أهل السنة المتابعين لظاهر القرآن والحديث في أنَّ الاستطاعة منقسمة إلى قسمين: - استطاعة قبل الفعل. - واستطاعة مع الفعل. يعني استطاعة يُتَكَلَمُ عنها: قدرة وطاقة يُوصَفُ العبد بها قبل أن يفعل الفعل، وتستمر معه إلى أن يفعل. وقدرة أخرى -استطاعة أخرى- هذه تكون مع الفعل، ولا يجوز أن ينفَكَّ الفاعل عنها. وهذا الذي ذكر هو الذي دلَّتْ عليه الآيات ودلَّتْ عليه السنة من أنَّ الإنسان المُكَلَّفْ يوصف بأنَّهُ مستطيع ويوصف بأنه غير مستطيع. فقال - عز وجل - في الوصف بالاستطاعة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، وقال - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، يعني ما تستطيع، الاستطاعة هي الوسع والطاقة والقدرة، وقال - عز وجل - أيضاً في هذا الباب {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] . وفي الاستطاعة المنفية قال - عز وجل - في سورة هود {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، وقال - عز وجل - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:100-101] ، وقال صلى الله عليه وسلم «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» (1) ونحو ذلك. فإذاً الشريعة فيها استطاعةٌ مُثْبَتَة، وفيها استطاعة مَنْفِيَّةْ، وواجب إذاً أن يُنْظَرْ إلى هذه النصوص بالفهم وهي أنَّ المُثْبَتْ غير المنفي. فإذاً لابد أن تكون الاستطاعة على قسمين، وهذا هو الذي أراده هنا وهو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة، وسيأتي لها مزيد تقرير -إن شاء الله- في المسائل. وقوله هنا (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ) يعني يجب بها حُصُولُ الفعل وإيقاعُ الفعل ووجود الفعل؛ يعني العمل، فهناك استطاعة، قدرة إذا وُجِدَتْ وُجِدَ الفعل. لهذا قال هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) وذلك أنَّ الله - عز وجل - هو الخالق لأفعال العباد. فقوله هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذه جملة اعتراضية وسبك الكلام (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) . وقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذا ليُدَلِّلْ على أنَّ الاستطاعة هذه التي يجب معها حصول الفعل هذه فيها أمْرٌ غيبي زائد، فيها إعانة [ .... ] فيها شيءٌ زائد عن الظاهر، ولهذا قال (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث الفعل إلا بقُدْرة، وهذه القدرة لا يمكن أن تكون قبله ثم تنعدم وقت الفعل، فكيف يمكن أن يحصل فعل بلا قدرة للفاعل على فعله؟؟ لكن هل يستقل بهذه القدرة أم ثَمَّ أمر زائد؟ لابد هناك أمر زائد يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقوله في (الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ) وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة المُثْبَتَة، وهي التي يتعلق بها الحساب والعقاب والخطاب والأمر والنهي؛ لأنَّ الله - عز وجل - جعل للمكلَّفِينَ من المشركين، جعل لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، وجعل لهم قُدْرَة على أن يُصَلُّوا، قدرة على أن يتأملوا، وقدرة على تَبَيُّنِ ما أُيِّدَ به صلى الله عليه وسلم من المعجزات والآيات والبراهين؛ لكنهم لا يريدوا أن يسمعوا مع وجود الآلات، ووجود الصحة ووجود القدرة. إذاً فالمنفي ليس هو الآلة، المنفي بعدم الاستطاعة هو ما يكون مع الفعل مِنَ التوجه إلى الخير والهدى والسماع النافع لما معهم مما يَصُدُّهُ وينفيه من الهوى واتباع الشهوات. إذا تبين هذا فإيضاح هذه الجمل في مسائل:   (1) البخاري (1117) / أبو داود (952) / الترمذي (372) / ابن ماجه (1223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 [المسألة الأولى] : هذه المسألة متصلة بالقدر والإيمان به وأَصْلُ بَحْثِهَا من المعتزلة. وذلك أنهم قَعَّدُوا قاعدة وهي أنَّ الناس في فعل الله - عز وجل - سواء، وهو أنَّ العاصي والمؤمن، الكافر والمؤمن، العاصي والمطيع كلهم أُعْطُوا شيئاً واحداً، فهذا فَعَلَ الخير، وهذا فَعَلَ الشر بمحض قدرته. فهذه التسوية بين الجميع جعلتهم ينفون أنْ يكون هناك أمراً زائداً خُصَّ به هذا ومُنِعَ ذاك. فجعلوها جميعاً قبل الفعل، وأمَّا مع الفعل في أثناء الفعل فعندهم العبد هو الذي يخلق فعل نفسه. وبالتالي فلو جُعِلَ هذا مُسْتَطِيعَاً للفعل وهذا غير مستطيع للفعل لكان الناس ليسوا سواسية فيما أعطاهم الله - عز وجل -، وبالتالي يترتب على هذا أنَّ هذا ظُلِمْ وهذا أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ غيره. فإذاً أصل بحث المسألة هي عند المعتزلة. ولماذا بحثوها؟ للقاعدة التي قَعَّدُوهَا هي أنَّ الجميع يجب أن يكونوا في فعل الله واحد، حتى لا يُظْلَمَ هذا ويُتْرَكْ ذاك. إذا فهمت هذا الأساس تفهم لماذا افْتَرَقَ الناس في هذه المسألة. فلمَّا قالوا الاستطاعة لا تكون إلا على هذا النحو؛ وهي أن تكون قَبْلْ، أما المُقَارِنَة فالعبد هو الذي يخلق فعل نفسه، هو الذي يقدر ويفعل، الله - عز وجل - لا يَجْعَلُ هذا مستطيعاً وذاك غير مستطيع؛ لأنَّ هذا ظلم. وإذا كان كذلك فقابلهم من يُثْبِتُ الاستطاعة المُقَارِنَة وهم الجبرية ونفوا أصلاً أن يكونَ للإنسان قدرة على فعل أي شيء. لهذا قالوا: ليس هناك استطاعة سابقة، وإنما الاستطاعة هي أنَّه يقدر على الفعل وهذه القُدْرَة في الواقع من الله - عز وجل -، لهذا الإنسان أصلاً لا يستطيع لأنَّ الله - عز وجل - نَفَى قال {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] ، وقال {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، ونفى أيضاً عنهم الرمي فقال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] . إذاً لا يمكن أن يفعلوا شيئاً، فقابلوا القدرية في مسألة الاستطاعة لا في مسألة القَدَرْ والجبر. القَدَرْ والجبر أصلاً الجبرية سبقوا القدرية في مسألة الجبر المُعَيَّنْ، أما القَدَرْ اللي هو نفي العلم فهو الذي كان أولاً. يعني الجهمية الذين هم الجبرية سابقين المعتزلة الذين هم القدرية، يعني كفرقة. الجهمية هم الذين أظهروا الجبر ونَصَرُوهُ، من جهة وجود الجهمية قبل وجود المعتزلة الذين هم القدرية. فإذاً نقول: إنَّ الجبرية قبل لأنَّ الذي مَثَّلَهُمْ الجهمية، وأولئك مَثَّلَهُمْ المعتزلة وهم متأخرون عنها. أما من جهة القَدَرْ والجبر كقول القدرية سابقون لأنَّ نفاة العلم ظهروا في زمن الصحابة، وأما الجبرية فجاؤوا بعد ذلك؛ لكن تفاصيل أقوال الجبرية والقدرية ما نشأت إلا مع ترسُّخْ المذهبين في الجهمية وفي القدرية المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 [المسألة الثانية] : قَرَّرَ الطحاوي هنا أن الاستطاعة على قسمين: - استطاعة مُتَقَدِّمَةْ، وهذه لا يجب أن تكونَ مع الفعل؛ بل تتقدم وهي المُتَعَلَّقْ بها الأمر والنهي. - واستطاعة مُقَارِنَة يَجِبُ بها الفعل؛ يعني إذا وُجِدَتْ الاستطاعة حصل الفعل دون تأخر. 1 - أولاً: الاستطاعة قبل الفعل: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً» عدم الاستطاعة هنا هل هي خاضعة لِأَنْ يُجَرِّبْ إذا أراد أن يصلي، أو لعدم تمكن آلته من القيام، معروف قبل أن يدخل أصلاً في الصلاة. {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، يَبْدَأْ يَحِجْ ثم ينظر هل هو مستطيع أو لا، أم أنَّ الاستطاعة التي هي الزاد والراحلة وغير هذين أيضاً، هذه تكون قبله؟ تكون قبله. إذاً هذه معلومة قبل. فإذاً التكليف الأمر والنهي والعُذْرْ إلى آخره، هذه مُتَقَدِّمَة، استطاعة؛ قدرة، وُسْعْ، آلات، سلامة، صحة، إلى آخره متقدمة. أيضاً ليست الاستطاعة المرادة في الشرع هي الاستطاعة الكونية؛ بل المراد الاستطاعة الشرعية. -وهذا أوضحت لكم أنَّ الدليل دلَّ عليه-. والاستطاعة الكونية هذه أخصُّ من الاستطاعة الشرعية، فإنَّه قد يكون المرء مُستطيعاً كوناً ولكنه ليس بمستطيعٍ شرعاً. مثاله: يمكن له أن يُسِيْلَ الماء على جُرْحِهِ الذي لم يندمل، يمكن أن يغتسل ويُسِيْلْ الماء عليه، هذا يمكنه كونَاً ويستطيع، يمدُّ يده ويصب الماء عليه إلى آخره. يمكنه أن يصلي الصلوات قائماً لأنَّه غير مشلول؛ لكنه شرعاً لا يُسَمَّى مُستطيعاً لأنَّ: الأول يورثه زيادة في المرض والشريعة مُتَشَوِّفَة للتيسير. والثاني يورثه أيضاً عدم الخشوع في الصلاة والتعب إلى آخره ومجاهدة النفس وربما أورثه زيادة المرض، والشريعة متشوفة في الصلاة إلى خشوعه وحضور قلبه وإلى أن لا يزيد مرضه إلى آخره. فإذاً مما لم ينظُرُوا إليه في البحث أيضاً أنَّ الاستطاعة التي هي سلامة الآلات المُرَادَةْ في القَدَرْ والمرادة في تحقيق المسألة هي الاستطاعة الشرعية لا الاستطاعة الكونية. أما كونه يقدر، سليم الآلات إلى آخره، هذا قد يُدْخِلُنَا في تكليفه ما هو فوق طاقته أو فوق ما فيه مصلحته شرعاً. ولهذا نقول: الاستطاعة التي هي قبل الفعل نقسمها إلى قسمين: - استطاعة كونية. - واستطاعة شرعية. والاستطاعة الشرعية هي المُرَادَةْ؛ لأنها هي التي تَعَلَّقَ بها التكليف والأمر والنهي. فإذاً حَصَلَ من هذه المسألة أنَّ الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، والتي قبل الفعل تنقسم إلى قسمين، يعني من حيث النظر إليها. 2 - ثانياً: الإستطاعة مع الفعل: أما الاستطاعة التي مع الفعل (وهي المهمة في هذا الباب، وهذه المسألة عَرْضُهَا في الكتب غير واضح، ويُدْخِلُونْ بعض البحث في بعض، وأنا أُرَتِّبْهَا لك، فكن حاضر القلب معي حتى تستوعب الخطوات) . فالفعل لا يكون ولا يحصل لأي إنسان -ما يمكن أن يَفْعَلْ الشيء ولا أن يَحْدُثَ هذا الشيء- إلا بوجود ثلاثة أشياء، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها ما حَصَلَ هذا الشيء أبداً: @ - القدرة التامة على إيجاد الفعل: القدرة التَّامَّة ما معناها؟ معناه أنَّهُ إذا لم يكن عنده القدرة على الفعل فإنَّه لا يمكن أن يحصل الفعل. الأعمى إذا أراد أن يقرأ كتاباً فهل يمكنه؟ يأخذ الكتاب هذا الذي معي ويقرأه، وحروف الكتاب هي الحروف التي يقرأها الُمْبِصْر غير الحروف الثانية التي يستدل بها باللمس. لو وَضَعَهُ أمام عينيه فإنه لا يمكنه، لو أخذ المصحف ووضعه أمام عينيه فإنه لا يمكن أن يقرأ شيئاً، واضح، لماذا؟ لأنه ليس عنده القدرة. الذي لم يتعلم الكتابة لو أخذ القلم بيده بين أنامله وأراد أن يَخُطَّ جملة لم يستطع، لماذا؟ لأنَّهُ لم يتعلم. المتعلم للكتابة باللغة العربية لا يمكن أن يكتب باللغة الصينية؛ لأنَّهُ وإن كان يعرف الحروف باللغة العربية؛ لكن لا يمكنه أن يكتب بالصينية، لأنه لا يقدر على هذا بخصوصه. فإذاً القدرة التامة هي التي يحصل بها الفعل. @ - الإرادة الجازمة: ونعني بالجازمة غير المترددة، فإذا وُجِدَتْ الإرادة الجازمة مع بقية الشروط وُجِدَ الفعل. لكن لو وُجِدَتْ الإرادة فقط ولم توجد بقية الشروط -ونذكر مثالنا الآن الذي ذكرنا القدرة- فهل يمكن أن يحصل الفعل؟ لا يمكن أن يحصل الفعل. يريد أن يذهب إلى مكة لكن ما عنده قدرة مالية، يمكن يذهب؟ ما يمكن. يريد أن يكون حافظاً لكتاب الله لكن ليس عنده القدرة على الحفظ هل يمكن؟ ولو كانت إرادته جازمة ويتمنى وإلى آخره، لا يمكن. فإذاً الإرادة الجازمة غير المترددة شرطٌ في حصول الفعل، لا يمكن أن يحصل الفعل بإرادةٍ مترددة [ ..... ] @ - أن يشاء الله - عز وجل - حصول هذا الفعل: فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته الكونية في هذا، إذا شاء أن يكون الفعل ممن عنده قدرة وإرادة فإنه يُعِينُ العبد على حصول هذا الفعل، كيف يعين العبد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 يعينه بأشياء: - الأول التوفيق. - الثاني أن يُعْدِمَ المُعَارِضْ. مثلاً هو يريد أن يذهب إلى مكة وعنده القدرة المالية وعنده الإرادة الجازمة، ويريد أن يحج هذا العام. المُعَارِضْ الذي يُعَارِضْ أن يكون هذا من حصول خللٍ له في بدنه، من حصول خللٍ في الطائرة، من عدم تَمَكُّنِهِ، من سرقة المال، من أسباب كثيرة لا تُحْصَى من المُعَارِضَاتْ، هذه هل هي في قدرة العبد؟ ليست في قدرة العبد. إذاً هذا يدخل في الأمر الغيبي الذي لا يدخل العبد فيه. إذا اجتمعت هذه الثلاثة حَصَل الفعل، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها لم يحصل الفعل. فإذاً الاستطاعة التي يجب بها الفعل، وهي القدرة التي يجب بها الفعل -يعني يحصل معها الفعل- المراد بوجوب حصول الفعل مع وجود الإرادة الجازمة، ووجود إعانة الله - عز وجل - ومشيئته وتوفيقه ودَفْعْ المُعَارِضْ إلى آخر ذلك من الأسباب الذي هو الأمر الغيبي المختص بالرب - جل جلاله -. القدرة في نفسها -قدرة العبد على الفعل- هل هو الذي أوجدها في نفسه أم الله الذي خلقها فيه؟ الله - عز وجل - الذي خلقها فيه. الإرادة الجازمة للفعل، تَوَجُّهْ العبد للفعل هذا اختيارٌ منه أم هو مفروض عليه؟ هو اختيار منه. & ولذلك جاءت الجبرية وقالت: القدرةُ منفية، لا قدرة له. والإرادة هو مُرْغَمٌ على أن يريد. والمشيئة: العبد خَضَعَ للمشيئة فَعَمِلَ ما يريده الرب. فإذاً: الفعل كله فعل الرب - عز وجل - بلا اختيار، فصار فعل العبد بعد أن حَدَثْ كحركات الأشجار والورقة في الماء والريشة في مهب الريح إلى آخره. & جاءت القدرية في المقابل وقالت: القدرة بيد العبد، والإرادة عنده هو، ولا علاقة لفعل الله - عز وجل - به؛ بل العبد هو الذي يَقْدِرْ، فالقدرة خَلْقُهُ، هُوَ الذي خَلَقَ الفعل بقدرته، والإرادة تَوَجَّهَتْ إليه، والقُدْرَة والإرادة يستوي الناس فيها. فهذا خَلَقَ أفعال الطاعات وهذا خَلَقَ أفعال المعاصي، فنفوا الجزء الثاني. & أما أهل السنة والجماعة فنظروا إلى الأدلة فوجدوا فيها الثلاثة جميعاً فأثبتوها. فإذاً حقيقة بحث القدر وبحث الاستطاعة وبحث تكليف ما لا يُطَاق إلى آخره من المباحث، مَبْنِيَّةٌ على الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟ فَبَحَثُوا الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟ منهم من بَحَثَ في أوائله فتَكَلَّمَ في الاستطاعة المقارنة والاستطاعة السابقة إلى آخره في الكلام الذي بحثنا. ومنهم من نَظَرَ إلى نتائجه وهو أنَّ هذا فيه فعل طاعة فينتج عنه الجنة وهذا فيه فعل كفر فينتج عنه النار، فلما نَظَرَ إلى نتائجه والظلم والعدل إلى آخره حَكَمَ على المسألة بالنتائج. والذي ذهب إليه أهل الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسط في المِلَلْ ووسط في المذاهب وهم أهل السنة والجماعة قالوا: الفعل لا يوجد إلا بهذه الثلاثة أشياء. لهذا الطحاوي هنا أشار إلى هذا بإدخال التوفيق بقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) وهذه الجملة في الواقع ليس لها علاقة بالكلام، والشارح عندكم -شارح الطحاوية- ما تَكَلَمَ على هذه الجملة لماذا أدخلها الطحاوي، وإلا الكلام يستقيم بدونها أن يقول (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْل فهي مَعَ الفِعْلِ) يريد الطحاوي أن يقول لك: إنَّ الفعل لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة والإرادة وفِعْلُ الله - عز وجل - الذي فيه المشيئة وفيه التوفيق والإعانة وفيه دفع المعارض إلى آخره من المسائل. س/ [ ..... ] لأ، هذا أمرٌ خارج، هذا فِعْلُ الله - عز وجل -، تنظر الآن فيه شيء ظاهر أنَّ العبد يملكه وهو قدرته وإرادته لكن فيه شيء ما يملكه، وهو دفع المُعَارِضْ. مثلاً شخص رَكِبَ طائرة جديدة من أحسن الطائرات سليمة ما طار عليها وكل أجهزتها جديدة وإلى آخره وأثناء طيرانها جاءتها زوبعة واحترقت أو ضَرَبَتْ في الأرض إلى آخره فتحطمت، أو جاءتها طائرة ثانية وهو لا يدري وضربتها، فهذا من جهة من؟ ليس من جهة العبد. مثلاً معك سيارة جديدة، جميع الآلات فيها سليمة، احتطت بجميع الاحتياطات، وأخذت بوسائل السلامة فهل ستنتج السلامة بهذه الأشياء التي عملتها؟ لا، فقد يأتي بعير في الطريق وتصدمه وأنت لا تدري، أيضا قد تأتي أمامك شاحنة وتصدمك إلى آخره. ولهذا من أعظم النظر في الأسباب أن تنظر في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. النظر في الهجرة يعطيك ما يجب على العبد أن يفعله، وما ليس للعبد أن يُحَقِّقَهُ من أسباب السلامة. النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أراد الهجرة إلى المدينة عَمِلَ جميع الاحتياطات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 رأى الطريق البعيد الذي ما يمكن أن يظن المشركون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يسير فيه، واستأجر رجلاً هاديا خريتاً يقال له ابن أرقد لِيَدُلَّ على هذا الطريق البعيد، ثُمَّ بعد ذلك أيضاً مع هذا الطريق أَمَرَ راعي الغنم أن يمشي على أثره هو وأبو بكر والذي معهم حتى لا ينظروا إلى الأقدام، واختبؤوا في غار. هذه الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وواجبٌ عليه أن يفعلها؛ لأنَّ الله أَمَرَ باتخاذ الأسباب. وقف المشركون على رأس الغار. يقول أبو بكر رضي الله عنه لو أَبْصَرَ أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا. الآن الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويتحقق بها قَدَرُ السلامة، فعلها أو لم يفعلها؟ فعلها. لكنها هل نَفَعَت؟ لم تنفع، فالمشركون وقفوا على رأس الغار، أقرب شيء؛ لكن بَقِيَ لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرأهما، لم يقدر أحد أن يُنْزِلْ عينيه إلى أسفل، هذا ليس من جهة فعل العبد. ولهذا المعتزلة في ضلالهم لمَّا جعلوا العبد يخلق فعل نفسه فقط، وهو الذي يتصرّف في نفسه، في مثل هذا لا يستطيعون تفسيره. كيف هو لم يستطع أن يُنْزِلَ رقبته تحت؟ كأنَّ في رقابهم غُلاًّ يمنعهم من النظر، وهم عدد ما فيهم أحد ينظر أسفل ولو بالغلط؟؟ إذاً هذا فِعْلْ شيء لا يملكه العبد. لهذا المؤمن ينظر في باب الاستطاعة وباب الأفعال إلى ما يفعله هو وما يُكْرِمُهُ الله - عز وجل - به. ولهذا {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 [المسألة الثالثة] : - الاستطاعة التي قبل الفعل كما ذَكَرْ هي مناط التكليف: الأمر والنهي. - والاستطاعة التي مع الفعل -ولم يَذْكُرْها- هي مناط الثواب والعقاب. (1) - والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة ومن جهة البلوغ مثلاً واليقظة إلى آخره من جميع الأسباب، هذه تتعلق بها الأوامر والنواهي وهي التي يتكلم عنها الفقهاء. @ أما التي مع الفعل وهي المنوط بها الثواب والعقاب، فمعلوم أنَّ فِعْلَ العبد -كما ذكرنا- لم يستَقِلْ بتحصيل النتيجة، وبالتالي فالثواب إذاً لم يستقل العبد بتحصيل أسبابه. ولهذا فتقول إذاً: أنَّ إثابة الله - عز وجل - لعبده هو مِنَّةٌ من الله على عبده. لم؟ لأنَّ أصل تحقيق الفعل لم يكن مُجَرَّدَاً باختيار العبد؛ بل هناك أمر زائد وهو مِنَّةْ الله وفضله على العبد وإعانته عليه. ولهذا سألني أحد الإخوان الأسبوع الماضي سؤالاً متعلق بهذا المبحث وهو أنَّ رضا الله - عز وجل - عن العبد وإثابته للعبد هو نتيجة لشيءٍ فَعَلَهُ الله - عز وجل - وهو هداية العبد لأن يفعل. ولهذا المؤمن الصالح كلما زاد علماً عَلِمَ أنَّهُ ليس منه شيء وليس إليه شيء، مثل ما كان يقول ابن تيمية (اللهم ليس مني شيء ولا فِيَّ شيء ولا إِلَيَّ شيء؛ لكن مع ذلك ليس مجبوراً) . هُوَ ينظر إلى أنَّهُ يختار وعنده قُدْرَة ويعرف أنه مُحَاسَبْ؛ لكن إنْ أعانه الله - عز وجل - ووَفَّقَهُ على الفعل وصار من أهل الطاعة، فإنَّه يعلم أنَّهُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ الله - عز وجل - له وهداه إليه. وهذا معنى نصوص الهداية في القرآن، ليس معنى نصوص الهداية ونصوص القَدَرْ السابق، أنها إجبار على العبد وإنما معناها أنَّ الله هيأ لهذا العبد الأسباب التي تعينه على تحصيل المراد، وأعانه عليها. وهذا هو تفسير أهل السنة للتوفيق. في المقابل من جهة العاصي فإنَّ الله - عز وجل - منعه أسباب الهدى. لماذا منعه؟ لأمْرٍ يرجع إلى نفسه وفِعْلِهْ؛ لأنَّهُ كما أعطى ذاك بسبب فإنَّه مَنَعَ هذا بسبب وهو أنَّهُ رَغِبَ في هواه وتَرَكَ التخلي من هواه ومن شهوته. ولهذا قال - عز وجل - في وصف الكفار {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43] ، وقال - عز وجل - في الآية الأخرى في سورة الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، أضَلَّهُ الله على علم. إذاً فالذي أُعْطِيَ أُعِيْنْ، والذي حُرِمْ عُومِلَ بسبب فِعْلِهِ هو {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] . فإذاً نَظَرْ المعتزلة في المسألة وهي أنَّ الذي أُعْطِيَ والذي مُنِعْ إنما من أنفسهم، لم يُعْطِ الله هذا ولم يمنع هذا، هذا في الواقع نَظَرْ منهم إلى الظلم والعدل بما يُحَكِّمُونَ فيه فعل العبد. مثل أن يُعْطِي ولده هذا ويمنع هذا ويقول لهذا تزوج وهذا ما تزوج، هذا فيه تفريق، لأنَّهُ أُعْطِيَ هذا ومُنِعَ هذا. لكن هنا الإعطاء صار للجميع، أين الإعطاء الذي صار للجميع؟ هو ما قبل الفعل وهو الاستطاعة المُثْبَتَةْ، لم يُكَلِّفْ الله - عز وجل - المجنون الكافر ورَفَعْ التكليف عن المجنون المؤمن، الجميع سواء لأنَّ هذا تكليف واستطاعة قبل الفعل. لكن الاستطاعة التي مع الفعل، ينتج عنها الفعل، فَأُعِيْنَ هذا بسبب وحُرِمَ ذاك بسبب، ولو أنَّ الكافر أو الذي ضل لو أنَّهُ سَلَكَ سبيل الهدى ورَغِبَ بإرادته لأعانه الله - عز وجل - ووفَّقَه؛ لكن كما قال - عز وجل - في وصفهم {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} . ويُمَثِّلْ هذا قول أبي جهل قال (حتى إذا تنازعنا نحن وبنو هاشم الشَرَفْ وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء وليس منكم نبي، والله لا نؤمن به أبداً) (2) ، هنا دخل الهوى، دخلت الشهوة، ودخلت الدنيا فصدَّتْ. فإذاً تحقيق القول في المسألة هنا أنَّ سبب ضلال المعتزلة في باب الاستطاعة وباب القَدَرْ في هذه أنهم جَعَلُوا الظلم واحداً، جعلوا هذا وهذا متساويين في القُدْرَة وفي الآلات، ولهذا نَفَوا خلق الله - عز وجل - للأفعال، وقالوا العبد يخلق فعل نفسه لأجل أن لا ينتج عنها أنَّ الله ظَلَمْ فأدخل الجنة هذا وأدخل النار ذلك. ونَظَرْ أهل السنة أنَّ الله - عز وجل - ساوى بين الناس في التكليف في الآلات في الاستطاعة التي هي قبل الفعل، أمَّا الاستطاعة التي مع الفعل، لا يحدث الفعل إلا بأشياء الله سبحانه وتعالى أعان هذا بأسباب، ومنع هذا بأسباب، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل في هذا كله.   (1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والثلاثين. (2) البداية والنهاية (3/64) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 قال بعدها رحمه الله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ)   يريد أنَّ فعل العبد ليس مَخْلُوقاً له بل الله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ فعل العبد. وهذا يعني أنَّ العبد يفعل ولا يُنْفَى عنه الفعل؛ بل هو يفعل ويعمل، وأفعاله صدرت منه، وهو الذي فَعَلَهَا وهو الذي اختارها وهو الذي أنتجها بإرادته وقدرته، وأمَّا نتيجة الفعل-يعني مع اجتماع الأسباب: القدرة والإرادة إلى آخره- فالله - عز وجل - هو الذي خَلَقَ الفعل. وهذا يخالف مذهب القَدَرِيَّة الذين يقولون إنَّ العبد يخلق فعل نفسه. وقوله (خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) يعني فِعْلْ وعَمَل من العباد، فالعبد يُنْسَبُ إليه الفعل ولا يُنْسَبُ إليه خلق الفعل. فهو يفعل حقيقة، والله - عز وجل - هو الخالق لفعله. ودليل ذلك لأهل السنة والجماعة قول الله - عز وجل - {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، وقال أيضاً - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وقال - عز وجل - {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . إذاً فإثبات عمل العبد وكسب العبد وأنَّهُ هو الذي حَصَّلْ الفعل هذا واضح، وكذلك إثبات أنَّ الله - عز وجل - خلق كل شيء، هذا دليل هذه المسألة. ونذكر عدة مسائل تفصيلية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 [المسألة الأولى] : خَلْقْ الله - عز وجل - لأفعال العباد اختلف الناس فيه على أقوال ثلاثة: 1- القول الأول: هو قول أهل الحق والسنة والهدى أنَّ الله - عز وجل - خَلَقَ العبد وخَلَقَ عمله أيضاً، فأعمال العبد من الخير والشر من الحسنات والسيئات هي خَلْقٌ من الله - عز وجل -؛ لأنَّهُ لا يحدث في ملك الله شيء إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى. 2- القول الثاني: قول المعتزلة بأنَّ الله - عز وجل - لا يَخْلُقُ فعل المكلفين أما غير المُكَلَّفْ فهو خالق كل شيء أما فعل المُكَلَّفْ فلا يخلقه سبحانه وتعالى؛ بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، ويستدلون لذلك: - بأدلةٍ عقلية واضحة على مذهبهم. - وأدلة نقلية محتملة. أمَّا الأدلة العقلية فهم يقولون: إنَّ الله لا يُوصَفُ بأنَّهُ يخلق فعل العبد لسببين: @ السبب الأول: أنَّ فعل العبد فيه الأشياء المشينة، فيه الكفر وفيه الزنا وفيه السرقة وفيه القتل وفيه إلى آخره، ولو قيل أنَّ الله هو الذي يخلق هذه الأشياء لصار نسبةً للأشياء السيئة إلى الله وهو منزهٌ عنها. @ والسبب الثاني: أنَّ خَلْقَ الفعل من الله يقتضي التفريق بين المُكَلَّفِين، هذا خَلَقَ فعل طاعته فأدخله الجنة، وهذا خَلَقَ فعل معصيته فأدخله النار، وهذا ظلم لأنَّهُ لم يساوي بينهم في خلقه وفعله. 3- القول الثالث: قول الجبرية بأنَّ العبد لا يخلق فعل نفسه، بل الله يخلق فعله وهو ليس له فِعْلْ حقيقة، وليس له تَصَرُّفْ حقيقة، ولا كسب حقيقة، وإنما هذه أمور مَجَازِيَّة، وفِعْلُ العبد في الحقيقة هو فِعْلُ الله - عز وجل - لكن أُضِيفَ للعبد اقتراناً ولم يُضَفْ إليه حقيقةً، وأخرجوا لفظ الكسب كما سيأتي وعلَّلُوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 [المسألة الثانية:] قول أهل السنة إنَّ العبد فِعْلُهُ مخلوق لله - عز وجل - استدلوا له بـ: -أدلةٍ نقلية. و -أدلة عقلية. $ أولاً: من الأدلة النقلية: قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16، الزمر:62] وهذا عموم لأنَّ كلمة {كُلِّ} في الأصول من الألفاظ الظاهرة في العموم، وهي في عموم كل شيء بحسبه. فهنا لم يدخل في ذلك صفات الرب سبحانه وتعالى، يعني الله - عز وجل - وذاته وصفاته لم تدخل لأنه سبحانه ليس بمخلوق بذاته وصفاته وأفعاله - جل جلاله -؛ لأنَّ المخلوق حَادِثْ والله - عز وجل - مُتَنَزِّهٌ عن أن يكون حادثاً بل هو - عز وجل - هو الأول والآخر والظاهر والباطن. ويُسْتَدَلْ أيضاً لهم بقوله تعالى في قصة إبراهيم {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] . والعلماء يبحثون كلمة {مَا} هنا {مَا تَعْمَلُونَ} هل {مَا} هنا مصدرية أو موصولة بمعنى الذي؟ (1) - فقالت طائفة {مَا} هنا مصدرية فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم. فعند هؤلاء واضح الاستدلال بأنّ العمل مخلوق لله - عز وجل -. - وقال آخرون وهم أحظى بالتحقيق أنَّ {مَا} هنا ليست مصدرية بل بمعنى الذي فتقرير الآية: والله خلقكم والذي تعملون. @ فمن قال إنها مصدرية وليست موصولة ففيه ضعف من جهة أنَّهُ احْتَجَّ عليهم في عبادتهم لَِما نُحِتَ، فقال - عز وجل - في قول إبراهيم في سورة الصافات صلى الله عليه وسلم {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96] ، فإذا كانت مصدرية صار المعنى: والله خلقكم وعملكم. وعَمَلُهُمْ إيش؟ النحت. فيصير معنى الكلام والله خلقكم ونحتكم وهم لم يعبدوا النحت إنما عبدوا المنحوت. @والقول الثاني إنها موصولة أوضح في الاستدلال وموافق لقصة إبراهيم الخليل عليه السلام {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني والذي تعملون، والاستدلال على هذا واضح وهو موافق للسياق. وتقدير {مَا} بمعنى الذي أفاد فائدتين: - الفائدة الأولى: أنَّهُ موافق لقوله {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} والذي يعملون هو ما ينحتون وهي الأصنام؛ يعني يقول: أنَّ الله خَلَقَكُم وخلق الأصنام التي تعلمونها. - الفائدة الثانية: أنه في إثبات هذا إثبات أنَّ الأصنام هذه التي عملوها أنها مخلوقة أيضاً؛ لأنهم مخلوقون، قال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} وخَلْقُهُمْ يشمل خلق ذواتهم وخلق تصرفاتهم، فرجع الأمر إلى أنَّ هذه الأصنام التي تعملونها مخلوقة لله وأيضاً هي عملكم الذي هو مخلوق لأنكم مخلوقون. فتحصَّلَ من هذا القول أنَّهُ مناسبٌ للسياق، ويشمل خلق الأصنام والاحتجاج عليهم بعبادتها -يعني في عدم عبادتها- وكذلك فعلهم لذلك. $ ثانياً: من الأدلة العقلية: أنَّ الفعل لا يكون -مثل ما ذكرنا- إلا: بقدرةٍ وإرادة. وقدرة العبد لم يخلقها هُوَ وإنما خلقها الله. والإرادة نفسها، وجودها في العبد لم يخلقها هو وإنما خلقها الله. ثم الثالث وهو مشيئة الله. هذه الثلاث يحصل بها الفعل، والأول والثاني مخلوقة لله - عز وجل - والثالث هو فعل الله - عز وجل - مشيئته صفته سبحانه وتعالى. فإذاً ما ينتج عنها يكون مخلوقاً. فإذا كان العَمَلْ حَصَلَ بقدرة وإرادة، والقدرة مخلوقة والإرادة مخلوقة إذاً فالعمل مخلوق. وهذا استدلالٌ عقلي صحيح وهو موافق للأدلة. أما كلام المعتزلة والرد عليهم فله مكان آخر لأنَّ المقام يضيق عن بسطه.   (1) سبق ذِكْرُ هذه المسألة (231) وكذلك (241) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 [المسألة الثالثة] : في قوله (كَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) الكَسْبُ من الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة. - فأُضيفَ الكسب إلى القلب فقال - عز وجل - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] . - وأضيف الكسب إلى العبد فقال - عز وجل - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة:267] . - وأضيف في التكليف أيضاً في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك. وتفسيره في الآيات أن يُقَال: @كسب القلب هو عمله وهو قَصْدُهُ وإرادته، يعني عمل القلب هو قَصْدُهُ وإرادته وتوجهه وعزمه إلى آخره، يعني في اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يعني بما قَصَدْتُمْ أن تُوقِعُوهُ يميناَ، ولهذا في الآية الأخرى في المائدة قال {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] الآية. @ أما كسب العمل {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني من طيبات ما تَمَوَّلْتُمْ من الأموال ومن التجارات ومما أُخْرِجَ لكم من الأرض نتيجة لعملكم. @ أما الكسب الذي هو نتيجة التكليف {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالكسب هنا بمعنى العمل، لذا قال في الآية {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281، آل عمران:161] وفي الآية الأخرى سورة [آل عمران] ، قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] . فإذاً كَسَبَتْ وعَمِلَتْ تتنوع في القرآن: فالكسب الذي هو نتيجة التكليف هو العمل؛ لكن قيل عنه كسب تفريقاً ما بينه وما بين الاكتساب؛ لأنَّ الله - عز وجل - لمَّا ذَكَرَ التكليف في آية البقرة قال {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ليبيِّنَ - عز وجل - أنَّ عمل العمل الصالح كسب سهل يمكن أن يعمله بدون كُلفةٍ منه ومشقة عليه، أما عمل السيئات التي عليه فيعملها بكُلفَةٍ منه ومخالفَةْ وزيادة اعتمال وتَصَرُّفْ في مخالفة ما تأمره به فطرته. لهذا قالوا: زاد المَبْنَى في {اكْتَسَبَتْ} لأنَّهُ يحتاج إلى جُهدٍ منه ومشقة بخلاف العمل الصالح فإنه يُقْبِلُ عليه بنفسه. فإذاً العمل هو الكسب، وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة للكسب على ما دلّت عليه الآيات. وأما الآخرون من الفِرَقْ: الجبرية والقدرية ففسَّرُوا الكسب بتفسيرات أُخَرْ. - أما القدرية فإنهم قالوا: الكسب هو خَلْقُ العبد لفعله؛ لأنَّهُ يوافق لمعتقدهم في ذلك. - والجبرية الذين هم الأشاعرة في هذا الباب فأخرجوا للكسب مصطلحاً جديداً غير ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرته لكم عدة مرات في أنَّ الكسب عندهم هو اقتران الفعل بفعل الله - عز وجل -، اقتران ما يُحْدِثُهُ العبد بفعل الله - عز وجل -. فعندهم أنَّ الفعل حقيقة هو فعل الله، والعبد حَصَلَ له العمل؛ لكن النتيجة هي الكسب. فالعبد في الظاهر مُخْتَارْ، العبد في الظاهر يعمل، العبد في الظاهر يُحَصِّلْ ما يريد؛ لكنه في الباطن مفعول به. والكسب هذا عندهم مما اختلفوا فيه على أقوال كثيرة جداً وليس تحتها حاصل. المقصود من الكلام أنَّ الكسب عند الجبرية عند الأشاعرة ما يُفَسَّر بتفسيرٍ صحيح، وهو من الألفاظ المبتدعة التي ضَلُّوا بسببها في باب القدر، أَحْدَثَهُ الأشعري ولم يُفَسِّرْهُ بتفسيرٍ صحيح، وأصحابه أيضاً لم يُفَسِّرُوهُ بتفسير صحيح إلا بدعوى الاقتران. إذا تبيَّنَ هذا، فإذاً حقيقة الكسب الذي أثبته الطحاوي هنا بقوله (خَلْقُ اللهِ، وَكَسْبٌ مِنَ العِبَادِ) نحمِلُهُ على قول أهل السنة والجماعة، مع أنَّهُ يمكن أن يُحْمَلَ على قول الأشاعرة والماتريدية في ذلك. والأَوْلَى أن يُحْمَلْ على الأصل وهو ما يوافق القرآن والسنة؛ لأنَّهُ هو في جُلِّ عقيدته يوافق طريقة أهل السنة والحديث. كان بودي أن أذكر تفصيل أكثر؛ لكن على كل حال لها إن شاء الله موضع آخر، أو مناسبة أخرى. نكتفي بهذا القدر، فالجملة هذه ما أعطيناها حقها (خَلْقُ اللَّهِ) المفروض أن نتكلم على الردود على المعتزلة في قولهم بأنَّ العبد يخلق فعل نفسه ونُبْطِلُ مسألة الظلم والعدل والقياس في الأفعال، ونتكلم عن الكسب عند الأشعرية بتفصيل أكثر؛ لأني سبق أن أوضحته لكم أكثر من هذا في الواسطية (1) ؛ لكن على كل حال، بعض العلم يخدم بعضاً. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)   (1) ذكر الشيخ مسألة الكسب في الشريط 22 من شرح العقيدة الواسطية (2) انتهى الشريط التاسع والثلاثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 : [[الشريط الأربعون]] : وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ.   قال رحمه الله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) يعني العباد المُكَلَّفِين؛ لأنَّهُ لما ذَكَرَ أفعال العباد وأنَّهَا خَلْقُ الله وكَسْبٌ من العباد، ذَكَرَ هذه المسألة وهي أنّه - عز وجل - لم يكلفهم إلا ما يطيقون (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") إلى آخره، يريد بهذا الكلام أن: - يَرُدَّ على طائفة ممن يقولون: إنَّ الله - عز وجل - كَلَّفَ العباد بما فوق طاقتهم، وأنَّ بعض الأوامر أو النواهي فوق طاقة العبد. - ويَرُدَّ على طائفة أخرى يقولون: إنَّ العباد لم يكونوا ليقدِرُوا على أكثر مما أمرهم الله - عز وجل - به. وهذا معنى كلامه هنا، وسيأتي ما فيه من الصواب والخلل في المسائل إن شاء الله تعالى. والذي دَلَّت عليه النصوص أنَّ الرب - جل جلاله - رحيم بعباده، يَسَّرَ لهم، وما جعل عليهم في الدين من حرج، ولم يُكَلِّفْهُمْ فوق ما يستطيعون، والآيات في هذا الباب كثيرة كقوله - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكقوله - عز وجل - {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ، وكقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وكقوله - عز وجل - {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وكقوله - عز وجل - {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:158] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الدين إلى الله الحنيفية السَّمحة» (1) ، وكقوله «لن يشادَّ الدِّيْنَ أحد إلا غلبه» (2) ، وكقوله في الحديث الحسن «إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفقٍ فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى» (3) ونحو ذلك من الأحاديث التي فيها صفة الله - عز وجل - في تحريمه الظلم على نفسه وإقامته للعدل في ملكوته وفي أمره ونهيه. وفي هذه الجملة مسائل:   (1) البخاري (30) / المعجم الأوسط (7351) (2) البخاري (39) / النسائي (5034) (3) المسند (13074) / شعب الإيمان (3885) / سنن البهقي الكبرى (4520) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 [المسألة الأولى] : قوله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ) التكليف جاء في نصوص الكتاب والسنة كقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، ويَصِحُّ أن يُقَال على هذا عن العبادات الشرعية أنَّهَا تكليف لأجل هذه الآية، فالأوامر والنواهي فيما يجب الإيمان به وفيما يجب عمله ويجب تركه ونحو ذلك، هذا تكليف. ومعنى التكليف أنَّ الامتثال له يحتاج إلى كَلَفَةْ لِمُضَادَّتِهِ أصل الطَّبْعْ في استرسال النفس مع هواها. ولهذا كان المؤمنون قليلين {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبإ:13] . فيسوغ أن يقال عن التكاليف الشرعية -يعني عن الأوامر الشرعية- إنها تكاليف لا بمعنى أنَّهَا فوق الطاقة أو أنها غير مرغوب فيها؛ لكن تمشياً مع قول الله - عز وجل - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} يعني أنَّ ما تَسَعَهُ النفوس وما يمكنها أن تعمله فإنَّ الله - عز وجل - كَلَّفَهَا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 [المسألة الثانية] : في قوله (إِلَّا مَا يُطِيقُونَ) الطاقة هنا بمعنى الوُسْعْ والتَمَكُنْ؛ يعني ما يمكن أن يفعله وما يَسَعُهُ أن يفعله من جهة قدرته على ذلك. فيكون معنى الكلام أنَّ الرب - عز وجل - لا يطلب من الإنسان، لا يطلب من الناس؛ بل من الجن والإنس؛ من المكلفين، لا يطلب منهم شيئاً فوق وسعهم؛ بل إنَّ بعض الأوامر والنواهي قد تكون في حق البعض خارجة عن الوُسْعْ فتسقط في حقهم لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقوله {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] . فبعض التكاليف -بعض الأوامر- تكون في حقِ بَعْضٍ في الوُسْعِ والطَّاقَةْ وفي حق بعضٍ خارجة عن الوسع والطاقة فتسقط عن بعضٍ وتجب على بعض. فيكون إذاً عدم تكليف ما لا يُطَاقْ فيه التفصيل: بأنه - عز وجل - لا يُكَلِّفُ الفرد المؤمن فوق طاقته. وهذا يعني أنَّ إطلاق الكلمة (لا يكلف الله - عز وجل - بما لا يُطاق) يعني في جهتين: - الجهة الأولى: في أصل التشريع فهو - عز وجل - الأعلم بخلقه. - الجهة الثانية: في التشريع المُتَوَجِّهْ إلى الفرد بعينه، فإنَّه - عز وجل - لا يُكَلِّفُ المسلم المُعَيَّنْ بما لا يطيق، وقد يكون ما لا يطيقه فلان يطيقه الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 [المسألة الثالثة] : قوله (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) هذه العبارة أدخَلَهَا هنا لأجل تتمة الكلام السّابق في أنَّ العبد لا يطيق أكثر مما أُمِرَ به. وهو أراد بذلك أنَّ الأصل في الإنسان التَّعَبُّدْ وأنَّهُ عَبْدٌ لله - عز وجل -، وأنَّ الملائكة لمَّا كانت تطيق كذا وكذا من الأعمال والعبادات جعلهم الله - عز وجل - يقومون بذلك أمراً لا اختياراً، والإنسان بحكم أنَّهُ عَبْدْ لله - عز وجل -، ومربوب ومُكَلَّفْ، فإنه يجب عليه أن يُمْضِيَ عمره وجميع وقته في طاعة الله - عز وجل -. فَنَظَرَ إلى هذا -يعني نَظَرَ إلى جانب العبودية- وقال: إنَّ العباد لا يطيقون إلا ما كَلَّفَهُمْ، ويعني به أصل التشريع وجملة الشريعة، في أنَّ الناس لا يطيقون أكثر من هذا في التَّعُبُّدْ. وكأنَّهُ نظر إلى قصة فرض الصلاة أيضاً وما جاء من التردّد أو الحديث بين موسى عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم حتى خُفِّفَتْ إلى خمس صلوات. وكأنَّهُ نَظَرَ أيضاً إلى جهةٍ ثالثة وهي أنَّ (لَا يُطِيقُونَ) هنا بمعنى أنَّهُ سبحانه لم يجعل عليهم شيئاً في فعله بالنسبة لهم تكليف فوق ما كُلِّفُوا به. يعني أنَّ نَفْسَ التشريع هو موافق لما كُلِّفُوا به من جهة الأصل العام. فيتفق جهة الفرد مع جهة التشريع ويدخل في ذلك حينئذ معنى التوفيق. وهذا التوجيه الذي ذكرته لك من باب حمل كلام الطحاوي رحمه الله على موافقة كلام أهل السنة والقُرب من كلامهم، وإلا ففي الحقيقة فإنَّ الكلام هذا مُشْكِلْ، وقد رَدَّ عليه جمعٌ من العلماء ومن الشُّرَاحْ. ولهذا نقول: إنَّ هذا التخريج الذي ذَكَرْنَاه وهذا التوجيه من باب إحسان الظن وتوجيه كلام العلماء بما يتفق مع الأصول لا بما يخالفها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل. وإلا فإنَّ العبارة ليست بصحيحة وهي موافقة لبعض كلام أهل البدع من القدرية ونحوهم؛ في: - أنَّ العبد لا يَسَعُهُ ولا يَقْدِرُ إلا على ما كُلِّفَ به وأكثر من ذلك لا يستطيع. - وأنه لا يطيق إلا ما كُلِّفْ ولو كُلِّفَ بأكثر لما استطاع. وهذا بالنظر منهم إلا أنَّ الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يُدْخِلُونَ سلامة الآلات وما يكون قبل الفعل في ذلك كما فَصَّلْنَا لكم فيما سبق. ولهذا نقول: إنَّ الأولى بل الصواب أن لا تُستعمل هذه الكلمة؛ لأنها مخالفة لما دلَّتْ عليه النصوص من الكتاب والسنة في أنَّ الله - عز وجل - خَفَّفَ عن العباد، فانظر مثلاً إلى الصيام في السّفر فإنه لو كُلِّفَ به العباد لأطاقوه ولكن فيه مشقة شديدة يَسَّرَ الله - عز وجل - وخَفَّفْ فقال - عز وجل - {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وكذلك مسألة التيمم والتخفيفات الشرعية من قصر الصلاة ونحو ذلك، وقد قال - عز وجل - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101] ، والنبي صلى الله عليه وسلم قَصَرَ في الخوف وقَصَرَ في الأمن، ومعلوم أنَّ قَصْرَ الصلاة في الأمن كونه يصلي ركعتين لو كُلِّفْ فرضاً بأن يصلي أربع ركعات كل صلاة في وقتها كما في الحضر لكان في وسعه أن يعمل وفي طاقته أن يعمل؛ لكنه فيه مشقة عليه، لهذا خُفِّفَ عنه، وهو يطيق أكثر من قصر الصلاة، يطيق لو صَلَّى كل صلاةٍ في وقتها أربع ركعات؛ لكن فيه مشقة. ولهذا النصوص الكثيرة التي في تخفيف العبادة وفي الرُّخَصْ وفي التيسير كلها تَرُدُّ هذه الجملة من كلامه؛ بل العبد في بعض الأحكام يطيق أكثر مما كَلَّفَه، صَلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً، عدم الاستطاعة هنا لا تعني أنَّهُ إذا قام يَسْقُطْ وإلا يكون مستطيعاً بل إذا كان يُخْشَى عليه أن يزداد في مرضه أو يتعب أو قيامه يُذهب بخشوعه فإنَّه لأجل ما معه من المرض وعدم الاستطاعة النسبية فإنه يجلس، وهكذا. فإذاً هذه الجملة (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) ظاهرها غير صحيح، وإن كان إحسان الظن بالمؤلف رحمه الله يمكن معه أن تُحمَلَ بِتَكَلُّف على محملٍ صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 قال بعدها (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ")   وفي هذه الجملة إلى آخرها يعني في تفسير كلمة (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه) مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 [المسألة الأولى] : كلمة ("لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") من أعظم الأذكار التي فيها الإقرار بربوبية الله - عز وجل - وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، وفيها الإقرار بتَخَلِّي العبد عن كل حولٍ له وقوة ورؤية لما عنده من الآلات والقُدَرْ إلى ما عند الله وحده. ففيها الفرار من الله - عز وجل - إليه وحده سبحانه وتعالى، وفيها التَّخَلِّي من رؤية النفس التي أوجبت الهلكة في الدنيا والآخرة على طائفة من الخلق. فمعنى (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ) : (لَا) : هنا نافية للجنس؛ يعني جنس الحول. (حول) : هو إمكان التَّحَوُّلْ من حالٍ إلى حال، وحتى رَفع الكأس إلى فيك، وحتى حركة ثوبك وحركة عمامتك، وحتى حركة عينيك، فإنَّ هذا التحوّل من حالٍ إلى حال في أي شيءٍ تفعله فإنك تنفي جنسه، وتنفي القدرة على هذا التحول، إلا أن يكون بالله - جل جلاله -. وهذا فيه التبرُّؤْ من الحول والقوة، وأنَّهُ لا يمكنك أن تتخلّى عن الله - عز وجل - طرفة عين، حتى في طرف عينك وفي حركة لسانك وفي حركة أنفاسك فإنَّه لا تَغَيُّرَ من حالٍ إلى حال ولا قدرة لك على تحول شأنٍ من شؤونك مهما قلّ إلا بالله - عز وجل -. (وَلَا) : لَا نافية للجنس (قُوَّةَ) : يعني أنَّكَ تنفي جنس القوة التي بها تُوجَد الأشياء والتي بها تُحَصِّل الأمور، تنفي جنسها أن تكون حاصلة لك استقلالاً، أو حاصلة لك في إحداث الأشياء، وهذا منفي، إلا أن تكون بالله - عز وجل -. وهذه الكلمة العظيمة فيها: 1- أولاً: توحيد الربوبية: وهذا حقيقة توحيد الربوبية لله - عز وجل -، فإنَّ الإيقان بأنَّ الله - عز وجل - هو المدبر للأمر {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة:5] وأنَّهُ - عز وجل - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59] وأنه - عز وجل - {يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] ، وأنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2] ، وأنَّهُ ما تسقط من ورقة، وأنه ما من شجرة، ولا هبوب ريح، ولا تحرك في وليد ولا في جنين ولا في دمٍ في العروق، ولا في حركة حيوان صَغُرَ أم كَبُرْ، وأنَّ ذلك كلَّه بتدبير الله - عز وجل -، وأنَّ كلماته الكونية - عز وجل - وسعت كل شيء، كما قال - عز وجل - في آخر سورة الكهف {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، يعني الكلمات الكونية لكثرة أوامره - عز وجل - الكونية فيما يحدث في أحوال العباد. فتَنْظُرْ إلى توحيد الربوبية وتَعْلَمْ أنَّكَ لا فِعْلَ لك ولا حول في أي شيء ولا قوة إلا بالكريم - جل جلاله -. ومن أعظم ذلك الذي تَتَبَرَأْ فيه من الحول والقوة الهداية وصلاح النفس وصلاح الظاهر وصلاح الباطن، فإنه لا يمكن لعبدٍ يرى نفسه أنَّهُ يفعل ويفعل وأنَّهُ يَقْدِرْ وأن يُوَفَّقَ أبداً؛ بل لا يُوَفَّقَ إلا من تبرأ من الحول والقوة في شأن التكليف وفي شأن الهداية {وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء:97] ، سبحانه وتعالى. 2- ثانياً: توحيد الألوهية: فيها توحيد الإلهية أيضاً في أنَّهُ إذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله وأنَّ المرء والمخلوق لا يمكنُ له أن يفعل إلا بالله وحده دون ما سواه، فلماذا يتعلق قلبه إذاً بغير الله من الآلهة والأنداد والأموات والأولياء والقوى المختلفة في حال البشرية، القوة المادية أو غيرها؟ لماذا يتعلق قلبه بهذه الأشياء؟ فإنما يكون إذاً تعلق القلب بمن يملك الانتقال والنُّقْلَةْ من حالٍ إلى حال ومن يملك القوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 فإذاً تتوجه القلوب في الدعاء ويتوجه المرء في عباداته إلى الله - عز وجل - وحده، ويعلم أنَّ من توجَّهَ إليه الخلق بالعبادة وألَّهُوهُ من دون الله - عز وجل - هم كما وصفهم الله - عز وجل - بقوله {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191-192] ، وقال - عز وجل - في وصفهم يعني في وصف الآلهة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء} [الأحقاف:5-6] ، وفي قوله - عز وجل - {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56] ، فالآلهة المختلفة مُحْتَاجَةْ ذليلة إلى الرب - جل جلاله -، لا تملك لأنفسها شيئاً من الضر ولا النفع، فإذاً وجب التوجه إلى الله - عز وجل -. 3- ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات: هذه الكلمة العظيمة فيها توحيد الأسماء والصفات عن طريق التّضمُّنْ واللُّزُومْ؛ لأنَّ وصف الله - عز وجل - هنا بأنَّهُ القوي القدير - جل جلاله - يتضمن إثبات صفات الكمال التي تقتضي أنَّهُ لا انتقالَ من حالٍ إلى حال إلا به، فهل ينتقل المرء من حالٍ إلى حال إلا برحمته، هل يستقيم في حياته إلا بهدايته؟ هل يستقيم في أموره إلا بقدرته - عز وجل - وبرحمته وبعفوه وبمغفرته وبعدله إلى آخر الصفات؟ فإذاً هذه الكلمة مُتَضَمِّنَة ويلزم أيضاً من إثباتها إثبات أنواع من الأسماء والصفات للرب - جل جلاله -. فهي كلمةٌ عظيمة جليلة لذلك كانت من أعظم الكلمات التي هي غراس الجنة ووسيلة إلى الرب - جل جلاله -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 قال المؤلف رحمه الله في تفسيرها (نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.)   فتلحظ هنا من هذا التفسير أنَّهُ خَصَّ من معنى هذه الكلمة الانتقال من المعصية إلى الطاعة والتوفيق للطاعات. وهذا هو الذي يناسب المقام في ذِكْرْ القَدَرْ؛ لأنَّ المخالفين في القَدَرْ -أعني بهم القَدَرِيَّة- ظنوا أنَّ المرء هو الذي يُحَصِّلُ الطاعة بنفسه وأنَّ الله - عز وجل - أعطاه الأسباب إلى آخره فهو القادِرُ على تحصيل الطاعة والهداية لكنه لم يفعل ذلك. وهذا خلاف ما دلَّتْ عليه هذه الكلمة فضلاً عن مخالفته لأصولٍ كثيرة. وتحت هذا التفسير مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 [المسألة الأولى] : أنَّ تحوّل المرء عن المعصية إلى الطاعة والقوة على الطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله - عز وجل -. والتوفيق لفظٌ شرعي جاء في النصوص كما في قوله - عز وجل - {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] ، ويقابله الخذلان. والتوفيق والخذلان متصلان بالقَدَرْ اتصالاً وثيقاً، ولأجل ذلك فَسَّرَتْ كل فرقة من الفِرَقْ الضالة التوفيق والخذلان بما عندها من الاعتقاد في القدر: فالمعتزلة والقدرية يُفَسِّرُون التوفيق بما يوافق عقيدتهم. والجبرية والأشاعرة والماتريدية ومن شابههم يفسرون التوفيق والخذلان بما يناسب عقيدتهم. وأهل السنة يُفَسِّرُونَهُ بما يوافق ما دلَّ عليه القرآن والسنة ويوافق العقيدة السلفية التي كان عليها هدي السلف الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 [المسألة الثانية] : 1- أولاً: معنى التوفيق والخذلان عند أهل السنة: التوفيق الذي ذكره هنا يقول (وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ [عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ] إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.) - التوفيق: هو إعانَةٌ خاصة من الله - عز وجل - للعبد بها يَضْعُفُ أثر النفس والشيطان وتقوى الرغبة في الطاعة، وإلا فالعبد لو وُكِلَ إلى نفسه لغلبته نفسه الأمّارة بالسوء والشيطان. وهذا يُحِسُّ به المرء من نفسه فإنَّه يرى أنَّ هناك قدراً زائداً من الإعانة على الخير زَائِدْ على اختياره، فهو يختار ويتوجه لكن يُحِسُّ أنَّ هناك مدداً مَدَّهُ الله - عز وجل - يُقَوِّيه على الخير فيما يتّجه إليه من الخير. وهذا ليس لنفسه وليس من قدرته وقوته ولكن هذه إعانة خاصة. ولهذا فإنَّ العبد المؤمن يرى أنّه لا شيءَ من الطاعات حَصَّلَهَا إلا والله - عز وجل - وَفَّقَهُ إليها، يعني مَنَحَهُ إعانةً على تحصيلها وعدم الاستسلام للنّفس وللشيطان. فالتوفيق فيه معنى الهداية والإعانة الخاصة، ويقابله الخذلان. - فالخذلان: هو سلب العبد الإعانة التي تُقَوِّيْهْ على نفسه والشيطان. (نعوذ بالله من الخذلان) يعني نعوذ بالله من أن نُسْلَبَ الإعانة على أنفسنا وعلى كيد الشيطان. 2- ثانياً: معنى التوفيق عند الأشاعرة: أما تفسير التوفيق والخذلان عند الأشاعرة، ويحسُنْ التنبيه عليه لأنَّهُ أكثر ما تجد في كتب التفسير وكتب شروح الأحاديث، وخاصَّةً تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود والرازي وأشباه هذه التفاسير، وشروح الأحاديث كشروح النووي والقاضي عياض وابن العربي ونحو ذلك من شروح الأحاديث، فإنَّ أكثر ما تجد تفسير التوفيق والخذلان هو تفسيره عند الأشاعرة. لهذا ينبغي العناية بهذا الموطن لصلته بالقَدَرْ. - التوفيق عندهم: خلق القُدْرَةْ على الطاعة، يعني جَعَلُوا التوفيق هو القُدْرَةْ. - والخُذْلَان: هو عدم خلق القُدْرَةْ على الطاعة. يعني إِقْدَارُ الله - عز وجل - العبد على الطاعة هذا توفيق، وعدم إِقْدَارُ الله - عز وجل - العبد على الطاعة هذا خذلان. وهذا كما هو ظاهر لك فيه خلل كبير لأنَّهُ جعل التوفيق إقداراً، وجعل الخذلان سلباً للقدرة، وهذا فيه نوع قوة لاحتجاج المعتزلة على الجبرية في معنى التوفيق والخذلان. وتفسير أهل السنة وسط في أنَّ التوفيق زائد على الإِقْدار، فالله - عز وجل - أَقْدَرْ العبد على الطاعة بمعنى جَعَلَ له سبيلاً إلى فعلها وأعطاه الآلات وأعطاه القوة ليفعل؛ ولكن لن يَفْعَلَ هو إلا بإعانَةٍ خاصة؛ لأنَّ نفسه الأمارة بالسوء تحضُّهُ على عدم الفعل، عدم العبادة. وهذا يلحظه كل مسلم من نفسه فإنه يريد أن يتوجه إلى الصلاة ويأتيه نوع تثاقل يريد أن يقوم بنوعٍ من العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصيب نفسه نوع من التثاقل، وهذا من الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء، فإذا منحه الله التوفيق وأعانه على أن يَتَعَّبْد، أعانه على أن يقول ما يقول بموافَقَةٍ للشرع فهذا توفيق وإعانة خاصة يمنحها الله - عز وجل - من يشاء من عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 [المسألة الثالثة] : أنَّ معرفة العبد المؤمن بحقيقة هذه الكلمة ومعنى توفيق الله - عز وجل - ومعنى الخذلان يُوجِبُ له أن ينطَرِحَ دائماً بين يدي ربه - عز وجل - متبرئاً من نفسه ومن حولها وقوتها ومن أن لا يكله الله إلى نفسه طرفة عين. لهذا قال صلى الله عليه وسلم «ربي لا تكلني لنفسي طرفة عين» (1) يعني حتى في تحريك العين وفي طرفها لا تكلني إلى نفسي، وهذا من عِظَمِ معرفته صلى الله عليه وسلم بربه فهو أعلم الخلق بالرب - جل جلاله - وأخشاهم له - عز وجل - وأتقاهم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين. فلهذا إذا علمت معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى (التوفيق) ومعنى (الخذلان) فإنه يجب عليك أن تستحضر ذلك في كل حال، واستحضارك ذلك ومجاهدة نفسك على طلب التوفيق من الله - عز وجل - وعدم رؤية النفس وقوة النفس والرأي وما عندك من الأدوات والمال وما عندك من الأسباب، فإنَّ هذا من أسباب التوفيق. فلا يُطْلَبُ التوفيق من الله - عز وجل - بمثل الانطراح بين يدي الله - عز وجل - في الحاجة إلى توفيقه - جل جلاله -، وإذا ظَهَرَ في العبد استغناء عن توفيق الله - عز وجل - ورؤية ما عنده فإنه يُخْذَلْ. ألم تر إلى يوسف عليه السلام وهو الكريم ابن الكريم وهو نبي الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم حين كان في السجن وظَهَرَ له من السّبب ما ظهر في تفسيره للرؤية ونجاة السّجين من السجن بسبب تفسيره للرؤيا، {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} قال - عز وجل - {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [الكهف:42] ، وهذا على أحد التفسيرين أنَّ الشيطان أنسى يوسفَ عليه السلام ذِكْرَ الله - عز وجل - في هذا الموطن والتَّعَلُّقَ به - عز وجل - وحده، لا نقصاً في مقام يوسف عليه السلام ولكنه بيانٌ لنوعٍ من الرسالة التي تُؤَدَّى بأقوال الأنبياء وبأفعالهم عليهم الصلاة والسلام. فالعبد إذا التَفَتْ إلى غير الله - عز وجل - طرفة عين فإنه يُوْكَلْ إلى نفسه ويخرج متضرراً. وهذا نبي الله - عز وجل - محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة أخذ بالأسباب التي تُعِينُ على تحقيق المراد، الأسباب المشروعة التي تعين تحقيق المراد ولم يَرَ صلى الله عليه وسلم تلك الأسباب ولم تقم في قلبه بأنه يتَّكِلْ عليها صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها لأنها مُقْتَضِيَة لحُدُوثِ مُسَبَّبَاتِهَا في العادة، فأتى برجل من المشركين هادٍ خرِّيت يعرف الطُرُقْ ليسير به صلى الله عليه وسلم بطريقٍ آخر في الهجرة حتى لا يعلم المشركون طريقه، وأيضاً أَمَرَ أسماء وأَمَرَ راعي الغنم أن يَمُرَّ بالغنم على مسيرهم حتى لا يَرَوا الأقدام، فكل الأسباب بُذِلَتْ؛ ولكنها لم تنفع حتى قام المشركون على رأس الغار على ظهر الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأبو بكر رضي الله عنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا) فقال له صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (2) حركة عين المشرك من أن يرى، هم كانوا يرون ما أمامهم من جهة الساحل. حركة عين المشرك من أن يرى، كانوا يرون ما أمامهم جهة الساحل، حركة العين إلى أن ترى الأسفل، ترى موقع القدم، فيُبْصرون الغار ويبصرون النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه هذه لا حيلة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حيلة لأبي بكرٍ بها ولا تنفع فيها الأسباب التي فُعِلَتْ؛ لكن بقي توفيق الله وعونه وحقيقة التوكل عليه - عز وجل -. لهذا أَعْظِمْ في كل شأنٍ من شؤونك وخاصَّةً الهداية والتوفيق للصالحات وطلب العلم النافع والتوفيق للسنة والالتزام بها وملازمة هدي السلف الصالح ومُجَانَبَة طريق المخالفين للسنة والمخالفين لهدي السلف وهدي العلماء، دائماً إِلْجَأْ إلى ربك في تحصيله، فما طُلِبَ من الله - عز وجل - شيء وبوسيلة أعظم من مسيلة التبرؤ من الحول والقوة. أسأل الله - عز وجل - أن يُفيض علينا من معرفته والعلم به وما به نزدلف إلى رضاه ونبتعد عمّا يسخط ويأبى إنه سبحانه جواد كريم.   (1) أبو داود (5090) (2) نهاية الوجه الأول من الشريط الأربعين، والحديث رواه البخاري (3653) / مسلم (6319) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 قال بعد ذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .)   يريد رحمه الله بهذا أن يُقَرِّرَ مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة أنّه ما من شيء يحدث إلا وهو بمشيئة الله وعلمه وقضائه - عز وجل - وقدَرِه، وأنَّ الأمور لا تُسْتَأْنَفْ، لا يعلمها الله - عز وجل - إلا بعد وقوعها، كلا وحاشا، وإنما تقع على وَفْقِ تقدير الله - عز وجل - لها في الأزل. يعني علمه - عز وجل - بها، وكتابته - عز وجل - لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأنَّهُ سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وفي هذه الجملة ذِكْرُ مراتب الإيمان بالقدر المعروفة. - المرتبة الأولى ذَكَرَهَا في قوله العلم. - والمرتبة الثانية ذَكَرَهَا في قوله القدر، وهو الكتابة. - والمرتبة الثالثة ذَكَرَهَا بقوله (بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا) . - المرتبة الرابعة ذَكَرَهَا في قوله فيما سبق (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) . فهو لم يَنُصْ على مراتب القدر المعروفة وهي مُفَرَّقَةٌ في هذا الكلام. وها هنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 [المسألة الأولى] : تفصيل الكلام على مراتب القَدَرْ، هنا لم يُنَصَّ عليه، والشارح أيضاً لم يتعرض له في هذا الموطن وتفصيله أنَّ الإيمان بالقدر يشمل الإيمان بمرتبتين: 1- المرتبة الأولى: سابقة لوقوع الواقعة أو لوقوع المُقَدَّرْ. وهذا الإيمان السابق يشمل درجتين: - الدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله - عز وجل - بالأشياء قبل وقوعها عِلْمًا كُلِّيَاً وعلما جُزْئِيَّاً؛ يعني عِلْمَاً منه - عز وجل - بالكُلِّيَات وبالجزئيات، وعِلْمُهُ سبحانه وتعالى بهذه الأشياء أوَّلْ كصفاته - عز وجل -. - الدرجة الثانية: وهو الإيمان بكتابة الله - عز وجل - للأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الذي في الصحيح «قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) (قدر الله مقادير الخلائق) يعني كَتَبَها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما مرتبة العلم فهي سابقة فعلمه - عز وجل - بالأشياء أَوَّلْ لا حدود له. 2- المرتبة الثانية: إيمانٌ بالقدر إذا وقع المُقَدَّرْ. وهذا يشمل درجتين أيضاً: - الدرجة الأولى: أن يعلم العبد أنَّ مشيئته في إحداث الأشياء هي تَبَعٌ لمشيئة الله - عز وجل -، وأنَّ مشيئة الله نافذة ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما قال - عز وجل - {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال - عز وجل - {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال - عز وجل - {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30-31] . - الدرجة الثانية: هو أنَّهُ لا يقع شيء مما يقع إلا والله - عز وجل - هو الذي قضاه، وهو الذي خَلَقَ هذا الفعل، فالله - عز وجل - هو الخالق لكل شيء، وفي ضمن ذلك حركات العبد وأفعال العباد كما قال سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] ، على نحو ما فصَّلْنَا في دلالة الآية. والقضاء والقدر لفظان أتيا في الكتاب والسنة، والعلماء تَكَلَّمُوا في معنى القضاء والقدر والصلة بين هذا وهذا. والتحقيق في ذلك أنَّ القَدَرَ هو ما يسبق وقوع المُقَدَّر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ صار قَضَاءً. قُضِيَ يعني انتهى، ومادة قَضَى في اللغة تدور حول هذا. فيُقَال قَضَى القاضي بكذا إذا أَنْفَذَ حكمه وانتهى، وقال - عز وجل - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] ؛ يعني أَنْهَاهُنَّ بخلقهن سبع سماوات، وقال - عز وجل - {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] يعني احكم بما تحكم به حتى يكون قضاءً، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبإ:14] . فالقضاء يُطْلَقْ بمعنى إنفاذ المقَدر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ سُمِيَّ قَضَاءً. وهذا نعني به القضاء الكوني؛ لأنَّ القضاء في النصوص يكون قضاءً كونياً ويكون قضاءً شرعياً. أما القضاء الكوني فهو على نحو ما مر. وأما القضاء الشرعي فمعناه أَمَرَ الله ووَصَّى كقوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، يعني أمر ربك ووَصَّى أن لا تعبدوا إلا إياه. ويأتي القضاء في معنىً ثالث إذا عُدِّيَ بحرف (إلى) بمعنى أوحينا وأعْلَمْنَا. تقول قَضَيْتُ إليه أن يفعَلَ كذا يعني أخبرته أعلمته ولا يعني معنى الإنفاذ كما قال - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4] وكما في قوله - عز وجل - في آخر سورة الحجر {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] . {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} يعني أوحينا ذلك الأمر، فهذا بابٌ آخر غير الباب الذي نتتكلم عنه.   (1) سبق ذكره (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 [المسألة الثانية] : ذَكَرَ هنا الظلم فقال (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا) ولفظ الظلم من الألفاظ التي أدخلها هنا لأنَّ الفِرَق الضالة تكَلَّمَتْ فيها: - فالمعتزلة لهم كلام في الظلم. - والجبرية لهم كلام في الظلم. - وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وسط بين الفئتين. @ فالظلم عند المعتزلة في حق الله - عز وجل - هو الظلم في حق الإنسان، فما يفعله الإنسان ويكونُ ظلماً منه إذا نُسب إلى الله - عز وجل - فإنَّه ظُلْمْ. فقاسوا الظلم الذي يضاف إلى الله - عز وجل - بالظلم الذي يقع من الإنسان. فعندهم الظلم واحد، سواءٌ أكانَ في المخلوق أم في الخالق، ضابطه واحد، وتعريفه واحد، وما يُنَزَّهُ الله - عز وجل - عنه من الظلم، هو ما لا يليق بالإنسان أن يفعله. @ وأما المتكلمون والأشاعرة ونحو هؤلاء فإنَّ الظلم عندهم هو الامتناع عن القدرة. وعندهم قُدْرَةْ الرّب - عز وجل - مُتَعَلِّقَة بما لا يشاؤه سبحانه في تَعَلُّقِهَا الأزلي وفي تعلقها الصُّلُوحي -على حد كلماتهم -لا ينشغل ذهنك بها-. فعندهم القدرة متعلقة بما يشاؤه سبحانه، فما لا يشاؤه غير مَقْدُور. فمعنى ذلك: الممتنع عن القدرة في تفسير الظلم هو الممتنع في حق الله - عز وجل - عما لم يشأه - عز وجل -. فعند المتكلمين أو -الأحسن طائفة من المتكلمين لأنها ليست موضع اتفاق بين المتكلمين والأشاعرة ثَمَّ خلاف بينهم وإن كان قليلا- عندهم الظلم هو الامتناع أو ما يمتنع أو ما هو مُمْتَنِعٌ مِنَ القُدْرَة. فما هو ممنوع ممتنع في قدرة الرب - عز وجل - هو الذي لو فَعَلَهُ لكان ظلماً. لكن هذا كما ترى تحصيل حاصل، فإنَّه - عز وجل - إذا كان لم يفعل فيكون عدم ظُلْمِهْ في أنَّهُ - عز وجل - لا يفعل الأشياء؛ لأنه لا يَظْلِمُ أحداً، فلو فَعَلَ شيئاً لا يدخل في قدرته -بحسب كلامهم- يكون ظلماً. وهذا تفسير لا حاصل تحته لأن القدرة شيء والظلم شيء آخر. فالظلم إذاً في تفسيرهم -تفسير طائفة من المتكلمين والأشاعرة ومن نحا نحوهم- يرجع إلى المُمْتَنِعِ في صفة القدرة لله - عز وجل -، فَرَجَعْ إلى أنَّ المُمْتَنِعْ في مشيئة الله - عز وجل - لو فعله لكان ظلماً؛ لأنَّ عندهم الأفعال أيضاً غير مُعَلَّلَة، وحكمة الله - عز وجل - غير مرتبطة بالعِلَلْ والأسباب في بحثٍ يطول ذكره هنا. @ وأما تفسير أهل السنة والجماعة والأئمة والذي دَلَّتْ عليه النصوص فهو أنَّ الظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها الموافق للحكمة منه - عز وجل -. والظلم بالتالي يكون غير مرتبط بالقُدْرَةْ وغير مَقيس على أفعال الإنسان؛ بل هو سبحانه متنزه عن الظلم وقد حَرَّمَهُ على نفسه. مما يتصل أيضاً أنَّ الظلم عند المعتزلة لا يكون إلا من مأمورٍ ومَنْهِي؛ يعني أنَّ حقيقة الظلم تكون فقط ممن يُؤْمَرْ ويُنْهَى، ويورِدُون الآيات في ذلك، ويقولون الآيات كلها دالَّةْ على أنَّ الظلم إنما يكون في حق من أُمِرْ فلم يفعل ونُهِيْ ففَعَلْ وهم المُكَلَّفُونْ. ولذلك ينفون عن الله - عز وجل - حقيقة الظُّلْمْ لأجل أنَّهُ غير مأمور وغير مَنْهِي، ويَرُدُّون الأحاديث التي فيها تحريم الظلم على الله - عز وجل - ونحو ذلك. نقول: نضرب مثالا ًعلى ذلك في حديثين: أما الحديث الأول فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح حديث أبي ذر المعروف «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1) وهذا يدل على أنَّ الله حَرَّمَ الظلم على نفسه، فلو كان الظلم على تفسير أولئك لا يقع إلا من مأمور ومنهي، فكيف يكون تحريمه على الله - عز وجل -؟ يكون تحريمه تحصيل حاصل لا معنى له، ولو كان الظلم هو الامتناع عن القدرة لكان أيضاً إضافته إلى الله - عز وجل - تحريم الظلم ليس له معنى. فإذاً تحريم الظلم «حرّمت الظلم على نفسي» يعني جعلت وضع الأشياء في غير موضعها الموافق للحكمة جعلته مُحَرَّمَاً على نفسي، وحَرَّمْتُ عليكم أن تظالموا. والحديث الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داوود وغيره وصحَّحَهُ بعض العلماء قال صلى الله عليه وسلم «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» (2) الحديث. يعني أنَّ أهل السموات والأرض لو عَذَّبَهُمْ الله - عز وجل - لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم. المعتزلة يَرُدُّون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يُجَوِّزُونَ أن يُعَذِّبَ الله - عز وجل - الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله، يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أَخَذَ صاحب السَّفَارينية في قوله في منظومته، السَّفاريني: وجَازَ للمولى يعذب الورى ****** من غير ما ذنبٍ ولا جُرْمٍ جرى   (1) سبق ذكره (51) (2) أبو داود (4699) / ابن ماجه (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله - عز وجل - من غير ما ذنب ولا جرم جرى. هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم - جل جلاله - وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة: بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله - عز وجل -، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله - عز وجل - ورحمة ونعمة أفاضها عليهم بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال - عز وجل - {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53] ، فمِنْ حَقِّهِ - عز وجل - على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله - عز وجل - التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه - عز وجل - أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة. فإذاً سيمضي حياته في شكر الله - عز وجل - على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك؟ لا تسع ذلك. ولهذا تأمل مع هذا قول الله - عز وجل - لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] . وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه صلى الله عليه وسلم «أفلا أكون عبداً شكوراً» (1) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله - عز وجل - من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه - عز وجل -. وتأمل أيضاً ما عَلَّمَهُ - صلى الله عليه وسلم - الصديق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك» (2) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم، «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» لم؟ هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر؟ حاشا وكلا. هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد؟ حاشا وكلا. هل ظلم أبو بكر رضي الله عنه بالتقصير في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير؟ حاشا وكلا. ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ والله - عز وجل - وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلماً كثيراً؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر. فلو حاسَبْ الله - عز وجل -العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب ومرفوعين إليه - عز وجل - وأنهم من المنيبين وأنهم من المهتدين لما قامت حيلة العبد ولما قام إيمانه ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله - عز وجل - «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (3) . فإذاً ننظر إلى قوله «لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم» لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذاً هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه. بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائماً واستغفاره فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرا مجددا؟ فإذاً لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله - عز وجل - تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير. وهذا المؤمن الحق دائماً يقول مُحَقِّراً نفسه، عسى الله أن يتغمدنا برحمة منه وفضل ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل، وانظر إلى كلام أبي بكر رضي الله عنه في دعائه. فكيف حال المغرورين الجهلة والمذنبين من هذه الأمة الذين لا يرون أثراً لذنوبهم ولا لإعراضهم؛ بل إذا فعلوا القليل مَنُّوا وأدْلَوا على الله - عز وجل - به وهذه حال من لم يُوَفَّقْ. أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى. هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء. نختم بهذا، وهذه المسائل التي ذكرت مختصرة جدا، وإلا فبحوث القدر كثيرة، ولا نريد منكم أن تتوسعوا أكثر إلا فيما شملته العقيدة الواسطية وشملته العقيدة الطحاوية، ففيهما بركة؛ لأنَّ كثرة الخوض في القدر مُلْبِسَة إلا بعلمٍ راسخٍ في الكتاب والسنة. في الختام أسأل الله - عز وجل - لي ولكم التوفيق للصالحات وأن يرحمنا برحمته وأن يوفقنا إلى طاعته.   (1) البخاري (1130) / مسلم (7302) (2) سبق ذكره (369) (3) سبق ذكره (378) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الحمد لله الذي أنْعَمَ بالصالحات ويَسَّرَ لِسُبُلِ الخيرات، هو المحمود على كل حال، وهو المحمود على نعمه التي لا ينفكّ منها العبد في صباحٍ ولا مساء، له الحمد كلّه كثيراً كما ينعم كثيراً، وله الشكر - عز وجل - كثيراً كما أنه يشفي ويتفضّل كثيرا، اللهم عاملنا بعفوك إنك سميع قريب، أما بعد: الأسئلة : س1/ هل الملائكة الموكلة بالإنسان سواء الكتبة أو الحافظون تكون ملازمة للإنسان؟ أم أنهم ينفكون عنه عند دخوله الخلاء؟ وما معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ؟ (1) : [[الشريط الواحد والأربعون]] : ج/ أما معنى الآية فقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فهذا قرب الملائكة، لا قرب الرب - عز وجل - بذاته سبحانه وتعالى؛ لأنَّ القرب كما هو معلوم نوعان: - قربٌ عام. - وقربٌ خاص. والقرب العام لا يُثْبَتْ لله - عز وجل - قربٌ عام من جميع خلقه وإنما يُثْبَتْ القرب الخاص، وما جاء في النصوص من ذكر القرب العام كهذه الآية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فإنما هو قرب الملائكة كما حققه ابن تيمية وابن القيم وجماعة آخرون. والملائكة أنواع منها ملائكة ملازمة للعبد لا تنفك عنه البتة، ومنها ملائكة تنفك عنه وتفارقه في بعض المواضع أو لبعض الأسباب. فدخول الخلاء، وجماع الإنسان لأهله، وكون الإنسان يكون جُنُبَاً، وأشباه ذلك مما جاء في الأحاديث، هذا من أسباب أنَّ بعض الملائكة لا يرافقونه، ينفكون عنه. ثُمَّ هل الملائكة هذه هي الملائكة الكَتَبَة أم الحَفَظَة أم هما معاً؟ خلافٌ بين أهل العلم، والصحيح أنَّ الحَفَظَة بخصوصهم هؤلاء ينفكون عن ملازمته وأما الكتبة فإنهم لا ينفكون. والحَفَظَة يحفظ الله - عز وجل - العبد بهم كما قال {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ؛ يعني يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء قَدَرُ الله تَخَلَّوا عنه، فالله - عز وجل - ييسر لهم من أسباب الحفظ ما ييسر. هذا وجه في الجمع بين الأحاديث، وثَمَّ تفصيل آخر نكتفي بهذا، نعم   (1) نهاية الشريط الأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ.   قال رحمه الله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ.) يقرّر العلامة الطحاوي رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة في أنَّ الميت ينتفع بِعَمَلٍ يعمله الحي، وأنَّ الميت إذا مات لا ينقطع من الانتفاع البتة؛ بل ربما انتفع ببعض الأعمال. فَذَكَرَ أنَّ الدعاء من الحي للميت ينفع، وأنَّ الصدقة تنفع بمعناها العام وبمعناها الخاص أيضاً. وهذا يريد منه تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في مُضَادَّةِ مذاهب المعتزلة ونحوهم من العقلانيين الذين يَرُدُّونْ النصوص أو يتأولونها على غير وجهها. وهذه المسألة كانت شائعة في ذلك الزّمان وأنَّ الحي لا ينفع الميت، وإنما الميت إذا مات انتهى وانقطع من أن ينفعه الحي، وإنما الحي ينفع نفسه وثَمَّ مجادلات في هذا. وأهل السنة والجماعة صاحوا على من خالف النُّصوص في ذلك من كل جانب وقَرَّرُوا ما جاءت به الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح في هذه المسألة. وفي الظاهر أنَّ هذه المسألة لا علاقة لها بالعقيدة؛ لأنها في الدعاء والانتفاع، وهذه المسألة يبحثها الفقهاء في آخر كتاب الجنائز كما هو معروف، وأمَّا وجودها في كتب الاعتقاد فليست لأنها مسألة عَقَدِيَّةْ داخلة في أحد أركان الإيمان الستة؛ ولكن لأجل أنَّ المبتدعة ضَلُّوا فيها عن تحكيم القرآن والسنة، وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح لهم فيها إجماع واتفاق، فصارت من جملة مسائل الاعتقاد لمخالفة أهل السنة فيها لأهل البدع ثُمَّ تقريراً لما جاء فيها من النصوص والأدلة. ثم هاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 [المسألة الأولى] : أنَّ انتفاع الميت بِسَعْيٍ الحي هذا اتَّفَقَ عليه علماء أهل السنة من الأئمة من أهل الحديث ومن الفقهاء ومن أهل التفسير، اتفقوا فيه على نوعين دون خلافٍ بينهم: 1- النوع الأول الدعاء: وهو أنَّ الدعاء نافع، فالدعاء يجيبه الله - عز وجل - من الحي للحي ومن الحي للميت، ولهذا شُرِعَتْ صلاة الجنازة وهي صلاةٌ بلا ركوع ولا سجود، وإنما هي ثناء على الله - عز وجل - وحمد له سبحانه وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم دعاء للميت، فهي كلها دعاء وأدبها أدب الدعاء، ولذلك هي تَفْتَتِحْ بالفاتحة {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال العلماء: ولا يُسَنُّ هنا أن يستفتح بقوله: سبحانك الله وبحمدك. لأنه داعٍ وليست من جنس الصلاة الأخرى، ولم يأت في السنة ما يدل على الاستفتاح، ثم بعد الفاتحة وهي حمد لله - عز وجل - وثناء تأتي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التكبير الثاني، ثم إذا صلى فإنو يدعو. وهذا هو أدب الدعاء فإنَّ العبد إذا دعا ربه - عز وجل - في أي دعاء فإنه يحمد الله - عز وجل - ثُمَّ يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم يدعو الله بما شاء من المسائل. فصلاة الجنازة دعاء، وهي بالاتفاق مشروعة وبالإجماع مشروعة، فدعاء الحي للميت هذا جَارٍ عليه الاتفاق. وكذلك ما جرى عليه الاتفاق أيضاً أنَّ الحي يتصدّق عن الميت بصدقة مالية يبذلها لأجل الميت؛ يعني لينفع الميت بها تَبَرُّعَاً منه، وهذا اتفق عليه علماء السنة من علماء الحديث والتفسير والفقه -كما هو معلوم- على خلافٍ بينهم في بعض تفصيلات ذلك. 2- النوع الثاني كل عملٍ صالح تَسَبَّبَ فيه الميت في حياته فإنه ينفعه ذلك بعد وفاته: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» (1) وكما جاء في الحديث الثاني أيضا في صحيح مسلم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من علم بها إلى يوم القيامة» (2) ، وهذا يعني أنَّ ما تسبب فيه في حياته فإنه ينفعه بعد وفاته. وكذلك الولد -الولد الصالح- فإنه تسبب فيه العبد، فإنه إذا دعا لأبيه فهو يدخل في ما أُجْمِعَ عليه أولا وما يدخل في السبب ثانياً. فإذاً ثَمَّ صور أُجْمِعَ عليها، والأدلة على ما أُجْمِعَ عليه كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة، يأتي بعضها إن شاء الله تعالى.   (1) مسلم (6980) / أبو داود (4609) / الترمذي (2674) / ابن ماجه (206) (2) مسلم (2398) / النسائي (2554) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 [المسألة الثانية] : اختلف العلماء في مسائل العبادات التي لا تدخل في معنى الصدقة المالية، وهي العبادات البدنية، مثل تلاوة القرآن، ومثل الصلاة، ومثل الصيام والحج فيما فيه من البدن، ونحو ذلك؛ يعني فيما يصل فيه من الثواب هل هو الكل أو البعض، وإن كان الخلاف في الحج ضعيفاً. هذه المسائل التي اخْتُلِفَ فيها وهي العبادات البدنية: من أهل العلم من قال تصل ومنهم من قال لا تصل. 1- القول الأول: ذهب جمهور السلف كما عزاه إليهم ابن تيمية ابن القيم وغير ذلك وعَبَّرُوا بالجمهور وذهب الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وجماعات من أهل الحديث والأثر إلى أنَّ الميت ينتفع بما تَقَرَبَ الحي به إلى ربه وأهدى ثوابه إلى الميت؛ يعني أهدى الحي الثواب إلى الميت. ويقول في هذا طائفة من العلماء: وأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَها المسلم وأهدى ثوابها لمسلمٍ حيٍ أو ميتٍ نَفَعَهُ ذلك. 2- القول الثاني: وهو ما ذهب إليه مالك والشافعي وطائفة من العلماء أنَّ الميت لا ينتفع من سعي الحي بالعبادات البدنية المحضة، العبادات التي فيها صلاة مثلاً قراءة القرآن الصيام وأشباه ذلك، وإنما ينتفع بما كانت عبادةً مالية أو دخل فيها المال كالحج، وأما غير ذلك فإنه لم تدلَّ الأدلة عن انتفاعه فيبقى الباب على عدم الانتفاع -وسيأتي التفصيل والترجيح- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 [المسألة الثالثة] : من أدلة أهل السنة والجماعة على أصل الانتفاع قول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فأثنى عليهم بالدعاء وهذا يقتضي الإنتفاع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) . وفي الصحيح أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: إن أمي أُفْتُلِتَتْ نفسها -يعني ماتت فجأة- وإنها لو تكلمت لأوصت أو لتصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» (2) . وجاء أيضاً في صدقات الصحابة عن الأموات الشيء الكثير. كذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحج عن ميتٍ له فأذن له بالحج. وفيه أيضاً أنَّ امرأة قالت: إنَّ أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال «أرأيت إن كانت على أمك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم. قال «فاقض عنها، فإن الله أحق بالقضاء» (3) . ونحو ذلك في هذا الباب. أيضاً مما يدخل فيه مع تنوع الأعمال أصل الوقوف؛ يعني أصل الأوقاف، فإنَّ الصحابة ما كان منهم أحد له فضل مال إلا وحبس يعني أَوقَفَ -أوقف على نفسه- وهذا مما ينفعه ويدخل في قوله «صدقة جارية» . وأما الذين قالوا إنه لا ينتفع إلا بالعبادة المالية قالوا: إنَّ هذه المسائل منها: - ما هو مُجمعٌ عليه، وهذه اتَّفَقْنَا عليها وهي الصورتان الأوليان. - ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ فيه وهي العبادات البدنية فهذه لم يأت دليل فيها؛ بل جاء الأثر عن ابن عباس بأنه قال (لا يصل أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد) (4) فهذا يدل عن امتناع أن يكون أحد يصلّي عن أحد أو يصوم أحدٌ عن أحد. وأجاب الأولون عن ذلك بـ: - أنَّ الصيام جاء فيه أنَّ الحي يصوم عن الميت إذا كان عليه صيام، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره «من مات وعليه صوم صام عنه وليه» (5) يعني صوم واجب. وهل الصوم الواجب هذا صوم النذر كما في الرواية الأخرى؟ أو كل صيامٍ واجب سواءٌ أكان صيام رمضان الواجب الذي لم يقضه مع إمكانه القضاء، أو صيام الكفارات أو نحو ذلك؟ خلاف بين أهل العلم؛ ولكنهم قالوا: إنَّ الحي يصوم عن الميت الصيام الواجب بدلالة السنة على ذلك. - وأيضاً قالوا: إنَّ ما جاء في السنة من الأحوال هذه جاءت جواباً عن أسئلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سُئِلْ عن الصدقة فأوصى بها، سُئِلْ عن الحج فقال «حُج» أو قال «حُجي» ونحو ذلك. وهذه الأسئلة لا تفيد العموم فلا يُفْهَمْ من جواب السؤال أنه لا يجوز إلا فيما جاء السؤال والجواب عنه؛ لأنَّ السائل ليس هو المُشَرِّعْ، وإنما جواب النبي صلى الله عليه وسلم كان بقدر السؤال. ولهذا كان الأقرب أن يُعَمَّ ذلك وأن يُقَال إنَّ ما جاء الإذن فيه دَلَّ على وصول جنس الثواب دون تفريق لأنَّ التفريق ما بين نوع ونوع يحتاج إلى دليل، وهذه المسائل لم يبتدئها الشارع وأَذِنَ بكذا وكذا أصلاً يعني ابتداء وإنما كان إجابة لأسئلة. وبين هذا الاستدلال وهذا الاستدلال ذهب المفتون من العلماء إلى أحد هذين القولين من المتقدين والمتأخرين: @ فمنهم من يقول بالتعميم كما قال ابن القيم وجمهور السلف والإمام أحمد وأصحابه وابن تيمية وابن القيم وطائفة من أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى. @ ومنهم من يقول بقول مالك والشافعي بأنه يُقْتَصَرْ على ما ورد دون غيره. وهذا تجد من يفتي به وهذا تجد من يفتي به. * والأقرب في ذلك هو التفصيل وهو أنَّ إهداء الثواب غير ابتداء العبادة، فهما صوراتان: 1- الصورة الأولى إبتداء العبادة: ابتداء العبادة هذا عبادة فيحتاج إلى دليل يدلُّ على أنَّ المرء ينوب عن غيره عن حيٍ أو ميت في العبادة، فيبتدئ العبادة عن فلان، وهذا لابد فيه من التوقيف لأنَّ الأصل عدمه، وجاء الإذن في العبادات المالية فينبغي أن يكون أن يُقْتَصَرْ عليها بل يجب أن يُقْتَصَرْ عليه كما جاء في الأدلة؛ لأنها ابتداء عبادة وابتداء العبادة هذا لابد فيه من دليل؛ لأنَّ الأصل أنَّ أحداً لا يعمل عن أحد، لا ينوب أحد عن أحد، وكل إنسان يعمل. لهذا الصحابة سألوا؛ لأنَّ الأصل متقرر عندهم، سألوا أأحج؟ أتصدق عنها؟ وهذا يدل على أنَّ الأصل المستقر هو أن لا ينوب أحد عن أحد في ذلك.   (1) الترمذي (1376) / النسائي (3651) (2) البخاري (1388) / مسلم (2373) (3) البخاري (1852) (4) سنن النسائي الكبرى (2918) ، وروى الإمام مالك في الموطأ (669) أنه بلغه أن عبد الله بن عمر: كان يسأل هل يصوم أحد عن أحد أو يصلي أحد عن أحد فيقول لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد. (5) البخاري (1952) / مسلم (2748) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 هذه صورة وهو أن يبتدئ العبادة، يحج لبيك حجا عن فلان عن فلانة، هذا ابتدأ العبادة عن فلان أو فلانة، أو اللهم إنَّ هذه الصدقة عن فلان أو عن والدي أو عن والدتي فلانة، فهذا ابتدأ العبادة، فهذه جاءت الأدلة بجوازه. لكن ابتداء الصلاة يقول: اللهم إنَّ هذه الصلاة عن والدي أو عن والدتي، اللهم إنَّ هذا الصيام عن والدي أو عن والدتي، فهذا لم يأتِ به دليل لأنه ابتداءُ به عبادة، وهذا يدل عليه أثر ابن عباس قال (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد إلا من مات وعله صيام صام عنه وليّه) . فدلَّ على أنَّ الأصل عدم النيابة في هذه العبادات؛ بمعنى أن لا يبتدئها فيجعل العبادة من أولها مَعْمُولَةً لفلان أو فلانة. 2- الصورة الثانية أن يبتدئ العبادة لنفسه ثم إذا فرغ من العبادة أهدى ثوابها: وهي مختلفة عن الصورة الأولى وهي أن يبتدئ العبادة لنفسه، أن يعمل العمل لنفسه، يصلي لنفسه، يقرأ القرآن لنفسه، يعتمر لنفسه، يصوم عن نفسه، وهكذا في أي عمل، يذكر الله - عز وجل - عن نفسه، ثم إذا فرغ من العبادة قال اللهم اجعل ثواب قراءتي هذه لوالدي لوالدتي، لمن له حق علي، لفلان إلى آخره. فهذا ليس الأصل المنع؛ لأنَّ العبادة وقعت صحيحة، وهو يقول أنَّ الأجر إنْ تقبله الله وثَبَتَ الأجر، فإنَّ هذا الثواب إذا استقر لي فإنه مهدىً إلى غيري؛ يعني دعا الله - عز وجل - أن يتقبل منه وأن يجعل فلاناً أو فلانة شريكين في الثواب. وهذا التفريق لا رَدَّ له، لا من جهة السنة ولا من جهة كلام السلف الصالح، فإنهم إنما نَهَوا عن الابتداء ولم ينهوا أو ينهى الأئمة ولا المعروفين من السلف لم ينهوا عن إهداء الثواب للميت. وهذا يقتضي أنَّ التفريق ما بين الابتداء وإهداء الثواب مُتَعَيِّنْ في هذه المسألة، وأنَّ إهداء الثواب بعد الفراغ من العبادة ليس تعبداً وإنما هو محض تفضّل وإحسان. ولهذا أئمة السنة المتحققون بالسنة ورد البدعة ذهبوا إلى جواز إهداء الثواب كالإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم وطائفة من أئمة الدعوة كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعة. ومن نهى من أئمة الدعوة فإنه لم يلحظ هذا التفريق في كلام الأئمة لأنهم رأوا إهداء الثواب ولم يرعوا النيابة في أصل العبادة. فقالوا: وأي قربة فَعَلَهَا المسلم وأهدى ثوابها، فالقربة فُعِلَتْ وانتهت وأهدى ثوابها لمسلم حي أو ميت والأجر يتصرف فيه من حازه على ما يرغب، فإذا أَعْطَى بعض أجره غيره، فإنَّ هذا له ولا أصل يدلُّ على المنع من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 [المسألة الرابعة] : المبتدعة -أعني المعتزلة من شابههم- احتجوا بحجتين: 1- الحجة الأولى: قالوا يقول الله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وهذا يدل على أنَّ سَعْيَ الإنسان لنفسه. وهذا الاحتجاج كذلك بعض أهل السنة احْتَجَّ به على هذا الشوكاني وبعض المعاصرين بأنه لا ينتفع البتة إلا بما سعاه فالولد من سعيه والصدقة الجارية من سعيه والعمل الصالح من سعيه والعلم النافع من سعيه، أما غير ذلك فلا يُعَدُّ من سعيه فلا ينتفع إلا بما سعى. فإذاً احتج المبتدعة وطائفة من أهل السنة على مذهبهم بقوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قالوا فلو كان ينتفع لكان سعيه لغيره وهذا يخالف ظاهر الآية. والجواب عن ذلك من وجهين: أ - الوجه الأول: أنَّ الله - عز وجل - في الآية قال {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ} اللام هنا كما هو معروف لام المِلك؛ يعني الإنسان لا يملك إلا سعيه، أما غيره فلا يملك سعي فلان، أحمد لا يملك سعي خالد؛ بل إذا تَقَرَّبَ خالد إلى ربه بقربة فإنَّ سعيه له، ثواب السعي له هو وليس للآخر، فاللام هذه لام الملك. والمسألة التي ذكروا أنَّ الآية رَدّْ عليها أو حجة فيها هي أنَّ الآخر ينتفع من سعي الأول، وهذا لا تناقض بينها وبين هذه؛ لأنَّ اللام إذا كانت للملك فالأجر للأول؛ ولكن هو ينفع الثاني بما يتصدق به عليه أو ما ينفعه به. ب - الوجه الثاني: أنَّ قوله {إِلَّا مَا سَعَى} السعي هنا لابد أن يُنْظَرْ إلى مفهومٍ واحد، وهو أنَّ أعظم الأسباب في السعي في أنْ ينتفع الميت من سعي الحي، أعظم الأسباب هي دخوله في الإيمان، فإنَّ الإيمان والإسلام إذا تحقق به العبد يوجب وَلَايَةْ بين المسلم والمسلم، ويوجِبُ محبة بين المؤمن والمؤمن، وهذا أعظم أسباب العلاقة بين الناس، فجميع العلائق تَقَطَّعَتْ إلا سبب الإيمان والإسلام، قال - عز وجل - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، فإذاً دخل في اسم الإيمان فقد أتى بأعظم سبب من أجله ينفع إخوانه، وأيضاً من أجله ينفعه إخوانه. فإذا كانت الولادة سبب بأن ينتفع الأب بسعي ولده، والعلم سبب فإنَّ أعظم الأسباب هو ما له من الإيمان بالرب - جل جلاله -، فبالله - عز وجل - انعقدت الأواصر، وفي الله - عز وجل - قامت الوسائط والوسائل، وبالله - عز وجل - تقاربت القلوب، وهذا يعني أنَّ أعظم الأسباب في الانتفاع في السعي ما سعاه المرء في نفسه ولنفسه وهو سبب الإيمان. فإذاً الإيمان سَعْيٌ له، فقوله {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، إذا قلنا: إنَّ العمل له لا لغيره -كما قلنا سابقا- ويكون سعيه إذاً لغيره سَعْيٌ في شيءٍ تَسَبَّبَ ذلك الغير فيه. وانعقاد السبب في شيءٍ تَسَبَّبَ فيه هذا شيءٌ عمله العبد وتَسَبَّبَ فيه وهو الإيمان. ولهذا صلاة الجنازة دعاء للميت وإذا أتى العبد المقابر دعا للأموات، واستَغْفَرَ لهم، هذا سببه الإيمان، فالمؤمن يصلي على المؤمن لأجل ما بينهما من وثيقة الإيمان ومن الحب في الله وما بينهما من الحقوق. إذاً فالإحتجاج بالآية ليس بظاهر كما هو بَيِّنْ فيما ذكرنا. 2 - الحجة الثانية: قالوا إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» (1) ، فدلَّ على أنَّ العمل ينقطع، وإذا انقطع العمل هذا يعني أنه لا ينتفع بشيء. والجواب عن ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «انقطع عمله» ولم يقل: انقطع انتفاعه كما هي صورة المسألة التي نبحثها، ولم يقل أيضا: انقطع عمل غيره له، وإنما قال «انقطع عمله» ، فعمل الإنسان بالوفاة في دار التكليف انتهت، فعمله انقطع كما جاء في الحديث، أما عمل غيره وانتفاع هذا بعمل غيره فإنه لم ينقطع. ويدل على ذلك أنَّ الثلاثة التي ذُكِرَتْ وهي الصدقة الجارية والعلم والولد الصالح لم يُذْكَرْ فيها الدعاء -دعاء الحي للميت في صلاة الجنازة-، وهي بالاتفاق نافعةٌ للميت وهي لم تدخل في هذه الثلاث، لأنها ليست بعمل للميت ولكنها عملٌ للحي وهو ينفع للميت.   (1) سبق ذكره (587) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 [المسألة الخامسة] : هاهنا مسائل تكلّم العلماء في هذا الموضع فيها وهي المتعلقة بقراءة القرآن وإهداء الثواب أو استئجار من يقرأ القرآن على الأموات في المقابر ونحو ذلك، وهذه المسائل واضح أنَّ التقرب فيها إلى الله - عز وجل - بِنَفْعْ الميت بالاستئجار أنَّ هذا بدعة ولم يأتِ دليلٌ من السنة ولا من فِعْلْ السلف على عمله. ثُمَّ الاستئجار وهو دفع المال لفلان ليتعبد لفلان هذا مبطل للعمل في أصله، لم؟ لأنَّ العلم لا يصلح ولا يتقبله الله - عز وجل - إلا بالإخلاص، فالإخلاص شرط في قَبول العمل، فإذا لم يعمل العمل الصالح لم يُصَلِّ إلا بمال، ولم يصم إلا بمال، ولم يقرأ القرآن إلا بِأُجْرَةْ يُسْتَأْجَرْ عليه، فيقول مثلاً أنا أقرأ لكم السورة بمائة ريال، أو يقول أقرأ الجزء بألف ريال، ونحو ذلك، فهذا لاشك أنه لم يُخْلِصْ لله - عز وجل - في هذه العبادة، فكيف ينتفع الميت من عبادةٍ لم يُخْلَصْ لله - عز وجل - فيها، وإنما عُمِلَتْ لأجل عرض من الدنيا. ولهذا من البدع الوخيمة استئجار قوم عند المقابر يتلون، أو في المآتم يُعْقَدْ سُرَادَقْ كبير ويأتون بمن يقرأ القرآن ويقولون ننفع الميت، وهم يستأجرون هذا التالي للقرآن بأموال باهضة وعظيمة، وهذا فيه هلكة للفاعل؛ يعني للقارئ لأنه عَمِلَ عملاً لغير الله، وفيه أيضاً إفساد للمال في غير طاعة الله - عز وجل - وهذا لا ينفع الميت لأنه عمل لم يُخْلَصْ فيه لله - عز وجل -. أما لو تَبَرَّعَ أحد وقرأ القرآن لنفسه وبعد القراءة قال اللهم اجعل ثواب قراءتي لفلان فإنَّ هذا جائزٌ على الصحيح كما ذكرنا لك. وقد ذكر الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمةً واسعة في تقريرٍ له موجود في الفتاوى أنَّ رجلاً -لَمَّا عرض لهذه المسألة- ذَكَرَ أنَّ امرأة تُوُفِّيَتْ، وكان أحد قرابتها أظنه زوجها كان يقرأ القرآن، وبعد أن فرغ من الختمة أهدى ثوابها لنفسه ولزوجته، فلما فرغ وجاء وقت الصلاة أقبل رجل، وقال أنا رأيت فلانة في المنام، وقالت لي أنا الآن ختمت القرآن. وهذه وإن لم تكن حجة لكن هي للاستئناس ونقلها ثقات وذكرها علماء وأئمة، فهي ماشية مع الأصل وليس فيها ما يعارض ذلك. * فإذاً الانتفاع في إهداء الثواب لا يكون بالطرق البدعية التي يعملها أصحاب المآتم، والذين يستأجرون للقراءة على القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 [المسألة السادسة] : في قوله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ) صدقات هنا يُعْنَى بها الصدقات المالية خاصَّة، وعلى القول الصحيح الذي ذكرنا أنها كل شيء فيه صدقة؛ بالمفهوم العام للصدقة. فأمر الإنسان بالمعروف ونهيه عن المنكر والعلم والذكر وقراءة القرآن ونحو ذلك مما يدخل في اسم الصدقة العام وهي النوافل والطاعات التطوعية العامة فإنها تنفع الميت إذا أهدى الثواب لا إذا ابتدأ العبادة كما ذكرنا. فإذاً نقول: إنَّ الصحيح أن قوله (وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ) هذا يشمل جميع أنواع العبادات كما ذكرنا. نكتفي بهذا القدر، والمسألة التي بعدها تحتاج إلى تفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الأسئلة : س1/ يقول: إذا حج رجل عن رجل ميت هل الرجل الحي يأخذ الأجر على هذا الحج، عِلْمَاً أنَّ هذه الحجة للميت؟ ما فهمت سؤالك بدقة: إذا حج رجل عن رجل ميت هل الرجل الحي يأخذ الأجر على هذا الحج، يعني قصده إذا أخذ مال. هذا الميت إذا مات وعليه حجٌ واجب فإنَّ أولى الناس بالحج عنه ولده أو أقربائه أو وليه، هذا هو أولى الناس بالحج عنه؛ لأنه نوع برٍ له وبراءة لذمته وقضاءْ للدَّيْنْ الذي عليه. أما إذا لم يوجد أو كان فيه كَلَفَة أو نحو ذلك أو كان يريدون السرعة بالحج عن الميت، فجاء من يرغب في الحج؛ ولكنه ليس عنده من النفقة ما يكفيه لأداء الحج فإنه لا بأس أن يُعطَى ليحج عن الميت لما قام في قلبه من الرغبة في شهود المشاعر ورؤية الكعبة والذكر هناك وشهود دعوة المسلمين في ذلك. فإذا كان الرجل يريد الحج أو كان المسلم يريد الحج؛ لكن لم يجد نفقة، فإنه لا بأس أن يأخذ نفقة ليحج عن غيره؛ ولكن لا يجوز أن يحج ليأخذ. يعني لا يقوم في قلبه محبة الحج ولا الرغبة في الآخرة وإنما إذا أتاه مال حج وإذا ما أتى مال يقول ما الذ يتعبني، لماذا أذهب أنا. هذا لا يجوز لأنه استئجار على عبادة، وكما قال ابن تيمية: إنما يجوز أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ فالأشبه أنَّ هذا ليس له في الآخرة من خلاق، وهو كما قال رحمه الله. فإذاً إذا أتى من يريد الحج وهذا الحي يريد أن يدفع من مال أبيه؛ يعني من التركة مال يحج به عنه مكانه فهذا لا بأس به. س2/ يقول كيف يُجاب عن الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» ؟ ج/ الحصر على بابه؛ لكن عمل غيره لا يدخل في كلمة عمل. فعمله ينقطع، عباداته تنقطع إلا هذه الثلاث، وهي الصّدقة الجارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له. الصدقة الجارية هي الوقف المحبس الذي يبقى كبناء المسجد وحفر الآبار وتيسير سبل الماء، أو طباعة كتب أهل العلم النافعة أو المصحف، طباعة المصاحف ونحو ذلك، هذه من الصدقات الجارية عبادة. والولد الصالح معروف ولده يدعو له ويستغفر لأبيه. والعلم الذي يُنْتَفَعُ به هذا يشمل العلم الذي عَلَّمَه أو ما أَمَرَ به بالمعروف ونهى عن المنكر وسَنَّ سُنَّةْ حسنة ودعا إلى هدى، الدعوة بأنواعها هذه تدخل في العلم الذي ينتفع به؛ لأنَّ الأنبياء دعاة والنبي صلى الله عليه وسلم داعية {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108] ، وإنما وَرَّثْ العلم، فإذاً العلم يدخل فيه كل أبواب الدعوة وتوريث العلم والتأليف وأشباه ذلك. فإذاً الحصر على بابه والحصر في هذه الأنواع في عمل الميت، أما عمل غيره فلا يدخل في ذلك كما ذكرنا. نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الأسئلة: [سائل] هنا تعليق لبعض الإخوان. [الشيخ] اقرأ التعليق. [السائل] بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة رحمهم الله، وأهل الظاهر، وجماعة من التابعين إلى أنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. (1) قال: وهو قول المعتزلة أيضاً، فإنهم قالوا: الإيمان هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وانظر شرح السنة إلى آخره. (2) ج/ هذا غلط، التعليق هذا غلط: أولا: ليس هو قول المعتزلة. (3) ثانياً: ليس الفرق بين أهل السنة والمعتزلة، أهل السنة لا يرون العمل شرط يرونه ركن لأنَّ ما أُدْخِلَ في المسَمَّى فهو ركن. هذا تعليق شعيب؟ [السائل] نعم. هذا ليس بسليم، هذا الكلام غلط، هذه أي طبعة، رقم 1413؟، لا هذا ما هو صحيح؛ تعليقه غلط. كل تعليقه غلط، هو جَعَلَ أَنَّ قول أهل السنة أنَّ الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان جعله قولاً للمعتزلة، وهذا ليس بصحيح، ثم جعل أيضاً الأعمال عند السلف شرطاً في الكمال، وجعله عند المعتزلة شرطاً في صحة الإيمان، وهذا أيضا ليس بصحيح، كل تعليقه مبني على فهم الماتريدية في الغالب؛ يعني ينحو منحى الماتريدية في هذه المسألة. س2/ يقول: ما يقول الأئمة الأعلام في مخالفي أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات من المعطلة والمشبهة وغيرهم، هل هم كفار أم لا؟ وأي نوعي الكفر وقعوا فيه وما سبب ذلك؟ هل لقولهم على الله بغير علم أم لإنكارهم بعض نصوص الوحي أم ماذا؟ وما تأويل الإمام أحمد رحمه الله عندما قال: الواقفة أو المفوّضة أشد ضلالاً من غيرهم أو كما قال؟ ج/ شُوف بعض الأسئلة كأنها أسئلة اختبارات، يعني هل هم كذا وهل؟؟، هل هم كفار أم لا وأي نوعي الكفر وقعوا فيه؟ وما سبب ذلك هل لقولهم على الله بغير علم؟؟ على كل حال الإفادة مطلوبة. الضالون في باب الأسماء والصفات درجات وأقسام، منهم الجهمية ومن شابههم ممن ينفون جميع الأسماء والصفات، إلا صفة الوجود المطلق، وهؤلاء هم الذين اشتد عليهم صوت السلف والأئمة؛ بأنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة وإنما هم خارجون أصلاً. فجهم ومن معه لا يُعتبرون أصلاً في الإسلام، يعني الجهمية الأصليين الذين ينفون جميع صفات الرحمن - عز وجل - وجميع أسماء الرحمن - عز وجل - إلا صفة الوجود المطلق، وهؤلاء لا وجود لهم اليوم بادوا في ذلك الوقت، هؤلاء ليسوا من المسلمين. والفئة الثانية التي أيضاً يُحكم بكفرهم: المشبهة الذين يقولون وجه الله كوجه الإنسان، أو يده كأيدينا، أو عيناه - عز وجل - كأعيننا أو سمعه كسمعنا، يجعل المماثلة في ذلك في تمام الاتصاف بالصفة، هؤلاء أيضاً المجسمة على هذا النحو والممثلة فإنهم أيضا ليسوا من أهل الإسلام؛ لأنهم شبّهوا الخالق بالمخلوق أو شبهوا المخلوق بالخالق - عز وجل -. أما من ليسوا كذلك وإنما هم مبتدعة على درجاتٍ في الصفات، منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية ومن على هذا النحو، فإنَّ هؤلاء منهم من يُثبت بعض الصفات، منهم من يُثبت سبع صفات أو ثمان أو أكثر أو أقل على خلافٍ بينهم، فلا يُطلَقْ القول بتكفير الطائفة، ولا يُطلَقْ القول بعدم التكفير أيضاً، وإنما يُقال هؤلاء أهل بدع، وبحسب ما نفى يكون الحكم عليه، ليسوا على بابٍ واحد، لكن الأصل أنَّ من أثبت بعض الصفات وتأوَّلَ في الباقي ونفى أو أوَّلْ فإنه لا يُحكَمُ بكفره، وإنما يُقال هذا من أهل البدع. لهذا أهل السنة والجماعة لمَّا تكلّموا في المعتزلة وحَكَمُوا بكفرهم، يعني بكفر أهل الاعتزال، ذكروا أنَّ ذلك متعلِقٌ بالقول بخلق القرآن أو ببعض المسائل الأخرى، أما نفي الصفات أصلاً فهو مردود وكفر كما هو عليه الجهمية، أما تأويل الصفات في إثبات بعضٍ أو نفي بعض فلا يُطلَقْ القول بتكفير هذه الفئة.   (1) هذا تعليق شارح الطحاوية. (2) هذا التعليق عليه: أنظر الصفحة 459 الجزء الثاني من شرح العقيدة الطحاوية للقاضي أبي العز الحنفي تحقيق وتعليق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرنؤوط طبع مؤسسة الرسالة الطبعة 13 سنة 1419هـ/1998م. (3) قارن هذا بالقول الرابع في المسألة الأولى على شرحه لـ: (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) في الشريط التاسع والعشرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ومن أهل العلم -من أهل السنة والجماعة- من خصّ مسألة علو الرحمن - عز وجل - لأجل ظهور دليلها (علو الذات للرّب - عز وجل -) ، لأجل ظهور دليلها وقوّة برهانها وعدم وجود مجال للتأويل فيها خَصَّهَا بأنَّ من أنكر علو الذات للرب - عز وجل - فإنه يَكْفُرْ، لكن الأصل الذي عليه أئمة أهل السنة والجماعة أنهم يستعملون في هذا الباب عبارات الابتداع، البدعة والضلالة والمخالفة وطريقة الخلف وأشباه ذلك. وليس كل من نفى صفة أو تَأَوَلَهَا يعتبر كافراً خارجاً من الدّين، وإنما ذلك الاتفاق مخصوص بالجهمية والمجسمة، وأما المعتزلة ففيهم تفصيل بحسب المسألة التي تُتَنَاوَلْ، أما الأشاعرة والماتُريدية والكلابية فلا أعلم أحدًا من أهل السنة أطلق عليهم الكفر. نكتفي بهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 واللهُ تَعالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الحَاجَاتِ.   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول الطحاوي رحمه الله: (واللهُ تَعالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَيَقْضِي الحَاجَاتِ) يريد بذلك بيان بعض آثار ربوبية الله - عز وجل - على خلقه وأنَّهُ سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلْق، وهو ربهم ومالكهم وسيدهم والمتصرّف فيهم، وهو الذي يفيض عليهم من خيراته - عز وجل - ويُنَزِّلُ عليهم من رحماته، فإذا احتاجوا فإليه الملجأ، فكما أنه - عز وجل - يَبْتَدِؤُهُم بالعطايا ويُنْعِمُ عليه بأنواع النِّعَمْ، فإنهم إذا سألوه ودعوه فإنه سبحانه وتعالى يُجيبهم؛ لأنَّ ربوبيته لهم وخَلْقَهُ لهم يقتضي أن يُيَسِّرَ ما يحتاجون إليه. وخصَّ هنا إجابة الدعوات وقضاء الحاجات لأجل خلاف طائفة من الفلاسفة وغلاة الصوفية ومن شابههم في هذا الأصل وهو أنَّه لا حاجة للدعاء ولا حاجة للسؤال ولا طَلَب الحاجات لأنَّ كل شيء إما أن يكون مُقَدَّرَاً من عند الله كقول الصوفية فلا يؤثِّر فيه شيء، وإما أن يكون أثراً لمؤثِرٍ ومُنْفَعِلَاً لِفِعْلٍ كقول الفلاسفة أو غلاة الفلاسفة. وها هنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 [المسألة الأولى] : الله - عز وجل - ذَكَرَ في القرآن كثيراً إجابته للدعاء وللسؤال وإعطاءه، كقوله - عز وجل -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، وأثنى الله - عز وجل - على الأنبياء بأنهم يدعون الله - عز وجل - خوفاً وطمعا، وبيَّنَ - عز وجل - أنه يُجيب دعوة المضطر فقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] ، بل بَيَّنَ - عز وجل - أنه أجاب دعاء إبليس، إذ قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:36-37] ، وبَيَّنَ الله - عز وجل - أنه ربما أجاب دعاء أولياء الشيطان والكفرة فقال سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان.32] .، ونحو ذلك من الآيات كقوله {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ، وهذا مُنَوَّعٌ في القرآن كثيراً في أنَّ الله سبحانه خَلَقَ الخلق جميعاً، فهو رب المؤمن ورب الكافر، وربوبيته للكافر تقتضي إعطاءه، وربوبيته للمؤمن تقتضي إعطاءه، وهكذا، ربما أعطى المؤمن فكان في حقه نعمة وربما أعطى الكافر فكان في حقه عذاباً ونقمة، فهم يَسْأَلُونْ والله - عز وجل - يجيب الداعي ويجيب المضطرّ إذا دعاه. وقضاء الحاجات أيضاً يبتدئه الرب - عز وجل - ويُعْطِيْ عبده إذا سأله قضاء حاجة، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] ، وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث سلمان: «إن الله حييٌ [ستِّير] (1) يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين» (2) رواه أبو داوود، والإمام أحمد وجماعة بإسنادٍ صحيح، وأيضاً جاء في سنن ابن ماجه وعند غيره: «من لم يسأل الله يغضب عليه» (3) ، وفي إسناده نظر، وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله ينزل آخر كلّ ليلة إلى السماء الدنيا فيُنادي هل من داع فأستجيبَ له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له» (4) ، وهذا يدلّ على أنَّ الرّب - جل جلاله - يقضي حاجات العباد ويُفيض عليهم من الخيرات وهو سبحانه الذي دعا إلى دعائه وهو الذي يُجيب، وهذا يدل -كما سيأتي- على أنَّ الدعاء سبب من الأسباب العظيمة النّافعة التي جعلها الله - عز وجل - سبباً.   (1) الصواب: كريم. والله أعلم. (2) أبو داود (1488) / الترمذي (3556) / ابن ماجه (3865) (3) الترمذي (3373) (4) سبق ذكره ص 174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 [المسألة الثانية] : سبب مخالفة من خالف -ولأجلها أورد الطحاوي هذه الجملة- من غلاة المتصوّفة وطائفة من الفلاسفة، فهؤلاء يقولون: الدعاء لا حاجة إليه وسؤال الرب - عز وجل - قَضَاءَ حاجة العبد لا حاجة إليه، وعَلَّلُوا ذلك بأمرين: 1- الأمر الأول: أنه سبحانه قَدَّرْ الأشياء وجعل لكل أمرٍ سيحصلُ قَدَرَاً مقدوراً، فإذا كان مُقَدَّرَاً فسيقع، وإن لم يكن مُقَدَّرَاً قالوا: فلن يقع، فإذاً لا حاجة إلى الدعاء ولا فائدة منه. 2- الأمر الثاني: أنهم قالوا إنَّ الله - عز وجل - عَوَّدَ خلقه وسُنَّةُ الله فيهم على أنَّهُ يعطيهم ما يحتاجون، ولم يجعل قلوبهم مُعَلَّقَة بـ: هل يأتي الأمر أم لا يأتي، فتمام إخلاص القلوب عندهم أن ترضى بما هي عليه من الحال وأن تنتظر إفاضة الله - عز وجل - لما يريده ولما يعطيه. وهذا عندهم هو مقام الصديقين والعارفين والأولياء، وهذا الذي ذكروه لا شك أنَّ أهله انقرضوا إلا ما نَدَرْ بحيث أنه لا توجد الآن فئة تُنسب إليهم هذه المقالة. وسبب ذلك أنَّ الرَّدَ عليهم وبيان بطلان ما قالوا واضح بيِّنْ، لأنَّ: @ التعليل الأول الذي ذكروه وهو أنَّهُ لا حاجة إلى الدعاء لأنه إما أن يكون مُقَدَّرَاً أو غير مقدرٍ، فيُجاب عليهم ويُرد على ما قالوا بأنَّ الله - عز وجل - أَنَاطَ أشياء كثيرة جداً، بل أناط أكثر ما يُوجِدُهُ في خلقه بالأسباب المقتضية بمُسَبَّبَاتِهَا، فأناط إخراج الولد وانعقاد الحمل بأن ينزوي الرجل على المرأة {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ، لكن لا يهب إلا بسبب، وكذلك قَدَّرَ - عز وجل - أن فلاناً يمرض لكنه لم يُقَدِّرْ هذا المرض إلا -غالبا- بسبب، وكذلك هو - عز وجل - جعل فلاناً عالماً وقَدَّرَ ذلك لكن لا يكون إلا بسبب وهو أن يتعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم بالتعلم» (1) . فإذاً قول غلاة الصوفية هو مصيرٌ منهم إلى نفي الأسباب ونفي النظر إليها وأنَّ الأمور بِجَبْرْ وليست منوطة بأسباب بل الله - عز وجل - يُجْبِرُ الأشياء على أن تكون على وفق ما يراد دون أن يرتبط شيء بسببه. وهذا لا شك قدحٌ في العقل لأنه إلغاء لما يُدركه كل عقل من أنَّ الشيء منوط بسببه. من جملة الأسباب التي أناط الله - عز وجل - بها إيقاع ما قدّر: الدعاء. فَكَونُ العبد يدعو الله - عز وجل - يكون الدعاء سبباً في حصول ما قَدَّرَ الله - عز وجل -، فيكون ما قَدَّرَهُ الله - عز وجل - لا يقع إلا بعد وجود السبب، كما أنَّ الحمل لا ينعقد إلا بعد وجود السبب. بل الدعاء في الحقيقة أعظم أنواع الأسباب لأنَّ به يحصل إِمْدَادْ الله - عز وجل - في كلّ شيء ونفع الرب - عز وجل - بكل سبب يعمله العبد، فالدعاء أعظم أنواع الأسباب. @ أما التعليل الثاني: فإن ذاك مبني على أنَّ حالة النبي صلى الله عليه وسلم وحالة الصحابة رضوان الله عليهم ليست هي الحال الكاملة؛ بل كيف ينظرون إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أحواله كلها وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الدعاء لنفسه ولأهله ولأمته صلى الله عليه وسلم، بل أرشد الصديق وعمر إلى أن يُعْظِمُوا الرّجاء والدعاء وهذا يدل على أنَّ حال الكاملين بأن يتعرضوا لدعاء الله - عز وجل -، فكم دعا النبي صلى الله عليه وسلم من دعاء في صلاته في آخر الليل وفي أوقات الإجابة صلى الله عليه وسلم، وهذا لأنه أعرف الناس وأعلم الناس بربّه - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه. أما قول الفلاسفة، فالفلاسفة أنواع: - منهم من يوقن بنفع الدعاء؛ لكنهم يقولون: إنَّ الدعاء ينفع لأنه يؤثِّرُ فيما عقدته الأفلاك، لأنَّ عندهم أنَّ الأثر للفلك الثامن الذي يؤثر في مجموعة الأفلاك، فينقل فيها التأثيرات التي تؤثر على سلوك أهل الأرض وما يكون في الأرض. - ومنهم من يقول الدعاء أصلاً لا ينفع لأنَّ الأمور بنظام، وكل شيء يقع على مقتضى الطبيعة، والدعاء ليس سبباً طبيعياً، وهذا قول الملاحدة منهم، وظاهِرٌ فيه أنهم لا يؤمنون بحال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.   (1) المعجم الأوسط (2663) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 [المسألة الثالثة] : دعاء العبد لله - عز وجل - وتَضَرُّعْ العبد عند الله - عز وجل - فيه أمور: 1- الأمر الأول: أنَّهُ تَعَرُضٌ لرحمة الله - عز وجل - ولآثار ربوبيته، فهو سبحانه وتعالى يُعْطِي من سأله ويجيب من دعاه - عز وجل -، لأنه هو الرب. ولهذا قد يُعطي الله - عز وجل - الكافر كما أجاب دعاء إبليس، فقد يَمْرَضُ الكافر فيسأل الله - عز وجل - فيُشْفَى، وقد يَتَعَرَّضْ الكافر لمصيبة فيسأل الله - عز وجل - أن يكفيه شرها فيُجاب. بل يأتي المشرك والخرافي والمشرك المتعلق بالأموات فيأتي عند القبر بقلب مُضطرّ فيسأل الله - عز وجل - بصاحب هذا القبر أو يسأل الله - عز وجل - ثُمَّ يسأل صاحب القبر، فيُجاب الدعاء لما في قلبه من الاضطرار لله - عز وجل -، ويكون في حقه ابتلاء ويكون أيضاً فتنةً للآخرين. فإذن العطاء لا يقتضي الرضا عن المُعطَى، وإجابة الدعاء لا تقتضي الرضا عن من أُجِيبَ دعاه فهذا إبليس أُجِيبَ دعاه وقد دعا بأعظم دعوةٍ عنده وهي أن يطول عمره حتى يكون إلى يوم القيامة، {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} يعني أمد في عمري {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] ، إلى أن ينتهي تكليف آدم وأبناءه، فأعطاه الله - عز وجل - هذا السؤال الذي لم يُعْطِهِ نبياً من الأنبياء في إطالة العمر إلى هذا الحد، وهذا كما أعطى الكفار بعض ما سألوا، وكما يُعْطِي بعض من يعبدون المسيح أو يعبدون عزيراً أو يعبدون غير الله، فيُعطيهم لأمر، لا لأجل كفرهم، ولكن لحكمةٍ يعلمها الله أو لأجل اضطرارهم أو لأنَّ هذا الإعطاء أصلاً من مقتضيات ربوبيته - عز وجل - لهم وهم بحاجة إليه، والله هو الذي خلقهم وجعل لهم قدَراً مقدورا. 2- الأمر الثاني: أنَّ الدعاء فيه إثباتْ لصفاتٍ كثيرة من صفات الرب - عز وجل -. فمن دعا الله - عز وجل - بحق فإنه يستحضر إذ دعا، ولو لم يستحضر فإنَّ هذا متضمنٌ لدعائه: - الصفة الأولى: أنَّهُ موقن بوجود الرب - عز وجل -. - الصفة الثانية بأنه سبحانه وتعالى يسمع دعاءه مع أنه في عليائه - عز وجل -، وهو يهمس همساً لا يجهر، وهو يعتقد أنَّ الرب - عز وجل - سميعٌ لدعائه. - الصفة الثالثة: يوقن أنَّهُ - عز وجل - قدير على إجابة دعائه. - الصفة الرابعة: يوقن أنّه سبحانه وتعالى غني يُعْطِي بغير حساب. - الصفة الخامسة: يوقن أيضا أنه - عز وجل - رحيم بعباده، فإن سؤال الرب - عز وجل - تَعَرُضٌ لآثار لرحمته سبحانه وتعالى. - الصفة السادسة: يوقن بأنه سبحانه وتعالى حي، وهكذا. فمن تأمل دعاء العبد، نَظَرَ في أنَّ في دعاء العبد أنواعاً من إثبات الكمالات للرب - عز وجل -، ولذلك يَضْعُفُ التوحيد إذا ترك العبد دعاء ربه - عز وجل -، وكلّما قلّ الدعاء، قَلَّ تعلُّقْ العبد بالله - عز وجل -، لأنّ آثار التوحيد على النفس والنور الذي يُقْذَفْ في القلب من آثار التعلق بالله - عز وجل - يضعف شيئاً فشيئاً. 3 - الأمر الثالث: الله - عز وجل - في إجابة الدعاء، وفي إعطاء الحاجة التي سُئِلَت، جعل لذلك شروطاً وجعل لذلك موانع. فإنَّ العبد قد يسأل ولا يُعْطَى وقد يدعو دُعَاءَ سؤال ولا يُستَجَاب له في عين ما سأل؛ لأنه لم تكتمل الشروط في حقه أو قام مانِعٌ من الموانع، وهذا يتضح بمسألةٍ تأتي. 4- الأمر الرابع: أنَّ إجابة الدعوات وقضاء الحاجات ليس دليلاً على شيء، وإنما هو من جنس مطلق الإعطاء. فكما أنَّ الله - عز وجل - جعل هذا على صفة، وهذا على صفة، وهذا على صفة؛ فإنه سبحانه، يُعْطِي هذا، ويُعْطِي هذا، ويعطي هذا. وقد -كما ذكرتُ لك- يُعْطِي فاسق ويُعْطِي المبتدع ويُعْطِي الفاسق، ويجيب دعاء هذا وهذا وربما هذا بأكثر وهذا بأكثر. لكن يمتاز المؤمن والعبد الصالح وولي الله - عز وجل - أن يكون جواب الله - عز وجل - له وإعطاؤه لسؤاله -يعني إعطائه لما سأل-، عن محبَةٍ ورضا فيكون في حقه نعمة ولا يكون في حقه نقمة أو إبتلاء. وهذا هو الذي جاء في حديث الولي، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى (1) : [[الشريط الثاني والأربعون]] : وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه» (2) هذا عطاء محبة، «ولئن استعاذني لأعيذنه» هذه إعاذة محبّة ورضا.   (1) نهاية الشريط الواحد والأربعون. (1) سبق ذكره (250) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 [المسألة الرابعة] : الله سبحانه وتعالى قال {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وقال «من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له» ، وإجابة الدعاء عام يشمل إجابة دعاء العبادة وإجابة دعاء المسألة. - أما إجابة دعاء العبادة: فهو بالإثابة. - وأما إجابة دعاء المسألة: فهو بالإعطاء. ولهذا في آية سورة غافر قال ? {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، ورجَّحَ طائفة من أهل العلم أنها في الدعاء الذي هو العبادة، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يعني أعبدوني أُثِبْكُم، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . والنوع الثاني الذي هو دعاء المسألة فيكون إستجابة دعاء المسألة بإعطاء العبد ما سأل. وإجابة الدعاء يَعُمُّ إعطاء العبد ما سَأَلْ أو ما هو في مقام إعطائه ما سأل من صَرْفِ السُّوءِ عَنْهْ. ولهذا قال العلماء: إنَّ العبد إذا دعا الله ? ولم يُعطَ ما سأَل فإنّ لهذا عدة تعليلات: 1- التعليل الأول: أنه يُصْرَفْ عنه من الشر بمثل ما سأل، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثة خصال: إما أن تُعَجَّلَ له دعوته، وإما أن يُصرَفَ عنه من الشر مثلُها، وإما أن تُدخَرَ له يوم القيامة» (1) . وهذا يعني أنَّ دعاء العبد المؤمن لا يضيع بل يُسْتَجَابْ لكن: - ربما أُستْجُيِبَ بثوابٍ يوم القيامة. - وربما أُستْجُيِبَ بعطاء. - وربما أُستْجُيِبَ بصرف الشرعنه. والله ? أعلم بما يُصْلِحُ العبد في دنياه وفي آخرته. قد تكون حاجة العبد المؤمن للحسنات في الآخرة أعظم من حاجته لما سَأَلْ في الدنيا، فَيُدَّخَرْ له ما سأل يوم القيامة، وهذا من أعظم لُطْف الله ? ورحمته بعبده وعنايته بعبده ? وتَقَدَّست أسماؤه، سبحان ربنا لا نُحصي ثناءً عليه. 2- التعليل الثاني: أنَّهُ كما ذكرنا أنَّ الدعاء يكون له شروط وله موانع، فقد يكون العبد في دعائه أتى بمانع من الموانع من إجابة الدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلمٍ يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم» ، قطيعة الرحم معروفة، والإثم قد يكون منه الإعتداء في الدعاء؛ لأنَّ الله ? نَهَى عن الإعتداء في الدعاء فقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، يعني المعتدين في الدعاء وأيضاً المعتدين في غيره، فالإعتداء لا يُحبه الله ?. (2) فالإعتداء في الدعاء إثم وله صور كثيرة: فقد يدعو العبد ويعتدي في الدعاء فيزيد في أدعيته. أو يأتي بأشياء ليست من الأدب مع الرب ?، فيكونُ مانعاً من إجابة الدعاء لإثْمٍ وقع فيه في الدعاء، أو لإثمٍ وقع فيه في سلوكه فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الرجل ليُحرَمُ الرزق بالذنب يصيبُه» (3) ، وهذا يكون مانعا. أيضاً هناك شروط للدعاء من الآداب فيه، فلا بدّ من توفرها. 3- التعليل الثالث: أنَّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب ? آخر الليل أو في النصف الأخير من الليل أو في الثلث الأخير من الليل على إختلاف الروايات، رَتَّبَ مسألة الدعاء على ثلاث درجات، فقال صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله يُنادي هل من داعٍ فأستجيبَ له، هل من سائِلٍ فأُعْطِيَهُ، هل من مستغفر فأغفر له» . ومغفرة الذنب أخص من إعطاء السؤال، وإعطاء السؤال أخص من إجابة الدعاء. فلهذا رتّبها صلى الله عليه وسلم على هذه الثلاث درجات -يعني في الحديث-، فالله ? جعلها ثلاث مراتب: - ينادي من يدعو، والدعاء يَعُمُّ السؤال ويعمّ غيره كما أوضحت لك. - أو مَنْ يسأل. - ثُمَّ مَنْ يستغفر، فهذه مراتب ثلاث. فإذاً ليس كل سؤال إستغفار، وليس كل دعاء سؤال. وهذا يعني أنَّ إجابة الدعاء التي وَعَدَ الله ? بها عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ، هذا يَعُمُّ كل مايحتاجه العبد في عبادته وفي دنياه، وأيضاً ما يحتاجه ثواباً على العبادة وإعطاءً للسّؤال.   (1) مسند أبي يعلى (1019) / حلية الأولياء (6/311) (2) للمزيد عن الإعتداء في الدعاء انظر (599) (3) ابن ماجه (4022) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 [المسألة الخامسة] : إذا كان الله جل جلاله يستجيب الدُّعَاء ويقضي الحاجة ويُعطِي السَّائل، فإنَّ مما ينبغي على العبد أن يَتَأَدَّبَ به أن يُعِدَّ للدّعاء عُدَّتَه وأن يجتهد في حُسْنِ المسألة. ولهذا أَحْسَنَ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أيَّما إحسان إذْ أرشد الأمة إلى قوله (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن أحملُ هَمَّ الدعاء، فإذا وُفِّقْتُ للدعاء جاءت الإجابة) (1) . وهذا من أعظم الكلام الذي قاله عمر رضي الله عنه ومن أحْسَنِهِ لأنّه لا يُدَلُّ عليه في بيانه ولا في تصويره لهذه المسألة من كلام الصحابة بمثله. لهذا ينبغي على العبد إذا أراد أن يدعو أن يَعْلَمْ أنَّهُ إنَّمَا يدعو مالك الملك الذي خَلَقْ، الذي هذه {الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، الذي {عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، الذي {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] ، الذي {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ، الذي يَطَّلِعُ على خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. لهذا ينبغي على العبد المؤمن أن يُعِدَّ للدعاء عُدَّتَه كما قال عمر رضي الله عنه (إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا وُفِّقْتُ للدعاء جاءت الإجابة) . لهذا يَحْسُنْ بالداعي أن يجتهد في دعائه وأن يُحَضِّرَ له، أن يَسْتَعِدَّ في تحسينه لأنه سيدعو ويرفع يديه لله جل وعلا، وخاصَّةً إذا كان الدعاء في موقع من مواقع العبادة العظيمة كحال السجود إذا لم يَدْعُ بما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو جوامع الكلم في الدعاء فإنَّهُ لا بُدَّ أن يستعد ولا يدعو بإثم أو يجتهد فيتساهل في هذا الأمر. كذلك في موقع خطبة الجمعة، فإنّه ينبغي له أن يُعِدَّ العُدّة فيما يدعو به إذا دعا بشيءٍ لم يُؤْثَرْ. وكذلك في صلاته في قنوته كل ليلة أو في سجوده أو في صلاة التراويح من الأئمة الذين يقنتون بالناس فإنّهم ينبغي لهم أن يعلموا أنَّ إجابة الدعاء منوطةٌ بِحُسْنِ الدعاء، فمن أحسن الدعاء رُجِيَ له الإجابة، أما أنَّهُ يدعو بما خَطَرَ على باله ويَتَعَدَّى في ذلك وهو ليس بِمُحْسِنْ ويأتي بكلامٍ كثير ربما يكون فيه إعتداء في الدعاء وهو لا يشعر فيأثم ويأثم من خلفه وربما لم تُستَجَبْ دعواتهم بعموم أنواع الإستجابة التي ذكرنا، فهذا مما ينبغي التَّنَكُبْ عنه والبُعْد عنه. لهذا هذه المسألة عظيمة، فالدعاء أَثَرْ من آثار الإيمان وبه تُسْتَمْطَرُ الرحمات من الرب ?، ولهذا أَعِدُّوا له عُدَّتَهْ ولا يكن المرء مُستغنيَاً عن فضل الله ?. لابد من: الإلحاح في الدعاء، الإضطرار، في أوقات الإجابة. كلّ أحد له حاجة، فإذا أَحْسَنَ السؤال جاءت الإجابة. أسأل الله ? أن يجعلني وإياكم ممن تُجَابُ دعواتهم وتُغْفَرَ زلَّاتُهُم، إنه سبحانه جواد كريم.   (1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/706) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 قال بعد ذلك (وَيَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَمْلِكُهُ شَيْءٌ)   يريد بذلك أنه سبحانه وتعالى هو المتَفَرِّدْ في أنَّهُ يملك كل شيء. فما من شيء إلا والله ? ربّه، وهو مالكه وهو سَيِّدُهْ الُمَتصَرِّفْ في شؤونه، وكذلك هو سبحانه وتعالى لا يَمْلِكُهُ شيء ولا يُؤَثِّرُ في ملكه شيء سبحانه وتعالى إلا بإذنه، فهو الواحد الأحد في مُلكِه، الرّب وحده، والعباد محتاجون إليه في ذلك. وهذه الجملة واضحة في تقرير بعض أفراد الربوبية التي تجعل العبد يُقبِل على ربه في الدعاء، فهو سبحانه يقضي الحاجات لأنه يملك كلّ شيء ولا يملكه شيء سبحانه وتعالى. والعبد يدعو ربّه لأنه يعلم أنَّ الله يملك كلّ شيء ولا يملكه شيء سبحانه وتعالى. وهذا يَدُلُّكْ على عِظَمِ شأن الرّب ? وعلى أنَّهُ هو المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 قال بعدها (وَلاَ غِنَى عَنِ اللهِ تَعَالى طَرْفَةَ عَيْنٍ وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) .   (لاَ غِنَى عَنِ اللهِ تَعَالى طَرْفَةَ عَيْنٍ) ، يعني أنَّ العبد في طَرْفِ عينه وحركة عينه لا يستغني فيها عن الله (؛ لأنه إنما حرَّكَ عينه برحمة الله، وبفضله وبإمداده وبإعطائه سبحانه وتعالى، فلا يستغني عن الله طرفة عين. وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين (1) » ، وهذا إذا وكَلَهُ إلى نفسه طرفة عين فمعناه أنه استغنى. قال: (وَمَنِ اسْتَغْنَى -هذا حُكْمْ- عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) لأنه إستغنى عن الله (ورأى أنه يَقْتَدِرْ وأنه ليس بحاجة إلى الله ?، وهذا كما صَنَعَ إبليس اللّعين فإنه استغنى فكفر، وتَكَبَّرَ فاستحق الكفر والخلود في النار. (اسْتَغْنَى عَنِ اللهِ) ، (اسْتَغْنَى) معناها كان في غِنَى وليس معنى اسْتَغْنَى طَلَبَ الغِنَى. فاستغنى: يعني ومن كان في غِنَىً عن الله طرفة عين فقد كفر، لأنَّ كلمة استغنى ليس فيها الطلب. فالأصل في السين والتاء الطلب إلا في مسائل. ومن أهل العلم من يقول إنَّهُ لا قاعدة في السين والتاء أنَّهَا للطلب، لكن يُقال الأكثر في مجيئها أنَّهُ للطلب. وقد تأتي لبيان تمكُّنْ الصفة من الموصوف، فقول الله ? في سورة التغابن: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] ، {اسْتَغْنَى اللَّهُ} يعني غَنِيَ الله فصارت صفة الغِنَى له صفة كمال، له الغِنَى الكامل الذي لا نقص فيه من وجه من الوجوه، لأن زيادة المبْنَى تدل على زيادة المعنى. وهنا في قوله (وَمَنِ اسْتَغْنَى) يعني ليس معناه من طلب الغِنَى، معناه كان في غِنَى. (مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الله) ، يعني كان في غِنَى عن الله طرفة عين. (فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الحَيْنِ) (الحَيْنِ) هنا بمعنى الهلاك لأنه صار مُتَوَعَّدَاً بل صار من أهل العذاب لأنه كَفَرْ والعياذ بالله. هذه كلها يريد منها الطحاوي رحمه الله بيان آثار ربوبية الله ? وتَعَلُّقْ [العقل] بالله سبحانه وتعالى. نقف عند هذا، والجملة القادمة تحتاج إلى تفصيل طويل (واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) لأنَّ لها تعلّق بالصفات الإختيارية وبمسائل كثيرة فيما ذهب إليه أهل البدع في الصفات الإختيارية صفات الأفعال، يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.   (1) سبق ذكره (277) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الأسئلة : س1/ما الفرق بين قيام الحجة وبين فهم الحجة؟ وهل من لم يفهم الحجة يُعاقَبْ على ما لم يَفْهَمْهُ، أفدني؟ ج/ ذكرنا الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة في أَجْوِبَةْ أسئلة، وكذلك فَصَّلْنَاهُ في كشف الشبهات، فأنا أريد الأخ السائل أنه يرجع إلى شرح كشف الشبهات ليستفيد أولاً ثُمَّ ينظر إلى هذا الموضوع. (1) وخلاصة الكلام أنَّ فهم الحجة ليس بشرط، وأما قيام الحجة فهو شرطٌ في التكفير ووقوع العذاب. وفهم الحجة -يعني الذي ليس بشرط- يراد منه أن يفهم أنَّ هذه الحجة أرجح مما عنده من الحُجَجْ. المهم أن يَفْهَمَ الحُجَّةْ ودِلالة الحجة من كلام الله ? وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأن تُزَالَ أو يُبيَّنْ له بطلان الشبهة التي عنده. وليس من شرط قيام الحجة أن يفهم الحجة كفهم أبي بكر وعمر والصحابة الذين نَوَّرَ الله قلوبهم، ولا من نَوَّرَ الله قلبه ممن تبعهم بإحسان؛ لأنه لو قيل بِفَهْمِ الحُجَّةْ هنا، صار لا يكفر إلا من عاند. يعلم أنَّ هَذِهِ الحُجَّةْ ويَفْهَمْ الحُجَّةْ ويفهم أنها صحيحة ويفهم أنها راجحة ومع ذلك لا يستجيب فهذا يعني أنه معاند، والله ? بَيَّنَ في القرآن أنَّ منهم من لم يفقه أصلاً قوله كقوله ? {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} يعني أن يفهموه فهم الحجة كما فهمها من أراد الله ? هدايته. وهناك قسم آخر من فهم الحجة، الذي هو فهم اللسان. فهم اللسان هذا لا بد منه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] ، فلا بُدَّ أن يَفْهَمَ وجه الحجة باللّسان الذي يتكلم به. لكن ليس بلازم أن يفهم أَنَّ حجته هذه أرجح من الحُجَّةْ التي عنده، أو أنها أقوى من الشبهة التي عنده ونحو ذلك، المهم أن تُوَضَّحْ بشروطها الكاملة. وهذه يقوم بها العلماء فتختلف مسألة قيام الحجة وفهم الحجة بحسب نوع الشبهة التي تَعرِضْ، فمثلاً مسائل الإستغاثة بالله ? وحده وأن الإستغاثة بغيره شرك أكبر ليست في قيام الحجة وفي مسألة فهمها مثل مسألة طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مسألة ربما حَصَلْ فيها نوع اشتباه عند من لم يعلم، وتلك واضحة بيّنة. فإذاً مسألة قيام الحجة تختلف بإختلاف نوع قيام الحجة وكيف تُقَام الحجة وبِمَ تقام وتختلف بما يُبَيِّنُ المسألة إلى آخره. س2/ هل يجوز أن يُدعى بقول القائل: يا مجيب دعوة نوح أجب دعائي. ج/ هو سَأَلَ الله ? وتعرّض لذلك، فلا بأس. س3/ وهل يجوز نحو ذلك بقول القائل: يا مجيب دعوة إبليس أجب دعائي؟ ج/ هذا خلاف الأدب، فكونه ما يدعو إلا بهذا، هذا يدل على سوء أو على جهل؛ لأنه عليه أن يتعرض بما يناسب أنه يجيبه في الدعاء، ودعوة إبليس أُجِيْبَتْ امتحان وبلاء له لِيَعْظُمَ إثمه وإضلاله للخلق فيكون أعظم في عذابه هذا من الاعتداء في الدعاء ومن عدم الأدب مع الله ?. س4/ هل القول أنَّ العمل شرط في صحة الإيمان صحيح، وإذا كان غير صحيح نرجو ذكر السبب، وكذلك القول إن العمل شرط في كمال الإيمان؟ ج/ ينبغي إيضاح مسألة وأنا أوضحتها لكم عدة مرّات وفي شرح الطحاوية أيضاً فَصَّلْنَا الكلام فيها، في الواسطية. كلمة (شرط) لا يُدْخِلُهَا أهل السنة في الكلام على مُسَمَّى الإيمان. الإيمان له حقيقة، وحقيقته التي يقوم عليها هي أركانه وليست شروطه. الشرط يسبق المشروط، أما الأركان فهي ما تقوم عليه حقيقة الشيء. فإذا لم قامت الأركان فما قامت حقيقة الإيمان. فالإيمان قول وعمل: قول اللسان، تصديق الجنان، عمل الأركان. هذه أَرْكَانٌ للإيمان (القول والعمل والإعتقاد) وليست شروطاً؛ لأنَّ الشروط خارجة عن المسمى، والسلف أجمعوا على أنَّ مُسَمَّى الإيمان: الإعتقاد والقول والعمل. وبه تميَّزُوا عن باقي الفرق الأخرى. لهذا إدخال كلمة شرط تدل على عدم فهم حقيقة مَعْنَى الركن وحقيقة معنى الشرط. قبل أن يُبْحَثْ هل هو شرط كمال أو شرط صحة، هذا ليس بحثاً صحيحاً لأنه: - عندنا أنَّ العمل ركن في الإيمان. - عند الخوارج العمل شرطٌ في صحة الإيمان. - وعند المعتزلة أنه شرط في الصحة. عندنا ليست كذلك؛ بل العمل ركن من الأركان. إذا نظرت إلى أنواع الحكم التكليفي والحكم الوضعي وماهِيَّةْ المُسَمَّيَات التي تدل على الأسماء بَانَ لك أنَّ الركن هو ما يقوم عليه الشيء؛ يعني لا يمكن أن يُتَصَوَّرْالشيء إلا به. والشرط هو مُصَحِّحٌ للأركان، كيف؟ خذ مثلاً البيع، ما أركان البيع، هل تحفظها؟ هل تحفظ أركانه كذا وكذا حِفْظَاً؟ لا، هي مُتَصَوَّرَة، لأنَّ الركن هو ما تقوم عليه حقيقة الشيء، بدونه لا يمكن أن يقوم هذا الشيء، يعني يقوم مسماه. في البيع مثلا إذا قيل لك ما أركان البيع، ماذا تقول، أركان البيع ما هي؟ لا بد من بائع، -وإلا فمن الذي يبيع؟ - ولا بد من مشتري -صحيح؟ -. ولا بد من مُثْمَنْ -شيء يقع عليه البيع-   (1) انظر (360) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 ولا بد من صيغة تبادل -بعتك، اشتريت- إلخ. لكن الأخ قال: الثمن، هل الثمن من الأركان؟ يمكن أن يقع البيع -يعني صورة البيع تقع- بلا ثمنٍ موجود، يكون الثمن غير موجود أو يكون إلخ ... فالثمن من مقتضيات البيع لكن ليس ركناً، المهم المُثْمَنْ الذي يقع عليه البيع، السلعة التي تبايعوها. إذا أتينا للشرط، شروط البيع، شروط البيع إيش؟ هي مُصَحِّحَاتْ هذه الأركان. يعني مثلاً تقول البائع، إذا قلنا الشرط، الشرط ما معناه عند أهل العلم؟ شَرْطٌ يُصَحِّحُ أن يكون هذا الرّكن شرعياً. فالبائع ماشَرْطُهُ ليكون تصَرُّفُهُ شرعياً؟ أن يكون من أهل التصرّف إلخ ... طيب، المُثمَن -السلعة- ما شرط هذا الركن ليكون هذا مالاً يقع عليه المعاملة؟ يقول لك اشترطوا أن يكون معلوماً، أن يكون له مالية، ما يكون محرّم إلخ ... أن يكون مباح النفع إلخ ... إذاً فالشروط خارجة عن حقيقة الشيء وإنما هي لتصحيح الشيء. خذ مثالاً آخر الصلاة: حقيقة الصلاة تقع بالأركان، أركان الصلاة هل هي خارجة عنها أو فيها؟ هل فيه ركن للصلاة خاج عنها؟ كلّ الأركان في داخلها إبتداءً من تكبيرة الإحرام وإنتهاءً بالتسليمة، كلها في داخل مسمى الصلاة. لكن الشروط؟ يقول إستقبال القبلة، نأتي للطهارة قبْل، نجي للبقعة، يعني فيه أشياء قبل، وهناك النية تكون مُسْتَصْحَبَة إلى آخره. فإذاً في مسألة الإيمان -وأنا أوضحت لكم هذا في ما سبق لكن تأكيداً عليه-، الذي يتكلم في الإيمان وإذا تكلم عن العمل أتى بكلمة شرط فإنه لم يفهم مذهب السلف لأنَّ الشرط، لا يمكن أن تقول الإيمان قول وعمل وتقول العمل شرط. كيف يكون الإيمان قول وعمل، ويكون العمل شرط؟ الشرط خارج عن الحقيقة. فإذاً كانت حقيقة الإيمان قول وعمل، باتفاق السلف، بالإجماع، بإجماع السلف، حتى إن البخاري رحمه الله ذكروا عنه أنه لم يرْوِ في كتابه لمن لم يقل الإيمان قول وعمل. إذا كان الإيمان قول وعمل معناه هذه حقيقة الإيمان، فكيف يُجعل العمل شرط؟ فإذاً جعلنا العمل شرطاً معناه أخرجناه من كونه ركناً وجعلناه شرطاً للقول أو شرطاً للإعتقاد. فإما أن نَدْخُلْ في مذهب المرجئة أو ندخل في مذهب الخوارج والمعتزلة. وهذه مسائل مهمة تُبَيِّنُ لك ضرورة الاتصال بعلم أصول الفقه وتعريفات الأشياء حتى يُفْهَمْ معنى اللفظ ودلالته، وهذا كتفصيل للإجمال الذي به غَلَّظْنَا المُحَشِّي للطحاوية على حاشيته. (1) س5/ ما الفرق بين المشيئة والإرادة وهل تعلقهما واحد أم ثَمَّ تفريق بين الكوني والشرعي؟ ج/ هذا سؤال جيد ويدل على إدراك العلم إن شاء الله تعالى. مشيئة الله ? غير الإرادة من جهة أنَّ الإرادة تنقسم إلى قسمين والمشيئة نوع واحد. فمشيئة الله ? في النصوص واحدة، وتُفَسَّر بما يشاؤه كونَاً، يعني بما يريده كوناً، بما يأذن به ? أن يحدث في ملكوته كوناً. أما الإرادة فلها قسمان في ألفاظٍ أُخَرْ جاءت في الشريعة مثل الإذن، والكتابة، والقضاء، والأمر إلخ.. فالإرادة منها إرادة كونية، ومنها إرادة شرعية: الإرادة الكونية -وهي المشيئة-، لا تَعَلُّقَ لها بمحبة الله ? وبرضاه، يعني يريد كوناً ويشاء كوناً مما شاءه أشياء يحبها ? ويرضاها، ومما شاءه أيضاً وأراده كوناً أشياء يكرهها الله ?، لكن أَذِنَ بها في ملكه لحكمة. أما الإرادة الشرعية فهو ? لا يريد شرعاً، لا يأذن شرعاً إلا بما يُحبُّهُ ويرضاه، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر ولذلك لا يريد الكفر شرعاً وإن أراده وشاءه كوناً، وهكذا. يقول: هل تعلقهما واحد أم ثَمَّ تفريق بين الكوني والشرعي؟ التَّعَلُّقْ مختف لأنَّ الإرادة الكونية تعلقها بما يكون، يعني تعلقها بالحُكْمِ، بالخلق. والإرادة [الشرعية] (2) تعلقها بالأمر وبما شَرَعْ. والله سبحانه وتعالى فَرَّقَ ما بين الخلق والأمر فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] . فالخَلْقُ: هذا تعلق المشيئة والإرادة الكونية به. والأمر تعلق الإرادة الشرعية به. ولهذا يختلف هذا عن ذاك. س7/ هذا سؤال يقول ما الفرق بين الدعاء والمسألة؟ ج/ الدعاء قسمان: دعاء عبادة ودعاء مسألة. مَعْنَى دُعَاءْ العِبَادَةْ أنَّهُ يَتَعَبَّدُ الله ? لِيَرْجُوَ ثَوَابَهْ، سُمِّيَتْ العِبَادَةْ دُعَاءً لأنَّ كُلَّ مُتَعَبِّدٍ يَطْلُبُ بعبادته الثواب، فهو طَالِبٌ ضِمْنَاً، من صَلَّى فَهُوَ في عبادة، كُلُّ مَصِلٍ سَائِلْ لأنَّهُ يَسْأَل الثِّوَاب ورِضَا الله ? عنه إلخ، وإن لم يَقُلْ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِّيْ، اللَّهُمَّ أَثِبْنِي إلخ. أمَّا دُعَاءْ المَسْأَلَةْ، وهُوَ السُّؤَالْ: فَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدِيهِ ويَقُولْ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ كَذَا، هذا يُسَمَّى دُعَاءْ المَسْأَلَةْ.   (1) يقصد شعيب الأرناؤوط. (2) قال الشيخ حفظه الله: الكونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 والدُّعَاءْ في القرآن، في ما ورد في النصوص في القرآن والسنة تارةً يأتي بمعنى دعاء العبادة وتارةً يَأْتِيْ بِمَعْنَى دُعَاءْ المَسْأَلَةْ وتَارَةً يكون بما يحتمل هذا وذاك. فمما يحتمل هذا وهذا أو يشمل الأمرين معاً كقوله في الآية التي ذكرتها لكم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وكذلك قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . ودعاء المسألة كقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] دعوا هنا يعني إيش؟ ليس معناها عبدوا، بل معناها سألوا الله مخلصين في سؤالهم والسؤال من الدين. وما خُصَّ به العبادة كقوله ?: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ} [مريم:48-49] ، فقوله هنا في الأولى {تَدْعُونَ} وفي الثانية {يَعْبُدُونَ} دلَّ على أنَّ معنى الدعاء هنا هو العبادة. فإذاً في النصوص الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء العبادة ودعاء المسألة. ومعنى دعاء العبادة، يعني العبادات بأنواعها، ودعاء المسألة يعني السؤال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ، هذا يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، وهكذا. وفقكم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وعلى من اهتدى بهداه. الأسئلة: س1/ يقول: سمعت حديثاً أنه «ليس يتحسّر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة لم يذكروا الله تعالى فيها» (1) ، فهل هذا التحسُّرْ مما ينافي النعيم أو غير ذلك؟ ج/ لا يحضرني الحديث في تخريجه، وعلى القول أو على فرض ثبوته، فإنَّ التحسُّرْ في فوات المراتب العالية نقص ولكنَّهُ ليس عذاباً؛ لأنَّ الذي مُنِعَ أهل الجنة من أن يكون عليهم هو العذاب، أما النَّقص في النعيم بأنواعه، هذا حاصل، فإنَّ نعيم أهل الجنة ليس بمرتبة واحدة ولا بمنزلةٍ واحدة، يتفاوتون في النعيم البدني وفي النعيم البصري والسمعي وكذلك النعيم النفسي، يتفاوتون في ذلك بحسب مراتبهم، فإذا وُجِدَ التحَسُّرْ فهذا نقص؛ يعني بمعني فوت بعض النعيم، يعني يقولون: ليتنا ذكرنا الله ? في كل ساعة حتى تزيد أو ترتفع درجتنا. س2/ يقول: عندما يتكلم العلماء على مسألة الزيادة والنقص في الإيمان يأتون بعبارات مثل: إنه متبعِّضْ، وإنه متفاضَل، وإنه يذهب بعضه ولا يذهب أصله، وإنه يذهب بعضه ولا يذهب كله. فهل هذه العبارات مقصودة أم أنها تدلُّ على مسألة الزيادة والنقص؟ أم أنها تدل على معنىً زائد عن الزيادة والنقص؟ ج/ الذي ينبغي على طالب العلم إذا درس مسألة من مسائل العلم أن يبتدئ بأصول المسألة ويستوعبَها جيّداً؛ لأنَّ الأصول والمسائل الأولى في العلم أو في أي مسألة من المسائل قبل الدخول في التفصيلات هي التي عليها بناء هذا الباب أو بناء هذه المسألة. ولذلك قد يُكثر طالب العلم من القراءة فتدخل عليه مسائل في مسائل، خاصةً في العقيدة ويشتبه عليه التأصيل بالتفريق ويشتبه عليه المسائل التي هي عُقَدْ ويُبْنَى عليها العلم من المسائل التي هي من الإيضاح أو من اللوازم أو من الاستطرادات وأشباه ذلك. الإيمان عند جمهور أهل السنة والجماعة يزيد وينقص، وزيادته دلّ عليها القرآن كما هو معلوم في قوله: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وفي قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] ، وفي قوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] ، ونحو ذلك. وهذه الزيادة قال بها جميع أهل السنة؛ بأنَّ الإيمان يزيد، هذا إجماع من أهل السنة. لكن هل ينقص أم أنه يزيد ويقف ثمّ يزيد مرة أخرى؟ عامة أهل السنة، جمهور أهل السنة إلا ما ندر يقولون ما زاد فإنه ينقص؛ وذلك لأنَّ سبب الزيادة وعلة الزيادة هي الإيمان، فدلّ على أنَّ النّقص علته وسببه هو ضد شعب الإيمان التي هي المعاصي، فإذا عصى الله ? نقص إيمانه وإذا عَبَدَ الله ? وتَقَرَّبَ إليه زاد إيمانه. وهذا يدل عليه أيضا جمع من الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (2) ، وفي لفظ عند الإمام أحمد «إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلّة، فإذا ترك ونزع عاد إليه» (3) ، وهذا يدل على أنَّ فِعْلَ المعاصي سبب في زوال بعض الإيمان، وهذا هو معنى النّقص. (4) فإذاً الإيمان يزيد وينقص، هذا هو قول أهل السنة، يعني عامة أهل السنة، أكثر أهل السنة أو تقول كل أهل السنة إلا من ندر. أما مسألة التبعض فهذه متصلة -تذكرون الإيمان متبعض- هذه متصلة بمسائل الزيادة والنقصان ومسائل الأسماء والأحكام، يعني أنَّ الإيمان ليس شيئاً واحداً، إما أن يأتي ويثْبُتَ كله، وإما أن يذهب ويزول كلُّه، لأنَّ هذا هو قول الخوارج ومن شابههم؛ في أنَّ الإيمان شيء واحد إما أن يُوجَدْ وإما أن يزول، هو شيء واحد لا يقبل التفاضل، وكذلك المعين، هذا من جهة الحكم، ومن جهة الأسماء فإنَّ من ارتكب المعصية فليس بمؤمن عندهم لأنه ارتكب ما يَذْهَبُ معه أصل الإيمان فليس بمؤمن. فإذاً مسألة التبعض وأنَّ الإيمان يزيد وينقص، يتبعض، يذهب بعضه لا يذهب أصله، هذه المسائل متعلقة بمذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، ثُمَّ التبعض له علاقة بالأحكام والتكفير والأسماء التي تُطلق على مرتكب المعصية والكبيرة. فإذاً قولك في الأخيرة: هل تدل على مسألة الزيادة والنقص أم تدل على معنى زائداً على الزيادة والنقص؟ لا هي تدل على معنى زائد على الزيادة والنقص، لكن لها صلة بالزيادة والنقص، لأنَّ منبع الزيادة والنقص ومنبع التبعض واحد وهو أنَّ الإيمان ليس شيئاً واحداً، وإنما الإيمان قد يأتي وقد يذهب قد يزيد وقد ينقص بحسب الحال. س3/ يقول: قرأت كتاباً لأحد العلماء المعاصرين يقول فيه: إنَّ الوجه - وجه الرحمن- صفة ذاتية زائدة. فما المقصود بقوله ذلك؟   (1) المعجم الكبير (182) / شعب الإيمان (512) (2) سبق ذكره (412) (3) سبق ذكره (412) (4) نهاية الوجه الأول من الشريط الثاني والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 ج/ أنا لا أعلم، لكن أحياناً تُستعمل، المقصود بها زائدة على الذات، يعني للذهاب عن قول من يقول الوجه هو الذات، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] يعني وتبقى ذات ربك، فقد يكون مراده أنه زائدة يعني عن الذات، ليست هي الذات، صفة زائدة، توجد ذات ويوجد وجه للرب ?، لكنها ليست من العبارات المستعملة عند السلف. س4/ لما مُيِّزت نصوص الوعيد بميزة أنها تُمَرُّ كما جاءت؟ وهل تُلْحَقْ بها نصوص الرحمة في هذا الوصف؟ ج/ الوعيد الذي هو توعُّدٌ من الله ? للكافر أو للفاسق بالعذاب هذا حق، والله ? خبره صدق، لكن وعيده ? مع كونه حقاً وصِدْقَاً كما أخبر ? فإنه في حق المسلم الموحّد على رجاء الغُفْرانْ، وعلى رجاء العفو. ولذلك لا يُطَبَّقُ الوعيد في حق المعين؛ بل نقول: هذا الوعيد يُمَرُّ كما جاء ولا ندخل في تفصيلاته من حيث إنَّ هذا الوعيد لمن فعل كذا بالنار في تفصيلات هذا الوعيد، أو في تفصيلات المعيَّنْ الذي ارتكب شيئاً مما ينطبق عليه هذا الوعيد، الأصل أن نُمِرَّ ذلك كما جاء ونُبقيهِ وعيداً للتخويف والجزاء عند رب العالمين. ولهذا يقول العلماء: إخلاف الوعيد فضل وكرم، وأما إخلاف الوعد فكذب. ولهذا الله جل وعلا لا يُخلف وعده، {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] وَعْد الله مفعول لا بدّ منه، ما وعد به عباده فلا بدّ منه. أما وعيده سبحانه وتعالى، فإنه قد يَتَخَلَّفْ في حَقِّ المعين بفضل منه وكرم. وكما جاء في الحديث الذي في الصحيحين: أنه يوم القيامة يكون آخر من يُخرَجْ من النار أقوام «يُخْرَجُونَ من النار وقد امتحشوا، فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحِبة أو الحبة في جانب الشيء» (1) ، هذا بفضله ? فَيَخْرُجُ من النار أقوام لم يعملوا خيراً قط، ويغفر الله ? لمن يشاء سبحانه وتعالى. فإذاً الوعيد يبقى كما هو بدون تفصيل يُمَرْ كما جاء من جهة معناه ومن جهة من يتعلق به. ثُمَّ وعيد الله ? بالعذاب في الدنيا أو العقوبة في الدنيا، هذا متعلق بحكمته سبحانه وتعالى، وحكمة الله ? غالبة، لهذا يُثبَتُ الوعيد في حقّ الكافر من جهة الجنس لا من جهة المُعَيَّنْ حتى يموت على الكفر، فإذا مات على الكفر فإنّه يُقال فيه ما أوْعَدَهُ الله ?، لأنه قد جاء في الحديث الصحيح «حيث ما مررت بقبر كافر فبشّره بالنّار» (2) ، وهو في بعض السنن بإسنادٍ جيّد. وهناك قسم ثاني من الوعيد وهو وعيد الحكم وليس وعيد العذاب وهو مثل: «من أتى كاهنا لم تُقبل له صلاة» (3) ، «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمّد» (4) ، «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنزل على محمّد» (5) ، «لا يدخل الجنة قاطع رحم» ، «لا يدخل الجنة قتّات» (6) ، ونحو ذلك، هذا وعيدٌ في الاسم، في الحكم وليس وعيداً في نوع العذاب وأشباه ذلك. وهذا الوعيد هو الذي يكثر كلام السلف فيه، بأنه يُمَرُّ كما جاء، لماذا؟ لأنَّ الدخول في نوعية حُكْمِهِ، يعني هل هو كافر كفر أكبر أو أصغر؟ هل هو لا يدخل الجنة؟ يعني نقول له لأنَّ الغرض من الوعيد هو التخويف من هذه الأفعال حتى يرتدع العباد، فإذا دخل الناس في تفصيلاتها ولم يُمِرُّوهَا كما جاءت كأنه يضعف جانب الوعيد فيها. لكن لها تفصيل، مع كونه يُمَرْ كما جاء فإنَّهُ له تفصيل بحسب ما عند أهل العلم من الأدلة. فمثلاً نقول في «لا يدخل الجنة قتّات» نُفَرِّقْ بين الدخول الأول والدخول المتأخِّر، مثلاً «من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر» نقول مثلاً هذا كفر أصغر وليس بكفر أكبر، وأشباه ذلك من الأدلة التي فيها الوعيد بالحكم. وهذا يحتاج إلى أدلة أخرى لبيان معنى هذا الحديث أو معنى هذه الآية، وإلا فالأصل أن يُمَرْ؛ بمعنى لا يدخل العالم أو طالب العلم في تفصيله أو في تفسيره لأن الغرض منه التخويف. لهذا مثلاً في حديث: «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمّد» ، سُئِلَ عنه الإمام أحمد هل هو كفر أكبر أو أصغر فتوقف عن ذلك وقال -كما هي الرواية الثالثة أو القول الثالث- توقف وقال أقول كُفْر وبَسْ؛ يعني وسكت. وهذا لأجل أنَّ النَّصَ أَطْلَقْ والمقصود منه التخويف.   (1) سبق ذكره (436) (2) سبق ذكره (105) (3) مصنف عبد الرزاق (20349) (4) المسند (9532) / مسند الطيالسي (382) / مسند البزار (1873) (5) أبو داود (3904) (6) سبق ذكره مع ما قبله (351) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 والقول الأول أنه كفر أكبر، كما ينحو إليه قلة من أهل العلم، والقول الثاني أنه كفر أصغر مع أنَّ النص نص وعيد لكن دخل العلماء في تفسيره لأجل ورود الأدلة الأخرى، كما جاء في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة» ، وهذا من رواية الإمام أحمد وهي زيادة مقبولة قوية زائدة على ما في صحيح مسلم «من أتى كاهنا أو عرّافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تُقبل له صلاة» ، بدون زيادة «فَصَدَّقَهُ» ، فقد جاءت بإسنادٍ ثابتٍ صحيح بل هي أرجح في الزيادة من رواية مسلم ولذلك اعتمدها إمام الدعوة رحمه الله في كتاب التوحيد. المقصود أنه قال «فصدَّقَهُ لم تُقبل له صلاة» ، فكونه صلى الله عليه وسلم حدَّ عدم قبول الصلاة بأربعين ليلة دلَّ على بقاء الإسلام، لأنَّ الكافر إذا كَفَرَ من بعد إيمانه فإنه لا تُقبَلُ له صلاة مطلقاً، أما عدم قبول الصلاة أربعين ليلة، فهذا يدل على أنَّهُ مُسلم لكن عدم القَبُولْ لأجل عِظَمِ ما فعل، ثُمَّ لأجل الشبهة في حقه، الشبهة في حق من يسأل الكاهن، فإنه قد يقول: أنا لا أقول أنَّهُ يعلم الغيب ولا أعتقد أنه يعلم الغيب ولكن قد يُخبر بالشيء الذي تُخبرُهُ به الشياطين أو من يسترق السمع فتوجد شبهة تمنع من مأخذ التكفير. أما الساحر فيختلف عن الكاهن، الساحر هذا شيء آخر لأنَّهُ لا يسحر إلا بالاستعاذة والاستغاثة بشياطين الجن. س5/ هل دعاء: اللهم انصر جميع المستضعفين من المسلمين، أو دعاء ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا من باب التعدي في الدعاء بحيث إنَّ الأول قد كتبه الله في الأرض والثاني قال الله سبحانه كما في الحديث قد فعلت؟ والسؤال الثاني: هل اعتقاد القبوريين والصوفية في الأولياء وأنهم يملكون الشفاعة ونحوها ناشئ من الغلو في الدعاء أم ما هو سبب هذا الاعتقاد لديهم؟ ج / مسألة الاعتداء في الدعاء بحثنا فيها باختصار في الدرس الماضي، وهي مسألةٌ مهمة جداً ينبغي لطلاّب العلم أن يعتنوا بها لأنَّ الداعي إذا اعتدى في الدعاء فإنه يأثم، والاعتداء في الدعاء سبب لردِّهْ؛ بل من أعظم أسباب ردّ الدعاء أن يدعو العبد ربّه الجليل العظيم ويعتدي ولا يتأدَّبْ وهو يدعو. وبعض البشر وهُمْ مَنْ هُمْ في ضعف شأنهم وقلة حيلتهم؛ لكنهم إذا رأوا من يسألهم ويعتدي في السؤال فإنهم لا يصبرون وربما عاقبوا وربما نَفَرُوا؛ لأنَّ من حُسْنِ أو من أسباب الإجابة حُسْنِ السؤال حتى في حق المخلوق، والله ? هو المستحق لكل أدب من عبده وتَذَلُّلٍ من عبده وحُسْنِ السؤال وحُسْنِ الدعاء؛ ولهذا مبحث الاعتداء في الدعاء مما ينبغي على كل طالب علم أن يعتني به وخاصَّةً خطباء المساجد والأئمة الذين يدعون لأنفسهم وللمسلمين في القنوت وفي غيره. لهذا جاء مثل هذا السؤال لأجل الاهتمام بهذا الموضوع. قول القائل اللهم أنصر جميع المسلمين من المستضعفين هل هذا فيه اعتداء في الدعاء أم لا؟ هذا فيه حسن رجاء وظن بالله ?، وليس فيه اعتداء، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بنجاة المستضعفين فقال: «اللهم أنْجِ المستضعفين، اللهم أنْجِ فلانا وفلانا» ، والدعاء بنجاة جميع المستضعفين من المسلمين أو بنصر المسلمين جميعاً، هذا طَلَبْ والطلب قد يُجابْ بنحوه؛ يعني قد يُجابْ بنفس المطلوب وقد يُجَابُ بصورةٍ أخرى كما أوضحنا في الدرس الماضي، «ما من عبد يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال، إما أن يُعجل له دعوته، وإما أن يختبئها له يوم القيامة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها» وهذا يدل على أنَّ العبد إذا أعْظَمَ في الطلب فإنه هذا مع عِظَمِ الرجاء. الاعتداء في الدعاء لا يدخل في هذه اللفظة؛ لأنه لم يسأل سؤالاً فيه إثم، ولم يسأل سؤالاً ويدعو بدعاء فيه قطيعة رحم، ولا بشيءٍ مضادٍ لأمر الله ? في القرآن والسنة ولم يدعُ بدعاءٍ فيه مناقضة لحكمة الله ?. مثال ما يناقض الحكمة- مثلاً يقول القائل: اللهم دمر اليهود والنصارى أجمعين، اللهم اجعلهم كذا واجعل ... إلخ، وتدميرهم بأجمعهم هذا ينافي الحكمة التي أخبرنا الله ? بها أنه يؤخر هؤلاء حتى ينزل المسيح عليه السلام، فيُسْلِمْ النصارى ويُقتَلْ اليهود. فمثل هذا الدعاء العام هذا فيه مناقضة بما أُخبرنا منا الحكمة، وفيه -مثل ما ذكرت- اعتداء في الدعاء. ولهذا كان من دعاء عمر رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد والفقيه الأعلم، في دعائه أنَّهُ لم يكن يدعُ على جميع الكفار بأصنافهم من اليهود والنصارى وغيرهم، وإنما كان يدعو دُعَاءً مقيد –في القنوت- فيقول رضي الله عنه (اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك ويقاتلون أولياءك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وهذا مما يوافق قول الله ? في سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] . ومن البِرّ في حقهم عدم الدعاء عليهم، ومن البر في حقهم الدعاء لهم بالهداية ونحو ذلك، ثمّ قال ?: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9] ، هؤلاء هم الذين يُدْعَى عليهم وهم الذين يُنْتَصَرْ عليهم إلخ. أما الشِّق الثاني في ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا هل هو من باب الاعتداء في الدعاء: عدَّهُ بعض العلماء من الاعتداء في الدعاء كالقرافي في الفروق وغيره، وسبب ذلك أنَّ الله ? قال قد فعلت، والله ? أجرى هذا حُكْماً في أنه من نسي أو أخطأ فإنه لا يؤاخذه ولا يجعل عليه وِزْرَاً ?. فإذا دعوت وأنت عالم بأنَّ الله أعطى هذا فيقول هذا اعتداء لأنه أنت تدعو بشيء قد تَكَفَّلَ الله به فكأنك تقول إنَّ الله لم يتكفل به أو تشك في تَكَفُّلِ الله به. هذه وجهة القرافي ومن معه، وربما مال إليه بعض أهل العلم الآخرين. والقول الثاني وهو الصحيح أنَّ هذا ليس من الاعتداء في الدعاء لأنّ الذي عفا الله ? عنه أن يؤاخذه بالنسيان والخطأ هو المؤمن المُوَحِّدْ فهذا السائل لا يسأل بما يتعلق بإعطاء الله ? ولا بفعل الله ? وإنما يسأل أن يكون هو ممن أكرمه الله ? بالدّخول في زمرة المؤمنين الذين أعطاهم هذا الفضل والإحسان، فكأنه قال: اللهم ثبتني على الإيمان، اللهم لا تُزغ قلبي حتى لا يُؤاخَذْ بنسيانه أو بخطئه، وهذا هو المعتمد في مثل هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى.   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: يريد الطحاوي رحمه الله بهذه الكلمة إثبات صفات الله ? الفعلية الاختيارية المتعلقة بمشيئته وقدرته ?. وهذا هو الذي تَمَيَّزَ به أهل الحديث والأثر مخالفين في ذلك كل الفِرَقْ الأخرى التي لم تُثْبِتْ صفات الذات أو لم تُثْبِتْ صفات الأفعال الاختيارية التي تقوم بذات الرب ? إذا شاء الله ? ذلك، يعني منوطة بإرادته وقدرته كما سيأتي. وذلك أنَّ الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية والماتريدية، كل هؤلاء ينفون الصفات الفعلية الاختيارية على اختلافٍ بينهم في هذا النفي. فأراد الطحاوي رحمه الله أن يُقَرِّرْ أنَّ منهج السلف الصالح وأنَّ عقيدة الصحابة وأئمة الإسلام أنهم يُثبتون صفة الغضب والرِّضا على حدّ قوله ? {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . فكما أنّه ? يتكلم لا كأحدٍ من الورى، ويسمع لا كأحدٍ من الورى، ويُبصر لا كأحدٍ من الورى، وهو ? له الحياة كاملة لا كأحدٍ من الورى، وله الإرادة ? وله القدرة لا كأحدٍ من الورى، فكذلك هو ? يُوصَفُ بأنَّ له وجهاً لا كأحدٍ من الورى، وأنَّ له يدين لا كأحدٍ من الورى، وأنه سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه لا كأحدٍ من الورى، وأنه ? يغضب لا كأحدٍ من الورى، ويريد لا كأحدٍ من الورى، ويرضى لا كأحدٍ من الورى، ويحب لا كأحدٍ من الورى، ويسخط لا كأحدٍ من الورى. وهكذا في كل الصفات، فباب الصفات باب واحد كما سيأتي بيانه. إذاً فالطحاوي رحمه الله يريد بذلك أن يُقَرِّرَ هذه العقيدة، وأنَّ منهج السلف فيها كقولهم في غيرها من الصفات لا يُفَرِّقُونَ بين صفة وصفة. ثُمَّ هاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 [المسألة الأولى] : أنّ صفة الغضب وصفة الرِّضَى من الصفات التي ذُكِرَتْ في القرآن والسنة في آيٍ وفي أحاديث كثيرة. أمَّا القرآن فكقوله (في الرضا {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال ? أيضاً في الرضا {رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} (1) في غير ما آية. وقال (في الغضب {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] ، وقال ? {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ، وقال ?: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (2) ، وقال: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90] . ونحو ذلك من الآيات. أمَّا السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم في الرضا، في الحديث الذي فيه ذِكْرُ نعيم أهل الجنة، قال في آخره: لمّا سألهم قال: «هل أعطيتكم؟ قالوا نعم، قال فإني أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (3) ، إِحْلَالْ الرضوان، إحلال الرضا من الله ?. ونحوه في قوله «من لم يسأل الله يغضب عليه» (4) ، والأحاديث في هذا الباب معروفة.   (1) المائدة: 119، التوبة 100، المجادلة: 22، البينة 8. (2) البقرة:61، آل عمران:112. (3) البخاري (6549) / مسلم (7318) (4) سبق ذكره (596) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 [المسألة الثانية] : في قوله (يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، الغضب والرضا من الصفات التي يتّصف بها الرب ? إذا شاء. فَغَضَبُهُ سبحانه ورضاه متعلّق بمشيئته وقدرته. الغضب يحِلُّ ثمّ يزول، والرضا يحِلُّ ثُمَّّ يزول، وهكذا، يعني أنَّ الغضب ليس دائماً والرضا ليس دائماً وإنما هذا مُرْتَبِطٌ كجنسه في الصفات الفعلية بمشيئة الله وبقدرته. وهذا هو الذي قَرَّرَهُ أهل الحديث والأثر وأئمة أهل السنة واستدلوا لذلك بقول الله ?: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] ، فدلَّ على أنَّ الغضب يحِلّ بعد أن لم يكن حالَّاً، وحُلُولُهُ يَدُلُّ على أنّه متعلق بمشيئة الله ? لأنَّهُ ما شاء الله ? كان. فإذا شاء الله أن يغضب فإنه سبحانه يغضب وإذا شاء أن يرضى فإنه ? يرضى. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «أُحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده أبدا» ، دلَّ على أنَّ أهل الجنّة مَنَّ عليهم ? بأنه أحَلَّ عليهم رضاه فلا يسخط بعده عليهم أبداً، وهذا يدل على أنَّ الرضا متعلق بمشيئة الله ? وإرادته وقدرته سبحانه وتعالى. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في أنَّ الغضب والرضا صفات فعلية اختيارية للرّب ? ومن جنسها صفة المحبة والسَخَطْ والوَلَايَةْ والعداوة وأشباه ذلك فإنها تختلف ومتعلقة بمشيئة الله وقدرته. أما مذاهب المخالفين في هاتين الصفتين بخصوصهما: @ فإنَّ الجهمية ومن شابههم ممن ينفون الصفات أصلاً يجعلون الآيات والأحاديث التي فيها ذِكْرْ الغضب أو فيها ذِكْرْ الرضا أنَّهَا أسماء للشيء الذي سُمِّيَ غَضَبْ، يعني العقوبة هي الغضب والنعيم هو الرضا. فعندهم أنَّ هذه الأشياء مخلوقات منفصلة متعلقة بمن قيل عنه: إنه غُضِبَ عليه أو رضي الله عنه. فإذا نَعَّمْ فهذا رضاه، يعني نفس النعيم هو رضا الله ? ونفس العقوبة هي الغضب، وهذا مذهب الجهمية ومن شابههم. @ أما الكلابية وهم أوَّلْ من نفى هذه الصفات لأجل نَفْيِ تَعَلُّقِهَا بمشيئة الله وقدرته وتعليلهم لذلك بأنَّ إثباتها يقتضي أنّه ? محلَّاً للحوادث. ولهذا ذهبوا إلى أنَّ غضب الله ? واحد وأنَّ رضاه واحد، فغضبه عندهم قديم، من غَضِبَ عليه فإنه لا يرضى عليه أبداً، ومن رضي عنه فإنه لا يغضب عليه أبداً. فعندهم أنَّ غضب الله ? ليس له تَعَلُّقْ بعمل العبد أو بعمل العبيد وأنَّ رضاه ليس متعلقاً بعمل العبد أو بعمل العباد، وإنما هو شيءٌ واحد. ولهذا يقولون إنه مَنْ كان مِنْ أهل الجنة في العاقبة فإنه مَرْضِيٌ عنه ولو كان حال عبادته للوثن، ولو كان حال زناه، شربه للخمر -يعني قبل أن يُسلم-، ومن غَضِبَ الله عليه وكانت خاتمته النار والعذاب فإنه مغضوبٌ عليه ولو في حال صلاته وخشوعه وبكائه بين يدي الله في حال إسلامه. وهذا يعني: 1 - أنَّهُ إبطال للصفة. 2 - ثُمَّ أنَّهُ لا معنى حِيْنَئِذْ عندهم لكتابة الحسنات للمسلم ولكتابة السيئات على الكافر في حال إيمان الأول وكفر الثاني؛ لأنَّ الإنسان إذا أسلم فإنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فكيف يكون مَرْضِيَّاً عنه والملائكة تكتب عليه السيئات. ثُمَّ هذا المسلم يكون خاشعاً تُكْتَبُ له الحسنات، ثمّ تأتي الرِدَّة فيحبط عمله فيكون عندهم دائماً في حال الغضب وأشباه ذلك. وهذا خلاف ما دلَّتْ عليه الأدلة كما ذكرت لك في قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} ، «أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ، وأشباه هذه الأدلة. إذاً فعند الكلابية، وهو الذي ذهب إليه الأشعرية والماتريدية أنَّ صفة الغضب والرضا ونحوها من الصفات أنها صفات قديمة ذاتية، يعني أنها لا تتعلق بمشيئةٍ ولا إرادةٍ ولا قدرة بل هي قديمة، غَضِبَ وانْتَهَى ورَضِيَ وانتهى وليس ثَمَّ شيء يتجدّد بتعلقه بالآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 [المسألة الثالثة] : نقول: الذين تَأَوَّلُوا كابن كلاب ومن معه، على النحو الذي ذكرنا لك سالفاً، هم أول من أحْدَثَ هذا المصطلح وهو الصفات الذاتية والصفات الفعلية، وجعلوا الباب عندهم أنَّ إثبات صفات الفِعْلْ يعني حلول الحوادث بالرّب ?، وأهل السنة والجماعة استعملوا هذا التقسيم: الصفات الذاتية والصفات الفعلية على ما دَلَّتْ عليه النصوص. فَعُرِّفَت الصفات الذاتية بأكثر من تعريف وهو اجتهاد من العلماء، لكن لعله يكون من أقربها: - أنَّ الصفات الذاتية هي الملازمة للموصوف. - والصفات الفعلية هي الصفات غير الملازمة للمتصف بها، غير الملازمة للذات. ويُعْنَى بالمُلَازَمَةْ التي لا تنفك عن الذات الموصوفة بهذه الصفة. ففي حق الله ? نقول الوجه صفة ذات لأنه لا ينفك، فالله ? متصفٌ بهذه الصفة دائماً وأبداً وأنه سبحانه متصفٌ بالعظمة والكبرياء والجلال والنور وأشباه ذلك، هذه صفات ذاتية. والقسم الثاني الصفات الفعلية، وهذه الصفات الفعلية هي غير الملازمة، يعني التي تتعلق بمشيئة الله ? وقدرته واختياره سبحانه وتعالى، فليست ملازمة فإنها تكون في حال دون حال. والصفات الفعلية: - منها ما يكون دائماً صفة فعلية. - ومنها ما يكون آحاده صِفَةَ فِعْلٍ واختيار وأَصْلُهُ صفةَ ذات مُلازِمة. & مثال الأول صفة الغضب والرضا فإنها متعلقة بمن يغضب عليه وبمن يرضى عنه. & ومثال الثاني الكلام لله ?، فإنه سبحانه كلامه كما أنه قديم فإنه متجدد الآحاد. والشبهة التي أوقعت الكلابية [ .... (1) ] . لمَّا ترك الاعتزال الذي كان عليه في أوّل أمره، ذهب يبحث عن جوابٍ لأسئلة عنده قبل تركه للاعتزال، فوجد في جامِعٍ في بغداد أصحاب ابن كُلاَّب يتباحثون ومنهم من يُعَلِّم فجلس فأعجبَه كلامهم لأنهم كانوا يَرُدُّونَ على المعتزلة، فأخذ مذهب الكُّلَّابِيَّة وهو المذهب الذي دَرَج عليه أصحابه -أصحاب الأشعري-، ثمّ مَرَّ عليه زمن في ذلك وصنّف في مذهبهم مصنفات، ثم نظر في قول أهل الحديث فرجع إليه فصار آخر أمره على أنّه من أهل الحديث كما هو مُقَرَّرْ في كتبه كالإبانة ومقالات الإسلاميين ورسالة أهل الثغر أو رسائل أهل الثغر وغيرها. المقصود من هذا أنَّ هذه المدرسة الكلابية الأشعرية الماتريدية في هذه المباحث، مباحث الصفات رأيهم واحد وشُبْهَتُهُم في نفي الغضب والرضا والحب والبغض والعداوة وأشباه ذلك كالولاية، أنه إذا أُثْبِتَتْ مُتَعَلِّقَة بالمُعَيَّنْ فإنه يعني ذلك أنَّ يكون الله ? مَحَلَّاً للحوادث مَحَلَّاً للمُتَغَيِّرَات، كيف؟ قال ابن كُلَّاب ومن معه إنه إذا قلنا إنها متغيرة متجددة، يغضب ثُمَّ يتغَيَّر فيرضى على هذا ثُمَّ يغضب على هذا ثمّ..إلخ، فمعناه أنَّ ذاته ? تتغيَّرْ. وهذا منهم لأنَّهُم قَعَّدُوا قاعدة، وهذا الكلام بناءً عل تلك القاعدة لا يستقيم. فلهذا وَجَبَ مناقشتهم في الأصل الذي بنوا عليه هذا النفي -هل الله محل الحوادث أو لا؟ فيُقال لهم أولاً هذه الكلمة (محلّ للحوادث أو غير محل للحوادث) ، هذه لماذا أتيتم بها، ولماذا قلتم هذا الكلام؟ فيقولون: إنَّا قلناه لأننا أَثْبَتْنَا وجود الرّب ? وأنَّهُ سبحانه موجود ورَبْ وخالق للأشياء عن طريق ما أسموه حُلُولْ الأعراض أو نظرية أو قاعدة حلول الأعراض في الأجسام. ما معنى هذه النظرية؟ نَظَرَ، وهي التي أتى بها جهم بن صفوان رأس الجهميّة الضالّة -وقد سبق أن أوضحتها لكم مُفَصَّلاً (2) ، نختصرها في هذا المقام-، لمَّا تَفَكَّرَ جهم في الدليل على وجود الله ? وعلى أنَّ هذه الأجسام مخلوقة، قال: الجسم المعين فيه صفات تَتَغَيَّرْ، والجسم لم يَخْتَرْ هذه التغيرات. ما هذه الصفات التي تَتَغَيَّرْ؟ قال: الصفة؛ صفة البرودة، الحرارة، صفة كثافة الجسم، امتداده وضآلته، نوعية الجسم، ارتفاعه، انخفاضه إلخ ... فهذه أشياء لا يختارها الجسم بنفسه؛ بل هي حَالَّةٌ فيه. فكونها حَلَّتْ فيه دَلَّ على أنَّهُ هناك مُؤَثِّر جعلها تَحُلُّ في هذا الجسم. وهذا يعني أنَّ الجسم مُحْتَاجٌ إلى غيره، لأجل حلول هذه الأشياء فيه. فإذا كان محتاجاً، فإنه إنما احتاج لمن لا يحتاج، وهو الرّب ?. فَثَبَتَ عندهم أَنَّ الجسم مخلوق من جهة هذه الأشياء التي أَسْمَوهَا حلول الأعراض في الأجسام أو حلول الحوادث في الأجسام. فَثَبَتَ عندهم وجود الله ?، وأنّه خالق الأجسام، وأنّه هو المستغني، وأنَّ هذه الأجسام مُحْتَاجَة مُحْدَثَةْ بهذا الدليل الذي هو في أصله غلط ومخالف للكتاب والسنّة، والتفكير فيه وأنّه هو دليل وجود الله ? تفكير فيما لم يدل عليه نص لا من القرآن ولا من السنّة.   (1) انقطاع في الصوت. (2) انظر ص 131، 398، كذلك ذكر الشيخ هذه النظرية بتفصيل في الشريط الثامن من شرح العقيدة الواسطية للشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 وإثبات وجود الله ? موجود في القرآن والسنة، فَهُمْ ذهبوا عن الكتاب والسنة إلى العقل فهداهم عقلهم الخاطئ إلى برهان غلط من أصله، وإن ثبتت به نتيجة مؤقتة؛ لكنها فيما يترتب عليها غلط فادح. لهذا في القرآن، الدليل على وجود الله مختلف عن هذا {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] هنا عندنا احتمالان: هل خُلِقْتَ من غير شيء؟ هذا احتمال. هل أنت الخالق لنفسك؟ هذا احتمال. هل الإنسان هو الذي خلق السماوات والأرض؟ (1) ، : [[الشريط الثالث والأربعون]] : أو يكون أنَّهُ هذه الأشياء كلها مخلوقة. والسَّبْرْ والتَّقْسِيمْ يعطيك النتيجة الصحيحة لأنَّهُ برهانٌ عقلي. كذلك التفكير في الآحاد {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:57-58] . هذه أدلَّةْ خلق الله - عز وجل -، الذي خلق فهو القادر على البعث {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} . ما دليل صدق أنَّ الله - عز وجل - هو الذي خلق؟ {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68-69] ، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة:71-72] . إذاً فتفكير الإنسان في ضعفه وأنَّ الأشياء مُسَخَّرَةٌ له، وأنَّهُ لم يَخْلُقْ نفسه ولم يَخْلُقْ ولده، وإنما جَعَلَ الله - عز وجل - الخلق في أتفه الأسباب وهو هذه النطفة المُحتقرة التي تُماطُ كالأذى؛ ولكن جَعَلَ الله - عز وجل - فيها سرّ الخلق ليُبيِّنْ للإنسان أنَّهُ أعجز ما يكون عن الخلق؛ لأنَّ الله أودع في هذا الشيء المُحْتَقَرْ أو في هذا الشيء الذي هو كالأذى أسرار الخلق. فإذاً البرهان على وجود الله - عز وجل - في كل شيء: وفي كل شيء له آية ****** تدلّ على أنَّهُ الواحد. أولئك الجهمية ذهبوا إلى برهانٍ آخر فأصَّلُوا ذلك. لمَّا أتوا إلى إثبات الصفات وافَقَ جهم المعتزلة ووافَقَهُ على هذا البرهان الكلابية ووافقه عليه الأشاعرة والماتريديّة. مثلاً الكلابية جاؤوا في الصفات، في صفة الغضب والرضا -ولا نطيل في البحث-، لمّا أتوا إليها قالوا: لو أثبتنا صفة الغضب والرضا لكَانَ مَحَلَّاً للحوادث. طيب، إذا كان مَحَلَّاً للحوادث -هذه اللفظة لم تأت في الكتب ولا في السنة-، إذا كان مَحَلَّاً للحوادث فما النتيجة؟ النتيجة أنَّهُ يَبْطُلُ الدليل على وجود الله - عز وجل -، والدليل العقلي على وجود الله - عز وجل - هو الأصل الأصيل الذي لا يجوز أن يُتَعَرَّضَ له بشيء، وإذا كان شيء يُضْعِفُ أو يُبْطِلُ ذاك الدليل الذي هو دليل الأعراض، فإنَّهُ يجب إبطال ما يُضْعِفُهُ أو ما يُضَادُهُ، لا أن يُبْطَلَ أصل الدليل. لهذا أتوا إلى هذه المسألة في الغضب والرضا وقالوا هذا معناه أنَّهُ محل للحوادث إذا كانت الأشياء بمشيئته واختياره، فَنَفَوا هذه الصفة. فإذا أنتم أثبتم صفة الحياة، صفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة السمع وصفة البصر وإلخ ... فكيف أثبتموها؟ قالوا: تُثْبَتُ بالدليل العقلي إمَّا بمطابقته أو بلزومه كما هو معروف في أدلتهم للصفات التي أثبتوها. إذاً في الحقيقة، أنَّ الذين عناهم الطحاوي رحمه الله بقوله (واللهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، أننا نُثبِتْ الصفة ونَنفي مماثلة الرّب - عز وجل - لأحدٍ من خلقه في اتصافه بهذه الصفة. ففيها رد على الكُلَّابِيَّة والأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم من الفِرَقْ المختلفة. أنا اختصرت لكم الكلام السابق، لكن تفصيله في عددٍ من الشروح التي شرحتها لكم، في الحموية ممكن والواسطية، وفي عدد فصَّلنا هذه المسألة لأنَّهُا مهمّة في مسألة نفي الصفات.   (1) نهاية الشريط الثاني والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 [المسألة الرابعة] : أنَّ الذين لا يُثْبِتُونَ صفة الغضب والرضا كَصِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ اختيارية، يَتَأَوَلُوَنها بإرادة الانتقام والعذاب في الغضب وإرادة الإنعام والإحسان في الرِّضَى. فيقولون: إنَّ الغضب: هو إرادة الانتقام والعذاب، فجعلوها صفة الإرادة. الرضا: هو إرادة الإحسان والإنعام. لماذا أَوَّلْتُمُوها إلى صفة الإرادة؟ قالوا: لأنَّ صفة الإرادة صفةٌ ثابتةٌ بالعقل، فوجب رَدْ هذه الصفة التي لا يَصْلُحُ أن يُوصَفَ الله - عز وجل - بها إلى ما دلَّ عليه الدليل العقلي. فصفة الإرادة نعم دلَّ عليها الدليل العقلي، هذا صحيح، كما دلَّ عليها الدليل السمعي. ولكن تَسْمِيَتُكُمْ لهذا تأويلاً هو في الحقيقة نَفْيٌ للصفة؛ لأنَّ صفة الإرادة دلَّ عليه العقل ودلَّ عليها السمع كما عندهم، فكونكم تقولون: لا يتصف بالغضب، لا يتصف بالرضا وإنما يتصف بالإرادة، الإرادة أقسام: إرادة غضب، إرادة انتقام، إرادة إحسان، إرادة خلق إلخ ... لكن هي تبقى صفة إرادة. فإذاً لمَّا أَوَّلُوا الغضب والرضا بالإرادة، فإنَّهُم -يعني- ينفون صفة الغضب والرضا. ولهذا في الحقيقة الذي يتأول الصفة بصفة أخرى فإنَّهُ ينفي الصفة، فكل مُتَأوِّلٍ نافٍ للصفة التي يقول أنَّهُا لا تصلح في حق الله - عز وجل -. ولهذا يَدْخُلُ في نُفَاة الصفات عند السلف -مسمى نُفاة الصفات-، يدخل فيه الجهمية الذين ينفون جميع الصفات، والمعتزلة الذين ينفون جميع الصفات إلا ثلاث صفات، ويدخل فيه الكلابية الذين ينفون جميع الصفات إلا صفات سبع ومعهم الأشاعرة، ويدخل فيهم الماتريدية الذين ينفون جميع الصفات إلا صفات ثمان، وهكذا، فمسمى نُفاة الصفاة يدخل فيه كل هذه الفرق، في بعض الأحيان. وهذا في الحقيقة تَعَدٍّ على الشريعة وعلى النَّصْ لأنَّهُم ينفون -وحاشانا من ذلك- ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. فهل يتجاسر مسلم على أن ينفي شيئاً وصف الله - عز وجل - به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول لهم: الله يغضب؟ يقولون: لا يغضب. تقول: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] . يقولون لم يغضب عليه وإنما أراد به الانتقام وهكذا. لكن لأجل الشُّبْهَة عندهم فإنَّهُم يكونون من أهل البدع لعدم متابعتهم للسلف في هذه المسائل وإحداثهم لبدعة التأويل في هذه النصوص الغيبية ولا يُكَفَّرُونَ في تأويلهم لأجل الشبهة التي عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 [المسألة الخامسة] : قوله هنا (لاَ كَأحَدٍ مِنَ الوَرَى) ، يعني لا كأحدٍ من الخلق، فإنَّ غضب الإنسان يناسبه ورضا الإنسان يناسبه، وغضب الرب - عز وجل - ورضاه ومحبة الرب - عز وجل - وبُغْضُهُ سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الصفات هذا بما يليق بجلاله - عز وجل - وعظمته. فالصّفات تناسب الذات، صفات الإنسان تناسب ذاته الحقيرة الوضيعة -الحقيرة يعني لا باعتبار أنَّهُ مُكَرَّمْ، الحقيرة بإعتبار ضآلته وضعفه وحاجته، وإلا فهو مُكَرَّمْ -، صفة الإنسان تناسب ذاته الضعيفة الفقيرة المحتاجة، وصفة الرب - عز وجل - تناسب ذاته الكاملة العَلَيَّة الجليلة الجميلة - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. فإذن بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات، فذات الرب - عز وجل - لا يمكن أن تُقَارَنْ ذات المخلوق بها بأي شكل من الأشكال فكذلك صفاته - عز وجل - لا يمكن أن تُقَارَنْ صفات المخلوق بها. إذا تَبَيَّنَ ذلك فإنَّهُ إذا أُطْلِقَ لفظ الصفة: غضب، رضا، محبة، إلخ ... فإنَّ بعض الناس يأتي في ذهنه معنىً للغضب، يأتي في ذهنه معنً للرضا، وذلك لأنَّ الإنسان لم يستقبل المعاني إلا لمَّا رأى المُسَمَّيَات. يعني لم يفهم الشيء إلا لمَّا رأى صورةً أمامه جعلت المعنى يرتبط في ذهنه بهذه الصورة، وإلا في الحقيقة فإنَّ هناك ثلاثة أشياء في أبواب الصفات: 1- الشيء الأول: المعنى الكلي للصفة. ما معنى المعنى الكلي؟ يعني غير المتعلق لا بالرب - عز وجل - وغير المتعلق بالإنسان بالمخلوق، معنىً كلي. هل في الحقيقة، في الحياة، هل في الوجود هناك معنىً كُلِّيْ تراه يمشي أمامك؟ إنَّمَا المعاني الكلية من اللغة ودلالات الألفاظ من حيث المعنى هذه إنما موجودة في الذهن للتَّصَوُّرْ. هذا التَّصَوُّرْ لا يُدركه كل أحد لأنَّ جمهور الخلق إنما يتَصَوَّرُونَ من المعاني بعد رؤية الصّور التي تدلهم عليها. فلا يَتَصَوَّرْ شيئاً لم يره؛ لأنَّهُ لا يمكن أن يتصور شيء، قدرته ما تستوعبه. 2 - الشيء الثاني وهو الصفة، أو هذا المعنى الكلي المضاف إلى الله - جل جلاله -. 3- الشيء الثالث: المعنى الكلي المضاف إلى المخلوق المُعَيَّن. فإذا أُضيف المعنى الكلي إلى المخلوق فإنَّهُ في الحقيقة لا يبقى كليَّاً وإنما لابد أن يَتَخَصَّصَ بشيء. يَدُلُّ عليه أنك ترى في السمع مثلاً فإنَّ البعوضة لها سمع وبصر، والإنسان له سمع وبصر، هل نقول هنا: السمع والبصر هو كلي في الإنسان وفي البعوضة؟ لا، وإنما هو كُلِّيْ من جهة فهمك لمعنى السمع ومعنى البصر. فإذا كان عندك قدرة لاستيعاب المعاني الكلية دون تأثيرٍ لما ترى وما تسمع للمعاني والقواعد التي في ذهنك، فإنَّهُ يمكن أن تتصور المعاني الكلية، وإلا فإنَّهُ في الخارج، في الواقع، في الحياة، لا يوجد إلا مُخَصَّصْ. تقول: سمع الإنسان وبصر الإنسان، سمع المخلوق، سمع البعوض وبصر البعوض، سمع الفيل وبصر الفيل، سمع الوطواط وبصر الوطواط، وهكذا ... الغضب والرضا، المولود الذي وُلِدَ أليس عنده أساس من الرضا والغضب؟ يرضى عن والديه فيفرح ويبتسم، ويغضب فيُعَبِّرْ بطريقةٍ أخرى. هل تعبير الطفل في غضبه ورضاه هوكتعبير أبيه في غضبه ورضاه؟ لا، بل الإنسان في نفسه لمَّا كان طفلاً فإنَّهُ يُعَبِّرُ عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار شاباً يُعَبِّرُ عن غضبه ورضاه بشيء، وإذا صار كهلاً وشيخاً فإنَّهُ يُعَبِّرُ عن رضاه وغضبه بشيء. وهذا يدلّك على أنَّ هذه المعاني لا يمكن أن تُنْفَى عن الله - عز وجل - وهذه الصفات بإعتبار النظر للمخلوق، لأنَّهُ أصلاً المخلوقات تختلف في حياتها وتختلف في آثار الغضب والرضا، وكيف يغضب ومتى يغضب وإلخ ... فإذا كان المخلوق يختلف فالله - عز وجل - له المثل الأعلى والصفات العليا. * وهذه قاعدة مهمة تستمسك بها في الرد على المتأولين للصفات والخائضين في عموم الغيبيات، فاستمسك بها وادرسها شيئاً فشيئاً فإنَّهُا مهمة. لهذا نقول: إنَّ الذين يقولون الغضب والرضا هو الإرادة نَفَوا الصفة ونَفْيُهُمْ لهذه الصفة لأجل اتصاف المخلوق بها هذا تَعَدٍّ على النص، وأيضاً جَهْلْ بالعقليات على الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الأسئلة : س/ هل المعتزلة والكلابية في تأويل تلك الصفات مجتهدين عند تأويلها، وإذا كانوا مجتهدين فهل يُنْكَرُ عليهم وهل يحصل لهم ثواب على اجتهادهم لقوله عليه السلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر» (1) ؟ ج/ أولاً هم مجتهدون نعم؛ لكن لم يُؤْذَنْ لهم في الاجتهاد، لأنَّهُم اجتهدوا بدون أن يأذن لهم الشرع بالاجتهاد. فالاجتهاد يكون في المسائل التي له فيها أن يجتهد، أمَّا مسائل الغيب والصفات والجنة والنار والشيء الذي لا يُدْرِكُهُ الإنسان باجتهاده فإنَّهُ إذا اجتهد فيه فيكون تعَدَّى ما أُذِنَ له فيه، والمُتَعَدِّي مُؤَاخَذ. ولهذا هم لاشك أنَّهُم ما بين مبتدع بدعته كُفْرِيَّة وما بين مبتدع بدعته صغرى، يعني بدعة معصية. والواجب على كل أحد أن يعلم أنَّ اجتهاده إنما يكون فيما له اجتهاد فيه، وهذا يختلف باختلاف الناس فيها، علماء الشريعة يجتهدون في الأحكام الشرعية، الأحكام الدنيوية التي فيها مجال الاجتهاد، أما الغيب فلا مجال فيه للاجتهاد ولم يُؤْذَنْ لأحَدٍ أن يجتهد فيه بعقله. لكن إنْ اجتهد في فهم النصوص في حمل بعض النصوص على بعض، في ترجيح بعض الدِّلَالاتْ على بعض، هذا من الاجتهاد المأذون به سواء في الأمور الغيبية أم في غيرها. لكن أن يجتهد بنفي شيء لدلالَةٍ أخرى ليست دلالة مصدر التشريع الذي هو الوحي من الكتاب والسنة، -في الأمور الغيبية مصدر التشريع الكتاب والسنة- فإنَّهُ ليس له ذلك. فلذلك لا يدخل هؤلاء من المعتزلة والكلابية ونفاة الصفات أو الذين يخالفون في الأمور الغيبية لا يدخلون في مسألة الاجتهاد وأنَّهُ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطا فله أجر، وإنما هم مأْزُورُونَ لأنَّهُم اجتهدوا في غير ما لهم الاجتهاد فيه، والواجب أن يُسَلِّمُوا لطريقة السلف وأن يُمِرُّوا نصوص الغيب كما جاءت وأن يؤمنوا كما دَلَّتْ عليه. لهذا نقول: قد يكون لهذا المبتدع أو لهذا الموافق للمبتدعة أو لهذا المُتَأَوِّلْ أو لهذا المتكلّم في الغيب برأيه وعقله مع وزره وإثمه وبدعته، قد يكون لهم من الحسنات ما يمحو تلك السيئات؛ لأنَّ البدعة والتأويل وأشباه ذلك معصية، بدعة صغرى معصية وكبيرة من جنس غيرها من الذنوب -يعني من جنس غيرها بأنَّهُ يأثم فيها- لكنها هي أعظم لأنَّ جنس البدع أعظم من جنس الكبائر والذنوب، قد يكون له حسنات عظيمة مثل مقام عظيم من الجهاد في سبيل الله، أو نُصرة للشريعة في مسائل كثيرة ونحو ذلك، ما يُكَفِّرُ الله - عز وجل - به خطيئته أو تكون حسناته راجحة على سيئاته، ولكن من حيث الأصل ليس له أن يجتهد، وهو آثمٌ بذلك؛ لكن ربما يكون عَفْوُ الله - عز وجل - يدركه. ولهذا لمَّا ذكر ابن تيمية في أول الواسطية -وهذه مهمة- قال: هذا اعتقاد الفرقة الناجية الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة. وعقدوا له المحاكمة على هذه العقيدة قالوا: ما تعني بقولك الفرقة الناجية؟ قال يعني الناجية من النار. قال: هل يعني هذا أنك تقول إنَّ من لم يؤمن بهذه العقيدة ويقول بها بجميع ما أوردت أنَّهُ من أهل النار؟ قال: لم أقل هذا ولا يلزم من كلامي لأنَّ هذه العقيدة هي عقيدة الفرقة الناجية الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة فمن اعتقدها فهو موعود بالنجاة وبالنصر، موعود بالنجاة من النار، «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (2) ومعلوم قطعاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يكن عندهم تأويل ولا خوض في الغيبيات باجتهاد ورأي، وأنَّ من لم يعتقد هذا الإعتقاد فهو على ذنب، وقد يغفر الله له فلا يُدخله النار لا يعذبه بالنار ابتداء يغفر له الله؛ لأنَّ هذا دون الشرك؛ وقد يغفر الله - عز وجل - له بحسنات ماحية، وقد يغفر الله - عز وجل - له بمقام صدق في الإسلام كجهاد ونحوه إلى آخره؛ لكنه مُتَوَعَّدْ لأنَّهُ أتى أو قال بغير دليل. لهذا ليس لأحدٍ أن يجتهد في الغيبيات بما لم يُوقَفْ فيه على دليل. س2/ أليس الغضب والرضا مُتَعَلِّقْ حصوله بِمُسَبَّبات، ليس كما قَرَّرْنَا إنَّهُ متعلق بالمشيئة والقدرة، فإذا حصل سبب الرضا حصل رضا الله - عز وجل -، فمثله يُقَالُ في الغضب، فيُقَال رضا الله أو غضبه متعلقٌ بمشيئته إذا حصل السبب، وضح لي ما اشتبه عليَّ. ج/ هذا الذي تفضل به أو ذكره السائل غير خاص بالغضب والرضا، كلها يعني المغفرة متعلقة بسبب، الرحمة متعلقة بسبب، إجابة الدعاء متعلقة بسبب، كلام الله - عز وجل - تنزيله القرآن متعلقٌ بسبب {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، هذا متى صار؟ بعد أن تكلمت وجادلت. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَأنَّهُمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] ، هذا بعد سبب.   (1) سبق ذكره (347) (2) سبق ذكره (344) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 إذاً فتعليقه بالسّبب الذي من العبد ليس هو بحث في الصفات البحث المراد، إنما المُرَاد أنَّهُ يتّصف الله - عز وجل - بهذه الصفة إذا شاء سبحانه وتعالى، إذا شاء سبحانه وتعالى فإنَّهُ يتصف بها؛ يعني إذا أراد الله - عز وجل - أن يغضب غَضِبْ، وقد لا يغضب، فلا يلزم من وقوع الشيء الذي يغضب عليه الله - عز وجل - أن يغضب سبحانه وتعالى بل قد يغضب وقد لا يغضب، وإذا وقع ما يرضى عنه - عز وجل - فإنَّ رضاه سبحانه وتعالى متعلق بمشيئته وقدرته. أما الأسباب من العبد فهذه في الجميع. س3/ هذا يقول: صفة الغضب والرضا كصفة الكلام قديمة الأصل متجددة الآحاد، هل يقال بهذا؟ ج/ الكلام يختلف عن صفة الغضب والرضا، كلام الله - عز وجل - منه الكلام الكوني الذي به تُكُونْ المخلوقات، فالله - عز وجل - خلق الماء بكلامه الكوني، وخلق العرش بكلامه الكوني - عز وجل -، وخلق الهواء بكلامه الكوني، وخلق القلم بكلامه الكوني، وخلق اللوح المحفوظ بكلامه الكوني، خلق السموات والأرض ومن فيها من المكلفين وما فيها من المخلوقات ومن يغضب عليه ويرضى عليه بكلامه الكوني. الغضب والرضا صفةٌ فعلية تقوم بمشيئته - عز وجل - وبقدرته، أما أنَّهُا كالكلام في هذا فلا أعلم هذا ممن قرره أهل العلم بأنَّهُا قديمة النوع حادثة الآحاد، أنا لا اعلمه ممكن نبحثها زيادة أو يبحثها أحد الإخوان ويفيدنا فيها. شيخ الإسلام له رسالة مستقلة ترى في المسألة ممكن إني أُرَاجِعْهَا، اللي هي رسالة في الصفات الاختيارية، [ ....... ] تعرفونها؟ ليست في الفتاوى، مستقلة في مجموعة الرسائل التي طبعها الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله، أول رسالة فيه رسالة في الصفات الاختيارية وبحث كل هذا، يمكن مراجعتها ونجدد المعلومة في الدرس القادم إن شاء الله. س6/ يقول: نرجو من فضيلتكم -وتقرأه على ما هو عليه- التعليق على هذه الكلمة، إلى آخره. ج/ الكلمة أعرفها، وأعرف من قالها وهذه الطريقة في الأسئلة أنا لا أحبها من قديم، الواحد لا يأتي يعني يأخذ المتكلم أو يأخذ الشيخ أو المعلم يسأله عن كلمة لا يُعْرَفْ. هُوَ ربما لا يَعْرِفْ من قالها، ثُمَّ يُقَال أنَّ فلان يقول في الشيخ الفلاني كذا وكذا، هذه كلمة معروفة يعني أُثِيْرَتْ هذه الأيام، لهذا ينبغي أن يكون السؤال واضحاً حتى يكون الجواب واضحاً. المقصود أنَّ كون الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أم لا، فبعض علماء الحنابلة المتأخرين أو أكثر المتأخرين ممن صَنَّفُوا في عقيدة السلف وهم لم يُحَقِّقُوا في هذا الأمر عَدّوا أهل السنة والجماعة ثلاثة فئات: أهل الحديث والأثر، والأشاعرة، والماتريدية. مثل ما فعلها السَّفَاريني وفعله أيضاً غيره، وهذه مشت على كثيرين وتبنَّاهَا أخيراً بعض الجماعات الإسلامية وَوَسَّعُوا الكلام فيها كما هو معلوم. ولكن في الحقيقة كلمة أهل السنة نعم، الجميع من أهل السنة ولاشك؛ لأنَّهُم جميعا يحتجون بالسنة ويؤمنون بها إلى آخره؛ لكن كلمة الجماعة كُلٌّ يدعيها، فالأشاعرة يقولون نحن أهل السنة والجماعة، الماتريدية يقولون نحن أهل السنة والجماعة، وربما لا يُفَرَّقْ بينهما فالجميع يقولون أهل السنة والجماعة يعنون الأشاعرة والمارتريدية، وأهل الحديث والأثر يقولون نحن أهل السنة والجماعة إلخ.. لكن إذا نظرت للحقيقة، كُلٌ يَدَّعِي وَصْلَاً بالجماعة؛ لكن هل يصح ادِّعَاؤُهُ أم لا يصح؟ كلمة (الجماعة) هنا معناه الذي لم يُفَرِّقْ في الدين، ما كانت عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة والتابعون، فهل أقوال هؤلاء فَرَّقَتْ في الدين، وهل هي على ما كان عليه الأوائل أم لا؟ إذا أتى الجواب جاءت النتيجة، فإذا كان فعلاً هم على ما كان عليه الأوائل؛ يعني الأشاعرة ونحوهم وبعض الفرق الموجودة الآن والجماعات الإسلامية وغيرها، إذا كانوا على ما كان عليه السلف فحافظوا على الجماعة الأولى ممن لم يُفَرِّقُوا بين دليل ودليل خاصة في الأمور الغيبية في مسائل العقيدة، ولم ينفوا شيئاً بل أثبتوا كما أثبت الله - عز وجل -، فإنَّ هؤلاء من الجماعة، لكن إذا كانوا يُفَرِّقُونَ ويَتَأَوَّلُون ويَتَعَرَّضُون للغيبيات بما يتعرضون له؛ بل يخالفون في معنى كلمة التوحيد، في أول واجب، وفي الإيمان يخالفون وفي القدر يخالفون، وفي الصفات يخالفون، وفي مسائل أُخَرْ أيضاً في العقيدة يخالفون ما كان عليه السلف كيف نقول أنَّهُم متمسكون بالجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 التمسك بأهل السنة والجماعة ليست دعوة وليست مِنْحَةْ يمنحها الإنسان باختياره، نقول فلان من أهل السنة والجماعة أو لا، ليست مزاجاً وليست عقلاً وليست هِبَات تُوَزَّعْ على الناس، هذا وصف جاء في الكتاب والسنة بأنَّ الذي فَرَّقَ دينه ليس من الجماعة، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، نقول: إنّناَ نَصِفُ الله - عز وجل - بالسمع والبصر ما نتأول؛ لكن الغضب والرضا نتأوله يعني نقول هي الإرادة. معنا أنه ما يغضب؟ نقول: نعم ما يغضب. طيب الذي يعبد الصنم، نقول مثلاً: خالد ابن الوليد لما علا جبل أحد فأصبح يرمي النبل على النبي صلى الله عليه وسلم والسهام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة وقُتِلَ من قُتِلْ من شهداء أحد، في تلك الحال كان مغضوباً عليه أو مرضيا عنه؟ عندهم أنَّهُ مرضي عنه لأنَّ بعد خمس سنين أو ست سنين سيسلم. إذاً فثَمَّ مخالفة ودخول في صفات الله بالعقليات، هذا خطا كبير. الأصل الأصيل عندهم أنَّ الشرع تَبَعٌ العقل، ولهذا يقول قائلهم (العقل هو القاضي والشرع هو الشاهد) (القاضي) يعني الذي يقضي في الخصومات هو العقل لكن الشرع شاهد، يأتي الدليل من الكتاب والسنة فيقول هذا شاهد، لكن يرجع إلى عقله، إن كان صحيح أمضاه، وإن لم يصح ما احتج به وقال: لا، لازم نشوف له طريقة. هذه لاشك أنَّهُا ليست طريقة الجماعة. الجماعة هم الذين لم يُفَرِّقُوا في الدين، أخذوا ما جاء من الله - عز وجل - وما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم أخذاً واحداً. نفرق!! نأخذ بآية ونقول هذه نُسَلِّمْ، نُمِرُّهَا، نُثْبِتُهَا، وآية أخرى لا، ما نُثْبِتْ. لماذا تُفَرِّقْ بين هذا وهذا؟ ما الفرق بين مسائل الصفات بعضها مع بعض؟ لماذا تُثْبِتْ وتنفي؟ لماذا تقول يُرَى الله في الآخرة ثُمَّ تقول لكن إلى غير جهة؟ تَرُدُّ على المعتزلة بخلق القرآن وأنت تقول أنَّ الذي بين أيدينا مخلوق لكن القديم غير مخلوق؟ إذاً فيه أشياء كثيرة عند الأشاعرة والماتريدية وأشباههم خالفوا فيها الجماعة قبل أن تتغير الجماعة. الجماعة ما هي؟ قبل أن تحدث هذه الأقوال، يعني قبل أن يحدث القول في الصفات ما الذي كان عليه المسلمون قبل ذلك؟ مائة سنة الناس ما يعرفون التأويل يكونون على ضلال؟، أو يكون غيرهم أدرك الصواب وهم لم يدركوه وفيهم الصحابة؟ هذا ما يمكن. حَدَثْ الخوارج، قول الخوارج، ننظر إلى ما كان عليه الناس قبل ظهور الخوارج، قبله الصحابة ما الذي كانوا عليه في مسائل الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام التكفير إلى غير ذلك ما الذي كانوا عليه؟ لاشك أنَّ هذا هو الجماعة. الجماعة في مسألة الإيمان ومسألة الأحكام والأسماء هي ما قبل ظهور الخوارج. ظَهَرَ بعد ذلك القدرية، غيلان الدمشقي ومعبد الجهني إلى آخره. في مسائل القدر ما الجماعة قبل خروجهم؟ يعني تبحث عما قبل، هل ما قبل فيه شيء يدل على؟ ما فيه شك أنه لا يوجد. ولهذا عندك الذين ذَكَرُوا أنَّ الأشاعرة من أهل السنة والجماعة، نقول لهم: أهل السنة نعم؛ لكن الجماعة نحن نود ونرغب ونتمنى أنَّهُم من أهل السنة والجماعة حقيقة، وليست منحة ولا هوى؛ لكنهم هل كانوا على الجماعة؟ لاشك أنَّ أهل العلم أُمَنَاء في الأوصاف التي عَلَّقَهَا الله - عز وجل - بمن وعده بالنجاة. أمناء في الأوصاف لا يجوز لهم أن يُوَزِّعُوا الأوصاف بمحض اجتهادهم هذا كذا وهذا كذا. لا هم أمناء على الشريعة. فلابد أن يُؤَدُّوا الشريعة على ما أؤتمنوا عليه. يُطَاعُون ما يطاعون، لكن لابد يكون ما عنده. نعم يأتي أسلوب ما يقول به وهو أن يقول بالتي هي أحسن، هذا رعاية مصالح ومفاسد. لكن الكلمة في نفسها لابد أن تكون حقاً واضحةً، لا مداهنة فيها ولا مجاملة. الجماعة وصف شرعي من تَحَقَقَ به وُصِفَ به، ومن لم يتحقق به فإنَّهُ لا يوصف به. ولاشك أنَّ هذا مما الناس فيه متنوعون -خاصة المنتسبين للعلم والبحث-. فممن يغلو في أحد الطرفين وممن يتساهل فيجعل الأمور تمشي ودون أمانة في الحكم، ومنهم من توسط، وهم الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح وبطريقة الجماعة لأنَّهُم لم يقولوا على الله - عز وجل - بلا علم. أسأل الله - عز وجل - أن يوفّقكم جميعا لما فيه صلاحكم في دنياكم وفي آخرتكم، وأن يقينا وإياكم العثار وأن يبارك لنا في الأعمار إنَّهُ سبحأنَّهُ رحيم جواد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ أليس البحث والتدقيق في بعض الأمور الغيبية والمستقبلية وكثرة المباحثات والمُطَارَحَات فيها، يعتبر من فضول العلم وإشغال النفس فيه إشغالٌ بالمفضول عن الفاضل، وذلك كبحث هل الحوض قبل الصراط أو بعده، وكبحث كفتي الميزان، وهل هما حقيقتان أم لا، ونحو ذلك من المسائل؟ ج/ هذا السؤال مفيد؛ لأنَّهُ يُنبِئْ عن رغبة في طريقة السلف في بحث المسائل العلمية العَقَدِيَّة، سواءٌ كانت من مسائل الغيب خالصةً أم من المسائل التي جرى فيها البحث. والأصل لكل مؤمن أن يكون طالباً للحق الذي ذكره الله - عز وجل - في كتابه أو ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه. وطلب الحق في هذه المسائل أو طلب العلم في معنى آي القرآن أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا هو طلب العلم النافع. والآي والأحاديث التي فيها ذِكْرُ المسائل الغيبية، تارةً يكون بَحْثُ أهل العلم فيها فيما دلَّ عليه النص، وتارةً يكون البحث فيها من جهة الرد على الذي خالف النص. أمَّا الأول كبحث الميزان مثلاً، هل له كفتان أم لا؟ فإنه جاء في القرآن أنَّ الميزان يُوضَعْ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] ، وقال أيضاً {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102-103] الآية، وكذلك قولك {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] . وهذا فيه إثبات الميزان والموازين، وأنَّهَا توزن بها الأعمال، وأنَّهُ يعلَمُ الناس؛ يَعْلَمْ المؤمن إذا ثَقُلَ الميزان وإذا خفّ، وهذه الإيمان بها واجب لأنَّ الله - عز وجل - أخبر بها، هذه المسائل الغيبية، والسنة دلَّتْ على أنَّ الميزان له كفتان كما في أحاديث كثيرة، وأنَّ مقتضى الوزن أن يكون له كفتان. لهذا من دار حول دِلَالَةْ الكتاب والسنة فهذا عقيدة، وليس من فضول العلم بل هذا من العلم النافع الذي يُؤْمَرْ طالب العلم بِتَتَبُّعِهِ والإيمان به؛ لأنَّهُ ما أخبر الله - عز وجل - به إلا ليُؤْمَنْ به ويُعْتَقَدْ، وما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلا لأنَّهُ من العلم النافع. أما المسألة الثانية أو الشق الثاني فإنَّهُم يبحثون في مسائل لم يَدُلَّ الدليل على عين المسألة ولكن لابد من الخوض فيها ردًّا على المخالفين. الأصل في هدي الصحابة رضوان الله عليهم هو إمرار النصوص التي جاء في الكتاب والسنة والإيمان بها والعلم بذلك والحرص عليه وتتبع العلم في هذه المسائل، هذا ظاهر. لكن تفصيلُ الكلام في مسائل لم يأتِ الدليل بها ومن جهة التعريفات ومن جهة الدلائل وبزيادة بعض الألفاظ الإيضاحية أو ذِكْرْ بعض المسائل الخلافية، مثل هل الحوض قبل أو الصراط قبل؟، وهذه المسائل ليس فيها نص عن الصحابة، ليس فيها قول واضح عنهم، ونَشَأَ القول في كثير من المسائل لأجل المخالفين، فكثير من مسائل الأسماء والأحكام التي يتكلم فيها الخوارج والمعتزلة لم يتكلم فيها الصحابة بالتفصيل، تكَلَّمْ فيها من بعدهم ردَّاً على هذه الفئات لمَّا قويت ولم يندحر شرها. كذلك في مسائل القدر فإنَّ الصحابة تكلموا في الرد على القدرية النفاة الذين أنكروا العلم، واشْتَدَّ إنكارهم على ذلك وأتوا بالأدلة التي فيها إثبات أنَّ مِنْ قَدَرِ الله - عز وجل - علمه سبحانه وتعالى بالأشياء قبل حدوثها العلم السابق الأزلي وأن الأمر (1) ليس بمستأنف، بل كل شيء يجري بقدر. ثم بعد ذلك أتى الذين ضلوا في هذا الباب فأتوا بمسائل جديدة. فإذاً بحث أهل السنة والجماعة في المسائل ليس بحثاً فضولياً، وإنما هو بحث لتثبيت دلائل الكتاب والسنة بنفيه، لأنَّ الواجب الدفاع عن القرآن والسنة، وإبقاء دلالة القرآن والسنة وتوجيه الناس إلى الإيمان بهما وعدم البعد عنهما. فإذا جاء من يُشَكِّكْ في دلالة الآية على العقيدة أو دلالة السنة على العقيدة بأقوال وتعريفات وَجَبَ الدخول معه بقدْرِ ما يُدْفَعُ به شره، والصائل يجب دفعه بحسب القدرة، والصِّيال العلم على أصول الشريعة على الكتاب والسنة هذا أعظم من الصِّيال على الأبدان لأنَّ الصيال على الأبدان مؤقت ويذهب بذهاب بعض الأبدان، لكن الصيال على الشريعة به تحريف الشرع.   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط الثالث والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 فلهذا صار أعظم الجهاد: الجهاد بالعلم، أعظم من جهاد العدو الذي هو الجهاد غير المتعين، جهاد العلم أعظم؛ لأنَّهُ به حفظ الشريعة وليس حفظ الثغور أو حفظ بيضة أهل الإسلام بها، حفظ الشريعة وبقاء هذه الشريعة للناس حتى يتحقق قول الله - عز وجل - {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] وأعظم ما يوغر العدو المحافظة على العلم والبقاء عليه، والآن بل قبل ذلك بأزمان إلى الآن الشهوات والحروب على الأبدان هذه فيها مد وجزر؛ يعني تارَةَ يقوى أمر المؤمنين وتارة يضعف، والله - عز وجل - يقول {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لكن الصِّيال على العلم وعلى الكتاب والسنة وعلى دلائل ذلك وإلقاء الناس في الشُّبَهْ وبعدهم عن دلائل الشرع هذا هو الذي يزيل الإيمان والذي به تحصل الشُّبَه ويَقْوَى جانب الشيطان في البُعْدْ عن الدِّيَانة. لهذا ما يتكلم فيه أهل العلم وخاصَّةً المحققين ليس من فُضُولِ العلم في مسائل الاعتقاد لأنَّ هذا بحسب الحال. نعم قد يأتي زمان يكون فيه بحث بعض المسائل من الفضول؛ لأنَّهُ ليس ثَمَّ حافز إليها في ذلك الزمن، فيكون بقاؤها عند طائفة قليلة من أهل العلم كفرض كفاية؛ لكن بَحْثُهَا -وليس ثَمَّ حاجة إليها- ليس هذا من صنيع أهل العلم. لذلك العلماء يذكرون للناس في كل زمان ما يحتاجون إليه، وليس كل ما يعلمون أو ليس كل ما في الكتاب ينقلون إليهم؟ لا، ما يحتاجون إليه بحسب ما يعلمون من الزمن وما فيه من مضادة للأدلة ونحو ذلك. لهذا مثلاً تجد أنَّهُ عندنا في الدروس نُفَصِّلْ في أقوال الأشاعرة والماتريدية والردِّ عليها أكثر من أقوال المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة أقوالهم الباقية الآن أقوال قليلة مثل يعني بعض المسائل المشهورة، أما الآن أكثر التآليف وأكثر المضادَّةْ والذين ينسبون إلى السلف التأويل، إنما هي من جهة الأشعرية والماتريدية ونحو ذلك، فَفَهْمُ مذهبهم الآن لطلاب العلم لأجل كثرة الاختلاط وكثرة الكتب المؤلفة في التشكيك في حقيقة مذهب السلف، هذا هو المتعين، لهذا يختلف هذا باختلاف البلد واختلاف الزمان والمكان. قد يذهب ذاهِبْ من طلاب العلم إلى بلد ويرى الحاجة فيها إلى تفصيل أقوال لا يحتاجها بلد آخر في بعض المسائل، يكون في بلد الناس لا يعلمون، فَذِكْرُهَا والتفصيل فيها ليس من المناسب. فطالب العلم يكون ربانياً يُعَلِّمْ الناس ما يحتاجون إليه في جهادهم في فهمهم للشريعة وفي جهادهم ضدّ الذين عقدوا ألوية البدعة. س2/ من قَسَمَ الدعاء إلى دعاء عبادة ودعاء مسألة، أين دعاء الثناء؟ ج/ دعاء الثناء هو دعاء العبادة، لأنَّ الثناء على الله - عز وجل - عبادة، فإذا أثنى على الله - عز وجل - في دعائه فدعا دعاء عبادة. س3/ ذكرتم في كتابكم المنظار أنَّ الخوف من الجن يدخل في خوف السِّرْ الذي عَدَّهُ العلماء من الشرك الأكبر، فهل هذا على إطلاقه؟ وهل ينطبق ذلك على من يخاف إيذاء الجن في المناطق الموحشة كالصحاري والبيوت المهجورة؟ ج/ لا، خوف السر ضَبَطَهُ العلماء في شرح كتاب التوحيد في مسألة الخوف. خوف السر: أن يخاف المرء من غير الله - عز وجل - في إيصال الأذى إليه بدون سبب. هذا هو الذي يختص الله - عز وجل - به، الله - عز وجل - يُقَدِّرْ على العبد مرض بدون سبب يعلمه، يُقَدِّرْ الموت بدون سبب بدون ما يعلم، أما إذا كان الشيء له سبب ظاهر أو كان له سبب؛ لكنه يخشى أن يكون الجني يتسبب فيه فيما، ويكون سبب طبيعي مثل الخوف من الدخول في الأماكن المهجورة أو في الظلام أو نحو ذلك يخاف من الشياطين أو الجن هذه أسباب. لكن خوف السر أن يخاف أن يناله الولي أو أن يناله الجني أو نحو ذلك بغير سبب؛ يعني أن يعتقد أنَّ عنده قوة وتَصَرُّفْ حيث يؤذيه بدون سبب. هذا ليس بحاصل ما ممكن للجني أن يؤذي العباد بدون سبب، الجني هو مثل الإنسي ما يؤذي بدون سبب. فإذا خاف أن يوصله إلى الإيذاء بدون أسباب يعني لا اعتداء من الإنسي ولا فعل أو شيء يدل عليه من الجني، فهذا لا يجوز. وإذا كان الخوف -الخوف الطبيعي- ليس خوف اعتقاد وإنما ناتج عن ضعف الإنسان، وليس خوف اعتقاد في الجن وإنما يخاف من إيذائهم واعتدائهم في مثل البيوت، فهذا قد يدخل في الخوف الطبيعي الذي يخشاه الإنسان ولا يدخل في الخوف المحرم ولا في الخوف الشركي. فإذاً المسألة ليس على إطلاقها لكن يوضحها لك ضابط خوف السر الذي وصفته لك. س/ [ ...... ] بدون سَبَبٍ يمكنهم أن يعملوه، ليس بدون سبب ظاهر، قد يقول هو سبب خفي، قد يعمل ويقول للجني سبب خفي ما أدري عنه، لكن هو بدون سبب يمكنهم أن يعملوه. مثل مثلاً أن يتسلط الجني، يخاف من الجني أن يؤذيه دائماً، يخاف من الجني أن يتسلط على أولاده، لماذا يخاف؟ يخاف لاعتقاد ليس خوفاً طبيعياً، خوف اعتقاد، يعتقد الجن يتسلطون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 مثل ما كان الكفار الذين نزلوا وادياً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. يظنون كل وادي له جني يمسكونه وأنَّهُم يعتدون على الناس، وهذا هو الذي نزل في قوله تعالى {وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] لأنَّهُ سببه الخوف، خوف من شيء لا يملكون، فهذا خوف اعتقاد، خوف السر خوف اعتقاد، يعني يعتقد أنَّ هذا الذي خاف منه يُوصِلُ الأذى إليه بدون سبب يعلمه بدون سبب معقول؛ ولكنه هو عنده القدرة، فإذا اعتقد هذا الاعتقاد في الولي أو في الجني أو نحو ذلك فهذا هو خوف السر. أما خَاف من مكان مظلم أو خاف من جن هذا قد يدخل في الخوف الطبيعي في بعض الحالات، ليس خوف اعتقاد. س4/ هل يجوز قراءة الأخبار الموجودة في كتب الأدب عن الصحابة وما جرى بينهم من الردود؟ ج/ يجوز لمن يقوى على فهم العقيدة أو عنده أصل شرعي يرجع إليه. س5/ ما يحل بالمسلمين هذه الأيام في الشيشان فهل يجوز القنوت لهم في الفرائض؟ ج/ القنوت، قنوت النوازل هذا مربوط بإذن الإمام، إذن ولي الأمر، وليس لآحاد الناس أن يقنتوا لمن شاءوا، ونزلت بالصحابة رضوان الله عليهم نوازل كثيرة فما قَنَتُوا إلا إذا أذِنَ ولي الأمر فإنَّهُ يقنط. والذي جرى عليه الأمر في هذه البلاد أنَّهُ إذا جرت الفتوى على القنوت فإنَّهُ يُرْفَعْ بذلك إلى ولي الأمر فيأذن بالقنوت، إذا جاءت الفتوى، وهنا لابد من فتوى ليس لأحدٍ من الناس في مسجده أن يقنت دون إذن، فالناس في هذا تبعٌ للإمام. مع أنَّ القول الصحيح في هذا أنَّهُ لا تقنت كل المساجد؛ لأنَّهُ لمَّا حَصَلْ القنوت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما قَنَتَ هو في مسجده الأعظم صلى الله عليه وسلم، أما المساجد الأخرى مسجد قباء والمساجد الأخرى مسجد العالية ومسجد بني [زُرَيْرْ] المساجد الأخرى لم تقنت في المدينة وإنما قَنَتَ المسجد الأعظم. لهذا الرواية الثالثة عن الإمام أحمد في المسألة أنَّ الناس تبعٌ للإمام إذا قَنَتَ، ليس إذا أذِن. يقصدون بالإمام يعني في المسجد الأعظم، فليس كل مسجد يَقْنُتْ، وهذا في الحقيقة هو أولى الأقوال وأحظاها بالدليل، أنَّهُ ليس كل المساجد تَقْنُتْ؛ لأنَّ هذا دعاء وإذا قام به بعض المؤمنين كفى عن الآخرين. كذلك إذا جاء الإذن بوقت ليس له أن يجعله في وقت آخر؛ يعني جاء الإذن مثلاَ أن يُقْنَتَ في الفجر فَيُقْتَصَرْ على الفجر، ليس له أن يقنت في المغرب أو في العشاء لأنَّ هذا تَبَعْ الفتوى وليس لآحاد الناس في المساجد أن يجتهدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نُفْرِطُ (1) في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم؛ وَلاَ نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُم، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم، ولا نُذْكُرُهُم إِلاَّ بِخَيْرٍ, وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ، وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ.   هذه الجملة من المسائل العظيمة لتعلّقها بخير الخلق من هذه الأمة وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والكلام في الصحابة صار عقيدةً في حُبِّهِم وبُغْضِ من يُبْغِضُهُم لقيام طوائف من أهل البدع والضلال في شأن الصحابة بما يخالف الدلائل من القرآن والسنة التي أوجبت حُبَّهم ونُصْرَتَهُم والذبَّ عنهم رضي الله عنهم أجمعين، وذكَرتْ عدالتهم وفضلهم وسابقتهم. فخالف في ذلك من خالف من الخوارج والصابئة والرافضة من الخوارج والناصبة والرافضة وطوائف في شأن الصحابة جميعاً أو في شأن بعض الصحابة. فكان منهج أهل السنة والجماعة وعقيدتهم أن يُثنَى على جميع الصحابة وأن نُحِبَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً الحب الشرعي الذي ليس فيه إفراط بالتجاوز عن الحد المأذون به والغلو، وليس فيه تفريط بذم بعضهم أو سب بعضهم، أو أن يكون ثَمَّ تَبَرُؤْ من بعضهم أو أن لا تُثْبَتْ العدالة لهم. فلابد في حبّهم من الاعتدال، فلا غلو ولا تفريط في الحب بسلب بعض ما يَجِبُ لهم مما يُحَبُّونَ فيه، إذ الواجب أن يُحَبَّ جميع الصحابة على مجموع أعمالهم، فهم خيرة هذه الأمة وهم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الأصل كما هو معلوم أنَّ هذا ليس من مسائل الاعتقاد لأنَّ مسائل الاعتقاد هو ما يجب على المرء أن يعتقده في أمور الغيب، فصارت من مسائل الاعتقاد لأنَّهُا مِمَّا تَمَيَّزَ به أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية بما خالفوا فيه الفرق الأخرى. فكان المسلمون على جماعة في اعتقادهم وفيما يقولون به ثُمَّ خالفت الفرق المختلفة كالخوارج والرافضة والناصبة وأشباه هؤلاء في مسائل. فصار أهل السنة في هذه المسائل التي خالف فيها أهل البدع والضلال والفِرَقْ التي خالفت الجماعة، صار القول فيها من الاعتقاد؛ لأنَّهُم خالفوا الفرق التي خالفت في الاعتقاد. وهذا من جنس مسائل أخرى في مسائل التعامل والحب، أو في مسائل المنهج والسلوك وأشباه ذلك مما سبق أن مَرَّ معنا. وقد مَرَّ معنا مثلاً مسألة المسح على الخفين، مسألة المسح على الخفين لاشك أنَّهُا مسألة من الفقه ولا تدخل في الاعتقاد دخولاً واضحاً لكن لمَّا خالف فيها من خالف دخلت في مسائل الاعتقاد. وحب الصحابة رضوان الله عليهم والموقف من الصحابة وعقيدة المسلم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم صارت عقيدة لمُخَالَفَتِهَا اعتقاد الضالين في هذا الباب. ويمكن أن نُفَرِّعْ الكلام في مسائل.   (1) قال الشيخ صالح: نُفْرِطُ يعني نتجاوز الحد أما نفرّط لا، وَلاَ نُفْرِطُ في حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 [المسألة الأولى] : صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم من صَحِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلُقِيِّهِ ولو ساعةً مؤمناً به ومات على ذلك. أو يقال الصاحب والصحابي: من لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة مؤمناً به ومات على ذلك. والصحابة هم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا اللُّقِي الذي سمعته في التعريف يختلف: - منهم من صَحِبَهُ والتقى به مدة طويلة. - ومنهم من قَلَّ ذلك. - ومنهم من تقدّم. - ومنهم من تأخر. وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ نوع الصحبة وقَدْرْ الصُّحْبَة يختلف فيه الناس ويختلف فيه الصحابة فليسوا على مرتبة واحدة كما سيأتي. والصحابة كلهم أثنى الله - عز وجل - عليهم بدون استثناء وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال - عز وجل - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} إلى أن قال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] ، وقال - عز وجل - {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنَّهُارُ} [التوبة:100] ، وكذلك قوله - عز وجل - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، حتى سُمِّيَتْ هذه البيعة بيعة الرضوان؛ لأنَّ الله رَضِيَ ما عملوه، رَضِيَ بَيْعَتَهُمْ فَسُمِّيَتْ بيعة الرضوان، ومنها أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (1) كذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه» (2) وقال أيضاً - عز وجل - {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] والآيات في فضل الصحابة بِمُجْمَلِهِمْ في أنواعٍ من الدلالات والأحاديث كثيرة جداً وصُنفت مصنفات في ذلك. وهذه الآيات والأحاديث تفيد في شأن الصحابة أمور: 1- الأول: أنَّ الصحابِيَّ إذا مات على الإيمان فإنَّهُ موعودٌ بالمغفرة والرضوان. 2 - الثاني: أنَّ الصحابة كلهم عدول لتعديل الله - عز وجل - لهم وثنائه عليهم. ومعنى العدالة هنا أنَّهُم عُدولٌ في دينهم وفيما يروون وينقلون من الشريعة، وأنَّ ما حَصَلَ من بعضهم من اجتهاد، فإنَّهُ لا يقدح عدالتهم ولا يُنْقِصُهَا، لِمُضِيِّ ثناء الله - عز وجل - عليهم مطلقاً. 3- الثالث: أنَّ سبَّ الصحابة ينافي ما دَلَّتْ عليه الأدلة من الثناء عليهم، وهو منهيٌ عنه بالنَّصْ، فلذلك أفادت هذه الآيات حُرْمَةْ سبِّ الصحابة كما سيأتي تفصيل الكلام على ذلك إن شاء الله. 4- الرابع: أنَّ الآيات دلَّتْ على أنَّ الصحابة يتفاوتون في المنزلة وفي المرتبة وأنَّهُم ليسوا على درجة واحدة.   (1) البخاري (2652) / مسلم (6635) (2) سبق ذكره (414) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 [المسألة الثانية] : حب الصحابة فرض وواجب وهو من الموالاة الواجبة للصحابة، وهذا الحب يقتضي أشياء: - الأول: قيام المودة في القلب لهم. - الثاني: الثناء عليهم بكل موضع يُذْكَرُونَ فيه والترضي عنهم. - الثالث: أن لا يَحْمِلَ أفعالهم إلا على الخير فكلُّهُم يريد وجه الله - عز وجل -. - الرابع: أن يَذُبَّ عنهم؛ لأنَّ مِنْ مقتضى المحبة والولاية؛ بل من معنى المحبة والولاية النُّصْرَةْ، أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذا ذُكِرُوا بغير الخير أو انتقص منهم منتقص، أو شَكَّكَ في صدقهم أو عدالتهم أحد، فإنَّهُ واجبٌ أن يُنْتَصَرَ لهم رضي الله عنهم. ولذا توَسَّطَ أهل السنة والجماعة في الحب بين طرفين: بين طرف المُفْرِطِينْ وطرف المتبَرِّئِين. @ أما الغلاة والمُفَرِّطُون في الحب فهم الذين جعلوا بعض الصحابة لهم خصائص الإلهية كما فعل طائفة مع علي رضي الله عنه، وكما فعل طائفة مع أبي بكر، أو غلو بما هو دون الإلهية بأن يجعلو هذا الحب يقتضي انتقاص غيرهم، فيُحِبُّ أبا بكر وينتقص علياً، أو يحبّ علياً رضي الله عنهم وينتقص أبا بكر، هذا إفراط وغلو. فالوسط هو طريقة الصحابة وأهل السنة فإنَّ الحب يقتضي موالاة الجميع وأن لا يَغْلُوَ المسلم في أي صحابي؛ بل يُحِبُّهُم ويَوَدُّهُم ويذكرهم بالخير ولا يجعل لهم شيئا من خصائص الإلهية. بل أجمع أهل العلم أنَّ من ادَّعَى في صحابيٍ أنَّ له شيئاً من خصائص الإله، أو أنَّهُ يُدْعَى ويُسْأَلْ كما يُعْتَقَد في علي رضي الله عنه ونحوه أنَّهُ كافر بالله العظيم. وهذا الغلو وقع فيه كثير في الأمة بعد ذلك فأُقِيْمَتْ المزارات والمشاهد والقبور والقباب على قبور الصحابة، كقبر أبي أيوبٍ الأنصاري قرب اسطنبول، وكقبر أبي عبيدة بن الجراح في الأردن، وكقبر عدد من الصحابة كالحسين والحسن وعلي إلى آخره في أمصارٍ مختلفة. فجعلوا قبورهم من فَرْط المحبة أوثاناً يأتون فيسألون ويدعون ويستغيثون ويتقربون للصحابة، وهذا إفراط وليس هو الحب المأذون به؛ بل هذا حبٌ معه الشرك المُحَقَّقْ إذا وصل إلى سؤال الميت ودعائه والتقرب إليه. @ وفي المقابل يكون فِعْلُ طائفةٍ ضالة أخرى تتبرأ من الصحابة جميعاً كفعل الزنادقة، أو تتبرأ من أكثر الصحابة كفعل الرافضة والخوارج، أو تتبرأ من طائفة من الصحابة كفعل النواصب ومن شابههم. فهؤلاء تبرؤوا. @ ومنهم من يعتقد أنَّهُ لا حُبَّ ولا ولاء إلا بِبَرَاءْ. يعني لا يصلح حب صحابي وولاء صحابي إلا بالتبرؤ ممن ضَادَّهْ. فيجعلون في ذلك أنَّ حب علي رضي الله عنه والولاء لعلي والحسن والحسين يقتضي بُغْضَ أبي بكر وبُغْضَ عمر وبُغْضَ عثمان ومن سلب هؤلاء حقهم كفعل الرافضة عليهم من الله ما يستحقون. لهذا كان مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة في هذا أنَّ التبرؤ من الصحابة واعتقاد أنَّهُ لا موالاة إلا بالبراءة أنَّ هذا ضلالٌ وقد يوصل إلى الكفر، كما سيأتي في المسألة إن شاء الله. لذا قال بعدها (وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم، وَبِغَيْرِ الخَيْرِ يَذْكُرُهُم) وهذا من مقتضى المحبة الوَسَطْ، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، فإننا من ذَكَرَهُمْ بخير أحببناه ومن ذَكَرَهُمْ بغير الخير أبغضناه؛ لأنَّ من مقتضى المحبة والولاية أن يُحَبَّ من يُحِبُّهُمْ وأن يُبْغَضَ من يُبْغِضُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 [المسألة الثالثة] : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتب، يختلفون في منزلتهم. 1 - فأعظم الصحابة وأرفع الصحابة العشرة الذين بُشِّرُوا بالجنة في مكانٍ واحد، وهم الذين يشتهر عند الناس أنهم العشرة المبشرون بالجنة. والذين بَشَّرَهُمْ النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أكثرمن عشرة، عددهم كثير من الصحابة؛ ولكن خُصَّ هؤلاء بفضلٍ لأنَّهُم بَشَّرَهُم صلى الله عليه وسلم بالجنة في مكان واحد، وفي حديثٍ واحد ساقَهُم صلى الله عليه وسلم «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الحنة، وسعد في الجنة» (1) إلى آخر العشرة. فهؤلاء هم أفضل الصحابة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذِّكْرْ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَتَّبَهُمْ كترتيبهم في الفضل، فأبو بكر أفضل ويليه عمر ثم يليه عثمان ثم يليه علي إلى آخره. 2 - يلي هؤلاء المهاجرون -أعني جنس المهاجرين- الذين أسلموا في مكة وتقدم إسلامهم وصبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصابَرُوا حتى هاجروا. 3 - ثُمَّ الذين شهدوا بدراً من المهاجرين والأنصار فهم يلونهم في الفضل. 4 - ثُمَّ جنس الأنصار الذين سبقوا وأثنى الله عليهم بقوله {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] والمراد بالسَّبْقْ هنا السبق إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم وتصديق رسالته والجهاد معه، فهذا هو بالسَّبْقْ الذي له الفضل العظيم. 5 - ثُمَّ بعد ذلك يليهم من أسلم قبل الفتح، ويُقْصَدْ بالفتح هنا صلح الحديبية أو فتح مكة وهو الذي جاء فيه قول الله - عز وجل - {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فالذي أسلم وآمن وأنفق وجاهد من قبل صلح الحديبية أو من قبل فتح مكة فإنَّهُ أفضل ممن بعدهم. ولذلك يُقَالُ لكثيرٍ من الصحابة مُسْلِمَةْ الفتح، يعني الذين أسلموا بعد فتح مكة. وهؤلاء -وهم الفئة الأخيرة-: مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بعد الفتح إلى عام الوفود. ثُمَّ بعد ذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً، يعني السنة التاسعة والعاشرة حتى حَجَّ النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم أقل الصحابة منزلة. وهذا الترتيب لِما دلَّتْ عليه الأدلة من التفضيل. والمراد بهذا التفضيل الجنس؛ يعني جنس هذه الطائفة على جنس هذه الطائفة. يعني التفضيل في الظاهر باعتبار الجنس، فقد يكون في بعض الطبقات من هو أفضل ممن قبله. وهذا من حيث التَّنْظِيرْ لا من حيث التَّطْبِيقْ لأنَّنَا لا نعلم دليلاً يَدُلُّ على أنَّ فلاناً من المتأخرين أفضل من فلان من المتقدمين، أو أنَّ فلاناً من الأنصار أفضل من فلان من المهاجرين؛ لكنه من حيث الجنس فُضِّلَ ما فَضَّلَتْهُ الأدلة أو ما دَلَّتْ الأدلة على تفضيله جِنْسَاً؛ لكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المفاضلة بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ظاهر، وعبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء هم أفضل الصحابة، هؤلاء فَضْلُهُمْ بأعيانِهِمْ ظاهر، وأهل بدر أيضاً قد يدخلون في أنَّ فضلهم بأعيانِهِمْ؛ لكن الكلام على الجنس مع الجنس. ولمَّا وَقَعَ خالدٌ في مَسَبَّةِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي» إلى آخر الحديث، فخَصَّ المُتَقَدِّمْ باسم الصُّحْبَةْ فَكَأَنَّ الذي أسلم من بعد الفتح وقاتل لقِصَرِ إسلامه وقِصَرْ صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وقِلَّةِ نُصْرَتِهِ بالنسبة إلى من قبله، كأنَّهُ صارَ تَحْقِيقُ اسم الصحبة عليه ليس كتحقيق من كان قبله، بل هذا هو الواقع، ولهذا خَصَّ النبي صلى الله عليه وسلم السابقين باسم الأصحاب دون غيرهم مع اشتراك من أسلم بعد ذلك باسم الأصحاب؛ ولكن لأجل طول الصُّحْبَةْ صار عبد الرحمن بن عوف وسُلِبَ الاسم عن خالد بن الوليد لأجل هذه الحيثية، وإلا فالكل صاحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه تخصيص بالاسم لأجل مزيد الفضل وتَحَقُّقْ الصفة اللازمة في مقتضى الصحبة.   (1) أبو داود (4649) / الترمذي (3748) / ابن ماجه (133) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 [المسألة الرابعة] : الصحابة رضوان الله عليهم بشر يُصيبون ويُخطئون ويجتهدون فيما يجتهدون فيه، وربما وافق بعضُهُمْ الصواب، وربما لم يوافق الصواب. لهذا الواجب على المؤمن من مُقْتَضَى المحبة والنُّصْرَةْ أن يحمِلَ جميع أعمال الصحابة على إرادة الخير والدِّيْنْ وحب الله - عز وجل - وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ما اجتهدوا فيه: - إما أن يكون لهم فيه الأجران إذ أصابوا. - وإما أن يكون لهم فيه الأجر الواحد إذ أخطؤوا. وكُلُّ عَمَلٍ لهم مما اجتهدوا فيه حتى القتال فإنَّهُ مَعْفُوٌّ عنهم فيه لأنَّهُم مجتهدون، فلا نَحْمِلُ أحداً من الصحابة على إرادة الدنيا المحضة -يعني فيما اجتهدوا فيه من القتال- وإنما نحملهم على أنَّهُم أرادوا الحق واجتهدوا فيه فمن مُصيبٍ ومن مخطئ. ولهذا كان الصحابة وهم يتقاتلون يُحِبُّ بعضهم بعضاً، ولا يتباغضون كما أَبْغَضَ طائفة منهم من جاء بعد ذلك من أهل البدع، فلم يكن أحَدُهُمْ يَذُمُّ الآخر ذَمَّاً يقدح في دينه، أو يقدح في عدالته، وإنما بين من يُصَوِّبُ نفسه ويُخَطِّئُ غَيْرَهْ وبين من يعتزل أو يُثْنِي على الجميع وأشباه ذلك. وهذا هو الواجب في أننا نحمل أفعالهم على الحق والهدى، وإن كان بعضهم يكونُ أصوبَ من بعض، أو يعضهم يكون مصيباً والآخر مخطئاً. وما جرى من الصحابة من الشِّجَار فيما اجتهدوا فيه والقتال أو ما اجتهد فيه الصحابة في المسائل العملية في علاقتهما بعض الصحابة الآخرين، فهذا لا يُبْحَثُ فيه وإنما يُذْكَرُونَ بالخير، ونعتمد على الأصل الأصيل وهو أنَّ الله - عز وجل - أثنى عليهم، وخاصَّةً أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله - عز وجل - فيهم قوله {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة} [الفتح:18] ، وكانوا إذ ذاك بين ألف وأربعمائة وألف خمسمائة قد رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 [المسألة الخامسة] : سَبُّ الصحابة تَبَرُؤٌ منهم، وإذا سَبَّ بعضاً فهو تَبَرُؤٌ ممن سب أو بَعْضُ تَبَرُؤٍ ممن سب. لأنَّ حقيقة السبّ عدم الرضا عن من سُبَّ، وكُرْهْ ما فَعَلْ وإلا فإنَّ الراضي يحمد ويُثْنِي، والمُبْغِضْ هو الذي يسب ويتبرأ. لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة فقال «لا تسبّوا أصحابي» وهذا يقتضي التحريم، فكل سَبٍّ للصحابة محرم، وأكَّدَّ ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «من سبَّ أصحابي فقد آذاني» وأذيته صلى الله عليه وسلم محرمة وكبيرة وكذلك إيذاء الصحابة فقد قال - عز وجل - {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58] ، وإيذاء الصحابي احتمالٌ للإثم المُبِيْنْ، وهذا دخولٌ في المحرّمات الشديدة. ومعنى السَّبْ أن يَشْتُمْ بِلَعْنٍ، أو يَتَنَقَّصْ، أو يطعن في عدالتهم، أو في دينهم، أو أن يتنقصهم بنوعٍ من أنواع التنقص عمَّا وصفهم الله - عز وجل - به، وهذا يختلف بأنواع: - فقد يشتم بعض الصحابة، فهذا سب. - قد يَتَنَقَّصْ من جهةٍ دينية. - وقد يَتَنَقَّصْ من جهة دنيوية لا تُنْقِصُ من عدالته. مثلاً في الجهة الدينية أن يقول: أنَّهُ لم يكن مؤمناً مُصَدِّقَاً، كان فيه نفاق. أو أن يقول عن الصحابة: كان فيهم قلة علم، أو بعضهم فيه قلة دِيَانَة، أو كان فيهم شَرَهْ على المال أو حب للمناصب، أو كان في بعضهم رغبة في النساء، جاهدوا لأجل النساء، أْكَثُروا من النساء تلذذاً في الدنيا، هم طُلَّابُ دنيا. إمَّا في وصفهم جميعاً أو في وصف بعضهم. هذه أمثلة لأنواع السب والقدح الذي قد يرجع إلى قدحٍ في دينهم، وقد يرجع إلى تنقصٍ لهم في عدالتهم وما أشبه ذلك. (1) : [[الشريط الرابع والأربعون]] : وسَبُّ الصحابة رضوان الله عليهم كما أنَّهُ مُحَرَّمْ قد اختلف العلماء في هل يكون كفراً أم لا يصل إلى الكفر؟ وكما ذكرتُ لك فإنَّ السَّبَّ مورِدُهُ البُغْضْ؛ لأنَّهُ إذا أْبَغَضَ مُطْلَقَاً أو أَبْغَضَ في جزئية فإنه يَسُبْ، فإنَّ السَبَّ مورده البُغْضْ، ينشأ البغض والكراهة ثم ينطلق اللسان -والعياذ بالله- بالسب. لهذا الطحاوي هنا قال في آخر الكلام (وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ) فيقصد بالكفر هنا الكفر الأصغر ليس الكفر الأكبر، أو ما يشمل -وهو الذي حمله عليه شارح الطحاوية- أو ما يشمل القسمين، قد يكون كفراً أكبر وقد يكون أصغر، والنفاق قد يكون نفاقاً أكبر وقد يكون نفاقاً أصغر بحسب الحال ويأتي تفصيل الكلام في ذلك. والإمام أحمد رحمه الله وعلماء السلف لهم في تكفير من سَبِّ الصحابة روايتان: 1 - الرّواية الأولى: يَكْفُرْ وسَبَبُ تكْفِيرِهِ أَنَّ سَبَّهُ طعنٌ في دينه وفي عدالة الصحابي، وهذا رَدٌّ لثناء الله - عز وجل - عليهم في القرآن، فرجع إذاً تكفير السابِّ إلى أنَّهُ رَدَّ ثناء الله - عز وجل - في القرآن والثناء من النبي عليهم في السنة. 2 - والرواية الثانية: أنَّهُ لا يكفر الكفر الأكبر، وذلك لأنَّ مَسَبَّةْ مَنْ سَبَّ الصحابة من الفِرَقْ دَخَلَهُ التأويل ودَخَلَهُ أمر الدنيا والاعتقادات المختلفة. @ والقول الأول هو المنقول عن السلف بكثرة، فإنَّ جمعاً من السلف من الأئمة نَصُّوا على أنَّ من سَبَّ وشَتَمَ أبا بكر وعمر فهو كافر، وعلى أنَّ من شَتَمَ الصحابة وسبَّهُمْ فهو زنديق، بل قيل للإمام أحمد كما في رواية أبي طالبٍ: قيل فلانٌ يشتم عثمان، قال: ذاك زنديق. وأشباه هذا. وهذا هو الأكثر عن السلف لأنَّ شَتْمْ الصاحب تكذيبٌ للثتاء أو رد للثناء، سواءٌ كان شتمه لأجلٍ تأويلٍ عَقَدِي أو لأجل دنيا. وقد فَصَّلَ في بحث السَّبْ ابن تيمية في آخر كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول، وذكر الروايات والأقوال في ذلك ثم عَقَدَ فصلاً في تفصيل القول في الساب. وما فَصَّلَ به حَسَنْ، وما يدور كلامه عليه رحمه الله وأجزل له المثوبة أنَّهُ يُرْجِعُ السَّبُّ إلى أحوال: فتارَةً يكون كفراً أكبر، وتارةً يكون محرماً ونفاقاً، ولا يتفق الحال؛ يعني ليس السَبُّ على حالٍ واحدة. فيكون للسّاب مراتب أو أحوال: 1- الحالة الأولى: أن يَسُبَّ جميع الصحابة بدون استثناء ولا يَتَوَلَّى أحداً منهم، فهذا كفر بالإجماع، يَسُبُّ جميع الصحابة، هذا فعل الزنادقة والمادِّيِينْ والملاحدة الذين يقدحون في كل الصحابة، فيقول: هؤلاء الصحابة جميعاً لا يفهمون، هؤلاء طلاب دنيا، بدون تفصيل، كل الصحابة ولا يستثني أحداً. فمن سَبَّ جميع الصحابة أو تَنَقَّصَ جميع الصحابة بدون استثناء، تقول له: أتستثني أحدا؟، فلا يستثني أحداً، فلا شك أنَّ هذه زندقة، ولا تصدر من قلبٍ يحب الله - عز وجل - ويحب رسوله ويحب الكتاب والسنة ومن نقل السنة وجاهد في الله حق جهاده. 2- الحالة الثانية: أن يَسُبَّ أكثر الصحابة تَغَيُّظاً من فِعْلِهِمْ كالغيض الذي أصاب مَنْ عَدَّ نفسه من الشيعة وهو من الرافضة، أو نحوهم ممن سَبُّوا أكثر الصحابة الذين خالفوا -كما يزعمون- خالفوا علياً أو لم ينتصروا لعلي وأثبتوا الولاية لأبي بكر وعمر ثم عثمان، وأشباه ذلك فيَسُبُّونَهُمْ تَغَيُّظَاً وحَنَقَاً عليهم واعتقاداً فيهم. فهؤلاء أكثر السلف على تكفيرهم ونَصَّ الإمام مالك على أنَّ من سَبَّ طائفة من الصحابة تَغَيُّظَاً؛ يعني غَيظَاً من موقفهم في الدين، فإنَّهُم كفار لقول الله - عز وجل - في آية سورة الفتح {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، فالذي يكون في قلبه غَيْظْ ويَغْتَاظْ مِنَ الصحابة ألحقه الله - عز وجل - بالكفار، واستدلَّ بها مالك رحمه الله إمام دار الهجرة على أَنَّ من سَبَّهُمْ أو سَبَّ طائفة منهم تَغَيُّظَاً فهو كافر، وهذا صحيحٌ ظاهِرْ. 3- الحالة الثالثة: أن يَسُبَّ بعض الصحابة لا تَغَيُّظَاً؛ ولكن لأجل عدم ظهور حُسْنْ أفعاله، مثلاً يقول: هؤلاء بعض الصحابة فيهم قلة علم أو فيهم جشع، أو هذا ما يفهم، أو فيه حب للدنيا، أو نحو ذلك، فهذا ليس بكفر، وإنما هذا محرم لأنه مَسَبَّةْ وهو مخالفٌ لمقتضى الوَلَايَةْ. وهذا هو الذي يُحْمَلُ عليه كلام من قال من السلف: إنَّ سابَّ الصحابة أو من سَبَّ بعض الصحابة لا يكفر، فيُحْمَلْ على أنَّ نوع السب هو أنَّهُ انْتَقَصَ في ما لا يظهر لَهُ وَجْهُهْ، إمَّا في -مثل ما ذكرت- نقص علم أو في رغبة في دنيا أو نحو ذلك، ولا يُعَمِّمْ وإنما قد يتناول واحد أو اثنين أو أكثر بمثل هذا. وهذه المسائل، كونه يَقِلْ عِلْمُهُ أو يقول يحب الدنيا، هذا ليس طعنَاً في عدالته لأنَّ قلة العلم ليست طعناً في العدالة، وحب الدنيا بما لا يؤثر على الدين ليس طعناً في العدالة -العدالة يعني الثقة والدين والأمانة-، وإنما هذا انتقاص وتَجَرُّؤْ عليهم بما لا يجوز فعله، ويخالِفُ مقتضى المحبة. هذا هو الذي يصدق عليه أنَّهُ لا يدخل في الكفر فهو محرم؛ لأنه ليس فيه رد لقول الله - عز وجل - ولكن فيه سوء أدب وانتقاص ودخولٌ في المسبة. والواجب في أمثال هؤلاء أن يُعَزَّرُوا؛ وذلك لِدَرْءِ شَرِّهِمْ والمحافظة على مقتضى الثناء من الله - عز وجل - على صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم. 4- الحالة الرابعة: أن ينتقص الصحابي أو أن يَسُبَّهُ لاعتقادٍ يعتقده في أَنَّ فِعْلَهُ الذي فَعَلَ ليس بالصواب، وهذا في مثل ما وقع في مقتل عثمان وفِعْلْ علي رضي الله عنه وفِعْلْ معاوية ونحو ذلك، فقد يأتي ويَنْتَقِصْ البعض؛ لأنَّهُ يرى أنَّهُ في هذا الموقف بذاته أنَّهُ كان يجب عليه أن يفعل كذا، لماذا لم يفعل كذا، وهذا يدل على أنَّهُ فَعَلَ كذا، وهذا أيضاً أخف من الذي قبله لأنه متعلق بفرد وبحالة. وهذا محرمٌ أيضاً، وهل يُعَزَّرْ في مثل هذه الحال أو لا يُعَزَّرْ؟ هذا فيه اختلاف، ولاشك أنَّ قوله وفِعْلَهْ فيما فَعَلْ دُخُولٌ في المسبّة والانتقاص وهذا محرم ودون الدخول في رَدِّ ثناء الله - عز وجل - أو في انْتِقَاصٍ عام، إنما هذا يجب في حقه التوبة من الله - عز وجل - والإنكار عليه. وهل يُعَزَّرْ أو لا؟ اختلف العلماء في مقتضى التَّعْزِيْرْ، التَّعْزِيْرْ المقصود به التَّعْزِيْرْ بالجلد أو بالقتل، أما التَّعْزِيْرْ بالقول والرَّدْ عليه وانتقاصه هذا واجب. 5- الحالة الخامسة: ربما تشتبه علي لكن تراجعونها أكثر، نتركها راجعونا أنتم.   (1) نهاية الشريط الثالث والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 [المسألة السادسة] : في قول الطحاوي رحمه الله (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) : 1- أولاً: حبُّ الصحابة دِيْنْ: لأنَّ الله - عز وجل - أثنى عليهم، وتصديق خبر الله - عز وجل - وانعقاد الوَلَاية لا شك أنَّ هذا دين؛ بل من أعظم الدين. والصحابة اجتمع ذلك في حقهم من ناحيتين: أ - الناحية الأولى: أنَّ الله عَقَدَ الوَلَاية بين المؤمنين فقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ومعنى الوَلَاية المحبة والنصرة، وأعظم المؤمنين إيماناً هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهم من الوَلَاية والمحبة والنصرة أعلاها، كذلك قال الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10] فأثنى على هؤلاء لأجل اتِّصَافِهِمْ بالدين ولاشك أنَّ حب الصحابة من هذه الجهة دين. ب - الناحية الثانية أنَّ تصديق خبر الله - عز وجل - فيما أثنى الله به عليهم في آياتٍ كثيرة، سواءٌ ما أثنى به على المهاجرين والأنصار كجنس، أو ما أثنى به على أهل بيعة الرضوان، أو ما أثنى به على السابقين، أو ما أثنى به على جميع مَنْ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} هذا يشمل الجميع، {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} هؤلاء حُبُّهُم لثناء الله - عز وجل - وتصديق خبر الله هذا لاشك أنَّهُ دين، وقال الله - عز وجل - في آخر سورة الفتح {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] . وحرف الجر في قول الله - عز وجل - {مِنْهُم} (مِنْ) هذه، أهل السنة والجماعة؛ بل أهل السنة الذين يخالفون الرافضة والخوارج يجعلون (مِنْ) هنا بَيَانِيَّةْ لبيان الجنس، والآخرون من الرافضة يجعلونها تبعيضية، وهي لبيان الجنس. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لو لم يقل {مِنْهُم} لصارت تشمل كل مؤمن عَمِلَ الصالحات، وهذا يدخل فيه أجناس التابعين وتبع التابعين ومن وَلِيَهُمْ إلى يوم القيامة، فأراد تخصيص جنس الصحابة بهذا الفضل وهو الوعد بالمغفرة والأجر العظيم، فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ليس على الإطلاق {مِنْهُم} يعني مِنَ الصحابة مِنَ الذين مع محمد {مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . وليست (مِنْ) هاهنا تبعيضية لأنَّها لا تنطبق عليها شروط التبعيض في هذا الموطن وإنما فسَّرَهَا بأنها تبعيضية الرافضة ومن شابههم، وهو الموجود في تفاسيرهم، يريدون أن يكون هذا الوعد لبعض الصحابة لا لكل الصحابة. و (مِنْ) هنا لبيان الجنس وليست لبيان وليست للتبعيض كقولك: الكتاب من ورق، هذا لبيان جنسه أو ما شابه ذلك. أما التبعيض فهذا لا يكون في الوصف، يكون الثاني بعض الأول. وهنا جاء وعداً بالوصف فقال {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فلا يكون التبعيض في مثل هذا السياق. لهذا كان عامة بل كان كل مفسري السلف والأئمة على أنَّ (من) هنا لبيان الجنس لاتفاق آخر الآية مع أول الآية. 2- ثانياً: أن حبهم إيمان: لأنَّهُ واجبٌ أَوجَبَهُ الله - عز وجل -، وما أَوجَبَهُ الله - عز وجل - فهو من شُعَبِ الإيمان، فَحُبُّ الصحابة إيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم نَصَّ في بعض الصحابة على أَنَّهُ إِيمانْ بقوله «آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآية النفاق بُغْضُ الأنصار» (1) . 3- ثالثاً: أنّّ حبَّهم إحْسَانٌ: لأنَّهُ يدل على أنَّ المُحِبْ لهم مُحْسِنْ في دينه وأتى بما يجب عليه وما يتقرب به إلى ربه من أنواع إحسانه وصِدْقِهِ في دينه. طبعاً (وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ وإحْسَانٌ) كل هذه تتبعض، ليست شيئاً واحداً، فالناس في حب الصحابة يختلفون، وأجرهم على قدر كثرة محبتهم ونصرتهم وفقههم لفضائلهم.   (1) البخاري (17) / مسلم (128) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 [المسألة السابعة] : (1) في قول الطحاوي رحمه الله (وَبُغْضُهُم كُفْرٌ ونِفَاقٌ وطُغْيَانٌ) : 1- أولاً: بُغْضُ الصحابة كُفْرْ: أ - فإذا كان البُغْضُ للدين أو للغيض كما فَصَّلْنَا فيكون الكفر هنا كفراً أكبر. ب - وإذا كان البُغْضْ لأجل الدنيا -كما قد تَتَنَاوَلْ النُّفُوسُ الكَرَاهَةَ والبُغْضَ لِأَجْلِ الدنيا-، فهذا كفرٌ أصغر ولا يصل إلى الكفر الأكبر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا ترجعوا بعدي كفرا يضرب بعضكم أعناق بعض» (2) . وكون بعض الصحابة قاتل بعضاً آخر، هذا فيه دخول في خصال الكفار، لهذا قال «لا ترجعوا بعدي كفارا» ، ولاشك أنَّهُ قد يكون الباعث على ذلك البغض والكره لأنَّ القتال يكون معه ما في النفس؛ لكن مع تقاتل الصحابة فإنَّ بعضهم لم يُسُبَّ بعضاً يعني بلسانه والنفس قد يوجد فيها ما لا يسلم منه البشر. فإذاً الكفر هنا قد يكون كفراً أصغر وقد يكون كفراً أكبر بحسب نوع البغض. 2- ثانياً: بُغْضُ الصَّحابة نِفَاقٌ: لأنَّ آية النفاق أن يُبغِضَ من نقل هذا الدين وحفظ الإسلام في الناس وجاهد في الله حق الجهاد وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمنافقون في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا يُبْغِضُونَ الصحابة ويَتَوَلَّونَ الكفار، ووصفهم الله - عز وجل - في ذلك بقوله {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة:67] . والنفاق هنا: أ - قد يكون نفاق أكبر اعتقادي بحسب حال البُغْضْ. ب - وقد يكون نفاق عملي بحسب نوع البغض وعدم المحبة. 3- ثالثاً: بغض الصَّحابة طُغْيَانٌ: يعني أنَّ بُغْضَهُمْ طغيان، طَغَى فيه صاحبه وجاوَزَ الأمر. فالله - عز وجل - أَمَرَ بِحُبِّهِمْ أو أَمَرَ بِمُوَالاتِهِمْ، وهذا معناهُ أنَّهُ أَمْرٌ بِحُبِّهِمْ وأثنى على من تَرَضَّى عنهم واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، وهذا معناه أنَّ الذي خالَفَ ذلك فهو قد طَغَىَ وتجاوز الحد في ذلك.   (1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة وإنما جعلها مع ما قبلها وقد جعلتها مسألة مستقلة حتى لا تشتبه المسائل. (2) البخاري (121) / مسلم (232) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 [المسألة الثامنة] : العلماء صَنَّفُوا في الصحابة مُصَنفَاتْ في بيان ما يجب لهم وفي الثناء عليهم وذكر أخبارهم وسيرتهم، ولاشك أنَّ الدّفاع عن الصحابة والتأليف في ذلك مِنْ الجهاد، وخاصَّةً في الأزمنة التي يكثر فيها أو يوجد فيها من يقدح في الصحابة أو في بعضهم، فإنَّ مِنْ مُقتَضَى الوَلاية أن يُنْصَرْ الصحابة بالتآليف وبالرَّدْ وبالذبِّ عنهم وبِبُغْضِ من يُبْغِضُهُمْ. وهذا يقتضي أنَّ مِنَ الجهاد في سبيل الله ومن المحافظة على الدّين أن يُنَالَ وأن يُرَدْ وأن يُجَاهَدْ مَنْ يقدح في الصحابة أو يطعن في عدالتهم أو يُشَكِّكُ في صدق بعضهم وفي حفظه ونحو ذلك. وهذا هو الذي صنعه أئمة الحديث فإنهم رحمهم الله تعالى لم يُصَنِّفُوا المُصَنَّفَات لحُبِّ التَّصْنِيفْ في الغالب؛ ولكن لأجل نُصْرَةْ الدين وأَفْرَادْ ما أوجب الله - عز وجل - البيان فيه. التأليف في الصحابة إما التآليف المستقلة أو في ما في كتب أهل الحديث، مناقب الصحابة، مناقب المهاجرين، مناقب أبو بكر، مناقب عمر إلخ..، كما في كتاب المناقب في البخاري، أو كتاب فضائل الصحابة في مسلم، أو غير ذلك كما هو معروف فهذا من الجهاد في سبيل الله ومن البيان للأمة. فالذي ينبغي لطلاب العلم خاصَّةً في هذا الزمن أن ينتبهوا لهذه الأصول، وأن يعلموا ما فيها، وأن تكون عُدَّتُهُم دائمة في هذا البحث للجهاد إذا جاء ما يستوجبه في المواطن التي تُنْتَقَصُ فيها مكانة الصحابة من المبغضين لهم أو لبعضهم قبّحهم الله. نكتفي بهذا القدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 الأسئلة : س1/ ذكرتم أنَّ مسائل الصحابة ليست في الأصل من مسائل الاعتقاد، وفي الحديث «حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق» فهل ثَمَّ فرق بين كونهم من الإيمان وكونها أنها ليست مسائل الاعتقاد؟ ج/الإيمان شُعَبُهُ كثيرة «الإيمان بضع وستون شعبة أو بضع وسبعون شعبة» (1) فمنها ما يدخل في مسائل الاعتقاد ومنها ما لا يدخل. فأصل حب الصحابة هي مسألة حب، موالاة، وهذه ليست من العقيدة لأنَّ أصل العقيدة ما يتعلق بمسائل الغيب ثُمَّ دخل فيها ما يتميز به أهل السنة عن غيره، فأصل العقيدة الذي يدخل في أركان الإيمان الستة: الاعتقاد في الله ربوبيته إلهيته الأسماء والصفات في الملائكة في الكتب والرسل اليوم الآخر والقدر هذه العقيدة، مسائل الإيمان في نفسها، أما المسائل الأخرى المُلْحَقَة هذه لأجل المُخَالفة، وصارت من العقيدة، وكونها من الإيمان هذا حق الإيمان ليست كل مسائله مسائل اعتقاد. س2/ أراني أجد شيئاً في نفسي على معاوية رضي الله عنه من حيث موقفه، لا سيما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار «تقتلك الفئة الباغية» (2) فهل عَلَيَّ في هذا إثم، مع العلم أني لا أتكلم بذلك ولا أتحدث به؟ ج/ نعم عليك إِثْمْ في ذلك إذا كان العلم سهلاً عليك أن تتحصل عليه وأن تَجْلُوَ هذه الشبهة، وتَبْقَى وأنت لا تَجْلُوَ هذه الشبهة عندك، كون الشيء يكون في نفس الإنسان وليس عنده وسيلة لكشفه ولا وسيلة لتعلم ما يدفع عنه هذه الشبهة وتسويل الشيطان، هذه قد يُعْذَرُ معه؛ لكن إذا كان العلم قريباً والكتب موجودة وأهل العلم الذين يكشفون الشُّبَه موجودون فهذا يأثم الإنسان بالتقصير ويأثم على بقاء هذا الشيء في نفسه. ومعاوية رضي الله عنه فَعَلَ فيما فَعَلَ أداءً لواجب شرعي يراه أنَّهُ مُتَقَدِّم على مسألة البيعة، وهو أنَّ دَمَ عثمان سُفِك رضي الله عنه، وهو وليه، هو ولي الدم، هو ذو القرابة من عثمان، وولي الدم لا بد أن يُسَلَّمْ من قَتَلْ، تحقيقاً لقول الله - عز وجل - {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] ، وكذلك الآيات التي فيها القصاص وأنَّ الولي {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] ، فمعاوية رضي الله عنه أراد أخذ الحق الذي جعله الله له والانتصار من قتلة عثمان، وسفك دم عثمان، لاشك أنَّ دم عثمان إذ ذاك هو أطهر دَمٍ لإنسان سُفِكْ، فالانتصار لعثمان رضي الله عنه واجب، وعلي رضي الله عنه أخَّرَّ بحث دم عثمان حتى لا تذهب بيضة الإسلام وبيضة أهل الإسلام لأنَّ هؤلاء الخوارج الذين جاؤوا أرادوا الفتنة العظيمة، فأراد أن يستقر الأمر ثم يُسَلِّمْ القَتَلَةْ لمعاوية؛ لكنه لم يفهم هذا؛ يعني اختلف الاجتهاد فلم يفهم هذا مع سعي الخوارج في الإعلام الفاسد، فَسَعَوا في التفريق ما بين هؤلاء، ينقلون لمعاوية أخبار عن علي ولعلي أخبار عن معاوية، والحققية الصحابة كلُّهُم هدفهم واحد في ذلك وهو حفظ بيضة الاسلام والانتصار من قتلة عثمان، لكن حصل ما حصل. فمعاوية رضي الله عنه مجتهد يريد أن يأخذ بحقه الشرعي؛ لكن الصواب مع علي؛ لأنَّ بيعة علي واستقامة أمر الناس في الخلافة وعدم حصول القتال هذا هو الواجب والحق مع علي في ذلك، ومعاوية رضي الله عنه مجتهد مأجورٌ على اجتهاده ولكنه مُخْطِئ في ما اجتهد فيه في ذلك ولكن هو مأجور. والإنسان لا يُبْغِضُ من اجْتَهَدَ أو يجد في نفسه شيئاً على من اجتهد في الحق، وإن كان أخطأ، فإنَّهُ إذا اجتهد في الحق وتَحَرَّاه، فإنَّ هذا هو الذي يجب عليه، ومعاوية رضي الله عنه به استقام المسلمون وحُفظت البيضة بعد علي رضي الله عنه، فالناس في زمن علي كانوا متفرقين ولم يستقم الأمر لعلي في الخلافة ولم يجتمع الناس عليه. ثُمَّ لمَّا حصل تنازل الحسن ابن علي في الولاية لمعاوية رضي الله عنهم أجمعين وحصل هذا الاجتماع العظيم في سنة إحدى والأربعين في العام الذي سُمِيَّ عام الجماعة يعني عام اجتماع الناس، حصل غيظ العدو، حتى الخوارج هربوا بعد أن كانت لهم الصولة وكانوا يُفَرِّقُون وسُفِكَتْ من دماء الصحابة ودماء التابعين ما سُفِكْ؛ ولكنهم لما اجتمع الناس كان أول من اندحر هؤلاء الخوارج أخزاهم الله.   (1) سبق ذكره (402) (2) مسلم (7506) / الترمذي (3800) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 فمعاوية رضي الله عنه له من الفضائل ما لَهُ، هو كاتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الصحابة الذين كانت لهم مواقف عظيمة في الجهاد، وجهاد الروم وجهاد الأعداء كما هو معلوم، ووَلِيَ الشام وكانت في سيرته في ولايته في عهد عثمان كان طيب السيرة، والاجتهاد في المال أو اجتهاد في بعض الأمور هذا إنما لا يمشي على وفق منهج الخوارج، أما الصحابة فكانوا يرون في ما اجتهد فيه أنه ما بين مصيبٍ وما بين مخطئ، والمخطئ لا يُعاب على ما اجتهد فيه إذا لم يكن مخالفاً للأصول، فمعاوية رضي الله عنه مكانته وحبه من الإيمان، ولا يجوز لمسلم أن يُبْقِيَ في نفسه شيئاً على صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. س3/ هل يُفرَّقْ بين سَبِّ الصحابة بعضهم لبعض وسَبِّ غيرهم لهم؟ ج/ ما سبَّ صحابِيٌّ صحابياً مطلقاً، وإنما قد يتسابون يعني مثل ما يحصل للبشر، يَتَرادُّونَ في موقف، لكن لا يَسُبُّهُم مطلقاً أو يذم صحابياً مطلقاً؛ لكن يكون بينهم تَرَادْ في مجلس لأجل ما يحصل بين البشر مقاتلة مؤقتة تحصل بينهم؛ لكن سَبْ الساب المطلق وانتقاص قدر فلان من الصحابة مطلقاً هذا لم يحصل عند الصحابة. س4/ ما حكم تقديم بعض الصحابة على بعض مثل تقديم علي على أبي بكر وعمر وعثمان؟ ج/ الصحابة أفضلهم كما ذكرت لكم العَشَرَة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذِّكر، ومُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة والذي دلَّتْ عليه النصوص ولا يجوز عليه خلافه أنَّ أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي هؤلاء هم أفضل الصحابة وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الذكر وكترتيبهم في الخلافة. أما تقديم علي على أبي بكر وعمر فكما قال السَّخْتَيَاني (من فَضَّلَ علياً على أبي بكر عمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) (1) ، كيف يكون أفضل ويُقَدِّمُونَ غيره عليه، فمعناه أنَّهُمْ خَوَنَةْ كما يَدَّعِي الرافضة، أو أنَّ لهم كذا وكذا. والصحابة من المهاجرين والأنصار قدَّمُوا من هو الأفضل لهم في دينهم وفي أيضاً في الولاية، تقديم علي على جملة الثلاثة هذا صنيع الرافضة. نكتفي بهذا وفقكم الله لما فيه رضاه وبارك فيكم.   (1) حلية الأولياء (7/27) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ كثير من الإخوان -جزاهم الله خيرا- إذا ما وقع بينهم خلاف في مسألةٍ ما إما فقهية أو غيرها وأُنْكِرَ عليهم شِدَّةْ الخلاف بينهم، قالوا: الصحابة اختلفوا فما بالك بحالنا؟ ج/ أولاً هذا ليس مما يسوغ أن يُذْكَرْ هذا عن الصحابة ويُجْعَلْ اختلاف الصحابة حُجَّةً مُطْلَقَاً لاختلاف غيرهم. الصحابة رضوان الله عليهم أولاً لم يختلفوا ولله الحمد في بابٍ من أبواب العقيدة والتوحيد والأصول وإنما اختلفوا في بعض المسائل الاجتهادية كالمسائل الفقهية وبعض مسائل الإمامة التي كانت في زمنهم لها تأويلها. ثُمَّ إنّ من القواعد المقررة عند أهل السنة كما كتبوا في عقائدهم أنَّنَا نحمل جميع أعمال الصحابة وأقوال الصحابة وأفعال الصحابة على إرادة الخير وعلى أنهم لم يقصدوا إحداث الخلاف ولا الانتصار للنفس، ولم ويذهبوا إلى النزعة القبلية أو نزعة علو الشأن أو نزعات الدنيا وإنما كان لهم في ذلك تأويلات، وربما دخل بعض هذه المطالب كشيءٍ من الدنيا دَخَلَ في تأويل الدين، ولم يكن يُقْصَدْ أساساً، فلم يكن في الصحابة ولله الحمد ممن يشار إليهم وحصل منهم الخلاف لم يكن منهم من يقصد الدنيا فقط محضة، وإنما يريدون الدين وربما يدخل في شيء من ذلك بعض استمساك بأمور الدنيا التي لهم فيها تأويل سائغ. ولهذا لا يسوغ أن يحتج (1) أحد إذا اختلف مع غيره باختلاف الصحابة مطلقاً، وإنما في بعض الوسائل إذا اختلف فيها الصحابة فالخلاف يسع من بعدهم إذا كانت من المسائل التي ليس فيها دليل واضح، أما إذا كانت المسالة فيها نص أو فيها دليل ظاهر من الكتاب أو من السنة فأقوال الصحابة بين راجحٍ ومرجوح إذا اختلفوا، فالله - عز وجل - أمرنا أننا عند التنازع والاختلاف أن نرد إلى الله - عز وجل - وإلى الرسول {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وهذا هو الذي يجب أنَّهُ يُرَدْ للدليل، فإذا لم تظهر دلالة الدليل في المسائل فإنَّ في اختلاف الصحابة سعة إذا اختلفوا، وهم لم يختلفوا ولله الحمد في التوحيد ولم يختلفوا في العقيدة ولم يختلفوا في أصول الدين، وإنما اختلفوا في بعض مسائل اجتهادية معروفة، ولهم فيها تأويل وكل يقوم بحجته وأقوال ما بين راجح ومرجوح رضي الله عنهم وأرضاهم.   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط الرابع والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ   بعد أنْ ذَكَرَ الطحاوي رحمه الله محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّنَا نتولاهم جميعاً، ولا نتبرأُ من أحدٍ منهم أتى إلى مسألةٍ عظيمة فارَقَ فيها جَمْعُ أهل السنة من عَدَاهم من الخوارج والرافضة وأشباههم في مسألة: الخلافة، ومن الأحق بالخلافة، ومن الأفضل، وترتيب هؤلاء على ما جاء في النصوص وعلى ما قَرَّرَهُ الصحابة والأئمة من بعدهم. فقال (وَنُثْبِتُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ويعني بذلك أنَّ الخلافة يُثبِتُهَا أهل السنة لأبي بكر دون غيره استحقاقاً للخلافة أو تقديماً له أو تفضيلاً، كما عليه الرافضة وبعض الفئات الأخرى. وهذا في الأصل كما ذكرت لكم قبل ذلك صار من العقيدة لأنَّهُ في أمر الخلافة التي بسببها وبسبب البحث في الخلافة افترقت الأمة إلى فِرَقٍ كثيرة. فأولُ خلافٍ وَقَعَ في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من الذي يلي المسلمين بعده صلى الله عليه وسلم؟ فوقع الخلاف بين المهاجرين والأنصار ولم يَطُلْ، وأجمع المسلمون في وقتٍ قصير على استحقاق أبي بكر للخلافة كما سيأتي بيانه. ويمكن أن نتحدث عن هذا في عدة مسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 [المسألة الأولى] : أنَّ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أَجْمَعَ عليها أهل السنة والجماعة؛ بل وغيُرهُم من الخوارج والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والمتكلمين وسائر الفرق عدا الرّافضة ومن نحا نحوهم. فخلافة أبي بكر الصديق وأنَّهُ هو المستحق للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ أجْمَعَ عليه هؤلاء، واختلفوا في مأخَذِ الخلافة وأحقية أبي بكر بالخلافة: هل لأنَّ خلافته ثبتت بالنص الجلي؟ أو أنها ثبتت بالنص الخفي؟ أو أنها ثبتت بالاختيار واتفاق واختيار الصحابة؟ على ثلاثة أقوال: 1- القول الأول: أنَّ خلافة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثبتت بالنص الجلي، ويعنون بالنص الجلي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى خلافته وأَوْضَحَ أنَّهُ الأحق بعبارات مختلفة وأدلةٍ متنوعة بدلالات قولية وفعلية يحصل من مجموعها التنصيص على أنَّ الذي يلي الناس بعده صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر. وهذا القول هو الذي عليه جماعة كثيرة من أهل الحديث، وهو قول الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأصحابه الحنابلة وطائفة كبيرة من الشافعية، وهو اختيار أيضاً ابن حزم وجماعة من الظاهرية. وهو الذي حرَّرَهُ المحققون أيضاً كشيخ الإسلام ابن تيمية وكغيره فإنه قال: والتحقيق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دلَّ على خلافة أبي بكرٍ الصديق بدلالات كثيرة من قوله وفِعْلِهْ صلى الله عليه وسلم وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله. 2- القول الثاني: أنَّ خلافة أبي بكر ثبتت بالنص الخَفِيْ، يعني بالدليل الخفي والإشارة، فهذا هو الذي ذهب إليه الحسن البصري، فقال حينما سئل: هل كانت ولاية أبي بكر بالنص عليه؟ فقال (لقد كان أبو بكر الصديق اتقى لله من أن يَتَوَسَّدَ عليها) ، يعني الخلافة. وذهب إلى هذا أيضاً جماعة من أهل الحديث بأنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة والدليل، ويعنون بذلك ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من تقديم أبي بكر في أمر الدنيا وفي أمر الدين في الصلاة وفي صحبته له وفي بيان فضله وعدم تقديم غيره عليه؛ يعني في الفضل. 3- القول الثالث: أنها ثبتت بالاختيار ويُعْنَى بذلك اختيار المسلمين له رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، وإلا فعند هؤلاء لم يكن ثمََّ نص وإلا لاحتجوا به عند الخلاف. وهذا ذهب إليه أيضاً كثير من أهل الحديث وطائفة من الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو مذهب المعتزلة الأشاعرة والماتريدية وأهل الكلام فإنَّهُم يرون أنها إنما ثبتت بالاختيار. * والصحيح من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو أنها ثبتت بالنص الجلي الذي لا يحتَمِلُ غَيْرَهُ. ويدلّ على هذا عدد من الأدلة: & الدليل الأول: هو أنَّ أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل الأمة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة جميعاً لم يكن أحد منهم يُقَدِّمُ أحداً من الصحابة على أبي بكر في الفضل. ومعلومٌ أنَّ فضله رضي الله عنه كان بنص القرآن ونص السنة على تقديمه على غيره في الفضل وأنه اخْتُصَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وفي قوله «هل أنتم تاركي لي صاحبي» (1) وفي قوله «لو اتخذت خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» (2) وفي قوله «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (3) -وهو دليل لمسألةٍ تأتي- ونحو ذلك من الأدلة التي فيها بيانُ فضله. والمسلمون لمَّا مات النبي صلى الله عليه وسلم لم بكن أحدٌ منهم يُقَدِّم أحداً في الفضل في أبي بكر، ومعلومٌ أنَّ الإمامة تكون للأفضل. والفضل له شُعَبْ منها الفضل في الدين، والفضل في العلم، والفضل في التقوى، ونحو ذلك، وكذلك أن يكون قرشياً في إمامة الاختيار وهذه كلها كانت موجودة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فالتنصيص على أنَّ أبا بكر هو أفضل هذه الأمة بمجموع أدلة كثيرة بالتنصيص على فضله وأنَّهُ أفضل وعلى اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أنَّ الأفضل هو الأحق بالخلافة. هذا تنصيص على أنّ أبا بكر هو الذي توجد فيه شروط الخلافة. & الدليل الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مرض مرضه الأخير أمَرَ الناس أن يُقَدِّمُوا أبا بكر فقال «مروا أبا بكر فليصلي بالناس» (4) قد قال بعض الصحابة: إذا ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا. يعني أنَّ تقديمه في الإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة دليل؛ بل هي نَصٌّ على أنَّهُ هو الأحق بالتقدم في الإمامة العظمى.   (1) البخاري (3661) (2) سبق ذكره ص (99) (3) الترمذي (3662) / ابن ماجه (97) (4) البخاري (664) / مسلم (967) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 & الدليل الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ الصحابة أن يأتوا بكتابْ ليَكْتُبَ لهم، فقال «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (1) ثم إنه لما دَعَا بذلك الكتاب قال «إيتوني بكتابٍ أعهد إليكم عهداً لا تختلفوا بعده» قال عمر رضي الله عنه (عندنا كتاب ربنا وما أظنُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلب عليه الوَجَعْ) (2) . وهذا اجتهادٌ من عمر رضي الله عنه حمَلَهُ عليه أنَّهُ ظَنَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سيذكر غير أمر الخلافة، غير أمر الوِلاية؛ لأنَّ أمر الولاية الدليل عليه قام بأدلة كثيرة أخرى فلا تحتاج إلى عهدٍ مكتوبٍ خاص يعهد إليهم به، فخَشِيَ أن يقول شيئاً آخر ويكون ذلك فتنةً للناس لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم في تلك الحال بشر، والناس قد لا يدركون كل شيء. ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أراد الكتابة بالعهد لأبي بكر، وعمر رضي الله عنه مَنَعَ أو رَأَى -كما قال بعض أهل العلم- أنه لا يُجْلَبْ الكتاب لأنَّهُ إن كان تنصيصاً بالولاية فهذا مدلولٌ عليه بغيره. وقال بعض العلماء: ولا يُحْمَلُ قول عمر رضي الله عنه على أنَّهُ ظَنَّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سيكتب شيئاً آخر، ولكن نَظَرَ في أنَّ الأمر لم يكن على الإيجاب وإنما كان على باب الشفقة والرحمة لهم، وباب الشفقة الرحمة لهم قال هؤلاء لا تلزم فيه الاستجابة وخاصَّةً في مثل مرضه صلى الله عليه وسلم. * والأول هو الأظهر في تحليل قول عمر رضي الله عنه. & الدليل الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» . & الدليل الخامس: أنَّ امرأةً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لها فوعدها موعدةً أخرى، فقالت كأنها تُشِيْرْ: إن لم أجدك -يعني بالموت- قال «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (3) . والأدلة على هذا كثيرة متنوعة في أنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان منصوصاً على استحقاقه للخلافة بعدة أدلة يُؤْخَذُ منها أنَّهُ نصٌ جلي لا يحتمل التأويل. أما القول الثاني وهو من قال أنها ثبتت بالإشارة، فهذا فيه نظر؛ لأنَّ الإشارة هي الشيءٍ الخفي، وهذه الأدلة ظاهرة في الدلالة. وأما من قال بالاختيار فلاشك أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه اختاره المسلمون؛ بل أَجْمَعَ عليه السلمون، وقد نقل الحاكم في المستدرك وصححه أنَّ علي بن أبا طالب ذكر إجماع المسلمين على خلافة وولاية أبا بكر (4) ، ونُقِلَ ذلك أيضاً عن طلحة بن عبيد الله وعن الشافعي وعن جماعة حَكَوا الإجماع على اختيار المسلمين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وثُبُوتُهَا بالاختيار هذا لاشك فيه لكنه ليس ثبوتاً مستقلاً بل هو تبعٌ لتنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر في بيان فضله ومنزلته وأنَّهُ هو الأحق بالتقدم في أمر الدين وفي الإمامة العظمى.   (1) مسلم (6332) (2) البخاري (114) / مسلم (4322) (3) البخاري (7360) / الترمذي (3676) (4) المستدرك (4426) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 [المسألة الثانية] : خلافة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وبيعة أبي بكرٍ الصديق تمت في سقيفة بني ساعدة في القصة المعروفة حيث اختلف المهاجرون والأنصار، ثم آل الأمر إلى أن يكون الخليفة من قريش لقوله صلى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش الخلافة فيكم» (1) يعني في قريش ثُمَّ قُدِّمَ أبو بكر للأدلة التي ذكرنا، واجتمع المسلمون على بيعة لأبي بكر. ومنهم من المسلمين مِنَ الصحابة مَنْ حصلت منه البيعة التي هي التزام لهذا الإمام ولهذا الخليفة بالمبايعة اللفظية دون المبايعة بصفقة اليد، وهذا كما حصل من علي رضي الله عنه ومِنْ طلحة بن عبيد الله، فإنهما -وهناك معهم آخرون- لم يبايعوا مباشرة بصفقة اليد وإنما بايعوا لمَّا بايع أهل الحل والعقد. ومعلومٌ أنَّ المبايعة قسمان: - بيعة لأهل الحل والعقد ومن استطاع من المسلمين أن يبايع بصفقة اليد والعهد. - والبقية يبايعون بيعةً شرعية باللسان أو باعتقاد القلب بالتزام طاعة هذا الخليفة وهذا الإمام. وعلي رضي الله عنه ومن معه قال طائفة: إنهم لم يبايعوا إلا بعد ستة أشهر أو بعد بضعة أشهر أو ثلاثة أشهر أو أكثر أو أقل وأنَّهُم لم يكونوا يرتضون تلك البيعة الأولى. وهذا غلطْ كبيرْ بل عليٌ رضي الله عنه قد بايع ولكنه لم يَقْدَمْ على أبي بكر حتى تُوُفِّيَتْ فاطمة، وكذلك طلحة بن عبيد الله تأخر في إعطاء أبي بكر الصديق ثمرة القلب وصفقة اليد في البيعة. وهذا التأخر له أسباب من أهمها: 1- السبب الأول: أنَّ علياً وطلحة من العشرة ومن المُقَدَّمِين وقد أُخِّرُوا أو لم يُدْعَوا أو لم يأتوا إلى الشورى -السقيفة- وفي اجتماع الأمر، فرأوا أنهم لمَّا لم يكن لهم الأمر في الشورى أنهم حينئذ ليسوا من أهل الحل والعقد فلا يلزم أن يستعجلوا في إعطاء البيعة بصفقة اليد. 2- السبب الثاني: أنَّ علياً رضي الله عنه رَاعَى فاطمة فيما كان في شأنها -إن صَحَّتْ الحكاية- فيما كان في نفسها في تأخير بعض الميراث، وأبو بكر رضي الله عنه أخَذَ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنا لا نُورَثْ ما تركناه صدقة» (2) وكان عليٌ رضي الله عنه يُراعي حال فاطمة لأنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يقول في شأنها «إنما أنت بضعَةٌ مني يؤذيني ما يؤذيك» (3) ، فَتَأَخَّرَ عليٌ لسبب ليس براجع إلى أحقية أبي بكر بالخلافة ولا إلى أحقيته بالبيعة بل إلى مسألةٍ يرى أنَّهَا الأفضل في مراعاته لفاطمة أو لأنه لم يكن من أهل الشورى فلا تلزمه المبادرة مع حصول بيعته لأبي بكر، حيث ذكر هُوَ أنَّ المسلمين والصحابة أجمعوا على خلافة أبي بكر. 3- السبب الثالث: أَنَّ التأخر قد يحصل، والتأخر أو التقدم ليس أمراً قادحاً في استحقاق أبي بكر للخلافة ولا إلى إجماع الناس عليه؛ لأنَّ التأخر -كما ذكرتُ لك- مَرَدُّهُ إلى ترك الأفضل من البَيعتَينْ وهو بيعة اليد، فإذا حصلت البيعة الواجبة وهي بيعة الاعتقاد، بيعة الالتزام بمبايعة المسلمين وارتضائهم، حصل القصد الشرعي، والأمر الثاني يمكن أن يكون له أكثر من سبب فلا يُجعَلْ قادحاً لا من جهةٍ علمية ولا من جهة أيضاً عملية. لهذا من نَقَلَ أَنَّ علياً رضي الله عنه أو طلحة أو نحو ذلك لم يكونوا يرتضون خلافة أبي بكر أو أنَّهُم جاملوا لمَّا رأوا الأمر استقر وأنَّ علياً كان الأحق ونحو ذلك، هذه كلها أقوال هي من أقوال أهل الرِّفْضْ والبدع الوخيمة. ولا يصح في هذا شيء عن صحابي أصلاً في أنه يقدم نفسه لا في الفضل ولا في الخلافة على أبي بكر رضي الله عنه؛ بل المسلمون تبعٌ لأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.   (1) البخاري (3501) / مسلم (4807) (2) البخاري (4240) / مسلم (4679) (3) البخاري (3714) / مسلم (6461) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 [المسألة الثالثة] : خلافة أبو بكر الصديق طَعَنَ فيها الرّافضة، فلم يقتصروا على ذلك بل طعنوا في أبي بكر الصديق. وطعنهم في الخلافة يريدون منها أنَّ أبا بكر وعمر اغتصبا الخلافة واغتصبا الولاية، وكان الأحق بها علي رضي الله عنه. ويستدلون لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍ في حديث غدير قم المعروف أنه صلى الله عليه وسلم قال لِعَلِي «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنَّهُ لا نبي بعدي» (1) ومنزلة هارون من موسى أنَّهُ قال له {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142] ، وهذا الحديث وقد رواه مسلم في الصحيح -حديث غدير قم المعروف- حديثٌ صحيح. و «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» لا تدُلُّ على استحقاقه للخلافة مُطْلَقَاً، وإنّما على استحقاقه للولاية في تلك السَّفرة التي سافرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لمَّا ذهب فإنَّ علياً صار منه بتلك المثابة وطَمَّنَّ خاطره وشرح صدره بهذه المنزلة إذ لم يرافقه صلى الله عليه وسلم، وهذا شيءٌ مؤقت لا يدل على التقديم في كل حال [ ..... ] لمَّا حَجَّ أبو بكر بالناس عام تسعٍ من الهجرة كان هو أمير الحج، وعلي رضي الله عنه كان معه ليقرأ على الناس أول سورة براءة، {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} [براءة:1-2] الآيات. وسبب إرسال علي رضي الله عنه مع أبي بكر أنَّهُ كان من عادة العرب أنها لا تقبل الأمر الجلل إلا من الرجل نفسه أو من ذي قرابَةٍ منه يقول بقوله، فَرِغِبَ صلى الله عليه وسلم في أن لا يحدث اختلاف في هذا الأمر وأن يُعْلِنْ البراءة من المشركين في أن لا يحج بعد العام مشرك، أن يُعْلِنَهَا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي ين أبي طالب ابن عمه وزوج بنته رضي الله عنه. وهذا يدل على أنَّهُ كان مع أبي بكر تابعاً، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الأمير. وما ذكروه من قوله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» إنما هذا في شيءٍ مؤقت لا يدل على منزلةٍ عامة. ولهذا علي رضي الله عنه كان في الستة نفر الذين عهد إليهم عمر رضي الله عنه باختيار الخليفة، فكان من اختيارهم أن يختاروا عثمان رضي الله عنه خليفةً للمسلمين، ولهم في ذلك -يعني للرافضة في ذلك - أقوال في القدح من أبي بكر وفي القدح من عمر وعثمان معروفة عاملهم الله بما يستحقون. [المسالة الرابعة] : قال (تَفْضِيلًا لَهُ وَتَقْدِيمًا عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ) وهذا هو الذي ذكرت لك في أول الكلام من أنَّ تقديم أبي بكر لأجل تَفْضِيلِهِ، فهو الأفضل وهو المُقَدَّم، كذلك عمر هو الأفضل وهو المُقَدَّم، كذلك عثمان هو الأفضل وهو المُقَدَّم، ثم علي هو الأفضل وهو المُقَدَّم، رضي الله عنهم أجمعين. فإثبات الخلافة فيها إثبات الفضيلة، وأيضاً المسألة تنعكس، إثبات فضل أبي بكر على جميع الأمة فيه إثبات الخلافة له رضي الله عنه وتقديم أبي بكر على جميع الأمة في الفضل هو تقديمٌ لأبي بكر على جميع الأمة في استحقاقه في الولاية والخلافة.   (1) البخاري (3706) / مسلم (6370) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 قال بعدها (ثُمَّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه)   عمر بن الخطاب هو في الأفضل في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق وهو في الخلافة أيضاً هو الخليفة الثاني بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلافته بالإجماع ثبتت بالعهد من أبي بكر حيث إنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه نَصَّ على عمر بالخلافة بعده. لهذا لم يختلف المسلمون في أن يكون بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفضائل عمر أكثر من أن تُحْصَرْ، ومناقبه كثيرة مبثوثة، وفي عهده رضي الله عنه اتسعت بلاد الإسلام وانتشر لواؤُهُ وكَثُرَ الداخِلُونَ في الدين، وأُرغمت أنوف الكفرة والمشركين وسار الصحابة والمسلمون إلى أمكنة بعيدة. وكان في عهده يأخُذُ نفسه بالحزم والشدة على نفسه وعلى قرابته، حتى إنَّهُ قيل له في آخر أمره: ألا تعهد لعبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال (يكفي أن يشقى بهذا الأمر واحدٌ من آل الخطاب) (1) . وكان رضي الله عنه وهو عمر من أحزم الناس في أمر الوِلَايَة؛ بل كان أحزم هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق في أمر الوِلاية. ومع أنَّهُ كان متصفاً بالقوة والبأس والهيبة، وكان أبو بكر رضي الله عنه متصفاً بالرفقة والرّحمة والسعي في الحاجات عن قلبٍ رحيم، فإنَّ أبا بكر كان في الولاية أفضل منه وفي مقامه مقام أبي بكر في الوَلاية كان أفضل وأرفع من عمر رضي الله عنه في مقامه. فأبو بكر الصديق رضي الله عنه هو الذي وقف في الردة ذلك الموقف العظيم الذي لم يثبت له عمر ولم يثبت له كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فولاية عمر بالاتفاق والإجماع من أهل السنة أنها ثبتت بالنص وثبتت بالعهد من أبي بكر، وأنه هو المستحق لها إلا خلاف الرافضة المعروف.   (1) تاريخ الطبري (2/580) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 قال بعدها (ثُمَّ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه)   وعثمان رضي الله عنه وَلِيَ الخلافة بالاختيار، فَعُمَرْ لمَّا وَلِيَ الخلافة وَلِيَهَا بِعَهْدْ، ثم استمر، فلما قَرُبَتْ وفاته وشهادته رضي الله عنه قال (إنْ أَعْهَدْ فقد عَهِدَ أبو بكر، وإن أترك فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم) (1) ، وجعل الأمر شورى في الستة نفر فآل إليهم الأمر فاختاروا أفضلهم وأعظمهم صحبةً للنبي صلى الله عليه وسلم ومقامُ صدقٍ في الإسلام وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. فخلافة عثمان ثبتت بالاتفاق ثبتت باختيار أهل الشورى الخاصِّينْ وهم الستة من العشرة - رضي الله عنهم -.   (1) البخاري (7218) / مسلم (4817) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 (ثُمَّ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه)   ونثبت الخلافة بعد عثمان لِعَلِيٍ رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب لم يُجْمِعْ عليه المسلمون في عهده لأنَّهُ -مع أنه الأحق من كل وجه من غيره- لأنه كان بعد مقتل عثمان، ومقتل عثمان سعى فيه المفسدون من الخوارج ونحوهم وأوغروا الصدور في هذا الشأن حتى وقع قَتْلْ عثمان، ثُمَّ وقع الخلاف بين الصحابة بسبب ذلك، فمعاوية رضي الله عنه في جهة وعلي رضي الله عنه في جهة، وطلحة والزبير وعائشة في جهة، وحدث من ذلك ما حدث. فعلي رضي الله عنه خلافته ثابتة باختيار أهل الحل والعقد له في المدينة، فخلافته بالاختيار؛ ولأنَّهُ هو الأفضل من هذه الأمة بعد عثمان، وإذا كان هو الأفضل فهو الأحق بالولاية وهو الأحق بالخلافة. لهذا كان الواجب على جميع المسلمين في وقته -يعني من الصحابة والتابعين- أن يعقدوا البيعة لِعَلِيٍ رضي الله عنه؛ لكن لم يجتمع الناس عليه وقضى في الخلافة رضي الله عنه سنين لم يكن السِّلْكُ فيها منتظماً ولا حبل الولاية فيها مستقيماً؛ بل كان زمن قتال وخلاف، وعلي رضي الله عنه لَقِيَ من الناس فيها الأمَرَّينْ. لهذا خلافة علي -وإن لم تكن مُجْمَعَاً عليها- فهي ثابتةٌ بيعة أهل الحل والعقد له في المدينة، وأهل الحل والعقد هم الذين يُصارُ إليهم في مسائل البيعة، وبعدهم لا يجوز لأحدٍ أن يَتَخَلَّفْ لأنَّ انتظام تلك واجتماع الأمة هذا فرضٌ ومن الفرائض، إضافةً إلى أنَّ علياً هو الأفضل، وهو رضي الله عنه في مكانته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمكان الذي لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 قال بعدها (وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ.)   كلمة (الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ) مأخوذة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم بالرّاشدين في قوله مثلاً في حديث العرباض بن سارية «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ» (1) ووَصْفُ الخلافة ووَصْفُ الرُّشْدْ ليس مُخْتَصَّاً بهؤلاء، فقد يكون بعدهم من يكون خليفةً، ويكون بعدهم من يكون راشداً. لكنهم اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ زائدٍ على الخلافة الراشدة في أنَّهُم على خلافةٍ راشدة على منهاج النبوة كما صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «الخلافة ثلاثون سنة على منهاج النبوة ثم يكون ملكاً» (2) إلى آخره. فهم الخلفاء الأربعة الذين شَهِد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة وبالرُّشْدْ. وهاهنا مسائل.   (1) سبق ذكره (5) (2) المسند (18430) / المعجم الكبير (368) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 [المسألة الأولى] : أَنَّ وصف الخليفة استمر بعدهم في وُلاةٍ بني أمية؛ لكنَّهُ مع تغير الاسم إلى أمير المؤمنين. وهذا ابتدأ من عهد عمر رضي الله عنه لما قيل له: أنت (1) : [[الشريط الخامس والأربعون]] : (خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم أو كما جاء عنه رضي الله عنه) (2) وإلا فَهُمْ خلفاء، فيَصِحُّ أن يُقَال الخليفة عمر، الخليفة عثمان، والخليفة الراشد علي وهكذا؛ لكنه اقْتُصِرْ على أمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي، ثمَّ بعده أمير المؤمنين معاوية إلى آخره. وهؤلاء خلفاء لقول النبي «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثنتي عشر خليفة» (3) وهذا يَدُلّ على دخول ملوك بني أمية مع اتِّصَافِهِم بالمُلْكْ باسم الخليفة؛ لأنَّ لفظ الخليفة ليس فيه مزيد فضل؛ ولكن معناه أنَّهُ الذي يخْلُفُ من قبله، وقد يكون يخلف بحسن، وقد يكون يخلف بغير ذلك. لكن قال صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثنتي عشر خليفة» وهذا يدل أيضاً على أنَّ ما بعد الاثني عشر خليفة يصح أن يُسَمَّوا خلفاء لكن لم يَخْتَصُّوا بهذا الاسم ولكن اخْتُصُّوا بألقاب أخرى، وربما أُطْلِقَ هذا اللقب.   (1) نهاية الشريط الرابع والأربعين. (2) تاريخ الطبري (2/569) / تاريخ الخلفاء (1/124) (3) مسلم (4812) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 [المسألة الثانية] : لو كان ثَمَّ خليفة خامس بعد الخلفاء الأربعة الذين اخْتُصُّوا باسم الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، لو كان ثَمَّ من يستحق الخليفة الخامس فالذي يستحقه الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وهذا هو الذي عليه أهل السنة بخلاف قول طائفة من أهل البدع في عمر بن عبد العزيز رحمه الله إنَّهُ خامس الخلفاء الراشدين، أو الخليفة الخامس، أو الخليفة الراشد الخامس ونحو ذلك. هذا ليس من أقوال أئمة أهل السنة؛ بل لو كان ثَمَّ خامس فالأحق به معاوية بن أبي سفيان فهو أفضل من عمر بن عبد العزيز بلا شك لأنَّهُ: - اجتمع عليه الناس. - وصار في مدته إغاظة للكافرين. - ولأنه هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب الوحي، وقد قال ابن مسعود (لَمُقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم كذا وكذا سنة) (1) . والنبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (2) ، وقد قال - عز وجل - أيضاً {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] . وعمر بن عبد العزيز لاشك أنَّهُ دون معاوية ولم يحصل له في ولايته الانتشار، وإنَّمَا أرادَ أشياء في نشر السنة، وفي الجهاد وفي إحقاق الحق والعدل بين الناس، وإزالة المظالم؛ لكن لم يستقم له الأمر فما عاش في ولايته إلا أقل من سنتين او نحو السنتين، ثم بعدها قُبِضْ. لهذا فلا يُقَدَّمْ أحد من التابعين على أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -.   (1) ابن ماجه (162) (2) سبق ذكره (414) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 [المسألة الثالثة] : الحسن بن علي رضي الله عنه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانة النبي صلى الله عليه وسلم، لما قُتِلَ علي بايعوه بالخلافة، فما استقام الأمر له، فأراد رضي الله عنه وأرضاه أن يحقن الدماء وأن يجمع كلمة المسلمين فتنازل بالخلافة والولاية إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسُمِّيَ عام تنازله بعام الجماعة حيث اتفق المسلمون واجتمعوا، وهذا لشدّة ورعه وتقواه -أعني الحسن- فإنَّهُ هو الأحق بالأمر؛ لكن رأى أنَّ مصلحة العظمى للإسلام والمسلمين تقضي بأن يترك الأمر لمعاوية الصحابي. وفي اختيار الحسن الخير والبركة وهكذا كان، فعاش المسلمون نحواً من عشرين سنة وهم في أمن وأمان وقوة على الأعداء ومَكَنَةٍ في أمر دينهم وفي أمر دنياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 قال رحمه الله بعدها (وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ)   هذا فيه تخصيص هؤلاء العشرة بالفضل وبالشهادة لهم بالجنة. ودخل هذا في العقائد مخالفةً للرافضة وبعض الخوارج الذين يتبرؤون من أكثر هؤلاء العشرة، ويرون أنَّ لفظ العشرة لفظٌ مشؤوم، وأنَّهُ لا يصح الشهادة لهؤلاء بالجنة، ولا أن يُتَوَلَّوا، فصار من عقيدة أهل السنة مع توليهم لجميع الصحابة أن يُشْهَدَ لهؤلاء العشرة بالجنة وأن يُتَوَلَّوا بخصوصهم لمزيد فضلهم وسابقتهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم معه. فأُدْخِلَتْ في العقيدة لأجل خلاف الرافضة في هذه المسألة وتَبَرُّئِهِم من أكثر العشرة ومن لفظ العشرة. وفي هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 [المسألة الأولى] هؤلاء العشرة سمَّاهُم الطحاوي هنا: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم -. وذكرت لكم مسألة قبل ذلك (1) وهي أنَّ هؤلاء العشرة قيل عنهم إنَّهُم المُبَشَّرُونَ بالجنة لا لأجل اختصاصهم بهذه الشهادة والبشارة بل النبي صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ عدداً كبيراً من الصحابة بالجنة فبَشَّرَ بلال بالجنة، وبَشَّرَ خديجة بالجنة، وبَشَّرَ عائشة بالجنة، وبَشَّرَ عكاشة بن محصن بالجنة، وبَشَّرَ آخرين بالجنة، وإنما اخُتُصَّ هؤلاء لأنهم أفضل هذه الأمة؛ ولأنهم بُشِّرُوا بالجنة في مكانٍ واحد، في حديثٍ واحد، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة» أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً في حديثٍ آخر أنَّهُ بَشَّرَهُم واحداً تلوى الآخر في دخولهم عليه في بستان فقال «أَدْخِلْهُ وبَشِّرْهُ بالجنة» لمَّا أَدْخَلَ أبا بكر، ثُمَّ دَخَلَ عمر فقال «أدخله وبشره بالجنة» ، ثُمَّ لما أتى عثمان قال «أدخله وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» (2) ثُمَّ هكذا إلى آخره. فالمقصود من ذلك أنَّ هؤلاء نُصَّ عليهم لمزيد فضلهم ولاختصاصهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وكلّهم من المهاجرين.   (1) انظر (626) (2) البخاري (3693) / مسلم (6365) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 [المسألة الثانية] : الرافضة -خذلهم الله- ومن شابههم يتبَرَؤُونَ مِنْ أفْضَلِ هذه الأمة وهم هؤلاء العشرة ما عدا بعض المذكورين، ويرون أنَّ لفظ العشرة من الألفاظ المنكرة التي ينبغي التبرُؤْ منها، فيكرهون لفظ العشرة لأجل وروده في العشرة المبشرين، ولأجل مقتل الحسين في اليوم العاشر من محرم ونحو ذلك مما يعتقدونه. والواجب أنَّ المسلم يتولى من تَوَلَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى هؤلاء، وهو الذي أشار إلى فضلهم وهو الذي بَشَّرَهُم بالجنة، فأيُّ خيبةٍ بعد ذلك على من عاداهم ولم يتولهم، فبِحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُصْرَتِهِم له أحببناهم ونصرناهم ودافعنا عنهم. فالذين يُبْغِضُونَ مَنْ أَحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن شَهِدَ له بالجنة هم الحقيقون بأن يُبْغَضُوا. وأهل السنة لكمال عدهم وأنَّهُم هم الوسط الذين شُهِدَ لهم بذلك في قوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فأهل السنة هم الوسط فهم يتولون من توَلَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم. والفرق على اختلافها الخوارج والنّواصب والشيعة والرافضة يتولَّونَ بعضاً ويكرهون بعضاً؛ بل ربما كَفَّرُوا بعضاً وحكموا بالإيمان على بعض. وهذا كله من الاعتداء والحكم على ما ليس لهم الحكم فيه. لهذا الواجب على كل مسلم في أي مكانٍ كان من الأرض أن يُعْلِنَ موالاته لهؤلاء العشرة لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة، يعلن موالاته لهؤلاء لأنَّ موالاتهم من الدين. ومن موالاتهم أيضاً الشهادة لهم بالجنة، ومن موالاتهم أن يُنْصَرُوا في موضعٍ يُنالْ منهم، ومن موالاتهم ومحبتهم أن يُجَاهِدَ المسلم في سبيل دفع الشُّبَه عنهم، الشُّبَه التي ربما يكون مَرَدُّهَا إلى الإثارات العلمية. فطالب العلم يَحْسُنُ به؛ بل هذا من الجهاد أن يكون عالماً بما أُثير على أبي بكر الصديق وكيف أجاب أهل العلم عن ذلك لأنه قد يحتاج، ثُمَّ على عمر، ثُمَّ على عثمان، ثُمَّ على البقية كأبي عبيدة بن الجراح الذي يزعم الرافضة أنه كان متفقاً مع أبي بكر وعمر أن يلي الأمر بعدهما ولكنه مات قبل ذلك، وهذه دعوى يكذبون بها. فالواجب إذاً أن يكون مقتضى المحبة والوَلَايَة أن يكون المؤمن عالماً بفضائلهم وأن يكون مدافعاً عنهم لأنَّ هؤلاء هم الصفوة، والله - عز وجل - يقول {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، وقال صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (1) وقال «المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يحقره» (2) يخذله متى؟ في موضعٍ يحتاج فيه إلى نُصْرَتِهِ، فإذا وقع الناس في عرض خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في عرض عائشة الصديقة بنت الصديق، أو في عرض عمر أو في عثمان أو أبي عبيدة أو نحوهم، فإنَّ الواجب أن يُنْتَصَرَ لهم، والانتصار لهم من الانتصار للدين لأنه انتصار لمن شهد الله - عز وجل - له وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) البخاري (481) / مسلم (6750) (2) مسلم (6706) / أبو داود (4882) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 [المسألة الثالثة] : أنَّ قوله (نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ الْحَقُّ) فيه إشارة إلى المسالة التي مَرَّتْ معنا سالفاً وهي أنَّنَا أهْلَ السنة والجماعة لا نشهد لمعينٍ من أهل القبلة لا بجنةٍ ولا بنار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنشهد لهم بالجنة لا لأجل أنَّ لهم الفضائل السائرة وأنَّ لهم المنزلة بل لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لهم بالجنة، فنشهد لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرت لكم (1) أنَّ أهل العلم في االشهادة بالجنة للمعين اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال ذكرتها لكم سالفاً، ومنها: أن يُشْهَدَ لمن استفاض عند الأمة الشهادة له بالخير والصلاح والتقوى؛ لأنَّ الله - عز وجل - وَعَدَ أهل الصلاح والخير والتقوى بالجنة، ووَعْدُهُ الحق، والأمة شُهُودُ الله - عز وجل - في الأرض كما جاء في الحديث الصحيح أنه لما مُرَّ بجنازة شَهِدُوا لها بالخير قال «وجبت» ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال «وجبت» ، قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال «تلك أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض» (2) ، لهذا كان رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن تيمية وجماعة أنه بالاستفاضة يُشْهَدْ. وهؤلاء العشرة مع شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة فإنَّ الأمة أجمعت عليهم، فليس ثَمَّ في الأمة إلى وقْتِ خروج الخوارج إلَّا مَنْ يُحِبْ هؤلاء العشرة ويَتَوَلَّاهم ويَنْصُرُهُم؛ لأنهم الذين نصروا الدين. فَكُلُّهُم ماتوا والأمة تشهد لهم بالخير والحق والصلاح ونُصْرَةْ النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه.   (1) انظر (459) (2) سبق ذكره (459) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 قال بعدها (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ.)   يريد بذلك أيضاً الردَّ على الروافض والزيدية والخوارج ومن شابههم في عدم تَوَلِّيهِم لجميع الصحابة ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّ من علامات الإيمان محبة الصحابة وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، ومن علامات النفاق بُغْضْ بعض الصحابة وبغض بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو الوقيعة في بعض زوجاته صلى الله عليه وسلم. تَمَيَّزَ أهل السنة وفارقوا طوائف من أهلٍ الفرق الضالة بأنهم يُحْسِنُونَ القول في الصحابة وفي الزوجات الطاهرات وفي ذرية النبي صلى الله عليه وسلم أعني ذرية الحسن والحسين وبقية أولاد علي - رضي الله عنهم - وأرضاهم. ويندرج الكلام في مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 [المسألة الأولى] : قوله (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يَعْنِي بإحسانْ القول هنا: - ما يشملُ إحسان القول القلبي بما يُحَدِّثُ به المرء نفسه. - وإحسان القول الكلامي، وهو ما يتكلم به المرء. فمن لم يكن في نفسه شيءٌ على الصحابة والزَّوجات الطاهرات فقد بَرِئَ من النفاق. ويُفْهَمُ من ذلك أنَّ من كان في نفسه شيء على بعض الصحابة أو لم يُحْسِنْ الظن أو لم يُحْسِنْ القول فيهم ظاهراً أو باطناً فإنه يُخْشَى عليه من النفاق بقدر ما فيه من الإساءة. وهذا يدل على أنَّ الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يكون اعتقادهم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الاعتقاد وأن يُثْنُوا عليهم بالجميل وأن يكِلُوا أمرهم إلى الله فيما اختلفوا فيه وأن يعلموا أنهم إنما اختلفوا في أمر لهم فيه اجتهاد وتأويل لأجل الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 [المسألة الثانية] : أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات تسع، ووَصَفَهُمْ هنا بأَنَّهُنَّ طاهرات. ويعني بطاهرات: ما وَعَدَ الله - عز وجل - به أو ما وصفهم الله - عز وجل - به في قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] . وتَطْهِيرْهنَّ وإِذْهَابْ الرجس يعني: أنَّهُنَّ مع بقية أهل البيت طاهرات مُطَهَّرات، فمن وَصَفَهُنَّ بغير الطهر وقذف بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه منافق وربما يكفر بقذفه أو بعدم تطهيره لهنّ. والله - عز وجل - يقول {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} [الأحزاب:32] ، وهذا في التفسير معناه أنَّهُنَّ رضي الله عَنْهُنَّ لَسْنَ مثل بقية نساء المؤمنين؛ لأنهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وزوجاته في الآخرة؛ ولأنهنَّ أيضاً أمهات المؤمنين وقال {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، وهذا يدلُّ على فضلِهِنَّ على كل مؤمن وعلى تطهيرهِنَّ كما في آية الأحزاب السابقة، وعلى أنَّ الواجب نحوهُنَّ الموالاة التامة وأنَّهُ لا يجوز أن يُعْتَقَدْ في واحدةٍ منهن بغير الكمال في أمر دينها بحسب ما وَسِعَه. ومعنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّهَات للمؤمنين أنَّهُنَّ بمنزلة الأمهات كما جاء في القراءة الأخرى أو في الحَرْفْ الآخَرْ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} يعني هو صلى الله عليه وسلم، فَهُنَّ أمهات المؤمنين في المنزلة وفي واجِبْ المحبة والتقدير وفي واجب النُّصْرَة وما يجب من الموالاة ونحو ذلك. أما في المَحْرَمِيَّة فليس أفراد المؤمنين محارم لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل كان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِبْنَ عن بقية المؤمنين، فهن أمهات المؤممنين في المكانة والمنزلة والفضل وليسوا أمهات في المَحْرَمِيَّة؛ لأنَّ المَحْرَمِيَّة أقسام ثلاثة، هذا القسم أحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 [المسألة الثالثة] : في قوله (وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ) يعني بكلمة (الْمُقَدَّسِينَ) المُطَهَّرِين لأنَّ التَّقْديس معناه التَّطهير، (الأرض المُقَدَّسة) يعني الأرض المُطَهَّرَة. وهنا نَوَّعْ العبارة مع أنَّهُ لم يأت في الكتاب ولا في السنة وصف ذرية النبي صلى الله عليه وسلم بالقُدْسِيَة أو أنَّهُم مُقَدَّسُون وإنما استعمل ذلك في المعنى لثبوت المعنى وهو التطهير في قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} . لهذا قال بعدها (الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ) إلْماحاً للآية وأنَّهُ يريد بالتقديس هنا التطهير من كل رجسٍ الذي هو الإثم والعيب. وذُرِّيَات النبي صلى الله عليه وسلم: - منهم من انقطع النَّسْلْ وهم أولاده صلى الله عليه وسلم وأولاد بناته الذين انقَطَعَ نسلهم. - ومنهم من بَقِيَ نسله إلى اليوم وهم الذين يُسَمَّونَ بآل البيت. وآل البيت الموجود الآن في الغالب من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب، ومنهم القليل من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب. ومن ينتَسِبُ إلى الحسين أو إلى الحسن، فإنَّهُ في الغالب عندهم صكوك نسبة يَسْرِدُونَ فيها النِّسَبْ إلى الحسن أو الحسين، يعني إلى علي بن أبي طالب وإلى فاطمة الزهراء. وهذه النِّسَبْ سواءٌ اطّلع عليها المسلم أو لم يَطَّلِعْ عليها فإنَّ اعتقاده في جنس الذرية الذين طَهَّرَهُمْ الله - عز وجل - من الرجس، ولا يُنْسَبُ لِمُعَيَّنٍ من الذرية بأنَّهُ مُطَهَّرٌ من كل رجس. يعني أنَّ المسلم يُحْسِنُ القول في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم الذين شُهِدَ لهم بالتطهير من الأرجاس في الآية، وهذه شهادةٌ عامة وهي خاصَّةٌ بأهل ذاك الزمان، وما تَسَلْسَلَ الزمان ما بَقُوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنَّ مِنَ المعلوم أنَّ القَرَابَة وحدها ليست بسببٍ كافٍ في نزع الآثام أو ثبوت التَّوَلِّي فقد يرتد القريب وقد يفْسُقْ وقد يكون كذا وكذا. لكن من كان منهم صالحاً فله حق التقديم وله حق التبجيل وله حق الاحترام -يعني أعظم من غيره- لمكانِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُبْحَثُ في مثل هذه المسائل في الأنساب؛ لأنَّهُ كما قال الإمام مالك رحمه الله (الناس مُؤْتَمَنُونَ على أنسابهم) (1) . فلا يُبْحَثْ عن النَّسَبْ وإنَّمَا من كان صالحِاً فَيُصَدَّقُ بظاهره، ومعيار صِدْقِهِ المحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الأصول وهو التوحيد والعقيدة ثُمَّ في البراءة من البدع ونحو ذلك. قد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنَّهُ قال «ثنتان أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت» (2) وهذا يحصل كثيراً الحقيقة في اختلاط بمن يَنْتَسِبُ إلى آل البيت لأنَّهُ قد يأتي آتٍ ويطعن في النَّسَبْ. وهذا لا يجوز شرعاً أن يُخَاضَ في مسألة النَّسَبْ إلَّا من شاعَ وانتَشَرْ وظَهَرْ أنَّهُ مقدوحٌ في نَسَبِهِ فهذا أمر آخر، لكن يُشَكَّكْ في النسب فهذا أمرٌ لا يعني. المقصود الاستقامة والناس مؤتمنون على أنسابهم، ومن لم يكن مستقيماً منهم فله الحق أن يُدْعَى له بالاستقامة والهداية ومغفرة الذّنب ونحو ذلك لأجل منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) كشف الخفاء (2690) (2) البخاري (3850) / مسلم (236) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 [المسألة الرابعة] : قوله في آخر الجملة (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ) يعني به ما يشمل: النفاق العملي والنفاق الاعتقادي، لأنَّ ضد إحسان القول في الصحابة والزوجات والذرية هو الإساءة في القول ظاهراً أو باطناً، وهذه الإساءة قد تكون من النفاق العملي وقد تكون من النفاق الاعتقادي بحسب الحال. ومن طَعَنْ مثلاً في عائشة رضي الله عنه بما بَرَّأَهَا الله منه فإنَّ نفاقه حينئذٍ نفاق اعتقادي كما قال - عز وجل - في وصف المنافق {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] . وقد يكون نفاقاً عملياً بحسب إساءة الظن؛ لأنَّ آية الإيمان حُبْ الصحابة، وآية النفاق بُغْضْ الصحابة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» (1) فإنَّ المهاجرين أفضل من حيث الجنس من الأنصار، فلهم الحق أعظم، كذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وعامة الصحابة لهم في ذلك المقام الأعظم. لهذا نقول إنَّ النفاق العملي قد يدخل إلى القلب في الإساءة في القول أو في الظن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو زوجاته أو ذرياته.   (1) سبق ذكره (629) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 الأسئلة : س1/ بعض أهل العلم يذكر في تعريف الصحابي من آمن بالرسول ورآه ومات على ذلك وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّة، فَذَكَرْ وإن تَخَلَّلَتْ صُحْبَتُهُ رِدَّةْ. ج/ هذه المسألة معروفة في تعريف الصحابي في مصطلح الحديث؛ ويَعْنِي هذا القيد وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّةْ، لا داعي له، لأنَّهُ آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ورآه ومات على ذلك. فقوله وإن تخللته رِدَّةْ هذا لأجل خلاف من خالف في هذه المسألة؛ لكن قوله ومات على ذلك يكفي. وإن تخلَّلَتْهُ رِدَّة لا تصلح للتعاريف على ما هو معروف في موطنه. س2/ هل يصح أَنْ يقال إنَّ حسان بن ثابت رضي الله عنه جبان أو نحو ذلك كما ذكر ذلك ابن حجر في الإصابة، علماً أنَّ وصف الجبان وصفٌ ليس عامًّا وإنما هو لحادثة أو نحوه؟ ج/ ليس كذلك، بل حسان بن ثابت رضي الله عنه من الشُّجعان لأنَّهُ كان يهجو المشركين، وقد قال صلى الله عليه وسلم لحسان «أُهجهم حسان وروح القدس معك» (1) وقال أيضاً له في وصفه هجائه للمشركين «لَهُوَ أشدُّ عليهم من وقع النبل» (2) ، والعرب كانت تثأر ممن يهجو وتكيد له بالسوء، فحسان رضي الله عنه كان مِقداماً لكنَّهُ كان كبير السن جداً، فكان تَقَدَّمَ قبل النبوة قبل أن يسلم عليه ستون سنة، فأسلم وهو ابن ستين سنة، ولما جاءت المغازي كان كبيراً فربما تَأَخَّرَ لضعفه لا لأجل شيءٍ في نفسه رضي الله عنه. فوصفه بهذا أولاً لا يجوز لأنه تَأَخَّرُه في بعض الوقعات لا لأجل ما ذكره هنا؛ ولكن لأسبابٍ أُخَر، وله له في ذلك مقام الصدق رضي الله عنه وأرضاه. س3/ ما رأيكم في ولاية عبد الله بن الزبير وهل هي ولاية شرعية؟ ج/ القرن يبدأ من سنة الصفر أو من سنة الواحد، بداية القرن يعني سنة واحد أو من سنة صفر؟ يعني الآن لما أقول عشرة هذه تتمة إيش؟ تتمة العاشرة أو هو هي تبدأ من عندما السنة تبدأ تتناقص. على كل حال هذا هروب من السؤال يعني. س4/ هل لمن يَدَّعِي أنَّهُ مِنَ الأشراف حَقٌّ عَلَي وإذا كان من الفسقة هل يجب عليّ شيء تجاهه؟ ج/ لا، له حق المحبة لأنَّهُ من الأشراف أما من جهة الحقوق الأخرى فهي مُتَبَادَلَة كغيره من المسلمين، لكن له حق المحبة له حق التقديم، له حق المزيد من النصيحة. والأشراف، الشرف المقصود به شرف النِّسْبَة يعني أنه مُنتَسِبْ إلى الآل، وفيه اصطلاح خاص، يعني كل واحد منتسب إلى على رضي الله عنه يقال من الأشراف. لكن فيه اصطلاح خاص آخر وهو أن يُفَرَّقْ بين الأشراف والسّادة، يُقَال هذا من الأشراف وهذا من السادة. يُعْنَى بالسَّادَة من لم يكن من بيت الأشراف الذين وَلُوا الإمارة في وقتٍ من الأوقات، ولوا الحكم في مكة ونحوها في وقت من الأوقات، يقال لهؤلاء السادة. وسلسلة النسب الأخرى يقال هؤلاء الأشراف الذين وَلُوا الولاية والإمارة والملك. هذا اصطلاح خاص، يقال هذا سيد وهذا شريف. لكن المقصود أنَّ لفظ الشرف أو الأشراف المقصود به أنَّهُ من الآل ولا يُعْنَي به هذا المعنى الخاص أنه من أهل بيت الحكم السابق فهذا لا يُخَصُّونَ بشيء إنما هم مثل كل من انتسب إلى النبي، يعني إلى علي رضي الله عنه، لهم حق الذي لهم، ويُقَدَمُون إذا كان هم فضل وعلم ومزية وصلاح، أما إذا لم يكن لهم ذلك فلهم حقوق أخرى تُؤَدَّى ويُدْعَى لهم ويُنْصَحون ولهم في ذلك أكثر من غيرهم. س5/ ما رأيك بمن يقول: لو كانت خلافة أبي بكر منصوصاً عليها لما اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - في سقيفة بني ساعدة؟ ج/ أولاً دائما في الأسئلة لا تقول (رأيك فيمن) قل رأيك في قول كذا أحسن، يكون السؤال عن القول لا عن القائل، هذا أمر. الأمر الآخر، العلم يختلف الناس فيه، يختلف الناس في استحضاره ويختلف الناس أيضاً في العلم به، وقد يكون عند فلان من الناس علماً لكنه في الموضع الفلاني ما استحضره ثُمَّ بعد ساعة قد يستحضر أكثر مما قال في الوقت ذلك، ثم قد يكون في وقت الخصومة ما فيه من ذهاب بعض ما يُسْتَحْضَرْ لكن الأمر صار إليهم وأجمعوا لما ذكّرهم في قوله (الأئمة من قريش) . وهذا من حسن سياسة أبي بكر رضي الله عنه ومن حسن معالجته للأمور؛ لأنه لم يذكر هُوَ ولا من معه من المهاجرين لم يذكروا التنصيص على أبي بكر وإنما ذكروا التنصيص على قريش ليقطعوا بذلك دابِرْ تَمَسُّكْ الأنصار بالخلافة، وقال فيهم أبو بكر الكلمة الشهيرة (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) (3) ، ثم لم يَختلفوا كثيراً إنما كانت بعض الأيام. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.   (1) المسند (18665) / ابن حبان (7146) / المستدرك (6062) (2) قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة، النسائي (2893) (3) البخاري (3668) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ يقول كيف يُنَاظَرْ ويُجَادَلْ الروافض وهم لا يؤمنون بكتاب إلا بتحريف ولا بسنة إلا بتصحيف فعلى أي شيء نجادلهم وبأي شيء نُفْحِمُهُم؟ ج/ ينبغي للمجادل -يعني طالب العلم- أن ينظر في الكتب التي صُنِّفَتْ في الرد على الشيعة والزيدية والروافض؛ لأنَّ فيها من العلم ما يهيئ لطالب العلم تصور المسائل التي يختلف فيها أهل السنة مع تلك الطوائف وكيفية الرد. وخلاصة الخلاف مع الشيعة أو مع الرافضة بالخصوص: يرجع إلى خلافٍ في توحيد العبادة لأنهم يرون أنَّ لأئمتهم مقاماً يصلح معه أن يُسْأَلُوا وأن يُدْعَوا وأنْ يُسْتَغَاثَ بهم؛ بل بناء القباب على القبور والحج إلى المشاهد التي يسمونها مشاهد -يعني قبور الأولياء وما أشبه ذلك-، هذا راجعٌ إلى الشيعة الرافضة فإنهم هم أول من أحدث فتنة البناء على القبور وتعظيم ذلك وشد الرحال إليها. توحيد العبادة ثَمَّ فرق بيننا وبينهم كبير؛ بل هم لا يُقِرُّونَ بتوحيد العبادة إلا على طريقتهم، فعندهم دعوة الأولياء ودعوة الأئمة الاثني عشر أو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم القبور والمقابر وشد الرحل إليها والتوسل بها والاستغاثة بأصحابها لتفريج الكُرَبْ وفي طلب الخيرات هذا كله عندهم مشروع ومطلوب؛ بل هو الحج أو من الحج عندهم. وأئمتهم -سيأتي بيان في هذا الدرس إن شاء الله- عندهم أَنَّهُم أبلغ وأرفع من الأنبياء مثل ما قال الخميني في كتابه الدولة الإسلامية يقول (ومن ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنهم كانوا قبل خلق هذا العالم أنواراً وجعلهم الله بعرشه مُحْدَثِين وجعل لهم من المنزلة والقربى ما لم يجعله لأحد من العالمين) . وهذا يعني أنَّ فيهم من صفة الملائكة أو من نور الله أو ما أشبه ذلك وأَنَّهُم أرفع من الأنبياء، دعوة أولئك والاستغاثة بهم هذه مطلوبة، هذا في توحيد العبادة. كذلك النبوة والوَلَاية هناك فرق، كذلك في مصدر التلقي الكتاب والسنة وما هو الكتاب وما هي السنة، في ذلك أيضاً هناك فرق، كذلك النظرة في مسائل العقيدة بعامة في الغيبيات والأسماء والصفات والقدر والإيمان ثَمَّ فروق كثيرة بين أهل السنة وبينهم. وهذه تتطلبها من كتب أهل العلم التي صنفوها في بيان هذه المسائل مثل كتاب ابن تيمية منهاج السنة ومثل المنتقى للذهبي ومثل جواب أهل السنة للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وثَمَّ كتب كثيرة في هذا الباب. س2/ من الذين يمثلون النّواصب وهل هم فقط الخوارج؟ ج/ النواصب هم الذين يناصبون العِدَاءْ للصحابة عقيدةً، فهؤلاء هم ضد الشيعة؛ يعني مَنْ مَدَحَهُ الشيعة هم يناصبونه، تجد أنَّهُم مَدَحُوا علياً فهم يناصبون علياً العداء ويتولون معاوية ويتولون يزيد بن معاوية ضد الحسين، وهكذا. وهؤلاء ثَمَّ فِرَقْ ينتسبون إلى هذه المقالة مثل فرقة اليزيدية في العراق وفي سوريا ونحو ذلك من الفِرَقْ. س3/ يدعو بعض الأئمة هذه الأيام يقول: يا غِيَاثَ المستغيثين، فهل اسم غِيَاثْ من أسماء الله تعالى؟ ج/ هذا الدعاء صَحَّحَهُ الإمام أحمد رحمه الله، وصَوَّبَهُ ابن تيمية في الفتاوى أيضاً وذلك لأنَّ الله - عز وجل - هو الذي يُغِيثْ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] ، فمن استغاث بالله أغاثه، والاستغاثة نوع من الدعاء لأنها طلب الغوث الذي هو دعاء خاص ونداء خاص، فالله - عز وجل - يجيب المضطر إذا دعاه كما قال في سورة النمل {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] ، فهذا الدعاء مما صُحِّحْ، ومسألة النداء فيه يا غياث المستغيثين لا يلزم منه أن يكون اسم غياث من الأسماء الحسنى لأنَّ معناه ثابتٌ بطريقة أخرى وهذه يمكن الرجوع فيها كلام ابن تيمية. س4/ من المعلوم أنَّ الاجتماع ونبذ الفرقة من أهم المقاصد الشرعية فما صِفَةْ الذين يجب علينا مراعاة هذا المقصد معهم وذلك أنَّ كثيراً من المبتدعة كالأشاعرة والرافضة وغيرهم لو أُنْكِرَ عليهم مذهبهم حصلت الفرقة فهل يسكت عليهم مراعاة لذلك المقصد الكبير؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 ج/ هذه مسألة كبيرة يضيق عنها المقام؛ لكن المقصود الاجتماع: الإجتماع على الدين، والدعوة تكون إلى الدين الذي أمرنا الله - عز وجل - بالاجتماع عليه، وهو ما نزل به القرآن وصَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلف الصالح، هذا هو الدين كما قال - عز وجل - {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13] الآية، وكذلك قوله - عز وجل - في سورة آل عمران {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] ، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة وأوضحت لكم هذا مراراً. فالدين الذي يجب الاجتماع عليه هو الدين الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته وكان عليه السلف الصالح، وأمَّا ما أحدثته الأمة من البدع في الاعتقاد أو البدع في العمليات والعبادات، فهذا لاشك أنه ليس الدين الأول هو شيء جديد، ولذلك صار فُرْقَةً وافتراقاً عما كانت عليه الجماعة الأولى، لهذا يجب أن يُحَافَظْ على ما كانت عليه الجماعة الأولى قبل أن تَفْسُدْ وتحدث الفِرْقَةْ والاختلاف، وهذا مما يجب الدعوة إليه بتثبيته، بتثبيت العقيدة في النفوس والدعوة إلى التوحيد والالتزام بالعمل الصالح، ونبذ الخلاف في هذه المسائل بتأصيل الأصول الشرعية في ملازمة الدليل وعدم الذهاب إلى العقليات. من جهة ثانية الاجتماع والائتلاف يكون بالاجتماع على من ولَّاهُ الله - عز وجل - أمر المسلمين، فهذا الاجتماع مقصود في الشريعة أمَرَ به الله - عز وجل - وأمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه وأبدى فيه وأعاد كما يقول إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب في مسائل الجاهلية حتى غدا عند كثيرين هذا الأصل كأنه لم يكن فيه شيء من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فالإجتماع نوعان إجتماع في الدين وإجتماع على ولي الأمر وعدم مخالفته ولزوم طاعته في المعروف، فإذا أمر بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. س5/ يوجد على كثير من السيارات تعليقات وخِرَقْ في مقدمتها ومؤخرتها، وأكثر هذه السيارات تَخُصُّ باكستانيين وأفغان، وتوضع هذه الخرق لدفع العين ولدفع الحوادث. فما توجيهكم للعمل على إزالتها وبالأخص أنَّهَا في بلد التوحيد؟ ج/ هذه الأشياء التي تُعَلَّقْ ربما تكون من التمائم، وربما لا تكون. ولهذا ينبغي أن يُتَثَبَتْ من ذلك فإذا ثبت أنها تميمة عُلِّقَتْ مثل خيوط حمر أو أرنب على الزجاجة أو على خلف المقعد الخلفي يوضع رأس حيوان، أو وضع مصحف في الخلف خلف الناس قد أكلته الشمس من كُثُرْ ما أصابه منها وأشباه ذلك هذا ظاهر أنها من التمائم. فإذا كانت من التمائم وجب مناصحة من هي معه، وإزالتها إن أمكن إزالتها بدون مفسدة. ووجب أيضاً أن يقوم أهل الحسبة الأمر بالمعروف والنهي في هذه المسائل؛ لأنَّ الشرك هو أخبث ما يكون، هو التعلق بغير الله واعتقاد النفع والضر في هذه الخرق والأشرطة والحيوانات، وأنها تدفع العين أو تجلب الخير أو نحو ذلك، هذه من الاعتقادات الفاسدة، والنبي صلى الله عليه وسلم صَحَّ عنه أنَّهُ قال «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (1) وقال أيضا «من تعلق تميمة فقد أشرك» (2) و (تَعَلَّقْ) تشمل شيئين: تشمل التعليق بنفسه وتَعَلُّقْ القلب. فمن عَلَّقَ شيئاً وتَعَلَّقَ قلبه به فقد أشرك. والقرآن على الصحيح لا يجوز أن يُسْتَخْدَمْ تميمة، لا من جهة وضعه في السيارات للحفظ أو لدفع العين، ولا أيضاً من جهة لبسه كتمثال مثل ما يباع أحيانا لبعض النساء ويُلْبَسْ، هذا كله من جهة التمائم، أو يجعل القرآن في خرقة وتُرْبَطْ أو يُعَلَّقْ هذا كله من حهة التمائم ويجب أن ينهى عن ذلك، وأن لا يتخذ القرآن تميمة لأنه داخل في العموم وصيانَةً لهم من استعماله في غير ما شرع الله - عز وجل -.   (1) سبق ذكره (473) (2) المسند (17458) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ -أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ-، لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ.   هذه الجملة من هذه العقيدة المباركة قَرَّرَ فيها الطحاوي منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع أهل العلم من أهل الأثر وأهل الفقه. فإنهم كما قال (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ) لأنَّهُم نَقَلَةْ الشريعة ولأنهم المُفتون في مسائل الشريعة، ولأنهم المُبَيِّنُون للناس معنى كلام الله - عز وجل - في كتابه ومعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يدفعون عن الدين ويذبُّونَ عنه بتثبيت العقيدة الصحيحة وتثبيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ورد الموضوعات والأحاديث المنكرة والباطلة التي أضيفت للنبي صلى الله عليه وسلم. فهم إذاً حُمَاةُ الشريعة -الحماية العلمية-، ولهذا كان العلماء ورَثَةَ الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارا ولا درهما وإنما وَرَّثُوا العلم، والذين حَمَى العلم هم الصحابة رضوان الله عليهم، وهم التابعون من علماء السلف وعلماء تابعي التابعين من أهل الحديث ومن أهل الفقه. فهؤلاء منهج أهل السنة والجماعة أن يُذْكَرَ الجميع بالجميل، وأن لا نقع في عالمٍ من العلماء لا من أهل الحديث ولا من أهل الفقه، بل يُذْكَرُونَ بالجميل ولا يُذْكَرُونَ بسوء، وإنما يُرْجَى لهم فيما أخطؤوا فيه أنهم إنِّمَا اجتهدوا ورَجَوا الأجر والثواب والخطأ لا يُتَابَعُ عليه صاحبه. وهذا الأصل ذكره الطحاوي في هذا المقام لأجل أنَّ طائفةً من غلاة أهل الحديث في ذاك الزمن كانوا يقعون في أهل الفقه، وطائفة من غلاة أهل الفقه كانوا يقعون في أهل الحديث ويصفونهم بالجمود. وأهل السنة الذين تحققوا بالكتاب وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبهدي الصحابة يعلمون أنَّ الجميع مُحْسِنْ، وأنَّ هؤلاء وهؤلاء ما أرادوا إلا نصرة الشريعة والحفاظ على العلم والفقه. نعم هم درجات في مقامهم وفي علمهم، لكنَّهُم لا يُذْكَرُونَ إلا بالجميل، والله - عز وجل - سَخَّرَ هؤلاء لشيء وسَخَّرْ هؤلاء لشيء، والوسط هو سِمَةُ أهل الاعتدال وسِمَةُ أهل السنة والجماعة كما كان عليه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعات أهل العلم فإنهم كانوا على هذا السبيل. ونذكر هاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 [المسألة الأولى] : أنَّ ذِكر العلماء بالجميل وعدم ذكرهم بأي سوءٍ أو قدح هذا امتثال لأمرين: 1- الأمر الأول: امتثال لقول الله - عز وجل - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، ولقوله {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، ولقوله - عز وجل - {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، فَبَيَّنَ الله - عز وجل - منزلة أهل العلم وبَيَّنَ فضل العلم وفضل أهله وأنهم مرفُوعون عن سائر المؤمنين درجات لِمَا عندهم من العلم بالله - عز وجل -. وبَيَّنَ أنَّ المؤمن للؤمن مُوالي، أنَّ المؤمن يُوالي المؤمن، ومعنى هذه الموالاة في قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، هي من الوَلَاية وهي المحبة والنُّصْرَة. وهذه المحبة والنُّصْرَة عند أهل السنة والجماعة تتفاضل بتفاضل تحقق وصف الإيمان. فالمؤمن يحب ويوالي المؤمن الآخر إذا كان كامل الإيمان أكثر من نُصْرَتِهِ ومحبته لمن كان دونه. ومعلومٌ أنَّ العلماء هم الذين أثنى الله - عز وجل - عليهم وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فواجبٌ إذاً بنص الآية أن يُوَالَوا وأن يُذْكَرُوا بالجميل وأن يُحَبُّوا وأن يُنْصَرُوا وأن لا يُذْكَرُوا بغير الحَسَنِ والجميل. 2- الأمر الثاني: أنَّ القدح في أهل العلم فيما أخطؤوا فيه -وسيأتي مسألة مستقلة لذلك إن شاء الله- أنَّ القدح فيهم يرجع في الحقيقة عند العامة إلى قَدْحٍ في حَمَلَةِ الشريعة ونَقَلَةِ الشريعة وبالتالي فيضعف في النفوس محبة الشّرع؛ لأنَّ أهل العلم حينئذٍ في النفوس ليسوا على مقامٍ رفيع وليسوا على منزلةٍ رفيعة في النفوس. فحينئذ يُشَكْ فيما ينقلونه من الدين وفيما يحفظون به الشريعة، فتؤول الأمور حينئذ إلى الأهواء والآراء فلا يكون ثَمَّ مرجعية إلى أهل العلم فيما أشكل على الناس فَتَتَفَصَّمْ عرى الإيمان وتتناثر [ ..... ] اليقين. لهذا كان ذِكْرُ العلماء بسوء هو من جنس ذكر الصحابة بسوء، ولهذا أتْبَعَ الطحاوي ذكر الصحابة بذكر العلماء، يعني لمَّا فَرَغَ من ذِكْرِ الصحابة ذَكَرَ العلماء؛ لأنَّ القدح في الصحابة والقدح في العلماء منشؤه واحد ونهايته واحدة، فإنَّ القدح في الصحابة طعنٌ في الدين، والقدح في العلماء المستقيمين، العلماء الربانيين فيما أخطؤوا فيه أو فيما اجتهدوا فيه هذا أيضاً يرجع إلى القدح في الدين، فالباب بابٌ واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 [المسألة الثانية] : لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -. ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهبنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟ فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء) ، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك. وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم. ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة: - أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر. - والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة. هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول. هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا. فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا. لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء، وخلافهم فيما اختلفوا فيه راجعٌ إلى أسباب يأتي ذكرها إن شاء الله. فليس منهم أحد أراد المخالفة وإنما كلهم أراد المتابعة وتَحَرِّيْ الحق ولكن ربما أصاب وربما لم يصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 [المسألة الثالثة] : قوله في أول الكلام (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ) الطحاوي رحمه الله توفي أول القرن الرابع الهجري وعاش أكثر حياته في القرن الثالث، ويَعْنِي بعلماء السلف السابقين من كان سلفاً له؛ يعني من سَبَقَه من أهل العلم، وهذا يَصِحُّ أن يُعْتَبَرَ سلفاً باعتبار. فكلمة السلف أو علماء السلف إذا أطلقت فلها اصطلاحان: 1- الإصطلاح الأول: تُطْلَق ويرادُ بها من سَلَفَ العَالِمْ ومن سَبَقَه. وهذا الإطلاق فيه سَعَة، ولهذا استعملها أناس في القرن الرابع وفي القرن الخامس وفي السادس، إلخ.. ويعنون بالسلف من سبقهم؛ لأنهم كانوا سَلَفَاً لهم، يعني كانوا سابقين لهم. 2- الاصطلاح الثاني: وهو المعتمد عند المحققين أنَّ كلمة علماء السلف يُعْنَى بها علماء القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتبع التابعين، ومن كان من الأئمة على هذا النحو وإن لم يكن من تبع التابعين. فهؤلاء هم الذين شَهِدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية «خير الناس قرني ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم» (1) قال الراوي (فلا أدري أذَكَرَ بعد قرنه ثلاثة قرون أو أربعة قرون) . والقرن هنا المراد به الجيل من الناس وليس القرن الزمني الذي هو مائة سنة. (قرني) يعني الذين اقْتَرَنْ زمانهم بي، وهم الجيل من الناس، انقضى الصحابة أتى التابعون، انقضى التابعون أتى تبع التابعين وهكذا. وهؤلاء هم الذين قَلَّت فيهم البدع وقَلَّ فيهم الخلاف للسنة، وكثر فيهم الخير بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وبشهادة الواقع أيضاً. فإذاً كلمة السلف، علماء السلف يُعْنَى بها وقد تطلق على من سلف، وسبق على ما ذكرت لك من الإصطلاح الخاص.   (1) سبق ذكره (624) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 [المسألة الرابعة] : الطحاوي في هذه الجملة قَسَمَ العلماء إلى قسمين، قالَ (أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ) فجعل العلماء على فئتين: - الفئة الأولى: أهل الأثر. - والفئة الثانية: أهل الفقه والنظر. @ وأهل الأثر: هم الذين اعتنوا بالحديث روايَةً ودراية، -الدراية يعني بها الفقه-، ويدخل فيهم الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن جرير وجماعات على هذا النحو. @ وأهل الفقه والنظر هم الذين غَلَّبُوا القواعد المستنبطة الكلية على السُّنَنْ المروية، وهم أصحاب الرأي والنظر في مدرستيه الكبيرتين: & في المدينة التي كان يتزعمها الإمام ربيعة المشهور بربيعة الرأي. & وفي الكوفة التي كان يتزعمها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمهم الله تعالى أجمعين. أهل الفقه والنظر يعتنون بالسنة؛ ولكن عنايتهم بالسنة قليل، وأهل الحديث والأثر يعتنون بالنظر لكن عنايتهم بالأقيسة وبالتَّقْعِيد قليلة. ولهذا صار هناك في الأمة في الاجتهاد صارت هناك مدرستان: - مدرسة أهل الحديث والأثر. … - ومدرسة أهل النظر. ولا تُقَابِلْ بين أهل الحديث وأهل الفقه؛ لأنَّ هذه المقابلة لا حقيقة لها. وإنما المُقَابَلَة بين أهل الحديث والأثر وبين أهل الفقه والنظر. وكلمة النظر أرادها الطحاوي لأنَّ الجميع موصوفون بالفقه وبالعناية به يعني استنباط الأحكام من الأدلة؛ لكن من جهة النظر والقياس والعقليات والقواعد هذه اعتنى بها الحنفية وأهل الرأي ولم يعتنِ بها أهل الحديث والأثر، وإنما اعتنوا باستخراج الفقه من الأدلة بدون تحكيمٍ للأقيسة على الدليل. مثاله: مثلاً عند الحنفية -أهل النظر- الحديث المرسل أقوى من المسند، فإذا اجتمع حديثان: مُرْسَلٌ ومُسْنَدْ حُكِمَ في الفقه بالمرسل ولم يُحْكَمْ بالمسند، لماذا؟ لدليلٍ عقلي عندهم، وهو أنَّ المُرْسِلْ من أهل الفقه من علماء التابعين لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا وهو متحققٌ به لأنَّهُ من أهل الفقه، وأمَّا الروايات المُجَرَّدَة فإنها يدخلها الغلط ويدخلها ما يدخلها. ولاشك أنَّ هذا تعليل عقلي ولكنه ليس بمنطقي. أيضاً ينظرون إلى القواعد أنَّهَا قطعية والأدلة غير المتواترة أنها ظنية فيقولون: إذا صار هناك قاعدة أو قياس كلي فإنه يكون قطعياً في الدلالة على محتواه، وأما الدليل فيكون ظنياً: إما ظَنِّيْ الرواية -يعني إذا كان من السنة-، وإما أن يكون ظَنِّيْ الدلالة، أيضاً غير قطعي الدلالة من الكتاب أو من السنة. فَيُحْكَمْ بالقاعدة ويُصْرَفْ ظاهر الدليل لأجل أنَّهُ يحتمل الظن والقاعدة قطعية. ونحو ذلك من الخلاف المؤَسَّسْ على مشارب شتى. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وذكره شارح الطحاوية وجماعة (إنَّ العلماء فيما اختلفوا فيه من عدم الأخذ بالدليل من الكتاب والسنة يمكن أن يرجع إلى عدة أسباب) ، ومن أهم هذه الأسباب. - أولا: أنْ لا يثبت عند الإمام صحة الدليل. - الثاني: أن يكون منسوخا أو مُؤَوَّلاً. - الثالث: أن يكون مُعَارَضَاً بما هو أقوى عند الإمام من ذلك الدليل، إمَّا مُعَارَضْ بدليلٍ آخر وإما مُعَارَضْ بقاعدة كما عند الحنفية. - الرابع: أن يكون للإمام هذا شرط في الرواية ليس هو شرط الإمام الآخر في الحديث. مثلاً عندك الإمام الشافعي يقول حدثني الثقة ويعني به إبراهيم بن أبي يحيى، فإذا عَرَفْ الإمام أحمد أو غيره أَنَّ الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى هو عندهم ليس بثقة بل هو بضعيف بل ربما كان أدنى من ذلك مما اتُّهِمْ به بالكذب ونحو ذلك. فهو عند إمام ثقة فيما يرويه يأخذ بروايته، وعند آخر ليس بشيء فلا يأخذ بروايته. وهذا يُبَيِّنُ لك أنَّ اختلاف الأئمة من أهل الفقه والنظر وأهل الحديث والفقه والأثر في ذلك اختلاف ليس راجعاً إلى عدم الأخذ بالدليل؛ ولكنه راجع إلى فهم الدليل، وما هو الدليل الذي يُسْتَدَلُ به وكون الدليل راجحاً غير مرجوح. ولهذا لا يوجد في مسألة أن يقال: ليس للعالم هذا دليل. (1) : [[الشريط السادس والأربعون]] : أنا لا أعلم مسألة يقال ليس للإمام أبي حنيفة فيها دليل أو ليس للإمام أحمد فيها دليل أو ليس للإمام مالك فيها دليل، كلٌ منهم لا يقول قولاً ولا يذهب إلى مذهب إلا بدليل. والأدلة أعم من النصوص من الكتاب والسنة لأن جِمَاعْ الأدلة عند أهل الأصول يرجع إلى ثلاثة عشرة دليلاً وتصير بالتفريق كما ذكره أهل الأصول وذكره القرافي في الفروق إلى عشرين دليلاً. فهذه الأدلة منها ما هو مُتَّفَقٌ على الاستدلال به ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ في الاستدلال به، فقد يكون الدليل دليلاً عند الإمام مالك وليس دليلاً عند الإمام أحمد مثل عمل أهل المدينة، وقد يكون الدليل مرعياً عند أبي حنيفة وهو قاعدة ولا يكون مرعياً عند الشافعي بورود دليلٍ من السنة في خلاف ذلك وهكذا. فإذاً مأخذ العلماء اجتهادي، وواجبٌ حينئِذْ إذْ كانت هذه مآخذهم أن لا يُذْكَرُوا إلا بالجميل، وأن لا يُذْكَرْ العالم حتى فيما أخطأ فيه وابتعد في الخطأ حتى إباحة المالكية لأكل لحم الكلب وحتى في إباحة الحنفية لشرب النبيذ يعني غير المُسْكِرْ لا يُشَنَّعْ عليهم في ذلك لأنها اجتهادات فيما اجتهدوا فيه.   (1) نهاية الشريط الخامس والأربعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 [المسألة الخامسة] : الواجب على طلبة العلم الذين يريدون أن يسلُكُوا هذا السبيل أن يُلْزِمُوا أنفسهم مع أهل العلم السابقين والأئمة الذين أشادوا للدين بنياناً وللعلم أركاناً، واجبٌ عليهم أن يدافعوا عنهم وأن يُثْنُوا عليهم وأن ينشروا في الناس سيرتهم حتى يُقْتَدَى بهم وحتى يقوى ركن علماء الشريعة. وهكذا أيضاً واجبٌ على طلاب العلم أن لا يقعوا في أحدٍ من العلماء بسوء، فمن أصاب من أهل العلم من أهل الحديث والأثر أو من أهل الفقه والنظر فقد أحسن ويُثْنَى عليه ويُتَابَعْ فيما أصاب فيه، ومن أخطا فأيضاً قد أحسن إذ اجتهد؛ لكن الصواب من الله تعالى. وهذا لا يدخل في العلماء الذين نشروا الشّرك والبدع والخرافات ولم يكن لهم حظ لا من الحديث والأثر ولا من الفقه والنظر، وإنما سَخَّرُوا جهدهم في مخالفة السنة في البدع، فأرادوا نشر البدعة ونشر الخرافة ودافعوا عن الشرك وعَلَّقُوا الناس بالموتى وعَلَّقُوا الناس بالبدع والاحتفالات وأشباه ذلك. فهؤلاء لا يدخلون في هذا الكلام الذي ذكره؛ لأنهم أرادوا ما خالفوا به إجماع الأئمة الأربعة. هؤلاء يُرَدْ عليهم وربما يُحتَاج من باب التعزير إلى ذكرهم بما فيهم حتى يحذرهم الناس. * تنبيه أخير: إلى أنَّ قول الطحاوي في أول الكلام (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ) قال بعدها (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) ، كلمة (وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ) فيما أفهم أنه لا يريد بها التابعين عند أهل الاصطلاح؛ يعني التابعين الذين صحبوا الصحابة، وإنما يريد بهم من تبع علماء السلف على اصطلاحه؛ لأنَّ التابعين ما فيهم هذا التقسيم أهل الحديث وأهل النظر، التابعون والصحابة ما فيهم هذا التقسيم أهل الحديث وأهل النظر إنما هذا التقسيم فيمن بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 قال بعدها رحمه الله (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَام، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)   يريد العلاّمة الطحاوي في هذا أن يُقَرِّرَ عقيدةً عظيمة وهي أنَّ أفضل الناس هم الأنبياء، وأنَّ النبي أفضل من جميع الأولياء، وأنَّ أهل السنة والأثر والجماعة هؤلاء لا يُفَضِّلُونَ ولياً على نبي؛ بل كل نبيٍ أفضل من جميع الأولياء. وأدْخَلَهَا في العقيدة مع أنها مسألة تفضيل لِصِلَتِهَا بالنبوة وبالوَلاية؛ ولأنَّهُ ظهر في عصره طائفة ممن زعموا أنَّ الولي قد يبلغ مرتبةً أعظم من مرتبة النبي. وهذه الطائفة التي تُفَضِّلُ الأولياء على الأنبياء تشمل فئتين كبيرتين: 1- الفئة الأولى: الباطنية في زمنه من إخوان الصَفَا والإسماعيلية ومن شايعهم، وكذلك ربما دخل فيها طائفة من أهل الرفض والتشيع، فإنهم يُفَضِّلُونَ بعض الأولياء على بعض الأنبياء. 2- الفئة الثانية: هم غلاة المتصوفة في ذلك الزمن الذين تَزَعَّمَهُم الحكيم الترمذي، محمد بن علي بن حسن الترمذي في كتابٍ سَمَّاهُ (خَتْمْ الوَلَاية) كما سيأتي بيانه. فأراد أن يُبَيِّنْ أهل العقيدة الصحيحة لهذه الطائفة ولهذه الفئات جميعاً وأنَّنَا نعتقد أنَّ الولي مهما بلغ من الصلاح والطاعة فإنَّه حسنة من حسنات النبي الذي تَبِعَهُ، فإنَّمَا علا مقداره وظهر شأنه في متابعته للنبي لا باستقلاله، على الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه. ونذكر هنا مسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 [المسألة الأولى] : تفضيل الأولياء على الأنبياء هذا نَشَأْ مع عقيدة عند المتصوِّفَة ومن شابههم -يعني غلاة المتصوفة- وهي ما أسموه بِخَتْمِ الوَلَاية. ويعنون بِخَتْمِ الوَلَاية أنَّهُ كما أنَّ للأنبياء نبياً خاتماً لهم، فكذلك للأولياء وليٌ خاتمٌ لهم، وكما أنَّ خاتم الأنبياء أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك خَاتَم الأولياء هو أفضل من جميع الأولياء. وعقيدة خَتْمْ الوَلَايَة ذَكَرَهَا الحكيم الترمذي في كتابٍ سَمَّاه (خَتْمْ الوَلَاية) وقد طُبِعَتْ منتخبات منه قديماً، وأَسَّسَ فيها القول بأنَّ الأولياء يُخْتَمُونَ، وأنَّ الولي في باطنه قد يبلغ مقاماً يَتَلَقَّى فيه من الله - عز وجل - مباشرة، وأنَّ الولي قد يكون أفضل من النبي، وهذه لم يَنُصَّ عليها ولكنها تُفْهَمْ من فحوى كلامه. ولاشك أنَّهُ غَلِطَ في ذلك غَلَطَاً فاحشاً، وإن كان هو من أهل العناية بالحديث كرواية، ومن أهل الخير والصلاح كما وصفه بذلك ابن تيمية؛ لكنَّهُ غَلِطَ في هذه البدعة الكبرى التي ابتدعها في الأمة والشرور التي حدثت من القول بوحدة الوجود وتفضيل الولي على النبي والاستقاء من الله - عز وجل - مباشرة إنَّمَا حدثت بعد هذا الكتاب وهذه النظرية الباطلة التي تُبْطِلُ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على الحقيقة. وهذا لم يَخْتَصَّ به الحكيم الترمذي؛ بل تبعه عليه أُنَاس منهم ابن عربي في كتابه (الفصوص) وفي كتابه (الفتوحات المَكِيَّة) ، ومنهم محمد بن عثمان المرغني السوداني الذي له طريقة معروفة عند أهل السودان (الطريقة الختمية) ، ومنهم التيجاني، هؤلاء كانوا في القرن الثالث عشر، وصّرَّحْ المرغني في كتابه (تاج التفاسير) صَرَّح بهذه العقيدة، ومنهم التيجاني عند أهل المغرب فيما يعتقدون فيه ووُصِفَ به. هؤلاء يعتقدون أنَّ الولاية تُخْتَم؛ لكن ادَّعَى ابن عربي أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء، وادَّعَى الميرغني أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء وادَّعَى أيضاً التيجاني أنَّهُ هو الذي خَتَمَ الأولياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 [المسألة الثانية] : عقيدة خَتْمْ الوَلَايَةَ أو خَتْمْ الأَوْلِيَاءْ مبنيةٌ على ثلاثة أمور: 1- الأمر الأول: أنَّ النبي إنما أتى بشريعةٍ ظاهرة، وخاتَمْ الأولياء جاء بشريعةٍ باطنة، فخَاتَمْ الأولياء في الظاهر مع النبي وفي الباطن مستقلٌ عن النبي. لهذا يقولون: إنَّ الأنبياء راعَوا الظاهر واهتموا بالعبادات الظاهرة، وخَاتَم الأولياء وصفوة الأولياء اهتموا بالأخذ عن الله - عز وجل -. ولهذا ابن عربي في كتابه الفُصُوصْ لمَّا جاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح أنَّ بُنْيَان الأنبياء تَمْ ولم يبق فيه إلا موضع لبنة، قال صلى الله عليه وسلم «مثلي ومثل الأنبياء من بنى بنيانا فكَمَّلَهُ وأحسنه حتى لم يبق منه إلا موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون لم كملت هذه اللبنة- قال:- فكنت أنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (1) . قال ابن عربي -قَبَّحَهُ الله- في هذا الموطن: وخاتَمْ الأولياء يَرَى نفسه في قَصْرْ الوَلَاية في موضع لبنتين لبنةُ فضة في الظاهر ولبنةُ ذهب في الباطن، فهو يَفْضُلُ النبي في الحاجة إليه؛ لأنَّ البنيان احتاج إلى لَبِنَتَينْ وذاك احتاج إلى لَبِنَة واحدة، ولَبِنَتُهُ الظاهرة من الفضة في متابعة النبي ظاهراً، ولَبِنَتُهُ الذهبية في الباطن بها يأخذ من المشكاة التي تُنْزِلُ الوَحْيَ على خاتم الأنبياء، يعني يأخذوا عن الله مباشرة أو كما جاء في كلامه. وقد كرَّرَ هذا في مواضع في الفصوص وخاصَّةً في فَصٍّ واحد يعني كَرَّرَ الكلام وعَبَّرَ عنه. وهذا ليس خاصًّاً بهذا الرجل بل كذلك مَنْ بعده ممن شَرَحُوا أو الميرغني أو التيجاني أو مَنْ شابههم كان كلٌ منهم يعتقد في نفسه أَنَّهُ خاتم الأولياء. 2- الأمر الثاني: أنَّ خَاتَمْ الأولياء أفضل من خَاتَمْ الأنبياء؛ لأنَّ خَاتَمْ الأنبياء يأخذ عن الله بواسطة وخَاتَمْ الأولياء يأخذ مباشرة؛ ولأنَّ خَاتَمْ الأنبياء يأخذ الناس بما يُصْلِحِ ظاهرهم وخَاتَمْ الأولياء يُصْلِحُ باطنهم. ولهذا يقول: مثلاً الميرغني في بعض كلامه: من رآني، ومن رَأَى مَنْ رَآني إلى خمسة أجيال فإنَّهُم مُحَرَّمُونَ عن النار، لما في خَاتَمْ الأولياء من النُّور الذي قذفه الله - عز وجل - فيه، فينبَعِثُ هذا النور فيمن رآه ورَأَى من رآه إلى آخره. أو كما قال. وهذا العقيدة بها جعلوا أنَّ للوَلِي ما يَفْضُلُ به النبي والعياذ بالله. 3- الأمر الثالث: أنَّ الولي والنبي بينهما فَرْقْ من جهة أنَّ النبي جاءَهُ الوحي اختياراً من الله - عز وجل -، وأمَّا خَاتَمْ الأولياء فَفَاضَ عليه الوحي؛ لأنَّهُ اسْتَعَدَّ لذلك بتصفية باطنه، فعنده القَبُولْ والاستعداد لأَنْ يُفَاضَ عليه، وبهذا صار خَاتَمْ الأولياء أفضل من خَاتَمْ الأنبياء. هذه ثلاث مجملات في تلخيص كلامهم.   (1) البخاري (3535) / مسلم (6101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 [المسألة الثالثة] : أهل السنة يعتقدون بكرامات الأولياء كما سيأتي لكن بالاعتقاد الصحيح، لكن عند كثيرين من الفئات التي تعتقد في الأولياء، مثل الباطنية والرافضة وغلاة الصوفية يعتقدون أنَّ أفضل المقامات مقام الولي، ويليه الدرجة الثانية مقام النبي، ويليه مقام الرسول، وفيها يقول قائلهم: مقام النبوة في برزخٍ ****** فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الولي (مقام النبوة في برزخٍ) يعني هو الوسط. (فُوَيْقَ الرسول) الرسول تحت النبي مع أنَّ الرسول هو أفضل من النبي، النبي تحته بقليل يعني بقليل. (فويق) يعني بينهما شيء يسير. (ودون الولي) يعني بينه وبين الولي مراتب. فالأعلى عندهم الولي ثُمَّ بعده النبي ثُمَّ الرسول. وهذا القول في الترتيب قال به غلاة الصوفية وكما ذكرت لك النقل عنهم، وقال به أيضاً أئمة مذهب الاثني عشرية مثل ما ذكرت لك في أول الكلام عن قول الخميني حيث قال (من ضروريات مذهبنا) . (ضروريات) معناها الشيء الذي لا يحتاج إلى استدلال، الذي يُحَسْ بأحد الحواس الخمس، ما يحتاج إلى دليل ولا برهان، الشيء الضروري ما يحتاج إلى دليل وبرهان لأنَّهُ محسوس. قال (من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل) . يعني أَنَّ مقام الأولياء -يعني الأئمة الاثني عشر- أعلى من مقام الأنبياء. وهذا بلا شك طعنٌ في القرآن وطعنٌ في السنة وطعنٌ في الصحابة، وهكذا يبلغ الأمر عند من قاله؛ لِأَنَّ أفضل هذه الأمة وأحق الناس بأن يكون من الأولياء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم العشرة المبشرون بالجنة، وهكذا، فهؤلاء هم الأولياء وهم سادة الأولياء والأصفياء وخير الصحابة رضوان الله عليهم. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فَضَّلَ قرنه فقد فَضَّلَ أبا بكر وفَضَّلَ عمر. فكيف يكون واحد من هذه الأمة يأتي ويَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل من الصحابة، ثم يَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل الأولياء وخاتَمْ الأولياء، ثم يَزْعُمُ أَنَّهُ أفضل من الأنبياء. لا شك أنَّ هذا القول من صاحبه قد يُحْكَمُ بِكُفْرِ صاحبه؛ بل حَكَمَ كثير من العلماء بكفر من قال هذه المقالة؛ لأنَّهَا قدح في القرآن وقدح في السنة، ورفع لمقام الولي، وتهجين مقام النبي والرسول، ورفع خَاتَمْ الأولياء على خَاتَمْ الأنبياء. ولهذا مع اختصارٍ في المقام، ذكر الطحاوي رحمه الله هذه الجملة ورَكَّزَ عليها يعني في هذه العقيدة لأنها بدأت في زمانه وهي سبب الشر في افتراق الناس مع طرق الصوفية إلى هذا الزمان، وقال (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدَاً مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَام) ما فيه ولي يمكن أن يكون أفضل من نبي؛ بل أفضل الناس هم الأنبياء ثم يليهم الأولياء، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابة كل نبي إلى آخره. قال (وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ) {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ)   يريد رحمه الله أنَّ أهل السنة الجماعة وأهل الحديث والأثر والمتابعين للسلف الصالح يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة وما صَحَّتْ به الرواية من كرامات الأولياء وهم يُصَدِّقُونَ بكرامات الأولياء ولا ينفونها، وما صَحَّ عن الثقات من الروايات في بيانات كراماتهم فإنهم يُصَدِّقُونَ بذلك ويعتقدونه ويؤمنون به؛ لأنَّ هذا من فضل الله - عز وجل - عليهم لأنَّ في التصديق بهم تصديقاً بما أخبر الله - عز وجل - به في القرآن وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في السنة. ويريد بذلك مخالفة طوائف من العقلانيين الذين أنكروا كرامات الأولياء، ويُخَصُّ بالذكر منهم المعتزلة، فإنهم أنْكَرُوا كرامة الأولياء وقالوا ليس لوليٍ كرامة لأنَّهُ لو صَحَّ أَنْ يكون لوليٍ كرامة لاشتبهت كرامات والأولياء بمعجزات الأنبياء، وحينئذْ تشتبه الكرامة بالنبوة ويشتبه الولي بالنبي وهذا قدحٌ في النبوة وقدحٌ في الشريعة. ونذكر هنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 [المسألة الأولى] : كرامات الأولياء جمع كرامة، والكرامَةُ في اللغة: إِكْرَامْ من الإِكْرَامْ، وهو ما يُؤْتَى المُكْرَمْ من هِبَةٍ وعَطِيَّة وهِيَ في باب الكرامة من الله - عز وجل -. وفي الاصطلاح عُرِّفَتْ كرامة الولي بأنَّهَا أَمْرٌ خارق للعادة جرى على يدي ولي. وكونه خارِقَاً للعادة يخرُجُ به ما يُنْعِمُ الله - عز وجل - به من النِّعَمْ على عباده مما لا يدخل في كونه خارِقَاً للعادة، فأهل الإيمان يُنْعَمُ عليهم بنعم كثيرة وهي إكرامْ من الله - عز وجل -؛ لكن لا تدخل في حد الكرامة. فالكرامة ضابطها أنَّهَا أمرٌ خارقٌ للعادة. والعادة هنا، خارقٌ للعادة أي عادة؟ عادة أهل ذلك الزمان. فقد يكون خارقَاً لعادة أناس في القرن الثاني وهو ليس بخارِقٍ لعادتنا في هذا الزمن. مثلاً أنْ يَنْتَقِلْ من بلدٍ إلى بلد في ساعة، من الشام إلى مكة أو إلى القدس في ساعة، ويُصَلِّي هنا إلى آخره، أو أن يُحْجَبَ عن بعض المكروه، أو أن يكون عنده علم بحال أُنَاسٍ بالتفصيل يسمع كلامهم ويرى صورتهم في بلدٍ بعيدٍ عنه، هو في الجزيرة ويرى حالهم في الشام أو في مصر أو في خراسان أو ما أشبه ذلك. هذه في زَمَنٍ مَضَى كانت خوارق لعادة أهل ذلك الزمان لكنَّهَا بالنسبة لأهل هذا الزمان ليست بخارقٍ مُطْلَقاً. لهذا تُضْبَطْ العادة في تعريف الكرامة (خارقٌ للعادة) بأنها عادة أهل ذلك الزمن. والمعجزة أيضاً أو الآية والبرهان للنبي وخوارق السَّحَرَة والكهنة كما سيأتي فيها خَرْقٌ للعادة لكن مع اختلاف الخارق واختلاف العادة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. (جرى على يَدَي ولي) قوله جرى يعني أنَّهُ أُكْرِمَ به الولي فَجَرَى على يديه. وقد يكون أُعْطِيَ القدرة وقد يكون الولي أَحَسَّ بالشيء وجَرَى على يديه دون قدرةٍ منه، إما من الملائكة أو بسببٍ شاءه الله - عز وجل -. وآخر جملة (على يدي ولي) يخْرُجُ منها ما جرى على يَدْ الأنبياء فهي أمرٌ خارق للعادة لكنَّهُ ليس على يدي ولي، وإنما على يدي نبي، كذلك خوارق السحرة والكهنة والمشعوذين فهي شيطانية ليست إيمانية، ولذلك لا تدخل في التعريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 [المسألة الثانية] : الأصل في كرامات الأولياء من القرآن قول الله - عز وجل - {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] ، وقوله - عز وجل - أيضاً {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، وقوله صلى الله عليه وسلم «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» (1) . ومن الواقع فإنَّهُ تواتر النَّقْلُ عن الصحابة وعن التابعين ومن تَبِعَهُمْ وعن الأُمَمْ السالفة، تَواتَرَ النقل بما لا يكون معه مجال للتكذيب ولا للرَّدْ بنَقْلِ عددٍ كبير يختلفون في أماكنهم ويختلفون في لغاتهم بحصول هذه الكرامات، فيكون معه النقل متواتراً ويكون دليلاً من الأدلة في هذه المسألة. فإذاً حصول الكرامات دَلَّ عليه القرآن والسنة ودَلَّ عليه التواتر في النقل عن الأمم السالفة وعن هذه الأمة.   (1) سبق ذكره (250) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 [المسألة الثالثة] : الكرامة تَبَعٌ للوَلَايَة، والأولياء جعلهم الله - عز وجل - هم أهل الإيمان والتقوى قال {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فالولي الذي يُعْطَى الكرامة هو الموصوف بهذين الوصفين: الإيمان والتقوى. فلو جَرَى الخَارِقْ على يدي من لم يُوصَفْ بالإيمان والتقوى فليس هو مِنَ الكرامة؛ لأَنَّ الله - عز وجل - جَعَل الوَلاية في أهل الإيمان والتقوى، وهم الذين يُعْطَونَ الكرامة. وهاهنا سؤال: هل المبتدع أو الضَّالْ أو العاصي يُعْطَى كرامة؟ والجواب عن ذلك: أَنَّ الأولياء -كما قَرَّرَ أهل العلم- على فئتين: - الفئة الأولى السابقون. - والفئة الثانية المُقْتَصِدُونْ. فليس للظالم لنفسه المقيم على المعصية حظ في الكرامة. لكن قد تجري الكرامة على يَدَيْ من عنده بدعة أو معصية أو ظلم لنفسه، وذلك راجع لأسباب: 1- السبب الأول: أن يكون ليس هو المراد بها وإنَّمَا يكون هذا المبتدع أو هذا الظالم لنفسه في جهادٍ مع الكافر، في جهادٍ مع العدو الكافر فيعطيه الله - عز وجل - الكرامة لا لذاته ولكن لما يُجَاهِدَ عليه، وهو الإسلام والإيمان ورد الكفر. فيكون إعْطَاؤُهُ الكرامة لا يغتر بها لأنها ليست لشخصه وإنما هي للدليل على ظهور الإيمان والإسلام على الكفر والإلحاد والشرك ونحو ذلك. 2- السبب الثاني: أن يكون إعْطَاؤُهُ الكرامة لحاجته إليها في إيمانه أوفي دُنْيَاه، فتكونُ سبباً له في استقامة أو في خير. فلهذا من جرى على يديه شيء في ذلك فينظر في نفسه: - إنْ كان من أهل الإيمان والتقوى فيحمد الله - عز وجل - ويُثْنِي عليه ويُلازِمُ الاستقامة على ما أكرمه الله - عز وجل - به. - وإن كان من أهل البدعة أو المعصية أو الظلم للنَّفْسْ، فيعلم أَنَّ في ذلك إشارة له أن يلازم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان والتقوى حتى تكون البُّشرى له في الدنيا والأخرى، وإلَّا يكون قد قامت عليه حُجَّةْ ونعمة من الله رآها ثُمَّ أَنْكَرَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 [المسألة الرابعة] : كرامة الأولياء هي أمْرٌ خارِقٌ للعادة، وتشترك مع مخاريق السَّحَرَة والكَهَنَة في أنها أَمْرٌ خارق للعادة، وكذلك معجزات الأنبياء والآيات والبراهين هي أمر خارق للعادة. فخَرْقُ العادة في نفسه ليس مُثْنَىً عليه، فقد تُخْرَقُ العادة لِمُبْطِلْ، وقد تُخْرَقُ العادة لصالح -يعني لرجلٍ صالح-، وقد تُخْرَقُ العادة لكاهنٍ، ساحر، وقد تُخْرَقُ العادة لوليٍ صالح. ولهذا وَجَبَ أن يكون ثَمَّ فُرْقَانْ في خَرْقْ العادة عند من حصلت له وعند الناس. هل خُرِقَتْ العادة لمؤمِنٍ تقي أو لمبطلٍ غير متابع للسنة من السحرة والكهنة وأشباههم؟ فنعلم حينئِذْ الفُرقانْ البَيِّنْ بين كرامة الولي وخرق العادة له وأنَّهَا خَرْقٌ إيماني، خَرْقٌ من الله - عز وجل - لإكرامه وكرامته، وبين خرق العادة للساحر والكاهن والمشعوذ وأنها خارقٌ شيطاني؛ لأنَّ الشياطين لها قدرة في خَرْقِ عادة. لكن ثَمَّ فرق بين خارق العادة للشياطين وخارق العادة للأولياء، وهو: @ أنَّ خارق العادة للأولياء هذا: - أولاً: من الله - عز وجل - أولاً. - ثانياً: وأَثَرٌ من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. - ثالثاً: أنَّهُ خرقٌ لعادة أهل الزمان، فهو في جنسه أعظم وأرفع من جنس خوارق السحرة. @ وأما خوارق السحرة فهي: - أولا: من الشيطان، مخاريق شيطانية نتجت من التَّقَرُبْ للشياطين والتعاون معهم حتى خدمتهم الشياطين، كما قال - عز وجل - في سورة الأنعام لما ذَكَرَ حشر الجن والإنس يوم القيامة قال {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] ، فاسْتَمْتَعَ الإنْسِيْ بالشيطان الجني واستمتع الشيطان الجني بالإنسي، فهذا تَقَرَّبَ وهذا خَدَمْ، لهذا منشؤُهَا من جهة الشيطان. - ثانياً: أنها متابعة للمعصية والبدعة والشرك إلى آخره التي هي مخاريق السحرة. - ثالثاً: أنَّهَا محدودة، وفي الغالب أنها تَخْيِيْلْ وليست حقيقة، والشيطان هو الذي يَتَمَثَّلْ وليس من أُعْطِيَ الخارق أو من جَرَى الخارق على يديه في ظاهر أعين الناس أنه هو الذين انتقل. مثلاً وُجِدَ في الشام ووُجِدَ في مكة في نفس الوقت، وُجِدَ في مصر في القرية الفلانية ووُجِدَ في القرية الفلانية، هذا لا يمكن أن يكون إلا من الشيطان. مثلاً مثل ما قال عبد الوهاب الشعراني في ترجمة أحد من ادَّعَى أنهم مجاذيب ومجانين وأولياء-يعني في الثناء عليه- قال في ترجمته (وكان رحمه الله يخطب الجمعة في سبع قرىً في مصر) . وهذا خارقٌ عند الناس، كيف القرية هذه والقرية هذه كلهم يخطب فيهم هذا؟؟ فيكون الشيطان تَمَثَّلَ به وخَدَمَه حتى يُغوِي الناس، وبالإضافة إلى ذلك هو مجنون ومجذوب وما شابه ذلك. فإذن الشياطين تخدم الساحر والكاهن لكنْ أكثر ذلك تَخْيِيْلْ كما قال - عز وجل - {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ، وثَمَّ تفصيل للكلام على هذه المسائل المهمة في مسائل نأتي إليها إن شاء الله تعالى في الدّرس القادم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 الأسئلة : س2/ ألا يقصد المؤلف رحمه الله بأهل الحديث والأثر من ذُكِرُا في حديث (خير القرون قرني) ؟ ج/ هذا قد يرد ولكن لا يُسَمَّى الصحابة أهل الأثر، لأنَّ التقسيم بين أهل الأثر وأهل النظر هذا إنما أتى بعد ذلك فلا نقول إنَّ في الصحابة أهل أثر وأهل نظر، إنما هذا نشأ في أوائل القرن الثاني من مدرسة المدينة أهل الرأي والكوفة الرأي إلخ، فانقسم أهل العلم إلى مدرستين مدرسة النظر والفقه ومدرسة الفقه والأثر. س3/ تكثر المراثي والأشعار فيمن يموت من العلماء وغير ذلك، ويحصل من المبالغة في ذكر المحاسن والثباكي عليه وثَمَّ سؤالان: الأول: هل هذا من النياحة؟ الثاني: يرد في كثيرٍ منها بعض الألفاظ الشركية أو قريب منها والمبالغة الشديدة إلى آخره. وذَكَرَ أمثلة من ذلك، وأظنه يقول القصائد كانت في رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وثَمَّ مدخل لأهل البدع؟ ج/ لاشك أنَّ ما رُثِيَ به سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله فيه قسم منه حق وطَيِّبْ وجزى الله الرَّاثين خيراً. والعلماء يرثون العلماء والشعراء يرثون أهل العلم ومن في فقدهم على الإسلام والمسلمين الأَثَرْ. لكن القسم الثاني من تلك المراثي كما ذَكَرْ من الأمثلة فيها من الغلو ووسائل الشرك ونداء الميت ما فيه، وهذا مما يُبَيِّنُ لك غُرْبَةْ التوحيد، وأَنَّ الناس لا يَصِحُّ أن يقولوا التوحيد علمناه والحمد لله، الناس على الفطرة ولا يحتاجون للعقيدة والتوحيد. هذا في موت سماحة الشيخ لمَّا سِيْرَ بجنازته من الناس من تَمَسَّحَ به وألقى عليه غترة وسمح من الجهلة، ولمَّا جاءت القصائد فيه من يُشَارُ إليهم من ناداه في قصيدته يا أبا عبد الله وغوث الملاهيف (1) ونحوه من المبالغات. وهذا يدلك على أنَّ رسالة الشيخ رحمه الله في حياته والدعوة التي أقامها في ملازمة السنة وترك البدع ورَدْ وسائل الشرك ووسائل البدع فيمن هو أفضل من الشيخ رحمه الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي إلى آخره. الشيخ أقام حياته لتقريض السنة والرد على البدع ووسائل الشرك، فيأتي من يغلو فيه إما لغرضٍ صالح أو لغرضٍ غير صالح أيضاً. لاشك أنَّ هذا ذنب وإثم على من قاله ويجب عليه التوبة وسحب هذه القصائد وأن يراجعها أهل العلم إذا كان فيها شيء منكر وجَبَ عليه أن. وهذه نتبرأ منها، نحن نتبرأ ممن غلا في مدح الأولياء، الصحابة، وفي مدح النبي صلى الله عليه وسلم غلا فيه الغُلُو الذي أوصله إلى مقامٍ لم يجعله الله - عز وجل - له، فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم ودون الصحابة من العلماء والأولياء ومثل سماحة الشيخ رحمه الله؟ لاشك أنَّ الواجب الإنكار ولا نُقِرُّ شيئاً من ذلك ونبرأ منه. وليس لأهل البدعة حجة في ذلك لأنَّ أهل التوحيد فيهم جَهَلَة أيضاً، مثل ما في أهل البدع جَهَلَة، فَمِنْ أهل البدع جَهَلَة يبالغون في المدح ويطرون، كذلك في المنتسبين إلى التوحيد وإلى أهل التوحيد وإلى أهل العقيدة فيهم من يجهل كثيراً فيُخْطِئْ ويتجاوز. وذَكَّرَنِي هذا حينما رأيت بعض الأشياء، ذَكَّرَنِي هذا بحياة شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش حياته للعقيدة وللتوحيد ولنصرة السنة ولرد البدع ووسائل الشرك والغلو في الأموات ثُمَّ بعد ذلك جنازته صُلِّيَ عليها الظهر وظلت تمشي إلى المقبرة والناس يُلْقُونَ عمائمهم ويُلْقُونَ أَرْدِيَتَهُمْ على جثمان شيخ الإسلام تَبَرُّكَاً به، فما حياته إذاً؟ هؤلاء الجهلة الكثيرون حتى ولو انتسبوا إلى الثقافة وإلى العلم، هؤلاء الجهلة بحاجة إلى أن يدرسوا العقيدة ويعلمون ما يحل وما يحرُمْ. هو يريد أن يرثي إماماً وعالماً مثل سماحة الشيخ ويقع في الإثم ويجعل الإثم أيضاً ينتشر في الأمة والبدعة ووسائل الشرك، فبَدَلَ أن نسير في دعوته وما عاش في حياته له نخالفه بعد وفاته. وهذا لاشك أنه مما يَسُرُّ الشيطان ويأنس له. والغلو شرٌّ، الغلو شر، وهدي الصحابة في ذلك هو الهدي الكامل، فكم المراثي في أبي بكر وكم المراثي في عمر وفي عثمان وكم المراثي في ابن عمر وابن عباس، اجمعوها أليس في زمنهم من الشعراء والعلماء من فيه؟ لكنها قليلة، مُحَافَظَةً، لا لأنهم لا يستحقون؛ لكن خشيةً من الغلو، وأحياناً بعض المسائل يُعَامِلْ فيها الإنسان الناس بنقيض القصد حتى لا يتوسعوا في الشرك والبدع. ولهذا ينبغي عليكم جميعاً أن تَسْتَدِلُّوا بما حصل من هذه التجاوزات على غربة التوحيد ويعطيكم دليلاً على أنَّهُ في هذا البلد والذين هم قريبون من الشيخ ويعلمون دعوته ويعلمون الكتب التي شرحها ودَرَّسَها وفتاويه التي يرد فيها على أقل البدع وعلى أقل وسائل الشرك كيف أَنَّ الناس يخالفونه وهم عاشوا معه سنين عدداً. فما أشد الغربة وما أشد حاجة الناس إلى التوحيد والعقيدة العلم الصحيح والالتزام بالسنة.   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط السادس والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 أسال الله - عز وجل - أن يرفع درجة شيخنا في عليين وأن يجزيه عنا خير الجزاء وأن يجعله مع الأئمة السابقين ممن أحبهم واقتفى أثرهم إنه سبحانه على كل شيء قدير. س4/ ما رأيكم ما جاء في كتاب عبد الله بن الإمام أحمد من اتهام لأبي حنيفة وبالقول عليه بخلق القرآن إلى آخره؟ ج/ هذا سؤال جيد، هذا موجود في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وعبد الله بن الإمام أحمد في وقته كانت الفتنة في خلق القرآن كبيرة، وكانوا يستدلون فيها بأشياء تُنْسَبْ لأبي حنيفة وهو منها براء في خلق القرآن، وكانت تنسب إليه أشياء ينقلها المعتزلة من تأويل الصفات إلى آخره مما هو منها براء، وبعضها انتشر في الناس ونُقِلْ لبعض العلماء فَحَكَمُوا بظاهر القول، وهذا قبل أن يكون لأبي حنيفة مدرسة ومذهب؛ لأنَّهُ كان العهد قريباً -عهد أبي حنيفة- وكانت الأقوال تُنْقَلْ: قول سفيان قول وكيع قول سفيان الثوري قول سفيان بن عيينة قول فلان وفلان من أهل العلم في الإمام أبي حنيفة. فكانت الحاجة في ذلك الوقت باجتهادِ عبد الله بن الإمام أحمد قائمة في أن ينقل أقوال العلماء فيما نَقَلْ. ولكن بعد ذلك الزمان كما ذكر الطحاوي أَجْمَعَ أهل العلم على أن لا ينقلوا ذلك، وعلى أن لا يذكروا الإمام أبا حنيفة إلا بالخير والجميل، وهذا فيما بعد زمن الخطيب البغدادي، يعني في عهد بعض أصحاب الإمام أحمد ربما تكلموا وفي عهد الخطيب البغدادي نقل نقولات في تاريخه معروفة، وحصل ردود عليه بعد ذلك، حتى وصلنا إلى استقراء منهج السلف في القرن السادس والسابع هجري وكَتَبْ في ذلك ابن تيمية الرسالة المشهورة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وفي كتبه جميعاً يذكر الإمام أبا حنيفة بالخير وبالجميل ويترحم عليه وينسبه إلى شيءٍ واحد وهو القول بالإرجاء، إرجاء الفقهاء دون سلسلة الأقوال التي نُسِبَتْ إليه لأنَّهُ يوجد كتاب أبي حنيفة الفقه الأكبر وتوجد رسائل له تدل على أنَّهُ كان في الجملة يتابع السلف الصالح إلا في هذه المسألة، في مسألة دخول الأعمال في مُسَمَّى الإيمان. وهكذا درج العلماء على ذلك كما قال الإمام الطحاوي إلا -كما ذكرت لك- بعض من زاد، غلا في الجانبين: إما غلا من أهل النظر في الوقيعة في أهل الحديث وسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةْ وسَمَّاهُم جهلة. ومن غلا أيضاً من المنتسبين للحديث والأثر فوقع في أبي حنيفة رحمه الله أو وقع في الحنفية كمدرسة فقهية أو في العلماء. والمنهج الوسط هو الذي ذكره الطحاوي وهو الذي عليه أئمة السلف. لمَّا جاء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب أصَّلَ هذا المنهج في الناس وأنْ لا يُذْكَرَ أحد من أهل العلم إلا بالجميل وأن يُنْظَرْ في أقوالهم وما رَجَّحَهُ الدليل فَيُؤْخَذُ بِهِ وأن لا يُتَابَعْ عالم فيما أخطأ فيه وفيما زل؛ بل نقول هذا كلام العالم وهذا اجتهاده والقول الثاني هو الراجح. ولهذا ظهر بكثرة في مدرسة الدعوة القول الراجح والمرجوح ورُبِّيَ عليه أهل العلم في هذه المسائل تحقيقاً لهذا الأصل. حتى أتينا إلى أول عهد الملك عبد العزيز رحمه الله لمَّا دَخَلْ مكة، وأراد العلماء طباعة كتابة السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكان المشرف على ذلك والمراجع له الشيخ العلامة الجليل عبد الله بن حسن آل الشيخ رحمه الله رئيس القضاة إذ ذاك في مكة، فَنَزَعَ هذا الفصل بكامله من الطباعة، فلم يُطْبَعْ لِأَنَّهُ من جهة الحكمة الشرعية كانَ لَهُ وقته وانتهى، ثُمَّ هو اجتهاد والسياسة الشرعية ورعاية مصالح الناس أن يُنْزَعْ وأن لا يُبْقَى وليس هذا فيه خيانة للأمانة؛ بل الأمانة أن لا نجعل الناس يَصُدُّونَ عن ما ذكره عبد الله بن الإمام في كتابه من السنة والعقيدة الصحيحة لأجل نُقُولٍ نُقِلَتْ في ذلك. وطُبِعَ الكتاب بدون هذا الفصل وانْتَشَرَ في الناس وفي العلماء على أَنَّ هذا كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد. حتى طُبِعَت مُؤَخَّرَاً في رسالةٍ علمية أو في بحثٍ علمي وأُدْخِلَ هذا الفصل -وهو موجود في المخطوطات معروف- أُدْخِلْ هذا الفصل من جديد، يعني أُرْجِعْ إليه، وقالوا إنَّ الأمانة تقتضي إثباته إلى آخره. وهذا لاشك أَنَّهُ ليس بصحيح، بل صنيع علماء الدعوة فيما سبق من السياسة الشرعية ومن معرفة مقاصد العلماء في تآليفهم واختلاف الزمان والمكان والحال وما استقرت عليه العقيدة وكلام أهل العلم في ذلك. ولما طُبِعْ كُنَّا في دعوة عند فضيلة الشيخ الجليل الشيخ صالح الفوزان في بيته، وكان داعياً لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، فطَرَحْتْ عليه أول ما طُبِعْ كتاب السُّنَّة الطبعة الأخيرة التي في مجلدين إدخال هذا الباب فيما ذُكر في أبي حنيفة في الكتاب وأًنَّ الطبعة الأولى كانت خالية من هذا لصنيع المشايخ. فقال رحمه الله في مجلس الشيخ صالح قال لي: الذي صنعه المشايخ هو المُتَعَيِّنْ ومن السياسة الشرعية أن يُحْذَفْ وإيراده ليس مناسباً. وهذا هو الذي عليه منهج العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 زاد الأمر حتى صار هناك تآليف يُطْعَنْ في أبي حنيفة وبعضهم يقول أبو جيفة ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه ليس من منهجنا وليس من طريقة علماء الدعوة، ولا علماء السلف لأننا لا نذكر العلماء إلا بالجميل، إذا أخطؤوا فلا نتابعهم في أخطائهم، وخاصَّةً الأئمة هؤلاء الأربعة؛ لأنَّ لهم شأنَاً ومقاما لا يُنْكَرْ. نكتفي لهذا القدر أسأل لكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الأسئلة: س1/ هل في هذه الكلمة محذور شرعي وهي صورة لقطعة من الذُّرَة ومكتوب عليها: (هذه من خيرات الطبيعة) حيث أنها تنتشر دعاية لمثل هذا في الشوارع؟ ج/ هذا صحيح رأيناه في الشوارع، هذه الكلمة كلمة فيها سو؛ ء لأنَّ الخير من الله - عز وجل -، والطبيعة مطبوعة ليست طابعة للأشياء، فعيلة بمعني مفعولة، هي مطبوعة، طَبَعَهَا الله - عز وجل - وجعلها على هذا النحو من سُنَنِهِ، فالله - عز وجل - هو الذي جعل سُنَّتَهْ أَنَّ الماء ينزل وأَنَّ الأرض تُنبِتْ وأنَّ الأرض تتنوع، ما ينتج منها. ولهذا هذه الكلمة فيها مخالفة فينبغي بل يجب تجنبها حفظَاً لنعم الله - عز وجل - على عباده. س2/ في قوله تعالى {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] هل إذا غلب على الظن عدم الانتفاع يجوز السكوت عن المنكر؟ ج/ هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد ذكرت لكم الخلاف أظن في شرح الواسطية (1) أو في بعض المواضع، والآية استدَلَ بها جماعة من العلماء منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية شيخ الإسلام ومنهم ابن عبد السلام في القواعد وجماعة، وذكر هذا أيضاً ابن رجب عن بعض أهل العلم في شرحه على الأربعين. والآية فيها دليلْ على أنَّ الذِكْرَى مأمور بها إذا كانت ستنفع؛ لأنَّ الله قال {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} أَمَرَ بالتذكير إذا كانت الذكرى ستنفع. هل يدخل هذا في النهي عن المنكر، أم هذا في التذكير بما ينفع الناس؟ ظاهر لكلمة {الذِّكْرَى} أنها تشمل الأمر بالمعروف وتشمل النهي عن المنكر؛ لأنَّ التذكير يشمل هذا وهذا في القرآن والسنة. لهذا قال طائفة من العلماء ممن سَمَّيْنَا ومن غيرهم: إنَّهُ للمرء أنْ يترك الإنكار إذا غَلَبَ على الظن عدم الانتفاع، كذلك يجوز له أن لا يُذَكِّرْ إذا غَلَبَ على الظن عدم الانتفاع، أما إذا غلب على الظن الانتفاع بالإنكار أو الانتفاع بالذِّكْرَى فهنا يجب عليه أن يُنْكِرْ ويحب عليه أن يأمر بالمعروف بحسب الحال، هذا قول. الجمهور على خلاف ذلك وهو أنَّ الأحاديث دَلَّتْ على أَنَّ المنكر إذا رُئِيَ وَجَبَ تغييره، لهذا قالوا سواءٌ غلب على الظن أو لم يغلب على الظن فلابد منه حفاظاً على ما أجب الله - عز وجل -. ولهذا قال سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ حال أهل القرية {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] ، فَدَلَّ على هذا أنَّ المعذرة مطلوبة وأن لا يُسْكَتْ عن المنكر؛ لكن هذا لا يَدُلُّ على الوجوب، وحال الصحابة بكثيرٍ من أحوالهم وخاصَّةً لما دَخَلُوا على الولاة -ولاة بني أمية والأمراء- فيما سكتوا عنه وفيما لم يُنْكِرُوهُ، قال ابن عبد السلام ويُلْمِحُ إليه كلام ابن تيمية أيضاً أنهم أخذوا بأنه غلب على ظنهم أنهم لا ينتفعون بذلك لِعِلْمِ الواقع في المنكر ولأجل أنَّهُ يعلم أنَّهُ لو أُنْكِرَ عليه فإنه لن يستجيب. المقصود من ذلك أن العلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال: 1 - القول الأول: أنه يجب الإنكار مطلقا كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - القول الثاني: أنَّهُ يجب مع غلبة الظن، وإذا لم يغلب على الظن فإنه يجوز له أن ينكر (2) . 3 - والقول الثالث: وهو المتوسط بينهما أنَّهُ لا يجب ولكن يستحب إذا غلب على الظن عدم الانتفاع. وهذا معناه أنَّ الإنسان لا يُؤَثِّمْ نفسه فيما غلب على الظن عدم الانتفاع. وهذا يحصل في المسائل التي يغلب فيها الظن على عدم الانتفاع مثل المنكرات المنتشرة، مثل مثلاً حلق اللحى، ومثل الإسبال، ومثل كشف المرآة لوجهها، ومثل رؤية المجلات رؤية صور النساء المحرمة في المجلات، أو مثل هذه يغلب على الظن من الناس عدم الانتفاع مطلقاً أو عدم الانتفاع في وقتها؛ يعني بحسب الحال. لكن إذا غَلَبَ على الظن أنه إذا وَعَظَهُ أو أَمَرَهُ أو نهاهُ أنه ينتهي ولو في الوقت نفسه، فهذا يتعين عليه. يعني دَخَلَ في المسألة مثل غيرها مع القدرة؛ لكن إذا كان يظن أنَّهُ إذا قال له لا تحلق لحيتك أو هذا حرام أنه لن ينتفع، فلا يجب عليه حينئذ ويسلم من الإثم. المقصود السلامة من الإثم في مثل هذه الحال، والله المستعان كلٌ في هذا الباب مقصر، نسأل الله - عز وجل - أن يعفو عنا وعنكم.   (1) في الشريط الثامن والعشرون من شرح العقيدة الواسطية، وهو مفرغ أيضاً والحمد لله (2) - لعل الشيخ أراد (يجوز أن لا ينكر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 [المسألة الخامسة] : كرامات الأولياء ترجع إلى نوعين: - ترجع إلى القُدْرَةْ. - وترجع إلى التأثير. والقُدْرَةْ والتأثير قد يكونان في الأمور الكونية وقد يكونان في الأمور الشرعية. 1 - القسم الأول: كرامات ترجع إلى القدرة: القدرة قد تكون في الكونيات وقد تكون في الشرعيات: @ النوع الأول من القُدْرَةْ: قدرة في الكونيات: مثال القُدْرَةْ في الأمور الكونية: أن يُقْدِرَهُ الله - عز وجل - على ما لم يُقْدِرْ عليه غيره من الناس؛ بأن يَسْمَعْ ما لم يسمعوا، أو أن يَقْدِرْ من حيث المشي أو القُدْرَةْ البدنية على ما لم يقدروا، أو أنَّهُ يَغْلِبْ بما لم يَقْدِرُ عليه الواحد في العادة. يعني أنه راجعٌ إلى قُدْرَةٍ -يعني الكونيات- إلى قُدَرٍ في السماع، في الآلات، في السمع أو في البصر أو في القوى والأركان. هذا له مثال أو له أمثلة، فمن القدرة في السمعيات سَمَاعْ سارية كلام عمر رضي الله عنه وهو في المدينة حيث كان يخطب، فقال (يا سارية الجبل الجبل) ، يعني الزم الجبل، وسارية كان في بلاد فارس وسَمِعَ الكلام. وهذا لاشك قدرة في السماع خارقة للعادة أُوتِيَهَا. وكذلك هي من جهة عمر رضي الله عنه قُدْرَةْ في الإبصار حيث إنَّهُ أَبْصَرَ ما لم يُبْصِرُهُ غيره، فقال: يا سارية الجبل الجبل. فنظر إلى سارية ونظر إلى الجبل ونظر إلى العدو وكأنَّ الجميع أمامه، ولهذا قال: الزم الجبل. هذه قدرة في الآلات، في السمع وفي البصر. كذلك قد تكون القدرة في القُوَى -يعني هذه في الكونيات- قد تكون القدرة في القُوَى بأن يَغْلِبْ ما لم يغلبه مثله، وبأن يمشي مثلاً على الماء مثل ما حصل لسعدٍ ومن معه، سعد بن أبي وقاص، ومثل أن ينوم نومة طويلة كأصحاب الكهف لا يتغير فيها البدن ولا يتأثر فيها أكثر ثلاثمائة وتسع سنين وهكذا. ومثل إحياء الفرس، يُعْطَى قوة فيمسح على الفرس أو يأمره بأن يحيى فيحيى له فرسه. ومثل أن يدخل في النار فلا تؤثر فيه أو فلا تأكله النار. المقصود هذه القدرة راجعة إلى قُدَرٍ في الكونيات يُكْرِمُ الله - عز وجل - بها العبد بحيث تكون فيما يحصل له في ملكوت الله - عز وجل -. @ النوع الثاني من القُدْرَةْ: قدرة في الشرعيات: ونقصد بالشرعيات يعني المسائل الدينية، فيكون عنده قدرة بأن يستقبل من العلم والدين ما لا يستقبله غيره من جهة الحفظ -حفظ الشريعة- أو الفهم الذي يُؤتيه الله - عز وجل - من خَصَّهُ من أوليائه أو ما شابه ذلك، فعنده قدرة في فهم الشرعيات وفي فهم مراد الله وفي الحفظ وفيما أُعْطِيَ بمزيد عن عادة أمثاله. هذا يكون بالإكرام إذا خَرَجَ عن مقتضى العادة، صار خارقَاً للعادة في حال بعض الناس. 2- القسم الثاني: كرامات ترجع إلى التأثير: التأثير قد يكون أيضاً في الكونيات وقد يكون التأثير في الشرعيات. @ النوع الأول من التأثير: تأثير في الكونيات: يعني تأثيرٌ يرجع إلى تأثيرٍ في الكون بأن يُؤَثِّرْ في المكان الذي هو فيه، أو في أبصار الناس بأن لا يروه، مثل ما حصل مثلاً للحسن البصري رحمه الله حيث دَخَلَ عليه بعض الشُّرَطْ لِطَلَبِهِ فلم يروه، دخلوا وداروا في المكان وهو جالس في وسط الدار فلم يروه، وأشباه ذلك مما فيه تأثيرٌ في قُدَرْ الآخرين. الأول قُدْرَةْ في نفسه والتأثير يكونُ في قُدَرِ الآخرين، التأثير في خصائص الأشياء، التأثير في خاصية الهواء، خاصية الماء ونحو ذلك، هذا قد يؤتيه الله - عز وجل - بعض أوليائه لحاجتهم إليه كما ذكرنا. @ النوع الثاني من التأثير: تأثير في الشرعيات: يعني أن يُؤَثِّرْ في ما هو مطلوب شرعَاً، إذا عَلَّمَ فإنَّهُ يقع تعليمه موقع النفع أكثر من غيره، يعني بشيءٍ لا يُسْتَطاع عادة، يكون فيه الأمر زائِدْ عن العادة، له قَبُولْ والكلام يقع موقعه أكثر مما اعتداده الناس في أمثال أهل العلم، كذلك تأثير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أمر ونَهَى فإنه يؤثر التأثير البالغ بحيث لا يُعَارَضْ، ومثل أن يُؤَثِّرْ في الناس في هدايتهم إذا وعظ، إذا قال لفلان من الناس افعل كذا أطَاعَهْ، إذا وعظ رق قلبه، إذا أَمَرَ بالتوبة أُطِيع ونحو ذلك مما هو خارجٌ العادة إلَّا أنَّ الناس من عادتهم أن يطيعوا ولا يطيعوا. هذا التقسيم ذكره شارح الطحاوية في هذا الموقع، وشيخ الإسلام قَسَمَهُ في الواسطية -كما تعلمون- إلى أنَّ الخوارق التي تجري على يدي الولي وتُسَمَّى كرامة: - تارةً تكون في العلوم والمكاشفات. - وتارةً تكون في القدرة والتأثيرات. فَجَعَل القدرة والتأثير باباً واحداً، وجَعَلَ العلم والمكاشفة جعله باباً آخر. وهذا التقسيم أيضاً ظاهر، وهي تقاسيم باعتبارات مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 [المسألة السادسة] : ذكرنا لكم أنَّ الخوارق ثلاثة أقسام: - خارقٌ للعادة جرى على يدي نبي ورسول، وهذا يسمى آية وبرهان ومعجزة. - وخارقٌ للعادة جرى على يدي ولي، وهذا يسمى كرامة. - وخارقٌ للعادة جرى على يدي شيطان أو عاصي أو مبتدع أو من ليس مطيعاً لله ومُتَّقِيَاً له، فهذا يسمى حالاً شيطانياً. فالفرق بين هذه الثلاثة أشياء واضح: 1 - أولاً: أنَّ الأمْرَ الخارق للعادة بحسب من يضاف إليه: - فإذا أضيف إلى النبي صار اسمه آية وبرهانا ومُعْجِزَاً. - وإذا أضيف إلى الولي فإنه يُسَمَّى كرامة. - وإذا أضيف إلى أصحاب الكهانة والسحر والشعوذة فيُسَمَّى حالاً شيطانياً. 2- ثانياً: أنَّ خرق العادة الذي يجري للولي لا يكون مصحوباً بِدَعْوَى النُّبُوَة، فقد يجري للأولياء أحوالٌ عظيمة لكنها مع عدم دعوى النبوة. فإذا ادَّعَى مع تلك الأحوال النبوة صار شيطاناً، وصار ما يُسَاعَدُ به إنما هو من جهة الشياطين والسحرة وأشباه ذلك. 3- ثالثاً: أنَّ ما تُخْرَقُ به العادة للنبي أوْسَعْ بكثير وأعظم من مما تُخْرَقُ به العادة للولي، فخَرْقُ العادة للولي محدود بالنسبة لخرق العادة للنَّبِي. وخَرْقُ العادة للسحرة والكهنة الشياطين وأهل الشعوذة وأهل العصيان الذين يَدَّعُونَ الأحوال هذه ليست خرقاً للعادة في الحقيقة ولكنها قُدْرَةْ مما أَعْطَى الله الشيطان أن يوهم به الناس وأن يُضِلَّ الناس به، من جهة التخييل تارة، ومن جهة تصَوُّرِهِ وتَشَكُّلِهِ في صُوَرْ وأشكال تارة أخرى. أما خرق العادة بالنسبة للأنبياء، فالأنبياء يَخْرِقُ الله - عز وجل - لهم العادة أي عادة الجن والإنس في زمانهم، حتى يكون ما يُعْطَوهُ آيةً وبُرْهَانَاً؛ لأنَّ الساحر والكاهن قد يُعارِضُ النبي بما أُعْطِيَ من خارقٍ للعادة بما يمكِنُ للشياطين أن تُمِدَّ بِهِ هذا الساحر والكاهن إلى آخره. لكن جَعَلَ الله - عز وجل - الخارق للعادة بما لا يمكن للإنسي ولا للجني لو اجتمعت أن يُعْطَوا ذلك، كما قال - عز وجل - {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، فالقرآن آية، برهان، وهكذا آية موسى عليه السلام، الآيات التي أوليتها موسى لا تستطيعها السَّحَرَة ولا الكهنة، وكذلك ما أعطى الله - عز وجل - عيسى من الآيات، وكذلك كل نبي ورسول لا يستطيعه أهل زمانهم من الإنس والجن لو اجتمعوا، فإنهم لا يستطيعون ذلك. ولهذا صار مثلاً حمل الشيء الكبير العظيم من بلدٍ إلى بلد لا يدخل ضمن معجزات الأنبياء كما حصل في قصّة سليمان عليه السلام: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39] ، هذا حَمْلْ لِمُدَّةْ أنْ يقومَ بالمقام، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40] ، فصار جَلْبْ هذا الشيء من مكانٍ إلى مكان، من اليمن إلى أرض سليمان عليه السلام في فلسطين، صار جَلْبُهُ ليس من آيات الأنبياء ولا من براهين الأنبياء، فصار في حق الذي أُوتي علماً من الكتاب: كرامة (1) . : [[الشريط السابع والأربعون]] : وما قام به الجن هذا مما يَقْدِرُونَ عليه، فَخَرْقُ الجن للعادة بما لا يستطيع البشر قُصَارَى ما عندهم أنْ يأتوا به قبل أن يقوم من هذا المقام، يعني ذلك الجني الذي قال تلك الكلمة، وهذا الذي أُكرِمْ، أُكرِمْ بأن يَدْعُوَ فيُؤْتَى بالعرش إلى سليمان عليه السلام. وهذا من جهة هو كرامة لمن أُعْطِي، ومن جهة أخرى هو أيضاً آية لسليمان عليه السلام بالنظر إلى تسخير هذا الإنس والجن له مما لا يُسَخَّرُ معه الإنس والجن والطير لغير نبيِّ من الأنبياء. المقصود من ذلك: - أنَّ خارق النبي آية وبرهان؛ لأنه يَخرِقُ عادة الجن والإنس في ذلك الزمان. - أمَّا خارق الولي فهو محدودٌ بالنسبة إلى خارق النبي في أَنَّهُ تُخْرَقُ له العادة التي لا يستطيعها الإنس ولا بعض الجن. لأنَّ اجتماع الإنس والجن، هذا خاص -يعني لو أرادوا أن يحدث شيء- هذا لا يمكن لأنَّ معجزة النبي أكبر وأعظم، وأما الولي فإنَّهُ بِحَسَبِ مَنْ هُوَ فيهم لأنها كرامة وليست آيةً ولا برهاناً على رسالةٍ ولا نبوة؛ بل هو خاصٌ بما يُكْرَمُ به هُوَ. - أمَّا خوارق الشياطين والسحرة بما يُولُونَ به أولياء الشياطين من الإنس فهذه محدودة: & وقد تكون تَخْيِيلاً -يعني تصوير للعين-. & وقد تكون تَشَكُّلاً لكن تَشَكُّلْ من الجني في صورة إنسي أو في صور حيوان أو ما أشبه ذلك. لهذا قد يظهر الجني في صورة إنسان، في صورة العبد الصالح ويكون في مكانٍ آخر، مثل ما قال ابن تيمية رحمه الله في موضع (كان وَقَعَ بأصحابي شِدَّةْ، قال: فَرَأَوا صورتي عندهم فاستغاثوا بي، ثم أخبروني فَأَعْلَمْتُهُم أَنِّي لم أَبْرَحْ مكاني -يعني في دمشق وهم كانوا خارج دمشق-، وإنما هذا جني تَصَوَّرَ بي) . وهذا مما أَقْدَرَ الله عليه الجن، لكن لا يَقْلِبُونَ الحال؛ لكن يتشكلون في صورة ينظر إليها الإنسي أنَّ هذا هو صورة فلان، من قَبِيْلِ التَّشَكُّل، لكن ليس ثَمَّ مادة وقلب حقيقي. لكن قد يدخلون في جسد حيوان، قد يدخلون في جسد إنسان، هذه مسألة التَّلَبُّسْ مسألة أخرى لكن من حيث التَّشْكِيلْ والتَّصْوِير هذا من جهة التخييل، أو من جهة إظهار الشيء بدون حقيقة مادية؛ لأنهم هم ليس لهم مادة يعني مثل مادة الإنسان. لهذا صار صاحب الخوارق الشيطانية، هذا ليس بكرامة وإنما هو من جهة الشيطان، ولا يُعْطِيه الله - عز وجل - على ذنبه ومعصيته واستعانته بالشياطين، فيستعين بالشياطين على ذلك. 4- رابعاً: أنَّ كرامة الولي لا تبلغ جنس آية النبي. هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة؛ -يعني أهل الحديث- في أنها لا تبلغ جنسها وإنْ شَرِكَتْهَا، يعني اشتركت معها في الصورة فلا تبلغ جنسها. يعني قد يدخل النار فلا يحترق، وإبراهيم عليه السلام دخل ناراً فلم تضره أو صارت برداً وسلاماً عليه؛ لكن لا يشتركان في الجنس، وإن اشتركوا في النوع. يعني إنْ اشتركوا لكن هذه قدْرَهَا ليس كَقَدْرِ هذه، صفة النار هذه ليست النار كصفة هذه، وصفة ما يحصل للولي ليس كصفة ما يُعْطَاهُ النبي. وأما الأشاعرة وطائفة فإنهم قالوا تتساوى، تتساوى الكرامة بآية وبرهان النبي والمعجزة من حيث الجنس، لكن الفرق بينهما أنَّ النبي يقول: أنا نبي، وأما الولي فيقول: أنا تابعٌ للنبي. والأول مثل ما ذكرت لك هو المتَعَيِّنْ لأنَّ الله - عز وجل - فَرَّقَ بين ما يُعْطِيهْ النبي من خرق العادة وما يُعْطِيهْ غيره فقد قال فيما يُعْطِيهْ للنبي: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، وأما ما يُعْطِيهْ الإنسي فإنَّه قد يكون محدوداً. مثلاً أصحاب الكهف ناموا تلك النومة، ولم يتأثروا ثلاثمائة وتسع سنين، فيه من يعيش أكثر من ذلك. وهذا أقل مما يحصل للأنبياء في جنس ما يُعطَوْن.   (1) نهاية الشريط السادس والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 [المسألة السابعة] : أنكرت المعتزلة وجماعات كرامات الأولياء وقالوا: إنَّ إثبات كرامات الأولياء يعود على معجزات الأنبياء بالإبطال؛ لأنَّ الجميع خرقٌ للعادة، وما عَادَ على معجزات الأنبياء بالإِبْطَالْ فهو باطل. فالجواب عن ذلك أنَّ الله - عز وجل - أثبت هذه الأنواع الثلاث: أثبت الآيات والبراهين التي يعطيها للأنبياء. وأثبت - جل جلاله - كرامات الأولياء. وأثبت - عز وجل - مخاريق السحرة وتخييلات السحرة. فَكُلُّ هذه في القرآن وفي السنة، وكلها تشترك في أنها أمور خارقة للعادة، فعدم الإيمان بها هو ردٌ للقرآن فيما دَلَّ عليه. وقد لا تكون الدِّلالة عندهم قطعية وبذلك لا تدخل المسألة في الكفر؛ لكن ظاهر أنَّ القرآن فيه هذا وهذا. فمثلاً مريم عليها السلام أُعْطِيَتْ أشياء وليست بِنَبِيَّة لأنَّهُ ليس في النساء نَبِيَّةْ كما هو معلوم، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ، وكذلك قصة أصحاب الكهف، وهؤلاء جميعاً ليسوا بأنبياء. المقصود من ذلك أنَّ جنس الكرامة هذا ثابِتْ في القرآن وفي السنة وقَصَّهُ الله - عز وجل -، فَنَفْيُ الكرامة لأنها خارق للعادة هذا رَدٌّ لما أثبته الله - عز وجل -، والله - عز وجل - فَرَّقَ بين هذا وهذا. وأما أنها تشتَبِهْ مع خارق الأنبياء فهذا ليس بصحيح كما ذكرنا لك من الفروق السّابقة لأنَّهُ ثَمَّةَ فُروق ما بين كرامات الأولياء وما بين معجزات الأنبياء. وطَرَدُوا المعتزلة هذا الباب فقالوا: كل الخوارق الشيطانية وكل الخوارق التي تجري للعقل والسحر والأشياء كل هذه مما يدخل في باب خرق العادة، لا نؤمن به ويُرَدْ. وكُلُّهُ جَرْيَاً منهم على هذا الأصل، وهو أنَّهُ يعود على آيات الأنبياء بالإِبْطَال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 [المسألة الثامنة] : مما يشتبه بالكرامة: الإعانة الخاصة مِنَ الله - عز وجل - لبعض عباده، فقد يُعِينُ الله - عز وجل - بعض العباد بأشياء يُفَرِّجُ بها عنهم الهم والكرب والضيق لكن لا تدخل في باب الكرامة؛ لأنها ليست أموراً خارقة للعادة، فَثَمَّ فَرْقْ بين نِعَمِ الله تعالى المتجددة مما يُنَجِّي الله به مثلاً عبده من حادث أو من مرض أو نحو ذلك ولا يكون هذا الإنْجَاءْ من الخوارق للعادة. فلذلك يُفرَّقْ ما بين جنس النِّعَمْ التي يُعطيها الله - عز وجل - خاصة العباد وما بين الكرامات، فليس كل ما يُنْعِمُ الله - عز وجل - به على العبد من الأمور العظيمة كرامة؛ بل الكرامة ضابطها أنها أمرٌ خارقٌ للعادة جرى على يدي ولي. ولهذا أصحاب الطُّرُقْ والذين يريدون صرف وجوه الناس إليهم قد يُعَظِّمُون ذِكْرْ بعض الإِنْعَامْ حتى يجعلوه كرامةً، فيُغْرُونَ الناس بأنهم أولياء وأنهم أُكْرِمُوا بكذا وكذا إلخ. والله - عز وجل - يُنعم على عباده بأنواع النِّعَمْ الدينية، والشرعية والكونية، وهذه الأنواع من الإِنْعَامْ هذه ليست دائماً مما تُخرَقُ به العادة، لهذا نقول الكرامة مما تُخْرَقُ به العادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 [المسألة التاسعة] : الكرامة إذا أعطاها الله - عز وجل - الولي فإنَّهُ ليس معنى ذلك أنَّهُ مُفَضَّلٌ وأعلى منزلة على من لم يُعْطَ الكرامة. فالكرامة إكرامٌ وإِنْعَامْ من الله - عز وجل - للعبد لأجل حاجته إليها، وقد تكون حاجته إليها دينية وقد تكون حاجته إليها كونية دنيوية. لهذا قَلَّتْ الكرامات عند الصحابة، فالمُدَوَّنْ من الكرامات بالأسانيد الثابتة عن الصحابة أقل بكثير مما يُروَى عن التابعين، وهكذا فيمن بعدهم؛ لأنَّ المرء إذا قَوِيَ إيمانه وقَوِيَ يقينه فإنه قد يُتْرَكْ للابتلاء لا للتفريج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في الصحيحين: «يُبتلى الرجل على قدر دينه، أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ، «يُبتلى الرجل على قدر دينه» (1) . وهذا يدل على أَنَّ الله - عز وجل - قد يختار للولي الصالح وللعبد الصالح الذي تَعْظُمُ منزلته في وَلَايَةِ الله - عز وجل - وإكرامه ومحبته له في أن يتركه للإبتلاء، وأن يتركه لغير هذه الأمور الخارقة للعادة. فتكون إذاً هذه الخوارق للعادة وهذه الكرامات لحاجته إليها ولأنه قد يصيبه ضعف في الإيمان لو لم يُعطَ. فبعض الناس قد يكون عنده عبادات عظيمة وقيام وصلاة وصيام ثُمَّ إذا أصابته شدة ولم يُفَرَّجْ عنه فإنه قد يعود على قلبه بالضعف في الإيمان، فيُكْرِمُهُ الله - عز وجل - لأجل ضعفه لا لأجل كماله. ولهذا فإنَّ باب الكرامة ليس معناهُ تفضيل من جرت له، فقد يكون مُفَضَّلاً وقد لا يكون، فليست الكرامة بمجردها دليلاً عند السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام؛ بل الإيمان بالكرامات -كرامات الأولياء- لأجل وجودها وأنَّ الله - عز وجل - يُكْرِمْ بها عباده وأَنَّ الأدلة دَلَّتْ على ذلك وليس من أجل تفضيل من حصلت له الكرامة فقد يكون أقل درجة بكثير ممن من لم تحصل له الكرامة. إذا كان كذلك، فإنه حينئِذْ من دُوِّنَتْ عنه الكرامات لا يلزم أن يكون أعلم ولا أفضل ولا أن يُقْتَدَى به ولا أن تُؤْخَذْ أقواله لأجل أنَّهُ حصلت منه الكرامة؛ بل لم يزل الصَّالحون إذا حصلت لهم مثل هذه الأنواع من الكرامات لم يزالوا يكتمونها ولا يُشيعُونَها لأَنَّهَا قد تكون في حقّهم من الفتنة، وهم لِعِلْمِهِمْ بالله - عز وجل - وما يستحقه - جل جلاله - من الطاعة والإنابة والإقبال عليه أَنْ لا يَفْتِنُوا الناس بذلك. وهذا من أسباب أنَّ المنقول عن الصحابة من الكرامات قليل جداً، وعند التابعين أكثر، ثُمَّ هكذا، كلما ضَعُفَ الناس كلما أَحَبُّوا إذا حصل لهم أي شيء أن ينشروه وأنْ لا يكتموه. لهذا نقول: الواجب على الناس أن لا يعتقدوا فيمن حصل له إكرام أو كرامة. أن لا يعتقدوا فيه؛ بل يقولون: هذا دليل على إيمانه وتقواه إذا كان مُتَحَقِّقَاً بالإيمان والتقوى، وهذا دليلٌ على محبة الله - عز وجل - له. وهو يَسْأَلْ لنفسه الثبات ويحرص على ذلك. وهم أيضاً لا يأمنون عليه الفتنة، وإذا مات على هذه الحال أيضاً من الصّلاح والطاعة فإنه يُرْجَى له الخير ولا تتعلق القلوب به، أو يُستغَاثْ به أو يُؤْتَى لقبره ويُسْتَنْجَدْ به أو يُطْلَبْ منه تفريج الكربات أو يُرَاعَى وهو في غيبته في حال الحياة ونحو ذلك كما يفعله ضُلَّالْ أصحاب الطرق الصوفية ومن يعتقدون فيه ممن ينتسبون للأولياء وربما لم يكونوا منهم. لهذا فالواجب على المؤمن أن لا يتحدث بهذه إلا إذا رأى ثَمَّ حاجة دينية لذلك، أما إذا كانت لأجل إظهار منزلته أو لإظهار إكرام الله - عز وجل - له ونحو ذلك، فهذا الأفضل كتمانها سِيَّمَا إذا كان مع إظهارها والتحدث بها فتنة قد تصيب البعض، وإذا كان في مثل هذه الأزمنة التي يظهر فيها الجهل ويتعلق الناس بمن ظهر عليهم الصلاح لأجل الاعتقاد فيهم فإنه يجب على المؤمن أن يصد وسائل الشر وأن يسد ذرائع الشرك والغلو التي منها ذكر الكرامات وتداول ذلك.   (1) ابن حبان (2900) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 [المسألة العاشرة] : مما يتصل بالكرامة من المباحث مبحث الفِرَاسَةْ؛ لأنَّ الفِرَاسَةْ الإيمانية بها يَعْلَمْ صاحب الفِرَاسَةْ ما في نفس الآخرين. والفِرَاسَةْ لفظٌ جاء في السنة: «اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (1) ، والحديث حَسَّنَهُ جماعة من أهل العلم، وهو في الترمذي وفي غيره. هذه الفِرَاسَةْ عُرِِّفَتْ بأنها: شيء من العلم يُلْقَى في رُوعِ المؤمن به يعلم حالْ من أَمَامَهْ، إمَّا حالُهُ الإيماني وإما حالُهُ في الصدق والكذب، وإما بمعرفة ما في نفسه ويجول في خاطره. ولهذا عُرِّفت الفِرَاسَةْ أيضاً بأنها نور يقذفه الله في قلب بعض عباده، بها يعلم مُخَبَّئَاتْ ما في صدور بعض الناس. والعلماء قسموا الفِرَاسَةْ إلى أقسام أشهرها ثلاثة: 1- الأول: الفِرَاسَةْ الإيمانية: وهي التي قد يُدْخِلُهَا بعضهم في باب الكرامة وليست منها. 2- الثاني: فراسةٌ رياضية: يعني تحصل بالترويض وبالتعود وبتخفيف ما في النفس من العلائق، وهي التي يحصل فيها دُرْبَة عند بعض أصحاب الطُّرُقْ. 3- الثالث: فراسة خَلْقِيَّة: وهذه ليست راجعت إلى استبطان ما في النفوس ولكن باعتبار الظَّاهر. يُنْظَرُ إلى الخَلْقْ فيستدل بشكل الوجه على الخُلُق، ويستدل بشكل العينين على مزاج صاحبها، يستدل بشكل البدن أو شكل اليد أو تقاطيع الوجه على حاله مِنْ جِهَةْ الأخلاق. فهذه اعتنى كثير من الناس، وصُنِّفَتْ فيها مصنفات عند جميع الأمم، من الأمم السابقة لأمة الإسلام، وفي أمة الإسلام أيضاً لأنها فراسة خَلْقِيَّةْ، ويقولون: إنَّهُ ثَمَّ ترابط ما بين الخَلْقْ والخُلُقْ. ومن الأئمة الذين اعتنوا بهذا الباب وتَعَلَّمُوهُ الشافعي رحمه الله وصَنَّفَ طائفة من أصحاب الشافعي في الفِراسة مصنفات الفراسة الخَلقية. المقصود من ذلك أَنَّ الفراسة -وهي النوع الأول الفراسة الإيمانية-، ليست من الكرامة لأنها أقرب ما تكون إلى الإلهام، والإلهام قد يكون خارقاً للعادة وقد لا يكون. فجنس الفراسة الإيمانية ليست من جنس الكرامات، وقد يكون من أنواع الفراسة ما يكون فيه خرق للعادة فيكون كالعلوم والمُكَاشَفَات التي يُجريها الله - عز وجل - على يد أوليائه.   (1) الترمذي (3127) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 [المسألة الحادية عشر (1) ] : كرامات الأولياء قد تجري للمجموع لا للأفراد، وهذا في حال الجهاد سواءٌ أكان جهاداً علمياً أم كان جهاداً بدنياً -يعني بالسِّنان-. فقد يُكْرِمُ الله - عز وجل - الأُمَّةَ المجاهدة، جماعة المجاهدين من أهل العلم، يعني من الجهاد باللسان بقوة في التأثيرات الشّرعية وبالنصر على من عاداهم بالمَلَكَة والحُجَّة وبما يعلمون به مواقع الحُجَجْ وما في نفوسهم بما يكون أقوى من قُدَرِهِمْ في العادة. قد يُكرمهم الله - عز وجل - بذلك وإن لم يكونوا من الملتزمين بالسنة. وقد يكون كما ذُكِرْ بعض أهل البدع يُعْطَى قوّة وينتصر على عَدُوِّهِ من النصارى مثلاً أو من اليهود أو من الملاحدة في أبواب المناظرات ويُكْشَفُ له من مُخَبَّآتِ صدر الآخر ما لا يكون لأفراد الناس، ويُكْشَفْ له من القوة والحجة في التأثير على الناس ما يدخل في باب التأثير في الكونيات والشرعيات كما ذكرت لك سابقاً. وكذلك في أبواب جهاد الأعداء بالسيف، فقد يُؤْتَى طائفة من المسلمين من أهل البدع والذنوب والمعاصي بعض الكرامات إذا جاهدوا الأعداء. وهذا يُنْظَرُ فيه إلى المجموع لا إلى الفرد، والمجموع أرادَ نُصْرَةْ القرآن والسنة ودين الله - عز وجل - ضِدْ من هو كافِرٌ بالله - جل جلاله - وضد من هو مُعَارِضٌ لرسالة الرسل أو من يريد إذلال الإسلام وأهل الإسلام. فيُعطى هؤلاء بعض الكرامات وهي لا تدل على أنهم صالحون وعلى أنَّ مُعْتَقَدْ الأفراد أَنَّهُ مُعْتَقَدٌ صالحٌ صحيح؛ بل تدل على أَنَّ ما معهم من أصل الدين والاستجابة لله والرسول في الجملة أنهم أحَقُّ بنصر الله وبإِكرامه في هذا الموطن لأنهم يجاهدون أعداء الله - عز وجل - وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا لا يُغْتَرْ بما يُذْكَرْ عن بعض المجاهدين أنهم حصلت لهم كرامات وكرامات وكرامات. وهذه الناس فيها لهم أنحاء: - منهم من يُكَذِّبْ ويقول هؤلاء عندهم وعندهم من البِدَعْ والخُرَافات وإلخ، وبالتالي الكرامة لا تكون لهم، فينفي وجود هذه الكرامات. - ومنهم من يُصَدِّقُ بها ويجعل هذا التصديق دليلاً على أنهم صالحون وأنَّهُ لا أثر للبدعة وأنَّ الناس يتشددون في مسائل السنَّةْ والبدعة. وأما أهل العلم المتبعون للسلف كما قَرَّرَ ذلك ابن تيمية بالتفصيل في كتابه النَّبُوَاتْ فإِنَّهُم يعلمون أنَّ المجاهد قد يُعْطَى كرامَةً ولو كان مُبتدعاً، لا لذاته ولكن لما جاهد له، فهو جاهد لرفع راية الله - عز وجل - ضد ملاحدة، ضد كفرة، ضد نصارى، ضد يهود، ضد وثنيين، وهذا يستحق الإكرام لأنَّهُ بَذَلَ نفسه في سبيل الله - عز وجل -. والبدع ذنوب، والجهاد طاعة، ومن أعظم الأعمال قُرْبَةْ، ومعلوم أَنَّ الحسنات تُذْهِبْ ما يقابلها من السيئات، فقد تكون في حَقِّ البعض حسنة الجهاد أعظم من سيئة بعض البدع والذنوب؛ بل الجهاد سبب في تكفير الذنوب والآثام كما قال - عز وجل -: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف:10-12] الآية. من أعظم أسباب مغفرة الذنوب الجهاد، ومن أعظم أسباب تحقيق وَلَايَةْ الله ومحبته أَنْ يُجَاهِدْ العبد، لكن هذا يكون في موازنة الحسنات والسيئات والله - عز وجل - أعلم بنتيجة هذه الموازنة. المقصود من ذلك أَنَّ أهل السنة والجماعة يُقَرِّرُون أَنَّ الكرامة هي للولي الصالح كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، وقد يُعْطِيْ الله - عز وجل - الكرامة لجَمْعٍ من المسلمين، أو لفردٍ في جَمْعٍ من المسلمين لأجل ما ذكرتُ لك من الحال إذا كان على غير التقوى والإيمان ومتابعة السّنة أو الأخذ ببعض البدع. ولهذا لا يَغْتَرْ مُغْتَرْ بما يحدث من ذلك ويَزِنْ الأمور بموازينها: - فمن نَفَى مُطْلَقَاً فهو مَتَجَنِّي لأنَّهُ لا عِلْمَ له بذلك. - ومن قَبِلَ مُطْلَقَاً وجعلها دليلاً على الصلاح والطاعة وأنَّهُ لا أثر للعقائد ولا أثر للسنة في مثل هذه المسائل هذا أيضاً تَجَنَّى على الشرع وتَجَنَّى نفسه، والعلم يقضي بما ذكرته لك في ذلك.   (1) ذكرها الشيخ حفظه الله تعالى تحت المسألة الثالثة عند الإجابة على السؤال: هل المبتدع أو الضال أو العاصي يعطى كرامة (672) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 [المسألة الثانية عشر] : الواجب على المؤمنين أن يَسْعَوا في الإيمان (1) وفي شُعَبِهِ -امْتِثَالَاً للأوامر واجتناباً للنواهي- طلباً لمرضاة الله - عز وجل - وأن يبذلوا أنفسهم في الجهاد بأنواعه: الجهاد في العلم والجهاد في العمل والدعوة، أو الجهاد بالسيف والسنان إذا جاء وقته، أو إذا حَضَرَهُ المؤمن، أن يسعوا فيه طَلَبَاً لرضا ربهم - عز وجل -، وأن لا يلتفت العبد مهما بَذَلْ إلى حصول الكرامة أو عدم حصول الكرامة. فمن الناس من تعلّقت قلوبهم بالكرامات؛ بل بما هو دونها من الرُؤَى وربما الأحلام ومن القصص والحكايات والأخبار وأَثَّرَ ذلك على إيمانه سلباً أو إيجاباً، ضعفاً أم زيادة. وهذه الأمور نؤمن بها -يعني مسائل الكرامات-، نؤمن بها لأَنَّهَا جاءت في النصوص؛ لكن العبد لا يَتَطَلَّبُهَا، لا يبحث عنها، كما ذكرت لك ربما كان الأكمل في حقه أن لا تحصل له الكرامة، وربما كان الأكمل في حقه أن يُبْتَلَى، وربما كان الأكمل في حقه أن يُذَلْ ولا يُعْرَفْ ما يقضي الله - عز وجل - به في هذه المسائل. ومن نظر لسيرة من نعتقد فيهم أنهم من أفضل أهل زمانهم إيمانَاً وتقوى ومُتابعة للسنة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ومُجَاهدةً لأعداء الله، حصل لهم من الابتلاء والفتنة ما حصل، كما حصل لإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، فالجميع حصل لهم من البلاء والسجن والفتنة، يعني والصد والإيذاء ما حصل لهم، ومع ذلك هم أكمل ممن هم دونهم ممن حصل لبعضهم من الكرامات فيما نُقل بأسانيد ثابتة. بل ابن القيم رحمه الله طِيْفَ به في دمشق وهو العالم الإمام على حمار ظهره إلى السماء ووجهه إلى الأرض تنكيلاً به، ومع ذلك ما ضَرَّهُ لا في وقته ولا فيما بعده فالتراجم طافحة بالثناء عليه، لأنَّ هذه مسائل من الابتلاء التي يَبْتَلِي بها الله - عز وجل - بعض عباده كيف شاء. فالمقصود من هذا أنَّ الميزان هو متابعة السنة. تحقيق الإيمان والتقوى، متابعة طريقة السلف الصالح قد يحصل معه إكرام وقد لا يحصل معه، يحصل معه ضد ذلك من الابتلاء والإيذاء، وقد يكون المُبْتَلَى أكمل ممن لم يُبْتَلَ. فالعبرة بلزوم منهج السلف الصالح وطريقة السلف الصالح، فقد يُبْتَلَى من هو من أهل البدع، وقد يُبْتَلَى من هو من أهل السنة، وقد يُبْتَلَى العاصي المذنب، وقد يُبْتَلَى التقي الناصح، وهكذا. فإذاً الميزان هو كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وملازمة طريقة السلف الصالح في ذلك. أسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا من أوليائه وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يُكَفِّرَ عنا الخطايا والآثام، وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط السابع والأربعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 الأسئلة : س1/ يقول أشكل عند قول الطحاوي: (حب الصحابة دين وإيمان) (1) ، وذلك من جهة تسمية حب الصحابة إيمان، والحب عمل القلب وليس هو التصديق، فيكون العمل داخِلَاً في مُسَمَّى الإيمان. ج/ هذا مُشْكِلْ وقد ذكر الشارح أنه مُشْكِلٌ على أصل الشيخ، وهذا ظاهر أنه مُشْكِلْ، وما من أحد يخالف السّنة إلا ويقع في التناقض، لأنَّ الميزان الذي لا يختلف هو الكتاب والسنة، أما الرأي فيختلف، الإنسان يرى رأياً اليوم وغداً يبدو له شيء آخر، ما يلتزمه في كل كلمة، يلتزمه إذا جاء في التعريف، يلتزمه إذا جاء في الوصف ثُمَّ يخالفه في سَنَنْ كلامه وهكذا. ولهذا بعض أهل البدع حتى في مسائل الصفات، إذا جاؤوا يتكلمون مثلاً عن الاستواء على العرش، لو تَحَقَّقَ هو من نفسه لوجد أنَّ نفسه تغلبه إلى أنَّ الله - عز وجل - مستوٍ على عرشه بذاته بائنٌ من خلقه حتى وهو يتكلم فيها. لكن إذا أراد أن يُقَرِّرْ المسألة ذهب إلى ما تَعَلَّمَهُ فَثَمَّ فرق مابين الشيء الفطري وهو التسليم لكلام الله - عز وجل - وكلام رسوله وما يأتي في باب التعليم تارَةً. ولهذا نبهناكم مراراً إلى غلط قول من يقول إنَّ أكثر المسلمين أشاعرة أو أكثر المسلمين ليسوا من أهل السنة والجماعة، وإنما أكثر المسلمين أشاعرة، أو أكثر المسلمين ماتريدية أو نحو ذلك، والقليل هم من يتبعون منهج السلف الصالح، هذا غلط كبير. بل أكثر المسلمين في المسائل الغيبية على الطريقة المرضية، لكن ليس أكثر العلماء؛ لأَنَّ العلماء هم الذين عندهم ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، وما يُخالف الفطرة، أما لو تسأل أي عامي في البلاد التي هي بلاد لنصرة المذاهب المخالفة لطريقة السلف، إما للأشعرية والماتريدية بحسب اختلاف البلدان وتأخذ عامي وتسأله عن الاستواء على العرش، ما يستحضر إلا ما يدل عليه الظاهر وما يؤمن به، إلا إذا أتى أحد من العلماء وعَلَّمَهْ أَنَّ هذه تأويلها كذا وكذا، فيذهب إلى كلام العالم. والإيمان بالظاهر في الصفات ما يستحضر أَنَّ الله لا يُوصَفْ بالرحمة، ما يستحضر أنَّ الله لا يوصف بالرضا. لو تسأل عامي: هل الله يرضى؟ يقول: نعم الله يرضى، في القرآن. هل الله يغضب؟ يقول: نعم يغضب. فلذلك عامة الناس حتى في مسائل الإيمان، العمل، لو تسأل عامة الناس: هل العمل من الإيمان؟ أكثر المسلمين يقولك نعم العمل من الإيمان، كذلك مسائل القَدَرْ ما عندهم مبحث الجبر ولا يعرفون الجبر الداخلي لا الظاهري الذي هو الكسب عند الأشاعرة، هذه مسائل مُخَالِفَة للفطرة ومخالفة لظاهر النصوص، والناس لا يستوعبونها إلا بالدرس والتعليم. ولهذا مِيْزَةْ هَدْيْ السلف الصالح ومِيْزَةْ طريقة أئمة الحديث أنَّهُم على ظاهر القرآن والحديث، وهذا هو الذي يسع الذكي والبليد والعامي وغير العامي والعالم وغير العالم، يسع الجميع لأنها سهلة ميسورة، وإنما فصَّلنا في المسائل وكَثُرَ الكلام لأجل كثرة المخالفين وحماية للشريعة. مثل الإعداد بالسلاح، عندنا مال كثير نحتاج فيه إلى بناء مساجد فنذهب نبني المساجد لكن إن دَهَمَنَا عدو وَجَّهنَاه في العدو، أَخَّرْنَا بناء المساجد لأن لا يقضي ما هو موجود من الدين والمساجد. فلهذا النفوس، نفوس المسلمين هي على ظاهر الكتاب والسنة ما عندهم التأويل والعقلانيات إلخ. فأكثر المسلمين على طريقة السلف في الاعتقاد. لكن، أما العلماء فهذه هي المصيبة هم الذين تعلموا، منذ نشؤوا دخلوا في مدارس تعلمهم الأشعرية بقوانينها، دخلوا في مدارس تعلمهم دين الخوارج أو دين الرافضة أو إلخ، فأخذوا منها شيئاً فشيئاً بالتعليم وبالقصد، ولهذا كما جاء في الحديث: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» (2) . المقصود من ذلك أنَّ المُعَلِّمْ قد يكون أعظم من الأبوين في التأثير أو المربي أو الذي تخالط. ولهذا احرص تمام الحرص على أن يسلم القلب من مخالفة الكتاب والسنة في الاعتقاد. الأعمال والذنوب فهي على باب الغفران كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية: فَوَالله مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا ******* لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ لَكِنَمَا أَخْشَى انْسِلاَخَ الْقَلْبِ مِنْ ****** تَحْكِيمِ هَذَا الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ تحكيمه ليس معناه الدولة اللَّتي تُحَكِّمْ فقط، لا أنت أيضا تُحَكِّمْ الوحي والقرآن في المسائل، تعتقد ما في القرآن وتعتقد ما في السنة. فالمقصود من ذلك أنَّ الإشكال الذي وقع فيه الطحاوي يُبَيِّنُ لك أَنَّ بعض العلماء حتى من الذين ربما أصَّلُوا شيئاً مُخَالِفاً للسنة، مثل ما أصَّلْ في مسألة الإيمان شيئاً وبَيَّنَا عدم صحت ذلك هو يُخالفه. نحن نقول إشكال، لكن هو في الواقع مُخَالف وهو الصحيح أَنَّ حب الصحابة إيمان وحب الصحابة عمل القلب وأَدْخَلَهْ في الإيمان، حب الصحابة إيمان، خلاص واضح أنَّ هذا العمل إيمان. ولهذا قال الشارح: وهذه الكلمة مُشْكِلَةْ على أصل الشيخ. كما ذكره السائل. س2/ هل تُقاس الرؤية الصالحة على الكرامة؟ أي هل هي من الكرامة أم لا؟ ج/ الرؤية الصالحة ليست أمراً خارقاً للعادة، الرؤية الصالحة تحصل لآحاد الناس ليست خارقة لعادة البشر ولا لعادة بعض الجن، فهي رؤية يَضْرِبُهَا الملك، فهي رؤية صالحة وليس لها دخل في الكرامات. أمَّا وهل هي مما قد يحتاج إليه المؤمن أو لا؟ لا، المؤمن لا يتعلق قلبه بالرُّؤَى، إذا رأى رؤية صالحة حَمِدَ الله - عز وجل - ولازَمَ الطاعة حتى لا يفتتن، وإذا رأى رؤية لا تسره أو فيها سوء بالنسبة له فيعمل ما أَوْصَى به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ويستعيذ بالله - عز وجل - من شرها وينقلب على جنبه الآخر، فإنها لا تضره. س3/ هل العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه أم بشماله؟ ج/ العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه، أما الذي يُعْطَى كتابه يوم القيامة بشماله فهو الكافر، يُعْطَى كتابه بشماله وراء ظهره، أما المؤمن فيُعْطَى كتابه باليمين سواءٌ أكَانَ من السابقين أم من المقتصدين أم ممن ظلم نفسه، ثم يأتي بعد ذلك الحساب والوزن ثم تأتي الْمُجَازات. س4/ هل تصح هذه العبارة: كرامات الأولياء معجزات الأنبياء، ومعجزات الأنبياء كرامات الأولياء؟ ج/ يعني ما أدري من اللي قالها، ولكنها عبارة حلوة: كرامات الأولياء معجزات الأنبياء. لو قال كرامات الأولياء معجزاتٌ للأنبياء أو كرامة الولي معجزةٌ للنبي، يعني من حيث الجنس فربما صَحَّتْ، يعني باعتبار جميع الأولياء، كرامات جميع الأولياء ما حصلت لهم إلا باتِّبَاعِهِم لهذا النبي، فكل أنواع الخوارق التي حصلت للولي الأول والولي الثاني والعاشر والمائة، كل أنواع هذه الخوارق والكرامات في مجموعها هي معجزة للنبي؛ لأنها ما حصلت لهم إلا بالإتباع، قال: ومعجزات الأنبياء كرامات الأولياء. هذا عكس الكلمة السابقة، فهي إيضاحها على ما ذَكَرْتُ لك، إذا كان المقصود أنَّ كرامات جميع الأولياء هي معجزة وآية وبرهان للنبي الذي تابعوه، فهذا صحيح. نكتفي بهذا القدر ونراكم إن شاء الله على خير حال، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد (3)   (1) قال الطحاوي رحمه الله: وَحُبُّهُم دِينٌ وإيمَانٌ. (2) سبق ذكره (220) (3) نهاية الشريط السابع والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 : [[الشريط الثامن والأربعون]] : الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لمجده، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، أما بعد: الأسئلة: س/ ما معنى قول (منه بدأ وإليه يعود) ؟ ج/ قول طائفة من السلف في القرآن الكريم الذي هو كلام الله - جل جلاله -: (منه بدأ وإليه يعود) ، يعني منه - جل جلاله - بدأ قولاً وكلاماً وتنزيلاً، فلما تَكَلَّمَ به سمعه منه جبريل عليه السلام فبلَّغَهُ جبريل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم كما سمعه، وقولهم (وإليه يعود) يعني في آخر الزمان حين لا يُعْمَلُ بالقرآن فَيُكَرِّمُ الله - عز وجل - كلامه أن يبقى في الأرض ولا ثَمَّ من يعمل به فيُسْرَى على القرآن في ليلةٍ، من الأوراق من الصحف ومن الصدور فلا يبقى منه في الأرض آية. هذا معنى قولهم (منه بدأ وإليه يعود) . نكتفي بهذا القدر ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ: مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّال، ونُزُولِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّماءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا.   يريد الطحاوي رحمه الله أنَّ ما جاء في القرآن الكريم وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذِكْرِ أمورٍ غيبية تكون قريباً مِنْ السّاعة، أو تكون من أشراطها فإنها داخلةٌ في الإيمان في أركان الإيمان، ويجب الإيمان بها. ودخولها في أركان الإيمان من جهتين: الجهة الأولى: أنَّهَا غيب والإيمان كُلُّهُ إيمانٌ بالغيب الذي أخبر به الله - جل جلاله - أو أخبر به نبيُّه الله صلى الله عليه وسلم. الجهة الثانية: أنَّ من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، ومُقَدِّمَات اليوم الآخر وأشراط الساعة التي ثبتت في كتاب الله وفي سنة محمد الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ الإيمان بها واجب إذا بلغ المسلم الخبر في ذلك فيجب عليه التصديق بالغيب والإيمان به. وقد خَصَّ الله - عز وجل - أهل الإيمان بصفة الإيمان بالغيب، فهي أَوْلَى وأُولَى صفات المؤمنين كما قال - جل جلاله -: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [البقرة:1-2] فالإيمان بالغيب يدخل فيه جميع أركان الإيمان لأنَّ الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه، هذا كله إيمانٌ بالغيب. ويريد أيضاً رحمه الله بإيراد هذه الجملة مخالفة عددٍ من الطوائف الضّالة الذين لا يؤمنون بما يخالف ما دَلَّهُمْ عليه عقلُهُم، فإنَّ طوائف أنكرت وجود الدجال، وطوائف أنكرت نزول عسى بن مريم عليه السلام، وطوائف أنكرت طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونحو ذلك مما ليس مألوفاً لهم ولا يدخل في السُّنَنْ، فَنَفَوهُ لأجل ذلك. وأهل السنة باب الغيب عندهم بابٌ واحد، فما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب الإيمان به. وهذه الجملة تحتها مباحث ومسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 [المسألة الأولى] : الأشراط جمع شرط، والشّرط هو العلامة التي تُفَرِّقُ الشيء وتُمَيِّزُهُ عن غيره. وأشراط الساعة المقصود به الآيات والعلامات التي تدل على قرب قيام الساعة، إما دُنُواًّ فتكون أشراطاً كبرى، وإما دِلَالَةً على القُرْبْ فتكون من جملة الأشراط الصغرى. وقد جاء ذكر كلمة الأشراط في القرآن الكريم في سورة محمد، قال - عز وجل -: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أنَّ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ، وأفادت الآية فائدتين: - الفائدة الأولى: أنَّ الساعَةَ لها أشراط وعلامات. - الفائدة الثانية: أنَّ أشراط الساعة قد وقعت في وقت تَنَزُّلِ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يعني أنَّ مِنَ الأشراط ما يكون بعيداً عن وقوع الساعة ومنها ما يكون قريباً من وقوع الساعة. ومن الأحاديث في ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما تَذَاكَرُوا عنده الساعة قال: «إنها لن تكون حتى تروا قبلها عشر آيات» (1) ، فدلَّ ذلك على أنَّ ثمَّتَ أشراط قريبة منها سَمَّاهَا النبي صلى الله عليه وسلم آيات. والآيات جمع آية وهي: ما يَدُلُّ دِلَالَةً واضحةً ظاهرة على المراد وعلى الشيء حيث لا يكون فيه لَبْسْ.   (1) مسلم (7467) / أبو داود (4311) / الترمذي (2183) / ابن ماجه (4055) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 [المسألة الثانية] : أشراط الساعة قَسَمَهَا العلماء إلى قسمين: - إلى أشراطٍ كبرى. - وإلى أشراطٍ صغرى. ومن أهل العلم من قَسَمَهَا إلى ثلاثة أقسام: - أشراط صغرى. - ووسطى. - وكبرى. والأول هو المعتمد والثاني اصطلاح تفسيري ولكن ليس ثَمَّ ما يدل عليه من وجود الوسطى وإن كانت موجودةً وداخلة في الصغرى. أما تعريف الأشراط الصغرى: فهي ما دلَّ الدليل على أنَّهُ مِنْ علامات قُرْبْ الساعة وليس من العشر آيات التي جاءت في الحديث أنها تكون بين يدي الساعة. فحصلت الأشراط الصغرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تزال تحصل وتحصل إلى بَدْءِ الأشراط الكبرى. وسيأتي تفصيل الأشراط الصغرى والكبرى إن شاء الله. فمن أهل العلم من جعل الأشراط الصغرى كما ذكرت لك: - ما قَرُبَ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم فهي صغرى. - وما بَعُد من عهده فهي وسطى إلى حدوث الأشراط الكبرى. والأول هو المعتمد في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 [المسألة الثالثة] : الأشراط الصغرى كثيرة جداً ومتنوعة، ولا يدلُّ كون الحَدَثْ من أشراط الساعة على مدحه أو ذمه، بل هي آيات ودلائل على القرب: - فتارةً تكون ممدوحةً غاية المدح، منها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر باعتباره آية لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنها فتح بيت المقدس. - وقد تكون مذمومةً مُحَرَّمَةً أو مكروهة، أو تكون واقِعَةً كونِيَّةً فيها ابتلاء أو عقوبة للعباد. والمقصود من ذلك أنَّ ما جاء في الدليل أنَّهُ من آيات أو أشراط الساعة فلا يدلُّ كونه من أشراط الساعة على أنَّهُ ممدوحٌ أو مذموم إلا بدليلٍ آخر أو بحقيقة الأمر. وأشراط الساعة الصغرى كثيرةٌ جداً جداً، فمما يشار إليه فيها ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره، حديث عوف بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْدُدْ سِتَّاً بين يدي الساعة، موتي ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتَانٌ يَأْخُذُ فيكم كقٌعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال» (1) ... إلخ الحديث. ومنها مما حَدَثَ وهذه حدثت قريباً من عهده صلى الله عليه وسلم. ومنها مما حَدَثَ بعيداً عن عهده صلى الله عليه وسلم، النار التي خرجت من المدينة في القرن السابع الهجرى، في نحو سنة أربع وخمسين وستمائة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز» أو «من المدينة تُضيئ لها أعناق الإبل ببُصرى» (2) . منها ما يكون قريباً من الأشراط الكبرى. وأشراط الساعة الصغرى والكبرى أُلِّفَتْ فيها مؤلفات كثيرة في جمعها وجمع الأحاديث التي جاءت في ذِكْرِ أشراط الساعة، وهي من العلم النافع الذي يدلُّ على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، لأنَّهُ ولا شك أخبر عن أمرٍ غيبيٍ لم يحدث، وكان خبره صِدْقاً ويقيناً. فهذه الأخبار التي فيها أنَّهُ بين يدي الساعة يكون كذا، أو لا تقوم الساعة حتى يكون كذا، أو من أشراط الساعة كذا، أو أُعْدُدْ بين يدي الساعة كذا، هذه كلها تدلّ: - على صدقه صلى الله عليه وسلم. - ثُمَّ أيضاً تدلّ على أنَّ الساعة آتية لا ريب فيها؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بحدوث هذه الأمور وحدوثها حَصَلَ وكان حقاً كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. لهذا كان التّحديث بأشراط الساعة الصغرى والكبرى وذِكْرُهَا مما يُقَوِّي اليقين ويُقَوِّي الإيمان وهو من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) البخاري (3176) / ابن ماجه (4042) (2) البخاري (7118) / مسلم (7473) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 [المسألة الرابعة] : الأشراط الكبرى يُعْنَى بها العلامات والآيات التي تكون قريبةً من الساعة، بحيث إذا حدثت فإنَّ يوم القيامة قريبٌ جداً جداً. وسُمِّيَتْ كبرى لأنها آيات عظيمة تحدث ليس في حُسْبَانْ العِبَادْ أنْ تحدُثْ ولم يكن لها دليلٌ قبلها أو لها ما يشابهها. وهذه الأشراط الكبرى عشر كما جاءت في الأحاديث؛ ولكنها جاء في عدة أحاديث غير مرتبة، يعني من جهة الوقوع. وهنا ذَكَرَ الطحاوي رحمه الله في هذه الجملة، أربعة من أشراط الساعة: - ذكر خروج الدجال. - ونزول عيسى ابن مريم. - وطلوع الشمس من مغربها. - وخروج الدابة. وهذه أربعة من عشرة أشراط، وهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هنا الأشراط الكبرى لأنها هي العظيمة وهي الآيات الكبيرة التي يجب الإيمان بها وهذه العشرة وهي مرتبة في الحدوث كما أسوقها: - أول ما يحدث خروج الدجال. - ثم نزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء. - ثم خروج يأجوج ومأجوج. - ثم ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب. - ثم طلوع الشمس من مغربها. - ثم خروج الدابة على الناس ضحى. - ثم الدُّخان. - ثم خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر. وفي ترتيب الدخان هل هو قبل طلوع الشمس من مغربها أو هو بعد طلوع الشمس فيه خلاف بين أهل العلم، والأظهر هو ما ذكرت لك مِنَ الترتيب. & خروج الدجال: فالدجال جاءت النصوص الكثيرة بخروجه وأنه سيخرج من مَحْبَسٍ هُوَ فيه، إذا أَذِنَ الله - عز وجل - بخروجه، وأنَّهُ بَشَرْ من جنس البشر؛ لكنَّهُ أعور العين كأنَّ عينه عنبة طافية أو عنبة طافئة، مكتوب بين عينه (كَافْ- فَاءْ- رَاءْ) ثلاثة حرف يقرؤها كل مؤمن يعني (كافر) ، يعطيه الله - عز وجل - من القدرة ما تَحَارُ معه الألباب، فيقول للناس (إني ربكم) فيكون معه جنة ومعه نار وتكون فتنته تستمر في الأرض أربعين، وتكون فتنته أعظم فتنة حدثت في الأرض؛ لأنَّهُ يَدَّعِي أنَّهُ رب العالمين وأنَّ معه جنة وأنَّ معه نار وأنه يُحيي الموتى. فيأتي في ذلك وتُحرَّم عليه مكة والمدينة والملائكة تحرسها، ويخرج إليه شاب فيقول له: أنا ربك. فيقول له: أنت الدجال الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول للناس: أنا أقتل هذا ثم أحييه، فيَقْتُلُه ثم يُحْيِيه. فيقول: قد ازددت الآن بك علماً، -يعني أنك الدجال-. وهذا من خِيرة الناس على وجه الأرض، أو خير الناس على وجه الأرض في زمانه. والدجال لا يخرج حتى لا يُذْكَرَ في الأرض، وما من نبي إلا حذَّرَ أمَّتَهُ فتنة المسيح الدجال، ولهذا كان من المتأكدات على المؤمن في كل صلاة قبل السّلام أن يستعيذ بالله من أربع ومنها فتنة المسيح الدجال. وأخبار المسيح الدجال والأحاديث التي جاءت فيه كثيرةٌ متنوعة معروفةٌ في كتب السنة وفي كتب من ألَّفَ في أشراط الساعة، لكن ننبه في هذا على عدة أمور: 1- الأمر الأول: أنَّ المسيح الدجال لم يكن حياً في عهده صلى الله عليه وسلم، والأحاديث التي جاء فيها أنَّهُ حَيْ وأنه رُئِيَ إمَّا في المدينة كقصة ابن صائد أو ابن صيّاد، أو في حبسه في جزيرةٍ خرج إليها بعض الصحابة فرأوه فقصوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يدلُّ أنَّهُ كان في ذلك الزمن، وأنه يبقى إلى وقت خروجه. وإنَّمَا في قصة الجزيرة في قصة الرجل المحبوس وسؤاله عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث الذي رواه مسلم المعروف، من العلماء من حَكَمَ عليه بالشذوذ، ومنهم من قال خَرَجَ آيَةً، جعله الله آية للدلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس مستمر الحياة. والمقصود من هذا أنَّ الدجال بَشَرْ يخلقه الله - عز وجل - في وقتٍ من الأوقات ثم يأذَنُ بخروجه من مكانٍ هو فيه على ما يشاء ربنا - جل جلاله -. 2- الأمر الثاني: أنَّ خروج الدجال يكون بعد خروج المهدي، والمهدي ليس من أشراط الساعة الكبرى، وإنَّمَا يكون قريباً من خروج الدجال. والمهدي سُمِّيَ مَهْدِيَّاً لأنَّ الله - عز وجل - سيهديه ويُصْلِحُه في ليلة كما جاء في الحديث الصحيح أنَّهُ يذهب إلى مكة في حين اختلافٍ من الناس؛ يعني أنَّ الناس لا أمير لهم ولا إمام ولا جماعة، فيعود بالبيت فيخرج إلى الحرم يعني إلى مكة فيلوذ بالكعبة، ثم يأتيه الناس فيأمرونه بالخروج ويبايعونه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يصلحه الله في ليلة» (1) ، اختلف العلماء فيه، هل معناه: أنَّهُ يُصْلِحُهُ في أمر دينه ولم يكن صالحاً؟ أو أنَّهُ يصلحه لأمر الوَلاية وإمارة الناس؟ * والأظهر هو الثاني أنَّهُ يصلحه الله في ليلة لإمارة الناس ولقيادتهم. وهو من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب، واسمه كاسم محمد صلى الله عليه وسلم، محمد بن عبد الله، وجاء في الأحاديث صفاته، وبلغت الأحاديث التي فيها ذكر المهدي بأسانيد صحيحة وحِسَانْ وضعاف أكثر من أربعين حديثاً.   (1) ابن ماجه (4085) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 ولهذا قال طائفة من أهل العلم إنَّ أحاديث المهدي تبلغ مبلغ التواتر المعنوي، يعني الذي في جملته، لا في أفراده، يدل على أنَّ المهدي سيخرج في آخر الزمان قُرْبْ خروج الدجال. وفي قصة المهدي أنَّهُ حين [ .... ] يصيح صائح إنَّ الدجال خَلَفَكُم في أهليكم وأولادكم أو أموالكم، وينقسم الناس، في القصة المعروف التي لا مجال لسردها بطولها. [ ..... ] أنَّهُ في أثناء ولاية المهدي وغزوِهِ وجهاده وانتشار الخيرات في وقته يخرج الدجال فتعظُمُ فتنته. & نزول عيسى ابن مريم عليه السلام: ثم ينزل عيسى عليه السلام وهو حَيٌّ الآن، ينزل من السَّماء في دمشق عند المنارة البيضاء شرقي دمشق. والنبي صلى الله عليه وسلم كما روى ابن ماجه وغيره أنَّهُ ينزل عند المنارة البيضاء في شرقي دمشق ثم يدرك الدجال بباب لُدْ فيقتله هناك، وأصله في مسلم (1) . وهذا قبل وجود المنارة وقبل بناء المسجد الأموي، والمنارة البيضاء الآن معروفة في دمشق. فما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعظم ما بيَّنَهُ لأمته صلى الله عليه وسلم. ثاني أشراط الساعة نزول عيسى بن مريم، والله - عز وجل - دلَّ على نزوله في القرآن بقوله - عز وجل - {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] ، وقد جاء في الصحيح أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أنْ ينزل فيكم عيسى ابن مريم حَكَماً عَدْلاً مُقْسِطَاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال في عهده -أو في وقته- حتى لا يقبله أحد ويؤمن به أهل الكتاب» ، قال أبو هريرة رضي الله عنه واقْرَأُوا إنْ شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} (2) . فقوله هنا {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، المقصود به قبل موت الكتابي أو قبل موت عسى ابن مريم؟ من أهل العلم من قال بالأَوَّلْ أنَّهُ قبل موت الكتابي فيؤمن بعيسى ابن مريم. وأكثر أهل العلم وأهل التفسير على أنَّ المقصود به {قَبْلَ مَوْتِهِ} يعني قبل موت عيسى ابن مريم لأنَّ سياق الآية والآيات قبلها يدل على ذلك، وظاهرها أيضاً وهو قوله {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} ، يعني بعيسى ابن مريم عليه السلام، {قَبْلَ مَوْتِهِ} ، يعني موت عيسى أيضاً ابن مريم عليه السلام. وهذا في معنى الآية التي في سورة الزخرف وهي قوله - جل جلاله - في ذِكْرِ عيسى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] ، وفي القراءة الأخرى {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} والعَلَمْ هو العلامة والشرط، {لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} يعني شرط من أشراط الساعة، وهو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة واتفق عليه [ ...... ] حتى أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه إذا ساق ذلك قال لمن يروي له هذا الحديث: فإذا رأيت عيسى ابن مريم فأقرئه منّي السلام (3) ، ويرويها مَنْ بَعْدَه لمن بعده، فإذا رأيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام، وهذا من شدة إيمانهم وتصديقهم بنبينا صلى الله عليه وسلم الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . عيسى عليه السلام يمكث ما شاء الله في الأرض أنْ يمكث ثم يموت ثم يُصَلَّى عليه. & خروج يأجوج ومأجوج: ويخرج في عهد عيسى عليه السلام يأجوج ومأجوج، وقد جاء ذكرهم في القرآن في سورتين، في سورة الكهف وفي سورة الأنبياء، قال - عز وجل -: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96-97] ، يعني الساعة، وفي سورة الكهف: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف:94] الآيات، فأفادت الآيتان فائدتين: 1- الفائدة الأولى: أنَّ يأجوج ومأجوج موجودان اليوم وموجودان قبل ذلك فهما قبيلان أو قبيلتان أو شَعْبَانِ كبيران يعْظُمُ أمرهما عند قيام الساعة. 2- الفائدة الثانية: أنَّهُمْ يأتون من كل حَدَبْ، قال في آية الأنبياء: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، والحَدَبْ هو الجهة، و (يَنْسِلُونَ) هذا من النَسَلاَن وهو السير ليلاً، فهم يأتون من كل جهة، فربما مروا على البحيرة العظيمة فشربوا ماءها إلخ. فخروج يأجوج ومأجوج في عهد عيسى عليه السلام، هذا من آيات الساعة الكبرى. ثم يدعوا عليهم عيسى عليه السلام فيموتون ثم تُنْتِنُ الأرض التي هم فيها بنَتَنِ أجسادهم فيأمر الله - عز وجل - ريحاً أو طيوراً بحملهم في البحر.   (1) مسلم (7559) / أبو داود (4321) / ابن ماجه (4075) (2) البخاري (2222) (3) المسند (9110) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 & ثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق وخسفٌ بالمغرب وخسفٌ بجزيرة العرب: وهذه الخسوف الثلاثة، خسوفٌ عظيمة لم يسبق أَنْ حَدَثَ مثلها. فالزلازل وخسوف الأرض تحدث في الأرض وهي من آيات الله - جل جلاله - يبتلي بها ويعذِّبُ بها، ولكنها آيات عند قرب قيام الساعة لم يحدث لها مثيل، فهي غير مألوفة. خسوف عظيمة كبيرة تكون في الشرق وفي الغرب وفي جزيرة العرب. والخَسْفْ معروف أنَّهُ ذهاب الأرض إلى أسفلها، يعني ذهاب علو الأرض إلى أسفلها. (1) & طلوع الشمس من مغربها: وطلوع الشمس من مغربها جاء ذكره في القرآن وكذلك في السنة الصحيحة، كما في قوله - عز وجل -: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] . والتوبة (2) لا تزال مقبولة من العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها. وطلوع الشمس من مغربها حقٌ وصدق وهي آية غير مألوفة؛ لأنَّ المألوف أنَّ الشمس تطلع من الشرق ثم تغرب في الغرب، فكونها تعود من حيث جاءت أو من حيث غَرَبَتْ، تعود من الغرب إلى الشرق هذه آية عظيمة غير مألوفة تجعل الناس جميعاً يؤمنون. ولهذا إذا طلعت الشمس من مغربها فإنَّ الناس يؤمنون لكن {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} ، فيبقى بعد طلوع الشمس من مغربها الناس فيهم المؤمنون الذين آمنوا قبل طلوع الشمس من مغربها، وفيهم المنافقون والكافرون والمشركون. & خروج الدابة على الناس ضحى: ثم تخرج الدابة، والدابة حيوان عظيم الخِلْقَةْ يُعْطِيهْ الله - عز وجل - القدرة على وَسْمْ الناس، كما قال - عز وجل - في آخر سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] . {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} يعني بقيام الساعة وبطلوع الشمس من مغربها. {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} وفي قراءة أخرى: {تَكْلِمُهُمْ أنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} وأيضاً {إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} ، يعني بفتح الهمزة من {أَنَّ} وكسرها. وقوله: {تُكَلِّمُهُمْ} و {تَكْلِمُهُمْ} قراءتان صحيحتان تدلاَّنِ على معنيين مختلفين: 1- المعنى الأول: أنها تُكَلِّمْ وتحدِّثْ الناس، وهي آية، والعادة في الحيوان أنَّهُ لا يُكَلِّمُ الناس، فهي تكلم الناس بلغاتهم وبما يفهمون عنها. 2- المعنى الثاني: أنها تَكْلِمْ الناس بمعنى أنَّهَا تَسِمُ الناس، والوسْمُ سَمَّاهُ الله - عز وجل - هنا كَلْماً لأنه يكون معه كَلْمُ الجلد والتأثير في الجلد كما يحصل في وسْمِ الدواب فإنه لا بد فيه من جُرْحٍ فيها أو من أثرٍ فيها، فتَسِمُ الناس هذا مؤمن وهذا كافر، وهذه هي الآية الثامنة. ثم بعد ذلك تأتي وليست من الآيات تأتي ريح يرسلها الله - عز وجل - خفيفة في ليلة فتقبض أرواح أهل الإيمان أو يموت معها أهل الإيمان، فيبقى أهل الكفر والنفاق والشرك يتهارجون في الأرض كتهارج الحُمُرْ فلا يقال في الأرض (الله الله) (3) كما جاء في الصحيح، يعني لا يُقَال في الأرض اتق الله اتق الله، أو أذكر الله أذكر الله. & الدخان: ثم يكون الدخان، والدخان حَصَلَ مَرَّةً كما في سورة الدخان؛ ولكنه ليس بالآية العظيمة كالدخان الذي يحصل قرب قيام الساعة، فذاك دخان يغشى الناس من أولهم إلى آخرهم في الأرض كلها ويشتد معه الخطب والأمر. ومن أهل العلم من قال: إنَّ الآية في سورة الدخان المقصود بها ما هو في قرب قيام الساعة، وفي الأحاديث والسنة أنَّ الدخان حَصَلَ في المسلمين، يعني قد رآه المسلمون والمشركون في مكة، وهذا غير هذا. & خروج النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر: وآخرها نار تخرج من جنوب الجزيرة من قعر عدن؛ يعني يبدأ خروجها من هذا الموطن، ثم تنتشر في الأرض فتحيط بالناس تحشُرُهُمْ إلى أرض المحشر، تبيت معهم وتَقِيلُ معهم، وهذا أيضاً آية عظيمة أنَّ ناراً تتحرك تمشي تقف مع الناس ومع خوفهم حتى تحشر الناس إلى أرض المحشر. ثم بعد ذلك يحصل النفخ في الصور: النفخة الأولى، نفخة الفزع والصّعق، ثم تكون أربعون وتكون نفخة البعث أعاننا الله - عز وجل - على كربات يوم القيامة وغفر الله لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا.   (1) انقطاع في الشريط والله أعلم (2) نهاية الوجه الأول من الشريط الثامن والأربعين (3) مسلم (392) / الترمذي (2207) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 [المسألة الخامسة] : الناس في ما كتبوا من أهل العلم في أشراط الساعة ما بين مُصِيبٍ مُدَقِّقْ وما بين متساهل. ولهذا المؤلفات في هذا الباب كثيرة جِدَّاً، يعني وما بين كُتُبٍ مُؤَلَّفَة مستقلة وما بين شروحٍ في كتبٍ مطولة. لكن ينبغي لطالب العلم أنْ يتحَرَّزْ في هذا الأمر وذلك لأنَّ أشراط الساعة أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية يجب أنْ يُسَلَّمَ لها إذا صح فيها دليل، إذا كان الدليل من كتاب الله - جل جلاله - أو كانَ الدّليل مما صح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وفيها ما في جنس أخبار الغيب بأنه لا يُتَعَرَضُ لها بمجاز ولا بما يَنْفِيْ حقيقتها ولا بالتأويل الذي يصرفها عن ظواهرها. فباب التأويل والمجاز مرفوضٌ في مسائل الغيب جميعهاً، أو رَدْ هذه الآيات بالعقلانيات وأنَّ العقل يُحيلُ مثل هذا، هذا كله مردود. ولهذا تجد في الكتب المؤلفة والشروح، ربما ما يصرف الأحاديث عن ظاهرها والواجب هو التسليم لها. وهذا يَدْخُلْ في مقتضى الشهادة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من مقتضى الشهادة معناها تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، فكل ما أخبر به من أمور الغيب ومن قصص السالفين ومما لم تُدْرِكْهُ فيجب التصديق به والإيمان بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم يُبَلِّغُ عن ربه - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. والناس في مسائل أشراط الساعة كما ذكرت لك في أول الكلام: - منهم من يتأولها وينفي ما لا يدل عليه العقل، ويأخذ بما دلَّ عليه العقل. - ومنهم من يتأول بعضاً. - ومنهم من يؤمن بها على ظاهرها كما جاءت لأنها أمورٌ غيبية وهذا هو الذي ينبغي. لهذا تجد مثلاً أنَّ في نزول عيسى عليه السلام والمهدي إذا جاء أنَّهُ يكون مثلاً بالسيف وبالخيل، والسيف والخيل قال فيها صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف -أو لأعْلَمُ- أسماء خيولهم وألوانها» (1) ، أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا تأكيد للحقيقة. وكذلك أشراط الساعة الأخرى مثل خروج الدجال وأن يسمع به الناس: فمِنَ الناس من قال أنَّ الدجال مثلاً يركب الطائرة، مما أُلِّفْ في هذا الباب، يركب الطائرة وأنه يَسْمَعْ الناس بخبره عن طريق كذا وكذا من الآلات التي هي موجودة الآن، وهذا مما لا يصلح أنْ يُثْبَتْ ولا أنْ يُنْفَى. بل الواجب في مثل هذا التسليم للخبر لأنه إثباته فيه إثبات أنَّ هذه الأشياء ستبقى إلى خروجه، وهذا ما ليس لنا به علم، والنفي أيضاً نفيٌ بما لم نُدْرِكْ علما. والواجب في هذا التسليم وأن لا يخوض الناس في عقليات تنفي ظاهر الأدلة. فنؤمن بها كما جاءت ولا ندخل فيها كما ذكرت بتأويلٍ أو بمجازٍ يصرفها عن ظواهرها.   (1) مسلم (7463) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 [المسألة السادسة] : عيسى ابن مريم عليه السلام إذا نزل فإنَّهُ ينزِلُ تابِعَاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وَجَبَ على من يكون حَيَّاً أنْ يؤمن به. ولهذا عيسى عليه السلام إذا نَزَلْ وكان الإمام يُصَلِّيْ بالناس أو يريد الصلاة، فيأتي يَتَأَخَّرْ ليتقدم عيسى عليه السلام، فيقول عيسى عليه السلام (لا، إمامكم منكم تَكْرِمَةُ الله لهذه الأمة) (1) . وهذا فيه الدِّلالة من أول وهلة ومن أول لحظة على أنَّهُ تابعٌ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وليس رسولاً مُتَجَدِّدَاً يعني كما كان قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا إذا نزل عليه السلام فإنه يكون حاكماً بكتاب الله - عز وجل - وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينطَبِقُ في حَدِّهِ عليه السلام أنَّهُ صحابي أيضاً لأنَّهُ رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حياًّ وينزل بعد ذلك مُتَّبِعَاً له ويموت على اتِّبَاعِهِ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم. وهذا ينطبق عليه حد الصحابي أنَّهُ من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ساعَةً مؤمناً به ومات على ذلك. ولهذا بعض أهل العلم ربما ألْغَزْ فقال: مَنْ رجل مِنْ أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل من أبي بكر بالإجماع؟ ربما ألْغَزْ بعض أهل العلم وليس من الألغاز السائرة -يعني المشهورة- مَنْ رجل مِنْ أمة صلى الله عليه وسلم هو أفضل من أبي بكر بالإجماع؟ والجواب أنَّهُ عيسى عليه السلام لأنَّهُ تفضيله لأنه رسول ومن أولي العزم من الرسل وهو من أتْبَاعِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد نزوله. فبعد أنْ ينزل ويُخَاطَبْ ويحكم في الأرض بشريعة الإسلام لأنَّ شريعة الإسلام ناسخةٌ لما قبلها من الشرائع.   (1) مسلم (412) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 [المسألة السابعة] : أشراط الساعة ربما حَلاَ لبعض الناس أنْ يُنَزِّلَهَا على الواقع الذي يعيش فيه، دون تحقيقٍ في انطباقها على ما ذكر. ولهذا ألَّفَ مَنْ أَلَّفْ من المعاصرين في أنَّ هذه العلامة أو هذا الشرط هو كذا بعينه. وهذا مما لا يتجاسر العلماء عليه بل يتحرون فيه أَتَمْ التَّحَرِّيْ فإنَّ تطبيق الواقع على أنَّهُ هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هذا يحتاج إلى علم لأنَّهُ إخبارٌ بما تؤول إليه أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهذا يحتاج إلى علم، والله - عز وجل - يقول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] ، يعني ما تؤول إليه حقائق أخباره، وهذا ربما لم يظهر لكل أحد، -يعني الآية في يوم القيامة لكن انتظار التأويل يعني ما تؤول إليه حقائق الأخبار-. بعضها ظاهر مثل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، انشقاق القمر، موت النبي صلى الله عليه وسلم، الموتان يعني الطاعون الذي حصل، طاعون عمواس في سنة 18 من الهجرة ونحو ذلك، مثل النار التي خرجت من المدينة. لكن في بعضها يكون ثَمَّ اشتباه، هل هو منطبق أو ليس بمنطبق، هل هو تمت، يعني هل الصفات منطبقة أو ليست كذلك. ولهذا كما ذكرت لك في أول الكلام أنَّ أشراط الساعة إيرادُهَا من الشارع إنما هو لأمرين: 1 - لأجل الإيمان بها. 2 - ثُمَّ لتكون دِلَالَةْ من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فوجود الأحاديث أو ذِكْرِ الشيء من أشراط الساعة لا يقتضي مدحاً ولا ذمَّاً ولا نستفيد منه حكماً شرعياً. مثلاً حديث: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» (1) ، وكما في حديث عمر المشهور في قصة جبريل، قال: أخبرني عن السَّاعة، قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن أشراطها، قال: «أنْ تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» (2) . منهم من طَبَّقْ (أنْ تلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) على عصرٍ من العصور أو على وضعٍ من الأوضاع. ومنهم من طَبَّقَ (الحفاة العراة العالة رعاء الشاء) على وقتٍ من الأوقات. ومثل ما جاء من نُطْقْ الحديد، مثل (وأَنْ تُحَدِّثَ المرأة عَذَبَةُ سوطه) (3) . ومثل الحديث الذي في السنن: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» ، هل هذا يقتضي ذمّ هذا الفعل أو لا يقتضي ذمَّاً ولا مدحَاً؟ يعني هل يُحكم عليه بالكراهة لأجل هذا الحديث؟ المعتمد عند أهل العلم أنَّ مثل هذه الأحاديث لم تَرِدْ للأحكام الشرعية وإنما وردت للإخْبَارِ بها لتكون دليلاً على نبوته صلى الله عليه وسلم ولابتلاء الناس بالإيمان بخبره صلى الله عليه وسلم حتى يظهر المُسَلِّمْ له صلى الله عليه وسلم من غير المُسَلِّمْ. لهذا احذر من التطبيق، وخاصَّةً في ما يشتبه. قد مَرَّتْ أَزَمَاتْ ومَرَّتْ فِتَنْ ومَرَّتْ أشياء، من الناس من طَبَّقْ فأخطأ في ذلك، وهو ربما بَنَى على تطبيقه أشياء من التصرفات أو الآراء أو الأحوال فأخطأ في ذلك خطأً بليغاً، وظَهَرَ بيان خطئه. لهذا ما المقصود من إيراد أهل السنة والجماعة الإيمان بأشراط الساعة؟ وذكر أشراط الساعة وتقسيمات ذلك؟ ليس المقصود منه التطبيق، وإنما المقصود منه ما ذكرت لك من الأمرين العظيمين: 1 - الأمر الأول: دلالة من دلالات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كي يدخل ذكر أشراط الساعة في دلائل النبوة. 2 - الأمر الثاني: أنْ يُبتلى الناس بالإيمان بها كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. نكتفي بهذا القدر، وعلى العموم مباحث أشراط الساعة كثيرة وأُلِّفَ فيها عدة مؤلفات يمكن أنْ ترجعوا إليها للمزيد، حتى الشارح ابن أبي العز ررحمه الله اقْتَضَبَ جداً في شرحه فاقتصر على إيراد الأحاديث الواردة في هذا الباب. من أفضلها كتاب "النهاية" للحافظ ابن كثير لأنه مُحَرر، ومن الكتب المعاصرة كتاب أشراط الساعة ليوسف الوابل، وكذلك كتاب: "إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" للشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، ونحو هذه الكتب.   (1) أبو داود (449) / النسائي (689) / ابن ماجه (739) (2) سبق ذكره (9) (3) الترمذي (2181) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 الأسئلة : س1/ هل إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السلام إيمانٌ ينفعهم أو إيمانُ إقرار لا ينفع؟ ج/ إذا نزل فكسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية فآمَنَ به أهل الكتاب واتَّبَعُوهُ، يعني اتَّبَعُوا ما أَمَرَ به من شريعة الإسلام فإنَّهُ ينفعهم؛ أما إذا آمنوا به يعني إيماناً بنزوله لا بما جاء به وإلى ما دعا إليه فهذا لا ينفع. المسألة ترجع إلى الأصول العامة. س/ [ ..... ] ؟ هل هذا في زمن عيسى أم في غيره؟ الحديث هذا صحيح كما هو معلوم، لكن هل هذا في زمن عيسى أم في غيره؟ أنا ما اتحدث وربما يكون قبل ذلك ثم تحدث فتنة وربما المقصود منه بعض البيوت لا كل بيوت الأرض. س3/ ما رأيكم في القول بأنَّ قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، على نحو قول تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ؟ ج/ إذا كان المراد بقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، الأشراط الكبرى فهو على نحو قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، يعني قَرُبَ المجيئ ودَنَا، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} يعني بقيام الساعة، {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} يعني قَرُبَ جداً، و {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، إذا كان المقصود بالأشراط الأشراط الكبرى يعني فُسِّرَتْ الأشراط بالأشراط الكبرى فيكون {جَاءَ} ، بمعنى قَرُبِ ودَنَا مجيؤها مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} هذا صحيح. لكن التخصيص بأنَّ الأشراط هنا هي الأشراط الكبرى دون الصغرى يحتاج إلى دليل، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل جاء ذكر أشراط الساعة وفسَّرَهَا بالأشراط الصغرى، قال (أخبرني عن الساعة) ، ثم قال له (أخبرني عن أشراطها) ، قال: «أنْ تلد الأمة ربتها» إلخ ... ، كما ذكرت لك آنفاً وهذه من الأشراط الصغرى. إذن حَمْلْ آية سورة محمد صلى الله عليه وسلم على الأشراط الكبرى دون الصغرى يحتاج إلى دليل، والأمران وشمول الآية للأمرين أولى. س4/ إنَّ المسيح الدجال لم يكن حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ألا يُعارِضْ هذا شك النبي صلى الله عليه وسلم في ابن صياد هل هو المسيح الدجال أم لا؟ وكذلك إقسام بعض الصحابة؟ ج/ المسألة معروفة من جهة البحث لكن في قصة ابن صائد أنَّهُ لما ذَهَبَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليراه، قال «ما ترى؟» . قال له: (إني أرى الدُّخْ) ولم يُكْمِلْ. فقال له صلى الله عليه وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» (1) . لأنه علم أنَّهُ كاهن، لهذا الأظهر فيه أنَّهُ كاهن صفته كانت مقاربة للصفة، لكن الدجال أمره يختلف، وابن صائد مات ودُفِنْ بإجماع الناس في ذلك الزمان. س5/ أين يوجد يأجوج ومأجوج؟ ج/ لا أعلم. س6/ ما علاقة ابن الصيّاد بالدجال، وهل رأى الصحابة ابن صائد؟ ج/ نعم ابن صيّاد أو ابن صائد كان موجوداً في المدينة، وظَهَرَ عليه بعض العلامات وخُشِيَ أنْ يكون الدجال، لكن من المعلوم أنَّ الدجال لا يخرج من المدينة، الدجال يخرج من مكان هو فيه محبوس وهذا الرجل مات ودُفن إلخ، فالقول أنَّ الدجال هو ابن صائد ليس [ ...... ] ، الصحابة شَكُّوا ثم تبَيَّنْ لهم هذا الأمر، ومن أقسم على أنَّ ابن صياد هو الدجال هذا بحسب ظنه أو أنَّ المقصود أنَّهُ دجالٌ من الدجاجلة. س7/ ما رأيكم في من قال أنَّ يأجوج ومأجوج هم شعوب الصين؟ ج/ هذا محتمل؛ لكن ما فيه ما يدل على الجزم به، لأنَّ بعض الصفات التي وردت منطبقة عليهم، في أشكالهم لأنهم قصيرو القامة جداً وبعض الصفات قد ما تنطبق من كل جهة، والتحديد ما الذي يفيد فيه؟ يعني كانوا شعوب الصين أو شعوب أخرى أو ناس يكثرون بقرب زمن خروج عيسى عليه السلام، يكثرون جداً، يتناسلون ثم يذهبون للناس، يعني ما الذي يختلف من ذلك؟ ويأجوج ومأجوج مثل ما ذكرنا لك سابقاً هم موجودون من زمن الأنبياء قبل {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:94] ، وأنهم يخرجون في زمن، فهم شَعْبان أو قبيلان أو قبيلتان كبيرتان موجودة، لكن ما المقصود بها؟ قد يكون الصين وقد يكون غير ذلك، أنا ما أعلم لأنَّ ما عندي ما يحدد ذلك بالدليل. س8/ ورد حديث فيه التردد بين خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، أيهما أول خروجاً فما الجواب عنه؟ ج/ يعني الحديث الذي في صحيح مسلم بأنها إذا خرجت إحداهما كانت الأخرى تليها، وهذا الحديث إذا كان فيه التَّرَدُّدْ، فإنَّ الأحاديث الأخرى دلت على أنَّ خروج الدابة تكون على الناس ضُحَى، طلوع الشمس، الطلوع ما يكون بعد الضحى، الطلوع يكون وقت الطلوع، يعني في أول إدبار الليل وإقبال الصباح، والصحيح أنَّ طلوع الشمس من مغربها أول ثُمَّ بعد ذلك خروج الدابة. وهذا يقتضيه أيضاً المعنى، لأنَّ طلوع الشمس من مغربها، هذا خلاص فاصلة الإيمان، يعني من لم يؤمن من قبل لا ينفعه إيمانه، ثمّ الدابة التي تَسِمْ الناس وتَكْلِمَهُمْ. س9/ ألا يكون مفرد أشراط هو شَرَطْ؟ أما شَرْطْ فجمعه شروط؟   (1) البخاري (1354) / مسلم (7529) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 ج/ هذا صحيح لكن هو يصح شَرْطٌ وشَرَطْ، وهذا كثير، أعني شَرْطْ وشَرَطْ في المفرد يتبادلان، يعني من حيث القياس ومن حيث النقل، مثل نَهْرْ ونَهَرْ، وسَمْعْ وسَمَعْ، وفي القرآن في القراءات في كثير تناويع بين فَعْل وفَعَلْ في المفرد الذي جمعه أفعال، والنهر: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهْراً} [الكهف:33] ، وفي القراءة الأخرى: { [وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} ، اللي هو قراءتنا، وجمع نَهْرْ، أنهار وأنْهُر. فالمسألة صحيح شَرْطٌ وشَرَطْ، ولا يعني استعمال الشَرْطْ فيما ذُكر أنَّه. المقصود أنها صحيح شَرْطٌ وشَرَطْ كلها. س10/ كيف تكون أطوار حياة الدجال الأولى؟ ج/ الله أعلم، الله يعيذنا من فتنتة. هم حذروا من الفتنة، خوفوا الناس من الفتنة، من فتنة المسيح الدجال. وبالمناسبة لم أذَكُرْ: في المسيح الدجال والمسيح عيسى ابن مريم، اشتركا في اسم المسيح والمعنى مختلف. المسيح الدجال: فعيل بمعنى مفعول، يعني لأنَّهُ ممسوح العين اليسرى وعينه الأخرى كأنها عنبةٌ طافية، يعني بالية، فمسيح بمعنى ممسوح، يعني إحدى العينين غير موجودة، أعور. وأما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام: فهو مسيح بمعنى ماسح فاعل لأنَّهُ كان إذا مَسَحَ على مريضٍ أو من يشتكي أبرأه الله - عز وجل - كما جاء في القرآن في سورة آل عمران والمائدة: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة:110] . في بعض الكتب يقولون المسيخ، أو لا؟ هذه أنا ما أعرف إيش أصلها، المسيخ يعني بمعنى ممسوخ! هل هو ممسوخ هو؟ هل جاء في الأحاديث ممسوخ أو مسيخ؟ أنا ما أعلم فيها، ولكن الأحاديث كلها اللي في السنن اللي في الصحيح، اللي في السنن كلها المسيح بالحاح لا بالخاء. س11/ حبذا لو أبَنْتَ لي معنى قول بعض العلماء إنَّ القدرة لا تتعلق بالمستحيل، بل لا تتعلق القدرة إلا بالممكن بخلاف العلم، وهل هذا القول صحيح؟ ج/ يحتاج تَأَمُّلْ، ما أستحضر يعني، لكن كأنها من كلمات الأشاعرة، القدرة لا تتعلق بالمستحيل بل تتعلق القدرة بالممكن، قدرة الله - عز وجل - تتعلق بكل شيء كما هو نص القرآن: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] ، ونحو ذلك، فالقُدْرَةْ متعلقة بكل شيء. وكل شيء هذه تشمل ما أَذِنَ الله - عز وجل - بوقوعه وما لم يأذن بوقوعه. أما تَعَلُّقْهَا بالممكن، من قال تَتَعَلَّقْ بالممكن، فالممكن وقوعاً أو الممكن إذناً؟ فهذا الكلام فيه صلة بكلام الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ممن يُعَلِّقُونَ القدرة بما يشاؤه الله - عز وجل - وما يأذن به. والقرآن فيه الرد على هذا القول من جهتين: - الأولى: في عموم كل شيء في الآيات التي ذكرت لك. - الثانية: في آية سورة الأنعام، في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام:65] ، قال - عز وجل -: {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} ، هل حصل هذا العذاب من فوق؟ قال صلى الله عليه وسلم لما قرأها «أعوذ بوجهك» ، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال «أعوذ بوجهك» ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال «هذه أهون» (1) . وهذه وقعت كما في الحديث الثاني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين ومَنَعَهُ واحدة. فهناك أشياء كما في نص الآية الله - عز وجل - قادرٌ عليها ولم يأذن بوقوعها، فهي من جهة الوقوع ما دام أنَّهُ لم يأذن الله - عز وجل - بها ولم تقع لكن تعلّقت بها قدرته، فإذاً دلت الآية على أنَّ قدرته - عز وجل - متعلقة بكل شيء بما يشاء أنْ يقع وبما لم يشأ أنْ يقع، وهذا هو قول أهل السنة خلافاً لقول الآخرين.   (1) سبق ذكره (65) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: الأسئلة: س1/ هل هذا [ ..... ] عمار يعني، يقول - صلى الله عليه وسلم - لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» (1) ، هل هذا معناه أنَّ فرقة معاوية فرقة باغية؟ ج/ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية» هذا حديثٌ صحيح، وأهل العلم يستدلون به على أنَّ الحق مع علي رضي الله عنه وأصحابه، وأنَّ معاوية رضي الله عنه ومن معه أنهم كانوا متأولون وبغوا على علي رضي الله عنه، وإنما فعلوا ذلك باجتهاد كما هو معلوم. ولهذا لما قيل لمعاوية هذا الحديث: (إنَّ عماراً تقتله الفئة الباغية) ، قال: (إنما قتله الذين أخرجوه) (2) ، يعني ما قتلناه، قتله الذين أخرجوه في أمرٍ ليس بحق، فتأوَّلَ حتى الحديث وجعل علياً رضي الله عنه ومن معه الذين بغوا على أولياء بني عثمان رضي الله عنه. والصواب في ذلك هو ما عليه مُعتَقَد أهل السنة والجماعة من الترضي عن الجميع، واعتقاد أنَّ الصواب والحق مع علي رضي الله عنه وأصحابه، وأنَّ معاوية رضي الله عنه بَغَى على عليٍ في ما ذهب إليه وأنه لم يكن أيضاً كل ما حصل باختيار معاوية رضي الله عنه، بل كان ثَمَّ من يفسد بين الفئتين وهم الخوارج قاتلهم الله. فالمقصود من ذلك أنَّ محبة الجميع فرض، ومعاوية رضي الله عنه كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز التَّنَقُّص منه، وولايته كانت من خير الولايات، يعني هو خير ملِكٍ مَلَكْ لأنه صحابي وأقام الجهاد واجتمعت عليه الأمة في وقته، وعلي رضي الله عنه من هذه الجهة لم تجتمع عليه الأمة، فلذلك حصل من الخير ومراغمة الأعداء وقتال أعداء الله وجهاد المشركين وسَعَةْ انتشار الإسلام في وقت معاوية ما لم يحصل في خلافة علي رضي الله عنه. فلهذا الله أعلم بمواقع حكمته وقدَرِهِ ولكن علي رضي الله عنه هو المصيب وهو الحق وهو الخليفة الراشد وهو رابع الخلفاء ورابع المبشرين بالجنة وهو أفضل وأعلى مقاماً من معاوية - رضي الله عنهم - جميعاً بلا شك، ولكن معاوية كان في ذلك متأولاً وكان في عهده من الخير ما يُحمد له. س2/ ما رأيكم بموسى الموسوي؟ قرأت له ردوداً على الإمامية وقيل إنَّهُ شيعي؟ ج/ هذا موسى الموسوي أحد الإمامية الرافضة، نَقَمَ ما على الخميني دعوته في ولاية الفقيه وفي بعض أمور السياسة فرحل إلى أمريكا وأنشأ له هناك داراً ومركزاً، وألَّفَ بعض الكتب باللغة الإنجليزية والبعض باللغة العربية، وبعض كتبه كـ: (الشيعة والتصحيح) و (التشيع والتشيع) ، و (يا شيعة العالم استيقضوا) ونحو هذه الكتب مفيدة في الرّد على الشيعة وبيان أنَّ منهم من يردُّ عليهم من كتبهم وأنهم متناقضون، وأنَّ الحقّ ليس معهم وأنَّ عندهم من التناقض وعندهم من مخالفة ما عليه أكابرهم المتقدمون ما يدل على فساد ما ذهبوا إليه، فكتبه مفيدة في ذلك. لكنه هو يذهب إلى شيء يجب أنْ تنتبه إليه، وهو أنَّ الشيعة حق وأنَّ التشيع حق وأنَّ الجعفرية حق، وأنه لا يجوز أنْ يُتَعَدَّى على التشيع من حيث هو، وأنَّ السنة والشيعة فرقتان من فرق الإسلام لا ينبغي أنْ يكون بينهما كبير فرق، ومع هذا فهو رَدْ على الشيعة في مواضع كثيرة. مَثَلَاً أذكر له في كتابه (الشيعة والتصحيح) ذَكَرَ عدة مسائل منها مسألة العصمة، مسألة ترك يوم الجمعة وزواج المتعة. وأيضاً ذَكَرَ وهي مسألة مهمة عقد لها باباً سماه (الشيعة ومراقد الأئمة) ، وذَكَرَ في هذا نقداً واضحاً وتضليلاً للذين يُقَدَّسُون الأئمة ويتجهون إلى مراقدهم بالحج يعني إلى قبورهم، وقال حتى في صدر هذا الباب إنْ صح حفظي يقول في أول أسطر منه (يحلو لبعض الفئات أنْ تجعل مُعَظَّمَهُم مُقَدَّسَاً ويجعلون عليه خِلَعَاً من صفات الإله كما فعل الناس من المسلمين بمُعَظَّمِيْهِمْ، فلدى السنة مُعَظَّمُونْ خلعوا عليهم من صفات الإله وجعلوا يذهبون إليهم بالذبائح والنذور والطلبات والاستغاثات، وللشيعة أيضاً مُقَدَّسُون ومُعَظَّمُون خلعوا عليهم من صفات الإله ولم يَنْجُ -هذه عبارته- ولم ينجُ من هذا التخريف إلا الطائفة الموسومة بالسلفية) (3) . فعلى العموم عنده ما عنده وكتبه تستفيد منها، يستفيد منها طالب العلم في بعض الأمور وخاصة في مسألة متى بدأ القول بالعصمة؟، ومتى بدأ انحراف الشيعة عن أقوال الأوائل؟ أرَّخَهَا في كتبه تَأْرِيْخَاً جيداً، وبَيَّنَ أَنَّ بداية الانحراف كانت في أوائل المائة الرابعة بدأ القول بالعصمة وبدأ الانحراف عن طريقة أئمتهم الأولين، فيُرَدُّ عليهم من كلام بعضهم (4) .   (1) سبق ذكره (798) (2) المسند (6499) / المستدرك (2663) / المعجم الكبير (758) (3) رفع الله لواءها (4) نهاية الشريط الثامن والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 : [[الشريط التاسع والأربعون]] : وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.   هذه الجملة منه في عقيدته يريد بها تقرير أصلٍ من أصول أهل السنة والجماعة؛ وهو أنهم لا يُصَدِّقُونَ من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي حالاً مخالفةً لما دل عليه القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما أجمعت عليه الأمة في صدرها الأول. وسبب إيرادها في العقيدة أنَّ زَمَنَهُ كَثُرَ فيه من ينتسب إلى الأولياء ويكون له أحوال شيطانية ويكون له هَدْيْ يخالف به ما يجب على الأولياء من طاعة الله ورسوله ومعاداة الشياطين، وربما كان منهم من يَدَّعِي بعض علم الغيب فيكون كاهناً، أو يُخبِرَ ببعض المُغَيَّبَاتِ فيكون عرَّافاً، أو يكون على حال لم يكن عليها السلف ولا ما أجمعت عليه الأمة فيكون مُدَّعِيَاً لشيءٍ يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهذا كما أَنَّهُ كان في الدجالين كذلك كان في السحرة والكهنة حقيقةً، وكذلك في بعض من ينتسب إلى الصلاح والطاعة ظاهراً وهو في الباطن من إخوان الشياطين ومُوَاليهم. وما ذكره ظاهر الدليل من كتاب الله - عز وجل - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونذكر تحت هذه الجملة مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 [المسألة الأولى] : الله - جل جلاله - هو المختص بعلم الغيب فلا يعْلَمُ أحدٌ الغيب، بل الله - عز وجل - هو الواحد الأحد وهو العالم بغيب السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن، قال - عز وجل - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59] ، وقال - عز وجل - في سورة النمل {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، وقال - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، الآية وكذلك في قوله - عز وجل - {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] ، فدَلَّتْ هذه الآيات أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله - عز وجل -، والمقصود به علم الغيب المُسْتَقْبَلْ؛ يعني ما سيكون في الأرض أو في السماء هذا لا يعلمه على اليقين والحقيقة إلا الله - عز وجل -، وإنما الناس يَخْرُصونَ في ذلك فواجبٌ اعتقاد أنَّ الله - عز وجل - يعلم الغيب وحده - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. ومن ادَّعَى شيئاً من علم الغيب فإنما هو من الشياطين أو من إخوان الشياطين كما قال - عز وجل - {وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] ، فذكر أَنَّ الجني يستمتع بالإنسي بعبادته له وتقرُّبِهِ له، وأنَّ الإنس يستمتع بالجني بما يخبره من المُغَيَّبَاتْ وما يكون. هذا دلَّتْ عليه أيضاً عدد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الكهانة وهي ادِّعَاء ما يُسْتَقْبَلْ من الأمور من الغيبيات، أو العِرَافَةْ -سيأتي تفسيرها- كانت من الأمور الشائعة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك من أمور الجاهلية. وقد روى مسلمٌ في الصحيح (أنَّ معاوية بن الحكم السُّلَمِي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إنَّ رجالاً يَتَكَهَّنُونَ فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) (1) ، وقد جاء أيضاً في الحديث (ليس منَّا من تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له) (2) ، وسيأتي باقي الأحاديث في الكهانة. وسبب ادِّعاءْ علم الغيب في الناس من قبيل الكُّهَانْ أو العَرَّافِين أو المُنَجِّمِين أو من شابههم هو أنَّ الشياطين تُمِدُّهُم بالمعلومات. والشياطين قد تُمِدُّهُم بمعلوماتٍ كاذبة، وقد تُمِدُّهُم بمعلومات فيها صدق، وقد يكذب الكاهن أو العراف أو المنجم مع ما أَتَاهُ من المعلومات مائة كذبة أو أكثر. وما يَصْدُقُونَ فيه من الإخبار بالمعلومات سببه أنَّ الله - عز وجل - إذا أوحى بالأمر في السماء وأَمَرَ ملائكته به مما يُنْفِذُهُ في خلقه -لأنَّ الملائكة مُنَفِّذُونَ لأوامر الله - عز وجل -- فإنَّ الشياطين أعطاهم الله - عز وجل - القدرة على الاستماع وعلى الصعود وأن يَعْلُوَ بعضهم بعضاً فيما أَقْدَرَهُمْ الله عليه. فربما استمعوا إلى بعض ما يوحيه الله - عز وجل - لملائكته وما يُلْقيه الملائكة بعضُهُمْ إلى بعض. ولأجل هذا مُلِئَتْ السماء بالشهب وحُرِسَتْ بالنجوم التي تقتل من يسترق السمع، كما قال - عز وجل - {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر:18] ، وقال - عز وجل - {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] وقال - عز وجل - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] في بعض التفاسير. فجعل الله - عز وجل - في السماء رُجُومَاً للشياطين وهي هذه الشهب. وإذا كان كذلك فإن مَلْءْ السماء بالشُهُبْ واستراق السمع له تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألةٍ لاحقة.   (1) مسلم (5949) (2) المعجم الكبير (355) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 [المسألة الثانية] : قال (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) العلماء اختلفوا في معنى الكاهن والعَرَّافْ وتفسير هذا وهذا على عدة أقوال. وظاهر صنيع المؤلف الطحاوي رحمه الله أنَّهُ يُفَرِّقُ بين العَرَّافْ وبين الكاهن. وسبب التفريق أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ الكاهن مفرداً والعَرَّافْ مُفْرَداً، وجاء فيها ذِكْرُ الكاهن والعرَّافْ مَجْمُوعَينِ مما يَدُلُّ على الفرق بينهما. لهذا إذا نظرت إلى أصل اللغة فإنَّ كلمة تَكَهَّنَ وكاهِنْ غير كلمة تَعَرَّفَ وعارِفَ وصيغة المبالغة عَرَّافْ. لأنَّ التَكَهُّنْ هو رَجْمُ الإنسان بالغيب فيما لا يعلم، يعني أنَّهُ يستقبل ما سيأتي بما لا علم له به. ويدخل في ذلك عموم الظن؛ لكن الظن ليس معه ادِّعاءْ لعلم الغيب، وأما التَّكَهُّنْ فصار فيه ظَنٌّ هو في الأصل يعني في اللغة وظَنٌ فيما سيحصل مُسْتَقْبَلَاً. لهذا يجوز لغَةً أنْ يقول القائل تَكَهَّنْتُ أَنُّهُ سيكونُ كذا وكذا على اعتبار يعني في المستقبل أنَّهُ يظن أنَّه سيكون كذا وكذا. ثم شاع هذا الاسم فيمن يَدَّعُونَ علم الغيب بواسطة الشياطين، فصار لَقَبَاً واسْمَاً على طائفةٍ مخصوصة وهم الذين يَتَوَلَّونَ هذه الصَّنْعَةْ ويُخْبِرُونَ الناس عمّا سيكونُ من أحوالهم فيما يستقبلون من الزّمان. فإذاً صار الكاهن كما عَرَّفَهُ بعض العلماء على هذا الاعتبار هو من يقضي ويُخْبِرُ بالمُغَيَّبات. وأما لفظ العَرَّافْ فهو في اللغة أَصْلُهُ من عَرَفَ أو تَعَرَّفَ يَتَعَرَّفُ فهو مُتَعَرَّفٌ أو عَرَّافْ. فهو الذي يُعَرِّفُ بأمورٍ غيبية يَعْرِفُهَا فَيُخْبِرُ بها. وهذا يشمل الأمور الغيبية في الزمان الماضي مما حدث أو مما سيكون؛ لأنَّ المعرفة والتَّعَرُّفْ تشمل الماضي والمستقبل. لكن خُصَّ في بعض الاستعمالات بأنَّهُ من يُخْبِرُ عن الأمور التي حصلت وانتهت مما خَفِيَ عن الناس كالإخبار عن مكان المسروق أو الضَّالَةْ أو عن شيءٍ أَضَاعَهُ الإنسان أو عن شيءٍ حصل وخَفِيَ عن الناس ونحو ذلك من المسائل. إذا نظرت إلى هذا الأصل اللغوي وارتباط ذلك بحال أهل الجاهلية، فالعلماء اختلفوا في ذلك على أقوال: 1 - القول الأول: أنَّ الكاهن: هو القاضي بالغيب، وهو الذي يُخْبِرُ عن أمورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ من الغيب مستعيناً في ذلك بالشياطين. والعراف: هو الذي يُخْبِرُ عما خَفِيَ مما حَدَثَ وغاب عن الناس بالاستعانة أيضاً بالشياطين. 2 - القول الثاني: أنَّ الكاهن يَعُمُّ الجميع، فالعراف أخص، والكاهن يدخل فيه من يُخْبِرُ باُمورٍ مُسْتَقْبَلَة أو ماضية غابت عن الناس، أو التنجيم أو نحو ذلك، فيجعلون: الكاهن: اسماً عاماً لكل من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب، فيدخل في صور كثير من الضرب بالرمل ومن الوَدَعْ ومن الخشب والاستقسام بالأزلام، خشبة (آبا جاد) والطرق بالحصى ونثر السُّبَح، والخط في الرمل ونحو ذلك مما هو شائعٌ عندهم، وأدْخَلَ فيها طائفة من المعاصرين -كما سيأتي بيانه- التنويم المغناطيسي وما يجري مجراه. والعراف أخص من هذا فيكون مخصوصاً باسْمٍ، والاسم العام الكاهن. هذا القول الثاني هو المشهور عند أهل العلم والأكثر عليه. 3 - القول الثالث: أنَّ العراف أشمل والكاهن أخص منه. لأنَّ الكاهن مخصوص بالعلم المسْتَقْبَلِي عل حسب قولهم. والعراف لكل من يدَّعي شيئاً من علم الغيب. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد. * والراجح من هذه الثلاثة أنَّ الكاهن اسم غير اسم العَرَّافْ. فالكهانة لها صفتها وأحكامها، والعَرَّاف له صفته وأحكامه على نحو ما ذكرنا في القول الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 [المسألة الثالثة] : دَلَّتْ الأدلة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ تصديق الكاهن أو العراف محرَمٌ بل كفر، وعلى أنَّ إتيان الكهنة والعرافين فيها إثمٌ كبير. فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة -ولم يسمها مسلم-؛ بل قال عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي حفصة أم المؤمنين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (1) . وجاء في سنن أبي داوود حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (2) . وفي مسند الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (3) . وإسناده صحيح. فَدَلَّت هذه الأحاديث على أنَّ: - إتيان الكاهن أو العراف منهي عنه. - وأنَّ سؤاله كبيرة من كبائر الذنوب إثمها عظيم يَتَرتَبْ عليها أن لا تقبل للمرء صلاة أربعين ليلة من عِظَمِ الإثم. - وأنه إن سَأَلَ فَصَدَّقْ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. إذا تبين ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافا فسأله عن شيء» هذا فيه عموم، (سأله عن شيء) يعني عن أي شيء سواءٌ أكَانَ فيما مضى عن ضالة أو عن شيءٍ مفقود أو عن شيءٍ في المستقبل فإنه لا تُقْبَلُ له صلاة أربعين ليلة. وسبب ذلك أنَّ العراف لا يستدل على ما غاب بأمورٍ ظاهرة أو بتجربة أو بأسبابٍ معلومة، وإنما يستعين بالجن، والاستعانة بالجن شرك لأنَّ الجن لا يُعينون الإنسان إلا إذا تَقَرَّبَ إليهم وأعطى بعض العبادة لهم ومَكَّنَهُم ليستمتعوا به، كما قال - عز وجل - {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ، يعني زاد الجنيُّ الإنسيَّ رهقاً وإثماً وبلاءً. «لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» اختلف العلماء هنا هل عدم القبول يعني الإجزاء ولكنه لا يثاب؟ أم أنها لا تقبل بمعنى أنها لا تُجْزِئُهُ لو صَلَّى ولكن يجب عليه أن يفعلها -يعني أن يقيمها-، وأنه لا يثاب عليها لأنها لم تُقْبَلْ منه؟ وهذا في نظائره في تفسيره (عدم القبول) هل عدم القبول يعني عدم الإجزاء أو عدم الثواب؟ والظاهر هنا أنَّ عدم القبول بمعنى عدم الثواب؛ لكنه إذا أَدَّاهَا سقط عنه الفرض، لإجماع الأمة أَنَّهُ لا يجب عليه أن يعيدها بعد اقتضاء الأربعين ليلة. وأما تصديق الكاهن أو العراف -يعني إذا سَأَلَ كاهناً فَصَدَّقَه- فما في الحديث ظاهر وهو أنه قال «فقد كفر بما أنزل على محمد» هذا في حال السائل المُصَدِّقْ فكيف بحال الكاهن نفسه؟؟ يعني تُوُعِّدَ السائل الذي يسأل ويُصَدِّق أَنَّهُ قد كفر فكيف بالكاهن أو بالعراف؟ لهذا هنا مسألتان: 1 - المسألة الأولى: في حكم الكاهن أو العراف؟ والصحيح أنهم إذا استعانوا بالشياطين في ذلك، يعني لم يكونوا دجَّالين وإنما فعلاً يُخْبِرُونَ عن اسْتِعَانَةٍ بالشياطين فإنَّ هذا كفر، ويجب استتابتهم إنْ تابوا وإلا قُتِلُوا عند كثير من أهل العلم، على تفصيلٍ مَرَّ معنا في حكم الزنديق وأمثاله. 2 - المسألة الثانية: في حال السائل؟ قال صلى الله عليه وسلم «فقد كفر بما أنزل على محمد» وهنا الكفر هل هو كفرٌ أكبر مخرج من الملة أم كفرٌ أصغر دون كفر؟ أم يُتَوَقَّفْ فيه فلا يُقَالُ كفرٌ أكبر ولا كفرٌ أصغر لعدم الدليل على ذلك؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم: @ من أهل العلم من المعاصرين وممن قبلهم من قال أنه كفرٌ أكبر لظاهر قوله «فقد كفر» ، ويُفْتِي به عدد من مشايخنا هنا. @ ومن أهل العلم من يقول هو كفرٌ دون كفر، وهذا أظهر من حيث الدليل لأمرين: & الأمر الأول: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أحمد قال «من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فَصَدَّقَهْ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» فرتَّبَ عدم قبول الصلاة على السؤال والتصديق معاً ولو كان السائل الذي صَدَّقَ كافراً فإنه لا تقبل صلاة حتى يتوب دون تحديدٍ لمدةٍ معلومة. & الأمر الثاني: أنَّ الناس يُصَدِّقُونَ العراف والكاهن لا على اعتبار أنهم يَدَّعُونَ علم الغيب وأنهم ينفُذُونَ على علم الغيب بأنفسهم؛ ولكن يقولون: هذا -يعني ربما قالوا- هذا ممن اخْتَرَقَتْهُ الشياطين. فيكون لهم شبهة في ما يُصَدِّقُونَ به، وهذه الشبهة تمنع من أن يعتقدوا فيهم أنهم يعلمون علم الغيب مطلقاً. وهذا يكثر في حال من يُصَدِّقْ من ينتسبون إلى الصلاح أو يظهر عليهم الوَلَايَةْ والصلاح ويُخْبِرُونَ بالمغيبات، والناس يصدقونهم على اعتبار أنهم يُحَدَّثُونَ بذلك، ولهم في ذلك -كما ذكرنا- شبهة وهذه تمنع من إخراجهم من الملة والكفر الأكبر.   (1) مسلم (5957) (2) أبو داود (3904) / الترمذي (135) / ابن ماجه (639) (3) المسند (23270) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 ولهذا صار الصحيح هو القول بأنَّ تصديق الكاهن يعني في الخبر المُغَيَّبْ بخصوصه، يعني (من أتى فسأل فصدق) بالخبر بعينه أنَّ هذا كفر دون كفر لا يُخْرِجُ من الملة؛ لكن يجب معه التعزير البليغ والردع حتى ينتهي عمَّا سَمَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم كفراً. @ القول الثالث وهو رواية عن الإمام أحمد أنَّه يُتَوَقَّف فيه، فلا يقال هو كفر أكبر ولا أصغر لأنَّ الحديث أطلق ثم لبقاء الردع في الناس والتخويف في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 [المسألة الرابعة] : الشبهة التي ذكرنا من اسْتِرَاقْ السمع هي التي جاءت فيها الآيات أنَّ الشهاب يُرْسَلُ على الشيطان أو على الشياطين الذين يسترقون السمع. واستراق السمع له ثلاثة أزمنة: 1- الزمن الأول: ما كان قبل البعثة، قبل أن يُوحَى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، يعني في حال أهل الجاهلية، وهذا كان استراق السمع كثيراً لحكمةٍ لله - عز وجل - في ذلك،، ولذلك كان ما يُخْبِرُ به الكُّهَان ويصدقهم الناس فيه كثيراً. 2- الزمن الثاني: بعد أن أُوحِيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ السماء مَلَأَهَا الله - عز وجل - حرساً شديداً وشُهُبَاً، كما قال - عز وجل - في سورة الجن مخبرا عن قول الجن في صدر السورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى أنْ قال {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] فَدَلَّ على أَنَّهَا مُلِئَتْ، ولم يَعْهَدُوا ذلك من قبل؛ يعني أنَّ الله - عز وجل - جَعَلَهَا محروسةً لأجل وقت تَنَزُّلِ وحيه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حكمةً منه، وإلا فالله سبحانه قادر على أن لا يأذن بشيء من استراق السمع لكن لله - عز وجل - الحكمة والابتلاء لعباده. فمُنِعُوا من الاستماع، ومُنِعُوا من استراق السمع وبَقِيَ ما ينفذ القليل جداً بالنسبة إلى ما سبق. 3- الزمن الثالث: هو ما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ظاهر الأدلة يدلُّ على أَنَّها لم تَخْلُ بعد ذلك من الشهب ومن حراستها في ذلك لئلا يَدَّعِّيَ أحدٌ النبوة وتكثر الشبهة معه فيما يخبِرُ بالمغيبات ممن يدَّعِي النبوة. وإذا كان الأمر كذلك في هذه الأحوال الثلاثة فإنَّ ادِّعاء علم الغيب كفر: - إما لتَهَجُّمِهِ على ما يختص الله - عز وجل - به. - أو لأَنَّهُ لا يدَّعِي علم الغيب إلا من يستعين بالجن ويتقرب إليهم. وأما الذي يُصَدِّقُ من يَدَّعِي علم الغيب في بعض الأحوال مثل ما ذكرنا هذه لها تفاصيل ذلك. والواجب أن يُعْتَقَدَ أَنَّ الغيب كما قدَّمْتُ لك في أول المسائل مختصٌ بالله - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} هذا يعمّ لأنَّ أحداً نكرة في سياق النفي، فتعم كل أحد، ثم استثنى الله - عز وجل - فقال {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-28] فاستثنى الله - عز وجل - الرسول الملكي والرسول البشري فيما يُطْلِعُهُم عليه من علم الغيب لدليل صدقهم أو لحكمةٍ لله - عز وجل - في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 [المسألة الخامسة] : الكِهَانَة والعِرَافَة متنوعة الصور. ففي الزمن الأول كان لها صور متعددة مثل: الضرب بالحصى، ومثل الخط، هذه لو كانت توجد لَوْحَة لَبَيَّنْتُ لكم كيف يضربون بالحصى وكيف يَخُطُّونْ ويَصِلُون إلى النتيجة بزعمهم ويَتَّضِحْ لك أَنَّهُ دَجَلْ؛ لأنَّهُ لا دليل منطقي ولا سبب كوني ولا شرعي يَدُلُّ على النتيجة التي يَدَّعُونَها. لكن يُدَجِّلْ على الناس بأن يجعل شيئاً لا يفهمه الناس يَدَّعِي الكاهن أو العَرَّاف أو الضارب بالحصى والرمل إلى آخره يَدَّعِي أنها تَدُلُّهُ على المعلومة، وهو في الحقيقة لا يستدل عليها بالخط ولا يستدل عليها بالخشبة التي يكتب عليها، ولا يستدل عليها بالحصى وإنما هي من الشياطين. وهذه الأشياء، الصور المختلفة منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث في أنحاء شتى لكن كُلُّهَا يُظْهِرُونَ أَنَّهَا سبب وليست بسبب. وبخصوص الخط فإنهم يَدَّعُون دَجَلاً وكَذِبَاً أَنَّ هذا من عِلْمِ الله لبعض أنبيائه. وهذا قد يَذْكُرُ عليه بعضهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الخط كما رواه مسلم في الصحيح قال «كان نَبِيٌّ يَخُطْ فمن وافق خطه فذاك» (1) يعني أَنَّ أصل الخط آية لنبيٍ من الأنبياء، عَلَّمَهُ الله - عز وجل - نبياً من الأنبياء ليكون دِلالَةً على ما يُعَلِّمُهُ الله - عز وجل -، وبقي في الناس لكن لا يوافقون آية النبي؛ لأنَّ آية النبي لا يستطيع أحد أن يفعلها؛ لأنها آية مُخْتَصَّة به، ولو كانت آية نبي تكون لكل أحد لما خُصَّ النبي بالآية. لهذا كان قال «كان نبي يخط» ثم قال «فمن وافق خطه فذاك» . قوله «فمن وافق خطه فذاك» هذا من الإحالة على مستحيل؛ يعني أنَّ أَحَدَاً من هؤلاء الذين يَخُطُّونْ والكهنة والعرافين ومن نحا نحوهم لا يمكن لأحدٍ أن يقول هكذا خَطَّ ذاك النبي أو أَنَّ هذه آية من جنس آية ذاك النبي [ ... ] الكهنة والذين يَخُطُّونْ ويَدَّعُون علم الغيب من أنَّ الخط كان عند الأنبياء فَيُرَدُّ عليهم بهاتين الجهتين: - الأول: أنَّهُ آية وآية النبي لا يمكن لأحدٍ أن يدركها. - الثاني: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أحَالَ على مستحيلٍ قال «فمن وافق خطه فذاك» ، وهذا لا يمكن لأحد أنْ يُدْرِكَهْ. لهذا الخط في الرمل والضرب بالحصى والخشب وأنواع ذلك هذه من الصور القديمة وهي موجودة الآن في بعض البلاد، وهي كلها من وسائل الكُهَّان ومن نَحَا نحوهم. ومن الصور الحديثة التي اختلف فيها العلماء، هل تدخل من الكهانة أم لا تدخل؟، وهل هي من استخدم الجن وعلم الغيب أم لا تدخُل؟ ما يُسَمَّى بالتنويم المغناطيسي. وهذا له صفته وثَمَّ كتب كثيرة مُؤَلَّفَةْ في ذلك من مختصين في هذا في أوربا وفي مصر وفي لبنان وفيه معاهد تُعَلِّمْ هذا الذي يَدَّعُونَ أَنَّهُ فَنٌ أو علم من العلوم. وقد أفتت اللّجنة الدائمة عندنا في فتوىً مشهورة مُطَوَّلَة بأنَّ التنويم المغناطيسي ضَرْبٌ من ضروب الكهانة واستخدام الجن ليتسلَّطَ -بحسب ما عَبَّرُوا- الجني على الإنسي فيَحْمِلُهُ ويَرْتَفِعْ عن الأرض ويُخْبِرْ بأمورٍ مُغَيَّبَة ويتسلط على نفسه وعلى روحه فيكون له عليها سلطان. وثَمَّ صور كثيرة، واليوم في عدد من البلاد -والعياذ بالله- ثَمَّ معاهد لتعليم عددٍ من هذه الأمور المنكرة، والواجب على المسلمين جميعاً أن يُنْكِرُوا هذا أشد الإنكار، لأنه: - أولاً: تَهَجُّمٌ على ما يختص الله - عز وجل - به. - ثانياً: لأنَّهُ لا يكون إلا بالإشراك بالله - عز وجل - إذا صَدَقَ استخدامهم للجن. - ثالثاً: إنه فتحٌ لباب الدَّجَلْ وباب الكذب على الناس وأخذ أموال الناس بالباطل. وما يأخُذُهُ المُتَكَهِّنْ من المال فهو حرامٌ عليه وخبيث كما جاء في الحديث الصحيح «حُلْوانُ الكاهن خبيث» (2) يعني أنه كَسْبٌ مُحَرَّمٌ خبيث. (وقد جاء غلام عند أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأعطاه طعاماً فأكله أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال الغلام: أتدري من أين هذا؟ قال: لا. قال: كنت تَكَهَّنْتُ -يقول غلام أبي بكر لبي بكر رضي الله عنه- يقول: كنت تَكَهَّنْتُ لرجلٍ في الجاهلية فأعطاني هذا الحلوان، فجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُدْخِلُ أصبعه في فيه حتى قَاءَ كل ما في بطنه) (3) فهذا من حيث الكسب حرام، ومن حيث السؤال حرام، وذلك لعِظَمِ هذا الذنب، فإنه لا يجوز إقْرَارُهْ ويجب على من يقدر على إنكاره أن يُنْكِرْ، وعلى أهل الحسبة ومن يلي هذا الأمر بخصوصه أن لا يتساهلوا في ذلك، وكذلك على الدعاة إلى الله - عز وجل - وأهل العلم أن يُبَيِّنُوا ذلك لأنه من مسائل التوحيد. نكتفي بهذا القدر، وثَمَّ مسائل أخرى متعلقة بالجملة الأخرى هي قوله (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ.) نرجئها إن شاء الله تعالى إلى الدرس القادم.   (1) مسلم (1227) (2) ذكره شاح الطحاوية ولم أجده (3) البخاري (3842) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 الأسئلة : س1/ قال بعض أهل العلم إنه لا يُسْتَعَانُ بالجن لا مسلمهم ولا كافرهم، وذكر أَنَّ الجن يُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ مسلمون فهذا لا يُصَدَّقْ؛ لأنه من علم الغيب فنؤمن أنه من الجن من هو مسلم وكافر، إلى آخره؟ ج/ الاستعانة بالجن حرام سواءٌ كانت استعانة بالجني الكافر الشيطان أم بالجني المسلم، وذلك لعدة أدلة: 1 - الدليل الأول: أنَّ استمتاع الجني بالإنسي والإنسي بالجني محرمٌ في نصوص الكتاب والسنة وأنه لا يُسْتَثْنَى من ذلك، لم يرد الدليل بالاستثناء ولا بالتخصيص، فبقاء الأمر على عمومه بما يشمل الجميع هذا هو الأصل وهو المتَعَيِّن. 2 - الدليل الثاني: أنَّ الجن لهم قُدَرْ كما هو معلوم وأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم مسلمون كثير أسلموا، قال - عز وجل - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى أن قالوا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] ، وكذلك قوله {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] ، وكذلك في آخر سورة الأحقاف {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] . فالجن في زمن النبوة كان منهم من صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم وأسْلَمَ على يديه، وعندهم من القُدَرْ ما ليس عند غيرهم، وقد مضى زمن النبوة بأزمان ولم يَسْتَعِنْ النبي صلى الله عليه وسلم بالجن، ولم يَسْتَعِنْ الصحابة بهم وقد واجهتهم أشياء. فهذا الدليل وهذا الإجماع أعظم وأبْلَغْ مما يُسْتَدَلْ به على أَنَّ هذا الأمر من البِدَعْ لأنَّهُ لم يكن في زمن السلف. هذه المسألة أظهر وأبلغ لأنهم لم يستخدموا ذلك ولم يستعينوا بهم لا بمسلمهم ولا بكافرهم. وهذا له سبب، وهو أنَّ الجني إذا زَعَمَ أَنَّهُ مسلم فإنَّ إثبات إسلامه وإثبات صلاحه متوقِفٌ على أمر باطن لا يَطَّلِعْ عليه الإنسان، فأنت بالظاهر تحكم على الرجل إذا قابلك والجن منهم رجال ومنهم نساء {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} [الجن:6] ، تَحْكُمْ عليه بالظاهر من هيئته وشكله على أنه مسلم ونحو ذلك، والجن لا تعلم صدقهم ولا تعلم حقيقة ما ادَّعَوا فبقي الأمر على الأمْرْ المُغَيَّبْ. ولهذا قال أهل العلم إنَّ رواية الجن للأحاديث ضعيفة، فلو أَتَى جني وروى بالإسناد وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وهذا يقول أنا مسلم والثاني يقول أنا مسلم في الإسناد فعند أهل الاصطلاح بَحَثُوا رواية الجن وقالوا: إنها ضعيفة لأنَّ الجن مجاهيل، حتى ولو قال أنا مسلم فلا يُصَدَّقْ في خَبَرِهِ. 3 - الدليل الثالث: أنَّ فتح باب الاستعانة هذا هو فتحٌ لباب الشرك بالله - عز وجل -، فيجب سَدُّهُ، وهو أولى من سَدِّ بعض أنواع ذرائع الشرك. فالشريعة حَرَّمَتْ البناء على القبور لئلا يكون وسيلة لتعظيم أصحابها، وجاء تحريم بعض وسائل الشرك لئلا يكون وسيلة، بعض وسائل البيوع المحرمة لئلا يكون وسيلةً إلى الربا وهكذا، والاستعانة بالجن الذين يُجْهَلُونَ ولا يُعْلَمْ حقيقة الحال، الاستعانة بهم لاشك أنَّهُ ذريعة لأن يأمر الجني الإنسي إذا فُتِحَ الباب أن يأمره بالتَّقَرُّبْ أو ببعض الأشياء. وقد بَلَغَنِي بيقين عن بعض من يتعاطى القراءة وهو من الجَهَلَة، ليس من أهل العلم ولا من طلبة العلم ممن فَتَحَ هذا الباب فسَيْطَرَ عليه الجن وهو لا يعلم في هذا، وأصبح يأمرونه بأشياء وينهونه عن أشياء، وربما أَذَلُّوهُ في بعض الأمور، فَسَدُّ الذريعة في هذا واجبٌ ولا يجوز التساهل به. وق استدل بعض من قال بجوازه ببعض التعبير، بعض العبارات عن شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر كتاب النبوات وفي الفتاوى معلومة كلام ابن تيمية في الموضوع؛ لكن شيخ الإسلام لا يريد بما قال إباحة الاستعانة، وإنما بَحَثَ في حال المسلم مع الجني، فقال في أوله (وأولياء الله لا يُعَامِلُونَ الجن إلا بأمرهم الشرع ونهيهم عن ضده، كما كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) . ثُمَّ ذكر الحال الثالثة: أنه قد يعرض الجني للإنسي في أَمْرٍ يُعِيْنُهُ فيه هذا لا بأس به. فيُحْمَلْ كلامه على أنه في حالة -لأن بعض السلف فعلها- في حالة أنَّهُ يَعْرِضْ له. مثلاً يأتيه ويقول أنا أيقظك لصلاة الفجر، أو يضيع من الطريق مثل ما حصل للإمام أحمد، قد يكون من الملائكة وقد يكون من الجن الله أعلم؛ لكن يقول الطريق من هاهنا فيتبعه. هذا ليس استعانة ليس طلباً للعون، وإنما هو إرشاد، وهذا الإرشاد مُتَوَقِّفْ على صدق المُرْشِدْ وعلى كذبه. يعني ليس هو استعانة طلب للعون. هو يقول له مثلاً: هو كذا أو الطريق من هنا أو هذا الشيء في الفلاني من دون أن يطلب. وهذا خبر قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 واختبار الخبر لا ما نع منه، يختبر هل هو صادقٌ فيذلك أم لا. المقصود هذه المسألة لا تتساهلوا فيها، لا في هذا الوقت ولا فيما بعده؛ لأني أخشى أن ينفتح علينا ذرائع الشرك ووسائل البدع من جَرَّاءِ القراء الجهلة الذين فتحوا باب الاستعانة بالجن في هذا الباب. ولأجل طول الجواب نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. س2/ ما ذكروه عن عمر رضي الله عنه أنه كان يَسِمُ إبل الصدقة، ثم الصحابة سَأَلُوا عنه فقالوا إنَّ امرأة معها قرين، فأخبرته، فأخبرهم الجني أَنَّ عمر كان يسم إبل الصدقة، ذكره بعض العلماء الأثر؟ [الشيخ] : لا أدري ما المقصود. [السائل] : يعني هنا الصحابة استعانوا بهذا القرين في البحث عن عمر رضي الله عنه فأخبرهم أنه كان يسم إبل الصدقة، وهذا ذكره الشيخ ابن عثيمين في القول المفيد، فما رأيك هل هو طلب أو خبر؟ الشيخ: لا أعرف، هذا يحتاج إلى إثبات أولاً ثُمَّ هذا قد يُحْمَلْ على أنَّهُ خبر لكن ما نُعَارِضْ. فيه شُبَهْ أكثر من هذا من الأفعال، لكن ما نعارض الأصول الشرعية. لماذا لم يُسْتَخْدَم في عهد النبوة؟ فيه مسائل في التوحيد لو نأخذ بعض المسائل هي أيضاً تؤثر على كثير. لا نأخذ شيئاً لا يُعْرَفْ، يجب في المشتبهات هذه أن تُحْمَلْ على المُحْكَمْ، المُحْكَمْ هو الأصل ونرد له المشتبهات. كون حادثة حدثت لا تدري عن تأويلها لأنَّ حكايات الأفعال لها عدة توجيهات وعدة أحوال، ما تدري هذه تُوَجِّهُهَا بكذا ولا تُوَجِّهُهَا كذا. ومن قال أنها تُوَجَّهْ إلى الاستعانة فقط هذا يحتاج إلى استدلال. هل هم طلبوا العون؟ أو أُخْبِرُوا؟ وش الحال في الحقيقة؟ فما نحكم على فعل الصحابة بمناقَضَةْ حال النبي صلى الله عليه وسلم. هذا في ما لو كان يعني فعلهم حجة في هذا، ومعلوم أنَّ أقوال الصحابة فيها نظر في الاحتجاج، فكيف بأفعالهم إذا خالفهم (1) ...   (1) نهاية الشريط التاسع والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 : [[الشريط الخمسون]] : وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا، وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ. وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً، والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً.   مرّت معنا عدة مسائل تتعلق بالجملة الأولى وهي قوله (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) . وفي قوله (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ) مسائل أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 [المسألة الأولى] : أنَّ مخالفة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، هذه مذمومة وضلال وقد تصل بصاحبها إلى الكفر في باب الاعتقاد أو في باب العمليات أو في أبواب السلوك. والواقع يدلُّ على أنَّ طائفةً ممن ادَّعوا الصلاح والسُّلوك والزُّهد والعبادة، ادَّعوا أشياء تحصل لهم، إمَّا بالإلهام أو بخبر الغيب أو بأحوال لم يدلَّ عليها الكتاب والسنة وأجمعت الأمة على خلافها. وهذا كثير فيمن يَدَّعُون التَّصَوُف ممن كانوا في زمن الطحاوي وما قبله. والطحاوي رحمه الله قرن -فيما ترى- ما بين تصديق الكُهَّانِ والعَرَّافِين وما بين ادِّعَاءِ أشياء تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ لأنَّ الناس قد يظهرُ لهم في موضوع الغيب عدم تصديق الكاهن والعرَّاف لأنَّ الكاهن والعرَّاف حالهما معروف والناس يحذرون من أهل الكهانة لا سيما في الأوقات القريبة من السنة أو التي تظهر فيها ألوية السنة، فيكرهون الكِهَانَةْ والعِرَافَةْ ويكرهون الكاهن والعَرَّاف لأنهم من أولياء وإخوان الشياطين. لكن مسألة الصالحين والأولياء ومن يُظْهِرْ الصلاح فإنَّ هذه قد تشتبه كما هو الواقع في كثيرٍ من أحوال المسلمين الماضية والحاضرة، لهذا قرن بينهما؛ لأنَّ مسألة الكاهن والعَرَّافْ ظاهرة؛ لكن أيضاً لا نُصَدِّقُ من يَدَّعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع ممن ظاهره الصلاح ويدَّعي أحوالاً أو العلم بأمور الغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 [المسألة الثانية] : الذين نُسِبوا إلى الوَلَاية -بفتح الواو- وعُدُّوا من الأولياء وأهل الزَّهَادَةْ فئات مختلفة متنوعة: - منهم الغلاة الذين زعموا أنهم يُوحَى إليهم. - ومنهم من هم دونهم ممن يزعمون أنهم يُلهَمون ويُخبَرونَ بالغيب. - ومنهم -وهم دونهم- من يزعمون أنهم على قُدْرَةٍ في تغيير الأحوال والعلم بالضمائر وأنهم يُحَدَّثُونَ بما أحدثه الناس بعدهم؛ يعني فيما مضى والذين قبلهم فيما سيأتي. ولا شك أنَّ طريقة السلف في الزهد والعبادة هي التي أجمعت عليها الأمة، وهي أَنَّهُم يَتَعَبَّدُونَ ويَتَزَهَّدُون، ويرجون الله - عز وجل - ولا يَدَّعُونَ شيئاً من أحوال الكُهَّانْ والعَرَّافين ولا إخبار بالغيب ولا الأحوال الشيطانية المختلفة التي تُسَمَّى الكرامات عند بعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 [المسألة الثالثة] : الواجب على كل مسلم أن يعتقد أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله - عز وجل -، وأنه قد يُعْطِي بعض علم الغيب لرسولٍ. والرسول هو الذي جاء في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:26-28] ، فالذي اِسْتُثْنِي هو الرسول. والرسول نوعان: - رسول ملكي، نِسْبَةْ إلى الملائكة. - ورسول بشري. وهؤلاء يُسْتَثْنَونَ فيما أراد الله - عز وجل - أن يُعْلِمَهُم إياه من أمور الغيب، لحكمته - عز وجل - ولكمال علمه وقدرته. أما من ليس برسول فلا يُكْشَفُ له الغيب، لكن قد يكون لبعضهم كرامة، ليست من باب كشف الغيب المستقبلي، ولكن هي من باب الكشف العلمي الذي سبق أن ذَكَرنَاهُ لكم في نحو قصة عمر رضي الله عنه مع سارية حيث قال له (يا سارية الجبل الجبل) يعني الزم الجبل. فصار بالنسبة إلى عمر كشف علمي، ليس علماً للغيب المستقبلي، كشف علمي أو بصري، فرأى الجبل ورأى سارية. وبالنسبة إلى سارية أيضاً سَمِعَ كلام عمر فصار بالنسبة له كشف سمعي، وهذا من جهة الكرامة، وقد أوضحنا لك ذلك في قوله (وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ) فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 [المسألة الرابعة] : ذكر لك الشارح هنا -ابن أبي العز رحمه الله- أحوالاً متنوعة فيمن ادَّعَى أشياء مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة ترجع إليه فيها. وننبه زيادة على ذلك من أنَّ طائفة - أظنه ذكرها في هذا الموضع- أسْمَتْ نفسها بـ: (الطائفة المَلَامَكِيَّةْ) أو (الملامِيَّةْ) وهذه الطائفة من الصوفية نشأت في أواخر القرن الثامن الهجري تَزَعَّمَهَا طائفة من الزُّهَادْ والعُبَّادْ الذين أرادوا تصفية النفوس وتحقيق الإخلاص، فصاروا يُظْهِرُونَ حالاً خلاف ما هم عليه، يُظهرون المعصية، يُظْهِرونَ خلاف الطاعة، يُظْهِرونَ التفريق في الواجبات، لأجل أن يذمهم الناس وهم في الحقيقة في داخلهم ليسوا على هذا الأمر ويكرهونه وهم من أهل العبادة والزهد. فأرادوا الإخلاص عن هذا الطريق، وهذه لا شك حال تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنَّ العبد المُكَلَّفْ يجب عليه أن يستقيم على الطاعة وأن يُحَقِّقَ الإخلاص كما أمره الله - عز وجل - في حاله ظاهراً وباطناً. فإذن هذه الجملة (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ) تدلُّ على عدم تصديق كل من ادَّعَى الوَلَاية وهو يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي شيئاً من المقامات العلية أو من الوحي أو من الإلهام مما يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 قال رحمه الله بعد ذلك (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً)   يريد العلامة الطحاوي رحمه الله وأجزل له المثوبة بهذه الجملة من هذه العقيدة النافعة بأنَّ: - أهل السنة والجماعة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح يَرَونَ الجماعة حقاً أَحَقَّهُ الله - عز وجل - وأَحَقَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم ثابت وخلافه باطل. - وأنهم يرون الجماعة صواباً في الالتزام بها وفي التمسك بها وفي الحال والمآل وفي الدنيا والآخرة. - وأنَّ خلاف الجماعة والتمسك بها أنه باطل وغلط وضلال. وقابلها بقوله (والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً) يعني يرى أهل السنة والجماعة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح يرون الفرقة بأنواعها زيغاً عن الصراط، وزيغاً وبُعْدَاً عما أمر الله - عز وجل - به من الاعتصام بحبله والإتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويرونها أيضاً عذاباً يعني عُقَوبَةً تُعَاقَبُ بها الأمة -كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وسبب إيراد هذه الجملة في العقائد أمران: 1 - الأمر الأول: أنَّ أعظم ما حصل به الزيغ والدَّمْ في الأمة وإضعاف الأمة والبدع والمحدثات والشرك وجميع الموبقات بأنواعها إنما حصل من جَرَّاءِ ترك الجماعة والأخذ بالفُرْقَةْ أو استحسان الفُرْقَةْ. 2 - الأمرالثاني: أنَّ الفِرَقْ الضالة رأت الفُرْقَةْ خيراً وطلبتها ورَأَتْ الجماعة ضعفاً فنبذتها. ومخالفتهم وترك سبيلهم هو سِمَةُ الفِرْقَةِ الناجية الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي الجماعة» (1) . إذا تبيَّنَ ذلك فهاهنا مسائل:   (1) سبق ذكره (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 [المسألة الأولى] : في قوله (نَرَى) ، كلمة (نَرَى) في هذا الموطن يُرادَ بها الاعتقاد، يعني ونعتقدُ، وليست مذكورةً لأجل أنَّ المسألة اجتهادية، كما يعبر الفقهاء (أرى كذا، وأرى أنَّ الأظهر كذا) فيما سبيله الاجتهاد. فكلمة (نَرَى) في كتب أهل السنة، في كتب العقائد إذا جاءت بصيغة الجمع فإنه يُرَادُ بها ما قَرَّرَهُ أئمة أهل السنة والجماعة في عقائدهم دون خلافٍ بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 [المسألة الثانية] : الجماعة جاء ذِكْرُهَا في حديث الافتراق وفي أحاديث أُخَرْ كقوله صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة والفُرْقَةْ عذاب» ، وكقوله «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان» (1) وكذلك قوله في حديث الافتراق «إنَّ اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنَّ النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلُّها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «هي الجماعة» ، وفي رواية قال: «هي ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (2) . فكلمة (الجَمَاعَةَ) جاءت في عدد من الأحاديث نَصَّاً، وجاءت في القرآن مَعْنَىً في قوله تعالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] ، وفي قوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني جميعاً دون تفريق، و {السِّلْمِ} في الآية يعني الإسلام. {ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} يعني ادخلوا في الإسلام كافة. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] ، بأن تُفَرِّقُوا بين أمرٍ وأمرٍ من أمور الإسلام، فيجب الدخول فيه كافة، وألَّا يقول المسلم إذا أسلم (أنا أدخل في بعض الإسلام ولا أدخل في بعض، أو ألتزم ببعضٍ ولا ألتزم ببعض أو أُقِرُّ ببعضٍ ولا أُقِرُّ ببعض) ، ونحو ذلك. و (الجَمَاعَةَ) في هذا الموطن اختلف السلف في تفسيرها على عدة أقوال -يعني الآية والحديث وفي غيرهما أيضاً من كلام السلف-. والذي يجمع كلام السلف كما أوضحته لكم في غير موضع: أَنَّ الجماعة نوعان: - جماعَةٌ في الدين. - وجماعَةُ في الأبدان والدنيا. وأنَّ النصوص تشمل هذا وهذا، وأَنَّ من فَسَّرَ من السلف (الجَمَاعَةَ) بجماعة الدين فإنه -يعني من الصحابة والتابعين - تَفْسيرٌ للشيء ببعض أفراده، كما هو عادة السلف، ومن فَسَّرَهَا بأنها جماعة الأبدان والاجتماع على الإمام وولي الأمر فإنَّهُ يعني بها فرداً أو بعض أفراد الجماعة. فالجماعة نوعان: 1 - أولاً: جماعةٌ في الدين: وهي الأساس الأعظم لما أنزل الله - عز وجل - به كتبه وأرسل به رسله، فإنَّ الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل أن يجتمع الناس في دينهم، وهو توحيد الله - عز وجل -، عبادته وحده دون ما سواه والبراءة من الشرك وأهله، وطاعة رسوله الذي أرسله على الرسل صلوات الله وسلامه. وهذا هو الذي جاء في نحو قوله - جل جلاله - في سورة الشورى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] يعني واجتمعوا عليه، وهو المذكور في قوله {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] . وهذا الاجتماع في الدين هو أَعْظَمُ أَمْرٍ لأجله بُعِثَتْ الرسل وأُنْزِلَتْ الكتب، وهو الذي من أجله يجاهد المجاهد ويدعو الدَّاعِي، وهو الذي من أجله آتى الله - عز وجل - الرسل الآيات والبينات، أن يجتمعوا لأجل تحقيق الدين، لأجل ألا يفترق الناس في الالتزام بما يُرْضِي الله - عز وجل - فيما يستحقه في العبادة والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فيدخل هنا في الاجتماع: الاجتماع في ملازمة الإسلام، والالتزام به، وألا نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، وأن يُدْخَلَ في الإسلام كافَّةْ دون تفريقٍ ما بين مسألة ومسألة -يعني من حيث الاعتقاد والإقرار والإذعان والالتزام-. 2 - ثانياً: جماعة الأبدان: يعني اجتماع الأبدان والدنيا بملازمة طاعة من وَلَّاهُ الله - عز وجل - الأمر، والسمع والطاعة في غير معصية الله - عز وجل -. وهذا النوع وسيلة لتحقيق الأوَّلْ، فالأمْرُ به والنهي عن الخروج عن الولاة والأمْرْ بالاجتماع فيما أَحَبَّ الإنسان وكَرِهْ، كما جاء في الحديث «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره» (3) ، هذا به يتحقق الاجتماع في الدين. والتفريط في الأول أو في بعضه يُعَاقِبُ الله - عز وجل - به بالفرقة في الثاني أو بعضه -كما سيأتي بالبحث في الفُرْقَة-، وكذلك التفريط في الثاني وهو: السمع والطاعة لولاة الأمور في غير المعصية والاجتماع وعدم الخروج، التفريط في الثاني يُنْتِجُ التفريط في الأول أو في بعضه. ولهذا ما مِنْ فُرْقَةٍ في الأبدان حصلت في الأمة إلا وكان معها وبعدها من الافتراق في العقائد ونفوذ البدع والمُحْدَثَات ما لا يدخل في حُسْبَان. فالأمران مترابطان، والجماعة مطلوبَةٌ في هذا وهذا ومأمورٌ بها، وجماعة الدِّين واجتماع الناس في دينهم حقٌ وصواب، وإحداث المحدَثَات باطل وغلط وضلال، وكذلك الاجتماع في الأبدان والدنيا حقٌ وصواب وخلافه بالفُرْقَةْ والخروج باطلٌ وزيغٌ وضلال.   (1) سبق ذكره مع ما قبله (487) (2) سبق ذكره (344) (3) سبق ذكره (481) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 [المسألة الثالثة] : جماعة الدين حصل فيها الافتراق أو حصل فيها الخلل ووقعت الفُرْقَة قبل الافتراق في الأبدان أو قبل اختلال جماعة الأبدان، وذلك حين نشأت الخوارج في عهد عثمان رضي الله عنه، وحدث منهم ما حدث حتى آل الأمر إلى قتل عثمان ثم بعد ذلك وقعت الفُرْقَة واخْتَلَّتْ الجماعة. وهذا يؤخذ منه أنَّ من دعا إلى الدين والاجتماع عليه وتحقيق التوحيد ونبذ البدع ووسائل الشّرك والبدع وإحلال الحلال وتحريم الحرام والأمر بما أوجب الله - عز وجل - والنهي عن ضد ذلك أنَّ هذا في الحقيقة يدعو إلى الاجتماع في الأبدان، لأنّه إذا اجتمع الناس في دينهم آل الأمر إلى اجتماعهم في أبدانهم، والمسائل مرتَبِطٌ بعضها ببعض. لهذا كان من اللَّوازِمْ على كل من يطلب معرفة منهج السلف والأئمة وأهل الحديث أن ينظر إلى التلازم العظيم ما بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية أو الاجتماع الأول والاجتماع الثاني. والتوازن فيما بينهما هو سبيل أهل العلم، فإنَّ الناس في هذين الأمرين على ثلاثة أنحاء: @ الفئة الأولى: منهم من قَدَّمَ تحقيق المطالب الدينية ورَعَاهُ حتى ولو حصل خلل في الاجتماع في الأبدان- يعني بحسب اعتقادهم -. وهذا هو طريقة من ضل في هذا الباب وغلا من الخوارج والمعتزلة، ومن رَأَى رأياً يشابه ما قاله الخوارج والمعتزلة ونحوهما. @ الفئة الثانية: من تساهلت فرَأَتْ المحافظة على الجماعة في الأبدان والدنيا سبيلاً لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة الواجبة وإعلان الحق بضوابطه الشرعية في أمر الجماعة، فَتَرَكُوا إنكار المنكر من الشرك والبدع تَسَاهُلَاً وضَعْفَاً. @ الفئة الثالثة: هم الراسخون في العلم ومن تَوَلَّاهُ الله - عز وجل - بتوفيقه، فإنهم أخذوا بهذا وهذا، فدعوا إلى الاجتماع في الدين وتحقيق ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبنشر العلم النافع والدعوة إلى ذلك وبالنصيحة بطرقها الشرعية، ولم يروا ذلك مُخَالِفَاً لما أوجب الله - عز وجل - من الاجتماع في الأبدان والدنيا، فوازنوا بين هذا وهذا وأَجْرَوا الحكمة في هذا وهذا. ولا شك أَنَّ أحوال الناس تختلف في مثل هذه المقامات ما بين مقام الأمن ومقام الخوف ومقام الفتنة ومقام الاستقرار. والراسخون في العلم ومن تبعهم يضعون لكل شيءٍ موضعه، فلا يتركون الأمر والنهي والدعوة والنصيحة لأجل تَوَهُّم أَنَّ هذا يُفَرِّقْ، ولا يأمرون مع مَظِنَّةِ وجود الفرقة. ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أَنَّ الآمر والناهي إذا ظَنَّ أنه ستحدث مفسدة لأمره ونهيه أكبر مما أَمَرَ به ونَهَى، فإنه لا يُنْكِرْ، وقال: يأثم إذا أنكر) . لأنَّ الشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها. وهذا بخلاف التَّوَهُّمْ، لأنَّ التَّوَهُّمْ غير الظن الراجح، غير ما يعلمه أهل العلم مما ستُحْدِثُهُ الأمور. التَّوَهُّمْ هذا راجع للخوف، فمن الناس من يخاف أن يقول لفلان: اتق الله في كذا وكذا أو صلّ الصلاة، يَتَوَهَّمْ أَنَّ كل شيءٍ سيؤثر على النفوس وأنَّ كل شيء سَيغَيِّرْ، الخ. وهذه حيلة وطريقة مَنْ تَرَكَ ما أوجب الله - عز وجل -، وهي طريقة بني إسرائيل التي ذم الله - عز وجل - الناس عليها. لهذا يجب في هذه المسائل أن يؤخذ بطريقة أئمة الإسلام الراسخين في العلم ممن رَعَوا هذا وهذا، وأَنَّ الاجتماع في الدين هو الأصل الذي يجب أن يُدْعَى إليه، وأنَّ الاجتماع في الأبدان والدنيا أنَّ هذا أصل عظيم يجب المحافظة عليه، والموازنة بين هذا وهذا إنما يدركه أهل العلم الراسخون. وما ضلت الخوارج - يعني في أصلها- إلا لأجل أنهم رأوا أنَّ تحقيق ما يَظُنُّونْ من الشريعة يحصل بقتل عثمان وبجمع الناس على ما يرون، ثم حصل من المعتزلة ما حصل، الخ، فحَصَلَ الفساد والشرّ بسبب التفريط في الموازنة والوسط في هاتين المسألتين العظيمتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 [المسألة الرابعة] : في قوله (وَنَرَى الجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَاباً) معنى (حَقَّاً) يعني أَنَّهُ واجبٌ وثابتٌ. والحق إمَّا أن يَنُصَّ الله - عز وجل - على أنَّهُ الحق أو يُعْلَمْ بما نَصَّ الله - عز وجل - عليه. و (الجَمَاعَةَ) علمنا ذلك بدلالة ما نَصَّ الله - عز وجل - عليه. (وَصَوَاباً) يعني أَنَّ من سلك غير طريقها فهو على غير السبيل، وأَنَّ من أراد الصراط المستقيم فهذا هو الصواب وهو ملازمة الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 و قوله (والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً) : فيها أيضاً مسائل:   [المسألة الأولى] : (الفُرْقَةَ) تقابل (الجَمَاعَةَ) ، وكما أنَّ (الجَمَاعَةَ) تكون في شيئين فـ (الفُرْقَةَ) أيضاً تكون في الأمرين نفسهما: - الأول: الفُرْقَةَ في الدين. - والثاني: الفُرْقَةَ في الأبدان. وعلى هذا تفاسير السلف لآي القرآن في نصوص الافتراق وما بَيَّنُوا من دِلَالَةِ بعض الأحاديث. فقوله - عز وجل - {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} دَلَّتْ على الاعتصام بالقرآن جميعاً يعني بأَجْمَعِه وهو الجماعة في الدين. وقوله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} دَلَّتْ على النهي عن فُرْقَةِ الأبدان، لهذا قال بعدها {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] . فَذَكَرَ الاجتماع في الأبدان ونهى عن الفُرْقَةَ في الأبدان. وقوله - عز وجل - في الآية الأخرى مثلاً التي ذكرناها لكم {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] يعني في الدين؛ يعني الفُرْقَةَ في دين الله - عز وجل -، فما ذُكِرَ هناك من الاجتماع على الدين والاجتماع في الأبدان يُذْكَرُ هنا بضده، لأن (الفُرْقَةَ) تُقَابِلُ وتُضَادْ (الجَمَاعَةَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 [المسألة الثانية] : الفُرْقَةَ في الدين التي حصلت في الأمة على مراتب: 1- النوع الأول: هوأعظمها، وهومخالفة أصل الدين بحدوث البدع المختلفة الشركية الكفرية، كإنكار صفات الله - عز وجل - وكعبادة غير الله وإقامة المشاهد والحج إليها وتقريب القرابين لها ودعاء الأموات أو التقَرُّبْ للكواكب أو نحو ذلك، كما حصل من الفرق الباطنية أو فرق الرافضة ومن شابههم. 2 - النوع الثاني: الافتراق البدعي غير الكفري الذي حصل من الخوارج والمرجئة والقدرية ومن نحا نحوهم. وهذان النوعان مذمومان مُتَّفَقٌ على ذمِّهِمَا. 3 - النوع الثالث: الافتراق في المسائل العملية، في مسائل الفقه في أحكام الطهارة والآنية أحكام الصلاة الصيام، الخ، البيوع الجنايات، ما حصل من الاختلاف في هذه المسائل. والاختلاف والفرقة التي حصلت في المسائل العملية: & أولاً: هي مذمومة من حيث الأصل، وإنْ كان الذي قال قولاً باجتهاده معذور ويُؤْجَرْ؛ لكن في الجملة الافتراقُ مذموم لقوله - عز وجل - {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] . & ثانياً: أنَّ الفُرْقَةَ في المسائل الفقهية، والاختلاف الذي وقع بين الصحابة وبين الأئمة المجتهدين اختلافٌ لأصحابه فيه إما أجران وإما أجر واحد، فإذا اجتهد وتَحَرَّى الحق وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وتَحَرَّى الحق فأخطأ فله أجرٌ واحد على اجتهاده وتحريه الحق. وأما من قال قولاً ليس فيه بِمُتَحَرٍ للحق، وإنما هو نتيجة عن هوى ونتيجة عن شهوة، فهذا يأثم ولا يُؤْجَرْ، فإنَّ الذي يُؤْجَرْ هو المجتهد الذي يبحث عن الحق، يجتهد يتَحَرَّى الحق، كما هو صنيع السلف، أما إذا كان ميدانه الهوى والشهوة فإنَّ هذا مذمومٌ على كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 [المسألة الثالثة] : نُفَصِّلْ الكلام في مسألة الخلاف الفقهي أكثر، وهو أنَّ الاختلاف - اختلاف العلماء في المسائل- هو اختلافٌ في مسائل من الدين في الفقهيات. والعلماء إذا اختلفوا في الفقهيات فالواجب أن يُرْعَى معه ألاَّ يكون افتراقٌ في الأبدان ولا افتراقٌ في القلوب؛ لأنَّ هذا الخلاف الذي يُوجَدْ ابتلاء من الله - عز وجل - ابْتَلَى به الناس أن يختلف العلماء؛ وهذا يقول بقول وهذا يقول بقول، ويكون لهم فيه سَعَة في بعض البلاد ونحو ذلك، لكن هو ابتلاء يُبْتَلَى به الناس. فالواجب على أنَّهُ إذا وقع هذا الاختلاف في الأقوال الفقهية أن ينظر إليه الناس أنَّ المختلفين إذا اجتهدوا وتَحَرَّوا الحق وخاصةً من الأئمة الذين شُهِدَ لهم بتحري الحق وطلبه أنَّهم ما بين أجرٍ وأجرين، وأنَّ من وَثِقَ بإمام فاتَّبَعَهُ على ذلك ولم يَسْتَبِنْ له الحق، أنَّهُ معذور في اتِّبَاعِه له، وأَنَّ الله - عز وجل - إذا أراد بالعباد عقوبة فإنه يجعل هذا الخلاف سبباً للتفريط في الجماعة الثانية وهي جماعة الأبدان. إذا وقعت الفرقة -الاختلاف في الفقهيات- فإذا آل الأمر إلى اختلاف القلوب واختلاف الأبدان والفُرْقَةَ فيها فيكون هذا من العقوبة ومن الزَّيْغْ الذي حصل. ولهذا قال هنا (والفُرْقَةَ زَيْغاً) عما يجب (وَعَذَاباً) يعاقب الله - عز وجل - به الناس. ودليل ذلك قوله - عز وجل - لما ذَكَرَ أهل الكتاب قال {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} [المائدة:13] . {نَسُواْ حَظًّا} يعني تركوا نصيباً {مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني مما جاءهم في كتاب الله. ما النتيجة؟ قال {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة:14] ، ومما أَمَرَ الله - عز وجل - به وذَكَّرَنَا به أن نحرص على الاجتماع، الاجتماع في النفوس والاجتماع أيضاً في الأبدان. فإذا صار اختلاف أهل العلم سبباً لوقوع الفرقة ولوقوع التلاعن والتباغض والسبِّ والشتم وطعن كل فئة في أتْبَاعِ العالم الذي اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّ هذا لاشك أنَّهُ بغيٌ وظلم يُعَاقَبْ عليه الإنسان، وهذا مما نهى الله - عز وجل - عنه. وهذا هو الذي حصل، وهو الذي يحصل عند من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، فإنَّهُ قَلَّ أن يحصل اختلاف إلا ويَبْغِي بعض الناس على بعض، إما بِتَجْهِيلٍ أو بسبٍّ أو بوقوعٍ فيه أو نحو ذلك من الأقوال. والواجب أن يُنْصَرْ الحق وأن يُعْذَرْ من خالف في الفقهيات ويُعْلَمْ أنّه إذا اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّهُ له أجر لكن لا يُتابع على ذلك. ولا شك أَنَّ زلة العَالِمْ زلة العَالَمْ، ولكن هذا قضاء الله - عز وجل - وحكمته، فكم من مسائل ثَمَّ من الأئمة المشهورين من خالفوا فيها السنة وخالفوا فيها الدليل باجتهادهم فهم معذورون، ومن اتَّبَعَهُم بلا معرفةٍ للحق وإنما ثِقَةً بذلك الإمام معذور. ولكن الواجب (1) هو تحرِّي الحق بإتِباعِ ما دَلَّ عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو وافق القواعد والأصول العامة للشريعة التي يعلمها أهل العلم. وهذا في الحقيقة هو أعظم ما حصل في كل زمان إلى زماننا الحاضر؛ بل وإلى يومنا هذا، فَقَلَّ من يعذُرُ في المسائل المُخْتَلَفْ فيها في الفقهيات؛ يعني التي فيها بحث، فينْظُرُ هذا فيه يجتهد في كذا وهذا يجتهد في كذا، حتى رمى بعضهم بعضاً بالضلال ورمى بعضهم بعضاً بمخالفة ما أمر الله - عز وجل - به؛ بل حُكِمَ على بعضهم بالبدع والمحدثات لأجل بعض المسائل الفقهية التي اختلف فيها الناس. وهذا مما ينبغي أن يُعْلَمَ كعقيدة أَنَّهُ إذا كانت الفُرْقَةَ في الفقهيات والعمليات والاختلاف في ذلك إذا كانت سبباً للفُرقة في الأبدان فقد بَغَى العباد بعضهم على بعض، ووقعت الفتنة، ووقع البلاء فيهم. والواجب أن لا يقع فيهم البغضاء والشّحناء لأجل ذلك، كيف إذا زاد الأمر؟! إذا حصل القتال؟! وحصل التكفير؟! ونحو ذلك كما حصل من بعضٍ في بعضِ الأزمان حيث كَفَّرَ بعض الشافعية بعض الحنفية في مسائل، وكَفَّرَ بعضهم بعض الحنابلة في مسائل ونحو ذلك مما وقع فيه طائفة في أعلى درجات الظلم والبغي والعدوان من الناس بعضهم على بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا لا يزال يوجد إلى يومنا هذا، فكلما زاد العلم زادت البصيرة بأمور: - الأول: أن يحرص طالب العلم على تَحَرِّي الحق. - والثاني: ألا يجعل تَحَرِّيهِ للحق سبباًً لفُرْقَةْ العباد ولا سبباً في وقوع الشحناء والبغضاء بينهم؛ بل يتودد في ذلك كثيراً ولا يجادل في ذلك مجادلة الذي يريد الانتصار والقوة؛ بل يتكلم في ذلك بسكينة وهدوء. وما أجمل قول الإمام مالك رحمه الله في نحو هذا لما قيل له (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟)   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط الخمسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 قال (لا) يعني يرى من يخالف السنة ويذهب إلى قولٍ آخر، تعرفون المدينة كان فيها مدرسة الرأي ربيعة الرأي ومن معه، مدرسة قريبة من مدرسة الكوفة في الأخذ بالرأي وعدم العلم بتفاصيل السنة، فقيل له: (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟) قال (لا، يُخْبِرُ بالسنة، فإن قُبِلَتْ منه وإلا سكت) (1) . لماذا؟ لأنَّ الشيطان يأتي فيجعل الإنسان ينتصر لنفسه لا للسنة، وهذا مَسْلَكٌ شائك في النفوس، ويُنَافي الإخلاص وينافي ما يجب، فيبحث فإذا هو يريد ينتصر للحق ثم تنقلب المسألة في النقاش أو في المجادلة أو في الإخبار بالصواب إلى انتصارٍ للنفس دون انتصارٍ للحق وهذا مما ينبغي تداركه. ومما يدخل أيضاً في مثل هذا أنَّ اختلاف الفقهاء في المسائل العملية اختلافٌ كبيرٌ جداً، حتى إنَّ المسائل المُجْمَعْ عليها قليلة، وليس كل قولٍ من الأقوال المختلفة يصحُّ أن يكونَ في الخلاف المعتبر، كما قال أحد مشايخ السيوطي في قصيدةٍ في بعض علوم القرآن: وليس كل خلافٍ جاء مُعْتَبَرَاً ****** إلا خلافٌ له حظٌ من النظر وإذا وقع الخلاف فإنَّ الخلاف على نوعين: - خلافٌ قوي. - وخلافٌ ضعيف. @ والخلاف القوي ضابطه: ما كان الخلاف فيه في فهم الدَّليل ولا مُرَجِّحْ. @ والخلاف الضعيف: ما كان الخلاف فيه بمخالفة الدليل أو بالغَلَطِ في فهم الدليل. والخلاف القوي لا إنكار فيه، فإذا كانت المسألة فيها خلافٌ قوي فلا عَتْبَ من الأصل لمن أَخَذَ بأحد القولين، أخذ بهذا وأخذ بهذا، هذا يرى كذا وهذا يرى كذا، المسألة فيها سَعَة. وأما الخلاف الضعيف فإنَّهُ فيه الإنكار. وقول العلماء (لا إنكار في مسائل الخلاف) يعنون به الخلاف القوي على الصواب دون الخلاف الضعيف، لأنَّ الخلاف الضعيف خلافٌ بلا دليل أو غَلَطٌ في فهم الدليل. ويشتبه هذا -يعني الخلاف- يشتبه بمسألةٍ مهمة وهي مسائل الاجتهاد. * والصواب: التفريق ما بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد. فمسائل الخلاف التي مرجعها الخلاف في فهم الأدلة، وهذه هي التي فيها التفصيل الذي ذكرت لك: في أنَّ الخلاف القوي لا إشكال فيه، وأَما الخلاف الضعيف يلزم فيه البيان والإيضاح بدون أن يُحْدِثَ الفُرْقَةَ وتنافر القلوب. أما المسألة الثانية وهي مسائل الاجتهاد: فهي الاجتهاد في النوازل. إذا نَزَلَتْ نازلة واجتهد العلماء فيها، هل هذه تُلْحَقْ بكذا وهذه تُلْحَقْ بكذا فإنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وشيخ الإسلام ابن تيمية قال في بعض كلامه (لا إنكار في مسائل الخلاف يُعْنَى بها مسائل الاجتهاد) ، -أو نحو كلامه أنا أصوغه بفهمي-؛ لأنَّ مسائل الاجتهاد ليست هي مسائل الخلاف. ولا إنكار في مسائل الخلاف يعنون بها لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وهذا يحتاج إلى زيادة وهي أنَّهُ: لا إنكار في مسائل الخلاف، يعنون بها الخلاف القوي. أما مسائل الاجتهاد التي تحدث في الناس فهذه لا إنكار فيها من باب أولى؛ لأنَّ كل مجتهد له اجتهاده ونصيبه في إِلحاقِ النازلة ببعض الأصول والقواعد التي تدل عليها. * نختم هذا الموضع بوصية في هذا الموطن: بأَنَّ طالب العلم يَتَّسِعْ صدره للعلم، وهذا إذا حباك الله - عز وجل - اتساع الصدر في العلم فإنَّكَ تُؤْتَى عِلْمَاً جديداً، وهذا هو الواقع والمُشَاهَدْ، أما من يضيق بالأقوال أو من يضيق باختلاف العلماء ولا يبحث في مَأْخَذِ هذا ومأخذ هذا، وإذا أورَدَ عليه أحد قولاً نَظَرْ في كلامه وتَأَمَّلْ فإنه يُحْرَمْ بعض العلم. لهذا كلما اتسع صدر طالب العلم كلما أُوتِيَ الصواب في العلم، وأُوتِيَ الصواب أيضاً في العمل، في عدم التعدي على المسلمين والتعدي على العلماء أو على طلبة العلم أو نحو ذلك، والله - عز وجل - يقول لعباده: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] ، والفُرْقَة والخلاف يحصل فيه التعدي في كثيرٍ من الأحيان، ولا يقول: العبد التي هي أحسن، والله - عز وجل - أمر بأن تقول التي هي أحسن. وأنا ألحظ وربما منكم كثير لَحَظُوا أنَّ أحداً منا قد يقول قولاً يكون غير واضح، فيأتي أحد ويعترض عليه فهو يتألم ويتَحَرَّجْ لنفسه أنه أخطأ أو أنه ما أدرك الصواب، فيأتي الشيطان فيصرِفُهُ من تقرير المسألة إلى وجود مَخْرَجٍ لنفسه. وهذه من وسائل الحرمان، وإذا قوَّى الله طالب العلم على أن يكون قَوِيَّاً على نفسه في أنه إذا ما اتضحت له صورة المسألة: لا يتكلم فيها، ينتظر، يسكت. يُعَلِّمْ نفسه التؤدة، يُعَلِّمْ نفسه عدم الاستعجال في الكلام، عدم إلقاء الكلام على عواهنه، الدقة في الألفاظ، كيف يُعَبِّرْ عن المسائل. وإذا غلط يقول: غلطت -ما أسهل منها عند من يرى تحقيق الحق- فعلاً. يقول: أنا ما فهمت، أنا ظهر لي كذا، يبدو أنه انحرف ذهني إلى شيء آخر. يقول: أنا ما فهمت، أنا غلطت، ما أسهل منها. وهل من شرط طالب العلم ألا يخطئ؟! ليس من شرطه. إنما من قَلَّتْ غلطاته سواءً في قوله وفي عمله فهو السديد، وهو الذي يُثْنَى عليه. أما أَنَّهُ يأتي أحد لا يخطئ لا يغلَط فيما يتكلم لا يغْلَطْ في تعامله، هذا لا يمكن. النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق قال «اللهم أيما عبدٍ سببته أو شتمته فاجعلها عليه رحمة» (2) . يعني من مقتضى الطبيعة أنْ يغلط الإنسان، فالإنسان لا يتحمل. لكنه من يَتَصَبَّر يُصَبِّرُهُ الله، ومن يَتَحَلَّم يعطيه الله - عز وجل - الحلم. لهذا عَوِّدْ نفسك على الحلم عَوِّدْ نفسك على الصبر، عَوِّدْ على ألا تنتصر لنفسك في المسائل العلمية. حتى لو جاء المُقَابِل وطعن في علمك، طعن في طريقة الإيراد، لا تتأثر بهذا واجعل الكلام على العلم لأنك مُبَلِّغ للعلم ولستَ منتصراً لنفسك، والمنتصر لنفسه يَحْرِمْ نفسَه انتصار الله - عز وجل - له. أسأل الله - عز وجل - أن يمنحني وإياكم العلم والحلم والفقه في الدين، وأن يمنّ علينا بسلوك طريق السلف الصالحين، إنه سبحانه جوادٌ كريم، وهو ذو الفضل والإحسان والمنن والعطايا، اللهم فلا تحرمنا فضلك بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك على كل شيءٍ قدير.   (1) سبق ذكره (334) (2) مسلم (6781) / أبو داود (4659) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 الأسئلة : س1/ جاء حديثٌ يدل على أنَّ الاختلاف في الأمة رحمة؟ ج/ هذا الحديث ليس بصحيح، وليس اختلاف الأمة رحمة، بل الاختلاف في الأمة أوقعها في بلابل كثيرة. س2/ من اجتهد في إباحة نسبةٍ من الربا، كـ (5 %) ونحوه، فهل يُؤجر على هذا وهل يُشَنَّعْ عليه؟ ج/ هذا الربا نوعان: ربا مُتَّفَقٌ عليه ومُجْمَعْ عليه، فهذا الذي يخالف فيه الإجماع هو صاحب ضلالٍ وهوى، وهو ربا الجاهلية، الذي فيه القرض الحسن، فيقرضه ثُمَّ بعد ذلك يقول: إما أن تَقْضِيَ وإما أن تُرْبِيَ، ويجعلون الربا أضعافاً مضاعفة. وهذا هو الذي جاء فيه عدد من الآيات والأحاديث. أما الربا غير المتفق على تحريمه: فإنَّ هذا يدخل في باب الخلاف القوي والخلاف الضعيف على نحو ما فَصًّلْنَا. مثلاً خلاف ابن عباس في ربا الفضل وربا النسيئة كما معلوم، وأنه لا ربا في الفضل وإنما الربا ربا النسيئة استدلالاً بالحصر في قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة» (1) ، فهذا اجتهادْ وخلاف، لكنه خلافٌ ضعيف، حتى خلاف الصحابة خلافٌ ضعيف -يعني خلاف ابن عباس في هذه المسألة-. كذلك إباحته للمتعة مثلاً في بعض المواطن أيضاً خلافٌ ضعيف، وما أشبه ذلك. من الصور المعاصرة التي جرى فيها البحث: الفوائد الربوية، ومن أباحَهَا من بعض المنتسبين إلى العلم، فهذه الفوائد الربوية منها ما هو مُتَّفَقْ على تحريمه وهو ربا الجاهلية، ومنها ما هو مُخْتَلَفٌ في تحريمه. وما اخْتُلِفْ في تحريمه يدخل في الخلاف الضعيف أو في الاجتهاد في ما ليس بصواب، فيدخل في التفصيل الذي ذكرناه. وحسب علمي فإنَّ أول من أباح الفوائد الربوية يعني فوائد البنوك الربوية والقرض - القرض الصناعي ونحوه- الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المعروف. وهو رَجُلٌ يميل إلى مذهب السلف ونصر التوحيد والعقيدة في مواطن كثيرة، وله إلمام بالحديث والسنة والتخريج، لكنه غَلِطْ في المسائل الفقهية، فلم يكن من صناعته الفتوى، فأباح أشياء تبعه عليها عدد. وله رسالة في هذا الموضوع بخصوصه وهو (الربا والمعاملات المالية) أجاز فيها هذه الفوائد لِشُبَهٍ عنده في ذلك ثم تبعه عليها عدد من المشايخ في مصر ما بين مُقَصِّرٍ وما بين [ ..... ] في هذه المسائل. ومعلومٌ أنَّ الحلاف -كما ذكرت لك في هذا - خلاف شاذ وضعيف وليس له حظ من الدليل. لكنه وجود الخلاف في هذه المسألة يفيد فائدتين: الأولى: أَنَّ مسألة الفوائد والقرض الصناعي ونحو ذلك ليس من مسائل الربا المُجْمَعْ عليها، فاعتقاد إباحتها والإفتاء بذلك أو إجازتها لا يدخل في إجازة واستحلال الربا؛ لأنَّ استحلال الربا المُجْمَعْ عليه كفر، والربا المجمع عليه هو ربا الجاهلية، أما ربا الفوائد وربا القرض وما أشبه ذلك فهذه محرمة ولا تجوز ويجب إنكارها لكن لا تدخل في الربا المتفق عليه. س3/ أليس يُنكر على من خالف في الفروع الفقهية مع ظهور الدليل؟ ج/ هذا يدخل في التفصيل الذي ذكرته: الخلاف القوي والخلاف الضعيف، أو أَقَلُّ من الضعيف الخلاف الشاذ أو المنكر، يجب فيه الإنكار لأنه ما له س4/ هل الفوائد الربوية من الخلاف الضعيف؟ كيف؟ أو أقل من الضعيف أيضاً، الخلاف الشاذ المنكر، يجب فيه الإنكار، يعني استدلوا بقوله - عز وجل - {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة:179] وأنَّ الفوائد هذه ليس فيها؛ يعني الربا المحرم قالوا: هو الذي فيه ظلم للمسكين، يعني ظلم لصاحب المال، وهذا - يقولون - هذا صاحب المال إذا أودع ماله في البنك ولم يأخذ عليه شيئاً والبنك صار هو المظلوم، فأخذ الفوائد عندهم أنه عدل، وأن ترك الأخذ ظلم له، لأن البنك يستفيد وهو لا يُعْطَى شيئاً، يُشَغِّلْ المال ويستفيد، ومعلوم أن المال يقبل النماء باليوم، يعني كل يوم فيه كسب، يعني على طريقة التجارات العالمية وأشباه ذلك، فعندهم هذه الشبهة. لكن هذا لو أُقِرْ لآل الأمر إلى أَنَّ البنوك - يعني من غير الأدلة النصية في الموضوع لكن على حد تعبيرهم بأن فيه ظلم وعدم ظلم - الحقيقة هو الذي فيه الظلم، لأنه لو أُقِرَ ذلك صارت البنوك تأخذ (100 %) وتُعْطِيْ هذا صاحب الفوائد (5 %) (6 %) (7 %) ونحو ذلك، والأصل في ذلك أنَّ صاحب المال إذا أراد أن يُعْطِيْ من يشتغل له أن يكون شريكاً له في مكسبه وفي خسارته، فالناس تنمو أموالهم، يعني لو فرضنا أنهم سيودِعُون وسيأخذون هذا (5 %) وهذا (6 %) وهذا (7 %) وهذا (10 %) سَيُودِعُون، البنك قد يُحَصِّلْ (50 %) فسيبقى نمو المال عند هذه الفئة قليلاً، ونمو المال عند أهل البنوك عظيماً فتقوى البنوك ويضعف الناس، ظاهر؟ هذا هو حقيقة الظلم، الظلم الجماعي. س5/ ما الفرق بين الإعتقاد والإعتماد الكلي؟ ج/ مثلاً في ماذا؟ [السائل] مثلاً في فعل الأسباب قال الإعتماد كليا [الشيخ] الإعتقاد قلب والإعتماد فعل.   (1) مسلم (4173) / النسائي (4581) / ابن ماجه (2257) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 [السائل] لكنه اعتد اعتماداً كليَّاً على هذا الشيء، فهل يدخل في الإعتقاد؟ [الشيخ] ليس بشرط، فقد يعتمد دون اعتقاد. [السائل] أنَّ ..... إعتقاد بسبب الإعتماد؟ [الشيخ] لا الإعتقاد هو أنَّهُ في قلبه ليس فيه أنَّ الله نافعه ولا، إنما هذا السبب مادِّي، يعتقد في داخله أنَّ المادة هي كل شيء، هذا هو الإعتقاد. لكن الإعتماد غفل قلبه واعتمد ظاهره. فلا يُسَوَّى هذا بهذا. لهذا صار الإعتماد على الأسباب –يعني بالكلية- ما هو بالإعتماد على الأسباب فقط، الإعتماد على الأسباب بالكلية يعني دون اعتماد القلب على الله - عز وجل -، هذا محرم، أو نقول يدخل في نقض التوحيد، شرك أصغر أو شرك خفي، أمَّ الإعتقاد فهذا كفر ظاهر، أن يعتقد أنَّ الأسباب كافية ولا نافع ........ الله - جل جلاله -. مثلاً الطبيب سيعمل لك عملية، يقول خلاص .......... ما جاء في قلبه أنَّه يعظم الإعتماد على الله، فعله .... كذا بالطبيعة، ...... هذا عمل يعني فاته الأفضل، لكن في قلبه فيه أصل الإعتماد، لكن فيه من اعتمد على السبب في هذا بالذات. مثلاً جاء وقال: أبد، الطبيب يكفي، ما دام في قلبه أي شيء من التوكل على الله، اعتمد على السبب فقط فهذا يدخل في ...... إمَّا محرم أو شرك أصغر أو شرك خفي بحسب الحال. لكن المسألة الثانية: اعتقد أنَّ هذا السبب كافٍ، يعني قال يكفي الطبيب، هذا كفر إذا اعتقد قلبه، ما فيه أحد يعتقد أنَّ الإعتماد على الأسباب فقط، يعتقد الأسباب فقط ويكون عنده إيمان؟، ما يمكن، المؤمن لازم يكون عنده اعتماد على الله - عز وجل - لكن يعتمد على الأسباب ظاهراً بحسب الحال. س6/ ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد أنَّ الخوف الذي يحمل على ترك الواجب وفعل المحرم هذا خوفٌ محرم، والشيخ عبد الرحمن في فتح المجيد قال إنَّه شرك أصغر؟ ايه نعم، وش ظهر لك؟، أنَّه محرم، محرم ما هو بشرك أصغر، وهو توسع، الشرك الأصغر فيه نوع تشريك لأنه ما ترك الأمر والنهي خوفاً، يعني ما هو مصلحة، بس مجرد خوف، إلا أنَّه إيش؟، خاف منهمكخوف، أو قدَّمَ خوفه منهم على خوفه من الله، فيه نوع تشريك، بس الأظهر التعبير بالمحرم. س7/ الخوف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، هذا التعريف لخوف الشرك يصح؟ لا، لا يصح لأنه الخوف الشركي والخوف السري، يعني يُعطي شيء غيبي ما لله - عز وجل - من الخصائص، يعني يؤذي بدون سبب ظاهر. س8/ لو قال شخص لولا فلان ما كان كذا، بدون ....... مع الله سبحانه وتعالى هل يكون فيه نوع من الشرك الأصغر؟ هذا شرك أصغر، إذا كان أنَّهُ في مقابلة نعمة أو اندفاع نقمة، يعني فيه نعمة حصلت له، قال (لولا فلان ما حصل لي كذا) ، أو اندفع عنه مصيبة فقال (لولا فلان لك يأتيني كذا) هذا هو الشرك الأَصغر. س9/ والذي ورد في السنة (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) وقول عمر لحفصة (لولا أنا لطلَّقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؟ ج/ هل القائل الآن هو المشفع المُتَفَضَّلْ عليه، أو المتفضِّل؟ المُتَفَضِّلْ، وصورتنا التي نتكلم فيها مُتَفَضَّلْ عليه، لأنَّ المُتَفَضَّلْ عليه يتعلَّق قلبه بمن تَفَضَّلَ عليه. مثلاً لو أقول لك (لولا أنا ما كنت من أهل السنة والجماعة) ....... لأنه من المتفضِّل، لكن القلب هنا ما فيه تعلُّق، هنا يدخل بحث آخر كالفخر مثلاً أو يدخل في ضوابط أخرى، لكن الضابط المنهي عنه أن يكون ممن انتفع وليس من النافع، لأنَّ من انتفع تعلَّقَ قلبه بمن أحسن إليه، فالتعلق هذا هو الذي يدخل له التشريك. أمَّا حديث (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) هذا لم يدخل من جهتين: الجهة الأولى: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُتَفَضِّل، والأحاديث التي فيها النهي إنما هو في المنتفع بالنعمة أو اندفاع النِّقمة. الجهة الثانية: أنَّ قوله (لولا أنا) يقصد به لولا شفاعتي له، وشفاعته صلى الله عليه وسلم تُقبَلْ ابتداءً أم بفضل الله؟ بفضل الله، يعني شفاعته ما تُقْبَل إلا بإذن الله، فرجع الأمر –ولو لم يذكر ظاهر- إلى الله - عز وجل -. وكذا قول عمر (لولا أنا لطلَّقكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنَّهُ المُتَفضِّل عليها. ولو قال إنسان (لولا الهوى ما اختلف الناس في هذا) فهذه ما فيها شيء. فأقرب شيء تنضبط به ما كان في أمرين: الأول: أن يكون استعمال لولا في تحصيل نعمة أو اندفاع نقمة بسبب من الأسباس، فيعزوه للسبب ولا يذكر الله. الثاني: أن يكون في ذكره تَعَلَّقَ القلب بهذا السبب، إذا حصل تعلق بالسبب حصل الشرك قلباً ولفظاً. س10/ بالنسبة للصلاة خلف الكاهن أو العَرَّاف إذا كان هو إمام مسجد، فهل تصلِّي في بيتك أو تُصَلِّي في المسجد معه؟ لا تصلي في بيتك، تصلي في جماعة أخرى إلَّا إذا اضطررت يعني للصلاة وتخشى من التفريط لأنَّه قصارى الأمر الصلاة خلفه باطلة، ظاهر؟، وفي الصلاة خلفه تقوية له أو تزكية له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 فإذا اضطررت في هذا، لو صليت معه تعيد الصلاة لأنَّهُ كافر. يعني ممكن تصلي معاه في المسجد وترجع في البيت تصلِّي، بس ما هو بدايم، يعني إذا اضطررت. طيِّب إذا لم يكن هناك إلا هذا المسجد في الحي، فماذا تفعل؟ تصلي في بيتك، ولا تصلي خلفه، أو تشوف لك مسجد آخر وجماعة ولو بعيد، أمَّا الكهان والعرافين فلا يُصَلَّى وراءهم. وفقكم الله وأعاننا وإياكم على الحق والهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: الأسئلة س1 هل عبارة (الله ما شفناه لكن بالعقل عرفناه) في قول العامة صحيح؟ ج/ هذا القول في غالب معناه صحيح وهو مأخوذ في الأصل من كلام علي رضي الله عنه في خطبه، وهو موجود في نهج البلاغة -نسيت العبارة- لكن حاصلها يقول (والله إن لم تُدْرِكْهُ الأبصار بالشهود لكن عَرَفَتْهُ وعَنْعَنَتْ له العقول بالدليل) أو نحو ذلك. هي موجودة، يعني أصلها من كلام علي رضي الله عنه. (1)   (1) نهاية الشريط الخمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 : [[الشريط الواحد والخمسون]] : وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] .   الحمد لله رب العالمين، وبعد: قال العلامة الطحاوي رحمه الله (وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] ) . هذه الجملة من كلامه رحمه الله يُقَرِّرُ بها أنَّ دين الله - جل جلاله - وهو ما يُدَانُ به ويُتَقَرَّب إليه به طاعةً تحقيقاً للغَرَضِ من الخَلْقْ هو الإسلام، فهو الذي تَعَبَّدَتْ به الملائكة في السماء، وهو الذي تَعَبَّدَ به الحجر والشجر ممن يعبدون الله - عز وجل - بمقتضى الخِلْقَة لا بمقتضى الاختيار، وهو الذي لا يرضى الله - عز وجل - أن يَتَعَبَّدَ به من أعطاه الاختيار إلا أن يَتَعَبَّدَ بالإسلام. وهذه الجملة يريد بها أنَّ الإسلام الذي هو الدِّين شيءٌ واحد اجتمعت عليه الرسل، وهو الدِّين الذي في السماء، وهو الدِّين الذي في الأرض، وهو الأمور الخَبَرِيَة أو العقائد الخبرية دون الأوامر والنواهي. وهذا يعني أنَّ كل مِلَّةْ وكل رسول إنما جاء بالإسلام الذي أذِنَ الله به ورَضِيَه وأَمَرَ به، وبه تَعَبَّدَ المُتَعَبِّدُونَ في السماء، وبه أمر أنْ يَتَعَبَّدَ المُتَعَبِّدُونَ في الأرض. وهاهنا مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 [المسألة الأولى] : الإسلام ينقسم إلى قسمين وهو: - الإسلام العام. - والإسلام الخاص. وكلام المؤلف هنا يعني به الإسلام العام وهو: الاستسلام لله - عز وجل - بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فهذا الإسلام وهو الاستسلام، هو الذي اجتمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فدَعَوا إلى توحيد الله وإلى الاستسلام له بالتوحيد بعبادته وحده دونما سواه وخلع الآلهة والأنداد والبراءة من كل معبودٍ سوى الله - عز وجل - ومن كل عبادة لِمَا سوى الرب - جل جلاله - وتقدست أسماؤه. والانقياد لله - عز وجل - ظاهراً بطاعته - عز وجل - فيما أمر وبالانتهاء عما نهى عنه - جل جلاله -. هذا هو الإسلام العام، وهو الذي ينطبق على رسالة كل رسول، وهو الذي ينطبق على إِسْلَامِ كل شيء له كما قال - عز وجل - {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] . فقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ} يعني أفَغَير دين الإسلام يبغون، فكل ما في السماوات والأرض، وكل من في السماوات والأرض أسْلَمْ لله - عز وجل - طوعاً أو كرهاً، يعني اسْتَسْلَمْ ولا بد، إلا المشرك فإنَّ استسلامه كان استسلامَ انقيادٍ لأمر الله الكوني دون استسلامٍ وانقيادٍ لأمر الله الشرعي. والنوع الثاني الإسلام الخاص وهو شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. دين كل الأنبياء هو الإسلام بمعناه العام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، وهو شريعة الإسلام، الإسلام الخاص. وهذا الإسلام الخاص هو الذي جاء تفسيره في قول النبي صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أَنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان» (1) حديث ابن عمر، وهو الذي جاء في جوابه صلى الله عليه وسلم لجبريل حينما سأله عن الإسلام فقال «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، ثم قال في آخره «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم» (2) . فالإسلام الخاص يشمل هذه المراتب الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان أيضاً. وكل واحدةٍ منها من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وطبعاً تفاصيل الشريعة قد تدخل مع العقيدة؛ يعني في ما دعا إليه جميع الأنبياء في الإسلام العام. يعني مثلاً الإيمان: أنْ تؤمن بالله وملائكته هذه تدخل في الإسلام العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، كذلك شهادة أن لا إله إلا الله هذه أيضاً لكل المرسلين. فهذا الإسلام الخاص هو الشريعة التي جاءت في قول الله - عز وجل - {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، فالشِّرْعَةْ هي ما خَصَّ الله - عز وجل - به كل نَبِيٍّ عن النبي الآخر، خَصَّهُ بهذه الرسالة خَصَّهُ بهذا الوحي، فهذا هو الإسلام.   (1) البخاري (8) / مسلم (122) (2) سبق ذكره (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 [المسألة الثانية] : (دِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ) كما قال الطحاوي هنا، فحينئذٍ ليس عندنا أديان سماوية، ولا الأديان الثلاثة. ومن عَبَّرَ عن اليهودية والنصرانية والإسلام أو غيرها أيضاً بأنها أديان سماوية، هذا غلط عَقَدِي، وغلطٌ أيضاً على الشريعة وعلى العقيدة؛ لأنَّ الدين واحد كما قال - عز وجل - {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، فالدِّيْنُ الذي جاء من السماء من عند الله وارتضاه الله في السماء وارتضاه في الأرض واحدٌ ليس باثنين، وليس بثلاثة. فمن الغلط قول القائل: الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام؛ بل ليس ثَمَّ إلا دينٌ سماويٌ واحد وهو الإسلام فقط، على التفصيل الذي ذكرنا في المسألة الأولى. فشريعة عيسى عليه السلام تُسَمَّى النصرانية، وشريعة موسى عليه السلام تُسَمَّى اليهودية، أو تقول اليهودية والنصرانية وغير ذلك؛ لكن لا تَنْسِبْ هذه الثلاث بقول القائل الأديان السماوية الثلاثة؛ لأنه كما قال الطحاوي هنا (دِينُ اللَّهِ وَاحِدٌ) ليس متعدداً. وهذه ذَهَبَ إليها جمعٌ من النصارى ومن اليهود في تصحيح كل الديانات، يعني من القرون الأولى في أنَّ النصرانية دين من الله وأنَّ اليهودية دين من الله والإسلام دين من الله. وهذا لاشك أنَّهُ باطل ومخالف لنصوص الكتاب والسنة وللإجماع في أنَّ الله - عز وجل - لا يرضى إلا الإسلام، كما قال - عز وجل - {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3] وقال {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال - عز وجل - {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] يعني من قبل يعني عند الرسل السالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 [المسألة الثالثة] : الدّين أصل اشتقاقه في اللغة من دَانَ يَدِينُ إذا التَزَمَ، أو أُلْزِمْ بما يكون مُلَازِمَاً له ومُعْتَادَاً في شأنه. ولذلك قيل أيضاً الدَّيْدَنْ، دَيْدَنُهُ كذا يعني ما اعتاده كذا، دَيْدَنِي يعني ما اعتدته. ومنه أيضاً الدِّين، يقول أنا ديني كذا -يعني في أصل اللغة- يعني أعتاد كذا والتَزِمُهُ. ولهذا صار كل ما يُلْتَزَمْ يقال له دين، لهذا جاء في القرآن ذكر دِيْنْ الملك في قصة يوسف في قوله - عز وجل - {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ، فقوله - جل جلاله - {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} يعني في شريعة الملك؛ لأنها مُلْتَزَمَة والالتزام والحكم بها صارت عادة وصارت دَيْدَناً، يعني صارت ديناً يُعتادُ ويُلْزَمْ به الناس. لهذا يقال فلانٌ دينه ضعيف أو دينه قوي يعني ما اعتاده من الالتزام بأمر الإسلام. إذاً فقوله هنا (دِينُ اللَّهِ) ، هنا إضافة الدين إلى الرب - عز وجل - ليست إضافة إلى الفاعل هي إضافة إلى الآمر بها، تقول دين فلان لأنه هو يَتَدَيَّنْ، ودين الله يعني الدين الذي أمر الله به وأَلْزَمَ به الناس ولم يَرْضَ غيره هو الإسلام. وهنا فَرْقْ طبعاً بين الدين وبين الشريعة وبين العقيدة يحتاج إلى وقتٍ أطول لبيانه، يعني تشترك: - الدين يمكن أن يُطْلَقْ على الشريعة والعقيدة جميعا. - والشريعة يمكن أن تُطْلَقْ على الدين وعلى العقيدة أيضاً. - والعقيدة أيضاً يمكن أن تُطْلَقْ على الشريعة وعلى الدِّين. لكن بينها عموم وخصوص، فهي تشترك في أشياء وتختلف في أشياء، ويمكن أن يُعَبَّرْ عن كل واحدٍ بالآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 [المسألة الرابعة] : & الإسلام ينقسم من حيث الاستسلام إلى ثلاثة أقسام: - إسلام الوَجْهْ. - وإسلام العمل. - وإسلام القلب. @ القسم الأول: إسلام الوجْه: يُعْنَى به أن لا يَتَوَجَّهْ إلى غير الله - عز وجل - في عبادته، فيستسلم لربه - جل جلاله - ويُقْبِلْ عليه بوجهه وحده دون ما سواه. وهذا جاء في نحو قوله - جل جلاله - {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] ، وقوله - عز وجل - {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] . @ القسم الثاني: إسلام العمل لله - عز وجل -: وهو أن يكون العمل مُسْتَسْلَمَاً فيه لله مُتَخَلَّصَاً فيه من الهوى. فيُسْلِمْ العمل: يعني يَسْتَسْلِمْ في العمل فلا يُسَلِّطْ دَاعِيَ الهوى على الأعمال الصالحة. @ القسم الثالث: إسلام القلب: وهو أصل هذه الأنواع كلها، وهو أنَّهُ يُخْلِصُ في قوله وفي عمله، ويستسلم لربه - عز وجل - في كل أحوال قلبه. & وينقسم الإسلام أيضاً باعتبارٍ آخر إلى شرائع ذكرناها لكم: فكل نبيٍ دينه الإسلام لكن شريعته مختلفة، وقد يقال دين النصرانية، دين اليهودية باعتبار التَّدَيُّنْ كما ذكرنا لك، باعتبار الالتزام، والمقصود الشريعة لكن لا يقال الأديان الثلاثة السماوية كما ذكرنا لك. & باعتبارٍ آخر ينقسم الإسلام الخاص إلى ثلاثة أقسام: - الإسلام. - الإيمان. - الإحسان. & وينقسم أيضاً باعتبارٍ رابع إلى: - إسلامٍ كامل - وإسلامٍ ناقص، يعني باعتبار الاستسلام @ إسلامٌ كامل يعني استسلام كامل. @ إسلام ناقص يعني استسلام ناقص. وهذا بَحَثَهُ أهل العلم واختلفوا فيه، هل الإسلام مثل الإيمان يزيد وينقص؟ أم أنَّ الإسلام شيءٌ واحد، والإيمان هو الذي يزيد وينقص؟ أم أنَّ كلاً منهما شيء واحد؟ أم العكس؟ على أقوال متنوعة، والذي ينطبق على طريقة أهل السنة والجماعة، وإن لم يُصَرِّحْ به الأوائل؛ لكن صَرَّحَ به المتأخرون مثل ابن تيمية ونحوه من أهل العلم، أنَّ الإسلام يزيد وينقص باعتبار الاستسلام، وأنَّ الإسلام له كمال وله نقص، وهذا ظاهر باعتبار الاستسلام. فإذا نظرنا إلى إسلام الوجه والعمل والقلب أو القصد لله، فالناس في ذلك متباينون تبايناً شديداً. وإذا نظرنا إلى التقسيم السالف وهو أنَّ الإسلام ينقسم إلى إسلام وإيمان وإحسان، والناس في الصلاة مختلفو المراتب وفي الصدقة الواجبة الزكاة مختلفو المراتب، وأنَّ الناس في الصيام مختلفو المراتب، وفي الحج مختلفو المراتب، ثُمَّ في الإيمان أيضاً مختلفو المراتب، فلابد أن يكون ما تَكَوَّنْ من هذه مُتَفَاضِلَاً. ولذلك ليس من كان وصفه الإسلام على مرتبة واحدة. كذلك ليس كل مؤمن على مرتبة واحدة. فأهل الإيمان في الإيمان متفاوتو المراتب، وكذلك أهل الإسلام في الإسلام متفاوتو المراتب؛ لأنَّ الإسلام الذي هو الاستسلام يقبل التفاوت ويقبل الزيادة والنقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 قال رحمه الله بعدها (وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْيَأْسِ.)   هذه الأربع الألفاظ المتقاربة نَصَّ عليها رحمه الله لأجل أَنَّ الفِرَقْ الضالة أو التي خالفت نَحَتْ إلى أَحَدِ هذه الثمان صفات. فذكر ثماني صفات: - الأولى: الغلو. - الثانية: التقصير. - الثالثة: التشبيه. - الرابعة: التعطيل. - الخامسة: الجبر. - السادسة: القدر. - السابعة: الأمن. - والثامنة: اليأس. ثم قال بعدها (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا) إلى آخره. قوله (وَهُوَ بَيْنَ) يعني أَنَّ هذه الصفات الإسلام لا يرتضيها ودين الله الحق ليس مع الغُلُو كما أنه ليس مع التقصير، ودين الله الحق ليس مع التشبيه كما أنه ليس مع التعطيل، وكذلك دين الله الحق ليس مع الجبر في الأفعال كما أنه ليس مع إثبات الفعل للإنسان خَلْقَاً دون الله - عز وجل - وهو المسمى بالقَدَرْ، وكذلك بين الأمن من مكر الله - عز وجل -، وبين اليأس من روح الله - جل جلاله -. فيريد أَنَّ أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح أخذوا بهذه الوسطية بين هذه المسائل. فهم وسط بين الغلو والتقصير وهم وسطٌ بين التمثيل والتعطيل وهم وسطٌ بين الجبر والقدر وهم وسط بين الأمن واليأس. وإذا تبين لك ذلك فهذه الجملة يُبْحَثُ فيها كل العقيدة، كل ما ذكرنا من شرحٍ في هذا الكتاب تدخل في هذه الجُمَلْ: فهو بين الغلو والتقصير في العمل والإيمان ومراتبه، بين التشبيه والتعطيل في مسائل الصفات والإثبات إلى آخره. الغلو ذهب إليه الخوارج، والتقصير ذهب إليه المرجئة وأهل الشهوات. التشبيه ذهب إليه المجسمة، والتعطيل ذهب إليه المعَطِّلَة والمُؤَوِّلَة ونُفَاة الصفات. والجبر ذهب إليه الجبرية: الجهمية والأشاعرة والماتريدية، والقَدَرْ يعني القَدَرِيَّة الأوائل نُفَاة العلم، ثم المعتزلة الذين أثبتوا خلق الإنسان لفعله. والأمن من مكر الله - عز وجل - ذهب إليه أهل الشهوات، فعلوا ما يشاءون وأمِنُوا مكر الله، واليأس ذهب إليه طائفة من المتصوفة فيئِسُوا من رَوحِ الله - عز وجل -. وهكذا في أصنافٍ شتى في هذه الأمور. فإذاً هذه الجملة هي في الحقيقة تلخيصٌ لما سبق، وهي عَرَضْ لها كما تذكرون شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث الوَسَطِيَّةْ. وكل من صَنَّفَ في الاعتقاد يَعْرِضُ لها لكن بأساليب مختلفة. وهي التي سماها عدد من طلبة العلم في هذا العصر الوسطية، الوسطية في الاعتقاد في الصفات، الوسطية في الإيمان، الوسطية في القَدَرْ، الوسطية في السلوك، الوسطية في العبادة، الوسطية في الحُكْمْ على الناس وعلى الأحوال، وهكذا. ولاشك أنَّ دين الإسلام وسط كما أثنى الله - عز وجل - على أهله بقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] . وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يعني أُمَّةً عَدْلَاً خِيَارَاً، كما فَسَّرَهَا السلف. لماذا صارت عدلا؟ لأنها تَوَسَّطَتْ في ما ذهب إليه المِلَلْ من قبل. فعندك اليهود عندهم التشدد والغلو والأغلال والآصار، والنصارى عندهم التساهل والزيادة والابتداع إلى آخره. فأهل الإسلام وسط في كل أحوالهم، وسطٌ في العقيدة ووسطٌ في العبادات بجميع أحوالها وأنواعها. إذا تبين ذلك فنعرض لهذه الجُمَل سريعاً في مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 [المسألة الأولى] : الغلو والتقصير قد يُعَبَّرُ عنه بالغلو والجفاء. والغلوُّ لفظٌ جاء في الكتاب والسنة، كما قال - عز وجل - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} [النساء:171] ، وقال - عز وجل - في الآية الأخرى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في بعض السنن «بمثل هؤلاء فارموا» لما ذَكَرَ أَنَّ مَسَكَ أو قَبَضَ على حصى الحذف «وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» (1) فنهى عن الغلو صلى الله عليه وسلم. والغلو كما أنه يكون في الاعتقاد كذلك يكون في العبادة. وحقيقة الغلو في تعريفه الشرعي: هو الزيادة عما أُذِنَ به شرعاً في السلوك أو في التَّعَبُّدْ أو في الاعتقاد. يعني في الدين إذا زاد عما أُذِنَ به فإنه يكون غالياً، كما أنه إذا زاد في الإنفاق عَمَّا، أو في الفعل عما أُذِنَ به صار مسرفاً. أما التقصير فهو: ترك ما أُمِرَ به العبد بأن يُقَصِّر ويجفو ويتبع الشهوات وهو عكس الغلو. وأولئك يغلون في الاعتقاد أو يغلون في الإثبات أو يغلون في السلوك. مثاله الخوارج غلوا في جانبين؛ بل في عدة جوانب. غَلَو في العقيدة: فَضَلُّوا، كَفَّرُوا، وتركوا نهج الصحابة. وغلوا في العبادة: حتى إنَّ أحد الصحابة يحقر صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم كما جاء في الحديث. وغلوا أيضاً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقاتلوا جِهَادَاً من لا يستحق القتال شرعَاً؛ بل من يَحْرُمُ قتاله، حتى آل الأمر بغلوهم أنهم تَعَبَّدُوا بقتل خيار الله - جل جلاله - مثل الصحابة. فأَكْرَمُ الصحابة وأعلاهم منزلة في زمنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك تَقَرَّبُوا إلى الله بقتله؛ بل أساس قتل عثمان هو من فعل الخوارج رضي الله عنه. قَتَلُوا علياً وهم يتمنون الجنة بقتل عثمان وبقتل علي من شدة غُلُوِّهِم. وكما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» (2) يعني أهل الشرك. وأما التقصير فهو حال أهل الشهوات الذين تركوا العبادة وتركوا طاعة الله - عز وجل - ولم يَبْلُغُوا ما أَمَرَ الله - عز وجل - به. بل هم في تقصيرٍ وغِشيانٍ للشهوات والمحرمات والكبائر ولا يَرْعَونَ ولا يثوبون ولايتذكرون. هؤلاء يقابلون المتشددين، يقابلهم أهل التساهل والكبائر والذنوب والمعاصي.   (1) النسائي (3057) / ابن ماجه (3029) (2) البخاري (3344) / مسلم (2499) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 [المسألة الثانية] : في قوله (بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ) 1 - القسم الأول: التشبيه: التشبيه هو أن يُجْعَلْ شيء شَبَهَاً لشيء. فعملية الجَعْلْ هذه هي تشبيه، شَبَّهَ تَشْبِيْهَاً. والتشبيه قسمان، يعني جَعْلْ الشَّبِيهْ قسمان: @ القسم الأول: جعْل الشبيه لله - عز وجل - في صفاته كلها، أو في بعض صفاته، أو في تمام معنى الصفة [ ..... ] . [ ..... ] يمكن أن تقول اختصاراً أنْ يُشَبَّهْ الله - عز وجل - بخلقه أو يُشَبَّهْ الخلق بالله - عز وجل - في كيفية الصفات أو كيفية صِفَةْ أو في تمام معنى بعض الصفة. @ القسم الثاني: أن تُشَبَّه صفة الله - عز وجل - بصفة خلقه في أصل المعنى دون تمامه، أن تُشَبَّه صفة الخالق - عز وجل - بصفة المخلوق في بعض المعنى أو في أصل المعنى. وهذان القسمان هل يُنْفَيَان عن الله - عز وجل - جميعاً أم ينفى أحدهما عن الآخر؟ اختلف أهل العلم في ذلك. والذي يوافق طريقة أهل السنة والجماعة أن يُنْفَى القسم الأول وهو المراد بالتمثيل دون نفي القسم الثاني؛ لأنَّ إثبات الصفات إثباتٌ للصفة مع المعنى، والمعنى يشترك المخلوق مع الخالق فيه في أصل الصفة، في أصل المعنى دون كماله. كما أنَّ المخلوق يُوصَفْ بالوجود والله - عز وجل - يُوصَفُ بالوجود فبينهما اشتراك في أصل المعنى دون تمامه ودون حقيقته. كذلك يُوصَفُ المخلوق بالسمع، والله - عز وجل - يُوصَفُ بالسمع وللمخلوق سمع يناسبه، ولله - عز وجل - سمعٌ كامل متنزه عن النقائص وما لا يليق بجلاله وعظمته - عز وجل -. فتحَصَّلَ من هذا أَنَّ: - الأول مُتَّفَقٌ على منعه وهو التمثيل. - والثاني مُخْتَلَفٌ في إطلاقه بين أهل العلم. (1) * والأوْلَى أن لا يُسْتَعْمَل التشبيه إلا في معنى التمثيل حتى لا يَظُنْ الظَّان ممن لا يفهم طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يتساهلون في مسألة التشبيه، فَيُصَدِّقُونَ أنهم مُشَبِّهَة أو يؤكدون أنهم مُشَبِّهَة. وهذا وإن استعمله بعض أهل العلم كابن تيمية وغيره؛ ولكن أرادوا منه حَقَاً، وهو أن لا تُنْفَى الصفات. ولكن من حيث الاستعمال لا تُسْتَعْمَلْ، لا يقال أنه هناك تشبيه جائز أو أنَّ من التشبيه ما هو حق، فهذا ليس كذلك. لذلك لفظ التشبيه لم يأت في الكتاب والسنة مَنْفِيَّاً، وإنما جاء نفي المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، ولكن لا نستعمل لفظ التشبيه، فالله - عز وجل - ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، وكذلك ليس له شبيه - عز وجل -، وأهل التشبيه هم أهل الضلال. لهذا قال هنا (وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ) فالمُشَبِّهَة وهم الذين جعلوا صفات الله - عز وجل - مُشْبِهَةْ لصفات خلقه، إما جميع الصفات كحال أهل التجسيم أو بعض الصفات، هؤلاء نتبرأ منهم وليس في طريقة أهل السنة لفظ تشبيه مُثْبَتَاً. ما نقول قد يكون مثل ما استعمله بعض المعاصرين ممن لم يتحقق بطريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحديث. 2 - القسم الثاني التعطيل: والتعطيل مأخوذٌ أو معناه الإخلاء، مأخوذ من العُطْلِ وهو التَّخْلِيَة. يقال جِيدٌ المرأة عاطل؛ يعني أنه خالٍ من الحُلِيْ كما قال الشاعر وهو امرئ القيس: وجيدٌ كجيد الرِّيم ليس بفا **** حِشٍ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطلِ (بِمُعَطَّلِ) يعني بخالٍ من الحلية. فالتعطيل معناه التخلية. فالتعطيل في حق الله معناه أن يُخْلَى الله - عز وجل - من صفاته. فَنُفَاةْ الصفات مُعَطِّلَة، وكل من نفى صفة أو أكثر فله نصيب من التعطيل بقدر ما نفى؛ لأنَّ التعطيل إخلاء من الصفات. فنفاة الصفات مثل المعتزلة والأشاعرة، أو من نفى كل الصفات أو نفى بعضها؛ فإنه يطلق عليه مُعَطِّلَة. وبالمناسبة تجد في كتب أهل العلم، تارَةً يقولون عن هؤلاء نُفَاة الصفات، وتارة يقولون مُثْبِتَةْ الصفات، ففي موضعٍ يجعلونهم مع النفاة، وفي موضع يجعلونهم مع المُثْبِتَةْ بحسب السياق. فإذا نُظِرَ إلى نفيهم للصفات -يعني المعتزلة والأشاعرة- قيل لهم نفاة للصفات مع الجهمية لأنَّ الجهمية هم أصلاً نفاة الصفات. وإذا نُظِرَ إلى ما أثبتوا وأنَّ الجهمية تنفي جميع الصفات قيل عنهم أنهم مُثْبِتَةْ للصفات؛ يعني لأصل الصفات وليسوا منكرين لأصل الاتصاف. فالمقصود من ذلك أنَّ التعطيل ينطبق على نُفَاة الصفات سواءٌ نَفَى كل الصفات أو نفى بعض الصفات. إذا كان كذاك فدين الله بين التشبيه والتعطيل؛ يعني ما بين نفي الصفات، وما بين أن يُجْعَلْ لله - عز وجل - صفات كصفات المخلوق. فنُثْبِت لله - عز وجل - الصفات؛ لكن (2) على قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وعلى قاعدة أهل العلم أنَّ إثباتُ الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وأنَّ بين الصفة وبين الصفة، يعني بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق كما بين الذات والذات. والله - عز وجل - ضَرَبَ لنا مَثَلاً في المخلوقات: المخلوقات ليست متساوية في الصفات، الذباب له قوة تناسبه والإنسان له قوة تناسبه، ولكن هنا ثَمَّ قوة وثَمَّ قوة، البعوض له سمع وله بصر يناسبه والإنسان له سمع وله بصر يناسبه، والفيل له قوة وله سمع وله بصر وله قدرة تناسبه. فإذاً المخلوقون، الأصناف التي خلقها الله - عز وجل - جعلها متفاوتة فيما تتصف به، وإذا كان كذلك فإذاً ما بين الخالق وما بين المخلوقين من البون والفرق الكبير في الاتصاف بالصفات كما بين ذات الرب - جل جلاله - وذوات المخلوقين الوضيعة والناس يُدركون هذا تمام الإدراك فيما يزاولونه وينظرون إليه.   (1) انظر المسألة الثالثة (16) (2) نهاية الوجه الأول من الشريط الواحد والخمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 [المسألة الثالثة] : في قوله (بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) الجبر والقدر مر معنا تفصيلاً ذلك. وأنَّ الجبر يعني به الجبرية، وأنَّ الجبرية صنفان: - جبريةٌ غالية. - وجبريةٌ متوسطة. وكذلك القدرية صنفان: - قدريةٌ غلاة وهم الذين نفوا العلم. - وقدريةٌ ليسوا بغلاة وهم المعتزلة الذين نفوا مرتبة من مراتب القدر وهي خلق الله - عز وجل - لأفعال للعباد وعموم مشيئته سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 [المسألة الرابعة] : في قوله (وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ) الأمن كما ذكرت لك هو الأمن من مكر الله واليأس هو اليأ س من روح الله - عز وجل -. والواجب على المؤمن والمسلم أن يعلم أنَّ الإسلام لا يُقِرُّ الأمن من مكر الله كما لا يُقِرُّ اليأس من روح الله، فهو بين هذا وهذا، فهو أن يسير خائفاً راجيا يخاف من الله - عز وجل - أن يعاقبه، أو أن يستدرجه، وأنه إذا فعل ذنباً فإنه لا ييأس من روح الله - عز وجل -. وهاهنا مسألة يذكرها أهل العلم: وهي الأمن والإياس والخوف يعني والرجاء أيهما يُغَلَّبْ؟ هل يكون خائفاً أو يكون راجياً؟ وهم متفقون على أنَّ الخوف الذي يُبْلِغُ المرء إلى اليأس فإنه مذموم، وأنَّ الرجاء الذي يُبْلِغُ المرء إلى الأمن من مكر الله فإنه مذموم. فإذا كان كذلك فهم يبحثون بين الخوف والرجاء ولا يقصدون الخوف الذي يوصل إلى اليأس، ولا الرجاء الذي يوصل إلى الأمن. اختلف أهل العلم في ذلك كما هو معلوم لديكم في أي الخوف والرجاء يُغَلَّبْ؟ - قالت طائفة يُغَلَّبْ جانب الخوف. - وقال آخرون يُغَلَّبْ جانب الرجاء. * والصحيح في ذلك هو التفصيل وهو أنَّ الإنسان لا يخلو في حاله من أحد ثلاثة أحوال: - إما حال صحة. - أو حال مرض. - أو حال قرب للوفاة. @ فإذا كان في حال الصحة: فيغلب جانب الخوف على الرجاء حتى ينتهي عن الذنوب ولا تَغُرَنَّه صحته في الإقدام على الذنوب والمعاصي واقتحام ما لا يُرْضِي الله - عز وجل -، وكذلك يرجو حتى يعمل ويستمر في العمل، وهذه الحال قال فيها طائفة من أهل العلم: إنه يُسَوِّي بين الخوف والرجاء، وهذا ليس بموضعه كما سيأتي. @ وإذا كان في حال المرض: فحال المرض ينبغي على الإنسان أن يُغَلَّبْ جانب الرجاء في الله - عز وجل - ويكون أعظم من خوفه؛ لأنه في حالٍ الخوف عنده ولو أُمِرَ بتغليب الخوف خُشِيَ أن يصل به إلى عدم الرجاء في الله - عز وجل -، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (1) ويناسب المريض أن يكون راجياً مُغَلِّبَاً على الخوف حتى يَلْطُفْ الله - عز وجل - به. @ وإذا كان في حال قرب الوفاة: الأفضل للمرء فيها أن يُسَوِّيَ بين الجانبين، أن يكون خائفاً راجياً، وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له -أظنه كان مريضا فعاده- فقال: «كيف تجدك» قال: أجدني أخشى ذنوبي وأرجو رحمة ربي. فقال صلى الله عليه وسلم له «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا إلا أنجاه الله من النار» (2) أو كما جاء في الحديث. المقصود أنه اسْتُدِلَّ به أنه في هذه الحال أن يُسَوِّيَ المرء بين الخوف والرجاء.   (1) سبق ذكره (371) (2) الترمذي (983) / ابن ماجه (4261) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 قال رحمه الله بعدها (فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَحْنُ بَرَآءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ)   يريد بذلك أنَّ جميع ما ذكره في هذه الرسالة وفي هذه العقيدة المباركة من أوله وآخره أنه دينه واعتقاده ظاهراً وباطنا؛ يعني أنه لا ينافق في ذلك ولا يُظْهِرُ شيئاً ويُخْفِي شيئاً، كما كان عليه طائفة من أهل زمانه من أنهم يقولون (لا تُظهر عقيدتك عند أحد؛ لأنك بين مخالِفِينَ فإما أن يثنوا عليك وإما أن يذموك) ، بل هذا ديننا وعقيدتنا واعتقادنا ظاهراً وباطناً؛ لأنَّ الاعتقاد والدّين الأصل في الإنسان أن يُعْلِنَهْ، وقد يجوز أن يستخفي به إذا كانت المصلحة في ذلك؛ لكن هذا في حال الفتنة وعدم استطاعة الثبات على البلاء؛ لكن الأصل أنَّ الإنسان يُعْلِنْ ما يعتقده ويدين به ظاهراً وباطناً. قال متبرئاً من كل من خالف طريقة أهل الحديث والسنة والجماعة (وَنَحْنُ بَرَآءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ) وقد تقدم لك أنه غلط رحمه الله في عدد من المسائل، هذه توكل إلى اجتهاده، وغلط في ذلك وفي الجملة كلامه موافق لكلام أهل الحديث وكلام أهل السنة في إثبات الصفات وفي القدر وفي سائر المسائل، لكن في مسألة الإيمان تابع فيها قول أبي حنيفة ومرَّ معك البحث في ذلك. فنحن برآء إلى الله من كل مخالفة للكتاب والسنة لكل ما أمر الله - عز وجل - به أو أخبر من خالفه فنحن نتبرأ إلى الله - عز وجل - منه سواءً علمنا أو لم نعلم. وهذا هو الأصل وهذا هو الاعتقاد أننا ندين إجمالا بما أمرنا الله - عز وجل - أن ندين به بالتصديق بالأخبار وباعتقاد وجود الأوامر والانتهاء عن النواهي، وجوب امتثال الأوامر ووجوب الانتهاء عن النواهي، إذا كان أمر إيجاب أو نهي تحريم. وهذا ديننا وهذا اعتقادنا، أمَّا تعليقه بقول فلان أو بما ورد، فهذا يحتاج إلى تأمل ونظر لأن الناس يختلفون في ذلك اختلافاً بيِّنَاً. وما من عالم ممن كتب في العقائد إلا وله اجتهاد يكون في مسألة في مسألتين، وهذا لا يعني أنه ليس من أهل السنة أو أنه خالف أو أنَّ كتابه لا يصلح. فمثلا تنظر إلى أعظم الكتب التي كتبها السلف تجد فيها مسائل لا يُقِرُّهَا الآخرون لكنها مسائل نادرة في خِضَمِّ غيرها، إما أن يُثْبِتْ ما لا يَثْبُتْ مَثَلَاً في بعض الصفات، أو أنه يتأول واحدة بشيءٍ ظهر له، أو أنه يصف شيئاً ليس من العقيدة يجعله في العقيدة، مثل ما فعل البربهاري مثلاً في بعض المسائل، أو أنه ينسب شيء لأهل السنة وهو ليس من عقيدة أهل السنة. فلذلك ما قَعَّدُوهُ وأجْمَعُوا عليه واتفقوا عليه فهذا ما يجب اتباعه، ولا تجوز مخالفته لأنه هو عقيدة أهل السنة والجماعة، وما اختلفوا فيه فلكل واحدٍ منهم عذره في ذلك؛ لكنه لا يُتَّبَعُ على ما زَلَّ فيه. الحافظ ابن خزيمة كَتَبَ كتابا عظيما وهو قطعة من صحيح سماه التوحيد، ومع ذلك غلط فيه في بعض المسائل، في مسألة الصورة كما هو معروف لم يوافق بقية أهل السنة في ذلك. مثلا عندك البربهاري ذكر مسائل ليست من العقيدة أصلاً وأشياء لم تثبت. من ألَّفْ مثلاً في العرش جاء بأشياء ليس فيها دليل واضح وهكذا. المقصود من ذلك أنه ليس من شرط أن يكون الكتاب على طريقة أهل السنة والجماعة وأهل الحديث أن يكون سالما من كل اجتهاد؛ لكن إذا كانت أصوله التي انطلق منها هي الاستسلام للكتاب والسنة، ورَدْ التأويل والتعطيل واتباع الدليل، وعدم تسليط العقل على النصوص فهذا من أهل الحديث وأهل السنة، فلا بد أن يحصل له من الغلط ما يحصل له. لهذا عَظَّمْ أهل العلم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه قَرَّرَ فيها ما اتفقوا عليه وأجمعوا عليه، وترك فيها ما لكل واحدٍ من أهل العلم ممن كتبوا في العقائد اجتهادات. اعتنى المتأخرون من أئمة أهل السنة بكتب الشيخين شيخ الإسلام وابن القيم لسلامتها من المذاهب الردية وللاجتهادات التي [ ..... ] يُوَافَقْ عليها. نقف عند هذاويبقى عندنا الجملة الباقية هذه نبقى معها الدرس القادم إن شاء الله تعالى. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد وأن يختم لنا برضاه إنه جواد كريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 الأسئلة : س1/ قال - عز وجل - {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135] ؟ ج/ معلومٌ أنَّ موسى عليه السلام جاء بالحنيفية مثل دين إبراهيم، جاء بالإسلام، وعيسى عليه السلام جاء بالحنيفية عبادة الله وحده دون ما سواه. لكن اليهودية المُحَرَّفَة والنصرانية المُحَرَّفَة هذه إبراهيم عليه السلام بريءٌ منها، ولهذا قال - عز وجل - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] ؛ لأنَّ كل طائفة ادَّعَتْهُ على ضلالها. فاليهود حَرَّفُوا دينهم وأرادوا أم ينسبوا التحريف إلى إبراهيم، وهو أنهم يدعون إلى الإبراهيمية، وكذلك النصارى، وكذلك المشركون ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم الخليل وهو بريء من هؤلاء وهؤلاء عليه السلام. س2/ هل تنصحون بإهداء كتب موسى الموسوي للرافضة؟ ج/ نعم، كتبه نافعة وتنفع القوم، تقيم الحجة عليهم أو تهز ثقتهم بأصولهم. س3/ ما رأيك في مقولة لأحد الشباب ممن ينتسب إلى الدعوة يقول (إنَّ زمن القرآن وَلَّى بسبب وجود القنوات الفضائية فلابد أن نواجه الشباب بغير القرآن أن نكون عصريين) هذه رسالة في توجيه الشباب؟ ج/ ما أظن المسلم يقول هذا الكلام، ما أظن احد من الشباب يقول زمن القرآن ولّى هكذا بهذا النص، ما أظن أحد يصلي يقول هذا الكلام (زمن القرآن ولَّى) لا ما يمكن أحد يقول هذا. لكن يجب على الإنسان أن يتحرى في ألفاظه، وكما تعلمون الحديث «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفا» (1) قد يقول كلمة ويقول مقصدي زين، وليست المسألة بالمقاصد، لازم أن تتقي الله - عز وجل - في ألفاظك، أن تخاف الله بما تنطق به حتى مع أهلك وحتى مع أولادك وحتى في عملك، المسلم وقور يتحَرَّى في لفظه ويتحرى في تعامله؛ لأن اللسان يحاسب عليه، تحاسب على لسانك في كل ما تقوله. حديث معاذ معلوم لديكم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «كُفَّ عليك هذا» حديث معاذ الطويل قال «وكف عليك هذا» قال: يا رسول الله أَوَ مؤاخذون بما نقول؟ قال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم» (2) . ألحظ أنا من بعض طلبة العلم أو بعض الشباب أو بعض أهل الخير إذا جاوا يمزحون ما يهمه وش يقول أي كلام، هذا سيئ للغاية، أحيانا يطلقون كلاما قبيحا. اضرب لكم مثال، مثلاً يأتي ذكر القبر مثلاً وأنه نور يجيء واحد ويقول والله كهرباء زين، مثل هذا الكلام حرام وقد يهوي به القائل، أو يقول كشاف ألف شمعة أو مثل هذا الكلام؛ يعني قد يحصل أنهم يتناقلون مثل هذا الكلام ويقولونه بينهم؛ لكن مثل هذا لا يجوز البتة. الأمور الشرعية وطِّنْ نفسك على الهيبة فيها، لأنَّ هذا من تعظيم شعائر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، تطلق لفظ لا تلقي له بالا وآخر لا تلقي له بالا، ما تدري يعاقبك الله - عز وجل - بسلب الإيمان منك وأنت لا تشعر. فلذلك يجب على الشباب وعلى طلاب العلم أن يمزحوا بما مزح به النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتون للأمور الشرعية ويتعرضون لها بأقوال ليست كالتوقير. س4/ أشكل علي قول بعض المؤلفين في كتب القرآن وغيرها أنَّ (الـ) في قوله تعالى {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] للاستغراق عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة بناءً على خلافهم لخلق أفعال العباد فلا يقولون بأنها للاستغراق؟ ج/ تحتاج إلى نظر، يعني معنى الاستغراق هل فعلاً المعتزلة ينكرون الاستغراق هنا؟ ما أعلم. لكن الحمد (الألف واللام) هنا استغراق الجنس؛ يعني جنس أو أجناس الحمد جميعا لله رب العالمين يعني مُسْتَحَقَّة لله - عز وجل -، وأجناس الحمد خمسة: حمد لله في ربوبية، وحمد في الألوهية، وحمد في الأسماء والصفات، وحمد في الشرع، وحمد في الكون والقدر. فأجناس الحمد كلها لله، إيش علاقة هذا بخلق أفعال العباد؟ ما أعلم، وأظن -إذا ما خانتني الحافظة- أظن أن الزمخشري يقول إنها للاستغراق في فاتحة التفسير وقال أل للاستغراق أظنه يقول ذلك. فيحتاج إلى مراجعة. س5/ هل يجوز أن نَصِفَ القدر بالظلم؟ ج/ لا يجوز لأنَّ القدر فعل الله - عز وجل - وتقديره فلا يوصف بالظلم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] . س6/ أعرف أناسا جُلُّ مجالسهم الكلام في أعراض علمائنا الكبار من أنهم لا يفقهون واقع المسلمين وفتاواهم في حيضٍ وغيره، ما أفعل مع هؤلاء وكيف التوجيه؟   (1) الموطأ (1782) / الترمذي (2314) / ابن ماجه (3970) (2) الترمذي (2616) / ابن ماجه (3973) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 ج/ أظن حصل من السنين الماضية ما فيه كفاية في وضوح هذه المسألة، وأنَّ من استعجل فوقع في أعراض العلماء أو استنقص رأيهم بَانَ الأمر على خلافه، وأنَّ مصالح الناس في الحال وفي المآل هي بقول أهل العلم الكبار، ورحم الله سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقد كان لموقفه في الأزمة من الخير العظيم على الناس في ذلك الوقت وإلى وقتنا الحاضر ما لم يدركه إلا العالمون بالشرع وأحوال ما يُصْلِحُ الناس. والواجب علينا جميعا ونحن طلاب علم وكلكم حريصٌ على الخير أن نكون متقين لله - عز وجل -، الكلام والغيبة ومحرمة، الكلام في الأعراض والغيبة محرمة. ومن العجب أن يأتي شاب صغير لم يدرك من العلم شيئا فضلاً عن أنه يدرك الواقع، ويقع في حق كبارٍ من أهل العلم الذين عرفوا العلم وعرفوا الواقع؛ ولكن هل الواقع هو الأخبار السياسية؟ هل الواقع هو التفصيلات؟ هل الواقع هو تفصيلات الكيد؟ أم الواقع هو واقع الأعداء وكيف تُطَبِّقُ حالهم على الشرع؟ أو تُطَبِّقُ حالهم على ما في القرآن والسنة؟ يعني لا تنفك المسألة من وجود أعداء للإسلام والمسلمين، وهؤلاء الأعداء فَصَّلَهُمْ الله - عز وجل - في القرآن قال سبحانه {للهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا} [النساء:45] بَيَّنَ لنا الله - عز وجل - حال اليهود وتفاصيل عداوة اليهود لنا والنصارى {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} لكن هل من شرط العالم أن يتتبع جميع الجرائد ويقرأها والأخبار والقنوات الفضائية والتحليلات السياسية حتى يكون فقيها بواقع؟ لاشك أنَّ هذا ليس بمقصود. والأحكام الشرعية لابد أن تكون عن فَهْمْ وفقه؛ لكن ليس كل ما عَلِمَهُ الناس يكون مؤثراً في الفتوى أو في الحكم أو في التصرفات، فهناك أشياء تُعْلَمْ لا قيمة لها ولا أثر، وليس كل ما يُعْرَضْ لكم أو تسمعونه أو ينقل يكون صحيحاً؛ لأن الناس الآن يُضَلُّونَ بالأخبار، الأخبار والإعلام يُضِلْ وينوع الأقوال، ويجعل الناس يتصرفون تصرفات ويبنون أحكامَاً على ما نُقِلْ، ربما بعضكم ينظر في الأخبار التي تُعْرَضْ سواءٌ كانت مقروءة أو مسموعة أو مرئية أنَّ تفاصيل الخبر واحدة تُنْقَلْ في جميع الوسائل، في الجرائد في أمريكا وفي أوربا وفي الشرق وفي المسموع في الأخبار، الصياغة متقاربة؛ بل الصورة الواحدة أحيانَاً المعروضة في أخبار في قنوات، تجد أن الصورة الواحدة تتردد في الأخبار في جميع القنوات، من الذي صاغ الخبر الأساسي؟ ومن الذي صَوَّرْ؟ ومن الذي فعل؟ ومن الذي ينشر هذه الأخبار في العالم؟ والناس يدورون حول هذه الأخبار، لاشك أنَّ هناك تسلط إعلامي عالمي على المسلمين وعلى غيرهم؛ يعني لتكون المواقف السياسية ولتكون رغبة الناس ولتكون آراء الناس على نحوٍ ما. لهذا فالذي ينبغي لطلاب العلم أولاً أن ينشغلوا بالعلم عن غيره؛ لأنَّ الأمة بل الدّين والجهاد الآن جهاد علم، الناس بحاجة إليكم، بحاجة إلى طلبة علم إذا ضيعتم الوقت في قيل وقال دون فائدة، نحن مرينا قبلكم بمراحل كان بعض الناس يتتبعون المجلات، يشترون المجلات الحوادث ومجلة الوطن العربي وأنا أذكر من ثلاثين سنة ومجلة كذا وجريدة وجرائد متنوعة لا فَقِهُوا في السياسة ولا فقهوا في العلم فضاعوا بين هذا وهذا. الناس بحاجة إليكم بحاجة إليكم في العلم النافع في توحيد الله - عز وجل -، وفي بيان السنة وفي بيان الأحكام الشرعية، فتعلموا العلم النافع واتركوا المسائل الكبار لأهل العلم فإن هذا أنفع لكم. طالب ينظر إذا رأى تحليلاً جيداً في مجلةٍ مأمونة أو فيه خبر يتعلم ويفهم؛ لكن أن يَنْقُدْ على أهل العلم إذا لم يتتبعوا مثل تَتَبُعِهِ هذا ليس بنَصَفَةْ ولا بعدل فضلاً أن يكون مأمورا به في الشرع. فلنقي ألسنتنا من الغيبة ولنحفظ قليل أعمالنا -وإن أثابنا الله - عز وجل - عليها- من الضياع والغيبة كما تعلمون وقوع في العرض فلابد أن يؤخذ ممن اغتاب أن تؤخذ منه المظلمة يوم القيامة. والله المستعان، يعني الواحد الذي يعرف نفسه وحريص على الآخرة وما يقربه إلى الله - عز وجل - يُضَيِّعْ نفسه بهذا اللسان الذي يقع دون عمل. وكثير من الأعمال النافعة -وأنتم انظروا- التي بقيت ونفعت في دينهم وفي دنياهم هي أعمال أهل العلم الكبار هي التي هادية ونافعة، وما أحسن قول ابن الوردي في لاميته: ملك كسرى عنه تغني كسرة ****** وعن البحر اجتزاء بالوشل البحر كثير لكنه مالح لا تشرب منه، والوشل ماء عذب قليل لكنه يطفئ الظمأ ويروي الغَلَّةْ. س/ مقولة (من لم يُكَفِّر الكافر فهو كافر) هل هي صحيحة وهل هي على اطلاقها؟ صحيحة، من م يُكَفِّر الكافر الذ ي نصَّ الله - عز وجل - على تكفيره فهو كافر، والميتدع ..... لا، هذه ما هي بقاعدة. أمَّا اللي نصَّ عليها أهل العلم أنَّ من لم يكفر الكافر فهو كافر، ويقصدون بالكافر، ابن تيمية ذكرها في موضع قال (والمقصود الكافر الذي جاء كفره في الكتاب والسنة، لأنه تكذيب للكتاب والسنة) ، أمَّا لو كل واحد، هذا ما يكفر، هذا يكفر، يصير، لكن لابد من رجوعه إلى أصل. يعني مثلاً واحد يجي ويقول (والله فرعون مسلم) فيه من يقوله، وفيه من الصوفية من يقول (الجلال والدوافي وشركت، وابن عربي، أو يجي ويقول (أبو لهب أنا لا أكفره) أو يقول أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ما أكفره؟، وهو قد ثبت كفره بالكتاب والسنة وأنكر الكتاب والسنة. في هذا القدر كفاية وبارك الله فيكم وعليكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد (1) .   (1) نهاية الشريط الواحد والخمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 : [[الشريط الثاني والخمسون]] : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. الأسئلة: س1/ هل الميت يعلم عن الأحياء أخبارَهم؟ فقد سمعتُ من بعض أهل العلم من يقول ذلك وآخر ينفيه، وآخر من يقول هذه المسألة لا أحد يسأل عنها لأنها من علم الغيب؟ ج/ هذه المسألة من المسائل المهمّة جداً، وكما ذكر السائل تنوَّعَتْ أقوال العلم فيها ما بين نافٍ مطلقاً وما بين مثبتٍ مطلقاً وما بين مفصلٍ للمسألة بحسب ما ورد في الدليل. والصواب في ذلك التفصيل. - فمن نَفَى مطلقاً بأنَّ الأموات لا يسمعون ولا يعلمون؛ بل انقطع سبيلهم، استدلوا بقول الله - عز وجل -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ، واستدلوا أيضاً بأنَّ الميت انقطع من هذه الدنيا وارتحل إلى الآخرة وهو مشغولٌ عن هذه الدنيا بالآخرة، وهو في حياة برزخ، وحياة البرزخ مختلفة عن هذه الحياة، فَصِلَتُه بهذه الحياة تحتاج إلى دليل، ولا دليل يدل على سماعه مطلَقَاً فلذلك وجب نفيه لدلالة قوله {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، ولم يدل أيضاً الدليل على أنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الأموات الأخبار والأحوال، فبنوا على هذا النفي العام بأنَّ الميت لا يسمع شيئاً. - والقول الثاني أنَّ الأموات يسمعون مطلقاً ويُبَلَّغُون، يعني يسمعون ما يحدث عندهم ويُبَلَّغُونَ ما يحصل من أهليهم وأقاربهم من خيرٍ وشر، فيأنسونَ للخير ويستاءون للشر، وهؤلاء بَنَوا كلامهم على أنَّ في الأدلة ما يدل على جنس سماع الميت لكلام الحي: كقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ» (1) ، واستدلوا بهذا على أنه يسمع. ويستدلون أيضاً ببعض الأحاديث الضعيفة كحديث التلقين، حديث أبي أمامة الضعيف في التلقين ونحوه بأنه يسمع بعض السماع. ويستدلون أيضاً بما ورد من الأحاديث بأنَّ الملائكة تُبَلِّغْ الميت بأخبار أهله من بعده، ويعرضون عليه ما فعلوا فإن وجد خيراً فَرِحْ واستبشر وإن بُلِّغ غير ذلك استاء من أهله. ويستدلون أيضاً بما يحصل للأحياء من رؤيةٍ لأرواح الأموات في المنام، وأنهم ربما قالوا لهم فعلت كذا وفعلت كذا وأتانا خبرك بكذا ونحو ذلك. وهؤلاء أيضاً في مسألةٍ خاصة استدلوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صناديد قريش لمَّا دَفَنَهُم في القليب ورماهم فأطَلَّ عليهم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم «هل وجدتُّم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعد ربي حقاً» ، قالوا له: يا رسول الله أتُكَلِّمُ أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم» (2) ، واستدلوا بهذا اللفظ: «ما أنتم بأسْمَعَ لي منهم» على أنهم يسمعون، وإذا كانوا يسمعون فإنهم لهم نوع تعلق بالدنيا فلا يمنع أن يُبَلَّغُوا ويُقَوِّيْ ما جاء في هذا الباب من أحاديث. - والثالث وهو الصواب، التفصيل، وهو أنَّ المَيّت يسمع بعض الأشياء التي ورد الدليل بأنه يسمعها، والأصل أنَّ الميت لا يُسَمَّع لقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} ، وأنه أيضاً لا يسمع، فما خَرَجَ عن الأصل احتاج إلى دليل، وكذلك التبليغ -تبليغ الأخبار- أيضاً خلاف الأصل، ولهذا كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله جعل له ملائكة سيّاحين في الأرض يُبَلِّغُونَهُ من أمته السلام. وهذا هو الأقرب للدليل، وهو الأظهر من حيث أصول الشريعة، وهو أنَّ الميت لا يسمع كل شيء، لا يسمع من ناداه، لا يسمع من أتاه يُخْبِرُهُ بأشياء، وأنه لا دليل على أنّه يُبَلَّغ ما يحصل لأن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الأحاديث الواردة في ذلك بأنه يُبَلَّغ ونحو ذلك أنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها الحجة. فينحصر إذاً سماعه فيما دل الدليل عليه، وهو أنه يسمع قرع النعال وأنَّ أهل بدر سمعوا، يعني أنَّ المشركين من صناديد قريش سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا في الرواية الثانية الصحيحة أيضاً أنه قال لما قالوا له: أتكلم أمواتاً؟ قال: «ما أنتم بأسمع لي منهم الآن» (3) وهذه الرواية ظاهرة الدلالة بأنَّ إسْمَاعَهُمْ وتكليمهم هو نوع تبكيت وتعذيب لهم، وزيادة «الآن» زيادة صحيحة ظاهرة وبها يجتمع قول من نفى وقول من أثبت، فيكون الإثبات بالسماع فيه تخصيصٌ لهم بتلك الحال لازدياد تبكيتهم وتعذيبهم أحياء وميتين.   (1) البخاري (1374) / مسلم (7395) (2) البخاري (1370) / مسلم (7403) (3) البخاري (3980) / النسائي (2076) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 والعلماء ألَّفُوا في هذا أيضاً تواليف في الثلاث اتجاهات، يعني في القول الأول والثاني والثالث، وابن القيم رحمه الله في كتاب (الرّوح) توسَّعَ في هذا على القول الثاني، توسَّعَ فيه على القول الثاني، لكنه ليس هذا القول أو غيره موافقاً لقول المشركين الذين يجيزون مناداة الميت وسؤال الميت الحاجات وطلب تفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وفي النذر والنذور أن يخاطبوه ليستغيثوا به أو يستشفعوا به. هذا غير داخل في المسألة، لكن هذه المسألة أساس يُرَوِّجُ به من دعا إلى الشرك لأنهم يعتمدون على مثل هذه الأقوال. ألّف ابن القيم كتاب الروح وبَحَثْ في هذه المسألة وتوسع فيها جداً حتى أنه رحمه الله نقل منامات وحكايات في هذا المقام، هي من قبيل الشواهد على طريقته، لكن العبرة بما دلّ عليه الدليل من الكتاب والسنة ولا مُتَمَسَّكْ في كلام ابن القيم لمن زعم أنَّ الموتى يُغِيثُونْ وأنهم يسمعون ويجيبون من سألهم إلخ. بل ابن القيم رحمه الله مع ما أورد فإنه ردَّ على المشركين والخرافيين وأهل البدع والضلال الذين يصفون الأموات بأوصاف الإله جلّ الله عمَّا ادَّعى المدَّعُون. وهناك من ذهب إلى المنع مطلقاً، وعدد من أهل العلم ومذهب الحنفية بالخصوص و (التواليف) طائفة من الحنفية في هذا الباب على هذا الأساس من أنَّ الأموات لا يسمعون أصلاً، فكيف يُبَلَّغُون وكيف يجيبون، والصواب اللي عليه الدليل هو التفصيل الذي مرَّ ذِكْرُهُ. سلام النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري قاعدة مهمَّة في فحوى كلامه، وهو أنَّ الميت على القول بسماعه، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه فإنّه لا يسمع بقوة هي أكبر من قوته في الدنيا، لا يسمع البعيد لأنَّ إعطاءه قوة أكبر من قوته في الدنيا على السَّمَاع، هذا باطل ولم يدلَّ عليه أصل ولم يقل به أحد، ولهذا جاء في بعض الآثار، أو جاء في بعض الأحاديث وإن كان فيها مقال، طبعاً فيها تعليل والبحث معروف: «من سلَّمَ عَلَيَّ عند قبري أجبته أو رددت عليه، ومن سلَّمَ علي بعيداً بُلِّغتُهُ» . وهذا الصواب أنه من قول بعض السلف، يعني إستظهاراً، في أنه من سلّم قريباً أُجِيب ومن سلّم بعيداً بُلّغ، ولا يصح الحديث في ذلك. المقصود من هذا أنَّ تبليغ سلام من سَلَّمَ للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنَّهُ ليس عنده قوة تحضر في كلِّ مكان، من سَلَّمَ عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره فله حكم من سَلَّمَ عليه عند القبر، يَرُدْ عليه السلام. والآن القبر بعيد، قبر النبي صلى الله عليه وسلم الآن بعيد، ليس قريب، وبينك وبينه أربع جدران كبيرة، فإذا تَكَلَّمَ المرء خافتاً بأدب وسَلَّمْ (السلام عليك يا رسول الله) بهدوء، فإنه لو كان صلى الله عليه وسلم حياً في مكانه أي في غرفته، في حجرته التي دُفِنَ فيها لَمَا سمع. ولهذا ليس ثَمَّ فيه إلا التبليغ، يعني أنه يُبلَّغ، الملائكة تبلغه من سَلَّمَ عليه، لأنَّ الذي يُسَلّم بعيد ولا يَسْمَع. ذكر ابن تيمية أنه لم يَدُلَّ دليل على أنه يُعطَى قوّة غير القوة التي كانت معه في الدنيا، ولو قيل أنَّ الميت عامةً يسمع، فإنه لا يسمع من يُكَلِّمُهُ من خلف المقبرة، أو بينه وبينه عشرين متر (20م) يتكلم بهدوء، أو نحو ذلك فإن هذا من وسائل الاعتقادات الباطلة أو من وسائل الشرك والخرافة. أما النبي صلى الله عليه وسلم فحياته حياةٌ كاملة برزخية ولا شك أكمل من حياة الشهداء، على كل حال. س2/ هل يجوز أن يقال لليهودي والنصراني يا أخ فلان؟ وما المراد بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161] ؟ ج/ الأخوة تختلف، فيه أُخُوَّةْ نسب، وثَمَّ أُخُوَّةْ دين، وفيه أخوة في صناعة، والأخ يُطلَقُ على المُصَاحِبْ أيضاً والقريب، فما يأتي في قصص القرآن مِنْ جَعْلِ النبي أخاً للمشركين الذين كَذَّبُوه، هذا من قبيل أُخُوَّةْ النسب لأنه منهم نسباً كما نصَّ على ذلك أهل العلم، أمَّا أُخُوَّةْ الدِّين أو أُخُوَّةْ الملة أو أُخُوَّةْ المحبة فهذه لا شك منفية وباطلة. ولهذا من قال لليهود والنصارى إخواننا ويقصد بذلك التودُّد فهذا يدخل من الموالاة المحرَّمَة، وإذا كان له للنصراني نسب أو صلة أو كان مشترك معه في صناعة أو في تجارة ويَقْصِدْ هذا الاشتراك فهذا له بابٌ آخر وفيه نوع موالاة ومُقَارَبَة والواجب تجنُبُهَا، أما أُخُوَّةْ النسب والقبيلة فهذه أمرها واسع كما في القرآن. س3/ ما حكم الرقية على الكافر والحيوان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 ج/ الرقية هي دواء وعلاج فلا يختَصُّ بها مسلم أو آدمي، فإذا رَقَى كافراً فلا بأس، إذا رقى أيضاً حيواناً فلا بأس فهي دواء وعلاج، حديث أبي سعيد الخدري المعروف «بأنهم مَرُّوا بقومٍ فاستطعموهم أو استضافوهم فلم يُضَيِّفُوهُمْ، فلُدِغَ سَيِّدُ أولئك القوم، فأتوا لهؤلاء النفر من الصحابة، فقالوا: أفيكم راق؟ قالوا: نعم ولكن لا نرقي إلا بجُعْلٍ. فجَاعَلُوهُمْ على قطيعٍ من الغنم ثم جَعَلَ يرقي بفاتحة الكتاب ويتفل ويقرأ فاتحة الكتاب ويتفل حتى برأ كأن لم يصبه شيء. فلما أتوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا، قصوا عليه القصة، فقال: «وما يدريكم أنها رقية!! اضربوا لي معكم بسهم» . فالرقية علاج وقراءة القرآن على الكافر نوع إسماعٌ له أيضاً القرآن وليست من جنس مس المصحف، والله - عز وجل - قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ففيها علاج وفيها إقامة لِحُجَّةٍ من الحُجَجْ عليه ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ، مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَحَالَفُوا الضَّلَالَةَ، وَنَحْنُ مِنْهُمْ بَرَآءٌ، وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلَّالٌ وَأَرْدِيَاءُ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.   هذه هي الجملة الأخيرة من هذه العقيدة المباركة، عقيدة أبي جعفر الطحاوي رحمه الله حيث بَيَّنَ فيها أصول الاعتقاد في الله - عز وجل - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، وبيَّنَ فيها تفاصيل الكلام على مسائل كثيرة تدخل تحت أركان الإيمان الستة، وذَكَرَ فيها كعادة من ألَّف في عقائد السلف ما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة وما وقع من الفتن والكلام في من الأحق بالخلافة، والكلام في العشرة المبشرين بالجنّة، وما أشبه ذلك من المسائل المتصلة بمسائل الإيمان، وكذلك ذكر عِدَّةَ مسائل تتعلق بالقول في أهل العلم، وأننا لا نذكر أهل العلم سواءٌ أكانوا من أهل الحديث والأثر أو من أهل الفقه والنظر إلا بالخير ومن ذَكَرَهُم بغير الخير فهو على غير السبيل، وما شابه ذلك من المسائل. وهذه المسائل التي ذَكَرَهَا حقّ، ويُقِرُّها عامَّة الأئمة إلا فيما استُثْنِي مما وافق فيه أبا حنيفة رحمه الله في بعض مسائل الإيمان ونحوه، مما لاحظنا عليه ولاحظ عليه العلماء من قبل وبعض الألفاظ التي تجنُّبُهَا أولى، كما مرّ معنا في مواضعه. فلما ذَكَرَ ذلك كله قال (فَهَذَا دينُناً واعْتِقَادُناً ظَاهِراً وَبَاطِناً. وَنَحْنُ بُرَآءُ إلى الله مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وبَيَّنَّاهُ) . ولا شك أَنَّ أبواب الاعتقاد متعلقة بالقلب، فالقلب أشد ما يكون في التغير، وأشد ما يكون في التقلُّب، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كان يقول «يا مقلّب القلوب صرِّف قلوبنا إلى طاعتك» (1) ، «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» (2) ، ونحو ذلك مما ورد في الآثار. فالقلب يَتَقَلَّبْ سريعاً وأكثر شيء يتقَلَّبُ فيه القلب قول القلب وعمل القلب واعتقاد القلب؛ لأنَّ هذه مبناها على العلم، والعلم ينفع ويذهب، فكلما ترك شيئاً من العلم كلما أثَّرَ ذلك على القلب، فإذا ترك مسائل العقيدة أَثَّرَ ذلك على عقيدة القلب إما أَثَّرَ بنقص العلم وهذا له أثر في اليقين والاعتقاد الحق، أو أَثَّرَ بوجود الشبهة مع عدم العلم أو ضعف العلم. والشيطان أفرح ما يكون من الإنسان أن يَتَغَيَّرَ قلبه، لأنه إذا تغير قلبه فإنَّ الجوارح تتغير كما قال صلى الله عليه وسلم «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (3) ، ففساد القلب يكون بالشبهات وبالشهوات، فإذا عَرَضَت الشُبُهَاتْ وتَمَكَّنَتْ، وسبب تمكنها نقص العلم فإنَّ القلب يفسد، وأعظم ما تعرض الشبهات في مسائل العقيدة. لهذا ما زال الأئمة وأهل العلم والنَّصَحَة للأمة حق النصيحة لأئمة المسلمين ولعامّتِهِم مازالوا يوصون بالاهتمام بالتوحيد والعقيدة؛ لأنَّهُ أقرب ما يكون تغَيُّرْ القلب في العقيدة لأنهها تُنْسَى، وقد تبقى المُجْمَلَات لكن التفصيلات تُنْسَى، ثُمَّ تأتي ذنوب القلب شيئاً فشيئاً وتقع الشُّبْهَة وتقع المِريَة ويقع الرَّيْبْ في القلب، ثمّ يُضِرُّ الإنسان بنفسه شيئاً فشيئا. لهذا من أعظم الأدعية التي علمنا إياها ربنا - عز وجل - الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5] ، والهداية للصراط طلب بأنْ يُهْدَى إلى الصراط، والصراط هو الإسلام والقرآن والسنة، والإسلام والإيمان والقرآن والسنة له تفاصيل، تفاصيل مختلفة، الإسلام شيء يتعلق بالقلب وشيء يتعلّق بالجوارح والعمل، والإيمان يتعلَّقْ بالقلب، والقرآن ثَمَّ أشياء كثيرة فيه آيات التوحيد وفي الغيبيات، هذه كلها عقائد والسنة كذلك.   (1) مسلم (6921) (2) الترمذي (2140) (3) سبق ذكره (345) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 فإذاً طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في الحقيقة لمن أَحْسَنَ هذا الطلب وطلبه بحق وتضرّع إلى الله - عز وجل - به، رغبةً في تحقيق هذا المراد الأعظم هو عدم رضاً عن النفس؛ لأنَّ النفس لابد أن يكون فيها نقص عن تمام الهداية للصراط المستقيم، فلا دعاء الإنسان أحوج إليه من هذا الدعاء، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ولهذا كان من لطف الله - عز وجل - بعباده أن جَعَلَ هذا الدعاء هو أوَّل دعاء في القرآن وأوَّل سؤال في القرآن، وهو أوَّل سؤال واجبٍ أيضاً في الصلاة، يعني أوَّل سؤال في الصلاة واجب -دعاء الاستفتاح ليس بواجب-، هو الهداية للصراط، وهذا من أعظم الأدعية لأنَّ القلب يتقلب، والإيمان يتغيّر، والإسلام يتغير في العبد وهذا كله بحكم ضعف العلم وزيادته وضعف التطبيق وزيادته. لهذا أحسَنَ العَلَّامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله حين دعا بهذا الدعاء في خاتمة هذه الرسالة والعقيدة الطيبة، فقال (نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ) ، وهذا يُبَيِّنْ مقام هذا السؤال عند هؤلاء العلماء الربّانيين لأنهم يسألون الله الثبات على الإيمان الذي شَرَحَ في هذه العقيدة أركانها، وبَيَّنَهَا ومع ذلك هو أشد ما يكون حاجة إلى الثبات على الإيمان وإلى الخَتْمِ له في حياته به لشدة معرفته بأنَّ هذا الإيمان يُسْلَبْ سواءٌ أكان سَلْبَاً كاملاً أم سلب بعض كماله أو بعض التفاصيل فيه أو بعض أجزائه. فدعا بهذا الدعاء المتضمن الثبات على الإيمان، والذي تَضَمَّنَ أيضاً العصمة من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة. وهل مثل هذا العالم الذي عَلِمَ أحوال هذه الفرق الضالة من المُشَبِّهَة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية ومن نحا نحوهم والمرجئة والخوارج والرافضة وأشباه هؤلاء، هل من عَلِمَ هذا العلم الواسع يخشى على نفسه؟ نعم، من عَلِمْ خَشِيَ وهذا هو الواقع لأنَّ الشيطان حريص ولأن الإنسان ضعيف جداًّ. فلما كان الأمر كذلك كان واجباً على العبد وجوب وسائل أن يحرص على أمرين: 1- الأمر الأول: العلم النافع بالعقيدة الصحيحة والتوحيد بدلائله من الكتاب والسنة، وأن يكون ذلك ظاهراً في قلبه لا شُبْهَةَ عنده فيه مُسْتَحْضِرَاً له، مُرَاجِعَاً له في كل حال، حتى يسلم قلبه من أن يكون فيه فجوة يدخل منها شيطان. 2- الأمر الثاني: لا بُدَّ من إستغاثته بالله وسؤاله لمولاه أن لا يُزيغَ قلبه بعد إذ هداه. هذه مسألة عظيمة، وسؤال جليل، وإنما يَعْرِفُ شدة الخطر من علم حَقَّ الله - عز وجل - وما له من الأسماء والصفات وعلم أثر هذه الأسماء والصفات في ملكوت الله - عز وجل -، فكم تَقَلَّبْ قلب أحد وكم ضَلَّ فلان وخُذِلْ فلان، وكم ضل من إنسان وكم زاغ من قلب إلخ ... فنسأل الله - عز وجل - بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يُثَبِّتَنَا على الإيمان وأن يختم لنا ولوالدين ولأحبابنا به، وأن يعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتَفَرِّقَة والمذاهب الرَّدِيَّة إنه سبحانه جواد كريم. والأهواء المختلفة هذه منها ما هو كفري ومنها ما هو دون ذلك. وإمام الحنفاء ابراهيم عليه السلام دعا بتلك الدعوات الصالحة التي قال فيها {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كًثِراً مِنَ النَّاسْ} [إبراهيم: 35-36] ، فَجَعَلَ الأصنام المُضلة لكثيرٍ من الناس لما يقع في القلوب منها أو من أوليائها من الشبهة، فسأل ربه أن يُجَنِّبَهُ وأن يُجَنِّبَ بنيه عبادة الأصنام. وهذا يدلّ على عظم خوف الخليل إبراهيم عليه السلام من هذا الزَّيْغْ وهو الكامل وهو الخليل وهو المجْتَبَى عند ربه - عز وجل -. ولذلك تحفظون كلمة إبراهيم التيمي، من التابعين رحمه الله عند تفسير هذه الآية كما رواه ابن جرير وغيره، حين تلا هذه الآية قال (ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم) (1) . وهذا يدل على أنَّ الناصح حقاًّ لنفسه وللأُمَّةْ ولأئمة المسلمين وعامّتهم حقاً، من نصح حقاًّ، فإنه يوصيهم بالاهتمام بتوحيد الله - عز وجل - الذي هو حقّ الله على العبيد وبتصفية القلب من أدران العقائد الفاسدة؛ لأنَّهُ بصلاح القلب وبسلامة عقيدته يُبارِكُ الله - جل جلاله - في قليل العمل، فإنَّ في العمل القليل يُبَارَكْ ويزيد ويضاعفه الله - عز وجل - إذا سلِمَ القلب وسلمت العقيدة فإنَّ الله يبارك، أما إذا كان العمل كثيرا والعقيدة فاسدة فإن هذا ليس بشيء.   (1) تفسير الطبري (7/460) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 ومن محاسن كلام أبي الدرداء الذي ذَكَرَهُ شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه "فضل الإسلام": أنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه كان يقول (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يَغْبِنُونَ سَهَرْ الحمقى وصومهم؟ ولمثقالُ ذَرَّةِ من بر مع تقوى ويقين) ، (بِرْ) يعني في الأعمال الظاهرة مع تقوى لله - عز وجل - وخوف ويقين في اعتقاده ويقين فيما ضَمَّهُ قلبه، قال (ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين) (1) . وهذا هو الواقع ومن تَأَمَّلَ الكتاب والسنة وَجَدَ ذلك صحيحاً. فنسأل الله العصمة من الأهواء المختلفة وأن لا يُزيغَ قلوبنا بعد إذ هداها. وهذه الجملة إلى آخره فيها مسائل:   (1) حلية الأولياء (1/211) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 [المسألة الأولى] : عِظَمِ شأن الدعاء، وخاصَّة إذا ذُكِرَ في المذاهب الرَّدِيَّة وذُكِرَ الاعتقاد الحق فإنَّ الواجب على المسلم أن لا يَأمَنْ، بل الواجب عليه أن يخاف ويحذر ويعمل بأسباب الحَذَرْ، وأن يَتَقَرَّبْ إلى الله - عز وجل - بالدعاء العظيم لأنَّ الله - جل جلاله - يجيب من سأله ويُعْطِي من دعاه سبحانه. فهذا الأصل يدخل تحت ما مَرَّ الكلام عليه من منفعة الدعاء وإجابة الله - عز وجل - للدعاء وقضاء الحاجات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 [المسألة الثانية] : ذَكَرَ هنا الثبات على الإيمان، والثبات على الإيمان نوعان: - ثباتٌ على أصله. - وثباتٌ على كماله. والعبد محتاجٌ إلى هذا وهذا، وأهل العلم بالله - عز وجل - يسألون الله سبحانه ويُلِحُّونَ في السؤال أن يُثَبَّتُونَ على كمال الإيمان وأن يُغْفَرَ لهم ما فيهم من نقص. فقوله هنا (أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْإِيمَانِ) يعني على كماله، وكمال الاعتقاد وكمال العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 [المسألة الثالثة] : قوله هنا (وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ) ،ِ الخاتمة من أعظم وسائل النجاة إذا أَحْسَنَهَا الله - عز وجل -. فمن حَسُنَتْ خاتمته فهو إلى الجنة إن شاء الله ومن ساءت خاتمته فهو على خطر. ولهذا جاء في الحديث الصحيح «أنَّ العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة» (1) ، فالخاتمة هي المقصود، أن يُختَم للعبد بما يحب الله - عز وجل - ويرضاه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن حُسْنَ الخاتمة منوطٌ بمعرفتها، يعني إحسان العبد خاتمته منوطٌ بمعرفتها، أن يعرف متى تنتهي حياته حتى يستعد. وإذا كان ذلك محالاً أن يعلم متى سيموت ومتى سينتهي فإنَّ الواجب حينئذ أن يَحْذَرَ صباح مساء وليلاً ونهاراً، أن من سوء الخاتمة. هذا هو عمل الأكياس وعمل الصالحين جعلنا الله - عز وجل - منهم وغَفَرَ لنا ذنوبنا، أنهم يستعدون للخاتمة. الاستعداد للخاتمة من وسائل النجاة، وهما استعدادان: - استعدادٌ في صلاح القلب. - واستعدادٌ في صلاح العمل. والاستعداد في صلاح القلب هو بالعلم النافع الذي يُورِثْ في القلب العلم بالله - عز وجل - ومعرفته وأسمائه وصفاته وبيقين في ذلك. ثم العمل الصالح، يعني يمتثل الأمر ويجتنب ما نَهَى الله عنه، أونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يستغفر من الذنوب والخطايا.   (1) سبق ذكره (223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 [المسألة الرابعة] : عَبَّرَ هنا بالعِصْمَة في قوله (وَيَعْصِمَنَا مِنَ الأهْوَاءِ المُخْتَلِفَةِ) والعِصْمَة كلمة لم يكن لها استعمال شائع عند السلف ولم تَأتِ بهذا المعنى في الكتاب ولا في السنة. لهذا العِصْمَة في الحقيقة تحتاج إلى تفصيل لأنها بهذا المعنى -يعني العِصْمَة من الذنوب، العِصْمَة من البدع-، فيها حق وفيها باطل. وسبب ذلك أنَّ العِصْمَة معناها أن يُعْصَمَ من الذنب، والذنْبُ قد يكون في العقيدة فيكون بدعَةً، وقد يكون في العبادة تقصيراً أو زيادةً فيكون ما بين الإثم في البِدَعْ أو في ترك الواجبات. ولهذا وجب أن تُفسَّر العِصْمَة في هذا الموضع وفي كُلُّ موضعٍ استعملها فيه أهل العلم، أن تُفَسَّرْ بالمعنى الصحيح لأنها مجملة ولا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنَزَّهْ عن جنس الذنب، وقد يكون الذنب ذنب قلب، وقد يكون الذنب ذنب عمل جوارح. والعِصْمَة تُوهَب كما قال هنا (نسأل الله العِصْمَة) لأنَّ العِصْمَة يَهَبُهَا الله - عز وجل -. وإذا كانت معناها عدم الوُقوع في الذنوب المُخِلَّة، فهي إنّما وَهَبَهَا الله - عز وجل - لرسوله صلى الله عليه وسلم، أمّا الأُمَّة فلم تُوهَبْ هذا النوع وهو أنه يُعْصَمُ مُطْلَقَاً من كل ذنب: ذنب اعتقاد ذنب قول أو ذنب عمل. وإذا كانت توهب فالعِصْمَة ليست لله - عز وجل -، أو يقال (الله معصومٌ عن كذا) ، أو كما قال بعضهم (العِصْمَة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم) . فالعِصْمَة لله مُلْكَاً، هو الذي يملكها لكنه لا يوصَفُ بها، يملكها مُلْكْ كما يَمْلِكُ سائر ما في الملكوت من أعيانٍ وغيرها، فهو الذي يُعْطِي العصمة ويهبها لمن شاء من أنبيائه. فإذا كان كذلك تَلَخَّصَ الأمر بأنَّ العِصْمَة الكاملة هي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما من عداه من الأمة فلم يُعطَ العِصْمَة الكاملة، ولا بد أن يقع في الذنب يصيبه. والذنوب كما ذكرنا قسمان: - ذنوب اعتقاد. - وذنوب عمل. @ وذنوب الاعتقاد ليست موجودةً في الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا يَصِحْ أن تقول: عَصَمَ الله الصحابةَ من الخَلَلْ في العقيدة. عَصَمَ الله السلفَ من مجانبة الحق في الاعتقاد. وهذا هو الواقع لأنهم أجمعوا على مسائل التوحيد والعقيدة، والأمة لا تجتمع على ضلالة. @ أما العمل فلم يُعْصَمُوا -يعني الذنوب لم يعصموا لهم ذنوب-، والنبي صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ أبا بكر أن يدعو بقوله (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي) (1) . حتى صغائر الذّنوب ربما حَصَلَتْ من النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يقدح في الرسالة، ولهذا قال الله - عز وجل - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] . فإذاً مقصده هنا من الدعاء هذا (أن يَعْصِمَنَا مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ) يعني أن يَسْلُكَ الله - عز وجل - به سبيل السلف لأنهم عُصِمُوا من أن يَسْلُكُوا الأهْوَاءِ المُخْتَلِفَةِ، والآرَاءِ المُتَفَرِّقَةِ، أو المَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ. فمعنى سؤال العِصْمَة هنا أن يلزم طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين لم تظهر فيهم هذه الأهواء والآراء والمذاهب الردية.   (1) سبق ذكره (369) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 [المسألة الخامسة] : مَثَّلَ بعد ذلك بأمثلةٍ للأهواء والآراء والمذاهب فقال (مِثْلَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، الخ) هذه الفئات يُطْلَقُ عليها أهواء، ويُطْلَقُ عليها فِرَقْ، ويُطْلَقُ عليها أراء، ويُطْلَقُ عليها مذاهب. فيصح أن تقول المعتزلة من الأهواء كما يستعملها السلف أو يعني أئمة السنة في القرون الأولى، وقد يقولون (الجهمية مذهبٌ رَدِي) ، أو (إياك وهذه الأهواء) (1) ،، وهو جَمَعَهَا لاستعمال الأئمة في وقته وما قبله لها. فإذاً المعتزلة أهواء، والجهمية أهواء وآراء ومذاهب. إذا تَبَيَّنَ ذلك فنفصل الكلام في معنى هذه الفِرَقْ: 1- الفرقة الأولى الْمُشَبِّهَةِ: ظهرت فرق شَبَّهَتْ الله - عز وجل - في الصفات بخلقه سواءٌ أكانت صفات الذات أو صفات الأفعال، ويُحْكَى هذا عن طائفة كالجَوَارِبِيِّ ونحوه ويقال لهم المُجَسِّمَة كما عند مقاتل بن سليمان ونحوه. والمقصود بها تشبيه الله - عز وجل - بخلقه، ويريدون بالتشبيه التمثيل، فيقولون: وجه الله كوجه الإنسان، كوجه ابن آدم، ويده كيده، وعيناه كعيني ابن آدم، وأصابعه كأصابعه الخ. ويقولون: إنَّ هذا مقتضى النص، مقتضى النص المشابهة، مقتضى النص المماثلة. وهؤلاء يقال لهم أيضاً المُجَسِّمَة، وقد ذكرت لكم فيما سبق أنَّ كلمة (التشبيه) فيها بحث، وأنَّ الذي جاء في النصوص هو التمثيل، فهم مُجَسِّمَة مُمَثِّلَة مُشَبِّهَة، تصح هذه الاستعمالات جميعها. وثَمَّ قسم ثاني من التشبيه لا يدخل في هذه الفئة أو الطائفة أو المذهب، وهو تشبيه المخلوق بالخالق، وأن يُجعَلْ للإنسان صفات مثل صفات الله - عز وجل -. مثل عيسى عليه السلام جَعَلُوهُ إلهًا وجعلوا له صفات، تُخْتَصُّ به كصفات الله، ومثل الذين عبدوا الأولياء والموتى، جعلوا لهم التَّصَرُّفْ في الربوبية، وجعلوا لبعضهم ربع العالم، ولبعضهم سبع العالم، ولبعضهم جزءًا من أربعين جزءًا من العالم، حتى إنَّ بعضهم أَلَّفْ في أَنَّ في بلدة كذا أربعين من الأولياء الصّالحين هم الذين بيدهم تصريف أمورها من الأموات، وثَمَّ رسائل كثيرة في ذِكْرِ هذا الأمر. وهؤلاء الذين شَبَّهُوا المخلوق بالخالق في التصرف في الربوبية، -يعني في الملك- جعلوه بتفويض الله له نعم، لكنهم جعلوا التَّصَرُّفَ له. وهم على أربع فئات: - منهم من جَعَلَهُ لواحد وهو المُسَمَّى عندهم الغوث الأكبر أو القطب الأعظم أو نحو ذلك. - ومنهم من جَعَلَ التصرف في الأرض بهذا الملكوت لأربعة من الأولياء، ويختلفون في تحديد الأربعة. - ومنهم من جعله لسبعة. - ومنهم من جعله لأربعين. والصوفية الغلاة الذين يَدَّعُونَ هذه الادعاءات الباطلة التي خالفوا بها طريقة السلف أصلاً وفرعاً وسلوكاً، واتَّبَعُوا أهل الضلال والكفر، ألَّفُوا كُتُبَاً كثيرة في هذا الباب في تَصَرُّفِ هؤلاء في الملكوت أو في أرزاق أهل الأرض أو في أحوالها. والكلام حول الفِرَقْ يطول تأخذونه من المطولات. 2- الفئة الثانية المعتزلة: والمعتزلة هم أتباع عمر بن عبيد وواصل بن عطاء اللذيْن كانا من تلامذة الحسن البصري كما هو معلوم، ولما دَخَلُوا في البحث في مسائل الإيمان يعني الأسماء والأحكام، الإيمان والحكم على مرتكب الكبيرة والكلام على الصحابة الذين تقاتلوا، خالف عمرو بن عبيد الحسن، كذلك واصل ابن عطاء فاعْتَزَلَا حلقة الحسن البصري، فسُئِل الحسن البصري عنهم فقال هؤلاء المعتزلة، فبقي الاسم عليهم، فكثر أتْبَاعُهُمَا حتى تَقَعَّدَ مذهبهم وسُمِّيَ بمذهب المعتزلة. فبنوا ذلك بعد الانعزال وتفصيل المذهب والنقاشات وما حَصَلَ من تطوّر فيه، بنوه على أصولٍ خمسة عندهم، وهي المسماة بالأصول الخمسة عند المعتزلة وهي: - التوحيد. - والعدل. - والوعد والوعيد. - والمنزلة بين المنزلتين. - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأُلِّفَتْ فيها المؤلفات لتقعيدها في القرن الثاني الهجري. وهذه الأصول الخمسة جعلوها أُصُولَاً عقلية، دَلَّ عليها العقل، وأما الدليل النقلي أو السمع، فهو تابعٌ لها، ولهذا جعلوا دليلهم في الغيبيات ودليلهم في الأصول الخمسة، جعلوه دليلاً واحداً وهو العقل، هوالحجة والنقل مُفَصِّلٌ له أو تابِعْ أو شاهد كما يزعمون. فهذه الأصول الخمسة تَمَّ تفاصيل لهم فيها تأخذونها من مواطنها. والمعتزلة فئات وفِرَقْ مُخْتَلِفَة، فيه معتزلة البصرة وهم الأوائل، وثَمَّ معتزلة بغداد وهؤلاء هم الذين قَعَّدُوا مذهب الاعتزال وأَلَّفُوا فيه وأجابوا عن الشُبَهِ عليه. وهناك من أَلَّفَ في طبقات المعتزلة وفِرَقْ المعتزلة. والمعتزلة قد يتفقون في المسألة وقد لا يتفقون، ولذلك تجد في بعض المسائل يقال مذهب المعتزلة كذا، لكن إذا بحثت وجد فيه اختلاف، فمن أثبت يكون مصيباً ومن نفى يكون مصيباً باعتبار من نقل عنه، وباعتبار مدارس المعتزلة وفرق أهل الاعتزال.   (1) نهاية الوجه الأول من الشريط الثاني والخمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 فليسوا فرقة واحدة لكن في تفسير الأصول الخمسة وفي أصولها، أصول التوحيد عندهم، أصول العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأصول يتفقون، لكن في التفاصيل يختلفون. 3- الفرقة الثالثة: الجهمية: والجهمية يُنْسَبُونَ إلى جهم بن صفوان الترمذي وكان عالماً فقيهاً، يُنْسَبُ إلى الحنفية في الفقه، ولكنه لشدة اعتنائه بالرأي كان يُناظِرُ ويُكْثِر من المناظرة حتى ناظر طائفة من دُهْرِيَّةِ الهند، الدُّهْرِيَّةْ بضم الدال يُنْسَبُونَ إلى القول بالدهر {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:28] ، يُنْسَبُ إلى الدَّهْرِ، دُهري بضم الدال على غير [اعتياد] كما قاله المرتضى في كتاب تاج العروس وقاله غيره. المقصود ناظره قوم من الدُّهْرِيَّةْ يقال لهم السُّنَّمية في الصفات لأنهم لا يؤمنون بوجود الله أصلاً ويريد أن يقنعهم بوجود الله، فجرى منه معهم مناظرة ذكرتها لكم في مكانٍ آخر، فآل به الأمر، نتيجة المناظرة وتوابعها وما حصل -وقد ذكر أصل القصة البخاري في خلق أفعال العباد-، نتج عن ذلك أنَّهُ نفى الصّفات وعطَّلَ الرب - عز وجل - من صفاته وآمن بالوجود المطلق. فالجهمية في مسائل العقيدة يذهبون في الصفات إلى النَّفْيِ، فينفون عن الله - عز وجل - كلّ الصفات، ويجعلون الصفة الواحدة الموجودة هي صفة الوجود المطلق، ويقولون بِشَرْطِ الإطلاق. وفي الأسماء يثبتون الأسماء كدِلالات على الذات -أسماء أعلام- ويفسِّرُونَهَا بمخلوقاتٍ منفصلة، فيجعلون الكريم هو الذات التي حصل عنها إكرام فلان -يعني يفسرونها بالكرم الذي خلقه الله-، القوي بالقوة التي خلقها الله، العزيز بالعزّة التي خلقها الله يعني في الإنسان، في المخلوق يعني من حيث هو، ويجعلون تفسير الأسماء في القرآن وفي السنة يفسرونها بمخلوقات منفصلة؛ لأنه لا دِلَالَةَ للأسماء على صفة، لأنهم ينفون الصفات، وإنما يجعلونها دالة على علم لا تفسير لها من حيث العلمية لكن تفسيرها من حيث الصّفة بأنها مخلوقات منفصلة. لهذا قال بعض أهل العلم ينفون الأسماء والصفات، الجهمية ينفون الأسماء والصفات، وهذا صحيح باعتبار الحقيقة. وطائفة يقولون لا، لا ينكرون الأسماء باعتبار أنهم يثبتون شيئاً من الأسماء على طريقتهم لأنَّ عندهم الأسماء دلالات على ذات بدون صفة في الاسم، وإنما هو مثل ما تقول مثلاً (ماء سلسبيل) أو تقول في السيف حسام ومهند وسيف إلخ للدلالة على شيء واحد بدون صفة، أما صفة أنه يحكم فلا، أما صفة أنه صُنِعَ في الهند فلا، أما صفة أنه كذا فلا. فهم يجعلونها من جهة الدلالة على الذات واحدة ومن جهة الدلالة على الصفات أنها لا تدل على صفة. ولهذا في الآيات يفسرون الأسماء في الآيات بالمخلوقات المنفصلة، يعني أثر الصفة في المخلوق ويجعلونه مخلوقاً. أما في الإيمان فالجهمية مرجئة، وهم أشد فِرَقْ الإرجاء لأنهم قالوا يكفي في الإيمان المعرفة فقط. ففرعون عندهم مؤمن وإبليس عندهم مؤمن. ولم يكفر فرعون عندهم بعدم الإيمان وإنما بمخالفة الأمر، وإبليس لم يكفر بعدم الإيمان؛ بل بمخالفة الأمر، وهكذا، وهذا القول مشهور عنهم في أنه يَثْبُتُ الإيمان بالمعرفة. وفي القدر هم جبرية يرون أنَّ الإنسان في أفعاله هو كالريشة في مهب الريح لا اختيار له البتة، هو مُجْبَرٌ على كل شيء، وأنه يُفْعَلُ به ولا يَفْعَلُ شيئاً. وفي الغيبيات يُنْكِرُونَ كل ما لا يوافق العقل من أمور الغيب. وفي الآخرة يُنْكِرُونَ دوام الجنة والنار. يقولون الجنة لا تدوم والنار لا تدوم لأنَّ دوام الجنة والنار ظلم، فتفنى الجنة وتفنى النار معاً. بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون بفناء النار والجنة كدار نعيم وعذاب، لكن التَّلَذُّذُ والألم يبقى، فيستمر التلذذ ويستمر الألم ولا تستمر الدار. فيه أقوالٌ مختلفة نسأل الله - عز وجل - السلامة منها ومما جَرَّ إليها. المقصود فيه مباحث ترجعون إليها في مواطنها. 4- الفرقة الرابعة: الجبرية: والجبرية مذهبٌ منسوبٌ إلى القول بالجبر. والجبر هو أنَّ الله أجبر الإنسان المكلف على أفعاله. والجبرية قسمان: - جبرية غلاة. - وجبرية متوسطة أو غير غلاة. @ أما الجبرية الغلاة فهم الجهمية وغلاة الصوفية الذين ينفون أصل الاختيار، ويقولون أنَّ الإنسان كالريشة في مهب الريح. @ وأما الجبرية غير غلاة فهم الذين يُثبتون الجبر باطناً والاختيار ظاهراً، يقولون: هو مجبورٌ في الباطن ومختارٌ في الظاهر، هؤلاء الأشاعرة ومن نحا نحوهم. وقد مَرَّ مَعَنَا البحث في هذه المسألة وأنهم اخترعوا لفظ الكسب وجعلوه مَخْرَجَاً للعلاقة ما بين جبر الباطن واختيار الظاهر مما ابتدعوه وأحدثوه. وذكرت لكم أنَّ الكسب على ثلاثة إطلاقات: فيه كسب عند أهل السنة وكسب عند الجبرية وكسب عند القدرية ترجعون له في مكانه. 5- الفرقة الخامسة: القدرية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 القدرية يُنْسَبُونَ إلى القَدَرْ لا لإثباته ولكن لنفيه، وهي نِسْبَةٌ إلى من لا يُثبت. نَسَبُوهُمْ إلى القَدَرْ لأنهم لا يُثبتونه. والذين ينفون القَدَرْ أقسام متنوعة يجمعهم أنّهم ينفون مرتبةً من مراتب القَدَرْ. وأشهر المسائل التي نُفِيَ فيها القَدَرْ مسألتان: - المسألة الأولى: العلم السابق وقد نفته طائفة. - المسألة الثانية: عموم خلق الله - عز وجل - في الأشياء ومشيئته الشاملة لكل شيء فقد نفته طائفة. @ أما الذين نفوا العلم فهم القدرية الغلاة الذين خرجوا في زمن الصحابة رضوان الله عليهم وردَّ عليهم الصحابة وتبرؤوا منهم، وأخبروا بأنهم ليس لهم في الإيمان ولا في الإسلام نصيب. وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِموا وإن أنكروه كفروا) ؛ لأنهم ينكرون علم الله السابق ويقولون إن الأمر أُنُفْ يعني مُستَأنَفْ، لا يعلم الله الأشياء عندهم إلا بعد وقوعها، لا يعلم الأشياء قبل أن تقع. أعاذنا الله منهم. @ أما القدرية الذين نفوا مرتبة عموم المشيئة وعموم خلق الله للأفعال فهؤلاء طائفة كبيرة، أصَّلَ مذهبهم أهل الاعتزال: المعتزلة، حتى صار عند الكثير أنَّ المراد بالقدرية النفاة: المعتزلة. وفي الحقيقة القدرية لفظٌ يصح إطلاقه على كل من لم يؤمن بالقدر على ما جاء في الكتاب والسنة بِنَفْيٍ لشيء منه. ولهذا يدخل في القدرية من اعترض على القَدَرْ، أو على أفعال الله - عز وجل - أو على الحكمة وقد قال فيه ابن تيمية في تائيته القدرية: وَيُدْعَى خُصُومُ الله يَوْمَ مَعَادِهِم ****** إِلى النَّارِ طُرّاً مَعْشَرَ الْقَدَرِيَةِ يعني يا معشر القدرية هَلُمُّوا إلى النار جميعاً، سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا ****** به الله أو ماروا به للشريعة فجعل نفي شيء من القَدَرْ يَدْخُلُ صاحبه في القَدَرِيَّة، وجعل أيضاً المخاصمة والمجادلة كحال المشركين، القدرية الذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، هؤلاء يدخلون في القدرية لأنهم نفوا حكمة الله - عز وجل - التي هي أساسٌ في القول بالقَدَرِ كما جاء في القرآن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم. ثَمَّ بحوث أخرى أيضاً تُأخذ من كتبهم. قال (وَغَيْرِهم) لأنَّ الفِرَقْ كثيرة والمذاهب الرَّدِيَّةْ والأهواء والآراء مختلفة. وليشمل أيضاً ما ظهر في زمانه وما قبله وما سيظهر أيضاً في الأزمنة الأخرى. فممن لم يذكرهم: الخوارج والشيعة الغلاة والمرجئة الغلاة قد يدخلون مع هؤلاء في شيءٍ من الأقوال. ويدخل أيضاً العقلانيون في ذلك الزمان وما بعده، ويدخل غلاة المتصوفة، ويدخل الذين ابتدعوا طرقاً بين هذا وهذا. لهذا أوصلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اثنتين وسبعين فرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 [المسألة السادسة] : في قول الطحاوي (مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ والجَمَاعَةِ وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) ، قال (خَالَفُوا السُّنَّةَ والجَمَاعَةِ) ، هذا مما يُؤكد لك أنَّ قصده بالثبات على الإيمان والعصمة من الأهواء هي موافقة الجماعة، وهي الجماعة الأولى جماعة الصحابة، وجماعة التابعين الذين لم يُفَرِّقُوا بين ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله؛ بل آمنوا به جميعاً، وحملوا المتشابه على المحكم ولم يبتدعوا ديناً لم يأذن به الله - عز وجل -. فمخالفة السنة والجماعة: - قد تكون مخالفةً كبيرةً جداً توصِلُ صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله كحال الجهمية ومن نحا نحوهم، والمشبهة المجسمة. - وقد تكون المخالفة أقل من ذلك فتوصِلُ صاحبها إلى ما دون الكفر. - وقد تكون بِدَعَاً مُغَلَّظَة وقد تكون بِدَعَاً خفيفة. فكل مخالفة للسنة والجماعة على النحو الذي أوضحنا في معنى السنة والجماعة في مكان سابق، هذا مذهبٌ ردي ولا شك؛ لكن صاحبه يكون ذنبه بقدر ما خالف. فمن خالف السنة والجماعة فإنه لا بد أن يكون حليفاً للضلالة، ولهذا قال بعدها (وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ) . فلا يمكن للإنسان أن يكون مخالفاً للجماعة وعلى مذهبٍ رديٍ في الاعتقاد ولا يقال إنه ضال. الله - عز وجل - وصف المرأة إذا أخطأت أو لم تدرك تمام الحقيقة في الشهادة بأنها تَضِلْ، فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] ، لأنها لم تصل إلى الحق والصواب الواقع، فكيف بحال بهؤلاء فلا شك أنهم ضُلاَّلْ. وأرى أنَّ بعض الناس يستنكف في ذكر بعض مسائل العقائد والتوحيد أن يصف المخالف للسنة والجماعة بأنه ضال؛ بل هو ضال لأنه ضلّ الطريق، وقد يكون ضلاله كبيراً جداً وقد يكون قليلاً لكنه ضلّ السبيل لأنه خالف السنة والجماعة وحالف الضلالة كما ذكر المؤلف رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 [المسألة السابعة] : أعلن المصنف رحمه الله براءته منهم فقال (وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وأَرْدِيَاءُ) ، (ونَحْنُ مِنْهُم بَرَآءٌ أو بَرَاء) ، وهذا هو الواجب على المسلم أن يتبرأ جُمْلَةً وتفصيلا، أن يتبرأ من القول ومن المذاهب الردية ومن أصحابها. لأنَّ هذا عقيدة، لأنَّ ذلك اهتداء بهدي إبراهيم الخليل عليه السلام إذ قال الله - عز وجل - في شأنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ، يعني من المرسلين. {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} ، يعني لأقوامهم. {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] ، فأعلن البراءة منهم ومما عَبَدُوا، يعني من العبادة ومن العابدين، أي من العبادة ومن الذين عُبِدُوا ومن العابدين. وهذا هو الواجب أنَّ المرء يتبرّأ ولا يقول أتبرأ من العمل دون صاحب العمل، فإنَّ هذا لا أصل له؛ بل نتبرّأ من العمل ومن صاحبه الذي عَمِلَ بالبدع والضلالات أو بالشركيات، فلا مكان للتفريق ما بين العمل وبين صاحب العمل. إذا كان كذلك، فهل البراءة من العمل ومن صاحبه هل هي في حكمٍ واحد؟ الجواب أنها ليست في حكمٍ واحد، البراءة من العمل -العمل الكفري الشرك في نفسه- واجبٌ، فمن لم يتبرّأ فإنه لم يُوَحِّد. فهو داخلٌ في معنى الشهادتين -يعني إذا دخلنا في الشرك-. الولاء والبراء في نفس العمل هذا داخلٌ في حقيقة التوحيد، ولاءٌ للتوحيد وبراءٌ من الشرك، ولاءٌ للتوحيد كفعل وعقيدة وبراءٌ من الشرك كفعل وعقيدة. أما موالاة أهل التوحيد والبراءة من أهل الشرك فهي واجبٌ لكن ليس تركها كفراً إلا بشروطٍ وتفاصيل. ولهذا يذكر العلماء في التوحيد وفي غيره أنَّ البراءة متلازمة. البراءة ملازمة لمعنى التّوحيد، لمعنى الشهادة لله - عز وجل - بالوحدانية. فهكذا البراءة من أهل البدع ملازمة للسنة، فكما أنَّ البراءة من الشرك ملازمة لكلمة التوحيد. ليست ملازمة، يعني هي من معنى كلمة التوحيد، فكذلك البراءة من البدع ملازمة للسنة. فلا يُتصوَّرْ من جهة الحق أن يكون موالياً للسنة وهو ليس مُتَبَرِئاً من أهل البدع إلا إذا كان لم يفهم السنة أو أنَّ عنده هوى تفريق. فمن والى السنة فلا بد عليه أنه يتبرأ من البدعة، ومن والى أهل السنة فلا بد أن يتبرأ من أهل البدعة. لكن إذا حصل هذا التَّبَرُؤُ عقيدةً فهل يلزم منه أن يُظْهَر في كل حال؟ لا، إظهاره بحسب المصلحة الشرعية. قد يُظْهَرْ ويكون إعلان للبراءة ظاهراً في التبرؤ من الأشخاص. وقد يُؤَخّر بحسب ظهور السنة وخفائها وما يُنْظَرْ في ذلك من المصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 [المسألة الثامنة] : قال في آخرها (وَبِالله العِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ) ، وذكرنا لكم ما في العِصْمَة من البحث سابقاً وأنَّ الله - عز وجل - لم يعطِ العِصْمَة لأحد بعد الأنبياء، الأنبياء هم المعصومون وأما سائر البشر فهم على خطر في قلوبهم وفي أعمالهم. (وَبِالله َالتَّوْفِيقُ) التوفيق هو الهداية إلى طريق الرشاد والإعانة على سلوك هذا الطريق جملةً وتفصيلاً. رحم الله أبا جعفرٍ الطحاوي رحمةً واسعة وجزاه خيرا، فكم انتفع بكتابه هذا وبعقيدته الناس. ونسأل الله - عز وجل - أن يغفر لنا وله زلَلَنَا وخَطَأَنَا وجدنا وهزلنا. اللهم إنا نعوذ بك أن نُشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك مما لا نعلم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا واغفر لنا ذنوبنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعلنا سالكين لسبيل السلف الصالحين، ومستمسكين بطريق السنة والجماعة. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، وأعنا على ذلك ووفقنا إليه. وكم استفدنا من هذا الكتاب من فوائد، ولا شك أنَّ طالب العلم لا يستغني عن مطالعة المختصرات ومعرفة شروحها مهما ظن أنَّ المسائل واضحة عنده، فَثَمَّ مسائل في هذا الكتاب كما ترون ما مررنا عليها لا في الواسطية ولا في لمعة الاعتقاد، ثَمَّ مسائل جديدة فيه لم تكن في غيره، فطالب العلم بتكراره لقراءة كتب العلم ولشرحها استماعاً أو أداءً فإنه ما بين معلومة يُؤَكِدُهَا ويثبتها، وما بين شيء جديد يستفيده. وفي الختام أرجوا وآمل لي ولكم أن نصبر على طريق العلم لأنه في الحقيقة من أراد نجاة نفسه فإنه لا نجاة إلا بالعلم والعمل الصالح، وأنَّ أعظم ما تكون به النجاة العلم بالتوحيد وبالعقيدة الصحيحة، لأنَّ هذا فيه قساءُ القلب وسلامته من الأهواء والشبهات المضلة. فأنا أوصي نفسي وإياكم بالتأكيد على ذلك ومطالعة هذه الكتب ونشر العلم بحسب ما تستطيعون، يعني المرء ينشره بحسب ما يستطيع في بيته مع زملائه، بل في أي مقام، ينشره بحسب ما يستطيع، والناس محتاجون إلى طلبة العلم أعظم حاجة. والحمد لله أن هيَّأ لكم من العلم النافع ومن سُبُلِ تحصيله وجود العلماء وسهولة الكتب ووفرة الأمن والصحة وعدم الشواغل التي تشغل الإنسان في أموره العامة، يعني في الأمن وما يُشْغِلْ القلوب والعقول ما يهيئ لنا أن نطلب العلم وأن نبذل فيه، فلا ندري ربما يأتي في وقت قد لا يتمكن الإنسان من أن يطلبه على هذا الوجه، أو أن يتعلم على هذا الوجه. لهذا احرصوا واغتنموا فراغكم قبل شغلكم، وتفقهوا قبل أن تسوّدوا. وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 الأسئلة : س1/ لو أنَّ طالب العلم المستجد قرأ في هذه العقيدة وشرع فيها قبل الشروع في طلب العلم أجملت الاعتقاد العام؟ ج/ لا بأس، الواحد يحْضُر ما استطاع ويُكمل، يُكمل فيما فات. س2/ هل من صفات الله تعالى الجَنْبْ لقوله تعالى {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ؟، وهل من صفات الله التردد لحديث «ما ترددت في شيء أنا فاعله» ؟ ج/ هذه مما اختلف فيها من أهل السنة، هل يُطْلَقُ القول بإثباتها أم لا؟ والواجب هو الإيمان بظاهر الكلام، وهل الظاهر هنا في إطلاق صفة الجنب هل هو الظاهر الصفة؟ أم الظاهر غير ذلك؟ الراجح أنَّ الظاهر غير ذلك وأنه ليس المقصود من قوله: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أنَّ المقصود الجنب الذي هو الجنب، لأنَّ العرب تستعمل هذه الكلمة وتريد بها الجَنَاب لا الجَنْبْ يعني الجهة، إنما تقصد الجناب المعنوي. {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} يعني في حق الله، في ما يستحق الله - عز وجل -. فمن أهل العلم من أثبتها لكن ليس ذلك هو ظاهر الكلام. أما صفة التردد فهي تُثْبَتُ لله - عز وجل - على ما جاء، لكن تَرَدُّدُهُ بحق، وتردده ليس تَعَارُضَاً بين علمٍ وجهل أو بين علمٍ بالعاقبة وعدم علمٍ بالعاقبة، وإنما هو تردُّدٌ فيما فيه مصلحة العبد، هل يقبض نفس العبد أم لا يقبض نفسه، وهذا تردّدٌ فيه رحمة بالعبد، وفيه إحسان إليه ومحبة لعبده المؤمن وليس من جهة التردد المذموم الذي هو عدم الحكمة أو عدم العلم بالعواقب. يعني تردد فلان في كذا، صفة مذمومة أنه يتردّد، إذا كان تردده أنه ما يعلم، أتردد والله أفعل كذا أو أروح ولا ما أروح، لأنه إما عنده ضعف في نفسه أو أنه يجهل العاقبة، فتردد أتزوج ولا ما أتزوج، أشتري أم لا أشتري لأنه ما يدري هل فيه مصلحة له، أم ليس فيه مصلحة، هذا هو التردد الذي هو صفة نقص في من اتصف بها، ترددٌ ناتجٌ عن عدم العلم بالعاقبة، أما التردد الذي ورد في هذا الحديث هو تردد بين إرادتين لأجل محبة العبد «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدٍ مؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له من ذلك» ، وهو تردد لا لأجل عدم العلم ولكن لأجل إكرام العبد المؤمن ومحبة الرب - جل جلاله - لعبده المؤمن. فهو إذاً ترددٌ بحق وصفة كمال لا صفة نقص فيُثبَتُ على ما جاء في هذا الحديث مُقَيَّدَة لا مطلقة. س3/ يوجد من أعلام أهل السنة قديماً وحديثاً من خالف عقيدة أهل السنة وطريقة السلف في بعض الأقوال وليس كلها فما موقفنا منها؟ ج/ ذكرت أنا عدة مرات الجواب يعني على مثل هذا، وهو أنَّ مخالفة من خالف على قسمين: 1- القسم الأول: مخالفة في الأصول، الأصول العامة ما هي؟ مثلاً الأصل في الغيبيات الإثبات، الأصل في صفات الله - عز وجل - الإثبات وعدم تجاوز القرآن والحديث، الأصل في الإيمان هو أنه قول وعمل، وقول اللسان واعتقاد الجنان وعمل الجوارح والأركان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. في مسائل القدر، إثبات القدر على المراتب التي جاءت وأن الله - عز وجل - خلق كل شيء بقدر وأنه خالق الأفعال إلخ. هذه الأصول العامة التي يتفق عليها، هذه الأصول التي من خالفها فهو ليس من أهل السنة، الذي خالف في أصل من الأصول ليس من أهل السنة والجماعة على التمام. 2- القسم الثاني: أن يتفق معهم في الأصول لكن يخالف في بعض التفصيلات، يعني يؤمن بأنَّ الصفات لا نتجاوز القرآن والحديث لكن يظهر له فيه صفة أنها غير مثبتة، أنها منفية، فهذه ننظر في الصفة هل السلف متفقون عليها، أو هل الأئمة نصوا عليها واتفقوا وهذا خالف، أم أنه هو خالف ولم ينص عليها أحد من قبله، تختلف. يعني مثلاً من قال في مسألة الخلو من العرش هذه معروفة في النزول: هنا هذه المسألة من قال يخلو من العرش قول، لكنه هو موافق على أنَّ الله - عز وجل - مستوٍ على العرش، كما يليق بجلاله وعظمته ومثبت لنزول الله - عز وجل -، لكن جاء بقول لم يُسبق إليه وهذا يكون مما لا يَنْفِيهِ من أهل السنة ولكن يُغَلَّطْ في هذه الجهة. مثل نفي ابن خزيمة، صورة الرب - جل جلاله -، يعني أنها على صورة، صورة آدم أنها على صورة الرحمان، نفي إثبات الصورة، وتفسير الصورة بشيء آخر. مثل ابن قتيبة لما نفى النزول، يعني حقيقة النزول وفسره بنزول الأمر، أو نزول الرحمة أو، هذه أغلاط لكنهم موافقون في الأصل، فانتبه إلى هذا، كذلك في الإيمان بالقدر، فمن وافق في الأصول فهو من أهل السنة فإذا غلط في التطبيق فيكون مخطئ فيه. الصفات، أن لا تُؤَوَّلْ الصفات، إذا قال: لا شك الصفات لله - عز وجل - تُثْبَتْ على ظاهرها بلا تأويل، ويُطبِّقْ هذه في كل الصفات، جاء في صفة أوَّلْ. مثل ما فَعَلَ الشوكاني في بعض المسائل، تجد أنه يُثبت ويجيء في صفة أو صفتين يتأول، لماذا تأولها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 لأنه لا يعرف حقيقةً كلام السلف فيها، أشكلت عليه، ظنَّ أن تأويلها هو الموافق لقول السلف، نَظَرْ في بعض الكتب وجد كلام بعض أهل التفسير ظنه أنه موافق لأهل السلف ولقول أهل السلف وهكذا. المقصود من هذا أنَّ موافقة الأصول بها يكون المرء من أهل السنة، إذا أخطأ في مسألة أو في مسألتين في التطبيق لا ينفي أن يكون من أهل السنة فيقال أخطأ في هذا ولا حرج، يعني لا إخراج له من ذلك، أخطأ ويُناصح ويُبَيَن له أو يُبَيَن ما في كلامه من خطأ. (1) : [[الشريط الثالث والخمسون]] : س4/ يقول في قوله تعالى {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ، قال هل هي هنا باعتبار الإضافة أم هي غير ما يُراد فيما نحن بصدده، يعني يقصد بحث العصمة اللي مرّ معنا؟ ? ج/هذه العصمة مقيدة، يعني العصمة من الغرق، وهي ظاهرة، لا عاصم من الغرق هذا اليوم إلا من رحمه الله - عز وجل -، فهي غير داخلة في العصمة العامة. س5/ أهل المذاهب الردية كالمعتزلة والأشاعرة والجبرية والقدريّة أين يوجدون في هذا الزمان؟ ج/ في كلّ مكان يوجدون، المعتزلة والأشاعرة والجبرية والقدريّة، يوجدون في كل مكان، في كل مكان، وأيضاً كتبهم في كل مكان، ربما يَدُسُّون، يعني الواحد مثلا يقرأ كتاب أو تعليق ويجد أنه أدخلوا فيه بعض هذه الكلمات. س6/ ما حال من يقول إنَّ العلماء لا يفهمون الاقتصاد وبالتالي لا يستطيعون إيجاد واستنباط الأحكام فيه؟ ج/ العلماء لا يُشترطُ فيهم أن يفهموا كل ما يجري في العالم من أمورٍ حادثة حالة وجودها أو حصولها. يعني جاءت مسألة في العالم اقتصادية، تَفْتَرِضْ أَنَّ العالم يفهمها مباشرة؟ أصلاً حتى بعض المتخصصين لا يفهم الشيء في حقيقته بسرعة. يعني مثلاً الآن عندك مسألة البطاقات هذه: بطاقات الخصم أو بطاقات الائتمان أو أنواع البطاقات هذه الموجودة، هذه حقيقتها يجيء واحد يقول مفهومة، هو طبعاً يفهم استعمالُهُ هو لها، لكن هل يفهم حقيقة ما يجري في هذه الشركات؟ قد ما يفهم، الشركات هذه كيف تتكوّن وكيف تخصم وفعلاً ما الذي يحصل؟، وهل ما يحصل في كل بلد ما يحصل في كل بلد ما أو يحصل في كل بلد، وفعل الشركات العظمى، يعني مثلاً إذا أخذت فيزا في شركة، هي تصدر عدد أنواع من القروض إلخ، هل هي تخصم من البنك أو تخصم من البائع؟، وكيف تسدّد وهل تُجْلِسْ الأموال عندها فترة أو ما تُجْلِسْ، وصفة المشتري، هل صفته حين اشترى هل الشركة ضامنة أو هي حوالة؟؛ يعني هنا الآن تكييف المسألة، أحياناً تجيء الصورة تكون واضحة في صورة معيّنة، لكن تكييف المسألة فقهياً يُشْكِلْ، تكييف المسألة فقهياً. طبعاً العلماء يتباينون في مثل التكييف لكن شرح الصورة تُفْهَمْ الصورة. الآن النقد مثلاً، النقد، وتغطية النقد، وكيف يُغَطَّى النقد وكيف تصدر العملات، كيف يكون؟ هذا لا شك أنه يختلف. يعني مثلاً بلد اقترضت فيها، لنفرض مثلاً -مع اعتذاري للإخوة السودانيين-، لنفرض السودان اقترضت من واحد عشرة آلاف دينار سوداني قبل عشر سنين، وجاء الآن بيردها، إذا يردها الآن عشرة آلاف سوداني كيف تمثل؟ لا تمثل، لا تمثل قيمة عشرة آلاف دينار سوداني اللي كانت قبل عشر سنين، ممكن ما تمثّل 10% منها، الآن هل يرد العدد أو يرد ما يساوي القوة الشرائية له؟ فيُطْلَبْ أنه يُعَادَلْ هذا بهذه. هذه مسائل لها تعلق بفهم حقيقة الأمر، كيف يمشي، فيه من يقول لا يرد العدد هذا قرض، والقرض إحسان والعشرة آلاف هي العشرة آلاف. طيب لما أنا سلَّفتَهُ العشرة آلاف قبل عشر سنين، كان راتبه هو، كان راتبه خسمائة دينار والآن راتبه هو عشرين ألف دينار، كيف يعني يكون؟ يتضاعف راتبه أربعين ضعف؟ ما يكون، الآن الدينار السوداني بكم يا أخ صلاح؟ كم الدينار السوداني؟ (مجيب من الحاضرين) قبل عشر سنوات كان يساوي 3 دولارات) ، يعني حوالي إحدى عشر ريال (والآن الدولار بمائتين) مئتين، يعني كم يطلع؟ ميتين؟ الدولار بمائتين، يعني أنا بعد مثالي كان متساهل، إذاً المسألة تحتاج إلى يعني معرفة بحركات كثيرة وأشياء. الأسهم الآن العالمية وما يدخل فيه والبورصة و، يعني فيه قضايا كثيرة لا يُشترط في العالم أن يفهمها فوراً، ويعطيك تفاصيلها فورا وإلا ما يكون عالم، ليس صحيحا، أيضاً فهمها على الدقة مشكل. والعالم لا تشترط فيه أنه متجرئ أنه دائماً يُبَيِّنْ، أحياناً يتورّع حفظاً لدينه، مو ملزم، هذا أمر الله، مو ملزم بأنه يبين للناس ما لم يصل فيه إلى اجتهادٍ واضح. إذا قال أنا والله ما وصلت فيه إلى اجتهاد واضح، هل يلزمه أن يبين ما لم يصل فيه إلى حق عنده؟ ما يلزمه، هو يكون فهم المسألة لكن أنا والله ما أتحمل ذمة الناس، تأتيه أشياء ديانية، يعني من جهة التدين تمنعه، فالأصل طبعاً في هذا هو حسن الظن بالعلماء وأنهم يفهمون، لكن يفهمون ما يُعرَض عليهم لكن يعترض الأمور أشياء قد تسبب التأخير. س7/ متى يكون الرياء شركاً أكبر؟ ج/يكون إذا كان كرياء المنافقين يُبطن الكُفر ويُظهر الإسلام. س8/ ما حكم قول المسلم للكافر كلمة "سيد" أو "السيد"؟ ج/ كلمة "سيد" لا يجوز أن تُطلق على كافر ولا على منافق لأنه لا سيادة لهما؛ لكن طبعاً هذه لأن دلالتها بالعربية سيادة، لكن أحياناً تكون بالإنجليزية مثلاً أو بلغة أخرى تُتَرجم بالعربية على أنها "سيد" لكن ليست ترجمتها صحيحة، يعني مثلاً كلمة "ميستر"، "ميستر" تُتَرجم سيد، وهو في الواقع ليس معناها، يعني السيادة معناها التصرف والملك الخ، لكن كلمة "ميستر" بالإنجليزي لا تعني السيادة والتصرف ونحو ذلك، هي أقرب إليها كلمة "لورد" يعني اللي هو الربوبية أو السيادة، أما كلمة "ميستر" يعني مثل ما تقول إيش؟ نعم؟ يعني المحترم أو وجيه أو، يعني كلمة تقدير. لكن تُرجمت في بعض البلاد المجاورة على أنها كلمة مجاملة، ويضعون بدلها كلمة سيد لأنها مستعملة عندهم، فإذاً إطلاقها باللغة العربية سيد، لا يصلح لكن لو قيل مثلاً "ميستر" فلان هذه لا تدخل في معنى السيادة في اللغة العربية. نكتفي بهذا القدر ونلتقي نحن وإياكم على خيرٍ وهدى، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ******************************************** هذا ختام الشرح المبارك النافع للعقيدة الطحاوية للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ -حفظه الله-. وقد انتهى منه يوم السبت بعد العشاء الموافق 20/11/1420هـ. جزا الله الشيخ ومن قام بتسجيل هذا الشرح ومن قام بتفريغه، ومن قام بتنسيقه عن الموحدين خير الجزاء.   (1) نهاية الشريط الثاني والخمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758