الكتاب: قصص الأنبياء المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ) تحقيق: مصطفى عبد الواحد الناشر: مطبعة دار التأليف - القاهرة الطبعة: الأولى، 1388 هـ - 1968 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- قصص الأنبياء ابن كثير الكتاب: قصص الأنبياء المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ) تحقيق: مصطفى عبد الواحد الناشر: مطبعة دار التأليف - القاهرة الطبعة: الأولى، 1388 هـ - 1968 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَقْدِيم الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب. وَبعد. فَهَذَا كتاب " قصَص الانبياء " للامام ابْن كثير أقدمه لامتنا الاسلامية، راجيا أَن يكون فِي نشره فِي هَذِه الصُّورَة المحققة مَا ييسر النَّفْع وَمَا يقدم هَذَا الْجَانِب من ترائنا الاسلامي فِي صُورَة دانية إِلَى الْكَمَال قريبَة إِلَى الْحَقِيقَة دقيقة فِي الْعرض ممحصة الرِّوَايَات والاخبار. وَهَذَا الْقسم هُوَ جَانب قصَص الانبياء من كتاب الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير، وَقد رَأَيْت من الْخَيْر نشره مُسْتقِلّا، بعد أَن نشرت لَهُ من قبل قسم السِّيرَة النَّبَوِيَّة وشمائل الرَّسُول، بعد أَن تبينت من كَلَام ابْن كثير فِي تَفْسِيره وَمن كتب التراجم أَنه كَانَ لِابْنِ كثير سيرة مُطَوَّلَة، ورجحت أَنه ضمنهَا فِي كِتَابه " الْبِدَايَة " الذى أَلفه فِي آخر عمره. وَقد رَأَيْت أَن قصَص الانبياء مَوْضُوع جدير بِأَن يفرد بِالْعرضِ وَأَن ينَال من الْعِنَايَة مَا نالته السِّيرَة النَّبَوِيَّة، إِذْ أَن تَارِيخ النُّبُوَّة حلقات مُتَّصِلَة لابد من اكتمالها وَمن وضوح صورتهَا فِي الاذهان للتقرر الْحَقِيقَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الانسانية والتاريخية ولتتجلى الْحِكْمَة الَّتِى قصد إِلَيْهَا الْقُرْآن الْكَرِيم من اهتمامه بإيراد هَذَا الْقَصَص فِي مَوضِع بارز يهدف إِلَى وضوح الْعبْرَة وَضرب الْمثل وإيجاز حَرَكَة التَّارِيخ الانساني وَبَيَان سنته من خلال عرضه لقصص الانبياء. وَقد كَانَ لِابْنِ كثير فِي قصَص الانبياء بلَاء مشكور ومنهج حَكِيم اسْتَطَاعَ بِهِ أَن يقرب الصُّورَة القرآنية لقصص الانبياء، وَأَن يعكس التَّصَوُّر الاسلامي لتاريخ النُّبُوَّة وحياة الْمُرْسلين. وَقبل أَن نتحدث عَن الْكتاب ومنهجه نوجز القَوْل فِي مُؤَلفه ونلم بشئ من أخباره. ابْن كثير: (1) هُوَ أَبُو الْفِدَاء عماد الدّين إِسْمَاعِيل، بن عمر، بن كثير، بن ضوء، ابْن كثير، بن زرع، القرشى الشَّافِعِي. كَانَ أَصله من الْبَصْرَة، وَلكنه نَشأ بِدِمَشْق وتربى بهَا. ولد بمجدل الْقرْيَة، من أَعمال مَدِينَة بصرى شَرْقي دشق سنة سَبْعمِائة أَو إِحْدَى وَسَبْعمائة. وَتوفى بعد أَن فقد بَصَره فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَسَبْعمائة، عَن أَربع وَسبعين سنة.   (1) تَرْجَمته فِي شذرات الذَّهَب 6 / 231، والدرر الكامنة 1 / 374 وذيل تذكرة الْحفاظ للحسيني 58 ; وذيل الطَّبَقَات للسيوطي. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 نشأته: كَانَ أَبوهُ خَطِيبًا لقريته، وَبعد مولد ابْن كثير بِأَرْبَع سِنِين توفى وَالِده، فرباه أَخُوهُ الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب. وعَلى هَذَا الاخ تلقى ابْن كثير علومه فِي مبدأ أمره. ثمَّ انْتقل إِلَى دمشق سنة 706 فِي الْخَامِسَة من عمره. شُيُوخه: كَانَ ابْن كثير فِي دراسته متجها إِلَى الققه والْحَدِيث وعلوم السّنة، إِذْ كَانَت الوجهة الْغَالِبَة فِي عصره، وشيوخه فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرُونَ. فقد أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الفزارى الشهير بِابْن الفركاح الْمُتَوفَّى سنة 729. وَسمع بِدِمَشْق من عِيسَى بن الْمطعم، وَمن أَحْمد بن أَبى طَالب المعمر الشهير بِابْن الشّحْنَة، الْمُتَوفَّى سنة 730، وَمن الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر وَابْن الشِّيرَازِيّ وَإِسْحَق بن الْآمِدِيّ وَمُحَمّد بن زراد. ولازم الشَّيْخ جمال يُوسُف بن المزكى المزى صَاحب تَهْذِيب الْكَمَال الْمُتَوفَّى سنة 742. وَقد انْتفع بِهِ ابْن كثير وَتخرج بِهِ وَتزَوج بابنته. كَمَا قَرَأَ كثيرا على شيخ الاسلام تقى الدّين ابْن تَيْمِية الْمُتَوفَّى سنة 728، ولازمه وأحبه وتأثر بِرَأْيهِ، وفى ذَلِك يَقُول ابْن الْعِمَاد: " كَانَت لَهُ خُصُوصِيَّة بِابْن تَيْمِية ومناضلة عَنهُ، وَاتِّبَاع لَهُ فِي كثير من آرائه، وَكَانَ يُفْتى بِرَأْيهِ فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق وامتحن بِسَبَب ذَلِك وأوذى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وَيَقُول ابْن حجر: " وَأخذ عَن ابْن تَيْمِية ففتن بحبه وامتحن بِسَبَبِهِ " كَمَا قَرَأَ على الشَّيْخ الْحَافِظ المؤرخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن قايماز الْمُتَوفَّى سنة 748. وَأَجَازَ لَهُ من مصر أَبُو مُوسَى القرافى والحسيني وَأَبُو الْفَتْح الدبوسي، وعَلى بن عمر الوانى ومُوسَى الختنى وَغير وَاحِد. وَقد ولى ابْن كثير مشيخة أم الصَّالح والتنكزية بعد إِمَامه الذَّهَبِيّ، كَمَا ذكره الذَّهَبِيّ فِي مسودة طَبَقَات الْحفاظ (1) . عصره: عَاشَ ابْن كثير فِي الْقرن الثَّامِن الهجرى من مطلعه إِلَى قرب منتهاه، فِي ظلّ دولة المماليك الَّتِى كَانَت تبسط سلطانها على مصر وَالشَّام. وَقد شهد عصره نكبات شَدِيدَة من هجوم الافرنج والتتار، وَكَثْرَة الاوبئة والمجاعات وتقلب السلطة بَين أُمَرَاء المماليك الَّذين كَانَ بَعضهم يوالى الانتقاض على بعض. وَلَكِن تِلْكَ الحقبة كَانَ يسودها نشاط علمي تمثل فِي كَثْرَة الْمدَارِس واتساع نطاق التَّعْلِيم والتأليف، وَلذَلِك أَسبَاب مَذْكُورَة فِي كتب التَّارِيخ من تنافس الامراء ورصد الاوقاف على الْعلمَاء وَالطَّلَاق واتصال الافطار الاسلامية بَعْضهَا بِبَعْض، وَغير ذَلِك. وَقد كَانَ ذَلِك النشاط محصورا فِي دَائِرَة ضيقَة من الِاتِّبَاع والتقليد   (1) ذيل تذكرة الْحفاظ للحسيني 58. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فاهتم الْعلمَاء بالتلخيص والاختصار أَو الشَّرْح اللفظى والتقرير. كَذَلِك انْصَرف التَّعْلِيم فِي جملَته إِلَى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَمَا يتَّصل بهَا. ويبدو تأثر ابْن كثير باتجاهات عصره فِي انْصِرَافه إِلَى عُلُوم الْقُرْآن وَالسّنة وَالْفِقْه أَو الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة بِوَجْه عَام، ففى بعض مؤلفاته اخْتِصَار لكتب الافدمين وإدماج لبعضها فِي بعض وَتَعْلِيق عَلَيْهَا، كَمَا سيتضح ذَلِك من النّظر فِي كتبه الْبَاقِيَة. غير أَن ابْن كثيرا كَانَ إِمَامًا مجددا فِي جَوَانِب أُخْرَى من تأليفه، فَهُوَ فِي التَّفْسِير إِمَام وَصَاحب مدرسة ينفر من الاسرائيليات والاخبار الْوَاهِيَة، ويضيق بالتفلسف وإقحام الرأى فِي كتاب الله ويؤثر مَنْهَج تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ، ثمَّ بِالْحَدِيثِ والاثر. وَيرجع جَانب التَّجْدِيد فِيهِ إِلَى صلته بِابْن تَيْمِية، وحبه لَهُ وتأثره بآرائه، فقد كَانَ ابْن كثير كأستاذه ابْن تَيْمِية بَعيدا عَن الخرافات حَرِيصًا على الرُّجُوع إِلَى السّنة، يعْتَمد على التَّحْقِيق والتدقيق بوسيلته العلمية الَّتِى يملكهَا، وهى نقد الاسانيد وتمحيص الاخبار. مَنْزِلَته وآراء الْعلمَاء فِيهِ: احتل ابْن كثير منزلَة عالية فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفَتْوَى، يَقُول عَنهُ الذَّهَبِيّ: " الامام الْمُفْتى الْمُحدث البارع، فَقِيه ومفسر نقال وَله تصانيف مفيدة ". وَيَقُول عَنهُ ابْن حجر: " اشْتغل بِالْحَدِيثِ مطالعة فِي متونه وَرِجَاله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وَكَانَ كثير الاستحضار حسن المفاكهة سَارَتْ تصانيفه فِي حَيَاته وانتفع النَّاس بهَا بعد وَفَاته ". وَيَقُول عَنهُ ابْن تغرى بردى: " لَازم الِاشْتِغَال ودأب وَحصل وَكتب، وبرع فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَجمع وصنف، ودرس وَحدث وَألف، وَكَانَ لَهُ اطلَاع عَظِيم فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والعربية وَغير ذَلِك، وَأفْتى ودرس إِلَى أَن توفى ". وَقد اشْتهر ابْن كثير بالضبط والتحرى وَالِاسْتِقْصَاء، وانتهت إِلَيْهِ فِي عصره الرياسة فِي التَّارِيخ والْحَدِيث وَالتَّفْسِير. يَقُول عَنهُ ابْن حجى أحد تلامذته: " أحفظ من أدركناه لمتون الاحاديث ورجالها، وأعرفهم بجرحها وصحيحها وسقيمها، وَكَانَ أقرانه وشيوخه يعترفون لَهُ بذلك، وَمَا أعرف أَنى اجْتمعت بِهِ على كَثْرَة ترددي إِلَيْهِ إِلَّا واستفدت مِنْهُ " ويصفه ابْن الْعِمَاد الحنبلى فَيَقُول: " كَانَ كثير الاستحضار قَلِيل النسْيَان، جيد الْفَهم، يُشَارك فِي الْعَرَبيَّة وينظم نظما وسطا. قَالَ فِيهِ ابْن حبيب: سمع وَجمع وصنف، وأطرب الاسماع بالفتوى وشنف، وَحدث وَأفَاد، وطارت أوراق فَتَاوِيهِ إِلَى الْبِلَاد، واشتهر بالضبط والتحرير " وَيَقُول عَنهُ ابْن حجر: " وَلم يكن على طَرِيق الْمُحدثين فِي تَحْصِيل العوالي وتمييز العالي من النارل، وَنَحْو ذَلِك من فنونهم، وَإِنَّمَا هُوَ من مُحدث الْفُقَهَاء ". وَلَكِن السُّيُوطِيّ يحيب على كَلَام ابْن حجر بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 " الْعُمْدَة فِي علم الحَدِيث على معرفَة صَحِيح الحَدِيث وسقيمه وَعلله وَاخْتِلَاف طرقه وَرِجَاله جرحا وتعديلا، وَأما العالي النَّازِل وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ من الفضلات، لَا من الاصول المهمة ". شعره وأسلوبه: كَانَ ابْن كثير مشاركا فِي الْعَرَبيَّة، وَكَانَ - كَمَا قَالَ ابْن الْعِمَاد - ينظم نظما وسطا، وَلَا يذكر لَهُ إِلَّا الْقَلِيل من النّظم مثل قَوْله: تمر بِنَا الايام تترى وَإِنَّمَا * نساق إِلَى الْآجَال وَالْعين تنظر فَلَا عَائِد ذَاك الشَّبَاب الذى مضى * وَلَا زائل هَذَا المشيب المكدر وعَلى كل فَهُوَ لم يشتعر بقول الشّعْر. وَقد كَانَت ثقافته الادبية جَيِّدَة، بِالنّظرِ إِلَى فَقِيه مُفَسّر مُحدث مثله، وَكَانَ يسير فِي أسلوبه على مُقْتَضى عصره، من إِيثَار السجع والميل إِلَى المحسنات، وأسلوبه فِي التَّفْسِير قوى متناسب. كتبه: اشْتغل ابْن كثير بالتأليف والتصنيف، وَأكْثر كتبه فِي الحَدِيث وعلومه، ومؤلفاته مَعْدُودَة، وأهمها: 1 - تَفْسِير الْقُرْآن الْكَرِيم. الذى قَالَ فِيهِ السُّيُوطِيّ: " لم يؤلف على نمطه مثله " وَهُوَ يعْتَمد على التَّفْسِير بالراوية، فيفسر الْقُرْآن ثمَّ بالاحاديث المشتهرة يَسُوقهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بأسانيدها، ثمَّ ينْقد الاسانيد وَيحكم عَلَيْهَا، ثمَّ يذكر الْآثَار المروية عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَهُوَ مطبوع مَشْهُور. 2 - الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة فِي التَّارِيخ. وَهُوَ أَيْضا مطبوع مَشْهُور، وَإِن كَانَت طبعته غير موثقة وَلَا مصححة. وَهُوَ مرجع دَقِيق لَا يزَال عَلَيْهِ التعويل، قَالَ عَنهُ ابْن تغرى بردى: " وَهُوَ فِي غَايَة الْجَوْدَة ". 3 - اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث لِابْنِ الصّلاح. وَهُوَ كتاب نَافِع أضَاف فِيهِ ابْن كثير فَوَائِد كَثِيرَة ورتبه وَاخْتَصَرَهُ وَهُوَ مطبوع من تعلقات للمرحوم الشَّيْخ أَحْمد شَاكر باسم " الْبَاعِث الحثيث ". 4 - مُخْتَصر كتاب " الْمدْخل إِلَى كتاب السّنَن " للبيهقي ذكره فِي مُقَدّمَة اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث. وَهُوَ مخطوط. 5 - رِسَالَة فِي الْجِهَاد. مطبوعة. 6 - التَّكْمِيل فِي معرفَة " الثِّقَات والضعفاء والمجاهيل " جمع فِيهِ كتابي " تَهْذِيب الْكَمَال " للمزى و " ميزَان الِاعْتِدَال " للذهبي. وَزَاد عَلَيْهِمَا زيادات مفيدة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل. وَهُوَ مخطوط. 7 - " الْهدى وَالسّنَن فِي أَحَادِيث المسانيد وَالسّنَن " وَهُوَ الْمَعْرُوف بِجَامِع المسانيد، جمع فِيهِ بَين مُسْند أَحْمد وَالْبَزَّار وأبى يعلى وَابْن أبي شيبَة مَعَ الْكتب السِّتَّة: الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الاربعة، ورتبه على أَبْوَاب. وَهُوَ مخطوط. 8 - مُسْند الشَّيْخَيْنِ أَبى بكر وَعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وَفِيه - كَمَا قَالَ ابْن كثير (1) - ذكر كَيْفيَّة إِسْلَام أبي بكر وَأورد فضائله وشمائله وأتبع ذَلِك بسيرة الْفَارُوق رضى الله عَنهُ، وَأورد مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَا رَوَى عَنهُ من الآثاو والاحكام والفتاوى، فَبلغ ذَلِك ثَلَاث مجلدات. وَهُوَ مخطوط لَا نَدْرِي مَكَانَهُ! 9 - السِّيرَة النَّبَوِيَّة، مُطَوَّلَة ومختصرة، ذكرهَا فِي تَفْسِير سُورَة الاحزاب، فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق (2) . 10 - طَبَقَات الشَّافِعِيَّة. مُجَلد وسط، وَمَعَهُ مَنَاقِب الشَّافِعِي. مخطوط 11 - تَخْرِيج أَحَادِيث أَدِلَّة التَّنْبِيه فِي فقه الشَّافِعِيَّة. 12 - وَخرج أَحَادِيث مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب. 13 - كتاب الْمُقدمَات، ذكره فِي اخْتِصَار مُقَدّمَة ابْن الصّلاح وأحال عَلَيْهِ. 14 - وَقد ذكر ابْن حجر أَن ابْن كثير شرع فِي شرح للْبُخَارِيّ وَلم يكمله. 15 - وَشرح فِي كتاب كَبِير فِي الاحكام لم يكمل وصل فِيهِ إِلَى الْحَج وفى هَذِه الْكتب الْمعرفَة لنا من تراث ابْن كثير يظْهر اتجاهه فِي اهتمامه بِالسنةِ وعلومها، وتغلب عَلَيْهِ روح عصره فِي مختصراته وشروحه وَيظْهر ابتكاره فِي تَفْسِيره لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم وفى منهجه فِي تَارِيخه الْفَذ: " الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة ".   (1) السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير 1 / 433. (2) قُمْت بنشرها فِي أَرْبَعَة مجلدات، عَن النّسخ المحفوظة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة مطبعة عِيسَى الْحلَبِي سنة 1966. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وَقد شاع الِانْتِفَاع بِالْقدرِ الْقَلِيل الذى عرف طَرِيقه إِلَى النَّاس من كتب هَذَا الامام، وبقى مِنْهَا قدر كَبِير لَا يهتدى إِلَى مَكَانَهُ وَلَا يعرف طَرِيقه إِلَى أيدى النَّاس. وَقد كَانَ علينا أَن نولي كتب هَذَا الامام الْعَظِيم مَا يسْتَحق من اهتمام وَأَن نيسر للنَّاس الِانْتِفَاع بهَا، لنودى واجبنا نَحْو تراثنا وتاريخنا ولنصل ماضينا بحاضرنا، وَلَا نَدع مصابيح الْهِدَايَة تنطفئ وأمتنا أحْوج مَا تكون إِلَى مَا فِيهَا من ضِيَاء. قصَص الانبياء: وَكِتَابنَا هَذَا الذى نقدمه، هُوَ جَانب " قصَص الانبياء " من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير، آثرت نشره محققا، لاستقلاله فِي مَوْضُوعه وحاجة جَمَاهِير النَّاس إِلَيْهِ، وَقد كَانَ مَوْضُوع قصَص الانبياء من الموضوعات الَّتِى أفردها الْعلمَاء بالتأليف مُنْذُ عصر التدوين، وَأول من أفرد لَهَا كتابا مُسْتقِلّا هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار الْمُتَوفَّى سنة 150 هـ فقد ألف كِتَابه " الْمُبْتَدَأ " أَو " المبدأ " وقصص الانبياء، وَقد أهمل ابْن هِشَام هَذَا الْقسم حِين لخص السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ إِسْحَق، وَلم يبْق من هَذَا الْكتاب إِلَّا نقُول نقلهَا عَنهُ الطَّبَرِيّ فِي التَّارِيخ وَالتَّفْسِير والازرقي. ثمَّ كتب أَو رِفَاعَةَ عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الْفُرَات الفارسى الْمُتَوفَّى سنة 289 كِتَابه " بَدْء الْخلق وقصص الانبياء " وَيُوجد الْجُزْء الاخير مِنْهُ فِي الفاتيكان ثَالِث 265 (1) .   (1) تَارِيخ الادب الْعَرَبِيّ لبروكلمان 2 / 45. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَقد صَار افْتِتَاح كتب التَّارِيخ الْعَام بقصص الانبياء وبدء الْخلق سنة متبعة، مُنْذُ صنف أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ الْمَوْلُود سنة 234 هـ بطبرستان، تَارِيخه الْكَامِل وَتَنَاول فِيهِ تَارِيخ الْعَالم من بَدْء الْخلق إِلَى عصره. وَمن بعده أَبُو الْحسن على بن الْحُسَيْن المَسْعُودِيّ الْمُتَوفَّى سنة 345 فِي تَارِيخ " مروج الذَّهَب ". وَمعنى ذَلِك أَن مَوْضُوع قصَص الانبياء كَانَ مَوضِع اهتمام كتاب السِّيرَة والتاريخ الْمُسلمين مُنْذُ عصر التدوين إِلَى عصر ابْن كثير. وعلينا الْآن أَن نتأمل مَنْهَج ابْن كثير قى قصَص الانبياء لنرى مَا قدمه من جَدِيد وَمَا تفرد بِهِ من خَصَائِص، مِمَّا يعد تجديدا فِي هَذَا الْجَانِب من التَّارِيخ. إِن ذَلِك يقتضينا أَن نَنْظُر فِي مصَادر ابْن كثير فِي قصَص الانبياء ونصنفها حسب تعويله عَلَيْهَا. وَأول مَا يَتَّضِح لنا أَن ابْن كثير قد جعل الْقُرْآن الْكَرِيم مصدره الاول فِي تَارِيخ الانبياء، فعول على طَرِيقَته وَالْتزم بأخباره، وَقطع بِأَن كل مَا يُخَالِفهُ من أَقْوَال أهل الْكتاب فَهُوَ كذب وبهتان، وَذَلِكَ الْحق الذى يقطع بِهِ كل مُسلم. وَيبدأ ابْن كثير فِي كل قصَّة من قصَص الانبياء بِجمع الْآيَات القرآنية المنعلقة بهَا باستقصاء من كل سور الْقُرْآن، حسب تَرْتِيب السُّور. ثمَّ يجنح إِلَى جَانب التَّفْسِير فيستخرج دَلَائِل الْآيَات الْكَرِيمَة بمنهجه الْمَشْهُور، من تَفْسِير الْقُرْآن، ثمَّ بِالسنةِ والاثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَبعد ذَلِك يجمع ابْن كثير الاحاديث المروية فِي قصَص الانبياء بأسانيدها من الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد، وَلَا يفوتهُ أَن يخرج تِلْكَ الاحاديث ويدلنا على حظها من الثُّبُوت. ثمَّ يتَّجه ابْن كثير إِلَى رِوَايَات المؤرخين وعلماء السّير، يخْتَار مِنْهَا مَا يُسَايِر حقائق الْقُرْآن وَالسّنة وآراء الْمُفَسّرين وأبرز من ينْقل عَنْهُم ابْن كثير: مُحَمَّد ابْن إِسْحَق فِي كتاب " الْمُبْتَدَأ " وَابْن جرير فِي تَارِيخه وَتَفْسِيره، وَابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه، وَتلك الرِّوَايَات لَا تمثل فِي الْكتاب لحْمَة وَلَا سدى، إِنَّمَا هِيَ تأييد للاخبار الاسلامية أَو تَفْصِيل لَهَا حينما يجنح الخيال إِلَى الِاسْتِقْصَاء وَوصل الحلقات بَعْضهَا بِبَعْض، وأغلب تِلْكَ الرِّوَايَات مَنْقُول عَن عُلَمَاء أهل الْكتاب، وَكَثِيرًا مَا يعلق عَلَيْهِ ابْن كثير بِأَنَّهُ غَرِيب. وَيبقى بعد ذَلِك من مصَادر ابْن كثير فِي قصَص الانبياء أَخْبَار أهل الْكتاب، المتلقاة من التَّوْرَاة الَّتِى بِأَيْدِيهِم. وَقد وقف ابْن كثير من هَذَا الْمصدر موقفا عدلا، فَلم يهمله بِالْكُلِّيَّةِ مادام هُنَاكَ من يتطلع إِلَيْهِ وَمن ينْقل عَنهُ، فَأَشَارَ ابْن كثير إِلَى طرف يسير من أَخْبَار أهل الْكتاب مقترنة بِبَيَان رَأْيه فِيهَا، وَهُوَ يرى أَن التَّوْرَاة إِن خَالَفت الْحق الذى بِأَيْدِينَا من الْكتاب وَالسّنة، فهى بَاطِل يجب رده. فعندما ذكر عَن التَّوْرَاة أَنَّ الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَعْظَمهَا، أعقبه بقوله: " وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَام من لُغَة إِلَى لُغَة لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَا يكَاد يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: " يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا " فَهَذَا لَا يرد لغيره من الْكَلَام " (1) . وَقد كَانَ ابْن كثير يقْرَأ التَّوْرَاة وَيرى مَا فِيهَا من تَحْرِيف، وَقد نبه إِلَى ذَلِك فِي مَوَاضِع من كِتَابه هَذَا، فَهُوَ يَقُول عَن قابيل: " وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكتاب الذى يَزْعمُونَ أَنه التَّوْرَاة: أَن الله عزوجل أَجله وأنظره وَأَنه سكن فِي أَرض نور فِي شَرق عدن " وَبعد أَن يذكر تواريخ أهل الْكتاب عَن ذُرِّيَّة قابيل يَقُول: " هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا، وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا، ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِير، وفيهَا غلط كثير (2) ". وفى مَوضِع آخر يَقُول: " فَكَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا وَيُذْهَلُ عَنْهُ، وَيُصَارُ إِلَى أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا على غير موَاضعهَا (3) ".   (1) ص 22 من هَذَا الْجُزْء. (2) ص 62 من هَذَا الْجُزْء. (3) ص 107 من هَذَا الْجُزْء. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وَبِذَلِك وضع ابْن كثير أَخْبَار أهل لكتاب فِي موضعهَا الصَّحِيح، يسْتَأْنس بهَا حِين تطابق الْحق الذى بِأَيْدِينَا، وينبه على تحريفها وكذبها حِين تخَالف، فَإِن لم يكن لَهَا دَلِيل فِي أخبارنا واحتملت الصدْق أوردهَا متوقفا، وَقد أمرنَا أَن لَا يصدق أهل الْكتاب وَلَا نكذبهم. وَمن هُنَا فقد نجا ابْن كثير مِمَّا تورط فِيهِ المؤرخون من قبله من الاسراف فِي رِوَايَة الاسرائيليات والتعويل عَلَيْهَا، واحتفظ بصورته الاسلامية المشرقة، وَجعل قارئه يطمئن إِلَى مصادره ويتبين قيمتهَا. فَإِذا أردنَا أَن نتبين خَصَائِص ابْن كثير فِي قصَص الانبياء، فَإِن أهم مَا يستوقفنا من ذَلِك: (ا) الاحاطة بالاخبار وَالِاسْتِقْصَاء فِي رِوَايَتهَا من طرقها، مِمَّا يَجعله أوفى مرجع فِي هَذَا الْقَصَص. وَقد أَعَانَهُ على ذَلِك عصره الْمُتَأَخر، إِذْ عَاشَ فِي الْقرن الثَّامِن، فَتمكن أَن يجيل النّظر فِيمَا سلف من تراث. (ب) التَّحْقِيق العلمي فِي إِيرَاد الاخبار فَهُوَ لَا يذكر قولا إِلَّا وَمَعَهُ دَلِيله وَلَا رِوَايَة إِلَّا وَيبين حَالهَا من الصِّحَّة أَو الضعْف وَهُوَ وَإِن تسَامح فِي إِيرَاد بعض الاخبار الْوَاهِيَة، إِلَّا أَنه أخلى تَبعته بالحكم عَلَيْهَا وفْق أصُول الرِّوَايَة. 3 - الاهتمام بمقاصد الْقُرْآن الْكَرِيم فِي إبراز العظة وجلاء الْعبْرَة فِي هَذَا الْقَصَص وَمَا دَامَ ابْن كثير مُفَسرًا متقنا فقد اسْتَطَاعَ أَن يلفت النّظر إِلَى كثير من مَوَاطِن الْعبْرَة فِي آيَات الانبياء، وَأَن يَجْعَل من عرض قصصهم وَسِيلَة لتقرير كثير من الاحكام والآداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 4 - وَقد عَنى ابْن كثير بِدفع الشّبَه الَّتِى أثارها كثير من الْمُفَسّرين والمتلقين عَن أهل للْكتاب، واستطاع بمقدرته فِي التَّفْسِير وقوته فِي الِاسْتِدْلَال أَن يُوضح جَانب الْحق وَأَن يرد كثيرا من الآراء الْفَاسِدَة الَّتِى لَا تتفق مَعَ كَرَامَة الانبياء. فقد كَانَ موفقا فِي تَأْوِيل الْآيَات الَّتِى ثار حولهَا الْخلاف وَكَثُرت الاقاويل، كموقفه من تَأْوِيل قَوْله سُبْحَانَهُ على لِسَان لوط: " هَؤُلَاءِ بناتى هن أطهر لكم " وَقَوله عَن يُوسُف: " وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا " وَكَذَلِكَ بَيَانه لقَوْل الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام " بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا " وَكَذَلِكَ فَصله فِي احتجاج مُوسَى وآدَم عَلَيْهِ السَّلَام، وَغير ذَلِك. وَهَذَا جَانب لم يهتم بِهِ أحد من المؤرخين من قبل، إِنَّمَا دفع ابْن كثير إِلَيْهِ إِمَامَته فِي التَّفْسِير واهتمامه بمقاصد الْهِدَايَة من قصَص الانبياء. وَبِذَلِك يمكننا القَوْل أَن تنَاول ابْن كثير لقصص الانبياء يعْتَبر جَدِيدا فِي منهجه، إِذْ نلمح فِيهِ عناصر أُخْرَى غير التَّارِيخ، كالتفسير والْحَدِيث، والعظة والتوجيه، وفى بعض الاحيان اللُّغَة والادب، وَقد مزج ابْن كثير بَين هَذِه العناصر وَجعل الصدارة فِيهَا للتصور القرآني لقصص الانبياء، فَهُوَ بِحَق تَعْبِير صَادِق عَن النظرة الاسلامية لهَذَا الْمَوْضُوع وَقد برِئ من الحشو والتكلف والولوع بالغرائب، وساير مَنْهَج الْعقل وَالْعلم، وَنَفر من الخرافات والاباطيل. وَذَلِكَ مَا جعلني أرى فِي نشر هَذَا الْكتاب ضَرُورَة لعصرنا وتراثنا على السوَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 مَنْهَج التَّحْقِيق: اعتمدت فِي تَحْقِيق هَذَا الْكتاب على نسختين من " الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة " 1 - النُّسْخَة المصورة عَن مكتبة ولى الدّين بالآستانة والمحفوظة بدار الْكتب المصرية برقم 1110 تَارِيخ. وهى نُسْخَة جَيِّدَة لَوْلَا مَا يَقع فِيهَا من سقط فِي بعض الْمَوَاضِع. وإليها الاشارة بِحرف ا. 2 - النُّسْخَة المطبوعة بمطبعة السَّعَادَة سنة 1351 هـ وَقد قوبلت على نُسْخَة مَحْفُوظَة بِالْمَدْرَسَةِ الاحمدية بحلب، وإليها الاشارة بِحرف ط. وَقد كَانَ جهدي متجها إِلَى ضبط الاصل ومقابلة النسختين لاستخراج الصَّوَاب مِنْهُمَا. وَقد تبينت فِي النُّسْخَة المطبوعة سقطا كثير أَشرت إِلَيْهِ فِي الهوامش، كَمَا أَن فِيهَا تَحْرِيف شَائِعا قومته بِالرُّجُوعِ إِلَى المخطوطة وَإِلَى المراجع الَّتِى نقل عَنْهَا ابْن كثير، وأشرت إِلَى بعض هَذِه الاخطاء فِي هوامش الصفحات. وَبعد ذَلِك كَانَ لَا بُد من شرح الْمُفْردَات وَإِثْبَات فروق النّسخ والتعريف بِبَعْض الاعلام وَالتَّعْلِيق على مَا لَا يطمأن إِلَيْهِ من الرِّوَايَات وَغير ذَلِك مِمَّا يتطلبه تَقْوِيم الْكتاب وتقديمه فِي صُورَة قريبَة من الصِّحَّة دانية من الصَّوَاب. وَأَرْجُو أَن أكون فِي نشرى لهَذَا الْكتاب من كتب ابْن كثير قد أدّيت واجبى نَحْو أمتنَا الاسلامية حِين يسرت هَذَا الْمرجع الاصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لهَذَا الْجَانِب الْهَام من جَوَانِب الثقافة الاسلامية، بل الانسانية وَهُوَ قصَص الانبياء، وهم أبطال التَّضْحِيَة الْمُجَرَّدَة عَن كل شَائِبَة، وأمثلة الْكَمَال الْبُشْرَى الَّذين تستهديهم الانسانية فِي كل زمَان. وَالله الْمَسْئُول أَن يهئ لنا من أمرنَا رشدا وَأَن يمدنا بعونه وقوته، نعم الْمولى وَنعم النصير. مصطفى عبد الْوَاحِد الْقَاهِرَة صفر سنة 1388 هـ مايو سنة 1968 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بَابُ مَا وَرَدَ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كلهَا، ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة، فَقَالَ أنبؤني بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْت الْعلم الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ، وَقُلْنَا هَبَطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالدُونَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُم رقيبا (3) ".   (1) سُورَة الْبَقَرَة 30 - 39 (2) سُورَة آل عمرَان 59 (3) سُورَة النِّسَاء 1 " م 1 - قصَص الانبياء 1 " (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كَمَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عليم خَبِير (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا ... الْآيَةَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أمرنك؟ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا، فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهما الشَّيْطَان ليبدى لَهما ماوورى عَنْهُمَا من سوآتهما، وَقَالَ مانها كَمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ؟ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ؟ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين * قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض   (1) سُورَة الحجرات 13 (2) سُورَة الاعراف 189. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تخرجُونَ (1) ". كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالق بشرا من صلصال من حمأ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيس مَالك أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لاسجد لبشر خلقته ن صلصال من حمأ مسنون. قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مقسوم (3) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك، وأجلب   (1) سُورَة الاعراف 21 - 25 (2) سُورَة طه 55 (3) سُورَة الْحجر 26 - 44 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكيلا " (1) وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا " (2) . وَقَالَ تَعَالَى ": وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى؟ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة، وَعصى آد رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدو، فإمَّا يَأْتينكُمْ منى هدى فَمن ابتع هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتنَا فنسيتهما وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ؟ * قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا   (1) سُورَة الاسراء (2) سُورَة الْكَهْف (3) سُورَة طه (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * ولتعلمن نبأه بعد حِين (1) ". * * * فَهَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ، ولنذكرها هُنَا مَضْمُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ قَائِلًا لَهُم: " إنى جَاعل فِي الارض خَليفَة " أَعْلَمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَالَ: " وَهُوَ الذى جعلكُمْ خلائف الارض " [وَقَالَ: " ويجعلكم خلفاء الارض "] (2) فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِخَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُخْبِرُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ سَائِلِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْشَافِ وَالِاسْتِعْلَامِ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّنَقُّصِ (3) لِبَنِي آدَمَ وَالْحَسَدِ لَهُمْ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالُوا: " أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء؟ ". قِيلَ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِمَا رَأَوْا مِمَّن كَانَ قبل آدم من الْجِنّ والبن (4) . قَالَه قَتَادَة.   (1) سُورَة ص. (2) سَقَطت من المطبوعة. (3) ا: وَالنَّقْص. (4) كَذَا، ولعلها الحن، وهم طَائِفَة من الْجِنّ وَقيل ضعفتهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وَقَالَ عبد الله بن عمر: كَانَت الْجِنّ قَبْلَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ فَسَفَكُوا الدِّمَاءَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ (1) فَطَرَدُوهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبُحُورِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أُلْهِمُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَقِيلَ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَنْ مَلَكٍ فَوْقَهُمَا يُقَالُ لَهُ السِّجِلُّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا يَخْلُقُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ غَالِبا. " وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك " أَيْ نَعْبُدُكَ دَائِمًا لَا يَعْصِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْبُدُوكَ فَهَا نَحْنُ لَا نَفْتُرُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. " قَالَ إنى أعلم مَا لَا تعلمُونَ " أَيْ أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَالا تعلمُونَ، أَيْ سَيُوجَدُ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ [والصالحون (2) ] . ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْعلم فَقَالَ: " وَعلم آدم الاسماء كلهَا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَجَمَلٌ، وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ، وَالْقِدْرِ، حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَّمَهُ اسْم كل دَابَّة، وكل طير وكل شئ. وَكَذَا قَالَ سعيد ابْن جُبَير [وَقَتَادَة وَغير وَاحِد (3) ] .   (1) ا: من الْمَلَائِكَة جندا (2) سَقَطت من المطبوعة. (3) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وَقَالَ الرَّبِيعُ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. وَالصَّحِيحُ: أَنه علمه أَسمَاء الذورات وَأَفْعَالَهَا مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا مَا رَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ وَهِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسمَاء كل شئ " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَخْلُقُ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ. فَابْتُلُوا بِهَذَا. وَذَلِكَ قَوْله " إِن كُنْتُم صَادِقين ". وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ. قَالُوا: " سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم " أَي سُبْحَانَكَ أَن يُحِيط أحد بشئ مِنْ عِلْمِكَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِكَ، كَمَا قَالَ: " وَلَا يحيطون بشئ من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ ". " قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غيب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ؟ " أَيْ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ. وَقِيلَ إِن المُرَاد بقوله: " أعلم مَا تبدون " مَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فِيهَا، وَبِقَوْلِهِ " وَمَا كُنْتُم تكتمون " المُرَاد بِهَذَا الْكَلَام إِبْلِيس حِين أسر الْكبر والنفاسة (1) على آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالثَّوْرِيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: " وَمَا كُنْتُمْ تكتمون " قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أعلم مِنْهُ وَأكْرم عَلَيْهِ مِنْهُ. وَقَوله: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر " هَذَا إِكْرَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَمَا قَالَ: " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ روحي فقعوا لَهُ ساجدين " فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَشْرِيفَاتٍ: خَلْقُهُ لَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، ونفخه مِنْ رُوحِهِ، وَأَمْرُهُ (2) الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَعْلِيمُهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى الْكِلِيمُ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى وتناظر كَمَا سَيَأْتِي: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وأسجد لَك مَلَائكَته، وعلمك أَسمَاء كل شئ. وَهَكَذَا يَقُولُ [لَهُ (3) ] أَهْلُ الْمَحْشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتي من نَار وخلقته من طين ". قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: قَاس إِبْلِيس وَهُوَ أول من قَاس. وَقَالَ مُحَمَّد بن   (1) المطبوعة: والتخيرة. (2) ا: وَأمر. (3) من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 سِيرِين: أول من قَاس إِبْلِيس، وَمَا عبدت الشَّمْس و [لَا] (1) الْقَمَر إِلَّا بالمقاييس، رَوَاهُمَا ابْن جرير. وَمعنى هَذَا أَنه نظر نَفسه بطرِيق المقايسة بَينه وَبَين آدم، فَرَأى نَفسه أشرف من آدم فَامْتنعَ من السُّجُود لَهُ، مَعَ وجود الامر لَهُ ولسائر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود. وَالْقِيَاس إِذا كَانَ مُقَابلا بِالنَّصِّ كَانَ فَاسد الِاعْتِبَار. ثمَّ هُوَ فَاسد فِي نَفسه، فَإِن الطين أَنْفَع وَخير من النَّار، لَان الطين فِيهِ الرزانة والحلم والاناة والنمو، وَالنَّار فِيهَا الطيش والخفة والسرعة والاحراق. ثمَّ آدم شرفه الله بخلقه لَهُ بِيَدِهِ ونفخه فِيهِ من روحه، وَلِهَذَا أَمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لَهُ، كَمَا قَالَ: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا من صلصال من حمأ مسنون. فَإِذا سويته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ. قَالَ: يَا إِبْلِيسُ مَالك أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مَسْنُونٍ قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْك اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الدّين " اسْتَحَقَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ اسْتَلْزَمَ تنقصه لآدَم وازدراءه بِهِ وَتَرَفُّعُهُ عَلَيْهِ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ الْإِلِهِيِّ، وَمُعَانَدَةَ الْحَقِّ فِي النَّصِّ عَلَى آدَمَ عَلَى التَّعْيِينِ. وَشَرَعَ فِي الِاعْتِذَارِ بِمَا لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ اعْتِذَارُهُ أَشَدَّ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذى كرمت على لَئِن أحرتنى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء من دوني " أَيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَمْدًا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لانه خانه طبعه ومادته الْخَبِيثَةُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ من ناركما قَالَ، وكما جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ، فَلَمَّا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مِمَّنْ أُسِرَ فَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَكَانَ هُنَاكَ، فَلَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَآخَرُونَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (1) : الْحَارِثُ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو كُرْدُوسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَال لَهُم الْجِنّ،   (1) المطبوعة: عَن وَهُوَ تَحْرِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَكَانُوا خزان الْجنان، وَكَانَ من أَشْرَفهم و [من] (1) أَكْثَرهم عِلْمًا وَعِبَادَةً، وَكَانَ مِنْ أُولِى الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ. قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لافعدن لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين " أَيْ بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَلِآتِيَنَّهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُمْ، فَالسَّعِيدُ من خَالفه والشقى من اتبعهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو عقيل - هُوَ عبد الله ابْن عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الْفَاكِهِ (2) قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ (3) لَا بن آدم بأَطْرُقِهِ " وَذكر الحَدِيث. * * *   (1) من ا. (2) ا: فا كه. (3) ط: يقْعد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ: أَهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَاتِ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَوِ الْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَفِي السِّيَاقِ نَكَارَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ رَجَّحَهُ. وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنَ السِّيَاقَاتِ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: " وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ " وَهَذَا عُمُومٌ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى لابليس: " اهبط مِنْهَا " و " اخْرُج مِنْهَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَأُمِرَ بِالْهُبُوطِ مِنْهَا، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّتِى كَانَ قد نالها بِعِبَادَتِهِ، وتشبه بِالْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، ثُمَّ سَلَبَ ذَلِكَ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِرَبِّهِ، فَأُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا. * * * وَأَمَرَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْكُنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ: " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين ". وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: " قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لمن تبعك مِنْهُم لاملان جَهَنَّم مِنْك أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا، وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى ". وَسِيَاق هَذِه الْآيَات يقتضى أَن خلق حَوَّاء كَانَ قبل دُخُول آدم [إِلَى] (1) الْجنَّة لقَوْله: " وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة " وَهَذَا قد صرح بِهِ إِسْحَاق ابْن يَسَارٍ (2) وَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَكِنْ حَكَى السّديّ عَن أبي صَالح وَأبي مَالك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ، فَكَانَ يمشى فِيهَا وحشى (3) لَيْسَ لَهُ فِيهَا زَوْجٌ يَسْكُنُ إِلَيْهَا، فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلَقَهَا الله من ضلعه. فَسَأَلَهَا مَا (4) أَنْت؟ قَالَت: امْرَأَة. قَالَ: وَلم خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: حَوَّاءُ، قَالُوا: وَلِمَ كَانَتْ حَوَّاء؟ قَالَ لانها خلقت من شئ حَيٍّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا. وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ... الْآيَةَ " وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا   (1) من ا. (2) ط: بشار. وَهُوَ تَحْرِيف. (3) كَذَا بالاصول، وَلَعَلَّه على تَقْدِير مُبْتَدأ مَحْذُوف. وَهُوَ وحشى. (4) ط: من أَنْت. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فمرت بِهِ ... " الْآيَةَ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَرْأَة خلقت من ضلع، وَإِن أَعْوَج شئ فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خيرا ". لفظ البُخَارِيّ. و [وَقَدِ] (1) اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة " فَقِيلَ هِيَ الْكَرْمُ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيد بن جُبَير والشعبى وجعدة ابْن هُبَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَالسُّدِّيِّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ: وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. قَالَ وَهْبٌ: وَالْحَبَّةُ مِنْهُ أَلْيَنُ مِنَ الزَّبَدِ وَأحلى من الْعَسَل. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن أَبى حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: " وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة " هِيَ النَّخْلَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ التِّينَةُ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ وَلَا يَنْبَغِي فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ. وَهَذَا الْخِلَافُ قَرِيبٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ ذِكْرَهَا وَتَعْيِينَهَا، وَلَوْ كَانَ فِي ذِكْرِهَا مَصْلَحَةٌ تَعُودُ إِلَيْنَا لَعَيَّنَهَا لَنَا كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمحَال الَّتِى تبهم فِي الْقُرْآن.   (1) لَيْسَ فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجنَّة الَّتِى أدخلها آدَمُ: هَلْ هِيَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي يَنْبَغِي فَصْلُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَهِيَ جَنَّةُ الْمَأْوَى، لِظَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وزوجك الْجنَّة " والانف وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ وَلَا لِمَعْهُودٍ لَفْظِيٍّ، وَإِنَّمَا تَعُودُ عَلَى مَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ شَرْعًا مِنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَكَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَامَ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ ... " الْحَدِيثَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الاشجعى - واسْمه سعد ابْن طَارِقٍ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ تَزْلُفُ لَهُمُ الْجَنَّةُ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ جَيِّدَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي (1) الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَلَيْسَتْ تَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْجَنَّةُ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ لَمْ تَكُنْ جَنَّةَ الْخلد، لانه (2) كلف فِيهَا أَلا يَأْكُلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّهُ نَامَ فِيهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ فِيهَا، وَهَذَا مِمَّا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ جَنَّةَ الْمَأْوَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ، والقاضى مُنْذر بن سعيد   (1) 1: على. (2) ا: لانها. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الْبَلُّوطِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَأُفْرِدَ لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ. وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عمر الرَّازِيّ بن خَطِيبِ الرَّيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو عِيسَى الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ [وَالْقَاضِي (1) ] الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أُسْكِنَاهَا يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ. الثَّانِي [أَنَّهَا (2) ] جَنَّةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لَهُمَا وَجَعَلَهَا دَارَ ابْتِلَاءٍ، وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِي جَعَلَهَا دَارَ جَزَاءٍ. وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ أَهْبَطَهُمَا مِنْهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّهُ امْتَحَنَهُمَا فِيهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَيَا عَنْهَا دون غَيرهَا من الثِّمَار. وَهَذَا قَول ابْن يحيى، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا كَلَامُهُ. فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ حِكَايَةَ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَلِهَذَا (3) حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِى أوردهَا الماوردى، وَرَابِعهَا الْوَقْف. وَحَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَتْ جَنَّةَ المأوى، عَن أَبى على الجبائى.   (1) لَيست فِي ا. (2) من ا. (3) ط: وَلَقَد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي سُؤَالًا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إِلَى جَوَابٍ، فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَرَدَ إِبْلِيسَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ عَنِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا وَالْهُبُوطِ مِنْهَا وَهَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلِهَذَا قَالَ: " اخْرُج مِنْهَا مذءوما مَدْحُورًا ". وَقَالَ: " اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تتكبر فِيهَا " وَقَالَ: " اخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم " وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ السَّمَاءِ أَوِ الْمنزلَة. وأياما كَانَ فمعلوم أَنه لَيْسَ لَهُ الْكَوْن قدرا فِي الْمَكَانِ الَّذِي طُرِدَ عَنْهُ وَأَبْعَدُ مِنْهُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ وَالِاجْتِيَازِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ وَسْوَسَ لِآدَمَ وَخَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ لَهُ: " هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لايبلى " وَبِقَوْلِهِ: " مَا نها كَمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين. فدلاهما بغرور.." الْآيَةَ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اجْتِمَاعِهِ مَعَهُمَا فِي جَنَّتِهِمَا. وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ فِيهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ بهَا، وَأَنه وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. وَفِي الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، عَن يحيى بن ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: إِن آدم لما احْتضرَ اشْتهى " م 2 - قصَص الانبياء 1 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ، فَانْطَلَقَ بَنُوهُ لِيَطْلُبُوهُ لَهُ، فَلَقِيَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا بَنِي آدَمَ؟ فَقَالُوا إِنَّ أَبَانَا اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ. فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ فَقَبَضُوا رُوحَهُ وَغَسَّلُوهُ وَحَنَّطُوهُ وكفنوه، وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل وَمن خَلفه من الْمَلَائِكَةِ وَدَفَنُوهُ، وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّتُكُمْ فِي مَوْتَاكُمْ. وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ، وَتَمَامُ لَفْظِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ الَّتِي اشْتَهَى مِنْهَا الْقِطْفُ مُمْكِنًا، لَمَا ذَهَبُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالُوا: وَالِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: " وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة " [لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ يُعُودُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَعْهُودُ الذهنى (1) ] مُسلم، وَلَكِن هُوَ مادل عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَخُلِقَ لِيَكُونَ فِي الْأَرْضِ، وَبِهَذَا أَعْلَمَ الرَّبُّ الْمَلَائِكَةَ حَيْثُ قَالَ: " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَة " قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ (2) " وَاللَّامُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَعْهُودٌ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ للمعهود الذهنى الذى فالالف دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ الْبُسْتَانُ. قَالُوا: وَذِكْرُ الْهُبُوطِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك (2) " وَإِنَّمَا كَانَ   (1) لَيست فِي ا (2) الْآيَة: 17 من سُورَة ن (3) الْآيَة: 48 من سُورَة هود (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فِي السَّفِينَة (1) حِين اسْتَقَرَّتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ أُمِرَ (2) أَنْ يَهْبِطَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " اهْبِطُوا مصرا فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم " الْآيَةَ (3) وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.." الْآيَةَ (4) . وَفِي الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. قَالُوا: وَلَا مَانِعَ - بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ - أَنَّ الْجنَّة أُسْكِنَهَا آدَمُ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً عَنْ (5) سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، ذَاتِ أَشْجَارٍ وَثِمَارٍ وَظِلَالٍ وَنَعِيمٍ وَنَضْرَةٍ وسرور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِن لَك أَن لَا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى ". أَي لايذل بَاطِنُكَ بِالْجُوعِ وَلَا ظَاهِرُكَ بِالْعُرْيِ " وَأَنَّكَ لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى " أَيْ لَا يَمَسُّ بَاطِنَكَ حَرُّ الظَّمَأِ وَلَا ظَاهِرَكَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الملاءمة. فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ ماكان مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، أُهْبِطَ إِلَى أَرْضِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالْكَدَرِ وَالسَّعْيِ وَالنَّكَدِ، وَالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ، وَاخْتِلَافِ السُّكَّانِ دِينًا وَأَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا، وَقُصُودًا وَإِرَادَاتٍ وَأَقْوَالًا وَأَفْعَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاع إِلَى حِين ". وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّمَاء كَمَا قَالَ: " وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " (6) ، وَمَعْلُوم أَنهم كَانُوا فِيهَا وَلم يَكُونُوا فِي السَّمَاء.   (1) 1: السفن (2) ط: وَأمر (3) الْآيَة: 61 من سُورَة الْبَقَرَة (4) الْآيَة: 74 من سُورَة الْبَقَرَة (5) ا: على (6) الْآيَة: 104 من سُورَة الاسراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ [الْيَوْمَ] (1) وَلَا تلازم بَينهمَا، فَكل من حكى عمنه هَذَا الْقَوْلُ مِنَ السَّلَفِ وَأَكْثَرِ (2) الْخَلَفِ، مِمَّنْ يُثْبِتُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَات والاحاديث الصِّحَاح. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا " أَيْ عَنِ الْجَنَّةِ " فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ " أَيْ مِنَ النَّعِيمِ وَالنَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْكَدِّ وَالنَّكَدِ، وَذَلِكَ بِمَا وَسْوَسَ لَهُمَا وَزَيَّنَهُ فِي صُدُورِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَوَسْوَسَ لَهما الشَّيْطَان ليبدى لَهما ماوورى عَنْهُمَا من سوآتهما، وَقَالَ مانها كَمَا ركما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين " [يَقُول: مانها كَمَا عَنْ أَكْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنَّ تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين (3) ] ، أَي لَو أكلتما مِنْهَا لصرتما كَذَلِك. " وقاسمهما " أَيْ حَلَفَ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ " إِنِّي لَكُمَا لمن الناصحين "، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة الْخلد وَملك لايبلى؟ ": أَيْ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا حَصَلَ لَكَ الْخُلْدُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَاسْتَمْرَرْتَ فِي مُلْكٍ لَا يَبِيدُ وَلَا يَنْقَضِي؟ وَهَذَا مِنَ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ وَالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ شَجَرَةِ الْخلد الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا خَلَّدْتَ، وَقَدْ تَكُونُ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَة،   (1) لَيست فِي ا (2) ا: وَأَكْثَرهم (3) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، شَجَرَةُ الْخُلْدِ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ وَحَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا بِهِ. قَالَ غُنْدَرٌ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ؟ قَالَ لَيْسَ فِيهَا هِيَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَقَوْلُهُ: " فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة " [كَمَا قَالَ فِي طه " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهما سوآتهما، وطقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة (1) ] وَكَانَتْ حَوَّاءُ أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبِلَ آدَمَ، رهى الَّتِي حَدَتْهُ عَلَى أَكْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ (2) الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ: " لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ (3) اللَّحْمُ، وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي (4) وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ (5) عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِهِ.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: حمل (3) يخنز: ينتن (4) ا: عَن ابْن (5) ط: حَارِث (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وفى كتاب التَّوْرَاة الَّتِى بأيدى (1) أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَعْظَمِهَا، فَأَكَلَتْ حَوَّاءُ عَنْ قَوْلِهَا وَأَطْعَمَتْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِإِبْلِيسَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ، فَوَصَلَا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وَعَمِلَا مَآزِرَ وَفِيهَا أَنَّهُمَا كَانَا عُرْيَانَيْنِ. وَكَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لِبَاسُهُمَا نُورًا عَلَى فَرْجِهِ وَفَرْجِهَا. وَهَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ، فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَةٍ لَا يَتَيَسَّرُ (2) لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا مِمَّنْ لَا [يكَاد (3) ] يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ (4) لَفْظًا وَمَعْنَى. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: " يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا " فَهَذَا لايرد لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بن أسكاب، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ (5) ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسه، فَأول مابدا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فناداه الرَّحْمَن عزوجل: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ يَا رَبِّ لَا، وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً ".   (1) ط: بَين أيدى. وَمَا أثْبته عَن ا (2) ط: لَا يكَاد يَتَيَسَّر. وَلَعَلَّه تَحْرِيف (3) سَقَطت من المطبوعة (4) ا: كَبِير (5) السحوق: الطَّوِيلَة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ ورق الْجنَّة " وَرَقِ التِّينِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَضُرُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ ابْن ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ كَالنَّخْلَةِ السحوق، سِتُّونَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ مُوَارَى الْعَوْرَةِ، فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَة فِي الْجنَّة بَدَت لَهُ سوأته، فَخَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: بل حَيَاء مِنْك (1) يَا رَبِّ مِمَّا جِئْتُ بِهِ ". ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحسن، عَن يحيى ابْن ضَمْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ، فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا. ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضا من طَرِيق خَيْثَمَة بن سُلَيْمَان الاطرابلسى، عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب أَبى مرصافة الْعَسْقَلَانِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ سِنَان، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ. " وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ، وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ؟ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ".   (1) ط: بل حَيَاء مِنْك وَالله يَا رب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَهَذَا اعْتِرَافٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَتَذَلُّلٌ وَخُضُوعٌ وَاسْتِكَانَةٌ، وَافْتِقَارٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَهَذَا السِّرُّ مَا سَرَى فِي أَحَدٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى خَيْرٍ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. " قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " وَهَذَا خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ، قِيلَ وَالْحَيَّةُ مَعَهم، أمروا أَن يهطبوا مِنَ الْجَنَّةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَعَادِينَ مُتَحَارِبِينَ. وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِذِكْرِ الْحَيَّةِ مَعَهُمَا بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ. وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه: " قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدو " هُوَ أَمر لآدَم وإبليس، وَاسْتَتْبَعَ آدَمَ حَوَّاءُ وَإِبْلِيسَ الْحَيَّةُ. وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يخكمان فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين (1) ". [وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ، قَالَ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (2) ] . وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْإِهْبَاطَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: " وَقُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لعبض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، فَمَنْ تبع هداى فَلَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ.   (1) سُورَة الانبياء 77 (2) سقط من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالدُونَ " فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ: الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ فِي الاول: " قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاع إِلَى حِين " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ كَرَّرَهُ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَنَاطَ مَعَ كُلِّ مَرَّةٍ حُكْمًا ; فَنَاطَ بِالْأَوَّلِ عَدَاوَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبِالثَّانِي الِاشْتِرَاطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ تَبِعَ هُدَاهُ الَّذِي ينزله عَلَيْهِم بعد ذَلِك فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ الشَّقِيُّ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الْكَلَامِ لَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ مَلَكَيْنِ أَنْ يُخْرِجَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ جِوَارِهِ، فَنَزَعَ جِبْرِيلُ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَحَلَّ مِيكَائِيلُ الْإِكْلِيلَ عَنْ جَبِينِهِ، وَتَعَلَّقَ بِهِ غُصْنٌ، فَظَنَّ آدَمُ أَنَّهُ قَدْ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ يَقُولُ: الْعَفْوَ الْعَفْوَ، فَقَالَ اللَّهُ: أفرارا منى؟ قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ يَا سَيِّدِي! وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ - هُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ - مَكَثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ عَامًا، وَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى خَطِيئَتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى وَلَدِهِ حِينَ قُتِلَ أَرْبَعِينَ عَامًا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 جرير، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا " دَحْنَا " بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أهبط آدم بِالْهِنْدِ، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ، وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَ آدَمُ بِالْهِنْدِ وَنَزَلَ مَعَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَبِقَبْضَةٍ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَبَثَّهُ فِي الْهِنْدِ فَنَبَتَتْ شَجَرَةُ الطِّيبِ هُنَاكَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الارض علمه صَنْعَة كل شئ. وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ البجلى، عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أُسْكِنَ آدم الْجنَّة إِلَّا مابين صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ". وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: " وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ". وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خلق آدم، وَفِيه أَدخل الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ". عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عُرْيَانَيْنِ جَمِيعًا، عَلَيْهِمَا وَرَقُ الْجَنَّةِ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ حَتَّى قَعَدَ يَبْكِي وَيَقُولُ لَهَا: يَا حَوَّاءُ قَدْ أَذَانِي الْحَرُّ، قَالَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِقُطْنٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ وَعَلَّمَهَا، وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ وَعَلَّمَهُ أَنْ يَنْسِجَ (1) "، وَقَالَ: " كَانَ آدَمُ لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى هَبَطَ مِنْهَا لِلْخَطِيئَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُمَا (2) بِأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ "، قَالَ: " وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنَامُ عَلَى حِدة، وينام أَحَدُهُمَا فِي الْبَطْحَاءِ وَالْآخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ "، قَالَ: " وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَأْتِيهَا، فَلِمَا أَتَاهَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: صَالِحَةً ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَقَدْ يكون من كَلَام بعض السّلف   (1) ا: وَعلم آدم بالحياكة وَأمره أَن ينسج (2) ا: أَصَابَهَا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَسَعِيد بن ميسرَة هَذَا هُوَ أبوعمران الْبَكْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مُظْلِمُ الْأَمْرِ. * * * وَقَوْلُهُ: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم " قِيلَ هِيَ قَوْلُهُ: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (1) ". رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأبى الْعَالِيَة وَالربيع ابْن أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدثنَا على بن الْحسن بن أسكاب، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ " فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ". وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ: " اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فتب على إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم ". (1) الْآيَة: 23 من سُورَة الاعراف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: " فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ " قَالَ: قَالَ آدَمُ يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ روحكم؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، وَعَطَسْتُ فَقُلْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا والْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لما اقْتَرَف آدم الْخَطِيئَة قَالَ: بارب أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا (1) غَفَرْتَ لِي ". فَقَالَ اللَّهُ: فَكَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ من روحكم، رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى " (2) .   (1) ط: أَن وَهُوَ تَحْرِيف (2) الْآيَتَانِ من سُورَة طه 121، 123 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ذكر احتجاج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَاجَّ مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ بِذَنْبِكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَشْقَيْتَهُمْ. قَالَ آدَمُ: " يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ [قَدْ] (1) كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ بِهِ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ: وَلَمْ يُخَرِّجَا عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سواهُ. وَقد رَوَاهُ أَحْمد، عنم عبد الرازق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عبد الرازق بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم، حَدثنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدم مُوسَى " مرَّتَيْنِ.   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ". قَالَ: " فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِكَلَامِهِ تلومني عَنى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ، كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بن عدى، عَن معمر ابْن سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ (1) مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنِ الْأَعْمَشِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سعيد. قُلْتُ: هَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَسَدٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ على الفلاس، حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَن   (2) ط: قريب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَان عَن عَمْرو سمع طاووسا، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ - وَقَالَ مَرَّةً بِرِسَالَتِهِ - وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ " قَالَ: " حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُوس، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. هَكَذَا ثَلَاثًا. قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَن عبد الله بن طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ فعلت مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ وَاصْطَفَاكَ بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، أَنَا أَقْدَمُ أم الذّكر؟ قَالَ: لابل الذِّكْرُ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ رجل - قَالَ حَمَّاد أَظُنهُ جُنْدُب بن عبد اللَّهِ الْبَجَلِيَّ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ (1) ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - هُوَ ابْنُ حَازِمٍ - عَنْ مُحَمَّدٍ، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، ثُمَّ صَنَعْتَ مَا صنعت؟ قَالَ آدم: لمُوسَى (2) أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَبى   (1) ط: الْحسن (2) ط: يَا مُوسَى (م 3 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاض، عَن الْحَارِث بن أَبى دياب، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ؟ قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الذى اصطفاك الله برسانته وَكَلَامه، وأعطاك الالواح فِيهَا تبيان كل شئ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا؟ فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ [كَتَبَ التَّوْرَاةَ (1) ] قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ " قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". قَالَ الْحَارِثُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ بِذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَن إِسْحَق بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ وَالْأَعْرَجِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ ; عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلمَة،   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ. فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَل وجدت أَن أَهْبِطُ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَحَجَّهُ آدَمُ ". وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي قَوْلِهِ أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ، نَكَارَةٌ. فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَكْوَانُ أَبُو صَالح السمان، وطاووس بن كيسَان، وَعبد الرحمان بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَعَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَيَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. * * * وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنده من حَدِيث أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر ابْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَأَرَاهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ؟ فَقَالَ لَهُ آدم: نعم. فَقَالَ: أَنْت الذى نفه اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ: أَنْت مُوسَى بنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاء الْحجَّاج، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ سبق من الله عزوجل الْقَضَاءُ بِهِ قَبْلُ؟ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. قَالَ أَبُو يَعْلَى: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عمرَان، عَن الردينى، عَن أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ - قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ أكبر ظَنِّي أَنَّهُ رَفَعَهُ - قَالَ: " الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لآدَم: أَنْت أَبُو الْبشر، أسكنك الله جنته، وأسجدلك مَلَائِكَتَهُ. قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَمَا تَجِدُهُ عَلَيَّ مَكْتُوبًا؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ". وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَهُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ رَجُلٍ. قَالَ حَمَّاد: أَظُنهُ جُنْدُب بن عبد الله البجلى، عَن النى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقِيَ آدَمُ مُوسَى " فَذكر مَعْنَاهُ. * * * وَقد اخْتلف مَسَالِكُ النَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَدَّهُ قَوْمٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ. وَاحْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِتَقْدِيمِ كِتَابِهِ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْ هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ، وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمن لاذنب لَهُ. وَقِيلَ إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ أَبُوهُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ. وَقِيلَ لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْبَرْزَخِ وَقد انْقَطع التَّكْلِيف فِيمَا يَزْعمُونَ. وَالتَّحْقِيقُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَمَدَارُ مُعْظَمِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَامَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ، وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، هُوَ الله عزوجل، فَأَنْتَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى أَكثر من أَنِّي نُهِيتُ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ مِنْهَا، وَكَوْنُ الْإِخْرَاجِ مُتَرَتِّبًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِي، فَأَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ وَلَا نَفْسِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ. فَلِهَذَا حَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَمَنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَمُعَانِدٌ ; لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِهِ عَدَالَةً وَحِفْظًا وَإِتْقَانًا. ثُمَّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مَسْلَكًا مِنَ الْجَبْرِيَّةِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قد تَابَ عَنهُ فَاعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ (1) ". الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِ كِتَابَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ، لَا نفتح هَذَا لِكُلِّ مَنْ لِيمَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فَعَلَهُ، فَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ فَيَنْسَدُّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ. وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ فَظِيعَةٍ. فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بِأَنَّ جَوَابَ آدَمَ إِنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ لَا الْمَعْصِيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.   (1) سُورَة الْقَصَص 16. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدثنَا عَوْف، حَدَّثَنى قسَامَة ابْن زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَوْذَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ، سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه، من حَدِيث عَوْف ابْن أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ المازتى الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْن مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَبَعَثَ اللَّهُ عزوجل جِبْرِيلَ فِي الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الْأَرْضُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ. فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وخلط (1) ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ. فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا. وَاللَّازِبُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: " إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين ". فخلقه الله بِيَدِهِ لِئَلَّا يتكبر إِبْلِيس عَنهُ، فخلقه بشرا، فَكَانَ جسدا من طين أَرْبَعِينَ سنة من مِقْدَار يَوْم الْجُمُعَة، فمرت بِهِ الْمَلَائِكَة ففزعوا مِنْهُ لما رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَّدهم مِنْهُ فَزعًا إِبْلِيس، فَكَانَ يمر بِهِ فيضربه، فيصوت الْجَسَد كَمَا يصوت الفخار يكون لَهُ صلصلة، فَذَلِك حِين يَقُول: " من صلصال كالفخار " وَيَقُول: لامر ماخلقت، وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ وَهَذَا أَجْوَفُ، لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جوه اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رَجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عجل " فَسجدَ الْمَلَائِكَة   (1) ط: وخلطه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ؟ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ الساجدين " وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ. وَلِبَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ شَاهِدٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُ مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ ". وَقَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه: حَدثنَا الحسبن بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ فَبَلَغَ الرُّوحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ". وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ ابْن هِلَالٍ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ حَفْصٍ - هُوَ ابْنُ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ رَحِمَكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ ". وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ مِنْهُمْ إسْرَافيل، فآتاه اللَّهُ أَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي جَبْهَتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ اللَّهُ وَصَوَّرَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ، فَعَطَسَ فَلَقَّاهُ اللَّهُ رَحْمَة بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَقُلْ لَهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ؟ فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: يَا آدَمُ: هَذَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ يَا رَبِّ: وَمَا ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: اخْتَرْ يَدَيَّ يَا آدَمُ، قَالَ: اخْتَارُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يدى ربى يَمِين، فَبسط كَفَّهُ فَإِذَا مَنْ هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا رِجَالٌ مِنْهُمْ أَفْوَاهُهُمُ النُّور، وَإِذا رَجُلٌ يُعْجِبُ آدَمَ نُورُهُ، قَالَ يَا رَبِّ مِنْ هَذَا؟ قَالَ ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ يَا رَبِّ: فَكَمْ جَعَلْتَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ؟ قَالَ جَعَلْتُ لَهُ سِتِّينَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَتِمَّ لَهُ من عمرى حَتَّى يكون عمره (1) مائَة سنة، فَفعل سَنَةٍ، فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا نَفِدَ عُمُرُ آدَمَ بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْت، فَقَالَ آدم: أَو لم يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ لَهُ الْملك: أَو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ فَجَحَدَ ذَلِكَ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ! ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَاب، عَن سعيد   (1) ط: حَتَّى يكون لَهُ من الْعُمر (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ [حَدِيثٌ (1) ] حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سعيد المقبرى (2) ، عَن عبد الله بن سَلام [قَوْله (3) ] . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا (4) مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأى رجلا فأعجبه وبيص مابين عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ، قَالَ: رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عمر آدم جَاءَهُ ملك الْمَوْت، قَالَ: أَو لم يبْق من عمرى أَرْبَعُونَ سنة؟ قَالَ: أَو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ". ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفضل ابْن دُكَيْنٍ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يخرجَاهُ.   (1) لَيست فِي ا. (2) عَن سعيد المقبرى عَن أَبِيه (3) الوبيص: البريق (4) من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ وَفِيهِ: " ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا بِذَرِّيَّتِي؟ قَالَ: كَيْ تَشْكُرَ نِعْمَتِي ". ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ. وَسَتَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ الامام أَحْمد فِي مُسْنده: حَدِيثا الْهَيْثَمُ [بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ (1) ] عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الدُّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمْ الحمم (2) ، فَقَالَ الذى فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَتِفِهِ (3) الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ حَوْشَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَأَخْرَجَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى، وَأَخْرَجَ أَهْلَ النَّارِ مِنْ صَفْحَتِهِ (4) الْيُسْرَى، فَأُلْقُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ; مِنْهُمُ الْأَعْمَى وَالْأَصَمُّ وَالْمُبْتَلَى. فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ وَلَدِي؟ قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحسن بِنَحْوِهِ.   (1) لَيست فِي ا (2) الحمم: الفحم (3) ا: كَفه (4) ا: حضرنه (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق ابْن خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بن عِيسَى، حَدثنَا الْحَارِث ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ، يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ، اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ الله ويداه مقبوضتان: اختر أَيّمَا شِئْتَ، فَقَالَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهُمَا فَإِذَا فِيهِمَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا كَلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ عُمُرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - لَمْ يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ سنة، قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ، فَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ لَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. اسْكُنِ الْجَنَّةَ. فَسَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ هَبَطَ مِنْهَا، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ، قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ مِنْهَا سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذَرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ " هَذَا لَفظه. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ [النَّفر (1) ] من الْمَلَائِكَة، فاستمع مَا يجيبونك، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذَرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ (2) ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ. إِنِ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مسح ظَهره، فَأخْرج مِنْهُ مَا هُوَ ذارى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ. قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ، وَكَانَ   (1) سَقَطت من الاصول وأثبتها من صَحِيح البُخَارِيّ (2) صَحِيح البُخَارِيّ 3 / 158 ط الاميرية (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا. فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة. فَلَمَّا احْتضرَ آدم أَتَتْهُ الْمَلَائِكَة لقبضه، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَأَبْرَزَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ. قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. إِنِ الله عزوجل لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ (1) عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِكَ. فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ. فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: فَجَحَدَ، قَالَ: فَأَخْرَجَ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، فَأَتَمَّهَا لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَأَتَمَّ لِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ حَمَّادِ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَن ابْن عَبَّاس وَغير زواحد، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ ثَلَاثًا " وَذَكَرَهُ.   (1) ا: فاعرضهم. وَهُوَ تَحْرِيف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مُوَطَئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ عَبْدَ الحميد ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ ابْن الْخطاب سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة: " وَإِذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بلَى (1) " الْآيَة، فَقَالَ عمر ابْن الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وبعمل أهل الْمنَار يعْملُونَ ". فَقَالَ رجل: يارسول الله فقيم الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذْ خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلنَّارِ، اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْن أَبى حَاتِم، وَأَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عُمَرَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، زَادَ أَبُو حَاتِمٍ: وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى، عَنْ بَقِيَّة، عَن عمر بن جثعم، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب،   (3) سُورَة الاعراف 172 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جثعم أَبُو فَرْوَة بن يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ قَالَ: وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ تَعَالَى ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، وَقِسْمَتِهِمْ قِسْمَيْنِ: أَهْلِ الْيَمِينِ وَأَهْلِ الشَّمَالِ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي. فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِنْطَاقُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَمْ يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ. وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَحَمْلُهَا على هَذَا فِيهِ نظر كَمَا بيتناه هُنَاكَ وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُسْتَقْصَاةً بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا، فَمَنْ أَرَادَ تَحْرِيرَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ - عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى، شَهِدْنَا أَنَّ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافلين. أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ، أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون " (1) .   (1) من سُورَة الاعراف 172، 173 " م 4 - قصَص الانبياء 1 " (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فَهُوَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ فروى عَنهُ مرفزوعا وَمَوْقُوفًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ وَالْوَالِبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. * * * وَاسْتَأْنَسَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ - وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شئ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي ". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.." الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا. قَالَ: فَجَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَخَلَقَهُمْ ثُمَّ صَوَّرَهُمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى.." الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَالَ: فإنى أشهد عَلَيْكُم السَّمَوَات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَنْ لَا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلَا رَبَّ غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا يُنْذِرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُم كتابي. قالزوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ. وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ. وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُّجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم. وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا " (1) وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله " (2) وَفِي ذَلِكَ قَالَ: " هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الاولى " (3) وَفِي ذَلِكَ قَالَ: " وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عهد، وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين (4) ". رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَرَوَى عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير   (1) سُورَة الاحزاب 8 (2) من سُورَة الرّوم 31 (3) من سُورَة النَّجْم 57 (4) سُورَة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ بِسِيَاقَاتٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ. * * * وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، امْتَثَلُوا كُلُّهُمُ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ لَهُ حَسَدًا وَعَدَاوَةً لَهُ، فَطَرَدَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَنَفَاهُ عَنْهَا، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ طَرِيدًا مَلْعُونًا شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيَعْلَى وَمُحَمَّدٌ ابْنَا (1) عُبَيْدٍ، قَالُوا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. ثُمَّ لَمَّا أسكن آدم الْجنَّة الَّتِى أسكنها، سَوَاء، أَكَانَت فِي السَّمَاء أم (2) فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ، أَقَامَ بهَا هُوَ وَزَوجته حوا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، يَأْكُلَانِ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا، سُلِبَا مَا كَانَا فِيهِ مِنَ اللِّبَاسِ وَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي مَوَاضِعَ هُبُوطِهِ مِنْهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ: فَقِيلَ بَعْضُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا،   (1) ا: حَدثنَا عبيد. (2) ا: أَو. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " وَخُلِقَ آدَمُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ " وَتَقَدَّمَ أَيْضًا حَدِيثُهُ عَنْهُ، وَفِيهِ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ - خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ فِيهِ أُخْرِجَ - وَقُلْنَا إِنَّ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ كَهَذِهِ الْأَيَّامِ - فَقَدْ لَبِثَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَإِنْ كَانَ إِخْرَاجُهُ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، أَوْ قُلْنَا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِقْدَارُهَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَقَدْ لَبِثَ هُنَاكَ مُدَّةً طَوِيلَةً. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خُلِقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالسَّاعَةُ مِنْهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَمَكَثَ مُصَوَّرًا طِينًا قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ سَوَّارٍ خَبَرَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: أَنَّهُ كَانَ لَمَّا أُهْبِطَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، فَحَطَّهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ " وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خُلِقَ كَذَلِكَ لَا أَطْوَلَ مِنْ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لَمْ يَزَالُوا يَتَنَاقَصُ خَلْقُهُمْ حَتَّى الْآنَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: يَا آدَمُ إِنَّ لِي حرما بحيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا، فَطُفْ بِهِ كَمَا تَطُوفُ مَلَائِكَتِي بِعَرْشِي، وَأَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا فَعَرَّفَهُ مَكَانَهُ وَعَلَّمَهُ الْمَنَاسِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ مَوْضِعَ كُلِّ خَطْوَةٍ خَطَاهَا آدَمُ صَارَتْ قربَة بَعْدَ ذَلِكَ. وَعَنْهُ: أَنَّ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلَهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ، أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسَبْعِ حبات من حِنْطَة، فَقَالَ: ماهذا؟ قَالَ: هَذَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتَ عَنْهَا فَأَكَلْتَ مِنْهَا فَقَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا؟ قَالَ: ابْذُرْهُ فِي الْأَرْضِ، فَبَذَرَهُ. وَكَانَ كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، فَنَبَتَتْ فَحَصَدَهُ، ثُمَّ دَرَسَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ ثُمَّ عَجَنَهُ ثُمَّ خَبَزَهُ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ جَهْدٍ عَظِيمٍ وَتَعَبٍ وَنَكَدٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى ". وَكَانَ أَوَّلُ كُسْوَتِهِمَا مِنْ شَعْرِ الضَّأْنِ: جَزَّاهُ ثُمَّ غَزَلَاهُ، فَنَسَجَ آدَمُ لَهُ جُبَّةً، وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا وَخِمَارًا. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ وُلِدَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ شئ مِنَ الْأَوْلَادِ؟ فَقِيلَ: لَمْ يُولَدْ لَهُمَا إِلَّا فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ بَلْ وُلِدَ لَهُمَا فِيهَا، فَكَانَ قابيل وَأُخْته مِمَّن ولدبها (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَأُمِرَ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ ابْنِ أُخْتِ أَخِيهِ (2) الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ بِالْأُخْرَى وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَمْ يَكُنْ تحل أُخْت لاخيها الذى ولدت مَعَه.   (1) ا: من ولديها (2) المطبوعة: أُخْت أُخْته. وَهُوَ تَحْرِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ذِكْرُ قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ: قَابِيلَ وَهَابِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، قَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي، مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ليريه كَيفَ يوارى سوأة أَخِيه، قَالَ يَا ويلتى! أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، فَأُوَارِيَ سوأة أخى، فَأصْبح من النادمين (1) ". وَقد تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلذكر هُنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. فَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ كُلِّ بَطْنٍ بِأُنْثَى الآخر (2) وَأَنَّ هَابِيلَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ قَابِيلَ، وَكَانَ أكبر من هابيل وَأُخْت هابيل أَحْسَنُ، فَأَرَادَ قَابِيلُ (3) أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا عَلَى أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا فَأَبَى، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَذَهَبَ آدم ليحج   (1) من سُورَة الْمَائِدَة 31 - 35 (2) المطبوعة: الاخرى (3) المطبوعة: هابيل. وَهُوَ تَحْرِيف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إِلَى مَكَّة، واستحفظ السَّمَوَات عَلَى بَنِيهِ فَأَبَيْنَ، وَالْأَرَضِينَ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ، فَتَقَبَّلَ قابيل بِحِفْظ ذَلِك. فَلَمَّا ذهب قربا قبانهما ; فَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً، وَكَانَ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَقرب قابيل حزمة من زرع من درئ زَرْعِهِ، فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لِأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي، فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ، وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ إِلَيْهِ يَدَهُ! وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الباقر أَن آدم كَانَ مباشرا لتقريبهما الْقُرْبَانَ وَالتَّقَبُّلُ مِنْ هَابِيلَ دُونَ قَابِيلَ، فَقَالَ قَابِيلُ لِآدَمَ: إِنَّمَا تَقُبِّلَ مِنْهُ لِأَنَّكَ دَعَوْتَ لَهُ وَلَمْ تَدْعُ لِي. وَتَوَعَّدَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ هَابِيلُ فِي الرَّعْيِ، فَبَعَثَ آدَمُ أَخَاهُ قَابِيلَ لِيَنْظُرَ مَا أَبْطَأَ بِهِ (1) ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِذَا هُوَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: تُقُبِّلَ مِنْكَ وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنِّي. فَقَالَ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. فَغَضِبَ قَابِيلُ عِنْدَهَا وَضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ بِصَخْرَةٍ رَمَاهَا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَشَدَخَتْهُ. وَقِيلَ: بل خنقه خنقا شَدِيدا وعضه كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ فَمَاتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ لَهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُ بِالْقَتْلِ: " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يدك لتقتلني، مَا أَنا بباسط   (1) ا: مَا بطأ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ; إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالمين " دَلَّ عَلَى خُلُقٍ حَسَنٍ، وَخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةٍ مِنْهُ (1) ، وَتَوَرُّعٍ أَنْ يُقَابِلَ أَخَاهُ بِالسُّوءِ الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ أَخُوهُ مِثْلُهُ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ ". وَقَوْلُهُ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمين ": أَيْ إِنِّي أُرِيدُ تَرْكَ مُقَاتَلَتِكَ وَإِنْ كُنْتُ أَشَدَّ مِنْكَ وَأَقْوَى، إِذْ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ، أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، أَي تتحمل إِثْم قَتْلَى (2) مَعَ مَالك مِنَ الْآثَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ آثَامَ الْمَقْتُولِ تَتَحَوَّلُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ إِلَى الْقَاتِلِ كَمَا قَدْ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ (3) ; فَإِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُورِدُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ " فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شئ من كتب الحَدِيث بِسَنَد صَحِيح ولاحسن وَلَا ضَعِيفٍ أَيْضًا. وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقُ فِي بعض الاشخاص يَوْم الْقِيَامَة، أَن يُطَالب الْمَقْتُول الْقَاتِل فَتكون حَسَنَات الْقَاتِل لاتفى بِهَذِهِ الْمظْلمَة فتحول من سيئات الْمَقْتُول   (1) ا: وخشية الله (2) ا: إِثْم مقاتلتي (3) ط: بعض من قَالَ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سَائِرِ الْمَظَالِمِ، وَالْقَتْلُ مَنْ أَعْظَمِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ، أَنَّهُ قَالَ عِنْد فتْنَة عصثمان بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ; الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي ". قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي. قَالَ " كُنْ كَابْنِ آدَمَ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا. وَقَالَ: كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَ هَذَا. وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمد: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة ووكيع، قَالَا: قَالَ حَدِيثا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوق، عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ". وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا مِثْلَ هَذَا سَوَاءً. وَبِجَبَلِ قَاسِيُونَ شَمَالِيَّ دِمَشْقَ مَغَارَةٌ يُقَال لَهَا مغازة الدَّمِ، مَشْهُورَةٌ بِأَنَّهَا الْمَكَانُ الَّذِي قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ - وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ وَهَابِيلَ، وَأَنَّهُ اسْتَحْلَفَ هَابِيلَ أَنَّ هَذَا دَمُهُ فَحَلَفَ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْمَكَانَ يُسْتَجَابُ عِنْدَهُ الدُّعَاءُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمْرَ يَزُورُونَ هَذَا الْمَكَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ. وَهَذَا مَنَامٌ لَوْ صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ هَذَا، لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه، قَالَ: يَا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، فَأُوَارِيَ سوأة أخى؟ فاصبح من النادمين " ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً، وَقَالَ آخَرُونَ حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ! وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ. قَالَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: أَخَوَيْنِ، فَتَقَاتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ عَمَدَ إِلَى الارض يحْفر لَهُ فِيهَا ثُمَّ أَلْقَاهُ وَدَفَنَهُ وَوَارَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ ينصع ذَلِك قَالَ: يَا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سوأة أخى؟ فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْغُرَابُ فَوَارَاهُ وَدَفَنَهُ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ أَنَّ آدَمَ حَزِنَ عَلَى ابْنِهِ هَابِيلَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ: تَغَيَّرَتِ اَلْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا * فَوَجْهُ اَلْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كل ذى لون وَطعم * وَقَلَّ بَشَاشَةً اَلْوَجْهُ اَلْمَلِيحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فَأُجِيب آدم: أَبَا قابيل (1) قَدْ قُتِلَا جَمِيعًا * وَصَارَ اَلْحَيُّ كَالْمَيْتِ اَلذَّبِيحِ وَجَاءَ بَشَرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا * عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ وَهَذَا الشِّعْرُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ كَلَامًا يَتَحَزَّنُ بِهِ بِلُغَتِهِ، فَأَلَّفَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ يَوْمَ قُتِلَ أَخَاهُ ; فَعُلِّقَتْ سَاقُهُ إِلَى فَخِذِهِ، وَجُعِلَ وَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ، تَنْكِيلًا بِهِ وَتَعْجِيلًا لِذَنْبِهِ وَبَغْيِهِ وَحَسَدِهِ لِأَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ". * * * وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ: أَن الله عزوجل أَجَّلَهُ وَأَنْظَرَهُ، وَأَنَّهُ سَكَنَ فِي أَرْضِ " نُودٍ " فِي شَرْقي عدن وهم يسمونه قتنين. وَأَنه ولد لَهُ خنوخ، ولخنوخ عِنْد ر، ولعندر محوايل، ولمحوايل مَتُّوشِيلُ، وَلِمَتُّوشِيلَ لَامَكُ. وَتَزَوَّجَ هَذَا امْرَأَتَيْنِ: عَدَّا وَصَلَا. فَوَلَدَتْ " عَدَّا " وَلَدًا اسْمُهُ أَبُلُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْقِبَابَ وَاقْتَنَى الْمَالَ. وَوَلَدَتْ أَيْضا نوبل. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ فِي ضَرْبِ الْوَنَجِ والصنح (2) . وَولدت " صلا "   (1) ط: هابيل (2) الونج محركة ضرب من الاوتار أَو الْعود أَو المعزف. والصنج: شئ يتَّخذ من صفر يضْرب أَحدهمَا على الآخر، وَآلَة بأوتار يضْرب بهَا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَلَدًا اسْمُهُ تُوبَلْقِينُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ النّحاس وَالْحَدِيد، وبيتا اسْمُهَا " نُعْمَى ". وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ آدَمَ طَافَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَدَعَتِ اسْمَهُ " شِيثَ " وَقَالَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ الَّذِي قَتَلَهُ قَابِيلُ (1) . وَوُلِدَ لِشِيثَ أَنُوشُ. قَالُوا: وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ يَوْمَ ولد لَهُ شِيث مأته وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمُرُ شِيثَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ أَنُوشُ مِائَةً وَخَمْسًا وَسِتِّينَ (2) ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ. وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ غَيْرُ أَنُوشَ. فَوُلِدَ لِأَنُوشَ " قَيْنَانُ " وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سنة وَخمْس عشر سنة، وَولد لَهُ بنُون وَبَنَات. فَلَمَّا كَانَ عمر قينان سبعين سنة ولد لَهُ مهلاييل، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَولد لَهُ بنُون وَبَنَات. فَلَمَّا كَانَ لمهلاييل مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " يَرْدُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِيَرْدَ مِائَةُ سَنَةٍ وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " خَنُوخُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِخَنُوخَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ مَتُّوشَلَخُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِمَتُّوشَلَخَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " لَامَكُ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ.   (1) ا: قاين (2) ا: مائَة وَخمْس سِنِين (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فَلَمَّا كَانَ لِلَامَكَ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ " نُوحٌ " وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ. فَلَمَّا كَانَ لِنُوحَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وُلِدَ لَهُ بِنُونَ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ. هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا. وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا، ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَفِيهَا غَلَطٌ كَثِيرٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ (1) فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ بَعضهم: أَن حَوَّاء ولدت لآدَم أَرْبَعِينَ ولد فِي عشْرين بَطنا. قالخه ابْن إِسْحَاق سماهم. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقِيلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَأُخْته قليما، وَآخرهمْ عبد المغيث وَأُخْته أم الْمُغِيثِ. ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَثُرُوا، وَامْتَدُّوا فِي الْأَرْضِ وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلقكُم مِمَّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء ... " (2) الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى رَأَى مِنْ ذُريَّته من أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَوْلَاده أَرْبَعمِائَة ألف (3) نسمَة. وَالله أعلم.   (1) ا: مِمَّا سننبه (2) النِّسَاء 1 (3) ا: أَرْبَعمِائَة سنة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَقَالَ تَعَالَى: " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يشركُونَ " (1) الْآيَاتِ. فَهَذَا تَنْبِيهٌ أَوَّلًا بِذِكْرِ آدَمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رجوما للشياطين (2) " وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُجُومَ الشَّيَاطِينِ لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانَ مَصَابِيحِ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدَ مِنْ شَخْصِهَا إِلَى جِنْسِهَا. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لما وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ. فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تفاسيرهم عِنْد هَذِه الْآيَة، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عبد الصَّمد ابْن عبد الْوَارِث بِهِ، فَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ   (1) ا: أَرْبَعمِائَة نسمَة (2) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 13 (3) سُورَة الْملك 6 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ. فَهَذِهِ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الصَّحَابِيِّ وَهَذَا أَشْبَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ من الاسرائيليات، وَهَكَذَا روى مَوْقُوفا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَلَقًّى عَنْ كَعْب الاحبار وَذَوِيهِ (1) . وَالله أعلم. وَقد فسر الْحسن الْبَصْرِيّ هَذِه الْآيَات بِخِلَافِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ لِيَكُونَا أَصْلَ الْبَشَرِ، وَلِيَبُثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً، فَكَيْفَ كَانَتْ حَوَّاءُ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا؟ ! وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ قَدْ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَتْقَى لِلَّهِ مِمَّا ذُكِرَ عَنْهُمَا فِي هَذَا ; فَإِنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسمَاء كل شئ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ   (1) ط: ودونه. وَهُوَ تَحْرِيف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ غَفِيرٌ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمَّ سَوَّاهُ قُبُلًا ". وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ هُرْمُزَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ الْمَلَائِكَةِ: جِبْرِيلُ، وَأَفْضَلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَفْضَلُ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ نَافِعًا أَبَا هُرْمُزَ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيْسَ أَحَدٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا آدَمَ، لِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ إِلَى سُرَّتِهِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكْنَى فِي الْجَنَّةِ إِلَّا آدَمُ ; كُنْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَبُو الْبَشَرِ وَفِي الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ (1) ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: أَهْلُ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَّا آدَمَ فَإِنَّهُ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ   (1) الاصل: سبح. وَهُوَ تَحْرِيف. والتصويب من ميزَان الِاعْتِدَال 2 / 286. وَشَيخ هَذَا مُتَّهم بِالْوَضْعِ. " م 5 - قصَص الانبياء 1 " (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِآدَمَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ لَهُ مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: وَإِذَا عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ (1) وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا آدَمُ وَهَؤُلَاءِ نَسَمُ (2) بَنِيهِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الْيَمِينِ - وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ - ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الشِّمَالِ - وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ - بَكَى. وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمثنى، حَدَّثَنى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ آدَمَ مِثْلَ عَقْلِ جَمِيعِ وَلَدِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ " قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ إِلَّا أَحْسَنَ الاشباه. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْن عمر أَيْضًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْجَنَّةَ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ، فَإِنَّكَ خَلَقْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِيَّ كَمَنَ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صورته " وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا فِيهِ مَسَالِكَ كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَالله أعلم.   (1) الاسودة يكنى بهَا عَن الشَّخْص (2) النسم: جمع نسمَة، وهى الرّوح (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ذِكْرُ وَفَاةِ آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْنَى شِيثَ: هِبَةُ اللَّهِ، وَسَمَّيَاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُزِقَاهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ هَابِيلُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ صَحِيفَةٍ وَأَرْبَعَ صُحُفٍ، عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَّمَهُ عِبَادَاتِ تِلْكَ السَّاعَاتِ، وَأَعْلَمَهُ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُقَالُ إِنَّ أَنْسَاب بنى آدم الْيَوْم كلهَا تنْهى إِلَى شِيثَ، وَسَائِرُ أَوْلَادِ آدَمَ غَيْرَهُ انْقَرَضُوا وَبَادُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِمَا تُوُفِّيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بحنوط، وكفن من عِنْد الله عزوجل من الْجنَّة، وعزوا فِيهِ فِيهِ ابْنه ووصيه شيثا عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَر سَبْعَة أَيَّام بليا لِيهن. وَقد قَالَ عبد الله ابْن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَن يحيى - هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ - قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا بِالْمَدِينَةِ يَتَكَلَّمُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا هَذَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ! إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. قَالَ: فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ، فاستقبلتهم الْمَلَائِكَة وَمَعَهُمْ أَكْفَانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 حنوطه، وَمَعَهُمْ الفؤوس وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ؟ أَوْ مَا تُرِيدُونَ وأيت تَطْلُبُونَ؟ قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ وَاشْتَهَى مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ أَبُوكُمْ. فَجَاءُوا فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ فَلَاذَتْ بِآدَمَ، فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي فَإِنِّي إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قبلك، فخلى بينى وَبَين مَلَائِكَة ربى عزوجل. فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه، وحفروا لَهُ ولحدوه وصلوا عَلَيْهِ ثمَّ أدخلوه قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونٍ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن رَسُول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَبَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ أَرْبَعًا " قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَيْمُونٍ فَقَالَ عَن ابْن عمر. واختفلفوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ: فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُفِنَ عِنْدَ الْجَبَل الذى أهبط فِيهِ (1) فِي الْهِنْدِ، وَقِيلَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ بِمَكَّةَ. وَيُقَالُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ حَمَلَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ فِي تَابُوتٍ، فَدَفَنَهُمَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. حَكَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ وَرِجْلَاهُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيت الْمُقَدّس. وَقد مَاتَت بعده حَوَّاء بسنه وَاحِدَة.   (1) ط. مِنْهُ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَقَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ عُمُرَهُ اكْتَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُهُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مَطْعُونٌ فِيهِ مَرْدُودٌ، إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ الَّذِي بِأَيْدِينَا مِمَّا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الْمَعْصُومِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ إِنْ (1) كَانَ مَحْفُوظًا - مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْإِهْبَاطِ، وَذَلِكَ تِسْعمائَة [سنة] (2) وَثَلَاثُونَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَهِيَ بِالْقَمَرِيَّةِ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْإِهْبَاطِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ بَكَتِ الْخَلَائِقُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شِيثُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ نَبِيًّا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَحِيفَةً. فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنُوشَ (3) فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قَيْنَنُ (4) ثمَّ من بعده ابْنه مهلاييل - وَهُوَ الذى يزْعم الاعاجم   (1) ا: إِذا (2) من ا. (3) ا: يانش. (4) ط: قاين. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 مِنَ الْفُرْسِ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَطَعَ الْأَشْجَارَ، وَبَنَى الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ الْكِبَارَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ وَمَدِينَةَ السُّوسِ الْأَقْصَى. وَأَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ وَشَرَّدَهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى أَطْرَافِهَا وَشِعَابِ جِبَالِهَا وَأَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْغِيلَانَ، وَكَانَ لَهُ تَاجٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَدَامَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَرْدُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَام على الْمَشْهُور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ذِكْرُ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبيا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا (1) " فَإِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَوَصَفَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ خَنُوخُ هَذَا. وَهُوَ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ. وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أَعْطِيَ النُّبُوَّةَ بَعْدَ آدَمَ وَشِيثَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ آدَمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَمَانِي سِنِينَ. وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ فَقَالَ: " إِنَّهُ كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ بِهِ فَمَنْ وَافق خطه فَذَاك ". يويزعم كثير من عُلَمَاء التَّفْسِير وَالْأَحْكَامِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهُ هَرْمَسَ الْهَرَامِسَةِ، وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَمَا كَذَبُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا " هُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَقد روى ابْن جرير عَن يُونُس عَن عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَال بن يسَاف   (1) من سُورَة مَرْيَم 57، 58 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِدْرِيسَ " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا "؟ فَقَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ: أَنِّي أَرْفَعُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ جَمِيعِ عَمَلِ بَنِي آدَمَ - لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ - فَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ عَمَلًا، فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا فَكلم ملك [الْمَوْت (1) ] حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ مُنْحَدِرًا، فَكَلَّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ؟ قَالَ هُوَ ذَا عَلَى ظهرى، فَقَالَ ملك الْمَوْت: يَا للعجب (2) ! بُعِثْتُ وَقِيلَ لِي اقْبِضْ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ؟ ! فَقَبَضَ روحه هُنَاكَ. فَذَلِك قَول الله عزوجل " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا ". وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا. وَعِنْدَهُ فَقَالَ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: سَلْ لِي مَلَكَ الْمَوْتِ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي؟ فَسَأَلَهُ وَهُوَ مَعَهُ: كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَنْظُرَ، فَنَظَرَ فَقَالَ إِنَّكَ لِتَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا طَرْفَةُ عَيْنٍ، فَنَظَرَ الْمَلَكُ إِلَى تَحْتِ جَنَاحِهِ إِلَى إِدْرِيسَ فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِضَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ. وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا "   (1) سَقَطت من المطبوعة. (2) ا: فالعجب (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى الْآنِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قُبِضَ هُنَاكَ. فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا ": رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَمَاتَ بِهَا، وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ. وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عليا " قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ قَائِلُونَ رُفِعَ فِي حَيَاة أَبِيه يرد بن مهلاييل وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِدْرِيسَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُوحٍ بَلْ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ: أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَا (1) لَهُ. وَهَذَا لَا يدل وَلَا بُد، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ الرَّاوِي حَفِظَهُ جَيِّدًا، أَو لَعَلَّه قَالَه عَلَى سَبِيلِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَنْتَصِبْ لَهُ فِي مَقَامِ الْأُبُوَّةِ كَمَا انْتَصَبَ لِآدَمَ أَبِي الْبشر، وَإِبْرَاهِيم الذى هُوَ خَلِيل الرَّحْمَن وأكبر أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ. صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.   (1) ط: قَالَ. وَهُوَ تَحْرِيف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خنوخ - وَهُوَ إِدْرِيس - بن يرد بن مهلاييل بْنِ قَيْنَنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدم أَبى الْبشر عَلَيْهِ السَّلَام. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَعَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ يَكُونُ بَيْنَ مَوْلِدِ نُوحٍ وَمَوْتِ آدَمَ مِائَةٌ وَسِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ قُرُونٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظ أَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَن أَخِيه زيد بن سَلام، سَمِعْتُ أَبَا سَلَّامٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ مُكَلِّمٌ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُوحٍ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ. قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ مِائَةَ سَنَةٍ - كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ - فَبَيْنَهُمَا أَلْفُ سَنَةٍ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ مَا قَيَّدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْإِسْلَامِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ أُخَرُ مُتَأَخِّرَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَزَادَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ قَابِيلَ وَبَنِيهِ عَبَدُوا النَّارَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ مِنَ النَّاسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ من بعد نوح " وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ " وَقَالَ تَعَالَى: " وقرونا بَين ذَلِك كثيرا " وَقَالَ: " وَكم أهلكناه قبلهم من قرن " وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ... " الْحَدِيثَ، فَقَدْ كَانَ الْجِيلُ قَبْلَ نُوحٍ يُعَمِّرُونَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ، فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَانَ قَوْمُهُ يُقَالُ لَهُم بَنو راسب فِيمَا ذكره ابْن جُبَير وَغَيْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ بُعِثَ، فَقِيلَ كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ ابْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سنة حَكَاهَا ابْن جرير، وَعزا الثَّالِثَة مِنْهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ; فَفِي الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالصَّافَّاتِ وَاقْتَرَبَتْ، وَأَنْزَلَ فِيهِ سُورَةً كَامِلَةً. فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إيا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ من الله مَا لَا تعلمُونَ * أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (2) ".   (1) الْآيَات: 59 - 64. (2) الْآيَات: 72 - 74. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا من فضل بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ. قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا إِنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إنى إِذا لمن الظَّالِمين. قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجرامي وَأَنا برِئ مِمَّا تُجْرِمُونَ. وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ: إِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيل. وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرض ابلعى ماءك وياسماء أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالح، فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ من الخاسرين * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثمَّ يمستهم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتقين " (1) .   (1) الْآيَات: 26 - 50. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الانبياء: " ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيره أَفلا تَتَّقُون * فَقَالَ الملا الذى كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لمبتلين (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح الْمُرْسلين * إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِن أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * فَاتَّقُوا الله وأطيعون * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين * قَالُوا لثن لم تَنْتَهِ يَا نوح   (1) الْآيَتَانِ: 27، 28. (2) الْآيَات: 24 - 31. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لتكونن من المرجومين * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم " (1) وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة وَالصَّافَّات: " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ من الكرب الْعَظِيم * وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ * وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلام على نوح فِي الْعَالمين * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤمنِينَ * ثمَّ أغرقنا الآخرين (2) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا ربع أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم * إِنَّا أرسنا نوحًا إِلَى قومه   (1) الْآيَات: 106 - 123 (2) الْآيَات. 76 - 83 (3) الْآيَات 10 - 17 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَن أنذر قَوْمك من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجفل مُسَمًّى، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا ترجون لله وقارا * وَقد خَلقكُم أطوارا * ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا * وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا، وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا * وَالله جعل لكم الارض بساطا * لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا * قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا * ومكروا مكرا كبارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ، وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كثيرا وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا * رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل " م 6 - قصَص الانبياء 1 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بيتى مُؤمنا، وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات، وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا (1) " وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَسَنَذْكُرُ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا مَدْحُهُ وَذَمُّ مَنْ خَالَفَهُ، فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ، وآتينا دَاوُد زبورا * رسلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (2) " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: " وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وهرون، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (3) " الْآيَات. وَتَقَدَّمت قصَّته فِي الاعراف (4) .   (1) سُورَة نوح بِتَمَامِهَا. (2) الْآيَات. 163 - 165 (3) الْآيَات: 84 - 88 (4) ا: قصَّة الاعراف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَقَالَ فِي سُورَة بَرَاءَة: " ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين والمؤتفكات أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (1) " وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي يُونُسَ وَهُودٍ. وَقَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب (2) " وَقَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نوح إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا (3) " وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: " وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرا بَصيرًا (4) ". وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَم وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (5) وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب (6) ".   (1) الْآيَة: 72 (2) الْآيَة: 10 (3) الاسراء 3 (4) الاسراء 17. (5) الْآيَة 7 (6) الْآيَات: 11 - 13 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَقَالَ فِي سُورَة غَافِر: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهمْ وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب * وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم أَصْحَاب النَّار (1) ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّورَى: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد (3) ". وَقَالَ فِي الذَّارِيَاتِ: " وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (4) " وَقَالَ فِي النَّجْمِ: " وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى (5) ". وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فيث ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ; فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (6) ".   (1) الْآيَتَانِ 5: 6 (2) الْآيَة: 12 (3) الْآيَات: 11 - 13 (4) الْآيَة: 45 (5) الْآيَة: 52 (6) الْآيَة: 27 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: " ضَرَبَ اللَّهُ مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ، فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (1) ". * * * وَأَمَّا مَضْمُونُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلُ أَوِ الْمُدَّةُ عَلَى مَا سَلَفَ. ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الصَّالِحَةِ حَدَثَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ آلَ الْحَالُ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيث ابْن جريح عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ ونسرا (2) " قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذا هلك أُولَئِكَ وانتسخ (3) الْعِلْمُ عُبِدَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَب بعد.   (1) الْآيَة 10. (2) سُورَة نوح (3) ا: وَنسخ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ (1) يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ. فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ. فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ ابْن الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدٌّ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَسُوَاعٌ ونسر، أَولا د آدم، وَكَانَ " ود " أكبرهم وأبرهم بِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى ; حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ، قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ - هُوَ الْبَاقِرُ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ الله تَعَالَى. قَالَ ذكر ودا قَالَ: كَانَ رجلا صَالحا (2) ، وَكَانَ محببا فِي قومه، فَلَمَّا مَاتَ عكفوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ أُصَوِّرَ لكم مثله فَيكون فِي ناديكم فتذكرونه بِهِ؟ قَالُوا نعم. فصور لَهُم مثله، قَالَ: فوضعوه (3) فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بهم من ذكره قَالَ: هَل لكم أجعَل فِي منزل كل وَاحِد.   (1) ا: تبَاع. (2) أ: مُسلما (3) أَو وضعوه (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ لِيَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ. قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ. قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدُرِسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ غَيْرَ اللَّهِ " وَدٌّ " الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدًّا. وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ صَنَمٍ مِنْ هَذِهِ عَبَدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَتِ الْعُهُودُ وَالْأَزْمَانُ، جَعَلُوا تِلْكَ الصُّوَرَ تَمَاثِيلَ مُجَسَّدَةً لِيَكُونَ أَثْبَتَ لَهَا (1) ، ثُمَّ عُبِدَتْ بعد ذَلِك من دون الله عزوجل. وَلَهُم فِي عبادتها مسالك كَثِيرَة جدا قد ذَكرنَاهَا فِي موَاضعهَا مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَتْ عِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ، تِلْكَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي رأينها بِأَرْض الْحَبَشَة، وَيُقَال لَهَا مَارِيَة، وذكرتا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا قَالَ: " أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدا، ثمَّ صوروا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَة، أُولَئِكَ شرار الْخلق عِنْد الله عزوجل ". * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَسَادَ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ وَعم الْبلَاء بِعبَادة الْأَصْنَامِ فِيهَا، بَعَثَ اللَّهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سواهُ.   (1) ط: لَهُم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، قَالَ: " فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: رَبِّي [قَدْ (1) ] غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَن شَجَرَة فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا؟ أَلا تشفع لنا إِلَى رَبك عزوجل؟ فَيَقُولُ: رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفسِي ينفسى " وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ كَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، دعاهم إِلَى إِفْرَاد عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَألا يعبدوا مَعَه صنما وَلَا تمثالا وَلَا طوغوتا وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هم البَاقِينَ (2) ". وَقَالَ فِيهِ وَفِي إِبْرَاهِيمَ " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّة وَالْكتاب " أَيْ كُلُّ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَمِنْ ذُريَّته. وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم.   (1) سَقَطت من ا. (2) من سُورَة الصافات 79. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ " وَقَالَ تَعَالَى: " واسأل من أرسنا قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا، أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَة يعْبدُونَ " وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنا فاعبدون " وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم عَظِيم " وَقَالَ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم اليم " وَقَالَ: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون " وَقَالَ: " يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون " إِلَى: " وَقد خَلقكُم أطوارا " الْآيَات الكريمات فَذكر أَنهم دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِّ وَالْإِجْهَارِ، بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وكل هَذَا لم يَنْجَحْ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالطُّغْيَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ. وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَتَنَقَّصُوهُ وَتَنَقَّصُوا مَنْ آمن بِهِ، وتوعدهم بِالرَّجْمِ وَالْإِخْرَاجِ، وَنَالُوا مِنْهُمْ وَبَالَغُوا فِي أَمْرِهِمْ. " قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ " أَيِ السَّادَةُ الْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: " إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ". " قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمين " أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ، بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالمين، أَي الذى يَقُول لشئ كُنْ فَيَكُونُ " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ ". وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا، أَيْ فصيحا ناصحا، أعلم النَّاس بِاللَّه عزوجل. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: " مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ". تعجبوا أَن يكون بشرا رَسُولا، وتنقصوا من اتَّبَعَهُ وَرَأَوْهُمْ أَرَاذِلَهُمْ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا من أفناد النَّاسِ وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: وَهُمْ أَتبَاع الرُّسُل، وَمَا ذَاك إِلَّا لانه لامانع لَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُمْ " بَادِيَ الرَّأْيِ " أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمُ اسْتَجَابُوا لَكَ مِنْ غير نظر وَلَا روية. وَهَذَا الذى رموهم بِهِ هُوَ عَيْنُ مَا يُمْدَحُونَ بِسَبَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فَإِنَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَوِيَّةٍ وَلَا فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ مَتَى ظَهَرَ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادِحًا لِلصَّدِّيقِ: " مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ ". وَلِهَذَا كَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ أَيْضًا سَرِيعَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ: لِأَنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَى مَنْ عَدَاهُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ أَن ينص فِيهِ على خِلَافَته فَتَركه، قَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ وَلِمَنْ آمَنَ بِهِ: " وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ " أَيْ لَمْ يَظْهَرْ لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بالايمان وَلَا مرية عَلَيْنَا " بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وآتاني رَحْمَة من عِنْده فعميت عَلَيْكُم أنلزمكوها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون ". وَهَذَا تَلَطُّفٌ فِي الْخِطَابِ مَعَهُمْ: وَتَرَفُّقٌ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخْشَى (1) " وَقَالَ تَعَالَى: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة، وجادلهم بالتى هِيَ أحسن (2) " وَهَذَا مِنْهُ. يَقُول لَهُم: " أرأيتهم إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَة من عِنْده " أَي النُّبُوَّة والرسالة، " فعميت عَلَيْكُم " أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا، " أَنُلْزِمُكُمُوهَا " أَيْ أَنَغْصِبُكُمْ بِهَا وَنَجْبُرُكُمْ عَلَيْهَا؟ " وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُون " أَيْ لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. " وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أجْرى إِلَّا على الله " أَيْ لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إيَّاكُمْ مَا ينفعكم فِي دنيا كم وَأُخَرَاكُمْ، إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي، وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: " وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم ملاقوا رَبهم، وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون " كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِك، فَأبى عَلَيْهِم ذَلِك وَقَالَ: " إِنَّهُم ملاقوا رَبهم " أَي فَأَخَاف إِن طردتهم أَفلا تذكرُونَ.   (1) سُورَة طه 46 (2) سُورَة النَّحْل 137 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، كَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَأَشْبَاهِهِمْ، نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْكَهْفِ. " وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خرائن اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي ملك " أَيْ بَلْ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ، لَا أَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَعْلَمَنِي بِهِ، وَلَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. " وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعينكُم " يَعْنِي مِنْ أَتْبَاعِهِ " لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لمن الظَّالِمين " أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالُوا فِي الْمَوَاضِع الْآخَرِ: " أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ المومنين * إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين ". * * * وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ " أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ. وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمُحَارَبَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ. وَكَانَ الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ، وَصَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَلا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا ". وَلِهَذَا: " قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جسدا لنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُم بمعجزين " أَي إِنَّمَا يقدر على ذَلِك الله عزوجل، فَإِنَّهُ الذى لَا يعجزه شئ وَلَا يكترثه أَمر، بل هُوَ الذى يَقُول للشئ كن فَيكون. " وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون " أَيْ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ، هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ. * * * " وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ من قَوْمك إِلَّا من قد آمن " تَسْلِيَة لَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، " فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمن، أَيْ لَا يَسُوأَنَّكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرَ قريب والنبأ [عجب (1) ] عَجِيبٌ. " وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون ".   (1) من: ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا يَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ وَفَلَاحِهِمْ، وَرَأَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى أَذِيَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةَ غضب [الله عَلَيْهِم (1) ] فَلَبَّى اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَجَابَ طِلْبَتَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهله من الكرب الْعَظِيم ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم ". وَقَالَ تَعَالَى " قَالَ رب إِن قوم كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ معى من الْمُؤمنِينَ " وَقَالَ تَعَالَى: " فَدَعَا ربه أَنى مغلوب فانتصر " وَقَالَ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ". وَقَالَ تَعَالَى: " مِمَّا خطيأتهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا * فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا ". فَاجْتمع عَلَيْهِم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نَبِيّهم عَلَيْهِم. فَعِنْدَ ذَلِك أمره الله تَعَالَى أَن يصنع الْفلك، وهى السَّفِينَة الْعَظِيمَة الَّتِى لم يكن لَهَا نَظِير قبلهَا وَلَا يكون بعْدهَا مثلهَا. وَقدم الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَنه إِذا جَاءَ أمره، وَحل بهم بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، أَنه لَا يعاوده فيهم وَلَا يُرَاجِعهُ ; فَإِنَّهُ لَعَلَّه قد تُدْرِكهُ رقة على قومه عِنْد مُعَاينَة الْعَذَاب النَّازِل بهم، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة. وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.   (1) من: ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 " وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قومه سخروا مِنْهُ " أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، " قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُم كَمَا تسخرون " أَيْ نَحْنُ الَّذِينَ نَسْخَرُ مِنْكُمْ وَنَتَعَجَّبُ مِنْكُمْ فِي اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَعِنَادِكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَذَابِ بِكُمْ وَحُلُولَهُ عَلَيْكُمْ. " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقيم ". وَقَدْ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْكُفْرَ الْغَلِيظَ وَالْعِنَادَ الْبَالِغَ فِي الدُّنْيَا، وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ أَيْضا أَن يكون جَاءَهُم رَسُولٌ. كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَعِيل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يجِئ نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَأمته، فَيَقُول الله عزوجل هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ " وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (1) ". وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ. فَهَذِهِ الْأُمَّةُ تَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ نَبِيِّهَا الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نُوحًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ بَلَّغَهُ إِلَى أُمَّتِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا قَدْ يَضُرُّهُمْ إِلَّا وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْهُ، وحذرهم مِنْهُ.   (1) سُورَة الْبَقَرَة 145 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَهَكَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، حَتَّى إِنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّعُ خُرُوجَهُ فِي زَمَانِهِمْ ; حَذَرًا عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةً وَرَحْمَةً بِهِمْ. كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس فأنثى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: " إِنِّي لَأُنْذِرِكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمُهُ. لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قومه، ولنى أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قومه؟ إِنَّه أَعور، وَإنَّهُ يجِئ مَعَه بمثال الْجنَّة وَالنَّار والتى يَقُول عَلَيْهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ ". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: لَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، أَمْرَهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا لِيَعْمَلَ مِنْهُ السَّفِينَةَ، فَغَرَسَهُ وَانْتَظَرَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ نَجَرَهُ فِي مائَة أُخْرَى، وَقيل فِي أَرْبَعِينَ سنة. وَالله أعلم. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق عَن الثَّوْريّ: وَكَانَت مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وَقِيلَ مِنَ الصَّنَوْبَرِ وَهُوَ نَص التَّوْرَاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طُولَهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَأَنْ يُطْلَى ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا بِالْقَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا جُؤْجُؤًا (1) أَزْوَرَ يَشُقُّ الْمَاءَ. وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ طولهَا ثَلَاثمِائَة ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَهَذَا الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا رَأَيْتُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ: سِتّمائَة فِي عرض ثَلَاثمِائَة، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ سِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ وَقِيلَ كَانَ طُولُهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ. قَالُوا كُلُّهُمْ: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدَة عشرَة أَذْرُعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلنَّاسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ. وَكَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبَقٌ عَلَيْهَا. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك بأعيننا ووحينا " أَي بأمرنا لَك، وبمرأى من الصنعتك لَهَا، وَمُشَاهَدَتِنَا لِذَلِكَ، لِنُرْشِدَكَ إِلَى الصَّوَابِ فِي صَنْعَتِهَا. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (2) ". فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أمره وَحل بأسه، أَن   (1) الجؤجؤ: صدر السَّفِينَة. وفى اجؤجا. والازور: المائل. (2) ا: بِأَن. (م 7 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يَحْمِلَ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَسَائِرِ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَغَيْرِهَا لِبَقَاءِ نَسْلِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ أَهْلَهُ، أَيْ أَهْلَ بَيْتِهِ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ، أَيْ إِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ قَدْ نَفَذَتْ فِيهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي لَا تُرَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ حُلُولُ الْبَأْس الذى لَا يرد. وَأمر أَنه لَا يُرَاجِعَهُ فِيهِمْ إِذَا حَلَّ بِهِمْ مَا يعانيه مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، الَّذِي قَدْ حَتَّمَهُ عَلَيْهِمُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَجْهُ الْأَرْضِ، أَيْ نَبَعَتِ الْأَرْضُ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا حَتَّى نَبَعَتِ التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ عَيْنٌ فِي الْهِنْدِ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ بِالْكُوفَةِ، وَعَنْ قَتَادَةَ بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ فَلَقُ الصُّبْحِ وَتَنْوِيرُ الْفَجْرِ، أَيْ إِشْرَاقُهُ وَضِيَاؤُهُ. أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ فاحمل فِيهِ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ " هَذَا أَمر بِأَنَّهُ (1) عِنْدَ حُلُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَفِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْكَل سَبْعَة أَزوَاج، وَمَا لَا يُؤْكَل زَوْجَيْنِ ذكر وَأُنْثَى.   (1) ا: بِأَن. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي كِتَابِنَا الْحَقِّ: " اثْنَيْنِ " إِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ مَفْعُولًا بِهِ ; وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَوْكِيدًا لِزَوْجَيْنِ وَالْمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوف فَلَا ينافى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ - وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ مِنَ الطُّيُورِ الدُّرَّةُ (1) ، وَآخِرُ مَا دَخَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْحِمَارُ. وَدَخَلَ إِبْلِيسُ مُتَعَلِّقًا بِذَنَبِ الْحِمَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن صَالح، حَدَّثَنى لليث، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَ أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ نُطَمْئِنُ؟ أَوْ كَيْفَ تَطْمَئِنُّ الْمَوَاشِي وَمَعَنَا الْأَسَدُ؟ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُمَّى، فَكَانَتْ أَوَّلَ حُمَّى نَزَلَتْ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ شَكَوُا الْفَأْرَةَ، فَقَالُوا: الْفُوَيْسِقَةُ تُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا وَمَتَاعَنَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَسَدِ فَعَطَسَ، فَخَرَجَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ فَتَخَبَّأَتِ الْفَأْرَةُ مِنْهَا. هَذَا مُرْسَلٌ (2) . وَقَوْلُهُ: " وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل " أَي من استجيبت فِيهِمُ الدَّعْوَةَ النَّافِذَةَ مِمَّنْ كَفَرَ، فَكَانَ مِنْهُمِ ابْنُهُ " يَامٌ " الَّذِي غَرِقَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.   (1) الدرة: ضرب من الببغاوات. وفى الاصل: الذّرة. محرفة. والتصويب من الْحَيَوَان للجاحظ 5 / 151. (2) هَذِه خرافات لَا تنتمي إِلَى الْعلم الصَّحِيح، وأوهام مَا كَانَ ينبغى أَن يلقى إِلَيْهَا ابْن كثير بَالا، وَلكنه كَانَ يسير على مَنْهَج الْجمع مَعَ بَيَان حَالَة مَا يرويهِ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 " وَمَنْ آمَنَ " أَيْ وَاحْمِلْ فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ أُمَّتِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل " هَذَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمُ الْأَكِيدَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا بِضُرُوبِ الْمَقَالِ وَفُنُونِ التلطفات والتهديد والوعيد تَارَة، وَالتَّرْغِيب والوعيد أُخْرَى. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا. وَقِيلَ كَانُوا عَشَرَةً. وَقِيلَ إِنَّمَا كَانُوا نُوحًا وَبَنِيهِ الثَّلَاثَةَ وَكَنَائِنَهُ الْأَرْبَعَ بِامْرَأَةِ " يَامٍ " الذى انخزل وانعزل، وسلك (1) عَن طَرِيقِ النَّجَاةِ فَمَا عَدَلَ إِذْ عَدَلَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، بَلْ هِيَ نَصٌّ فِي أَنَّهُ قَدْ رَكِبَ مَعَهُ [مِنْ] (2) غَيْرِ أَهْلِهِ طَائِفَةٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، كَمَا قَالَ: " ونجنى وَمن معى من الْمُؤمنِينَ ". وَقِيلَ كَانُوا سَبْعَةً. وَأَمَّا امْرَأَةُ نُوحٍ وَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ: وَهُمْ حَامٌ وِسَامٌ، وَيَافِثُ، ويام، ويسميه أَهْلُ الْكِتَابِ كَنْعَانَ وَهُوَ الَّذِي قَدْ غَرِقَ، وعابر، فقد مَاتَت قبل الطوفان، وَقيل إِنَّهَا غَرِقَتْ مَعَ مَنْ غَرِقَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لِكُفْرِهَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَفَرَتْ   (1) ط: وتسلل. (2) سَقَطت من ط. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهَا أُنْظِرَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالظَّاهِر الاول لقَوْله: " وَلَا نذر على الارض من الْكَافرين ديارًا ". * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين ". أمره أَن يحمد ربه على مَا سخر لَهُ من هَذِه السَّفِينَة، فَنَجَّاهُ بهَا وَفتح بَينه وَبَين قومه، وَأقر عينه مِمَّن خَالفه وَكذبه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " والذى خلق الازواج كلهَا، وَجعل لكم من الْفلك والانعام مَا تَرْكَبُونَ * لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقولُوا سُبْحَانَ الذى سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين * وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون (1) " وَهَكَذَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهَا مَحْمُودَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (2) " وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَقَالَ: " اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها ومرسلها إِن ربى لغَفُور رَحِيم " أَي على اسْم الله ابْتِدَاء   (1) سُورَة الزخرف 12 - 14 (2) سُورَة الاسراء 80. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 سَيرهَا وانتهاؤه. " إِن ربى لغَفُور رَحِيم " أَيْ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، مَعَ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا، لَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، كَمَا أَحَلَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَهِيَ تَجْرِي بهم فِي موج كالجبال " وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا لَمْ تَعْهَدْهُ الْأَرْضُ قَبْلَهُ وَلَا تُمْطِرْهُ بَعْدَهُ، كَانَ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ مِنْ جَمِيعِ فِجَاجِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ على ذَات أَلْوَاح ودسر " (1) . والدسر المسامير " تجرى بأعيننا " أَيْ بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا وَحِرَاسَتِنَا وَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا " جَزَاءً لمن كَانَ كفر ". وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ فِي ثَالِث عشر من شهر آب فِي حِسَاب القبط. وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة " أَيِ السَّفِينَةِ " لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَة ". قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى أَعلَى جبل فِي الارض (2) خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَمَّ جَمِيعَ الْأَرْضِ طُولَهَا وَالْعَرْضَ، سَهْلَهَا وَحَزْنَهَا، وَجِبَالَهَا وَقِفَارَهَا وَرِمَالَهَا، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِير.   (1) سُورَة اقْتَرَبت (2) ط: بالارض (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ أهل ذَلِك الزَّمَان قد ملاوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمْ تَكُنْ بُقْعَةٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. " وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ، يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ من المغرفين ". وَهَذَا الابْن هُوَ " يام " أَخُو سَام وَحَام وَيَافث، وَقيل اسْمه كنعان. وَكَانَ كَافِرًا عمل عملا غير صَالح، فَخَالف أَبَاهُ فِي دينه ومذهبه، فَهَلَك مَعَ من هلك. هَذَا وَقد نجا مَعَ أَبِيه الاجانب فِي النّسَب، لما كَانُوا موافقين فِي الدّين والمدهب. " وَقيل يَا أَرض ابلعى ماءك وياسماء أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الجودى، وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين ". أَيْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يبْق بهَا (1) أحد مِمَّن عبد غير الله عزوجل، أَمر الله الارض أَن تبتلع (2) مَاءَهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ أَيْ تُمْسِكُ عَنِ الْمَطَرِ، " وَغِيضَ الْمَاءُ " أَيْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ، " وَقُضِيَ الْأَمْرُ " أَيْ وَقَعَ بِهِمُ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ ; مِنْ إحلاله بهم ماحل بهم.   (1) ط: مِنْهَا. (2) ا: تبلع. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 " وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين " أَيْ نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْقُدْرَةِ: بُعْدًا لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبك لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم (4) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين " وَقَالَ تَعَالَى: " ثمَّ أغرقنا الآخرين ". وَقَالَ: " وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (5) ". وَقَالَ تَعَالَى: " مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلم يَجدوا لَهُم من   (1) من سُورَة الاعراف 64 (2) من سُورَة يُونُس 73 (3) من سُورَة الانبياء 77 (4) من سُورَة الشُّعَرَاء 119 - 122 (5) سُورَة الْقدر (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا (1) " وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - دَعْوَتَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامَانِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم فِي تقسيريهما مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ قَائِد مولى عبد الله ابْن أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ! ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَكَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ - يَعْنِي إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا - وَغَرَسَ مِائَةَ سَنَةٍ الشَّجَرَ، فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا ثُمَّ جَعَلَهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ كَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ وَنَبَعَ الْمَاءُ وَصَارَ السِّكَكِ خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حبا شَدِيدا فَخرجت بِهِ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلْثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ بِهِ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا رَفَعَتْهُ بِيَدَيْهَا فَغَرِقَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ أم الصبى! ".   (1) سُورَة نوح (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، شَبِيهٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأُخْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا مُتَلَقًّى عَنْ مِثْلِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. فَكَيْفَ يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ عُوَجَ بْنَ عُنُقَ - وَيُقَالُ ابْنَ عِنَاقَ - كَانَ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى. وَيَقُولُونَ كَانَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا جَبَّارًا عَنِيدًا. وَيَقُولُونَ كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، بل وَلدته أمه بِنْتُ آدَمَ مِنْ زِنًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِهِ السَّمَكَ مِنْ قَرَارِ الْبِحَارِ وَيَشْوِيهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِنُوحٍ وَهُوَ فِي السَّفِينَة: مَا هَذِه الْقَصعَة الَّتِي لَكَ؟ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ. وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي لَوْلَا أَنَّهَا مُسَطَّرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَأَيَّامِ النَّاسِ (1) ، لَمَا تَعَرَّضْنَا لِحِكَايَتِهَا، لِسَقَاطَتِهَا وَرَكَاكَتِهَا. ثُمَّ إِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ. أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَكَيْفَ يَسُوغُ فِيهِ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ وَلَدَ نُوحٍ لِكُفْرِهِ، وَأَبُوهُ نَبِيُّ الْأُمَّةِ وَزَعِيمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَا يُهْلِكُ عُوجَ بْنَ عُنُقَ، وَيُقَالُ عَنَاقُ، وَهُوَ أظلم وأطغى على مَا ذكرُوا؟   (1) الاصل: وَأَيَّام النام (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَكَيْفَ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا أُمَّ الصَّبِيِّ وَلَا الصَّبِيَّ، وَيَتْرُكُ هَذَا الدَّعِيَّ (1) الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ الْفَاجِرَ، الشَّدِيدَ الْكَافِرَ، الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عَلَى مَا ذَكَرُوا؟ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: " ثمَّ أغرقنا الآخرين " وَقَالَ: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارًا ". ثُمَّ هَذَا الطُّولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ (2) الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ". فَهَذَا نَصُّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ، أَيْ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ فِي نُقْصَانٍ فِي طُولِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ. فَكيف يتْرك هَذَا وَيذْهل عَنهُ، ويصار گلى أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ بَدَّلُوا كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا؟ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُمْ يستقلون بنقله أَو يؤتمنون عَلَيْهِ [وهم الخونة والكذبة عَلَيْهِم لعائن الله التابعة إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (3) ] وَمَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عُوجَ بْنِ عَنَاقَ إِلَّا اخْتِلَاقًا مِنْ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ وَفُجَّارِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ الانبياء. وَالله أعلم. * * *   (1) ا: الْمُدعى. (2) ا: قزل. (3) من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَاشَدَةَ نُوحٍ رَبَّهُ فِي وَلَده، وسؤاله لَهُ عَن غرفه على وَجه الاستعلام والاستكشاف. وَوَج السُّؤَالِ: أَنَّكَ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي مَعِي وَهُوَ مِنْهُمْ وَقَدْ غَرِقَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهلك، أَي الَّذين وعدت بنجاتهم. أَي أَنا قُلْنَا لَكَ: " وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم " فَكَانَ هَذَا مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ سيغرق بِكُفْرِهِ، زولهذا سَاقَتْهُ الْأَقْدَارُ إِلَى أَنِ انْحَازَ عَنْ حَوْزَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَغَرِقَ مَعَ حِزْبِهِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم ". هَذَا أَمْرٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَمْكَنَ السَّعْيُ فِيهَا وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّفِينَةِ الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سَيْرِهَا الْعَظِيمِ عَلَى ظهر حَبل الجودى، وَهُوَ جبل بِأَرْض الجزيرة مَشْهُور، " بِسَلام منا وبركات " أَيِ اهْبِطْ سَالِمًا مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ سَيُولَدُ بَعْدُ، أَيْ مِنْ أَوْلَادِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا سِوَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ "، فَكُلُّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ سَائِر أَجنَاس بنى آدم، ينسبون إِلَى أَوْلَادِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ، وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالرُّومِ هُنَا الرُّومُ الْأُوَلُ وَهُمُ اليونان المنتسبون إِلَى رومى بن لبطى بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ وَيَافِثُ وَحَامٌ، وَوَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِه الثَّلَاثَة، فَوَلَدَ سَامٌ: الْعَرَبَ وَفَارِسَ وَالرُّومَ. وَوَلَدَ يَافِثُ: النرك والصقالبة وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وَوَلَدَ حَامٌ: الْقِبْطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. قُلْتُ وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن يزِيد ابْن سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وُلِدَ لِنُوحٍ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ، فَوُلِدَ لِسَامٍ: الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ وَالْخَيْرُ فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِيَافِثَ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِحَامٍ: الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثمَّ قَالَ: لَا نعلم يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ سَعِيدٍ قَوْلُهُ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْأَوْلَادُ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ قَبْلَ السَّفِينَةِ كَنْعَانُ الَّذِي غَرِقَ، وَعَابِرُ مَاتَ قَبْلَ الطُّوفَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الاولاد الثَّلَاثَةَ كَانُوا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأُمُّهُمْ وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ " حَامًا " وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا عَلَيْهِ نُوحٌ أَنْ تُشَوَّهَ خِلْقَةُ نُطْفَتِهِ، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَسْوَدُ وَهُوَ كَنْعَانُ بْنُ حَامٍ جَدُّ السُّودَانِ. وَقِيلَ بَلْ رَأَى أَبَاهُ نَائِمًا وَقَدْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَلَمْ يَسْتُرْهَا وَسَتَرَهَا أَخَوَاهُ، فَلِهَذَا دَعَا عَلَيْهِ أَنْ تُغَيَّرَ نُطْفَتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ أَوْلَادُهُ عَبِيدًا لِإِخْوَتِهِ (1) . وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى بن   (1) وَهَذَا من خرافات القدماء، وَلَا يعول عَلَيْهِ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِك التُّرَاب بكفه، وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا كَعْبُ حَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَضَرَبَ الْكَثِيبَ بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذا هُوَ قَائِم ينْقض التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ قَدْ شَابَ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا هَلَكْتَ: قَالَ لَا، وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ. قَالَ: حَدِّثْنَا عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ. قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ: فَطَبَقَةٌ فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الطَّيْرُ. فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابّ أوحى الله عزوجل إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ، فَغَمَزَهُ فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوْثِ. وَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ يَخْرِزُ السَّفِينَةَ بقرضه، أوحى الله عزوجل نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ، فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الْفَأْرِ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ؟ قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ فَجَاءَتْ بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ فَطَوَّقَهَا الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا، وَدَعَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أُنْسٍ وَأَمَانٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى أَهْلِينَا فَيَجْلِسُ مَعَنَا وَيُحَدِّثُنَا؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لَا رِزْقَ لَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَعَادَ تُرَابًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا (1) . وَرَوَى عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّ اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً، إِحْدَاهَا الْعَرَبيَّة. وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ بَعْضٍ، فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَام يعبر عَنْهُم. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ (2) ، فَسَارُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا. وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ خَبَرًا مَرْفُوعًا يُوَافِقُ هَذَا، وَأَنَّهُمْ صَامُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ وَقَدْ صَامُوا يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ   (1) بل هِيَ أساطير مختلقة لَا سَبِيل لَهَا إِلَى الصِّحَّة. (2) وَمن أَيْن لِقَتَادَة هَذَا الْعلم الْقَدِيم، وَمَعْلُوم أَن الشُّهُور الْعَرَبيَّة إِنَّمَا عرفهَا الْعَرَب بعد الطوفان بِزَمَان بعيد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مَا هَذَا الصَّوْمِ؟ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْن، وَهَذَا الْيَوْم اسْتَوَت فِيهِ السَّفِينَة على الجودى، فصامه نوح ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام شكرا لله عزوجل، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ " وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمه، وَمن كَانَ مِنْكُم قد أصَاب من غَد أَهْلِهِ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالْمُسْتَغْرَبُ ذِكْرُ نُوحٍ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ فُضُولِ أَزْوَادِهِمْ، وَمِنْ حُبُوبٍ كَانَتْ مَعَهُمْ قَدِ اسْتَصْحَبُوهَا، وَطَحَنُوا الْحُبُوبَ يَوْمَئِذٍ، وَاكْتَحَلُوا بِالْإِثْمِدِ لِتَقْوِيَةِ أَبْصَارهم لما انهارت مِنَ الضِّيَاءِ بَعْدَ مَا كَانُوا فِي ظُلْمَةِ السَّفِينَة - فَكل هَذَا لَا يَصح فِيهِ شئ، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهِ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُقْتَدَى بِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ ذَلِكَ الطُّوفَانَ - أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَكَنَ الْمَاءُ وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ [عَلَى الْجُودِيِّ (1) ] فِيمَا يَزْعُمُ أهل التَّوْرَاة - فِي الشَّهْر السَّابِع لسبع عشرَة لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ. وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رُئِيَتْ رُءُوسُ الْجِبَالِ. فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا فَتَحَ نُوحٌ كَوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صَنَعَ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ لينْظر لَهُ مَا فعل المَاء   (1) من ا (م 8 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ لم يجد لرجلها مَوْضِعًا، فَبَسَطَ يَدَهُ لِلْحَمَامَةِ فَأَخَذَهَا فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ مَضَتْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْسَلَهَا لِتَنْظُرَ لَهُ مَا فعل المَاء فَلم ترجع، فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي فِيهَا وَرَقُ زَيْتُونَةٍ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ. ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَرْسَلَهَا فَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ بَرَزَتْ، فَلَمَّا كَمَلَتِ السَّنَةُ فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ نُوحٌ الْحَمَامَةَ وَدَخَلَ يَوْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الشَّهْر الاول من سنة اثْنَيْنِ، بَرَزَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَظَهَرَ الْبَرُّ وَكَشَفَ نُوحٌ غطاء الْفلك. وَهَذَا الذى ذكره ابْن إِسْحَق هُوَ بِعَيْنِهِ مَضْمُونُ سِيَاقِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أهل الْكتاب. وَقَالَ ابْن إِسْحَق: وفى الشَّهْر الثَّانِي من سنة اثْنَيْنِ فِي سِتّ وَعشْرين لَيْلَة مِنْهُ " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم ". وَفِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ نُوحًا قَائِلًا لَهُ: اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ، وَجَمِيعُ الدَّوَابِّ الَّتِى مَعَك، ولينموا وليكثروا (2) فِي الْأَرْضِ. فَخَرَجُوا وَابْتَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلَّهِ عزوجل وَأَخَذَ مِنْ جَمِيعِ الدَّوَابِّ الْحَلَالِ وَالطَّيْرِ الْحَلَالِ فذبحها قربانا إِلَى الله عزوجل وَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ لَا يُعِيدَ الطُّوفَانَ على أهل الارض. وَجعل تذكارا لميثاقه (2) إِلَيْهِ الْقَوْسُ الَّذِي فِي الْغَمَامِ، وَهُوَ قَوْسُ قزَح الذى روى عَن   (1) ط: وليكبروا (2) ا: وَجعل تذكار مِيثَاق (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ابْن عَبَّاس أَنه أَمَام مِنَ الْغَرَقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَوْسٌ بِلَا وَتَرٍ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْغَمَامَ لَا يُوجَدُ مِنْهُ طُوفَانٌ كَأَوَّلِ مَرَّةٍ. وَقَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفُرْسِ وَأَهْلِ الْهِنْد وتوع الطُّوفَانِ، وَاعْتَرَفَ بِهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ بِأَرْضِ بَابِلَ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا. قَالُوا: وَلَمْ نَزَلْ نَتَوَارَثُ الْمُلْكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، من لدن كيومرث - بعنون آدَمَ - إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. وَهَذَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ زَنَادِقَةِ الْمَجُوسِ عُبَّادِ النِّيرَانِ وَأَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ مِنْهُمْ وَكُفْرٌ فَظِيعٌ وَجَهْلٌ بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وَتَكْذيب لرب الارض وَالسَّمَوَات. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ النَّاقِلُونَ عَنْ رُسُلِ الرَّحْمَنِ، مَعَ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ الْبِلَادِ، وَلَمْ يُبْقِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ كَفَرَةِ الْعِبَادِ ; اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ الْمُؤَيِّدِ الْمَعْصُومِ، وَتَنْفِيذًا لِمَا سَبَقَ فِي الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ. ذِكْرُ شئ من أَخْبَار نوح نَفسه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا " (1) . قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَة   (1) من الْآيَة: 3 من سُورَة الاسراء. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْد أَن يَأْكُل الاكلة فيحمده عَلَيْهَا أَبُو يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ [أَبِي] أُسَامَةَ (1) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكُورَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ; فَإِنَّ الشُّكْرَ (2) يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً * يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا ذِكْرُ صَوْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: بَابُ صِيَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْم عيد الْفطر وَيَوْم الاضحى ". وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن ماجة عَن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ. وَقد قَالَ الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا أبوالزنباع روح بن فرج، حَدثنَا عمر بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبى قَتَادَة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَبَاحٍ أَبِي فِرَاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَصَامَ دَاوُدُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صَامَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرَ الدَّهْر ".   (1) سَقَطت من ط. (2) ا: الشكُور. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ذكر حجه عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ - هُوَ ابْن أَبى صَالح - عَن سَلمَة بن دهران (1) ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَتَى وَادِي عُسْفَانَ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " قَالَ هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: " لقد مر بِهَذَا نوح وَهود وَإِبْرَاهِيم على بكران (2) لَهُمْ حُمْرٍ خَطْمُهُمُ اللِّيفُ، أَزُرُهُمُ الْعَبَاءُ وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ (3) يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ". فِيهِ غَرَابَةٌ. ذِكْرُ وَصيته لوَلَده عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - قَالَ حَمَّادٌ: أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ من أهل الْبَادِيَة عَلَيْهِ جُبَّة سيحان مَزْرُورَةٌ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ، أَوْ قَالَ: يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنِ فَارس، وَرفع كل رَاع ابْن رَاعٍ ". قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ وَقَالَ: " أَلَّا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ! " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ وَصِيَّة (4) ;   (1) ط: وهرام. (2) البكران: النوق الْفتية (3) النمار: برود من صوف (4) ا: الْوَصِيَّة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن السَّمَوَات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَلَوْ أَن السَّمَوَات السَّبع والارضين السَّبع كن حَلقَة مُبْهمَة (1) ضمتهن لَا إِلَه إِلَّا الله، وبسبحان الله وَبِحَمْدِهِ. فَإِن بهَا صلات كل شئ، وَبِهَا يَرْزُقُ الْخَلْقُ. وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ " قَالَ: يقلت - أَوْ قِيلَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الشِّرْكُ قد عَرفْنَاهُ، فَلَمَّا الْكِبْرُ؟ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ لَهُمَا شرا كَانَ حَسَنَانِ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا؟ قَالَ " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: " لَا " قلت - أَو قِيلَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: " سفه الْحق وغمط (2) النَّاسِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بن سُلَيْمَان، عَن مُحَمَّد ابْن إِسْحَق، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي وَصِيَّةِ نُوحٍ لِابْنِهِ: أوصيك بِخَصْلَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ "، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَق، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ. وَالله أعلم.   (1) المبهمة: المصمتة. (2) ا: وَغَمص (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لما ركب [فِي (1) ] السَّفِينَةَ - كَانَ عُمُرُهُ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ. وَقَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ. ثُمَّ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَقْتَضِي أَنَّ نُوحًا مَكَثَ فِي قَوْمِهِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ وَقَبْلَ الطُّوفَانِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ. ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَإِن كَانَ مَا ذكر مَحْفُوظًا عَن ابْن عَبَّاس - مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ وَلَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً - فَيَكُونُ قَدْ عَاشَ عَلَى هَذَا أَلْفَ سَنَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَأَمَّا قَبْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قروى ابْن جرير والازرقي عَن عبد الرَّحْمَن ابْن سابط أَو غسيره مِنَ التَّابِعَيْنِ مُرْسَلًا، أَنَّ قَبْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّهُ بِبَلْدَةٍ بِالْبِقَاعِ تُعْرَفُ الْيَوْمَ بِكَرْكِ نُوحٍ، وَهُنَاكَ جَامع قد بنى بِسَبَب ذَلِك فِيمَا ذكر. وَالله أعلم.   (1) من ا (2) ا: سَبْعمِائة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ هُودُ بْنُ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُقَالُ إِنَّ هُودًا هُوَ عَابِرُ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَيُقَالُ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاح الْجَارُودِ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذَكَرَهُ ابْن جرير. وَكَانَ من قَبيلَة يُقَال لَهُم عَاد بن عوض بن سَام بن نوح. وَكَانُوا عَرَبَا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ - وَهِيَ جِبَالُ الرَّمْلِ - وَكَانَت بِالْيمن بَين عمان وَحضر موت، بِأَرْضٍ مُطِلَّةٍ عَلَى الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا الشِّحْرُ، وَاسْمُ وَادِيهِمْ مُغِيثٌ. وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ ذَوَاتِ الْأَعْمِدَةِ الضِّخَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَات الْعِمَاد " أَي عَاد إرم وهم عَاد الاولى. وَأما عَاد الثَّانِيَة فمتأخرة كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي مَوْضِعه. وَأما عَاد الاولى فهم عَاد " إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد " أَيْ مِثْلُ الْقَبِيلَةِ، وَقِيلَ مِثْلُ الْعَمَدِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّفْسِيرِ. وَمِنْ زَعْمٍ أَنَّ " إِرَمَ " مَدِينَةٌ تَدُورُ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً فِي الشَّامِ، وَتَارَةً فِي الْيَمَنِ ; وَتَارَةً فِي الْحِجَازِ، وَتَارَةً فِي غَيْرِهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا بُرْهَانَ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ يَرْكَنُ إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وفى صَحِيح ابْن جبان عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَالَ فِيهِ: " مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ ". وَيُقَالُ إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ، وَزعم وهب ابْن مُنَبِّهٍ أَنَّ أَبَاهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نُوحٌ، وَقِيلَ آدَمُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ، وَهُمْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ: مِنْهُمْ عَادٌ، وَثَمُودُ، وَجُرْهُمُ، وَطَسْمٌ، وَجَدِيسُ ; وَأَمِيمُ، وَمَدْيَنُ، وَعِمْلَاقُ، وَعَبِيلٌ، وَجَاسِمٌ، وَقَحْطَانُ، وَبَنُو يَقْطُنَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا الْعَرَبُ الْمُسْتَعْرِبَةُ فَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمَ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَ أُمِّهِ هَاجَرَ بِالْحَرَمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَا فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا - وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى - كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَكَانَت أصنامهم ثَلَاثَة: صدا وصمودا، وَهِرَا. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ أَخَاهُمْ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَوْمِ نُوحٍ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 " وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصح أَمِين * أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؟ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا، ويردكم قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ، وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسوء. قَالَ إنى أشهد الله واشهدوا   (1) الْآيَات من 65 - 72 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أَنى برِئ مِمَّا تشكرون مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ، وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي على كل شئ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رسله، وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد * وأتبعوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قوم هُودٍ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " (2) .   (1) الْآيَات: من 50 - 60. (2) الْآيَات من 31 - 41 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الشُّعَرَاء بعد قصَّة قوم نوح أَيْضا: " وكذبت عَاد الْمُرْسلين * إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود أَلَا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِن أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تخلدون * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم * قَالُوا سَوَاء علينا أَو عظت أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خلق الاولين * وَمَا نَحن بمعذبين * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة حم السَّجْدَة: " فَأَما عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا من أَشد مناقوة؟ أَو لم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وهم لَا ينْصرُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الاحقاف: " وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ، وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلفه أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وأبلغكم   (1) الْآيَات: 123 - 140 الْآيَتَانِ 15، 16 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْرِ رَبِّهَا، فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، كَذَلِك نجزى الْقَوْم الْمُجْرمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى ف الذَّارِيَاتِ: " وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيم * مَا تذر من شئ أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم ". وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّجْم: " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أظلم وأطغى * والمؤتفكة أَهْوى * فغشاها مَا غشى * فبأى آلَاء رَبك تتمارى ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابي وَنذر * وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر ". وَقَالَ فِي الحاقة: " وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوية * فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جابوا الصخر بالواد "   (1) الْآيَات: 21، 25 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب * إِن رَبك لبالمرصاد ". وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ عَادٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْفَرْقَانِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَفِي سُورَةِ ص، وَفِي سُورَةِ ق. * * * وَلْنَذْكُرْ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ الامم الَّذين عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: " وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً " أَيْ جَعَلَهُمْ أَشَدَّ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي الْخِلْقَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنُونَ: " ثُمَّ أَنْشَأْنَا من بعدهمْ قرنا آخَرين " وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُمْ ثَمُودُ لِقَوْلِهِ: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غثاء ". قَالُوا: وَقَوْمُ صَالِحٍ هَمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ " وَأما عَاد فاهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة ". وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّيْحَةِ وَالرِّيحِ الْعَاتِيَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ أَهْلِ مَدْيَنَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ عَادًا قَبْلَ ثَمُودَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَالْمَقْصُود أَن عادا كَانُوا جُفَاةً كَافِرِينَ، عُتَاةً مُتَمَرِّدِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَتَنَقَّصُوهُ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَغَّبَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لنراك فِي سفاهة " أَي هَذَا الامر الذى تدعونا إِلَيْهِ سفه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نَحن عَلَيْهِ من عبَادَة هَذِه الاصنام الَّتِى يرتجى مِنْهَا النَّصْر والرزق، وَمَعَ هَذَا نظن أَنَّك تكذب فِي دعواك أَن الله أرسلك. " قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين "، أَي لَيْسَ الامر كَمَا تظنون وَلَا كَمَا (1) تَعْتَقِدُونَ " أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين " وَالْبَلَاغُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكَذِبِ فِي أَصْلِ الْمُبَلِّغِ، وَعدم الزِّيَادَة فِيهِ وَالنَّقْص مِنْهُ، ويستلزم أداءه (2) بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا اضْطِرَابَ. وَهُوَ مَعَ هَذَا الْبَلَاغِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي غَايَةِ النُّصْحِ لِقَوْمِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لَا يَبْتَغِي مِنْهُمْ أَجْرًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ جعلا ; بل هُوَ مخلص لله عزوجل فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَالنُّصْحِ لِخَلْقِهِ، لَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي يَدَيْهِ وَأَمْرُهُ إِلَيْهِ   (1) ا: وَلَا مَا تعتقدون. (2) ط: إبلاغه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَلِهَذَا وَقَالَ: " يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ " أَي أما لَكُمْ عَقْلٌ تُمَيِّزُونَ بِهِ وَتَفْهَمُونَ أَنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ فِطَرُكُمُ الَّتِي خُلِقْتُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نُوحًا وَأَهْلَكَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْخَلْقِ. وَهَا أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَلَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَيْهِ، بَلْ أَبْتَغِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ. وَلِهَذَا قَالَ مُؤْمِنُ " يس ": " اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * ومالى لَا أعبد الذى فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون؟ " وَقَالَ قوم هود لَهُ فِيمَا قَالُوا: " يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتنَا بِسوء "، يَقُولُونَ مَا جِئْتَنَا بِخَارِقٍ يَشْهَدُ لَكَ بِصِدْقِ ماجئت بِهِ، وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ أَصْنَامِنَا عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِكَ ; بِلَا دَلِيلٍ أَقَمْتَهُ وَلَا بُرْهَانٍ نَصَبْتَهُ، وَمَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكَ مَجْنُونٌ فِيمَا تزعمه. وَعِنْدنَا أَنه إِنَّمَا أَصَابَك هَذَا لَان بَعْضَ آلِهَتِنَا غَضِبَ عَلَيْكَ فَأَصَابَكَ فِي عَقْلِكَ فَاعْتَرَاكَ جُنُونٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ". " قَالَ إنى أشهد الله واشهدوا أَنى برِئ مِمَّا تشكرون مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ". وَهَذَا تحد مِنْهُ لَهُم، وتبرأ من آلِهَتهم وتنقص مِنْهُ لَهَا، وَبَيَان أَنَّهَا لَا تَنْفَع شَيْئا وَلَا تضر، وَأَنَّهَا جماد حكمهَا حكمه وفعلها فعله. فَإِن كَانَت كَمَا تَزْعُمُونَ من أَنَّهَا تنصر وَتَنْفَع وتضر فها أَنا برِئ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 لَا عَن لَهَا " فكيدوني ثمَّ لَا تنْظرُون " أَنْتُم جَمِيعًا بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَصِلُوا إِلَيْهِ وَتَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنِّي لَا أُبَالِي بِكُمْ وَلَا أُفَكِّرُ فِيكُمْ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ. " إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " أَيْ أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَمُتَأَيِّدٌ بِهِ، وواثق بجنابه الذى لَا يضيع من لاذبه واستند إِلَيْهِ، فلست أبالى مخلوقا سواهُ، لست أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ. وَهَذَا وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ هُودًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَضَلَالٍ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِسُوءٍ وَلَا نَالُوا مِنْهُ مَكْرُوهًا. فَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَفَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: " يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (1) ". وَهَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئا، وسع ربى كل شئ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يلبسوا   (1) من الْآيَة: 71 من سوره يُونُس (م 9 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (1) " " وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخرجون (2) ". اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرِيًّا. وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ أَدْلَى بِهَا كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْكَفَرَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أنذر النَّاس (3) " وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاء ملكا رَسُولا (4) ". وَلِهَذَا قَالَ لَهُم هود عَلَيْهِ السَّلَام: " أَو عجبتم أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُم لينذركم " أَيْ لَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. وَقَوْلُهُ: " أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين *   (1) سُورَة الانعام: 80: 83 (2) سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 33: 35. (3) أول سُورَة يُونُس. (4) الْآيَتَانِ: 94، 95 من سُورَة الاسراء. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قَالَ ربى انصرني بِمَا كذبون " استبعدوا الميعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها تُرَابا وعظاما، وَقَالُوا: هَيْهَات هَيْهَات، أَي بعيد بعيد هَذَا الْوَعْد، " إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين " أَيْ يَمُوتُ قَوْمٌ وَيَحْيَا آخَرُونَ. وَهَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الدَّهْرِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ: أَرْحَامٌ تَدْفَعُ وَأَرْضٌ تَبْلَعُ. وَأَمَّا الدُّورِيَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بَعْدَ كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَكُفْرٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَأَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ وَخَيَالٌ فَاسِدٌ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ، يَسْتَمِيلُ عَقْلَ الْفَجَرَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون ". (2) وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا وَعَظَهُمْ بِهِ: " أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ". يَقُولُ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بَنَاءً عَظِيمًا هَائِلًا كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، تَعْبَثُونَ بِبِنَائِهَا لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " ألم تركيف فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد " فَعَادُ إِرَمَ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَعْمِدَةَ الَّتِي تَحْمِلُ الْخِيَامَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ " إِرَمَ " مَدِينَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَهِيَ تنْتَقل فِي الْبِلَاد، فقد غلط وَأَخْطَأ، وَقَالَ مَالا دَلِيل عَلَيْهِ.   (1) الْآيَة: 113 من سُورَة الانعام (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَقَوله: " وتتخذون مصانع " قِيلَ هِيَ الْقُصُورُ، وَقِيلَ بُرُوجُ الْحَمَامِ وَقِيلَ مآخذ المَاء " لَعَلَّكُمْ تخلدون " أَيْ رَجَاءً مِنْكُمْ أَنْ تُعَمِّرُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَارًا طَوِيلَةً " وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم ". وَقَالُوا لَهُ مِمَّا قَالُوا: " أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كنت من الصَّادِقين " أَي أجئتنا لنعبد الله وَحده، وَنُخَالِف آبَاؤُنَا وَأَسْلَافَنَا وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا جِئْتَ بِهِ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَإِنَّا لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتْبَعُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ. كَمَا قَالُوا: " سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَو عظت أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خلق الاولين * وَمَا نَحن بمعذبين ". أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْخَاءِ، فَالْمُرَادُ بِهِ اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا اخْتِلَاق مِنْك، أَخَذته مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. هَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ - فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ ; أَيْ إِنْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا دِينُ [الاولين (1) ] الْآبَاء والاجداد من الاسلاف (2) ، وَلَنْ نَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَلَا نَتَغَيَّرَ، وَلَا نَزَالُ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ. وَيُنَاسِبُ كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ قَوْلهم: " وَمَا نَحن بمعذبين "   (1) من ا (2) ط: من أسلافنا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قَالَ: " قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؟ فَانْتَظِرُوا إنى مَعكُمْ من المنتظرين " أَي قد استحققتم بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الرِّجْسَ وَالْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، أَتُعَارِضُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِعِبَادَةِ أَصْنَامٍ أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمِ؟ اصْطَلَحْتُمْ عَلَيْهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ، مَا نَزَّلَ الله بهَا من سُلْطَان. أَيْ لَمْ يُنَزِّلْ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ دَلِيل وَلَا برهانا. وَإِذ أَبَيْتُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَتَمَادَيْتُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَنْهَيْتُكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ أَمْ لَا، فَانْتَظِرُوا الْآنَ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاقِعَ بِكُمْ، وَبَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَنَكَالَهُ الَّذِي لَا يُصَدُّ. * * * وَقَالَ تَعَالَى: " قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " وَقَالَ تَعَالَى: " قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا؟ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْر بهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْم الْمُجْرمين ". وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، كَقَوْلِهِ: [" فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دابر الَّذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (1) "] وَكَقَوْلِهِ: " وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رسله وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد * وأتبعوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قوم هود " وَكَقَوْلِهِ: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين " وَقَالَ تَعَالَى: " فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم ". وَأما تَفْصِيل إهلاكهم فَكَمَا (2) قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم " [كَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا ابْتَدَأَهُمُ الْعَذَابُ، أَنَّهُمْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُسْنِتِينَ (3) ، فَطَلَبُوا السُّقْيَا فَرَأَوْا عَارِضًا فِي السَّمَاءِ وَظَنُّوهُ سُقْيَا رَحْمَةٍ، فَإِذَا هُوَ سُقْيَا عَذَابٍ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ " أَيْ مِنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ (4) ] وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " فَأْتِنَا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين " وَمِثْلُهَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ هَاهُنَا الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق بْنِ يَسَارٍ (5) قَالَ: فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ بِاللَّه عزوجل، أمسك عَنْهُم الْقطر (6) ثَلَاثَ سِنِينَ، حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ النَّاس إِذا   (1) لَيست فِي ا. (2) ط: فَلَمَّا. وَهُوَ تَحْرِيف. (3) ممحلين: أَصَابَهُم الْمحل وَهُوَ الشدَّة وَانْقِطَاع الْمَطَر. ومسنتين: أَصَابَتْهُم السّنة وهى الجدب والقحط. (4) سَقَطت من ا. (5) المطبوعة: بشار. وَهُوَ تَحْرِيف (6) ط: الْمَطَر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ إِنَّمَا يَطْلُبُونَهُ بِحَرَمِهِ وَمَكَانِ بَيْتِهِ. وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبِهِ الْعَمَالِيقُ مُقِيمُونَ، وَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ عِمْلِيقَ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدُهُمْ إِذْ ذَاكَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَاسْمُهَا جَلْهَدَةُ ابْنَةُ الْخَيْبَرِيِّ. قَالَ: فَبَعَثَ عَادٌ وَفْدًا قَرِيبا من سبعين رجلا ليستسقوا لَهُمْ عِنْدَ الْحَرَمِ، فَمَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ [بِظَاهِرِ مَكَّةَ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا، يشربون الْخمر، وتغنيهم الجرادتان، قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ (1) ] وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ. فَلَمَّا طَالَ مُقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَخَذَتْهُ شَفَقَةٌ عَلَى قَوْمِهِ، وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ - عمل شعرًا يعرض لَهُم فِيهِ (2) بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ الْقَيْنَتَيْنِ أَنْ تُغَنِّيَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: أَلَّا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ * لَعَلَّ الله يصحبنا (2) غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا * قَدَ أمْسَوْا لَا يُبِينُونَ اَلْكَلَامَا مِنَ الْعَطَشِ اَلشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو * بِهِ اَلشَّيْخَ اَلْكَبِيرَ وَلَا اَلْغُلَامَا وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ بِخَيْرٍ * فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ أيامى وَإِنَّ اَلْوَحْشَ يَأْتِيهِمْ جِهَارًا * وَلَا يَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامًا وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اِشْتَهَيْتُمْ * نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ تَمامًا (3) فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ * وَلَا لُقُّوا اَلتَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنَبَّهَ الْقَوْمُ لِمَا جَاءُوا لَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى الْحَرَمِ وَدَعَوْا لقومهم، فَدَعَا داعيهم وَهُوَ قيل بن عنز، فَأَنْشَأَ الله سحابات ثَلَاثًا:   (1) لَيست فِي ا. (2) ط: يمنحنا. (3) ا: التماما. ولعلها: نياما. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ، ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاء: اختر لنَفسك أَو لقَوْمك مِنْ هَذَا السَّحَابِ، فَقَالَ: اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً، فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رماد رِمْدَدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، لَا والدا يتْرك وَلَا وَلَدًا إِلَّا جَعَلَتْهُ هَمِدَا إِلَّا بَنِي اللوذية الهمدا. قَالَ: وهم بَطْنٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ قَوْمَهُمْ. قَالَ: وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ وَأَعْقَابِهِمْ هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ. قَالَ: وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي اخْتَارَهَا قَيْلُ بن عنز بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ، حَتَّى تَخَرَّجَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ الْمُغِيثُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، فَيَقُولُ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم * تدمر كل شئ بِأَمْر رَبهَا " أَي [تهْلك (1) ] كل شئ أُمِرَتْ بِهِ. فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعرف أنهغا رِيحٌ فِيمَا يَذْكُرُونَ امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا " مَهْدٌ "، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ مَا فِيهَا صَاحَتْ ثُمَّ صَعِقَتْ. فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا مَا رَأَيْتِ يَا مهد؟ قَالَت رَأَيْت ريحًا فِيهَا شبه (2) النَّارِ أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا، فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما، وَالْحُسُومُ الدَّائِمَةُ ; فَلَمْ تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. قَالَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - فِي حَظِيرَةٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُصِيبُهُمْ إِلَّا مَا تلين عَلَيْهِ الْجُلُود، وتلذ (3) الانفس، وَإِنَّهَا   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: كشهب النَّار (3) ا: ويلبد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 التَّمْر عَلَى عَادٍ بِالظَّعْنِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا فِي مُسْنَدِهِ يُشْبِهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِم ابْن أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ - وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ - وَيُقَالُ ابْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ، قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ [بْنَ (1) ] الْحَضْرَمِيَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تخفق، وَإِذا بِلَال مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا. قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ - أَوْ قَالَ رَحْلَهُ - فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ: " هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيم شئ "؟ فَقلت: نعم. وَكَانَت لنا الدَّائِرَةُ (2) عَلَيْهِمْ وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٍ بهَا، فسألتني أَن أحملها إِلَيْك وهامى بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بنى تَمِيم حاجزا، فَاجْعَلْ الدهناء (3) [فَإِنَّهَا كَانَت لنا، قَالَ (4) ] فحميت الْعَجُوز واستوفزت وَقَالَت   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: الدبرة (3) ط: الدهماء. وَهُوَ تَحْرِيف. (4) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يَا رَسُول الله فَإلَى أَيْن يضْطَر مضطرك؟ قَالَ: فَقلت: إِنَّ مِثْلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: " مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفَهَا " حملت هَذِه الامة [وَلَا (1) ] أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [أَنْ أَكُونَ (1) ] كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: [هِيهِ (1) ] وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ منى (2) وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ. قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قَيْلٌ، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ ابْن بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ (3) ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ. فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ: مِنْهَا اخْتَرْ. فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدَدًا، لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا. قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا مِنَ الرِّيحِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَصَدَقَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَة وَالرجل إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا (4) لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث سَلام أَبى الْمُنْذر عَن عَاصِم بن بَهْدَلَةَ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَهَذِهِ الْقِصَّةَ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِه الْقِصَّة غير وَاحِد من الْمُفَسّرين كاين جرير وَغَيره.   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: بِالْحَدِيثِ فِيهِ. (3) ا: جبال مهرَة. (4) ط: وَفْدًا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السِّيَاقُ لِإِهْلَاكِ عَادٍ الْآخِرَةِ ; فَإِن فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره ذكر لِمَكَّةَ، وَلَمْ تُبْنَ إِلَّا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، حِينَ أَسْكَنَ فِيهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَنَزَلَتْ جُرْهُمٌ عِنْدَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي، وَعَادٌ الْأُولَى قَبْلَ الْخَلِيلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَشِعْرُهُ، وَهُوَ مِنَ الشِّعْرِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ زَمَانِ عَادٍ الاولى، وَلَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِيهِ أَنَّ فِي تِلْكَ السَّحَابَةِ شَرَرُ نَارٍ، وَعَادٌ الْأَوْلَى إِنَّمَا أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: هِيَ الْبَارِدَة، والعاتية الشَّديد الْهُبُوبِ. " سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حسوما " أَيْ كَوَامِلَ مُتَتَابِعَاتٍ. قِيلَ كَانَ أَوَّلَهَا الْجُمُعَةُ، وَقِيلَ الْأَرْبِعَاءُ. " فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية " شبههم بأعجاز النّخل الَّتِى لارءوس لَهَا، وَذَلِكَ لَان الرّيح كَانَت تجئ إِلَى أَحَدِهِمْ فَتَحْمِلُهُ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ ; ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، كَمَا قَالَ: " إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ريحًا صَرْصَرًا فِي يَوْم نحس مُسْتَمر [أَيْ فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ، مُسْتَمِرٌّ (1) ] عَذَابُهُ عَلَيْهِمْ. " تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ " وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْيَوْمَ النَّحْسَ الْمُسْتَمِرَّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ وَتَشَاءَمَ بِهِ لِهَذَا الْفَهْمِ، فَقَدْ أَخْطَأَ وَخَالَفَ الْقُرْآنَ ; فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نحسات " وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ نحسات فِي أَنْفسهَا لكَانَتْ   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 جَمِيعُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِيهَا (1) مَشْئُومَةً، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، أَيْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَفِي عَادٍ إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم " أَيِ الَّتِي لَا تُنْتِجُ خَيْرًا، فَإِنَّ الرِّيحَ المفردة لَا تثير سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا، بَلْ هِيَ عَقِيمٌ لَا نَتِيجَةَ خَيْرٍ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: " مَا تذر من شئ أَتَت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم " أَي كالشئ الْبَالِي الْفَانِي الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَادًا هَذِهِ هِيَ عَادٌ الْأُولَى ; فَإِنَّ سِيَاقَهَا شَبِيهٌ بِسِيَاقِ قَوْمِ هُودٍ وَهُمُ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُمْ عَادٌ الثَّانِيَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا " فَإِنَّ عَادًا لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْعَارِضَ وَهُوَ النَّاشِئُ فِي الْجَوِّ كَالسَّحَابِ ظَنُّوهُ سَحَابَ مَطَرٍ، فَإِذَا هُوَ سَحَابُ عَذَابٍ. اعْتَقَدُوهُ رَحْمَةً فَإِذَا هُوَ نقمة   (1) ا: المندرجة فِي الثَّمَانِية (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 رَجَوْا فِيهِ الْخَيْرَ فَنَالُوا مِنْهُ غَايَةَ الشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ " [أَيْ مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ (1) ] : " رِيحٌ فِيهَا عَذَاب أَلِيم " يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ من الرّيح الصرصر العاتية الْبَارِدَة الشَّدِيدَة الهبوط، الَّتِي اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ سَبْعُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا الثَّمَانِيَةِ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ تَتَبَّعَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُهُوفَ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ فَتَلُفُّهُمْ وَتُخْرِجُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ، وَتُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ الْمُحْكَمَةَ وَالْقُصُورَ المشيدة، فَكَمَا منوا بشدتهم وبقوتهم (2) وَقَالُوا: من أَشد منا قُوَّة؟ ! سلط الله عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَقْدَرُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الرِّيحُ الْعَقِيمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ أَثَارَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ سَحَابَةً، ظَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهَا سَحَابَةٌ فِيهَا رَحْمَةٌ بِهِمْ وَغِيَاثٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ شَرَرًا وَنَارًا. [كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَيَكُونُ هَذَا (1) ] كَمَا أَصَابَ أَصْحَابَ الظُّلَّةِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الرِّيحِ الْبَارِدَةِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَذَابِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَضَادَّةِ، مَعَ الصَّيْحَةِ الَّتِي ذكرهَا فِي سُورَة قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى [بْنِ] (1) الضَّرِيسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا إِلَّا مِثْلَ [مَوْضِعِ (1) ] الْخَاتَمِ، فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ [وَأَمْوَالَهُمْ (1) ] بَيْنَ السَّمَاءِ والارض، فَلَمَّا رأى ذَلِك أهل الْحَاضِرَة   (1) لَيست فِي ا. (2) ط: بقوتهم وشدتهم (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 مِنْ عَادٍ، الرِّيحَ وَمَا فِيهَا " قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا " فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَا فتح الله عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مِثْلُ مَوْضِعِ الْخَاتم، ثمَّ أرْسلت عَلَيْهِم الْبَدْوَ إِلَى الْحَضَرِ، فَلَمَّا رَآهَا أَهْلُ الْحَضَرِ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا مُسْتَقْبل أَو ديتنا. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي فِيهَا، فَأُلْقِيَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ حَتَّى هَلَكُوا ". قَالَ: عَتَتْ على حزانها (1) حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ خِلَالِ الْأَبْوَابِ. قُلْتُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: خَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. [وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، وَفِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ (2) ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَارِضًا وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ لُغَةً السَّحَابُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِيِّ، إِنْ جَعَلْنَاهُ مُفَسِّرًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو [بكر (2) ] الطَّاهِر، حَدثنَا ابْن وهب قَالَ: سَمِعت ابْن جريج حَدثنَا   (1) ط: عَن خزائنها. وَلَعَلَّه تَحْرِيف (2) سقط من ا (3) ط: لمْعَة. وَهُوَ تَحْرِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أرْسلت بِهِ " قَالَت: " وَإِذا غيبت السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. فَإِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: " فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدثنَا هرون بْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرٌو -[وَهُوَ (1) ] ابْنُ الْحَارِثِ - أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا قَطُّ حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ (2) ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ يَا رَسُولَ الله: [إِن (1) ] النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ! قَدْ عُذِّبَ قَوْمُ نُوحٍ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارض مُمْطِرنَا " [فَهَذَا الْحَدِيثُ كَالصَّرِيحِ فِي تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ خَبَرًا عَنْ قَوْمِ عَادٍ الثَّانِيَةِ وَتَكُونُ بَقِيَّةُ السِّيَاقَاتِ فِي الْقُرْآنِ خَبَرًا عَنْ عَادٍ الْأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (1) . ]   (1) لَيست فِي ا. (2) اللهوات: جمع لهاة وهى لحْمَة ناتئة فِي أقْصَى الْحلق. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وهب. وَقَدَّمْنَا حَجَّ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِ حَجِّ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ. وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ بِدِمَشْقَ، وَبِجَامِعِهَا مَكَانٌ فِي حَائِطِهِ الْقِبْلِيِّ يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قصَّة صَالح عَلَيْهِ السَّلَام نبى ثَمُود وهم قَبيلَة مَشْهُورَة، يُقَال لَهُم ثَمُودُ بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ أَخِي جَدِيسٍ، وَهُمَا ابْنا عاثر بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَكَانُوا عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ وَتَبُوكَ. وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوك بِمن مَعَه من الْمُسلمين. وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَأُولَئِكَ. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ وَهُوَ عبد الله وَرَسُوله: صَالح بن عبيد ابْن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثَمُود بن عاثر بن إرم بْنِ نُوحٍ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخْلَعُوا الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. فَآمَنَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَكَفَرَ جُمْهُورُهُمْ، وَنَالُوا مِنْهُ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَالِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَقَتَلُوا النَّاقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجبَال بُيُوتًا، (10 - قصَص الانبياء 1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين (1) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ * قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا، أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين *   (1) الْآيَات: 73 - 79 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كفرُوا رَبهم أَلا بعدا لثمود (1) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْحجر: " وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر الْمُرْسلين * وآتيناهم آيَاتنَا فَكَانُوا عَنْهَا معرضين * وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين * فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مصبحين * فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (2) ". وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: " وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (3) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ " كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أجْرى إِلَّا على رب الْعَالمين * أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنين * فِي جنَّات وعيون * وزروع ونخفل طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَاب عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (4) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: " وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا   (1) الْآيَات: 61 - 68 (2) الْآيَات: 80 - 84 (3) الْآيَة: 59 (4) الْآيَات: 141 - 159 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أَن اعبدوا الله، فَإِذا هم فريقان يختصمون * قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة، لَوْلَا تستغفرون الله لَعَلَّكُمْ ترحمون * قَالُوا اطيرنا بك وبمن مَعَك، قَالَ طائركم عِنْد الله بل أَنْتُم قوم تفتنون * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الارض وَلَا يصلحون * قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لصادقون * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم. السَّجْدَةِ: " وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذا لفى ضلال وسعر * أألقى الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مرسلوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مدكر (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " كذبت ثَمُود بطغواها * إِذْ انْبَعَثَ أشقاها * فَقَالَ.   (1) الْآيَات: 45 - 53 (2) الْآيَتَانِ: 17 و 18 الْآيَات: 23 - 32. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لَهُم رَسُول الله نَاقَة الله وسقياها * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يخَاف عقباها (1) ". وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ، كَمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْفُرْقَانِ، وَسُورَةِ ص، وَسُورَةِ ق، وَالنَّجْمِ وَالْفَجْر. وَيُقَال إِن هَاتين الامتين لايعرف خَبَرَهُمَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ. وَلَكِنْ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ (2) عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: " وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ. " (3) الْآيَةَ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَاتَانِ الْأُمَّتَانِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَضْبِطُوا خَبَرَهُمَا جَيِّدًا، وَلَا اعْتَنَوْا بِحِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُمَا كَانَ مَشْهُورًا فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. * * * وَالْمَقْصُودُ الْآنَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَيْفَ قَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِكُفْرِهِمْ وعتوهم، ومخالفتهم رسولهم عَلَيْهِ السَّلَام.   (1) الْآيَات: 23 - 32 سُورَة الشَّمْس (2) ا. أخْبرهُم (3) الْآيَتَانِ: 8، 9. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 [وَقد قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) : " اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الارض مفسدين " أَيْ إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعْمَلُوا بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ. وَأَبَاحَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ تَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْقُصُور، " وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين " أَيْ حَاذِقِينَ فِي صَنْعَتِهَا وَإِتْقَانِهَا وَإِحْكَامِهَا. فَقَابِلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتَهُ وَالْعُدُولَ عَنْ طَاعَتِهِ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ. وَلِهَذَا وعظهم بقوله: " أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طلعها هضيم " أَيْ مُتَرَاكِمٌ كَثِيرٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ نَاضِجٌ. " وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الارض وَلَا يصلحون ". وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ من الارض واستعمركم فِيهَا " أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، أَيْ أَعْطَاكُمُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الزروع وَالثِّمَار، فَهُوَ الْخَالِق   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الرَّزَّاق، وَهُوَ الذى يسْتَحق الْعِبَادَة وَحده لَا [مَا (1) ] سِوَاهُ. " فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ " أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَأَقْبِلُوا عَلَى عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ " إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ". " قَالُوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مرجوا قبل هَذَا " أَيْ [قَدْ (2) ] كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَقْلُكَ كَامِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دُعَاؤُكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَاد الْعِبَادَة، وَتَرْكِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعُدُولِ عَنْ دِينِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَلِهَذَا قَالُوا: " أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ". " قَالَ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِن عصيته؟ فَمَا تزيدونني غير تخير ". وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ تَأَتٍّ فِي الدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى الْخَيْر. أَي فَمَا ظنكم إمن كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَقُولُ لَكُمْ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ؟ مَاذَا (3) عُذْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ؟ وَمَاذَا يُخَلِّصُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْتُمْ تَطْلُبُونَ مِنِّي أَنْ أَتْرُكَ دُعَاءَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ؟ وَأَنَا لَا يُمْكِنُنِي هَذَا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ وَلَا يَنْصُرَنِي. فَأَنَا لَا أَزَالُ أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنْت من المسحرين " أَيْ مِنَ الْمَسْحُورِينَ، يَعْنُونَ مَسْحُورًا لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الانداد. وَهَذَا القَوْل عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَهُوَ أَن المُرَاد   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (3) كَذَا. والاصح مَا عذركم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بالمسحرين المسحورين. وَقِيلَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ: أَيْ مِمَّنْ لَهُ سَحْرٌ - وَهُوَ الرئى (1) - كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ [لَهُ سَحْرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا بشر (2) ] مثلنَا [وَقَوْلُهُمْ (3) ] " فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِخَارِقٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ. " قَالَ: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب عَظِيم " كَمَا قَالَ: " قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وَقَالَ تَعَالَى: " وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بهَا " وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ثَمُودَ اجْتَمَعُوا يَوْمًا فِي نَادِيهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَذَكَّرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ - وَأَشَارُوا إِلَى صَخْرَةٍ هُنَاكَ - نَاقَةً، مِنْ صفتهَا كَيْت وَكَيْت [وَذكروا أوصافا يسموها وَنَعَتُوهَا وَتَعَنَّتُوا فِيهَا. وَأَنْ تَكُونَ عُشَرَاءَ طَوِيلَةً، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا (4) ] فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبْتُمْ، أَتُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَتُصَدِّقُونِي فِيمَا أُرْسِلْتُ بِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. ثمَّ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ فصلى لله عزوجل مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا. فَأَمَرَ الله عزوجل تِلْكَ الصَّخْرَة أَن   (1) ا: الرئية. والرئى: التَّابِع من الْجِنّ (2) سَقَطت من المطبوعة (3) لَيست فِي ا (4) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 تنفطر عَن نَاقَة عَظِيمَة عشراء، على الْوَجْه الْمَطْلُوب الذى طلبُوا، أَو على الصِّفَةِ الَّتِي نَعَتُوا. فَلَمَّا عَايَنُوهَا كَذَلِكَ رَأَوْا أمرا وَمَنْظَرًا هَائِلًا، وَقُدْرَةً بَاهِرَةً وَدَلِيلًا قَاطِعًا وَبُرْهَانًا [سَاطِعًا (1) ] فَآمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ: " فَظَلَمُوا بِهَا " أَيْ جَحَدُوا بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ بِسَبَبِهَا، أَيْ أَكْثَرُهُمْ. وَكَانَ رَئِيسُ الَّذِينَ آمَنُوا: جُنْدَعَ بن عَمْرو بن محلاة بْنِ لَبِيدِ بْنِ جَوَّاسٍ. وَكَانَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ. وَهُمْ بَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ بِالْإِسْلَامِ فَصَدَّهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عَمْرو بْنِ لَبِيدٍ وَالْحُبَابُ صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صعر بن جلمس. ودعا جندع بن عَمِّهِ شِهَابَ بْنَ خَلِيفَةَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فهم بالاسلام [فَنَهَاهُ أُولَئِكَ، قمال إِلَيْهِمْ (1) فَقَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَال لَهُ مهرش بن غنمة ابْن الذميل رَحمَه الله: وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو * إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا عَزِيزَ ثَمُودَ كُلُّهُمْ جَمِيعًا * فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لَأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا * وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا وَلَكِنَّ الْغُوَاةَ مِنْ آلِ حِجْرٍ * تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذبابا وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " هَذِهِ نَاقَة الله " أَضَافَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَقَوْلِهِ بَيْتُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ " لَكُمْ آيَةً " أَيْ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ " فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسوء فيأخذكم عَذَاب قريب ".   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ تَبْقَى هَذِهِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ، فَكَانُوا يَرْفَعُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ. وَيُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ لَبَنِهَا كِفَايَتَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: " لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَعْلُوم ". وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّا مرسلوا النَّاقة فتْنَة لَهُم " أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَمْ يَكْفُرُونَ؟ وَالله أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ. " فارتقبهم " أَيِ انْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ " وَاصْطَبِرْ " عَلَى أَذَاهُمْ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ عَلَى جَلِيَّةٍ. " وَنَبِّئْهُمْ أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب مختضر ". فَلَمَّا طَال عَلَيْهِم [هَذَا (1) ] الْحَال اجْتمع مأوهم، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَعْقِرُوا هَذِهِ النَّاقَةَ، لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهَا وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعتوا عَن أَمر رَبهم، وَقَالُوا يَا صَالح ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ". وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهَا مِنْهُمْ رَئِيسَهُمْ: قُدَارَ بْنَ سَالِفِ بْنِ جُنْدَعٍ، وَكَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ أصهب. وَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ وَلَدُ زَانِيَةٍ (2) وُلِدَ عَلَى فرَاش سالف، وَهُوَ ابْن رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ صِيبَانُ. وَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاق جَمِيعهم، فَلهَذَا نسب الْفِعْل إِلَيْهِم كلهم (2) . وَذكر ابْن جرير وَغَيرهم مِنْ عُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُودَ   (1) لَيست فِي ا (2) ا: زنية. (2) ط: إِلَى جَمِيعهم كلهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 اسْم إِحْدَاهمَا " صَدُوق " (1) ابْنة الْمحيا بن زُهَيْر بن الْمُخْتَار. وَكَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ فَفَارَقَتْهُ، فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَال لَهُ " مصرع " بْنُ مَهْرَجِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ. وَاسْمُ الْأُخْرَى " عُنَيْزَةُ " بنت غنيم بن مجلز، وتكنى أم غنمة (2) وَكَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، لَهَا بَنَاتٌ مِنْ زَوْجِهَا ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ الرُّؤَسَاءِ، فَعَرَضَتْ بَنَاتَهَا الْأَرْبَعَ عَلَى قُدَارِ بْنِ سَالِفٍ، إِنْ هُوَ (3) عَقَرَ النَّاقَةَ فَلَهُ أَيُّ بَنَاتِهَا شَاءَ، فَانْتُدِبَ (4) هَذَانِ الشَّابَّانِ لِعَقْرِهَا وَسَعَوْا فِي قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةٌ آخَرُونَ فَصَارُوا تِسْعَةً. وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ "، وَسَعَوْا فِي بَقِيَّةِ الْقَبِيلَةِ وَحَسَّنُوا لَهُمْ عَقْرَهَا، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَطَاوَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ. فَانْطَلَقُوا يَرْصُدُونَ النَّاقَةَ، فَلَمَّا صَدَرَتْ مِنْ وِرْدِهَا كَمَنَ لَهَا " مصرع "، فَرَمَاهَا بِسَهْم انتظم عظم (5) سَاقهَا، وَجَاء النِّسَاء يذمرن (6) الْقَبِيلَةِ فِي قَتْلِهَا، وَحَسَرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ تَرْغِيبًا لَهُم [فِي ذَلِك (7) ] فأسرعهم (8) قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عَنْ عُرْقُوبِهَا فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ. وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً عَظِيمَةً تُحَذِّرُ وَلَدَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ سَقْبُهَا - وَهُوَ فَصِيلُهَا - فَصَعدَ جبلا منيعا ورغا (9) ثَلَاثًا.   (1) ا: صدوقة. (2) ط: أم عُثْمَان. (3) ا: إِن من عقر (4) افابتدر. (5) ا: عضلة سَاقهَا (6) يذمرن: يحضضن. وفى المطبوعة: يزمرن. محرفة (7) من ا. (8) ط: فابتدرهم. (9) ط: دَعَا. وَهُوَ تَحْرِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أُمِّي؟ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَخْرَةٍ فَغَابَ فِيهَا. وَيُقَالُ: بَلِ اتَّبَعُوهُ فَعَقَرُوهُ أَيْضًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنذر ". وَقَالَ الله تَعَالَى: " إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَة الله وسقياها " أَيِ احْذَرُوهَا " فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بذنبهم فسواها * وَلَا يخَاف عقباها ". قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ (1) - أَبُو عُرْوَةَ - عَنْ أَبِيهِ [عَنْ] (2) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ النَّاقَةَ وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا فَقَالَ: " إِذْ انْبَعَثَ أشقاها: انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. عَارِمٌ: أَيْ شَهْمٌ. عَزِيزٌ أَيْ رَئِيسٌ مَنِيعٌ: أَيْ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ. وَقَالَ [مُحَمَّدُ (3) ] بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن خشيم، عَن مُحَمَّد ابْن كَعْب، عَن مُحَمَّد بن خثيم بن يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: رجلَانِ [أحهما] (3) أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى تَبْتَلَّ مِنْهُ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ ". رَوَاهُ ابْنُ أَبى حَاتِم.   (1) ط: هَاشم. (2) من ا. (3) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وَقَالَ تَعَالَى: " فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبهم، وَقَالُوا يَا صَالح اثتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الْمُرْسلين ". فَجَمَعُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بَيْنَ كُفْرٍ بَلِيغٍ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي ارْتِكَابِهِمُ النَّهْيَ الْأَكِيدَ فِي عَقْرِ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ آيَةً. وَمِنْهَا: أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَاسْتَحَقُّوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الشَّرْطُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: " وَلَا تَمَسُّوهَا بسوه فيأخذكم عَذَاب قريب " وَفِي آيَةٍ " عَظِيمٌ " وَفِي الْأُخْرَى " أَلِيمٌ " وَالْكُلُّ حَقٌّ. وَالثَّانِي اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ الَّذِي قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا، وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ وَالْعِنَادُ عَلَى اسْتِبْعَادِ الْحَقِّ وَوُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب ". وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَطَا عَلَيْهَا قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، لَعَنَهُ الله ; فعرقبها فَسَقَطت إِلَى الارض، ثمَّ ابتدرها بِأَسْيَافِهِمْ [يُقَطِّعُونَهَا (1) ] فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ سَقْبُهَا - وَهُوَ وَلَدُهَا - شَرَدَ عَنْهُمْ فَعَلَا أَعْلَى الْجَبَلِ هُنَاكَ، وَرَغَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (2) . فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: " تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام " أَي غير   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: مرار. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ أَيْضًا فِي هَذَا الْوَعْدِ الْأَكِيدِ. بَلْ لَمَّا أَمْسَوْا هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَأَرَادُوا - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَنْ يُلْحِقُوهُ بِالنَّاقَةِ. " قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله " أَيْ لَنَكْبِسَنَّهُ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِهِ فَلَنَقْتُلَنَّهُ، ثمَّ نجحدن (1) قَتله ولننكرن ذَلِكَ إِنْ طَالَبَنَا أَوْلِيَاؤُهُ بِدَمِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا: " ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لصادقون " * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يعْملُونَ * وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " (2) . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ قَصَدُوا قَتْلَ صَالِحٍ حِجَارَةً رَضَخَتْهُمْ [فأهلكهم (3) ] سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَتْ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ (4) النَّظِرَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الْأَجَلِ. ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - وَوُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الْأَجَلِ. ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام الْمَتَاع -   (1) ا: تجحد. (2) الْآيَات: 49 - 53 من سُورَة النَّمْل. (3) سَقَطت من المطبوعة. (4) ا: من أيامهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى الْأَجَلُ. فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة يَوْم الاحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون مَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالنِّقْمَةِ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يُفْعَلُ بِهِمْ؟ وَلَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ. فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجْفَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ، وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَحُقَّتِ الْحَقَائِقُ، فَأَصْبَحُوا (1) فِي دَارهم جاثمين، جُثَثًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا حِرَاكَ بِهَا. قَالُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا جَارِيَةٌ كَانَتْ مُقْعَدَةً وَاسْمُهَا " كَلْبَةُ " بِنْتُ السَّلْقِ - وَيُقَالُ لَهَا الذريعة - وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْعَذَابَ أُطْلِقَتْ رِجْلَاهَا، فَقَامَتْ تَسْعَى كأسرع شئ، فَأَتَتْ حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا رَأَتْ وَمَاحِل بِقَوْمِهَا وَاسْتَسْقَتْهُمْ مَاءً، فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ. قَالَ الله تَعَالَى: " كَأَن لم يغنوا فِيهَا " أَيْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا فِي سَعَةٍ وَرِزْقٍ وَغَنَاءٍ، " أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بعدا لثمود " أَيْ نَادَى عَلَيْهِمْ لِسَانُ الْقَدَرِ بِهَذَا. * * * قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، حَدثنَا عبد الله بن   (1) ا: أَصْبحُوا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 عين بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: " لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتْ - يَعْنِي النَّاقَةَ - تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَج، فمتعوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا. وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أهمد الله [بهَا (1) ] مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ " فَقَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (2) ؟ قَالَ: [هُوَ (1) ] أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَيْسَ هُوَ فِي شئ من الْكتب السِّتَّة. وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرِ أَبِي رِغَال، فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ من هَذَا؟ " قَالُوا: وَالله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ ; رَجُلٍ مِنْ ثَمُودَ، كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هَاهُنَا، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ، فَبَحَثُوا عَنْهُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَبُو رِغَالٍ أَبُو ثَقِيفٍ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: يَا رَسُول الله من هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَقَدْ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلًا كَمَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَق فِي السِّيرَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبى بجير، قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ، فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ. فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ الْغُصْنَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَق بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَزِيزٌ. قُلْتُ: تَفَرَّدَ بِهِ بُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ هَذَا، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ. قَالَ شَيْخُنَا: فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهِمَ فِي رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ زَامِلَتَيْهِ (1) . وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي الْمُرْسَلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا شَاهِدٌ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين " إِخْبَار عَن صَالح عَلَيْهِ السَّلَام،   (1) الزاملة: الَّتِى يحمل عَلَيْهَا من الايل وَغَيرهَا، وَقد أصَاب عبد الله بن عَمْرو بعض كتب أهل الْكتاب، حمل زاملتين، فَكَانَ يحدث مِنْهَا. " م 11 - قصَص الانبياء 1 " (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمَهُ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ فِي الذَّهَابِ عَنْ مَحِلَّتِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا قَائِلًا لَهُمْ: " يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْت لكم " أَيْ جَهَدْتُ فِي هِدَايَتِكُمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَنِي، وَحَرَصْتُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِي وَفِعْلِي وَنِيَّتِي. " وَلَكِنْ لَا تحبون الناصحين " أَيْ لَمْ تَكُنْ سَجَايَاكُمْ تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا تُرِيدُهُ، فَلِهَذَا صِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، الْمُسْتَمِرِّ بِكُمُ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَلَا لِي بِالدَّفْعِ عَنْكُمْ يَدَانِ. وَالَّذِي وَجَبَ عَلَيَّ مِنْ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ قَدْ فَعَلْتُهُ وَبَذَلْتُهُ لَكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَهَكَذَا خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ: وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا " وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: " بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، فَبِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ ". فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ أَقْوَامًا قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يجيبون ". وَيُقَالُ إِنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَقَلَ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالح، عَن سَلمَة ابْن وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوادي عُسْفَانَ [حِينَ حَجَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَادِي عُسْفَانَ (1) ] قَالَ: " لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالح عَلَيْهِمَا السَّلَام على بكرات خطمها الليف، أزرقهم الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ". إِسْنَادٌ حَسَنٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ. ذِكْرُ مُرُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْحِجْرِ مِنْ أَرْضِ ثَمُودَ عَامَ تَبُوكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ، نَزَلَ بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ، فَعَجَنُوا مِنْهَا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُول الله فأهراقوا الْقُدُور، وعفلوا الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا [فَقَالَ (1) ] : " إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ ". وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْحِجْرِ: " لَا تَدْخُلُوا على هَؤُلَاءِ، المذبين إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم ".   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرَّ بِمَنَازِلِهِمْ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ رَاحِلَتَهُ، وَنَهَى عَنْ دُخُولِ مَنَازِلِهِمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا (1) فَتَبَاكَوْا خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ ". صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هرون، حَدثنَا المَسْعُودِيّ، عَن إِسْمَعِيل بْنِ أَوْسَطَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الانباري عَنْ أَبِيهِ - وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ تَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: " الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ". قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: " مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ عضب اللَّهُ عَلَيْهِمْ " فَنَادَاهُ رَجُلٌ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أنفسهم شَيْئا ". إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. * * * وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ طَوِيلَةً، فَكَانُوا يَبْنُونَ   (1) ا: فَإِن لم تَكُونُوا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الْبُيُوتَ مِنَ الْمَدَرِ فَتَخْرَبُ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، فَنَحَتُوا لَهُمْ بُيُوتًا فِي الْجِبَالِ. وَذَكَرُوا أَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلُوهُ آيَةً، فَأَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ النَّاقَةَ مِنَ الصَّخْرَةِ، أَمَرَهُمْ بِهَا وَبِالْوَلَدِ الَّذِي كَانَ فِي جَوْفِهَا، وَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ هُمْ نَالُوهَا بِسُوءٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَعْقِرُونَهَا وَيَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَةَ عَاقِرِهَا وَأَنَّهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ. فَبَعَثُوا الْقَوَابِلَ فِي الْبَلَدِ مَتَى وَجَدُوا مَوْلُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقْتُلْنَهُ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا. وَانْقَرَضَ جِيلٌ وَأَتَى جِيلٌ آخَرُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ خَطَبَ رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى ابْنِهِ بِنْتَ آخَرَ مِثْلِهِ فِي الرِّيَاسَةِ، فَزَوَّجَهُ، فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ. فَلَمْ تَتَمَكَّنِ الْقَوَابِلُ مِنْ قَتْلِهِ لِشَرَفِ أَبَوَيْهِ وَجَدَّيْهِ فِيهِمْ، فَنَشَأَ نَشْأَةً سَرِيعَةً، فَكَانَ يَشِبُّ فِي الْجُمُعَةِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ خَرَجَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا بَيْنَهُمْ. فَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ عَقْرَ النَّاقَةِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَهُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمرهم مَا وَقع من عقر النَّاقة، بولغ ذَلِكَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَهُمْ بَاكِيًا عَلَيْهَا، فَتَلَقَّوْهُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَقع من مَلَأٍ مِنَّا. وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثُ فِينَا. فَيُقَال إِنَّه أَمرهم باستدراك سقها حَتَّى يُحْسِنُوا إِلَيْهِ عِوَضًا عَنْهَا، فَذَهَبُوا وَرَاءَهُ فَصَعِدَ جَبَلًا هُنَاكَ، فَلَمَّا تَصَاعَدُوا فِيهِ وَرَاءَهُ تَعَالَى الْجَبَلُ حَتَّى ارْتَفَعَ فَلَا يَنَالُهُ الطَّيْرُ، وَبَكَى الْفَصِيلُ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَغَا ثَلَاثًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فَعِنْدَهَا قَالَ صَالِحٌ: " تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّام، ذَلِك وعد غير مَكْذُوب " وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مِنْ غَدِهِمْ صُفْرًا، ثُمَّ تَحْمَرُّ وُجُوهُهُمْ فِي الثَّانِي، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَتْهُم صَيْحَة فِيهَا صَوت كل صَاعِقَة، فَأَخَذتهم فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَظَرٌ وَمُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ وَقِصَّتِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قصَّة ابراهيم الْخَلِيل هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَخَ (1) " 250 " بْنِ نَاحُورَ " 148 " بْنِ ساروغ " 230 " بن راغو " 239 " ابْن فالغ " 439 " بن عَابِر " 464 " (2) ابْن شالح " 433 " بْنِ أَرْفَخْشَذَ " 438 " (3) بْنِ سَامِ " 600 " بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذَا نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ، وَقَدْ أَعْلَمْتُ عَلَى أَعْمَارِهِمْ تَحْتَ أَسْمَائِهِمْ بِالْهِنْدِيِّ كَمَا ذَكَرُوهُ [مِنَ الْمُدَدِ] (4) وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى عُمُرِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ [إِبْرَاهِيمَ (4) ] الْخَلِيل من تَارِيخه عَن إِسْحَق بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ، أَنَّ اسْمَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ " أُمَيْلَةُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْهُ فِي خَبَرِ وِلَادَتِهَا لَهُ حِكَايَةً طَوِيلَةً. وَقَالَ الكلبى: سمها " بونا " بنت كربتا بن كرثى، من بنى أرفخشذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْنَى " أَبَا الضِّيفَانِ " قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ عُمُرُ تَارَخَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سنة ولد لَهُ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وتاحور وَهَارَانُ، وَوُلِدَ لِهَارَانَ " لُوطٌ ". وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَأَنَّ هَارَانَ مَاتَ فِي   (1) ط: تسارخ وَهُوَ تَحْرِيف. (2) ا: 443 (3) ا: 893. (4) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 حَيَاةِ أَبِيهِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ أَرْضُ الْكَلْدَانِيِّينَ يَعْنُونَ أَرْضَ بَابِلَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ والاخبار، وَصحح ذَلِك الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر، بعد ماروى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بِغُوطَةِ دِمَشْقَ، فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بَرْزَةُ، فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ قَاسِيُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَابِلَ. وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَقَامُ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيهِ إِذْ جَاءَ مُعِينًا لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَتَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وناحور " ملكا " ابْنة هاران يعنون ابْنة أَخِيهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ سَارَةُ عَاقِرًا لَا تَلِدُ. قَالُوا: وامنطلق تَارَخُ بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ سَارَةَ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَنَزَلُوا حَرَّانَ فَمَاتَ فِيهَا تَارَخُ وَلَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ بِحَرَّانَ، وَإِنَّمَا مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَهِيَ أَرْضُ بَابِلَ وَمَا والاها. ثمَّ ارتحلوا قَاصِدين أَرض الكنعانين، وَهِيَ بِلَادُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَقَامُوا بِحَرَّانَ وَهِيَ أَرْضُ الْكَشْدَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ أَيْضًا. وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ. وَالَّذِينَ عَمَّرُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، يَسْتَقْبِلُونَ الْقُطْبَ الشَّمَالِيَّ وَيَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْفَعَالِ وَالْمَقَالِ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَى كل بَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ السَّبْعَةِ الْقَدِيمَةِ هَيْكَلٌ لِكَوْكَبٍ مِنْهَا، وَيَعْمَلُونَ لَهَا أَعْيَادًا وَقَرَابِينَ. وَهَكَذَا كَانَ أَهْلُ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانُوا كُفَّارًا، سِوَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَامْرَأَتِهِ وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَزَالَ اللَّهُ بِهِ تِلْكَ الشُّرُورَ، وَأَبْطَلَ بِهِ ذَاكَ الضَّلَالَ ; فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آتَاهُ رُشْدَهُ فِي صِغَرِهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا فِي كبره، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالمين (1) ". أَيْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يبدى اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ الله على كل شئ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء، ومالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَالَّذين كفرُوا بآيَات ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من   (1) سُورَة الانبياء 58. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 رحمتى وَأُولَئِكَ لم عَذَابٌ أَلِيمٌ " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض وبلعن بَعْضُكُمْ بَعْضًا ; وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (1) ". ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. * * * وَكَانَ أَوَّلُ دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِإِخْلَاصِ النَّصِيحَةِ [لَهُ] (2) كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صديقا نَبيا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صراطا سويا * يَا أَبَت لاتعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دون الله وأدعو ربى ; عَسى أَن لَا أكون بِدُعَاء ربى شقيا " (3) .   (1) سُورَة العنكبوت 16 - 27. (2) سقط من ا. (3) سُورَة مَرْيَم 41 - 48 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فَذكر تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَكَيْفَ دَعَا أَبَاهُ إِلَى الْحَقِّ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ إِشَارَةٍ ; بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من عبَادَة الاوثان الَّتِي لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ عَابِدِهَا وَلَا تُبْصِرُ مَكَانَهُ، فَكيف تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا أَوْ تَفْعَلُ بِهِ خَيْرًا من رزق أَو نصر؟ ثمَّ قَالَ [لَهُ] (1) مُنَبِّهًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْ أَبِيهِ: " يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سويا " أَيْ مُسْتَقِيمًا وَاضِحًا سَهْلًا حَنِيفًا، يُفْضِي بِكَ إِلَى الْخَيْرِ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ. فَلَمَّا عَرَضَ هَذَا الرُّشْدَ عَلَيْهِ وَأَهْدَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ إِلَيْهِ، لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ وَلَا أَخَذَهَا عَنْهُ، بَلْ تَهَدَّدَهُ [وَتَوَعَّدَهُ] (2) قَالَ: " أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيم؟ لَئِن لم تَنْتَهِ لارجمنك " قيل بالمقال وَقيل بالفعال. " واهجرني مَلِيًّا " أَيْ وَاقْطَعْنِي وَأَطِلْ هِجْرَانِي. فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: " سَلام عَلَيْك " أَيْ لَا يَصِلُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى، بَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ نَاحِيَتِي. وَزَادَهُ خَيْرًا فَقَالَ: " سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بى حفيا ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ لَطِيفًا، يَعْنِي فِي أَنْ هَدَانِي لِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلِهَذَا قَالَ: " وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وأدعو ربى، عَسى أَن لَا أكون بِدُعَاء ربى شقيا ".   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَقَدِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَعَدَهُ فِي أَدْعِيَتِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ] (1) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم " (2) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ [لَهُ (1) ] أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رب إِنَّك وَعَدتنِي أَن لَا تخزيني يَوْم يبعثون فأى خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذبح مُتَلَطِّخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ". هَكَذَا رَوَاهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مُنْفَرِدًا. وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (3) ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّار عَن حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم   (1) سقط من ا (2) سُورَة التَّوْبَة 214 (3) ط: ابْن أَبى ذُؤَيْب محرفة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 بِنَحْوِهِ، وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً؟ إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين " هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ آزَرُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّسَبِ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ تَارَحُ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقُولُونَ تَارَخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، [فَقِيلَ: إِنَّهُ لُقِّبَ بِصَنَمٍ كَانَ يَعْبُدُهُ اسْمُهُ آزَرُ] (1) . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ. وَلَعَلَّ لَهُ اسْمَانِ عَلَمَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَقَبٌ وَالْآخَرُ عَلَمٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ نرى إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القم بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قوم إنى برِئ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ؟ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاء ربى شَيْئا، وسع ربى كل شئ   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 عِلْمًا، أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ؟ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مهتدون * وَتلك حججتنا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم (1) ". وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ مُنَاظَرَةٍ لِقَوْمِهِ، وَبَيَانٌ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَةَ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، لَا تَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا أَنْ تُعْبَدَ مَعَ الله عزوجل، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ، تَطْلُعُ تَارَةً وَتَأْفُلُ أُخْرَى، فَتَغِيبُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، والرب تَعَالَى لَا يغيب عَنهُ شئ وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، بَلْ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي بِلَا زَوَال، لَا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. فَبين لَهُم أَولا عدم صَلَاحِية الْكَوَاكِب " لذَلِك (2) ] قيل هُوَ الزهرة، ثمَّ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ مِنْهَا وَأَبْهَى مِنْ حُسْنِهَا، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَبَهَاءً، فَبَيَّنَ أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مُسَيَّرَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَرْبُوبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إباه تَعْبدُونَ " (3) . وَلِهَذَا قَالَ: " فَلَمَّا رَأس الشَّمْس بازغة " أَيْ طَالِعَةً " قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إنى برِئ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات والارض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين *   (1) لَيست فِي ا (2) لَيست فِي ا (3) سُورَة فصلت 37 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ، وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء ربى شَيْئا، أَي لست أبالى هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ، بَلْ هِيَ مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ كَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مَصْنُوعَةٌ مَنْحُوتَةٌ مَنْجُورَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْعِظَتَهُ هَذِه فِي الْكَوَاكِب لاهل حران، فَإِنَّهُم كَانُوا يَعْبُدُونَهَا. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ لَمَّا كَانَ صَغِيرا، كَمَا ذكره ابْن إِسْحَق وَغَيْرُهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَخْبَارٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ لَا يُوثَقُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَتِ الْحَقَّ. * * * وَأَمَّا أَهْلُ بَابِلَ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَاظَرَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا وَكَسَرَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَهَانَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ ومالكم من ناصرين " وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من اللاعبين؟ * قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات والارض الذى فطرهن وَأَنا على ذَلِك مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بآلهتنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ؟ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نكسوا على رؤوسهم لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتكُم إِن كُنْتُم فاعلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم * وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاخسرين " (1) وَقَالَ فِي سُورَة الشُّعَرَاء: " واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم * إِذْ قَالَ لابيه وَقَومه مَا تَعْبدُونَ * قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُم عدولى إِلَّا رب الْعَالمين * الذى خلقني فَهُوَ يهدين * والذى هُوَ يطعمنى ويسقين * وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين * والذى يميتني ثمَّ يحيين * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّين * رب هَب لى حكما وألحقني بالصالحين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: " وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ؟ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ؟ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالمين * فَنظر نظرة فِي   (1) سُورَة الانبياء 51 - 70 (2) الْآيَات: 69 - 82. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فرَاغ إِلَى آلِهَتهم فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ * مالكم لَا تَنْطِقُونَ؟ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الاسفلين " (1) . يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه أنكر على قومه عبَادَة لاوثان وَحَقَّرَهَا عِنْدَهُمْ وَصَغَّرَهَا وَتَنَقَّصَهَا، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ التماثيل الَّتِى أَنْتُم لَهَا عاكفون "؟ أَيْ مُعْتَكِفُونَ عِنْدَهَا وَخَاضِعُونَ لَهَا، قَالُوا: " وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين ". مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا صَنِيعُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَنْدَادِ. " قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين ". قَالَ قَتَادَةُ: فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ وَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " سَلَّمُوا لَهُ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ دَاعِيًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا الِاقْتِدَاءُ بِأَسْلَافِهِمْ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الضَّلَالِ مِنَ الْآبَاءِ الْجُهَّالِ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: " أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ".   (1) الْآيَات: 83 - 98 (12 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْأَصْنَامِ ; لِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهَا وَتَنَقَّصَ بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَضُرُّ لَضَرَّتْهُ، أَوْ تُؤَثِّرُ لَأَثَّرَتْ فِيهِ. " قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من الاعبين؟ " وَيَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَام الذى تَقوله لنا وتتنقص بِهِ آلِهَتنَا، وتطعن بِسَبَبِهِ فِي آبَائِنَا أتقوله (1) محقا جادا فِيهِ أم لَا عبا؟ " قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدين " يَعْنِي بَلْ أَقُولُ لَكُمْ ذَلِكَ جَادًّا مُحِقًّا، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ربكُم وَرب كل شئ، فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، الْخَالِقُ لَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَقَوْلُهُ: " وَتَاللَّهِ لاكيدن أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين " أقسم ليكيدن هَذِه الاصنام الَّتِى يعبدونها يعد أَنْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَى عِيدِهِمْ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا خُفْيَةً فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ (2) مَرَّةً إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَحْضُرَهُ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنى سقيم " عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَوَصَّلَ إِلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إِهَانَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ الْحق، وَبطلَان مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُكَسَّرَ وَأَنْ تُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ.   (1) ا: تَقوله (2) ا: عيد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ فِي بلدهم " راغ إِلَى آلِهَتهم " أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا مُسْتَخْفِيًا، فَوَجَدَهَا فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيَهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْأَطْعِمَةِ قُرْبَانًا إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا عَلَى سَبِيل التهكم والازدراء " أَلا تَأْكُلُونَ * مالكم لَا تنطقون * فرَاغ عَلَيْهِم ضربا بِالْيَمِينِ " لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَبْطَشُ وَأَسْرَعُ وَأَقْهَرُ، فَكَسَّرَهَا بِقَدُومٍ فِي يَدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا " أَيْ حُطَامًا، كَسَّرَهَا كُلَّهَا " إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ ". قِيلَ إِنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ الْكَبِيرِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ غَارَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الصِّغَارُ! فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ وَوَجَدُوا مَا حَلَّ بِمَعْبُودِهِمْ " قَالُوا: مَنْ فَعَلَ هَذَا بآلهتنا إِنَّه لمن الظَّالِمين ". وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، وَهُوَ مَا حَلَّ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ عَنْ أَنْفُسِهَا مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا مِنْ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ وَخَبَالِهِمْ: " مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ". " قَالُوا سَمِعْنَا فَتى يذكرهم يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم " أَيْ يَذْكُرُهَا بِالْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لَهَا وَالِازْدِرَاءِ بِهَا، فَهُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهَا وَالْكَاسِرُ لَهَا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِقَوْلِهِ: " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين ". " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يشْهدُونَ " أَيْ فِي الْمَلَأِ الْأَكْبَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَقَالَتَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَيُعَايِنُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ. وَكَانَ هَذَا أَكْبَرَ مَقَاصِدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَيُقِيمَ عَلَى جَمِيع عباد الاصنام الْحجَّة على بطلَان ماهم عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: " مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ". * * * فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَجَاءُوا بِهِ كَمَا ذَكَرُوا " قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا ". قيل مَعْنَاهُ: هُوَ الْحَامِل لى على تكسيرهم، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا ينطقون " وتإنما أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْقَوْلِ بِأَن هَذِهِ لَا تَنْطِقُ، فَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا جَمَادٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ. " فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " أَيْ فَعَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُم الظَّالِمُونَ. أَيْ فِي تَرْكِهَا لَا حَافِظَ لَهَا وَلَا حارس عِنْدهَا. " ثمَّ نكسوا على رؤوسهم ". قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: " إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " أَيْ فِي عِبَادَتِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سَوْءٍ. أَيْ فَأَطْرَقُوا ثُمَّ قَالُوا: " لَقَدْ علمت مَا هَؤُلَاءِ ينطقون " أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِسُؤَالِهَا!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أفتعبدون من دون الله حَالا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبدُونَ من دون الله أَفلا تعقلون؟ ". كَمَا قَالَ: " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون " قَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْرِعُونَ. قَالَ: " أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ " أَيْ كَيْفَ تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَتُصَوِّرُونَهَا وَتُشَكِّلُونَهَا كَمَا تُرِيدُونَ " وَاللَّهُ خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ ". وَسَوَاءٌ كَانَتْ: " مَا " مَصْدَرِيَّةً أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي، فَمُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ، وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ مَخْلُوقَةٌ، فَكيف يتعبد مَخْلُوق لمخلوق مِثْلَهُ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَادَتُكُمْ لَهَا بِأَوْلَى مِنْ عِبَادَتِهَا لَكُمْ. وَهَذَا بَاطِلٌ، فَالْآخَرُ بَاطِلٌ لِلتَّحَكُّمِ ; إِذْ لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ تَصْلُحُ وَلَا تَجِبُ (1) إِلَّا لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. * * * " قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاسفلين ". عَدَلُوا عَنِ الْجِدَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمَّا انْقَطَعُوا وَغُلِبُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ حَجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ إِلَى اسْتِعْمَال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ماهم عَلَيْهِ مِنْ سَفَهِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَادَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ ; وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَبُرْهَانَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم * وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الاخسرين ".   (1) ا: تجب وَلَا تصلح. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا يَجْمَعُونَ حَطَبًا مِنْ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَمَكَثُوا مُدَّةً يَجْمَعُونَ لَهُ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا مَرِضَتْ تَنْذِرُ لَئِنْ عُوفِيَتْ لَتَحْمِلَنَّ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى جَوْبَةٍ (2) عَظِيمَةٍ فَوَضَعُوا فِيهَا ذَلِك الْحَطب وأطلقوا فِيهِ النَّار، فاضطربت وتأججت والتهبت وَعلا لَهَا شَرَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ. ثُمَّ وَضَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ مَنْجَنِيقٍ (2) صَنَعَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ " هِيزَنُ " وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْمَجَانِيقَ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ أَخَذُوا يُقَيِّدُونَهُ وَيُكَتِّفُونَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ [رب الْعَالمين (3) ] لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ، لَا شَرِيكَ لَكَ. فَلَمَّا وُضِعَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَكْتُوفًا ثُمَّ أَلْقَوْهُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قِيلَ لَهُ: " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ " الْآيَةَ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِي، حَدثنَا إِسْحَق بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَاصِم ابْن أَبى النجُود، عَن أَبى صَالح عَن   (1) الجوبة: الحفرة (2) المنجنيق: آلَة ترمى بهَا الْحِجَارَة فِي الْحَرْب. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ! ". وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيل عرض لَهُ فِي الْهَوَاء فَقَالَ: [يَا إِبْرَاهِيم (1) ] أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا! وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ مَلَكُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ فَأُرْسِلَ الْمَطَرَ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ. " قُلْنَا يَا ناركونى بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم ". قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: [أَيْ (1) ] لَا تَضُرِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لَوْلَا أَن الله قَالَ: وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم لَأَذَى إِبْرَاهِيمَ بَرْدُهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ ينْتَفع أهل الارض يَوْمئِذٍ بِنَار، وَلم تحرق مِنْهُ سِوَى وَثَاقِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرْوَى أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَن وَجهه لم يصبهُ مِنْهَا شئ غَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ أَيْضًا مَلَكُ الظل، وَصَارَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي ميل الجوبة (2) حوله نَار وَهُوَ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا يقدرُونَ على الْوُصُول، وَلَا هُوَ يخرج إِلَيْهِم.   (1) لَيست فِي ا. (2) ط: فِي مثل الحوبة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ كَلِمَةٍ قَالَهَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لَمَّا رَأَى وَلَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ! وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ نَظَرَتْ إِلَى ابْنِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَتْهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أجئ إِلَيْكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ حَوْلَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ لَا يَمَسهَا شئ مِنْ حَرِّ النَّارِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اعْتَنَقَتْهُ وَقَبَّلَتْهُ ثُمَّ عَادَتْ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ هُنَاكَ إِمَّا أَرْبَعِينَ وَإِمَّا خَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا، وَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا [مِثْلُ (1) ] إِذْ كُنْتُ فِيهَا. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَصِرُوا فَخُذِلُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا فَاتَّضَعُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَغْلِبُوا فَغُلِبُوا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ "، وفى الْآيَة الاخرى " السفلين " فَفَازُوا بِالْخَسَارَةِ وَالسَّفَالِ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ نَارَهُمْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَلَا سَلَامًا، وَلَا يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَلَا سَلَامًا، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما ". قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا عبد اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَوِ ابْنُ سَلَّامٍ عَنْهُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أُمِّ   (1) لبست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 شَرِيكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ (1) ، وَقَالَ: " كَانَ يَنْفُخُ (2) عَلَى إِبْرَاهِيمَ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جريج. وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اقْتُلُوا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ النَّار على إِبْرَاهِيم ". قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْتُلُهُنَّ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَإِذَا رُمْحٌ مَنْصُوبٌ فَقَالَتْ: مَا هَذَا الرُّمْحُ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْأَوْزَاغَ ; ثُمَّ حَدَّثَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ جَعَلَتِ الدَّوَابُّ كُلُّهَا تُطْفِئُ عَنْهُ إِلَّا الْوَزَغَ، فَإِنَّهُ جَعَلَ يَنْفُخُهَا عَلَيْهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّان، حَدثنَا جرير، حَدثنَا نَافِع، حَدَّثتنِي سمامة مَوْلَاةُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا، فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ قَالَت: هَذَا   (1) الوزغ: حشرة يُقَال لَهَا سَام أبرس. (2) ا: نفخ:. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لِهَذِهِ الْأَوْزَاغِ نَقْتُلُهُنَّ بِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا: " أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِين ألْقى فِي النَّار لم يكن فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ، غَيْرَ الْوَزَغِ كَانَ يَنْفُخُ عَلَيْهِ (1) ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَرِيرِ بن حَازِم بِهِ.   (1) لَا نستطيع الاطمئنان إِلَى هَذِه المرويات مادامت تخَالف الْعقل، فَلَيْسَ هُنَاكَ تَكْلِيف للحيوان، وَلَيْسَ الوزغ من الفواسق الَّتِى أمرنَا الرَّسُول بقتلها، وَإِذا صَحَّ أَنه أَمر بقتْله فَيَنْبَغِي أَن تكون هُنَالك عِلّة أُخْرَى. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنِ أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ فِي [إِزَارِ (1) ] الْعَظَمَةِ وَرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَبِيدِ الضُّعَفَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ; إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين " (1) . يذكر تَعَالَى مناظرة خَلِيله مَعَ هَذِه الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الْمُتَمَرِّدِ، الَّذِي ادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأبْطل الْخَلِيل عَلَيْهِ دَلِيلَهُ، وَبَيَّنَ كَثْرَةَ جَهْلِهِ وَقِلَّةَ عَقْلِهِ، وَأَلْجَمَهُ الْحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ لَهُ طَرِيقَ الْمَحَجَّةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَالْأَخْبَارِ: وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ ملك بابل، واسْمه النمرود بن كنهان بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نُمْرُودُ بْنُ فَالِحِ بْنِ عَابِر بن صَالح بن أرفخشذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا فِيمَا ذَكَرُوا أَرْبَعَةٌ: (2) مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ; فَالْمُؤْمِنَانِ: ذُو القرنين، وَسليمَان - والكفران: النمرود، وَبُخْتنَصَّرَ.   (1) سَقَطت من المطبوعة (2) ا: أَرْبَعَة فِيمَا ذكرُوا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وَذكروا أَن نمْرُود هَذَا اسْتَمَرَّ فِي مُلْكِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ. وَكَانَ طَغى وبغى، وَتَجَبَّرَ وَعَتَا، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَلَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، حمله الْجَهْل والضلال وَطول الآمال عَلَى إِنْكَارِ الصَّانِعِ، فَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ فِي ذَلِك، وَادّعى لنَفسِهِ الربوبية. فَلَمَّا قَالَ الْخَلِيلُ: " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أحيى وأميت ". قَالَ قَتَادَة والسدى وَمُحَمّد بن إِسْحَق: يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلَيْنِ قَدْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُمَا، فَإِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَحَدِهِمَا وَعَفَا عَنِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ الْآخَرَ. وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لِلْخَلِيلِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ خَارج عَنْ مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ، لَيْسَ بِمَنْعٍ وَلَا بِمُعَارَضَةٍ، بَلْ هُوَ تَشْغِيبٌ مَحْضٌ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ; فَإِنَّ الْخَلِيلَ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَوْتِهَا، على وجود فَاعل. ذَلِك الذى لابد من استنادها إِلَى موجوده، ضَرُورَة عدم قِيَامِهَا بِنَفْسِهَا. وَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُشَاهَدَةِ، مِنْ خَلْقِهَا وَتَسْخِيرِهَا، وَتَسْيِيرِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ، وَخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مُشَاهَدَةً، ثُمَّ إِمَاتَتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم: " ربى الذى يحيى وَيُمِيت ". فَقَوْلُ هَذَا الْمَلِكِ الْجَاهِلِ: " أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ " إِنْ عَنَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ. وَإِنْ عَنَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ السدى وَمُحَمّد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إِسْحَق، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْخَلِيلِ ; إِذْ لَمْ يَمْنَعْ مُقَدِّمَةً، وَلَا عَارَضَ الدَّلِيلَ. وَلَمَّا كَانَ انْقِطَاع مناظرة هَذِه الْمَلِكِ قَدْ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّن حصره وَغَيْرِهِمْ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَيَّنَ وُجُودَ الصَّانِعِ، وَبُطْلَانَ مَا ادَّعَاهُ النُّمْرُودُ وَانْقِطَاعَهُ جَهْرَةً: " قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بهَا من الْمغرب " أَيْ هَذِهِ الشَّمْسُ مُسَخَّرَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا سَخَّرَهَا خَالِقُهَا وَمُسَيِّرُهَا وَقَاهِرُهَا، وَهُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شئ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا زَعَمْتَ مِنْ أَنَّكَ الَّذِي تُحْيِي وَتُمِيتُ [فَأْتِ بِهَذِهِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ (1) ] هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، بَلْ قد قهر كل شئ ودان لَهُ كل شئ. فَإِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَافْعَلْ هَذَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهُ [فَلَسْتَ (1) ] كَمَا زَعَمْتَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ وكل أحد أَنَّك لَا تقدر على شئ مِنْ هَذَا، بَلْ أَنْتَ أَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً أَوْ تَنْتَصِرَ مِنْهَا. فَبَيَّنَ ضلاله وَجهه وَكَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ، وَبُطْلَانَ مَا سَلَكَهُ وَتَبَجَّحَ بِهِ (2) عِنْدَ جَهَلَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ كَلَامٌ يُجِيبُ الْخَلِيلَ بِهِ، بَلِ انْقَطَعَ وَسَكَتَ وَلِهَذَا قَالَ: " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين ". وَقد طكر السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ النُّمْرُودِ يَوْمَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يكن اجْتمع بِهِ يَوْمئِذٍ، فَكَانَت بَينهمَا هَذِه المناظرة   (1) سقط من ا. (2) ا: ويحتج بِهِ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 [وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ النُّمْرُودَ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ، فَوَفَدَ إِبْرَاهِيم فِي جملَة من وَفد لِلْمِيرَةِ] (1) وَلَمْ يَكُنِ اجْتَمَعَ بِهِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ (2) فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ. وَلَمْ يُعْطَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أُعْطِيَ النَّاسُ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَه شئ مِنَ الطَّعَامِ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَدَ إِلَى كشيب مِنَ التُّرَابِ، فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ وَقَالَ: أَشْغَلُ أَهْلِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا، فَعَمِلَتْ مِنْهُ طَعَامًا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ وَجَدَ الَّذِي [قَدْ (3) ] أَصْلَحُوهُ، فَقَالَ: أَنَّى لَكُمْ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ رِزْقٌ رزقهموه الله عزوجل. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِك الْملك الْجَبَّار، ملكا يَأْمُرهُ باإيمان بِاللَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ ثمَّ دَعَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: اجْمَعْ جُمُوعَكَ وَأَجْمَعُ جموعى. فَجمع النمرود جَيْشه وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذُبَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَرَكَتْهُمْ عظاما بادية، وَدخلت وَاحِدَة مِنْهَا فِي منخر الْملك فَمَكثت فِي منخره أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ! عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْمَرَازِبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى أهلكه الله عزوجل بهَا.   (1) سقط من ا. (2) سقط من المطبوعة (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ذكر هِجْرَة الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى بِلَاد الشَّام، ودخوله الديار المصرية واستقراره فِي الارض المقدسة قَالَ الله: " فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونجيناه ولوطا إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَكَانُوا لنا عابدين (2) ". لَمَّا هَجَرَ قَوْمَهُ فِي اللَّهِ، وَهَاجَرَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِرًا لَا يُولَدُ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ أَحَدٌ، بَلْ مَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ، وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوْلَادَ الصَّالِحِينَ، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ. فَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَهُ فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، فَعَلَى أَحَدِ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ ; خِلْعَةً مِنَ اللَّهِ وَكَرَامَةً لَهُ، حِينَ تَرَكَ بِلَادَهُ وَأَهْلَهُ وَأَقْرِبَاءَهُ، وَهَاجَرَ إِلَى بَلَدٍ يتَمَكَّن فِيهَا من عبَادَة ربه (3) عزوجل وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ. وَالْأَرْضُ الَّتِي قَصَدَهَا بِالْهِجْرَةِ أَرض الشَّام، وهى الَّتِى قَالَ الله عزوجل: " إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين ".   (1) سُورَة العنكبوت 26، 27 (2) سُورَة الانبياء 71، 73 (3) ا: من عبَادَة الله. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " إِلَى الارض الَّتِى باركنا فِيهَا للْعَالمين " مَكَّةَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى للْعَالمين " وَزَعَمَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهَا حَرَّانُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ، وَأَخُوهُ نَاحُورُ، وَامْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ سَارَةُ، وَامْرَأَةُ أَخِيهِ " مَلْكَا " فنزلوا حران، فَمَاتَ تارح أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَلَ الشَّامِ، فَلَقِيَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ - وَهِيَ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ - وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَرَّانُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ هَارَانَ أُخْتُ لوط، كَمَا حَكَاهُ السُّهيْلي عَن القتيبى وَالنَّقَّاشِ، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَقَالَ بِلَا عِلْمٍ. وَمن ادّعى أَنَّ تَزْوِيجَ بِنْتِ الْأَخِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْرُوعًا فَلَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ - كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الرَّبَّانِيِّينَ مِنَ الْيَهُودِ - فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تَتَعَاطَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بَابِلَ خَرَجَ بِسَارَةَ مُهَاجِرًا مِنْ بِلَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " إِنِّي جَاعِلٌ هَذِهِ الْأَرْضَ لِخَلَفِكَ مِنْ بَعْدِكَ " فَابْتَنَى إِبْرَاهِيمُ مَذْبَحًا لِلَّهِ شُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَضَرَبَ قُبَّتَهُ شَرْقِيَّ بَيت الْمُقَدّس ثمَّ انْطلق مرتحلا، إِلَى التَّيَمُّن، وَأَنَّهُ كَانَ جُوعٌ، أَيْ قَحْطٌ وَشِدَّةٌ وَغَلَاءٌ، فَارْتَحَلُوا إِلَى مِصْرَ. وَذَكَرُوا قِصَّةَ سَارَةَ مَعَ مَلِكِهَا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهَا: قُولِي أَنَا أُخْتُهُ. وَذَكَرُوا إِخْدَامَ الْمَلِكِ إِيَّاهَا هَاجَرَ. ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْهَا فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِ التَّيَمُّنِ، يَعْنِي أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا وَالَاهَا، وَمَعَهُ دَوَابُّ وَعبيد وأموال. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاث كذبات: اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: " إِنِّي سَقِيمٌ "، وَقَوْلَهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِن هَاهُنَا رجلا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ، فَقَالَ: ادعِي الله لي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ الله فَأطلق. ثمَّ تنَاولهَا الثَّانِيَة مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضرّك، فدعث فَأطلق. فَدَعَا بعض (م - 13 قصَص الانبياء 1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 حَجَبته فَقَالَ: إِنَّكُم لم تَأْتُونِي (1) بِإِنْسَان وَإِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي (2) بِشَيْطَانٍ. فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ. فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفًا. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِرين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: " إِنِّي سَقِيمٌ " وَقَوْلُهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأُتِيَ الْجَبَّارُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ هَاهُنَا رَجُلٌ مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ إِنَّهَا أُخْتِي. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهَا قَالَ: إِنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْكِ فَقُلْتُ إِنَّكِ أُخْتِي، وَإِنَّهُ لَيْسَ الْيَوْمَ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّكِ أُخْتِي، فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ. فَانْطُلِقَ بِهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا أُخِذَ، فَقَالَ: ادعِي الله لي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ فَذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ مِنْهَا، فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضرّك، فدعَتْ فَأرْسل، ثَلَاث مَرَّات، فَدَعَا   (1) ا: إِنَّك لم تأتتى (2) ا: أتيتني. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أَدْنَى حَشَمِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ وَلَكِنْ أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. فَجَاءَتْ وَإِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهَا انْصَرَفَ، فَقَالَ: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الظَّالِمِ، وَأَخْدَمَنِي هَاجَرَ ". وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّار: لَا يعلم أَسْنَدَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا هِشَامٌ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مَوْقُوفًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ وَرْقَاءَ - هُوَ أَبُو عُمَرَ (1) الْيَشْكُرِيُّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: قَوْلُهُ حِينَ دُعِيَ إِلَى آلِهَتِهِمْ، فَقَالَ: " إِنِّي سَقِيمٌ "، وَقَوْلُهُ: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: " إِنَّهَا أُخْتِي ". قَالَ: وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ اللَّيْلَةَ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْجَبَّارُ: مَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ قَالَ أُخْتِي [قَالَ فَأَرْسِلْ بِهَا (2) ] قَالَ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لَا تُكَذِّبِي قَوْلِي، فَإِنِّي قد أخْبرته أَنَّك أختى، إِن مَا على الارض مُؤمن غيرى غَيْرك. فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا، فَأَقْبَلت تتوضأ وتصلى وَتقول: اللَّهُمَّ إِن   (1) ط: ابْن عمر. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ (1) وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ: فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِن يمت يُقَال هِيَ قَتَلَتْهُ. قَالَ: فَأُرْسِلَ. [قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، قَالَ فَقَامَتْ تتوضأ وَتُصَلِّي وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنت يَك وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا قَالَت: اللَّهُمَّ إِن يَمُتْ يُقَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ، قَالَ فَأُرْسِلَ (2) ] . قَالَ: فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: أَشَعَرْتَ إِنَّ الله رد كيد الْكَافرين وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً! تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بن زيد ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ   (1) ط: وبرسلك. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الثَّلَاثِ الَّتِي قَالَ: " مَا مِنْهَا كَلِمَةٌ إِلَّا مَا حل (1) بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ ; فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَالَ: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا وَقَالَ لِلْمَلِكِ حِينَ أَرَادَ امْرَأَتَهُ هِيَ أُخْتِي ". فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " هِيَ أُخْتِي " أَيْ فِي دِينِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ لَهَا: " إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ " يَعْنِي زَوْجَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ غَيْرِي وَغَيْرَكِ. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ لُوطًا كَانَ مَعَهُمْ وَهُوَ نَبِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ لَهَا لَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ: مَهْيَمْ؟ مَعْنَاهُ مَا الْخَبَرُ. فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ رَدَّ كيد الْكَافرين. وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَاجِرِ وَهُوَ الْمَلِكُ، وَأَخْدَمَ جَارِيَةً. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ وَقْتِ ذُهِبَ بهَا إِلَى الْملك، قَامَ يصلى الله عزوجل، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَرُدَّ بَأْسَ هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَهْلَهُ بِسُوءٍ. وَهَكَذَا فعلت هِيَ أَيْضا. فَلَمَّا أَرَادَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا أَمْرًا قَامَت إِلَى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عزوجل بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة (2) " فَعَصَمَهَا اللَّهُ وَصَانَهَا لِعِصْمَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَحَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى نُبُوَّةِ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ: سَارَةَ، وَأُمِّ مُوسَى وَمَرْيَمَ عَلَيْهِنَّ السَّلَامُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُنَّ صَدِّيقَاتٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ. وَرَأَيْتُ فِي بعض الْآثَار أَن الله عزوجل كشف الْحجاب فِيمَا بَين   (1) ماحل: دَافع. (2) سُورَة الْبَقَرَة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إِبْرَاهِيم على السَّلَامُ وَبَيْنَهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَرَاهَا مُنْذُ خَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى أَنْ رَجَعَتْ إِلَيْهِ. وَكَانَ مُشَاهِدًا لَهَا وَهِيَ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَكَيْفَ عَصَمَهَا اللَّهُ مِنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ وَأَقَرَّ لِعَيْنِهِ وَأَشَدَّ لِطُمَأْنِينَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، لِدِينِهَا وَقَرَابَتِهَا مِنْهُ وَحُسْنِهَا الْبَاهِرِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ بَعْدَ حَوَّاءَ إِلَى زَمَانِهَا، أَحْسَنَ مِنْهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوَارِيخِ (1) أَنَّ فِرْعَوْنَ مِصْرَ هَذَا كَانَ أَخًا لِلضَّحَّاكِ الْمَلِكِ الْمَشْهُورِ بِالظُّلْمِ، وَكَانَ عَامِلًا لِأَخِيهِ عَلَى مِصْرَ. وَيُقَالُ كَانَ اسْمُهُ سِنَانَ بْنَ علوان بن عبيد بن عويج بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ: أَنَّ الَّذِي أَرَادَهَا عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مايلون بْنِ سَبَأٍ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ. نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالله أَعْلَمُ. * * * ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ التَّيَمُّنِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَمَعَهُ أَنْعَامٌ وَعَبِيدٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَصَحِبَتْهُمْ هَاجَرُ الْقِبْطِيَّةُ الْمِصْرِيَّةُ. ثمَّ إِن لوطا عَلَيْهِ السَّلَام نزح بِمَالِه مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِأَمْرِ الْخَلِيلِ لَهُ فِي ذَلِكَ، إِلَى أَرْضِ الْغَوْرِ، الْمَعْرُوفِ بِغَوْرِ زُغَرَ ; فَنَزَلَ بِمَدِينَةَ سَدُومَ (2) وَهِيَ أُمُّ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَكَانَ أَهْلُهَا أَشْرَارًا كُفَّارًا فجارا.   (1) ا: التَّارِيخ. (2) قَالَ فِي الْقَامُوس: وسدوم لقرية قوم لوط غلط فِيهِ الجوهرى، وَالصَّوَاب سذوم بِالذَّالِ. الْمُعْجَمَة. وَذكر شَارِح الْقَامُوس أَن الْمَشْهُور فِيهِ إهمال الدَّال. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَأوحى الله تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، فَأمره أَنْ يَمُدَّ بَصَرَهُ وَيَنْظُرَ شَمَالًا وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ كُلَّهَا سَأَجْعَلُهَا لَكَ وَلِخَلَفِكَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَسَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ حَتَّى يَصِيرُوا بِعَدَدِ تُرَابِ الْأَرْضِ. وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ اتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ مَا كَمَلَتْ وَلَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَيُؤَيّد ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ زَوَى (1) لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وسيبلغ ملك أمتى مازوى لى مِنْهَا " فالوا: ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَبَّارِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَسَرُوهُ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ وَاسْتَاقُوا أنعامه فَلَمَّا بلغ [الْخَبَر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل سَارَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فاستنفذ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَرْجَعَ (2) ] أَمْوَالَهُ، وَقَتَلَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَلْقًا كَثِيرًا وَهَزَمَهُمْ وَسَاقَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شَمَالِيِّ (3) دِمَشْقَ وَعَسْكَرَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ بَرْزَةَ، وَأَظُنُّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا سمى لانه كَانَ مَوْقِفِ جَيْشِ الْخَلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَلَقَّاهُ مُلُوكُ بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُعَظِّمِينَ لَهُ مُكْرِمِينَ خَاضِعِينَ، وَاسْتَقَرَّ ببلاده. صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ.   (1) زوى: جمع (2) سقط من المطيوعة! (3) المظبوعة: شَرْقي دمشق. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ذكر مولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ هَاجَرَ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَأَنَّ اللَّهَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ بِبِلَاد بَيت الْمُقَدّس عشرُون سنة قَالَت سارة لابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام: إِن لرب قَدْ أَحْرَمَنِي الْوَلَدَ، فَادْخُلْ عَلَى أَمَتِي هَذِهِ لَعَلَّ الله يرزقنى مِنْهَا وَلَدًا. فَلَمَّا وَهَبَتْهَا لَهُ دَخَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحِينَ دَخَلَ بِهَا حَمَلَتْ مِنْهُ. قَالُوا: فَلَمَّا حَمَلَتِ ارْتَفَعَتْ نَفْسُهَا وَتَعَاظَمَتْ عَلَى سَيِّدَتِهَا، فَغَارَتْ مِنْهَا [سَارَةُ] (1) فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: افْعَلِي بِهَا مَا شِئْتِ، فَخَافَتْ هَاجَرُ فَهَرَبَتْ فَنَزَلَتْ عِنْدَ عَيْنٍ هُنَاكَ. فَقَالَ لَهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: [لَا تَخَافِي فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي حَمَلْتِ خَيْرًا] (1) وَأَمَرَهَا بِالرُّجُوعِ وَبَشَّرَهَا أَنَّهَا سَتَلِدُ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ إِسْمَاعِيلَ، وَيَكُونُ وَحْشَ النَّاسِ، يَده على الْكل، وَيَده الْكُلِّ بِهِ، وَيَمْلِكُ جَمِيعَ بِلَادِ إِخْوَتِهِ. فَشَكَرَتِ الله عزوجل [عَلَى ذَلِكَ (1) ] . وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ إِنَّمَا انْطَبَقَتْ عَلَى وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ الذى بِهِ (2) سادت الْعَرَبُ، وَمَلَكَتْ جَمِيعَ الْبِلَادِ غَرْبًا وَشَرْقًا، وَأَتَاهَا اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا لم تؤت أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِشَرَفِ رَسُولِهَا عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ، وَبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ ويمن سفارته (3) وَكَمَالِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ لِجَمِيعِ أهل الارض.   (1) لَيست فِي ا (2) ط: سادت بِهِ (3) ط: بشارته (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَلَمَّا رَجَعَتْ هَاجَرُ وَضَعَتْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وولدته وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، قَبْلَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيل أوحى الله إِلَى إِبْرَاهِيم يبشره يإسحاق مِنْ سَارَةَ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَقَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وكثرته ونميته (1) جدا كئيرا (2) ، وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا، وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ. وَهَذِهِ أَيْضًا بِشَارَةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَؤُلَاءِ الِاثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا هُمُ الْخُلَفَاءُ [الراشدون (3) ] الِاثْنَا عَشَرَ، الْمُبَشَّرُ بِهِمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا ". ثُمَّ قَالَ كَلِمَةٌ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ أَبِي مَا قَالَ. قَالَ " كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَزِيزًا، حَتَّى يَكُونَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ". فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمُ [الْأَئِمَّةُ (4) ] الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ بَعْضُ بَنِي الْعَبَّاس. وَلَيْسَ المُرَاد أَنهم يَكُونُوا اثنى عشر نسقا بل لابد من وجودهم. وَلَيْسَ المُرَاد الائمة الائنى عشر الَّذين يعْتَقد (5) فيهم الرافضة، الَّذين أَوَّلهمْ   (1) ا: ويمنته (2) ا: كَبِيرا (3) لَيست فِي ا (4) لَيست فِي ا (5) ا: يَعْتَقِدُونَ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخِرُهُمُ الْمُنْتَظِرُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا -[وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ فِيمَا يَزْعُمُونَ (1) ] فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَنْفَعُ مِنْ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَخْمَدَ نَارَ الْفِتْنَة وَسكن رحى الْحَرْب (2) بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّعَايَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُونَهُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا، فَذَاك هوس فِي الرؤوس، وَهَذَيَانٌ فِي النُّفُوسِ، لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَاجَرَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا وُلِدَ لَهَا إِسْمَاعِيلُ، اشْتَدَّتْ غَيْرَةُ سَارَةَ مِنْهَا، وَطَلَبَتْ مِنَ الْخَلِيلِ أَنْ يُغَيِّبَ وَجْهَهَا عَنْهَا، فَذَهَبَ بِهَا وَبِوَلَدِهَا، فَسَارَ بِهِمَا حَتَّى وَضَعَهُمَا حَيْثُ مَكَّةَ الْيَوْمَ. وَيُقَالُ إِنَّ وَلَدَهَا كَانَ إِذْ ذَاكَ رَضِيعًا. فَلَمَّا تَرَكَهُمَا هُنَاكَ وَولى ظَهره عَنْهُمَا قَامَت إنيه هَاجَرُ وَتَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ، وَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَدَعُنَا هَاهُنَا وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يَكْفِينَا؟ فَلَمْ يُجِبْهَا فَلَمَّا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهَا قَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ فَإِذًا لَا يُضَيِّعُنَا! وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ الله فِي كتاب النَّوَادِر: أَن سارة غضِبت (3) على هَاجر فخلفت لَتَقْطَعَنَّ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْهَا، فَأَمَرَهَا الْخَلِيلُ أَنْ تَثْقُبَ أُذُنَيْهَا، وَأَنْ تَخْفِضَهَا فَتَبَرَّ قَسَمُهَا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ مِنَ النِّسَاءِ، وَأول من ثقبت أدنها مِنْهُنَّ، وَأول من طولت ذيلها.   (1) لَيْسَ فِي ا (2) ط: الحروب (3) ا: تغضبت (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ذكر مهاجرة إِبْرَاهِيم بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ إِلَى جِبَالِ فَارَانَ وَهِيَ أَرْضُ مَكَّةَ، وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ - هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدثنَا معممر، عَن أبوب السختيانى وَكثير بن كثير ابْن الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ من قبل أم اسماعيل، اتَّخذت منطقا لتعقى أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ. فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفَّى (1) إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ بِهِ أنيس (1) وَلَا شئ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهؤلاء الدَّعْوَات وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرون " (3) .   (1) ا: بقى. (2) ا: أنس. (3) سُورَة إِبْرَاهِيم 37 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِك المَاء، حَتَّى إِذا نفد مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى (1) - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ (2) - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بلغت [بطن (3) ] الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الانسان المجهود حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، [فعلت (4) ] ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَلذَلِك سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا ". فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ، تُرِيدُ نَفْسَهَا. ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ. فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظهر المَاء، فَجعلت تحوضه وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا. وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ! لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ، أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ، لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا " [قَالَ (5) ] : فَشَرِبت وأرضعت وَلَدهَا. فَقَالَ لَهَا الْملك:   (1) ط: يلتوى. (2) ا. يبلبط. (3) لَيست فِي ا. (4) ط: فَفعلت. (5) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لَا تخافى الضَّيْعَة فَإِن هَاهُنَا بَيْتا لله (1) يبنيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ، مُقْبِلِينَ من طَرِيق كداء، فنزلوا فِي أفسل مَكَّة فَرَأَوْا طائا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاء، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ. فَأَرْسَلُوا جَريا (2) أَو جريين فَإِذا هم بالماه، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا. قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْد المَاء، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. وَلَكِنْ لَا حق لكم فِي المَاء [عندنَا (3) ] قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ. فَنَزَلُوا ورسلوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ. وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ. فَلَمَّا أدْرك زوجوه امْرَأَة مِنْهُم. وَمَاتَتْ أم إِسْمَعِيل، فجَاء إِبْرَاهِيم بعد مَا تزوج إِسْمَعِيل يطالع تركته فَلم يجد إِسْمَعِيل، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثمَّ سَأَلَهَا عَن عيشهم وهيئتهم فَقَالَت: نن بشر، [نَحن (4) ] فِي ضيق وَشدَّة،   (1) ا. بَيت الله يبْنى (2) الجرى: الرَّسُول. (3) لَيست فِي ا. (4) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَشَكَتْ (1) إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شيخ كَذَا كَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بشئ؟ قَالَتْ نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُول لَك غير عتبَة بابك. قَالَ: ذَاك أَبى، وَقد أمرنى أَن أُفَارِقك فالحقي بأهلك، وَطَلقهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، وَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ على الله عزوجل. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ الْمَاءُ، قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ ". قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ (2) ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ [حَبٌّ (3) ] لَدَعَا لَهُمْ فِيهِ " [قَالَ (3) ] فَهُمَا لَا يَخْلُو (4) عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَمُرِيهِ يُثَبِّتْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَعِيل قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْك فَأَخْبَرته، فَسَأَلَنِي كَيفَ عيشنا؟   (1) ا: فشكت:. (2) الْحبّ: الجرة. (3) لَيست فِي ا (4) بخلو: يقْتَصر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فَأَخْبَرته أَنا بِخَير. قَالَ: فأوصاك بشئ؟ قَالَتْ نَعَمْ. هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَأَنت العتبة، أمرنى أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ الله، ثمَّ جَاءَ بعد ذَلِك وإسمعيل يبرى نبلاله تَحت دوحة قرييا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يصنع بِالْوَلَدِ الْوَالِد وبالوالد للوالد (1) ثمَّ قَالَ: يَا إِسْمَعِيل إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمرك بِهِ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أكمة عَلَى مَا حَوْلَهَا. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد من الْبَيْت، فَجعل إِسْمَعِيل يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ. فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يبْنى وإسمعيل يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم ". قَالَ: فَجعلَا (2) يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". ثمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لما كَانَ بَين إِبْرَاهِيم وَبَين أَهله مَا كَانَ، خرج   (1) ط الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْولد بالوالد. (2) ا: وَجعلا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بإسمعيل وَأم إِسْمَعِيل، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ (1) فِيهَا مَاءٌ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُوَشَّحٌ بِرَفْعِ بَعْضِهِ، وَفِي بَعْضِهِ غَرَابَةٌ، وَكَأَنَّهُ مِمَّا تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِيه أَن إِسْمَعِيل كَانَ رَضِيعًا إِذْ ذَاكَ. وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَخْتِنَ وَلَدَهُ إِسْمَعِيل وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فَخَتَنَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً مِنْ عمره، فَيكون عمر إِسْمَعِيل يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الله عزوجل فِي أَهْلِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَلِهَذَا كَانَ (2) الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الذى رَوَاهُ البُخَارِيّ: حَدثنَا قتببة بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ ". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن بن إِسْحَق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَتَابَعَهُ عَجْلَانُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ " وَالْقَدُومُ هُوَ الْآلَةُ، وَقِيلَ مَوْضِعٌ.   (1) الشنة: الْقرْبَة الْخلق. (2) ا: لما كَانَ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذكر قصَّة الذَّبِيح وَأَنه إِسْمَعِيل، وَلم يذكر فِي قد مَاتَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أُولَاهُنَّ بعد أَن تزوج إِسْمَعِيل بعد موت هَاجر، وَكَيف تَركهم مِنْ حِينِ صِغَرِ الْوَلَدِ - عَلَى مَا ذُكِرَ - إِلَى حِينِ تَزْوِيجِهِ لَا يَنْظُرُ فِي حَالِهِمْ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُطْوَى لَهُ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ إِذَا سَارَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَتَخَلَّفُ عَنْ مُطَالَعَةِ حَالِهِمْ وَهُمْ فِي غياة الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْحَاجَةِ الْأَكِيدَةِ؟ ! وَكَأَنَّ بَعْضَ هَذَا السِّيَاق متلقى من الاسرائيليات ومطرز بشئ من المرفوعات، وَلم يذكر فِيهِ قصَّة لذبيح. وَقد دللنا على أَن الذَّبِيح هُوَ إِسْمَعِيل على الصَّحِيح فِي سُورَة الصافات. (م - 14 قصَص الانبياء) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قصَّة الذَّبِيح قَالَ الله تَعَالَى: آوقال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أسلما وتله للجبين * وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المومنين * وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين * وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين (1) ". يذكر تَعَالَى [عَن (2) ] خَلِيله إِبْرَاهِيم أَنه لما هَاجر من بِلَاد قومه، سَأَلَ ربه أَن يهب لَهُ ولدا صَالحا فبشره الله تَعَالَى بِغُلَام حَلِيم، وَهُوَ إِسْمَاعِيل (3) عَلَيْهِ السَّلَام ; لانه أول من ولد لَهُ على رَأس سِتّ وَثَمَانِينَ سنة من عمر الْخَلِيل. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْملَل، لانه أول ولد وبكره. وَقَوله: " فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي " أَي شب وَصَارَ يسْعَى فِي مَصَالِحه   (1) الْآيَات: 99 - 113 من سُورَة الصِّفَات (2) لَيست فِي ا (3) ا: اسحق. وَهُوَ تَحْرِيف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كَأَبِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ " أَيْ شَبَّ وَارْتَحَلَ وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ من السَّعْي وَالْعَمَل. فَلَمَّا كَانَ هَذَا، رأى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ " قَالَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَيْضًا. وَهَذَا اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزوجل لِخَلِيلِهِ فِي أَنْ يَذْبَحَ هَذَا الْوَلَدَ الْعَزِيزَ الَّذِي جَاءَهُ عَلَى كِبَرٍ، وَقَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، بَعْدَ مَا أُمِرَ بِأَنْ يُسْكِنَهُ هُوَ وَأُمَّهُ فِي بِلَادٍ قَفْرٍ، وَوَادٍ لَيْسَ بِهِ حَسِيسٌ وَلَا أَنِيسٌ، وَلَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ. فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَرَزَقَهُمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبَانِ. ثُمَّ لَمَّا أُمِرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا الَّذِي قَدْ أَفْرَدَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِكْرُهُ وَوَحِيدُهُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَجَابَ رَبَّهُ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَسَارَعَ إِلَى طَاعَتِهِ. ثُمَّ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ قَسْرًا وَيَذْبَحَهُ قَهْرًا: " قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا ترى؟ ". فبادر الْغُلَام الْحَلِيم، سر وَالِدَهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: " يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين ". وَهَذَا الْجَوَابُ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالطَّاعَةِ لِلْوَالِدِ ولرب الْعباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ " قِيلَ: أَسْلَمَا: أَيِ اسْتَسْلَمَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَزَمَا على ذَلِك. وَقيل: وَهَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَالْمَعْنَى: " تَلَّهُ لِلْجَبِينِ " أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ. قِيلَ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ لِئَلَّا يُشَاهِدَهُ فِي حَالِ ذَبْحِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: بَلْ أَضْجَعَهُ كَمَا تُضْجَعُ الذَّبَائِحُ وَبَقِيَ طَرَفُ جَبِينِهِ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ " وَأَسْلَمَا " أَي سمى إِبْرَاهِيم وَكبر، وَتشهد الْوَلَدَ لِلْمَوْتِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا. وَيُقَالُ: جُعِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَلْقِهِ صَفِيحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ. وَاللَّهُ أعلم. فَعِنْدَ ذَلِك نودى من الله عزوجل: " أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا " أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنِ اخْتِبَارِكِ وَطَاعَتِكَ، وَمُبَادَرَتِكَ إِلَى أَمْرِ رَبِّكَ، وَبَذْلِكَ وَلَدَكَ لِلْقُرْبَانِ، كَمَا سَمَحْتَ بِبَدَنِكَ لِلنِّيرَانِ، وَكَمَا مَالُكَ مَبْذُولٌ لِلضِّيفَانِ! وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبلَاء الْمُبين " أَيِ الِاخْتِبَارُ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ. وَقَوْلُهُ: " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم " أَيْ وَجَعَلْنَا فِدَاءَ ذَبْحِ وَلَدِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَبْشٌ أَبْيَضُ أَعْيَنُ أَقْرَنُ (1) ، رَآهُ مَرْبُوطًا بِسَمُرَةٍ فِي ثَبِيرٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ يَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تشقق عَنهُ ثبير، وَكَانَ عَلَيْهِ   (1) الاعين: الْعَظِيم سَواد الْعين. والاقرن الْكَبِير القرنين. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 عِهْنٌ (1) أَحْمَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ كَبْشٌ أَعْيَنُ أَقْرَنُ لَهُ ثُغَاءٌ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَذَبَحَهُ بِمِنًى، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذبحه بالْمقَام. فَأَما ماروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ وَعْلًا، وَعَنِ الْحسن أَنه كَانَ تنسا مِنَ الْأَرْوَى وَاسْمُهُ جَرِيرٌ، فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُمَا. ثمَّ غَالب ماهاهنا مِنَ الْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَفِي الْقُرْآنِ كِفَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالِاخْتِبَارِ (2) الْبَاهِرِ، وَأَنَّهُ فُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ كَبْشًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ خَالِهِ نَافِع، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَلَّدَتْ عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَان بن طَلْحَة، وَقَالَت مَرَّةً: إِنَّهَا سَأَلَتْ عُثْمَانَ: لِمَ دَعَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ [قَالَ لى رَسُول الله (3) ] " إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا (4) فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شئ يشغل الْمصلى ". قَالَ سُفْيَان: لم يزل قرنا الْكَبْش [معلقين (3) ] فِي الْبَيْت حَتَّى احْتَرَقَ الْبَيْت فاخترقا.   (1) العهن: الصُّوف. (2) ا: والاخبار. (3) سَقَطت من ا (4) تخمرهما: تعطيهما (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمْ يَزَلْ مُعَلَّقًا عِنْدَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ قَدْ يَبِسَ. وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَعِيل ; لانه كَانَ هُوَ الْمُقِيم بِمَكَّة وَإِسْحَق لَا نعلم أَن قَدِمَهَا فِي حَالِ صِغَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ كَأَنَّهُ نَصٌّ على أَن الذَّبِيح هُوَ إِسْمَعِيل ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ (1) ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ. " وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين ". وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا فَقَدْ تَكَلَّفَ، وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إِسْحَق إِنَّمَا هُوَ إِسْرَائِيلِيَّاتُ. وَكِتَابُهُمْ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا هَاهُنَا قَطْعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْبَحَ ابْنه وحيده (2) وفى نسخ هـ من المعربة بكره إِسْحَق، فلفظة إِسْحَق هَاهُنَا مُقْحَمَةٌ مَكْذُوبَةٌ مُفْتَرَاةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الوحيد وَلَا الْبكر [إِنَّمَا] (3) ذَاك إِسْمَعِيل. وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا حَسَدُ الْعَرَبِ، فَإِنَّ إِسْمَعِيل أَبُو الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ الَّذِينَ مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْحَق وَالِد يَعْقُوب - وَهُوَ إِسْرَائِيل - الذى يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَجُرُّوا هَذَا الشَّرَفَ إِلَيْهِمْ، فَحَرَّفُوا كَلَامَ اللَّهِ وَزَادُوا فِيهِ وَهُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ وَلَمْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ إِسْحَق طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ - وَالله أعلم - من كَعْب الاحبار، أَو من صحف (4) أهل الْكتاب   (1) ا: الذّبْح (2) ط: ووحيده. (3) من ا (4) ا: أَو مصحف أهل الْكتاب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنِ الْمَعْصُومِ حَتَّى نَتْرُكَ لِأَجْلِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ، بَلِ الْمَفْهُومُ بَلِ الْمَنْطُوقُ بَلِ النَّصُّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَعِيل. وَمَا أحسن مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن كَعْب القرظى على انه إِسْمَعِيل وَلبس بإسحق من قَوْله: " فبشرناه بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " [قَالَ] (1) فَكَيْفَ تَقَعُ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوب، ثمَّ يُؤمر بِذبح إِسْحَق وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ؟ هَذَا لَا يَكُونُ، لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْبِشَارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ السُّهَيْلِيُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا حَاصله أَن قَوْله: " فبشرناها بإسحق " جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، وَقَوْلَهُ: " وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " جُمْلَةٌ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي حَيِّزِ الْبِشَارَةِ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَخْفُوضًا إِلَّا أَنْ يُعَادَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرّ، فَلَا يجوز أَن يُقَال مَرَرْت يزِيد وَمِنْ بَعْدِهِ عَمْرٍو، حَتَّى يُقَالَ وَمِنْ بَعْدِهِ بِعَمْرو. وَقَالَ: فَقَوله " وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " مَنْصُوب بِفعل مُضْمر تَقْدِيره: " وَوَهَبْنَا لاسحق يَعْقُوبَ ". وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَرٌ. وَرَجَّحَ أَنه إِسْحَق ; وَاحْتج بقوله: " فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي " قَالَ: وَإِسْمَاعِيلُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، إِنَّمَا كَانَ فِي حَال صغره هُوَ وَأمه بجبال مَكَّة فَكيف يبلغ مَعَه السَّعْي؟   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْخَلِيلَ كَانَ يَذْهَبُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ إِلَى مَكَّةَ، يَطَّلِعُ عَلَى وَلَده وَابْنه ثمَّ يرجع. وَالله تَعَالَى أعلم. فَمن حكى القَوْل عَنهُ بِأَنَّهُ إِسْحَق كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَابْن مَسْعُود، ومسروق وعكرموة وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ وَابْن أَبى بردة وَمَكْحُول، وَعُثْمَان ابْن حَاضِرٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَابْنِ سَابِطٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهُ - وَعَنْ أَكْثَرِ هَؤُلَاءِ - أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَعَطَاءٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ ; أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبرنِي عَمْرو ابْن قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمَفْدِيُّ إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَقَالَ عَبْدُ الله ابْن الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. قُلْتُ: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَجَاءَ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَابْنَ الذَّبِيحَيْنِ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: لَا شَكَّ فِي هَذَا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن بُرَيْدَة عَن سُفْيَانِ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَه بِالشَّام - يعْنى استدلاله بقوله بعد الْعِصْمَة (1) : " فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب " - فَقَالَ لَهُ عمر: إِن هَذَا الشئ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ بِالشَّامِ، كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يُرَى أَنَّهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. قَالَ: فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِن الْيَهُود لَتَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ وَالْفَضْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِصَبْرِهِ لما أَمر بِهِ، فهم يححدون ذَلِك ويزعمون أَنه إِسْحَق، لَان إِسْحَق أبوهم. وَقد ذكرنَا هَذِه الْمَسْأَلَة مستصاة بِأَدِلَّتِهَا وَآثَارِهَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والْمنَّة.   (1) كَذَا بالاصول. ولعلها: بعد الْقِصَّة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ذكر مولد إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى: " وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين * وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين ". وَقد كَانَت الْبشَارَة بِهِ من الملاكة لابراهيم وَسَارة لما مروا بهما مُجْتَازِينَ ذَاهِبِينَ إِلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ، لِيُدَمِّرُوا عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قَالُوا سَلَامًا، قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب * قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا؟ إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم إِذا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا، قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وجلون * قَالُوا لَا تؤجل إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضانون (2) ".   (1) الْآيَات: 69 - 73 من سُورَة هود (2) الْآيَات: 51 - 56 من سُورَة الْحجر (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَقَالَ تَعَالَى: " هَل أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين * إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما، قَالَ سَلام قوم منكرون * فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين * فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ * فأوجس مِنْهُم خيفة، قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم * فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا وَقَالَت عَجُوز عقيم * قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (1) ". يَذْكُرُ تَعَالَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ * قَالُوا: وَكَانُوا ثَلَاثَةً: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ - لَمَّا وَرَدُوا عَلَى الْخَلِيلِ حسبهم [أَولا (2) ] أضيافا، فعاملهم مُعَاملَة الضيوف، وشوى لَهُم عجلا سمينتا مِنْ خِيَارِ بَقَرِهِ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَرَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَى الْأَكْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسَ فِيهِمْ قُوَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ " فَنَكِرَهُمْ " إِبْرَاهِيمُ " وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قوم لوط " أَيْ لِنُدَمِّرَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَبْشَرَتْ عِنْدَ ذَلِكَ سَارَةُ غَضبا لله عَلَيْهِم، وَكَانَت قَائِمَة على رُؤُوس الْأَضْيَافِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا ضَحِكَتِ اسْتِبْشَارًا بِذَلِكَ، قَالَ الله تَعَالَى: " فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " أَيْ بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ " فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صرة " أَي فِي صرخة " فصكت وَجههَا " أَيْ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَقَالَتْ: " يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا " أَيْ كَيْفَ يَلِدُ مِثْلِي وَأَنَا كَبِيرَةٌ وَعَقِيمٌ أَيْضا، وَهَذَا بعلى، أَيْ زَوْجِي، شَيْخًا؟ تَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ وَالْحَالة هَذِه.   (1) الْآيَات: 24 - 30 من سُورَة الذاريات (2) من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وَلِهَذَا قَالَت: " إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ! رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد ". وَكَذَلِكَ تَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِبْشَارًا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَتَثْبِيتًا لَهَا وَفَرَحًا بِهَا، " قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مسنى الْكَبِير فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ من القانطين " أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَقَرَّرُوهُ مَعَهُ، فَبَشَّرُوهُمَا " بِغُلَام عليم " ; وَهُوَ إِسْحَق أَخُو إِسْمَاعِيل. غُلَام عليم مُنَاسِبٌ لِمَقَامِهِ وَصَبْرِهِ، وَهَكَذَا وَصَفَهُ رَبُّهُ بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " فَبَشَّرْنَاهَا بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب ". وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَن إِسْحَق لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِهِ وَوُجُودِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ بَعْدِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَحْضَرَ مَعَ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ، وَهُوَ الْمَشْوِيُّ، رغيفا من مَكَّة فِيهِ ثَلَاثَةُ أَكْيَالٍ وَسَمْنٌ وَلَبَنٌ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أكلُوا. وَهَذَا غلط مَحْض. وَقيل: كَانُوا يرَوْنَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَالطَّعَامُ يَتَلَاشَى فِي الْهَوَاءِ. وَعِنْدَهُمْ أَن الله تَعَالَى قَالَ لابراهيم: أما سارا امْرَأَتُكَ فَلَا يُدْعَى اسْمُهَا سَارَا وَلَكِنِ اسْمُهَا سَارَةُ، وَأُبَارِكُ عَلَيْهَا وَأُعْطِيكَ مِنْهَا ابْنًا، وَأُبَارِكُهُ وَيكون الشعوب وَمُلُوكُ الشُّعُوبِ مِنْهُ. فَخَرَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ - يَعْنِي سَاجِدًا - وَضَحِكَ قَائِلًا فِي نَفْسِهِ: أَبَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ يُولَدُ لِي غُلَامٌ؟ أَوْ سَارَةُ تَلِدُ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا تِسْعُونَ سَنَةً؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ قدامك. فَقَالَ الله لابراهيم: بِحَق إِنَّ امْرَأَتَكَ سَارَةَ تَلِدُ لَكَ غُلَامًا وَتَدْعُو اسْمه إِسْحَق إِلَى مثل هَذَا الْحِين من قَابل، وأوثقه مِيثَاقِي إِلَى الدَّهْرِ وَلِخَلَفِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي إِسْمَاعِيلَ وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وَكَثَّرْتُهُ ونميته جدا كثيرا، وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا بِمَا تقدم. وَالله أعلم. فَقَوله تَعَالَى: " فبشرناها بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب " دَلِيل على أَنَّهَا تستمتع بِوُجُود وَلَدهَا إِسْحَق، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ يُولَدُ وَلَدُهُ يَعْقُوبُ. أَيْ يُولد فِي حياتهما لنقر أعينهما بِهِ كَمَا قرت بولده. وَلَوْ لَمْ يُرِدْ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ يَعْقُوبَ وَتَخْصِيصِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ مِنْ دُونِ سَائِرِ نسل إِسْحَق فَائِدَة. وَلما عين بِالذكر [دلّ] (1) على أَنَّهُمَا يتمتعان بِهِ ويسران بولده كَمَا سُرَّا بِمَوْلِدِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: [" وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوب كلا هدينَا "] (1) وَقَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دون الله وهبنا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوب (2) ". وَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ [قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟] (3) قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " قلت كم   (1) سَقَطت من ا. (2) من الْآيَة: 9: من سُورَة مَرْيَم (3) سَقَطت من المطبوعة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: " أَرْبَعُونَ سَنَةً " قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " ثُمَّ حَيْثُ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّ فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَسْجِد إيليا بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ. وَهَذَا مُتَّجِهٌ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ، فَعَلَى هَذَا يكون بِنَاء يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ - إِسْرَائِيل - بَعْدَ بِنَاءِ الْخَلِيلِ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً سَوَاءً. وَقَدْ كَانَ بِنَاؤُهُمَا ذَلِكَ بعد وجود إِسْحَق ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا، قَالَ فِي دُعَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَاجْنُبْنِي، وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ، وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ من شئ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَق إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (1) ". وَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث من أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام، لما بنى   (1) الْآيَات: 35 - 43 من سُورَة إِبْرَاهِيم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ الله خلالا ثاثا كَمَا ذَكرْنَاهُ عِنْد قَوْله: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بعدى "، وَكَمَا سَنُورِدُهُ فِي قِصَّتِهِ - فَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ جَدَّدَ بِنَاءَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً سِوَى ابْنِ حِبَّانَ فِي تَقَاسِيمِهِ وَأَنْوَاعِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ وَلَا سُبِقَ إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ذكر بناية الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لابراهيم مَكَان الْبَيْت أَلا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فج عميق (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ من الْعَالمين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، قَالَ وَمِنْ ذريتي؟ قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين * وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا، وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السُّجُود * وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا، وارزق أَهله من الثمرات من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، قَالَ وَمن كفر فأمتعه قَلِيلا، ثمَّ أضطره إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْت   (1) الْآيَتَانِ: 26 - 27 من سُورَة الْحَج (2) الْآيَتَانِ: 96 - 97 من سُورَة آل عمرَان. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 التواب الرَّحِيم * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم " (1) يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَصَفِيِّهِ وَخَلِيلِهِ، إِمَام الحنفاء ووالد الانبياء إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام (2) أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ. وَبَوَّأَهُ اللَّهُ مَكَانَهُ، أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ أُرْشِدَ إِلَيْهِ بوحى من الله عزوجل. وَقد ذكرنَا فِي صفة خلق السَّمَوَات: أَنَّ الْكَعْبَةَ بِحِيَالِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، بِحَيْثُ أَنَّهُ لَو سقط لسقط عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ معابد السَّمَوَات السَّبْعِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتًا يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، وَهُوَ فِيهَا كَالْكَعْبَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَكُونُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كَتِلْكَ المعابد لملائكة السَّمَوَات، وَأَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى مَكَانِ الْبَيْتِ الْمُهَيَّأِ لَهُ، الْمعِين لذَلِك مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَلَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ أَنَّ الْبَيْتَ كَانَ مَبْنِيًّا قَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ: " مَكَان الْبَيْت " فَلَيْسَ بناهض   (8) الْآيَات: 124 - 129 من سُورَة الْبَقَرَة. (2) ط: عَلَيْهِ أفضل صَلَاة وَتَسْلِيم. (م - 15 قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَلَا ظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مَكَانُهُ الْمُقَدَّرُ فِي علم الله، الْمُقَرّر فِي قَدَرِهِ (1) ، الْمُعَظَّمُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مَوْضِعُهُ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ آدَمَ نَصَبَ عَلَيْهِ قُبَّةً، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا لَهُ: قَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِهَذَا الْبَيْتِ، وَأَنَّ السَّفِينَةَ طَافَتْ بِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَلَكِنْ كُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ بنى إِسْرَائِيل. وَقد قَررنَا أَنَّهَا لاتصدق وَلَا تُكَذَّبُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، فَأَمَّا إِنْ رَدَّهَا الْحَقُّ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين ". أَيْ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ لِلْبَرَكَةِ وَالْهدى، الْبَيْت الذى ببكة. وَقيل مَحل الْكَعْبَة " فِيهِ آيَات بَيِّنَات " أَيْ عَلَى أَنَّهُ بِنَاءُ الْخَلِيلِ، وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَإِمَامِ الْحُنَفَاءِ مِنْ وَلَدِهِ، الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِسُنَّتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: " مَقَامُ إِبْرَاهِيم " أَيِ الْحَجَرُ الَّذِي كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ قَائِمًا لَمَّا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ عَنْ قَامَتِهِ، فَوَضَعَ لَهُ وَلَدُهُ هَذَا الْحَجَرَ الْمَشْهُورَ، لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ لَمَّا تَعَالَى الْبناء وَعظم الفناء. كَمَا ذكر فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ مُلْصَقًا بِحَائِطِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ إِلَى أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; فَأَخَّرَهُ عَن الْبَيْت قَلِيلا، لِئَلَّا يشغل المصليمن عِنْدَهُ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ، وَاتَّبَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَافقه ربه فِي أَشْيَاء: مِنْهَا قَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَاتَّخذُوا   (1) ط قدرته. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى ". وَقَدْ كَانَتْ آثَارُ قَدَمَيِ الْخَلِيلِ بَاقِيَةً فِي الصَّخْرَةِ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ: وَثَوْرٍ (1) وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ * وَرَاقٍ لِيَرْقَى (1) فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ * وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ يمسحونه * إِذْ اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ * عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ يَعْنِي أَنَّ رِجْلَهُ الْكَرِيمَةَ غَاصَتْ فِي الصَّخْرَةِ فَصَارَتْ على قدر قدمه حافيه لامنتعلة. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ " [أَيْ فِي حَالِ قَوْلِهِمَا (2) ] : " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا أَنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم " فهما فِي غَايَة الاخلاص وَالطَّاعَة لله عزوجل، وهما يسألان من الله عزوجل السَّمِيع الْعَلِيم أَن يتَقَبَّل مِنْهُمَا ماهما فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ وَالسَّعْيِ الْمَشْكُورِ: " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التواب الرَّحِيم ". * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلِيلَ بَنَى أَشْرَفَ الْمَسَاجِدِ فِي أَشْرَفِ (3) الْبِقَاعِ، فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا بِالْبَرَكَةِ، وَأَنْ يُرْزَقُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ، مَعَ قِلَّةِ الْمِيَاهِ وَعَدَمِ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حَرَمًا مُحَرَّمًا وَأَمْنًا مُحَتَّمًا. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ لَهُ مَسْأَلَتَهُ، وَلَبَّى دَعْوَتَهُ، وآتاه طلبته، فَقَالَ   (1) ط: لبر (2) لَيست فِي ا (3) ط: أفضل (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تَعَالَى: " أَو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ من حَولهمْ (1) ؟ " وَقَالَ تَعَالَى: " أَو لم نمكن لَهُم حرما آمنا يحبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ رزقا من لدنا ". وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَعَلَى لُغَتِهِمُ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ النَّصِيحَة ; لتتم عَلَيْهِم النعمتان الدُّنْيَوِيَّة والدينية، سَعَادَة الْأُولَى وَالْآخِرَةِ (2) . وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ: فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا وَأَيَّ رَسُولٍ! خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَأَكْمَلَ لَهُ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ، وَعَمَّ بِدَعْوَتِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ ; فِي سَائِرِ الاقطار والامصار والاعصار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، لِشَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَمَالِ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَشَرَفِ بُقْعَتِهِ وَفَصَاحَةِ لُغَتِهِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكِرِيمِ (3) مَحْتِدِهِ وَعَظِيمِ مَوْلِدِهِ، وَطِيبِ مَصْدَرِهِ وَمَوْرِدِهِ. وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ كَانَ بانى الْكَعْبَة لاهل الْأَرْضِ، أَنْ يَكُونُ مَنْصِبُهُ وَمَحَلُّهُ وَمَوْضِعُهُ، فِي منَازِل السَّمَوَات وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، الَّذِي هُوَ كَعْبَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْمُبَارَكِ الْمَبْرُورِ، الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْبَعْث والنشور.   (1) سُورَة العنكبوت 67 (2) ط: والاخرى (3) ا: وَكَمَال (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ صفة بنائِهِ للبيت (1) ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، بِمَا فِيهِ كِفَايَة، فَمن أَرَادَ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن يبنيا الْبَيْت لَمْ يَدْرِيَا أَيْنَ مَكَانُهُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يُقَالُ لَهُ الْخَجُوجُ لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنْ أَسَاسِ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَأَتْبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يحفران حَتَّى وضعا الاساس. وَذَلِكَ حِين يَقُولُ تَعَالَى: " وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ". فَلَمَّا بلغا الْقَوَاعِد وبنيا الرُّكْنَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ اطْلُبْ لِي [حَجَرًا حَسَنًا أَضَعُهُ هَاهُنَا. قَالَ يَا أَبَتِ إِنِّي كَسْلَانُ تَعِبٌ. قَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ فَانْطَلَقَ، وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ (2) ] الْأَسْوَدِ مِنَ الْهِنْدِ، وَكَانَ أَبيض يَاقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ (3) . وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ فَوَجَدَهُ عِنْدَ الرُّكْنِ. فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ. فَبَنَيَا وَهُمَا يَدْعُوَانِ اللَّهَ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيم ". وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ، وَأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَكَانَ مَلِكَ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ - مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَبْنِيَانِهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُ أَمَرَنَا بِهِ. فَقَالَ: وَمَا يُدْرِينِي بِمَا تَقُولُ؟   (1) ط: بناية الْبَيْت (2) سَقَطت من المطبوعة! (3) المطبوعة: النعامة. وَهُوَ تَحْرِيف. والثغامة: نبت أَبيض. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فَشَهِدَتْ خَمْسَةُ أَكْبُشٍ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَآمَنَ وَصَدَّقَ. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ: أَنَّهُ طَافَ مَعَ الْخَلِيلِ بِالْبَيْتِ. وَقد كَانَت [الْكَعْبَة (1) ] عَلَى بِنَاءِ الْخَلِيلِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ، فَقَصُرَتْ بِهَا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ على ماهى عَلَيْهِ الْيَوْمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَن ابْنَ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَمْ تَرَيْ أَن قَوْمك حِين بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم؟ فَقَالَ: " لَوْلَا حدثان قَوْمك [بالْكفْر لفَعَلت (1) ] ". وفى رِوَايَة " لَوْلَا أَن قَوْمك حديثوا عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ، لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ ". وَقَدْ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَيَّامِهِ عَلَى [مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ] حَسْبَمَا أخْبرته بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ إِذْ ذَاكَ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. فَأَمَرَ بِرَدِّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَنَقَضُوا الْحَائِطَ الشَّامِيَّ وَأَخْرَجُوا مِنْهَا الْحِجْرَ، ثُمَّ سَدُّوا الْحَائِطَ وَرَدَمُوا الْأَحْجَارَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَارْتَفَعَ بَابُهَا الشَّرْقِيُّ وَسَدُّوا الْغَرْبِيَّ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مشَاهد إِلَى الْيَوْم.   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَتَأَسَّفُوا أَنْ لَوْ كَانُوا تَرَكُوهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ اسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي رَدِّهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ [لَهُ (1) ] إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ لُعْبَةً. يَعْنِي كُلَّمَا جَاءَ مَلِكٌ بَنَاهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِى يُرِيد. فاستقر الامر على ماهى عَلَيْهِ الْيَوْم.   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ذكر ثَنَاء الله وَرَسُوله الْكَرِيم على عَبده وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاس إِمَامًا، قَالَ وَمن ذرتي؟ قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين " لما وفى مَا أمره بِهِ ربه مِنَ التَّكَالِيفِ الْعَظِيمَةِ، جَعَلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَأْتَمُّونَ بِهَدْيِهِ. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِمَامَةُ (1) مُتَّصِلَةً بِسَبَبِهِ، وَبَاقِيَةً فِي نَسَبِهِ، وَخَالِدَةً فِي عَقِبِهِ فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ [وَرَامَ] (2) وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ الْإِمَامَةُ بِزِمَامٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ نَيْلِهَا الظَّالِمُونَ، وَاخْتُصَّ بِهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وإليسا كل من الصَّالِحين * وإسمعيل وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (4) ". فَالضَّمِير فِي قَوْله " وَمن ذُريَّته " عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلُوطٌ وَإِنْ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، وَهَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِلْقَائِلِ الْآخَرِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى نُوحٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قصَّته. [وَالله أعلم (2) ] .   (1) ا: الامة. (2) لَيست فِي ا. (3) الْآيَة: 27 من سُورَة العنكبوت (4) الْآيَات: 84 - 87 من سُورَة الانعام. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب (1) ". الْآيَةَ. فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَشِيعَتِهِ. وَهَذِهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ [لَا تُضَاهَى، ومرتبة علية (2) ] لاتباهى. وَذَلِكَ أَنَّهُ وُلِدَ [لَهُ] (2) لِصُلْبِهِ [وَلَدَانِ] (2) ذَكَرَانِ عظيمان: إِسْمَعِيل من هَاجر، ثمَّ إِسْحَق (2) من سارة، وَولد لَهُ يَعْقُوبُ - وَهُوَ إِسْرَائِيلُ - الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ سَائِرُ أَسْبَاطِهِمْ، فَكَانَتْ فِيهِمُ النُّبُوَّةُ، وَكَثُرُوا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي بَعَثَهُمْ وَاخْتَصَّهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، حَتَّى خُتِمُوا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ من بنى إِسْرَائِيل. وَأما إِسْمَعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَتْ مِنْهُ الْعَرَبُ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ سُلَالَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى خَاتَمِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَسَيِّدِهِمْ، وَفَخْرِ بَنِي آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ القرشى، الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ الشَّرِيفِ وَالْغُصْنِ الْمُنِيفِ سِوَى هَذِهِ الْجَوْهَرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالدُّرَّةِ الزَّاهِرَةِ، وَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ الْفَاخِرَةِ، وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَيَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا سَنُورِدُهُ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَى الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم ".   (1) الْآيَة: 26 من سُورَة الْحَدِيد (2) لَيست فِي ا (3) ا: وَإِسْحَق. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فَمَدَحَ إِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ مِدْحَةً عَظِيمَةً فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ بَعْدَهُ عِنْدَ الْخَلَّاقِ، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَن مَنْصُورٍ عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُول: " إِن أَبَاكُمَا كَانَ يعوذ بهما إِسْمَعِيل وَإِسْحَق: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ ". وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى؟ قَالَ أَو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ بَلَى. وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعن يَأْتِينَكَ سَعْيًا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (1) . ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذَا [السُّؤَالِ] (2) أَسْبَابًا بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَقَرَّرْنَاهَا بِأَتَمِّ تَقْرِيرٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اللَّهَ عزوجل أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطُّيُورِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا عَلَى أَقْوَالٍ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُمَزِّقَ لُحُومَهُنَّ وَرِيشَهُنَّ، وَيَخْلِطَ ذَلِكَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، ثُمَّ يُقَسِّمُهُ قِسَمًا وَيَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا فَفَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ بِإِذْنِ رَبِّهِنَّ، فَلَمَّا دَعَاهُنَّ جَعَلَ كُلُّ عُضْوٍ يَطِيرُ إِلَى صَاحبه، وكل   (1) الْآيَة: 260 من سُورَة الْبَقَرَة (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 رِيشَةٍ تَأْتِي إِلَى أُخْتِهَا، حَتَّى اجْتَمَعَ بَدَنُ كُلِّ طَائِرٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ينظر إِلَى قدرَة الذى يَقُول للشئ كُنْ فَيَكُونُ. فَأَتَيْنَ إِلَيْهِ سَعْيًا، لِيَكُونَ أَبْيَنَ لَهُ وَأَوْضَحَ لِمُشَاهَدَتِهِ مِنْ أَنْ يَأْتِينَ طَيَرَانًا. وَيُقَال إِنَّه أَمر أَن يَأْخُذ رؤوسهن فِي يَده، فَجعل كل طَائِر يَأْتِي فَيلقى (1) رَأسه فيتركب على جِئْته كَمَا كَانَ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى على إحْيَاء الْمَوْتَى علما يقينيا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَلَكِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشَاهِدَ ذَلِكَ عِيَانًا، وَيَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ! فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَأَعْطَاهُ غَايَةَ مَأْمُولِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت النوراة والابحيل إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؟ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَالله ولى الْمُؤمنِينَ (2) ". يُنكر تَعَالَى على أهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى كل من الْفَرِيقَيْنِ، كَون الْخَلِيل على ملتهم وطريقتهم (3) ، فبرأه الله مِنْهُم، وَبَين كَثْرَة جهلهم وَقلة عقلهم فِي قَوْله: " وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ " أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى دِينِكُمْ وَأَنْتُمْ إِنَّمَا شرع لكم مَا شرع بعده   (1) ا: فيلقيه. (2) الْآيَات: 65 - 68 من سُورَة آل عمرَان. (3) ا: وطريقهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بمدد متطاولة؟ وَلِهَذَا قَالَ: " أَفلا تعقلون " إِلَى أَنْ قَالَ: " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالِانْحِرَافُ عَمْدًا عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمُشْرِكِيَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وإسمعيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب ولاسباط، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم، لَا تفرق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ * قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أم تَقولُونَ إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بغافل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عَمَّا تَعْمَلُونَ. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (1) ". فنزه الله عزوجل خَلِيلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ " يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي زَمَانِهِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ مِنْ بَعْدِهِمْ. " وَهَذَا النَّبِي " يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُ الدِّينَ الْحَنِيفَ الَّذِي شَرَعَهُ لِلْخَلِيلِ، وَكَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَأَعْطَاهُ مَا لم يُعْط نَبيا وَلَا رَسُولا من قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أول الْمُسلمين " (2) وَقَالَ تَعَالَى: " إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ من الْمُشْركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين * ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (3) . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ. وَرَأَى إِبْرَاهِيم وإسمعيل بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! وَاللَّهُ إِنِ استقسما (4) بالازلام قطّ! ". لم يُخرجهُ مُسلم.   (1) الْآيَات: 130 - 140 من سُورَة الْبَقَرَة. (2) الْآيَات: 161 - 163 من سُورَة الانعام. (3) الْآيَات: 120 - 123 من سُورَة النَّحْل. (4) ا: لن يسنقسما (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ شَيْخَنَا لَمْ يَسْتَقْسِمْ بِهَا قَطُّ ". وَقَوله: " أُمَّةً " أَيْ قُدْوَةً إِمَامًا مُهْتَدِيًا دَاعِيًا إِلَى الْخَيْر، يقْتَدى بِهِ فِيهِ " قَانِتًا لله " أَيْ خَاشِعًا لَهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، " حَنِيفًا " أَيْ مُخْلِصًا عَلَى بَصِيرَةٍ، " وَلَمْ يَك من الْمُشْركين * شاكرا لانعمه " أَيْ قَائِمًا بِشُكْرِ رَبِّهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَأَعْمَالِهِ، " اجْتَبَاهُ " أَيِ اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ. وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ خَيْرَيِ (1) الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا (2) " يُرَغِّبُ تَعَالَى فِي اتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَدْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَمَدَحَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى " [وَلِهَذَا] اتَّخَذَهُ اللَّهُ (3) خَلِيلًا، وَالْخُلَّةُ هِيَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي * وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا وَهَكَذَا نَالَ هَذِه الْمرتبَة (4) خَاتم الانبياء وَسيد الْمُرْسلين (5) مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ".   (1) ا: خير. (2) سُورَة النِّسَاء 125 (3) ا: واتخذه الله خَلِيلًا. (4) ط: الْمنزلَة. (5) ط: الرُّسُل (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَقَالَ أَيْضًا فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: " أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: إِن معَاذًا لما قدمن الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: " وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ! وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيم بن مُحَمَّد بن مُسلم، حَدثنَا إِسْمَعِيل ابْن أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ وَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُول: عجبا (1) أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا! فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ، وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ فَسَلَّمَ وَقَالَ: " قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِك، أَلا وإنى   (1) ط: عجب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، أَلَا وَإِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ [بَابِ (1) ] الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، زوله شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1) ] . وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ؟ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى؟ وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ؟ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الْسُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَجَلَ حَتَّى إِنْ كَانَ خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ إِنْسَانًا يُضِيفُهُ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ، أُبَشِّرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ، ثُمَّ لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ. قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا! قَالَ: نَعَمْ.   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قَالَ: فَبِمَ اتَّخَذَنِي [رَبِّي (1) ] خَلِيلًا؟ قَالَ: بِأَنَّكَ (2) تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْمَدْحِ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا. وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَسْمَائِهِمْ تَخْصِيصًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آيَتَيِ الْأَحْزَابِ وَالشُّورَى، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثاقا غليظا "، وَقَوْلُهُ: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تتفرقوا فِيهِ " الْآيَةَ. ثُمَّ هُوَ أَشْرَفُ أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيث شريك ابْن أَبى نمير عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ ; مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ، فَمِمَّا انْتُقِدَ عَلَى شَرِيكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالصَّحِيحُ الاول. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرو، حَدثنَا   (1) سَقَطت من ا (2) ا: إِنَّك (م 16 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم، يُوسُف بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ فِيهِ: " وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) ] وَلَا فَخْرَ ". ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِشْفَاعَ النَّاسِ بِآدَم، ثمَّ بِنوح، ثمَّ إِبْرَاهِيم، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: " أَنَا لَهَا، أَنا لَهَا " الحَدِيث بِتَمَامِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد، حَدثنَا عبيد اللَّهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أكْرم النَّاس؟ قَالَ: " [أكْرمهم (1) ] أَتْقَاهُم " فَقَالُوا (2) لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلك. قَالَ: فَأكْرم النَّاس يُوسُفُ (3) نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تسألونني؟ [قَالُوا نعم (4) قَالَ] فخيارهم (5) فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ (5) فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا ".   (1) سَقَطت من ا (2) ا: قَالُوا (3) ا: قَالَ: فيوسف نبى الله (4) سَقَطت من ا (5) ط: فخياركم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ - الْعُمَرِيُّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِهِمَا، وَحَدِيثِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ (1) ] وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب ابْن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ. * * * فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَان،   (1) سَقَطت من ط (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 حَدَّثَنِي مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَن النى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يحْشر النَّاس عُرَاةً غُرْلًا، فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " ثُمَّ قَرَأَ: " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده " فَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ النُّعْمَانِ النَّخَعِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَابَلَهَا مِمَّا ثَبَتَ لِصَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ مُخْتَارِ [بْنِ مُخْتَار (1) ] بن فلفل، عَن أنس ابْن مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ. فَقَالَ: " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ " فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا (2) مِنْ بَاب الهضم والتواضح مَعَ وَالِدِهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ". وَقَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ ". وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ من أَنه   (1) من اوالمعروف فِيهِ: مُخْتَار بن فلفل. أنظر ميزَان الِاعْتِدَال 4 / 80. (2) ا: فَهَذَا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبى من كَعْبٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ". وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي تَشَهُّدِهِ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ [وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ] (1) كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيم [وعَلى] (1) آل إِبْرَاهِيم، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [وَعَلَى] (1) آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حميد مجيد. * * * وَقَالَ الله تَعَالَى: " وَإِبْرَاهِيم الذى وفى ". قَالُوا: وَفَّى جَمِيعَ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَامَ بِجَمِيعِ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ، وَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ مُرَاعَاةُ الْأَمْرِ الْجَلِيلِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، وَلَا يُنْسِيهِ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ الْمَصَالِحِ الْكِبَارِ عَنِ الصِّغَارِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى] (1) : " وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ " قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ: خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخمْس فِي الْجَسَد. فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالسِّوَاكُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَفرق (2) الرَّأْس. وفى الْجَسَد: تقليم   (1) سقط من ا. (2) ا: وَفرق فِي الرَّأْس. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي الْجَلْدِ نَحْوُ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ الْمَكِّيِّ الْحَجَبِيِّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ العترى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ (1) ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ، يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ ". وَسَيَأْتِي [فِي ذِكْرِ (3) ] مِقْدَارِ عُمُرِهِ وَالْكَلَام عَلَى الْخِتَانِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَشْغَلُهُ الْقِيَامُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخُشُوعُ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ، عَنْ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ بَدَنِهِ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ عُضْوٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالتَّحْسِينِ، وَإِزَالَةِ مَا يَشِينُ ; مِنْ زِيَادَةِ شَعْرٍ أَوْ ظُفُرٍ أَوْ وُجُودِ قَلَحٍ (2) أَوْ وَسَخٍ. فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى "   (1) جمع برجمة، وهى مفاصل الاصابع من ظهر الْكَفّ. (2) القلح: صفرَة الاسنان (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ذِكْرُ قَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [" إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا - أَحْسَبُهُ قَالَ من لؤلؤة - لَيْسَ فِيهِ فَصم وَلَا وهى أَعَدَّهُ اللَّهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُزُلًا " قَالَ الْبَزَّارُ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ] بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ من رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَأَسْنَدَهُ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَغَيْرُهُمَا يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا. قُلْتُ: لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ لَكَانَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. ذِكْرُ صِفَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ وَحُجَيْنٌ قَالَا: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذا أقرب من رَأَيْت شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدثنَا إِسْرَائِيل، عَن عُثْمَان   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ; فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ ". قَالُوا لَهُ: فَإِبْرَاهِيمُ؟ قَالَ: " انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ " يَعْنِي نَفسه. وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا بنان بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٌ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّال [وَأَنه مَكْتُوب (1) ] بَين عَيْنَيْهِ كَافِرٌ أَوْ " ك ف ر "، فَقَالَ: لَمْ أسمعهُ، وَلكنه قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ (2) كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ انحدر فِي الْوَادي " وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي اللِّبَاسِ، وَمُسْلِمٌ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الله ابْن عون بِهِ.   (1) سقط من ا. (2) الحلبة: حَبل من لِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ذكر وَفَاة إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَمَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ: أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي زَمَنِ النُّمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ، وَهُوَ - فِيمَا قِيلَ - الضَّحَّاكُ الْمَلِكُ الْمَشْهُورُ، الَّذِي يُقَالُ إِنَّهُ مَلَكَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْغَشَمِ وَالظُّلْمِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَلِكَ الدُّنْيَا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَعَ نَجْمٌ أَخْفَى ضَوْءَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَهَالَ ذَلِكَ أَهْلَ ذَلِك الزَّمَان وفزع النُّمْرُودُ، فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: يُولَدُ مَوْلُودٌ فِي رَعِيَّتِكَ يَكُونُ زَوَالُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ. فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَنْعِ الرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ، وَأَنْ يُقْتَلَ الْمَوْلُودُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ، فَكَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ [الْخَلِيلِ (1) ] فِي ذَلِك الْحِين، فحماه الله عزوجل وَصَانَهُ مِنْ كَيْدِ الْفُجَّارِ، وَشَبَّ شَبَابًا بَاهِرًا وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالسُّوسِ، وَقِيلَ بِبَابِلَ، وَقِيلَ بِالسَّوَادِ مِنْ نَاحِيَةِ كُوثَى (2) . وَتَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَرْزَةَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ. فَلَمَّا أَهْلَكَ اللَّهُ نُمْرُودَ عَلَى يَدَيْهِ هَاجر إِلَى حَرَّانَ، ثُمَّ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَأَقَامَ بِبِلَادِ إِيلِيَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَوُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَق. وَمَاتَتْ سَارَةُ قَبْلَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلَهَا مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَعِشْرُونَ سنة فِيمَا ذكر أهل الْكتاب. فخزن عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَثَاهَا رَحِمَهَا اللَّهُ، وَاشْترى   (1) سَقَطت من ا. (2) مَوضِع بسواد الْعرَاق. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حِيثَ يُقَالُ لَهُ عفرون بن صَخْر مغارة بأربعمائة مِثْقَال، وَدَفَنَ فِيهَا سَارَةَ هُنَالِكَ. قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ إِبْرَاهِيم على ابْنه إِسْحَق فَزَوجهُ " رفقا " بنت بتوئيل ابْن ناحور بن تارح، وَبَعَثَ مَوْلَاهُ فَحَمَلَهَا مِنْ بِلَادِهَا وَمَعَهَا مُرْضِعَتُهَا وَجَوَارِيهَا عَلَى الْإِبِلِ. قَالُوا: ثُمَّ تَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " قَنْطُورَا " فَوَلَدَتْ لَهُ: زَمَرَانَ، وَيَقِشَانَ، وَمَادَانَ، وَمَدْيَنَ، وَشَيَاقَ، وَشُوحَ. وَذَكَرُوا مَا وَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَادِ قَنْطُورَا. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، عَنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي صِفَةِ مجئ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَارًا كَثِيرَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَاتَ فَجْأَةً، وَكَذَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. قَالُوا: ثُمَّ مَرِضَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَخمْس وَسبعين، وَقيل وَتِسْعين سنة، وَدفن فِي المغارة الْمَذْكُورَة الَّتِى كَانَت بحبرون الحيثى، عِنْدَ امْرَأَتِهِ سَارَةَ الَّتِي فِي مَزْرَعَةِ عَفْرُونَ الحيثى، وَتَوَلَّى دَفنه إِسْمَعِيل وَإِسْحَاقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ ورد مَا يدل [على (1) ] أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الكلبى. فَقَالَ أَبُو حَاتِم ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنْبَأَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجندي بِمَكَّة، حَدثنَا على بن زِيَاد اللخمى (2) ، حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ   (1) سَقَطت من ا (2) ا: الحجبى. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) ] أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ من طَرِيق عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم وجعفر ابْن عَوْنٍ الْعَمْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَفَعَ هَذَا الْخَبَرِ وَهْمٌ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْجُنَيْد (2) ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اختتن إِبْرَاهِيم حِين بلغ [عشْرين (3) و] مائَة سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِقَدُومٍ ". وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَنَّهُ قَالَ: الْقَدُومُ اسْمُ الْقَرْيَةِ. قُلْتُ: الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ اخْتَتَنَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَعَرُّضٌ لِمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الحانى الوَاسِطِيّ زَاد فِي تَفْسِيرِ وَكِيعٍ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَن سعيد ابْن الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ أول من تسرول، وَأول من   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: ابْن نيست. (3) من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فَرَقَ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ وَأَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَوَّلَ مَنْ قَرَى الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ مَنْ شَابَ. هَكَذَا رَوَاهُ مَوْقُوفًا. وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرْفُوعِ (1) خِلَافًا لِابْنِ حِبَّانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ أضَاف الضَّيْف، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشيب. فَقَالَ: يَا رب ماهذا؟ فَقَالَ اللَّهُ: " وَقَارٌ " فَقَالَ يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَزَادَ غَيْرُهُمَا: وَأَوَّلَ مَنْ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ. فقبره وقبر وَلَده إِسْحَق وَقَبْرُ وَلَدِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ فِي الْمَرْبَعَةِ الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَلَدِ حَبْرُونَ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلِيلِ الْيَوْمَ. وَهَذَا مُتَلَقًّى بِالتَّوَاتُرِ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ مِنْ زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا، أَنَّ قَبْرَهُ بِالْمَرْبَعَةِ تَحْقِيقًا. فَأَمَّا تَعْيِينُهُ مِنْهَا فَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ عَنْ مَعْصُومٍ. فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى تِلْكَ الْمَحَلَّةُ وَأَنْ تُحْتَرَمَ احْتِرَامَ مِثْلِهَا، وَأَنْ تُبَجَّلَ وَأَنْ تُجَلَّ أَنْ يدلى فِي أَرْجَائِهَا، خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ أَو أحد أَوْلَادِهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَحْتَهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: وُجِدَ عِنْدَ قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَى حَجَرٍ كِتَابَة خلقَة:   (1) ا: من الْمَرْفُوع (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أَلْهَى جَهُولًا أَمَلُهْ * يَمُوتُ مَنْ جَا أَجَلُهْ وَمَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهْ * لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حيله وَكَيف يبْقى آخرا * مَنْ مَاتَ عَنْهُ أَوَّلُهْ وَالْمَرْءُ لَا يَصْحَبُهْ * فِي الْقَبْرِ إِلَّا عَمَلُهْ ذِكْرُ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيل أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ مِنْ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ مِنْ سَارَةَ بِنْتِ عَمِّ الْخَلِيلِ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا " قَنْطُورَا " بِنْتَ يَقْطُنَ الْكَنْعَانِيَّةَ فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً: مَدْيَنَ، وَزَمَرَانَ، وَسَرَجَ وَيَقِشَانَ، وَنَشَقَ، وَلَمْ يُسَمَّ السَّادِسُ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا " حَجُونَ " بِنْتَ أَمِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ خَمْسَةً: كَيْسَانَ، وَسُورَجَ، وَأَمِيمَ، وَلُوطَانَ وَنَافَسَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابه: " التَّعْرِيف والاعلام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قصَّة لوط عَلَيْهِ السَّلَام وَمِمَّا وَقَعَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ: قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الْعَمِيمَةِ. وَذَلِكَ أَن لوطا بن هَارَانَ بْنِ تَارَحَ - وَهُوَ آزَرُ كَمَا تَقَدَّمَ - وَلُوطٌ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَإِبْرَاهِيمُ وَهَارَانُ وَنَاحُورُ إِخْوَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيُقَالُ إِنَّ هَارَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي بَنَى حَرَّانَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لمُخَالفَته مَا بأيدى أهل الْكتاب وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَانَ لُوطٌ قَدْ نَزَحَ عَنْ مَحَلَّةِ عَمِّهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَمْرِهِ لَهُ وَإِذْنِهِ، فَنَزَلَ بِمَدِينَةِ سَدُومَ مِنْ أَرْضِ غَوْرِ زُغَرَ (1) ، وَكَانَ أم تِلْكَ الْمحلة وَلها أَرض ومعتملات وَقُرًى مُضَافَةٌ إِلَيْهَا. وَلَهَا أَهْلٌ مِنْ أَفْجَرِ النَّاس وأكفرهم وأسوأهم طَوِيَّةً، وَأَرْدَئِهِمْ سَرِيرَةً وَسِيرَةً، يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. ابْتَدَعُوا فَاحِشَةً لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكْرَانِ مِنَ الْعَالَمَيْنِ، وَتَرْكُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ النِّسْوَانِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. فَدَعَاهُمْ لُوطٌ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْفَوَاحِشِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَفَاعِيلِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ فَتَمَادَوْا عَلَى ضَلَالِهِمْ وطغيانهم، واستمرزوا على فُجُورهمْ وكفرانهم، فأحل الله بهم   (1) ا: أَرض عز عز: محرفة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 من الْبَأْس الذى لايرد مَا لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ مَثُلَةً فِي الْعَالَمِينَ، وَعِبْرَةً يُتَّعِظُ بِهَا الْأَلِبَّاءُ مِنَ الْعَالِمِينَ. وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي غير مَا مَوضِع فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ. فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: " وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا، قَالَ سَلَامٌ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بإسحق وَمن وَرَاء إِسْحَق يَعْقُوب * قَالَت يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب * وجاءه قومه يهرعون   (1) الْآيَات: 80 - 84. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 إِلَيْهِ، وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ، قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد؟ * قَالُوا لقد علمت مالنا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: " وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضيف إِبْرَاهِيم * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قوم منكرون * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ، وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي   (1) الْآيَات: 69 - 83. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَو لم نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ ربكُم من أزواجكم بن أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فسَاء مطر الْمُنْذرين (3) ".   (1) الْآيَات: 50 - 77 (2) الْآيَات: 160 - 170 (3) الْآيَات: 54 - 85. (17 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: " وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِن فيخها لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَلَمَّا أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يعْقلُونَ " (1) . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الصافات: " وَإِن لوطا لمن المرسليمن * إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دمرنا الآخرين * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ بَعْدَ قِصَّةِ [ضَيْفِ (3) ] إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَتِهِمْ إِيَّاهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ: " قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مسومة عِنْد رَبك للمسرفين *   (1) الْآيَات: 28 - 35 (2) الْآيَات: 133 - 138 (3) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الاليم " (1) . وَقَالَ فِي سُورَة الْقَمَر (2) : " كذبت قوم لوط بِالنذرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل من مدكر " (3) . وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا من هَذِه السُّور فِي التَّفْسِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا وَقَوْمَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنَ الْقُرْآنِ ; تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَعَ نوح وَعَاد وَثَمُود. * * * وَالْمَقْصُود الْآن إِيرَاد ماكان مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ، مَجْمُوعًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَذَلِكَ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ [حَتَّى] (4) وَلَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عَنْهُ نُهُوا. بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَالِهِمْ، وَلِمَ يَرْعَوُوا (5) عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ رَسُولِهِمْ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ. وَمَا كَانَ حَاصِلُ جَوَابِهِمْ عَنْ خطابهم - إِذْ كَانُوا لَا يعْقلُونَ   (1) الْآيَات: 31 - 37 (2) ا: سُورَة الانشقاق (3) الْآيَات: 33 - 40 (4) لَيست فِي ا. (5) ط: وَلم يرتدعوا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 إِلَّا أَنْ قَالُوا: " أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون " فَجَعَلُوا غَايَةَ الْمَدْحِ ذَمًّا يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ! وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ إِلَّا الْعِنَادُ وَاللَّجَاجُ. فَطَهَّرَهُ اللَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا أَحْسَنَ إِخْرَاجٍ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ خَالِدِينَ، لَكِنْ بَعْدَ مَا صَيَّرَهَا عَلَيْهِمْ بَحْرَةً مُنْتِنَةً ذَاتَ أَمْوَاجٍ، لَكِنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ نَارٌ تَأَجَّجُ، وَحَرٌّ يَتَوَهَّجُ، وَمَاؤُهَا مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَمَا كَانَ هَذَا جوابهم إِلَّا لما نَهَاهُم عَن " [ارْتِكَاب (1) ] الطَّامَّةِ الْعُظْمَى، وَالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى، الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أحد من [الْعَالمين (2) ] أَهْلِ الدُّنْيَا. وَلِهَذَا صَارُوا مَثُلَةً فِيهَا وَعِبْرَةً لِمَنْ عَلَيْهَا. وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيَخُونُونَ الرَّفِيقَ، وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمْ، وَهُوَ مُجْتَمَعُهُمْ وَمَحَلُّ حَدِيثِهِمْ وَسَمَرِهِمُ، الْمُنْكَرَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ. حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يتضارطون فِي مجَالِسهمْ، وَلَا يستحون من مجالسيهم، وَرُبَّمَا وَقَعَ (3) مِنْهُمُ الْفَعْلَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْمَحَافِلِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ، وَلَا يَرْعَوُونَ لِوَعْظِ وَاعِظٍ وَلَا نصيحة من عَاقل. وَكَانُوا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَلَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَاضِرِ، وَلَا نَدِمُوا عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْمَاضِي، وَلَا رَامُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْوِيلًا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخَذًا وَبِيلًا. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: " ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " فَطَلَبُوا مِنْهُ وُقُوعَ مَا حَذَّرَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْعَذَاب الاليم، وحلول الْبَأْس الْعَظِيم.   (1) من ا. (2) من ا. (3) ا: وَقد أوقع. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمُ الْكَرِيمُ، فَسَأَلَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. فَغَارَ اللَّهُ لِغَيْرَتِهِ، وَغَضِبَ لِغَضْبَتِهِ ; وَاسْتَجَابَ لِدَعْوَتِهِ، وَأَجَابَهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَمَلَائِكَتَهُ الْعِظَامَ، فَمَرُّوا عَلَى الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَشَّرُوهُ بِالْغُلَامِ الْعَلِيمِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَاءُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَسِيمِ وَالْخَطْبِ الْعَمِيمِ: " قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طين * مسومة عِنْد رَبك للمسرفين " وَقَالَ: " وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا نحون أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَت من الغابرين ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ". وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَرْجُو أَن [يجيبوا أَو (1) ] ينيبوا ويسلموا ويفلعوا وَيَرْجِعُوا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَاب غير مَرْدُود " أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَتَكَلَّمْ فِي غَيْرِهِ ; فَإِنَّهُ قَدْ حُتِمَ أَمْرُهُمْ، وَوَجَبَ عَذَابُهُمْ وَتَدْمِيرُهُمْ وهلاكهم، " إِنَّه قد جَاءَ أَمر رَبك " أَي قد أَمر بِهِ من لايرد أَمْرُهُ، وَلَا يُرَدُّ بِأْسُهُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. " وَإِنَّهُم آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود ". وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بن إِسْحَق: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جعل يَقُول: أنهلكون قَرْيَة يها ثَلَاثمِائَة مُؤمن [قَالُوا لَا] (2)   (1) من ا. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قَالَ: فَمِائَتَا مُؤْمِنٍ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ مُؤْمِنًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُؤْمِنًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِلَى أَنْ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ؟ قَالُوا لَا. " قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا. " الْآيَةَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَتُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ رَجُلًا صَالِحًا؟ فَقَالَ اللَّهُ: " لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ صَالِحًا ". ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى عَشَرَةٍ فَقَالَ اللَّهُ: " لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ عَشَرَةٌ صَالِحُونَ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمَّا جَاءَت رسلنَا لوطا سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب ". قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا فَصَلَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ - وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ - أَقْبَلُوا حَتَّى أَتَوا أَرض سدوم، فِي صور شُبَّانٍ حِسَانٍ، اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَضَافُوا لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَشِيَ إِنْ لم يضفهم أَن يضيفهم غَيره، وحسبهم بشرا من النَّاس، و " سئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عصيب " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق: شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ. وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ مُدَافَعَتِهِ اللَّيْلَة عَنْهُم، كَمَا كَانَ يصنع بهم فِي غَيرهم، وَكَانُوا قد اشتطروا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضِيفَ أَحَدًا، وَلَكِنْ رَأَى مَنْ لَا يُمْكِنُ الْمَحِيدُ عَنْهُ. وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّهُمْ وَرَدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يعْمل فِيهَا، فتضيفوا فاستحيا مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ أَمَامَهُمْ، وَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَعَلَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَيَنْزِلُونَ فِي غَيْرِهَا، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: [وَاللَّهِ (1) ] يَا هَؤُلَاءِ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ بَلَدٍ أَخْبَثَ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ: وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُهْلِكُوهُمْ حَتَّى شهد عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ من عِنْد إِبْرَاهِيم نَحْو قَرْيَة لُوطٍ، فَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا بَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ لَقُوا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ لاهلها، وَكَانَت لَهُ ابنتان: اسْم الْكُبْرَى " ريثا " وَالصُّغْرَى " زغرتا ". فَقَالُوا لَهَا: يَا جَارِيَةُ، هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ؟ فَقَالَت لَهُم: [نعم (2) ] مَكَانكُمْ لَا تدْخلُوا حَتَّى آتيكم. شَفَقَة (3) عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ! أَرَادَكَ فِتْيَانٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ قَطُّ هِيَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ، لَا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ (4) نهوه أَن يضيف رجلا [فَقَالُوا: خل عَنَّا فلنضف الرِّجَال (2) ] . فَجَاءَ بِهِمْ فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ الْبَيْتِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا ; فَقَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وُجُوهِهِمْ قَطُّ. فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " وَمن قبل كَانُوا يعْملُونَ السَّيِّئَات " أَيْ هَذَا مَعَ مَا سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ الْكَثِيرَةِ، " قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بناتى هن أطهر لكم " يُرْشِدُهُمْ إِلَى غِشْيَانِ نِسَائِهِمْ وَهُنَّ بَنَاتُهُ شَرْعًا ; لَان النَّبِي   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا (3) ط: فرقت عَلَيْهِم من قَومهَا (4) ا: وَقد كَانُوا نهوه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 لِلْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفسهم وأزواجه أمهاتهم (1) " وفى قَول بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ: وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قوم عادون (2) ". وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ خَطَأٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَيْهِم كَمَا أخطأوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُمْ تَعَشَّوْا عِنْدَهُ. وَقَدْ خَبَّطَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَخْبِيطًا عَظِيمًا. وَقَوْلُهُ: " فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رشيد؟ " نهى لَهُم عَن تعاطى مَالا يَلِيقُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَشَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ مُسْكَةٌ وَلَا فِيهِ خَيْرٌ، بل الْجَمِيع سُفَهَاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء (3) . وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ الْمَلَائِكَةُ أَن يسمعوه مِنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ. فَقَالَ قَوْمُهُ، عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ الْحَمِيدِ الْمَجِيدِ، مُجِيبِينَ لِنَبِيِّهِمْ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ السَّدِيدِ: " لقد علمت مالنا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيد ". يَقُولُونَ - عَلَيْهِم لعائن الله - لقد علمت يالوط إِنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي نِسَائِنَا، وَإِنَّكَ لتعلم مرادنا وغرضنا.   (1) من الْآيَة: 5 من سُورَة الاحزاب (2) الْآيَتَانِ: 165، 166 من سُورَة الشُّعَرَاء. (3) ا: كفرة أعتياء (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَاجَهُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الْقَبِيحِ رَسُولَهُمُ الْكَرِيمَ، وَلَمْ يَخَافُوا سَطْوَةَ الْعَظِيمِ، ذِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد ". وَدَّ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ، أَوله مَنْعَة وشعيرة يَنْصُرُونَهُ عَلَيْهِمْ، لِيُحِلَّ بِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْخِطَابِ. وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ ". وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ (1) عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَحْمَةُ اللَّهِ على لوط، إِن كَانَ يَأْوِي (2) إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ - يَعْنِي اللَّهَ عزوجل - فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَو لم نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُم فاعلين ". فَأَمَرَهُمْ بِقُرْبَانِ نِسَائِهِمْ، وَحَذَّرَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وسيآتهم. هَذَا وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَرْعَوُونَ، بَلْ كُلَّمَا نَهَاهُمْ (3) يُبَالِغُونَ فِي تَحْصِيلِ هَؤُلَاءِ الضيفان ويحرصون، وَلم يعلمُوا ماحم (4) بِهِ الْقدر مماهم إِلَيْهِ صائرون وصبيحة ليلتهم إِلَيْهِ منقلبون.   (1) ا: وَرَوَاهُ ابْن أَبى الدُّنْيَا (3) ا: لقد كَانَ يأوى (4) ا: كلما لَهُم (5) ا: مَا حم بهم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقْسِمًا بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سكرتهم يعمهون " وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ " (1) . ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ يُمَانِعُ قَوْمَهُ الدُّخُولَ وَيُدَافِعُهُمْ وَالْبَابُ مُغْلَقٌ، وَهُمْ يَرُومُونَ فَتْحَهُ وَوُلُوجَهُ، وَهُوَ يَعِظهُمْ وينهاهم من وَرَاء الْبَاب، وكل مَالهم فِي إلحاج وإنحاح (2) ، فَلَمَّا ضَاقَ الْأَمْرُ وَعَسُرَ الْحَالُ قَالَ [مَا قَالَ (3) ] " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوى إِلَى ركن شَدِيد "، لَأَحْلَلْتُ بِكُمُ النَّكَالَ. قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: " يَا لُوطُ إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك " وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ خَفْقَةً بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَطُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهَا غَارَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَحَلٌّ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، فَرَجَعُوا يتحسسون مَعَ الْحِيطَانِ، وَيَتَوَعَّدُونَ رَسُولَ الرَّحْمَنِ، وَيَقُولُونَ إِذَا كَانَ الْغَدُ كَانَ لَنَا وَلَهُ شَأنٌ!. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَاب مُسْتَقر " (4) . فَذَلِك أَن الْمَلَائِكَة تقدّمت إِلَى لوط، عَلَيْهِ السَّلَامُ، آمِرِينَ لَهُ بِأَنْ يَسْرِيَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ. " وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ "، يعْنى عِنْد   (1) ا: وَرَوَاهُ ابْن أَبى الدُّنْيَا (2) كَذَا فِي ا. ولعلها إتباع كَقَوْلِهِم شحيح نحيح وفى ط: فِي الجاج والعاج وَهُوَ تَحْرِيف. (3) من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 سَمَاعِ صَوْتِ الْعَذَابِ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِهِ. وَأَمَرُوهُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ فِي آخِرِهِمْ كَالسَّاقَةِ لَهُمْ. وَقَوله: " إِلَّا امْرَأَتك " عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى من قَوْله: " فَأسر بأهلك " كَأَنَّهُ يَقُول إِلَّا امْرَأَتك فَلَا تشربها، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: " وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتَكَ " أَيْ فَإِنَّهَا سَتَلْتَفِتُ فَيُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ. وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ الرَّفْعِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ " وَالِهَةُ "، وَاسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ " وَالِغَةُ " وَقَالُوا لَهُ مُبَشِّرِينَ بِهَلَاكِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْعُتَاةِ، الْمَلْعُونِينَ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ سَلَفًا لِكُلِّ خَائِنٍ مُرِيبٍ: " إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ". فَلَمَّا خَرَجَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِهِ، وَهُمُ ابنتاه، لم يَتْبَعْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيُقَالُ إِنَّ امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا خَلَصُوا مِنْ بِلَادهمْ وطلعت الشَّمْس فَكَانَت عِنْدَ شُرُوقِهَا، جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لايرد، وَمِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَدَّ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَمَرُوهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَاسْتَبْعَدَهُ، وَسَأَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُمْ، فَقَالُوا اذْهَبْ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكَ حَتَّى تَصِيرَ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرَّ فِيهَا، ثُمَّ نُحِلَّ بِهِمُ الْعَذَاب. فَذكرُوا أَنه ذهب إِلَى قَرْيَة " صوعر " (1) الَّتِي يَقُولُ النَّاسُ: غَوْرُ زُغَرَ، فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْس نزل بهم الْعَذَاب.   (1) ا: صغر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمين بِبَعِيد ". قَالُوا: اقْتَلَعَهُنَّ جِبْرِيلُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ مِنْ قَرَارِهِنَّ - وَكُنَّ سَبْعَ مُدُنٍ - بِمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ، فَقَالُوا إِنَّهُم كَانُوا أَرْبَعمِائَة نسمَة، وَقيل أَرْبَعَة آلَاف (1) نَسَمَةٍ، وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ تِلْكَ الْمُدُنَ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ وَالْمُعْتَمَلَاتِ. فَرَفَعَ الْجَمِيعَ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ أَصْوَاتَ دِيَكَتِهِمْ وَنُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شُرُفَاتُهَا. " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل ". [وَالسِّجِّيلُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (2) ] وَهُوَ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ، " مَنْضُودٍ " أَيْ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ. " مُسَوَّمَةً " أَيْ مُعَلَّمَةً مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجْرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي يَهْبِطُ عَلَيْهِ فَيَدْمَغُهُ، كَمَا قَالَ: " مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ للمسرفين " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مطر الْمُنْذرين "، وَقَالَ تَعَالَى: " وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فبأى آلَاء رَبك تتمارى " يَعْنِي (3) قَلَبَهَا فَأَهْوَى بِهَا مُنَكَّسَةً عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَغَشَّاهَا بِمَطَرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، مُتَتَابِعَةٍ، مسومة مرقومة عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ ; مِنَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهِمْ، وَالْغَائِبِينَ عَنْهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالنَّازِحِينَ وَالشَّاذِّينَ مِنْهَا. وَيُقَالُ إِنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ مَكَثَتْ مَعَ قَوْمِهَا، وَيُقَالُ إِنَّهَا خرجت مَعَ زَوجهَا   (1) ا: أَرْبَعَة آلَاف ألف نسمَة (2) سَقَطت من ا. (3) ا: أَي قَلبهَا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَبِنْتَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ الصَّيْحَةَ وَسُقُوطَ الْبَلْدَةِ، الْتفت إِلَى قَوْمِهَا وَخَالَفَتْ أَمْرَ رَبِّهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ (1) ! فَسَقَطَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فَدَمَغَهَا وَأَلْحَقَهَا بِقَوْمِهَا ; إِذْ كَانَتْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَانَتْ عَيْنًا لَهُمْ عَلَى مَنْ يَكُونُ عِنْدَ لُوطٍ مِنَ الضِّيفَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ، فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يغنيا عَنْهُمَا من الله مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الداخلين " (2) أَي خانتاهما فِي الدّين فَلم يتبعاهما فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى فَاحِشَةٍ - حاشا وكلا وَلما فَإِن الله لَا يقدر على نبى قطّ (3) أَنْ تَبْغِيَ امْرَأَتُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَمَنْ قَالَ خِلَافَ هَذَا قد أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا (4) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، لَمَّا أَنْزَلَ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة نبت الصِّدِّيقِ، زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَعَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّبَ وَزَجَرَ، وَوَعَظَ وحذر قَالَ فِيمَا قَالَ: " إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم " (5) أَي سُبْحَانَكَ أَن تكون زَوْجَة نبيك بِهَذِهِ المثابة.   (1) ايا قومه. (2) سُورَة التَّحْرِيم. (3) ا: على نبيه أَن تبغى امْرَأَته. (4) ا: كثيرا. (5) سُورَة النُّور (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَقَوله هُنَا: " وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد " أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ بِبَعِيدَةٍ مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ. وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُرْجَمُ، سَوَاءٌ كَانَ مُحصنا أَولا. وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ ". وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَن اللائط يلقى من شَاهِق [جبل] (1) وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا هِيَ الظَّالِمين بِبَعِيد " وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَ تِلْكَ الْبِلَادِ بَحْرَةً مُنْتِنَةً لَا يُنْتَفَعُ بِمَائِهَا، وَلَا بِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَرَاضِي الْمُتَاخِمَةِ لِفِنَائِهَا، لِرَدَاءَتِهَا وَدَنَاءَتِهَا فَصَارَتْ عِبْرَةً وَمَثُلَةً وَعِظَةً وَآيَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَعِزَّتِهِ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، وَاتَّبَعْ هَوَاهُ وَعَصَى مَوْلَاهُ، وَدَلِيلًا عَلَى رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم ". وَقَالَ الله تَعَالَى: " فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين " أَي من نظر بِعَين   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الْفِرَاسَةِ وَالتَّوَسُّمِ فِيهِمْ (1) ، كَيْفَ غَيَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا؟ وَكَيْفَ جَعَلَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ آهِلَةً عَامِرَةً هَالِكَةً غَامِرَةً؟ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا: " اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ " ثُمَّ قَرَأَ: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات للمتوسمين ". وَقَوله: " وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم " أَيْ لَبِطَرِيقٍ مَهْيَعٍ مَسْلُوكٍ إِلَى الْآنَ. كَمَا قَالَ: " وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تعقلون ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَد تركناها آيَة بَيِّنَة لقوم يعْقلُونَ " وَقَالَ تَعَالَى: " فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤمنِينَ * فَمَا وجدنَا فيخها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الاليم ". أَيْ تَرَكْنَاهَا عِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَانْزَجَرَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ، وَخَافَ أَنْ يُشَابِهَ قَوْمَ لُوطٍ. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا قَوْمَ لُوطٍ بِعَيْنِهِمْ * فَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيد فالعاقل اللبيب الفاهم الْخَائِف من ربه، يمتثل مَا أمره الله بِهِ عزوجل، وَيقبل مَا أرشده إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِتْيَانِ مَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحَلَالِ، وَالْجَوَارِي مِنَ السَّرَارِيِّ ذَوَاتِ الْجَمَالِ، وَإِيَّاهُ أَنْ يَتَّبِعَ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَيَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد ".   (1) ط: فهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 مَدين قصَّة قوم شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، قَالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كل شئ عِلْمًا، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هم الخاسرين *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات ربى وَنَصَحْت لكم فَكيف آمى على قوم كَافِرين " (1) . وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَيْضًا: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مالكم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إنى أَرَاكُم بِخَير، وإنى أخاد عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بحفيظ * قَالُوا يَا شُعَيْب أصلوتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ؟ إِنَّكَ لانت الْحَلِيم الرشيد * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ، وَمَا قَوْمُ لوط مِنْك بِبَعِيد * وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ توبو إِلَيْهِ إِن ربى رَحِيم ودود * قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا، وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قوم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظهريا؟ إِن ربى بِمَا تعلمُونَ مُحِيط * وَيَا قوم   (1) الْآيَات: 85 - 93 (18 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ، وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود " (1) . وَقَالَ فِي الْحجر بعد قصَّة قوم لوط أَيْضا: وَإِن كَانَ أَصْحَاب لايكة لظالمين * فانتقمنا مِنْهُم وإنهما لبإمام مُبين " (2) . وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ قِصَّتِهِمْ: " كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم " (3) . * * * كَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ قَوْمًا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَتَهُمْ " مَدين " الَّتِى هِيَ قريبَة (4) مِنْ أَرْضِ مُعَانٍ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ، مِمَّا يَلِي نَاحيَة الْحجاز قَرِيبا   (1) الْآيَات: 84 - 95 (2) الْآيَتَانِ: 78 - 79 (3) الْآيَات: 176 - 191 (4) ط: قَرْيَة. محرفة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 مِنْ بُحَيْرَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانُوا بَعْدَهُمْ بِمُدَّةٍ قريبَة. ومدين قَبيلَة عرفت بهم (1) وَهُمْ مِنْ بَنِي مَدْيَنَ بْنِ مديَانَ بْنِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل. وَشُعَيْبٌ نَبِيُّهُمْ هُوَ ابْنُ ميكيلَ (2) بْنِ يَشْجَنَ، ذكره ابْن إِسْحَق. قَالَ: وَيُقَال لَهُ بالسُّرْيَانيَّة يترون، وفى هَذَا نظر. وَيُقَال شُعَيْب ابْن يشخر بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَيُقَالُ شُعَيْبُ بْنُ نويب بن عيفا (3) ابْن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ شُعَيْبُ بْنُ صِيفُورَ بن عيفا بن ثَابت ابْن مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَيُقَالُ جَدَّتُهُ، وَيُقَالُ أُمُّهُ، بِنْتُ لُوطٍ. وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ دِمَشْقَ. وَعَنْ وَهْبِ ابْن مُنَبّه أَنه قَالَ: شُعَيْب وملغم مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ يَوْمَ أُحْرِقَ بِالنَّارِ، وَهَاجَرَا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَزَوَّجَهُمَا بِنْتَيْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ نظر. وَالله تَعَالَى أعلم. وَذكر أَبُو عمر ابْن عَبْدِ الْبِرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ سَلَمَةَ بن سعد (4) الْعَنزي: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ، فَقَالَ: " نِعْمَ الحى عنزة ; مبغى (5) عَلَيْهِم منصورون رَهْط (6) شُعَيْب وأختان (7) مُوسَى ".   (1) ط: مَدِينَة عرفت بهَا الْقَبِيلَة. (2) ط: مَكِيل. (3) ا: غبها. (4) ا: سعيد. (5) ا: يبغى. (6) ط: قوم شُعَيْب (7) الاختان. جمع ختن وَهُوَ الصهر. وفى المطبوعة. وأحبار. محرفة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَدَلَّ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا صِهْرُ (1) مُوسَى وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ يُقَالُ لَهُمْ عَنَزَةُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ عَنَزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِّ بْنِ عَدْنَانَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَهُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَالَ: " أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ " وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُسَمِّي شُعَيْبًا خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ. يعْنى لفصاحته وعلزو عِبَارَتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ فِي دِعَايَةِ قَوْمِهِ إِلَى الْإِيمَانِ برسالته. وَقد روى ابْن إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: " ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ ". وَكَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ كُفَّارًا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيُخِيفُونَ الْمَارَّةَ، وَيَعْبُدُونَ الْأَيْكَةَ، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنَ الْأَيْكِ حَوْلَهَا غَيْضَةٌ ملتفة بهَا. وَكَانُوا من أسوإ النَّاسِ مُعَامَلَةً ; يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيُطَفِّفُونَ فِيهِمَا، يَأْخُذُونَ بِالزَّائِدِ ويدفعون بالناقس. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ الْقَبِيحَةِ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ وَإِخَافَتِهِمْ لَهُمْ فِي سُبُلِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بهم الْبَأْس الشَّديد. وَهُوَ الولى الحميد.   (1) ط: من مُوسَى. ومحرفة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ ربكُم " أَي دلَالَة وَحجَّة وَاضِحَة، وبرهان قَاطع عَن صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ وَأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِى لم ينْقل إِلَيْنَا تفصيلها (1) ، وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا إِجْمَالا. " فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تفسدوا فِي الارض بعد إصلاحها ". أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: " ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُم مُؤمنين * وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط " [أَيْ طَرِيقٍ (2) ] " تُوعِدُونَ " أَيْ تَتَوَعَّدُونَ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ مُكُوسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتُخِيفُونَ السُّبُلَ. قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: " وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون " أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعُشُورَ مِنْ أَمْوَالِ الْمَارَّةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا طُغَاةً بُغَاةً يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيقِ، يَبْخَسُونَ النَّاسَ، يَعْنِي يَعْشُرُونَهُمْ. وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ. " وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وتبغونها عوجا " نَهَاهُم (3) عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ.   (1) ط: لم تنقل إِلَيْنَا تَفْصِيلًا. (2) لَيست فِي ا (3) ا: فنهاهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 " وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين " ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي تَكْثِيرِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ إِنْ (1) خَالَفُوا مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْقِصَّةِ الْأُخْرَى: " وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط " أَيْ لَا تَرْكَبُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَتَسْتَمِرُّوا فِيهِ (2) فَيَمْحَقَ اللَّهُ [بَرَكَةَ] (3) مَا فِي أَيْدِيكُمْ (4) ، وَيُفْقِرَكُمْ وَيُذْهِبَ مَا بِهِ يُغْنِيكُمْ. وَهَذَا مُضَافٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جُمِعَ لَهُ هَذَا وَهَذَا، فَقَدْ بَاءَ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ! * * * فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَن تعاطى مَالا يَلِيقُ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَحَذَّرَهُمْ سَلْبَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَعَذَابَهُ الْأَلِيمَ فِي أُخْرَاهُمْ، وَعَنَّفَهُمْ أَشَدَّ تَعْنِيفٍ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ آمِرًا بعد مَا كَانَ عَن شده زَاجِرًا: " وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُم مُؤمنين، وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " بَقِيَّةُ اللَّهِ خير لكم " أَيْ رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَال النَّاس. وَقَالَ ابْن جرير: مَا يفضل (5) لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وَفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالتَّطْفِيفِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.   (1) ا: وَإِن. (2) ا: بِهِ. (3) لَيست فِي ا (4) ا: مَا بِأَيْدِيكُمْ. (5) ط: مَا فضل. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَحَكَاهُ حَسَنٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أعْجبك كَثْرَة الْخَبيث " يَعْنِي أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْكَثِيرِ مِنَ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ وَإِنْ قَلَّ، وَالْحَرَامَ مَمْحُوقٌ وَإِنْ كَثُرَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى قُلٍّ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. أَيْ إِلَى قِلَّةٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنَّ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا " وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ فِيهِ وَإِنَّ قَلَّ، وَالْحَرَامَ لَا يُجْدِي وَإِنْ كَثُرَ. وَلِهَذَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: " بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". وَقَوله: " وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ " أَيِ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، لَا لِأَرَاكُمْ أَنَا وَغَيْرِي. " قَالُوا يَا شُعَيْب أصواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ، إِنَّكَ لانت الْحَلِيم الرشيد ". يَقُولُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ وَالتَّهَكُّمِ: أصلاتك هَذِهِ الَّتِي تُصَلِّيهَا، هِيَ الْآمِرَةُ لَكَ بِأَنْ تَحْجُرَ عَلَيْنَا فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِلَهَكَ؟ وَنَتْرُكَ (1) مَا يعبد آبَاؤُنَا الاقدمون   (1) ا: وَنذر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأسلافنا الاولون؟ أَو أَن (1) لَا نَتَعَامَلُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَنْتَ، وَنَتْرُكُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا وَإِنْ كُنَّا نَحن نرضاها؟ " أَنَّك لانت الْحَلِيم الرشيد " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ. " قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب ". هَذَا تَلَطُّفٌ (2) مَعَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ، وَدَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِأَبْيَنِ إِشَارَةٍ. يَقُولُ لَهُمْ: " أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ " إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي " أَيْ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، " وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حسنا " يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، يَعْنِي وَعَمَّى عَلَيْكُمْ مَعْرِفَتَهَا، فأى حِيلَة لى فِيكُم (3) ؟ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ سَوَاءً. وَقَوْلُهُ: " وَمَا أُرِيدُ أَن أخالفكم إِلَى مَا أَنَّهَا كم عَنهُ " أَيْ لَسْتُ (4) آمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ إِلَّا وَأَنَا أَوَّلُ فَاعل لَهُ، وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن الشئ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَتْرُكُهُ. وَهَذِهِ هِيَ الصِّفَةُ الْمَحْمُودَةُ الْعَظِيمَةُ، وَضِدُّهَا هِيَ الْمَرْدُودَةُ الذَّمِيمَةُ، كَمَا تَلَبَّسَ بِهَا عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آخِرِ زمانهم، وخطباؤهم الجاهلون.   (1) ا: أَو أَنا. (2) ا: تلاطف. (3) ا: بكم. (4) ا: لَيْسَ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفسكُم وَأَنْتُم تتلون الْكتاب أَفلا تعقلون؟ " وَذَكَرْنَا (1) عِنْدَهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يُؤْتَى بِالرجلِ فَيلقى فِي النَّار فتندلق أفتاب بَطْنِهِ - أَيْ تَخْرُجُ أَمْعَاؤُهُ مِنْ بَطْنِهِ - فَيَدُورُ [بهَا] (2) كَمَا يَدُور الْحمار برحاه، فيجتمع أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَالَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ". وَهَذِهِ صِفَةُ (3) مُخَالِفِي الْأَنْبِيَاءِ من الْفجار [و (2) ] الاشقياء. فَأَمَّا السَّادَةُ مِنَ النُّجَبَاءِ، وَالْأَلِبَّاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، فَحَالُهُمْ كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: " وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الاصلاح مَا اسْتَطَعْت " أَيْ مَا أُرِيدُ فِي جَمِيعِ أَمْرِي إِلَّا الْإِصْلَاحَ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ بِجُهْدِي وَطَاقَتِي. " وَمَا توفيقي " أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي " إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب " أَيْ عَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي وَمَصِيرِي فِي كُلِّ أَمْرِي. وَهَذَا مَقَامُ تَرْغِيبٍ. * * * ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّرْهِيبِ فَقَالَ: " وَيَا قوم لَا يجر مِنْكُم شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ، وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد ".   (1) ط: وَذكر عِنْدهمَا. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: فَهَذِهِ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أَي لَا يحملنكم بخالفتى وَبُغْضُكُمْ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَلَالِكُمْ وَجَهْلِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ، فَيُحِلَّ اللَّهُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، نَظِيرَ مَا أَحَلَّهُ بِنُظَرَائِكُمْ وَأَشْبَاهِكُمْ، مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُخَالِفِينَ. وَقَوْلُهُ: " وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُم بِبَعِيد "، قِيلَ مَعْنَاهُ: فِي الزَّمَانِ، أَيْ مَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ، مِمَّا قَدْ بَلَغَكُمْ مَا أَحَلَّ بهم على كفرهم وعتوهم. وَقيل مَعْنَاهُ: وماهم مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَالْمَكَانِ. وَقِيلَ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ، مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ جَهْرَةً وَخُفْيَةً بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالشُّبُهَاتِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُمْكِنٌ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا (1) بَعِيدِينَ مِنْهُمْ لَا زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا صِفَاتٍ. ثُمَّ مَزَجَ التَّرْهِيبَ بِالتَّرْغِيبِ فَقَالَ: " وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيم ودود " أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَتُوبُوا إِلَى رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ الْوَدُودِ، فَإِنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، " وَدُودٌ " وَهُوَ الْحَبِيبُ وَلَوْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَوْ مِنَ الْمُوبِقَاتِ الْعِظَامِ. " قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقول وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا " رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ: أَنَّهُ بَكَى مِنْ حب الله حَتَّى   (1) ا. فَإِنَّهُم غير بعيدين. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 عَمِيَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَقَالَ: " يَا شُعَيْبُ أَتَبْكِي خَوْفًا (1) مِنَ النَّارِ؟ أَوْ [مِنْ] (2) شَوْقِكَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: بَلْ مِنْ مَحَبَّتِكَ (3) ، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ فَلَا أُبَالِي مَاذَا يُصْنَعُ بِي. فَأَوْحَى [اللَّهُ] (2) إِلَيْهِ: هَنِيئًا لَكَ يَا شُعَيْبُ لِقَائِي، فَلِذَلِكَ أَخَدَمْتُكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمِي ". رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بن بنْدَار، عَن عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَق الرَّمْلِيّ عَن هِشَام بن عمار، عَن إِسْمَعِيل بن عَبَّاس، عَن يحيى بن سعيد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ (4) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ. * * * وَقَوْلُهُمْ: " وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ " هَذَا مِنْ كُفْرِهِمُ الْبَلِيغِ، وَعِنَادِهِمُ الشَّنِيعِ، حَيْثُ قَالُوا: " مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول " أَي مَا نفهمه وَلَا نعقله، لانه لَا نُحِبُّهُ وَلَا نُرِيدُهُ، وَلَيْسَ لَنَا هِمَّةٌ إِلَيْهِ، وَلَا إِقْبَالٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ كَمَا قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، فاعمل إننا عاملون ".   (1) ا: من خوفك من النَّار. (2) لَيست فِي ا. (3) ا. فَقَالَ لمحبتك. (4) المطبوعة: بن أَمِين. وَهُوَ تَحْرِيف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَقَوْلهمْ: " وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا " أَي مضطهدا مَهْجُورًا. " وَلَوْلَا رهطك " أَي قبيلتك وعغشيرتك فِينَا " لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ". " قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ " [أَي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعونى بسببهم، وَلَا تخافون عَذَاب (1) الله؟ وَلَا تراعوني لِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَصَارَ رَهْطِي أَعَزَّ عَلَيْكُمْ من الله (2) ] " واتخذتموه وراءكم ظهريا [أَي جَانِبَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ (2) ] " إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط " أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَهُ وَمَا تَصْنَعُونَهُ، مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ تُرْجَعُونَ إِلَيْهِ. " وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامل فَسَوف تَعْمَلُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وارتقبوا إنى مَعكُمْ رَقِيب ". هَذَا أَمر تهديد شدى وَوَعِيدٍ أَكِيدٍ، بِأَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَمَنْهَجِهِمْ وَشَاكِلَتِهِمْ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ، وَمَنْ يَحِلُّ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ وَالْبَوَارُ " مَنْ يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه " أَيْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم " أَي فِي الآخرى (2) " وَمن هُوَ كَاذِب " أَيْ مِنِّي وَمِنْكُمْ فِيمَا أَخْبَرَ وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ. " وارتقبوا إنى مَعكُمْ رَقِيب " هَذَا كَقَوْلِهِ: " وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين ". * * *   (1) سقط من ا. (2) ا: فِي الْآخِرَة. (1) الاصل: جنَّة الله. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَو لتعودن فِي ملتنا قَالَ أَو لَو كُنَّا كَارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبنَا كل شئ عِلْمًا، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين ". طَلَبُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَانْتَصَبَ شُعَيْبٌ لِلْمُحَاجَّةِ (1) عَنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: " أولو كُنَّا كارهين؟ " [أَيْ] (2) هَؤُلَاءِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْكُمُ اخْتِيَارًا، وَإِنَّمَا يعودون إِلَيْكُم إِنْ عَادُوا، اضْطِرَارًا مُكْرَهِينَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَلَا يرْتَد أحد عَنْهُ، وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَالَ: " قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا، وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شئ علما، على الله توكلنا " أَيْ فَهُوَ كَافِينَا، وَهُوَ الْعَاصِمُ لَنَا وَإِلَيْهِ ملجأنا فِي جَمِيعِ أَمْرِنَا. ثُمَّ اسْتَفْتَحَ عَلَى قَوْمِهِ، وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْجِيلِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: " رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين " أَيِ الْحَاكِمِينَ. فَدَعَا عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ لَا يَرُدُّ دُعَاء رسله إِذا انتصروه على الَّذين جحدوه وكفروه، وَرَسُوله خالفوه.   (1) ط: للحاربة. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَمَعَ هَذَا صموا على ماهم عَلَيْهِ مشتملون، وَبِه متلبسون: " وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتهم شعيبا إِنَّكُم إِذا لخاسرون ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارهم جاثمين " ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمْ رَجْفَةٌ، أَيْ رَجَفَتْ بِهِمْ أَرْضُهُمْ، وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا أزهقت أَرْوَاحهم من أجسادها، وصيرت حَيَوَان أَرضهم كجمادها، وأصبحت جثثهم جَاثِيَةً ; لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا حَرَكَاتٍ بِهَا، وَلَا حَوَاسَّ لَهَا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنواعا من العقبوبات، وصنوفا من المثلاث، وَأَشْكَالًا مِنَ الْبَلِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ قَبِيحِ الصِّفَاتِ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَجْفَةً شَدِيدَةً أَسْكَنَتِ الْحَرَكَاتِ، وَصَيْحَةً عَظِيمَةً أَخْمَدَتِ الْأَصْوَاتَ، وَظُلَّةً أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرَ النَّارِ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا وَالْجِهَاتِ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ سُورَةٍ بِمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَهَا وَيُوَافِقُ طِبَاقَهَا ; فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَعْرَافِ أَرَجَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ، وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ قَرْيَتِهِمْ، أَوْ لَيَعُودُنَّ فِي مِلَّتِهِمْ رَاجِعِينَ. فَقَالَ تَعَالَى: " فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين " [فَقَابَلَ الْإِرْجَافَ بِالرَّجْفَةِ، وَالْإِخَافَةَ بِالْخِيفَةِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا السِّيَاقِ وَمُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ السِّيَاقِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ هُودٍ: فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (1) ] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ والتنقص: " أصلوتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 إِنَّك لانت الْحَلِيم الرشيد " فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ كَالزَّجْرِ عَن تعاطى هَذَا الْكَلَام الْقَبِيح، الذى واجهوا بِهِ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ الْأَمِينَ الْفَصِيحَ، فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ (1) أَسْكَتَتْهُمْ [مَعَ رَجْفَةٍ أَسْكَنَتْهُمْ (2) ] . وَأَمَّا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: فَذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ عَذَابُ [يَوْمِ (2) ] الظلمَة، وَكَانَ ذَلِك إِجَابَة لما طلبُوا، تَقْرِيبًا إِلَى مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: " إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ ربى أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ ". قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم: " فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلمَة إِنَّه كَانَ عَذَاب يَوْم عَظِيم ". وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ [كَقَتَادَةَ (2) ] وَغَيْرِهِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: " كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيْب " وَلَمْ يَقُلْ أَخُوهُمْ كَمَا قَالَ: " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُم شعيبا ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ عَذَابَهُمْ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، وَذَكَرَ فِي أُولَئِكَ الرَّجْفَةَ أَوِ الصَّيْحَةَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْأُخُوَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " كذب أَصْحَاب   (1) ا: فَجَاءَهُمْ فِي صَيْحَة. (2) سَقَطت من. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الايكة الْمُرْسلين " لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَيْكَةِ، فَلَا يُنَاسِبُ ذِكْرُ الْأُخُوَّةِ هَاهُنَا. وَلَمَّا نَسَبَهُمْ إِلَى الْقَبِيلَةِ سَاغَ (1) ذِكْرُ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ. وَهَذَا الْفَرْقُ مِنَ النَّفَائِسِ اللَّطِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الشَّرِيفَةِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ ; فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا بِمُجَرَّدِهِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ أُمَّةٌ أُخْرَى، فَلْيَكُنْ تَعْدَادُ الِانْتِقَامِ بِالرَّجْفَةِ وَالصَّيْحَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا أُمَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الشَّأْنِ. [فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ النَّبِيِّ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيه، عَن مُعَاوِيَة ابْن هِشَام، عَن هِشَام بن سعد، عَن شفيق بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " إِنَّ قوم مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي رِجَالِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِمَّا أَصَابَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ مِنْ تِلْكَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . (2) ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْأَيْكَةِ مِنَ الْمَذَمَّةِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ مَدْيَنَ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، أُهْلِكُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَذَكَرَ فِي كل مَوضِع مَا يُنَاسب من الْخطاب. وَقَوله: " فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلمَة إِنَّه كَانَ عَذَاب يَوْم عَظِيم " ذكرُوا   (1) المطبوعة: فشاع. وَهُوَ تَحْرِيف (2) سقط من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، وَأَسْكَنَ اللَّهُ هُبُوبَ الْهَوَاءِ عَنْهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَكَانَ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَاءٌ وَلَا ظِلٌّ، وَلَا دُخُولُهُمْ فِي الْأَسْرَابِ، فَهَرَبُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فأظلتهم سَحَابَة، فَاجْتمعُوا تحتهَا ليستظطلوا بظلها، فَلَمَّا تكاملوا فِيهِ أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَزْهَقَتِ الْأَرْوَاحَ، وَخَرَّبَتِ الْأَشْبَاحَ. " فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الذى كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين " وَنَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: " وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منا، وَأخذت الذى ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لم يغنوزا فِيهَا أَلا بعد الْمَدِين كَمَا بَعدت ثَمُود " وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين " وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: " لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُم إِذا لخاسرون ". * * * ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ: أَنَّهُ نَعَاهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مُوَبِّخًا وَمُؤَنِّبًا وَمُقَرِّعًا، فَقَالَ تَعَالَى: " فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قوم كَافِرين ". أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ مُوَلِّيًا عَنْ مَحَلَّتِهِمْ بَعْدَ هلكتهم قَائِلًا: " يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْت لكم ". أَي قد أدّيت مَا كَانَ (19 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَاجِبًا عَلَيَّ مِنَ الْبَلَاغِ التَّامِّ وَالنُّصْحِ الْكَامِلِ، وَحَرَصْتُ عَلَى هِدَايَتِكُمْ بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَأَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَنْفَعْكُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يهدى من يضل ومالهم مِنْ نَاصِرِينَ. فَلَسْتُ [أَتَأَسَّفُ] (1) بَعْدَ هَذَا عَلَيْكُمْ، لِأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا تَقْبَلُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا تَخَافُونَ يَوْم الفضيحة. وَلِهَذَا قَالَ: " فَكيف آسى " [أَي أَحْزَن] (1) " على قوم كَافِرين " أَي لَا يقبلُونَ الْحق وَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ وَلَا يلتفتون إِلَيْهِ (2) فَحَلَّ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ الَّذِي لَا يرد مَا لَا يدْفع وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ أُرِيدَ بِهِ عَنهُ، وَلَا مناص عَنهُ (3) . [وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ بِمَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُبُورُهُمْ غَرْبِيَّ الْكَعْبَةِ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَدَارِ بَنِي سَهْمٍ] (4) .   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: عَلَيْهِ. (3) ط: مِنْهُ. (4) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بَاب ذكر ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم قَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهُ مَعَ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالتَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ. وَذَكَرْنَا مَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِقِصَّةِ مَدْيَنَ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهَا قَرِينَتُهَا فِي كتاب الله عزوجل فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة ; فَذكر تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ، قِصَّةَ مَدْيَنَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا (1) ; فَذَكَرْنَاهَا تَبَعًا لَهَا اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. ثُمَّ نَشْرَعُ الْآنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَفْصِيلِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بَعْدَهُ فَمن وَلَده.   (1) ا: قدمناها. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ كَانَ لِلْخَلِيلِ بَنُونَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ أَشْهَرَهُمُ الْأَخَوَانِ النَّبِيَّانِ الْعَظِيمَانِ الرَّسُولَانِ، أَسَنُّهُمَا وَأَجَلُّهُمَا: الَّذِي هُوَ الذَّبِيحُ عَلَى الصَّحِيحِ - إِسْمَاعِيلُ بِكْرُ إِبْرَاهِيمَ [الْخَلِيلِ] (1) مِنْ (2) هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنَ الْعَظِيمِ الْجَلِيل. وَمن قَالَ: إِن الذَّبِيح هُوَ إِسْحَق، فَإِنَّمَا تَلقاهُ من نقلة بنى إِسْرَائِيل الذى بدلُوا وحرفوا وَأولُوا التَّوْرَاة والانجيل، وخالفوا مَا بِأَيْدِيهِمْ فِي هَذَا مِنَ التَّنْزِيلِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ الْبِكْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْوَحِيدِ. وأياما (3) كَانَ فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بِنَصِّ الدَّلِيلِ، فَفِي نَصِّ كِتَابِهِمْ: إِنَّ إِسْمَاعِيلَ وُلِدَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعُمُرِ سِتّ وَثَمَانُونَ سنة. وَإِنَّمَا ولد إِسْحَق بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عُمُرِ الْخَلِيلِ، فَإِسْمَاعِيلُ هُوَ الْبِكْرُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ الْوَحِيدُ صُورَةً وَمَعْنًى عَلَى كُلِّ حَالَةٍ. أَمَّا فِي الصُّورَة، فُلَانُهُ كَانَ وَلَده أَزِيد من ثَلَاثَة عشر سَنَةً، وَأَمَّا أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي هَاجَرَ بِهِ أَبُوهُ وَمَعَهُ أُمُّهُ هَاجَرُ، وَكَانَ صَغِيرًا رَضِيعًا - فِيمَا قِيلَ - فَوَضَعَهُمَا فِي وِهَادِ جِبَالِ فَارَانَ، وَهِيَ الْجِبَالُ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ نِعْمَ الْمَقِيلُ، وَتَرَكَهُمَا هُنَالِكَ لَيْسَ مَعَهُمَا مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ. فَحَاطَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ فَنِعْمَ الْحَسِيبُ وَالْكَافِي وَالْوَكِيلُ وَالْكَفِيلُ.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: ابْن هَاجر. (3) ا: وَأَيّمَا كَانَ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فَهَذَا هُوَ الْوَلَدُ الْوَحِيدُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى. وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِهَذَا السِّرِّ؟ وَأَيْنَ مَنْ يَحُلُّ بِهَذَا الْمَحَلِّ؟ وَالْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ وَيُحِيطُ بِعِلْمِهِ إِلَّا كُلُّ نَبِيهٍ نَبِيلٍ! وَقَدْ أثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَوَصفه بالحلم (1) وبالصبر وَصِدْقِ الْوَعْدِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِهَا لِأَهْلِهِ لِيَقِيَهُمُ الْعَذَابَ، مَعَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من عبَادَة رب الارباب، قَالَ الله تَعَالَى: " فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله من الصابرين * (2) فطاوع أَبَاهُ على مَا إِلَيْهِ دَعَاهُ، ووعده بِأَن سيصبر، فوفى بذلك وصبر على ذَلِك. وَقَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد وَكَانَ رَسُولا نَبيا * وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا " (3) وَقَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الاخيار " (4) وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وأدخلناهم فِي رَحْمَتنَا إِنَّهُم من الصَّالِحين " (5) وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط ... الْآيَة (6) "   (1) ا: بِالْعلمِ. (2) الْآيَتَانِ 101 - 102 من سُورَة الصافات (3) الْآيَتَانِ: 54، 55 من سُورَة مَرْيَم (4) الْآيَات: 45 - 48 من سُورَة ص (5) الْآيَتَانِ: 85، 86 من سُورَة الانبياء (6) الْآيَة: 163 من سُورَة النِّسَاء (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 [وَقَالَ تَعَالَى: " قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ (1) " الْآيَةَ. وَنَظِيرَتُهَا مِنَ السُّورَةِ الْأُخْرَى (2) ] وَقَالَ تَعَالَى: " أم تَقولُونَ إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط كَانُوا هودا ونصارى، قل أأنتم أعلم أم الله (3) ... " الْآيَةَ. فَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ صِفَةٍ جَمِيلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ، وَبَرَّأَهُ مِنْ كُلِّ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَذَكَرَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ الْخَيْلَ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وُحُوشًا فَأَنَّسَهَا وَرَكِبَهَا. وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ (4) [رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) ] قَالَ: " اتَّخذُوا الْخَيل واعتقبوها (6) فَإِنَّهَا مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ ". وَكَانَتْ هَذِهِ الْعِرَابُ وحوشا (7) فَدَعَا لَهَا بِدَعْوَتِهِ الَّتِي كَانَ أُعْطِيَ فَأَجَابَتْهُ. وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ، وَكَانَ قد تعلمهَا من الْعَرَب العاربة الذى نَزَلُوا عِنْدَهُمْ بِمَكَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ وَالْعَمَالِيقِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ ; مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْخَلِيلِ. قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدثنَا أَبُو عُبَيْدَة، مسمع بن مَالك،   (1) الْآيَة: 136 من سُورَة الْبَقَرَة (2) لَيست فِي ا. (3) سُورَة الْبَقَرَة: 140 (4) ا: أَنه (5) لَيست فِي ا. (6) اعتقبوها: توارثوها. وفى المطبوعة اعتبقوها: محرفة. (7) ا: وحشا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْبَيِّنَةِ إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً "، فَقَالَ لَهُ يُونُس: صدقت يَا أَبَا سيار (1) ، هَكَذَا أَبُو جُرَيٍّ حَدَّثَنِي. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ تزوج لما شب [امْرَأَة (2) ] من العماليق، وَأَنَّ أَبَاهُ أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا فَفَارَقَهَا. قَالَ الْأُمَوِيُّ: [هِيَ (2) ] عمَارَة بنت سعد بن [أُسَامَة (2) ] ابْن أكيل العماليقى (3) . ثُمَّ نَكَحَ غَيْرَهَا فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا، فَاسْتَمَرَّ بِهَا، وَهِيَ السَّيِّدَةُ بِنْتُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ، وَقِيلَ هَذِهِ (4) ثَالِثَةٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا. وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُحَمَّدُ بن إِسْحَق رَحمَه الله [وهم (3) ] نابت، وقيذر وإزبل، وميشى، ومسمع، وماش، ودوصا، وأرر، ويطور، ونبش، وَطِيمَا، وَقَيْذُمَا. وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمُ الِاثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا الْمُبَشَّرُ بِهِمُ، الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ. وَكَذَبُوا (5) فِي تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَة وَمَا والاها ; من قبائل جزهم وَالْعَمَالِيقِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَلما حَضرته الْوَفَاة أوصى إِلَى أَخِيه إِسْحَق، وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ " نَسَمَةَ " مِنِ ابْنِ أَخِيهِ " الْعِيصِ (6) " بن إِسْحَق، فَوَلَدَتْ لَهُ الرُّومَ، وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ ; لِصُفْرَةٍ كَانَتْ فِي الْعِيصِ. وَوَلَدَتْ لَهُ الْيُونَانَ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَمِنْ وَلَدِ الْعِيصِ الْأَشْبَانُ قيل مِنْهُمَا أَيْضًا. وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.   (1) ا: يَا أَبَا سيل. (2) لَيست فِي ا (3) ا: العملاقى. (4) ا: مرّة ثَالِثَة (5) أَن تأويلهم. (6) ا: من هُوَ الْعيص بن إِسْحَق ابْن أَخِيه (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وَدفن [نبى الله (1) ] إِسْمَاعِيلُ نَبِيُّ اللَّهِ بِالْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ مَاتَ مِائَةً وَسَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: شَكَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ربه عزوجل حَرَّ مَكَّةَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنِّي سَأَفْتَحُ لَكَ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تدفن فِيهِ. يجرى عَلَيْكَ رَوْحُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَرَبُ الْحِجَازِ كلهم ينتسبون إِلَى ولديه: نابت، وقيذار.   (1) من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ذكر إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْكَرِيم بن الْكَرِيم عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ (1) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ وُلِدَ وَلِأَبِيهِ مِائَةُ سَنَةٍ، بَعْدَ أَخِيهِ إِسْمَاعِيلَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَانَ عُمُرُ أُمِّهِ سَارَّةَ حِينَ بُشِّرَتْ بِهِ تِسْعِينَ سَنَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وبشرناه بإسحق نَبيا من الصَّالِحين * وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين ". وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. وَقَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ". وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمَّا تَزَوَّجَ " رِفْقَا " بِنْتَ بتواييل (2) فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، كَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَدَعَا اللَّهَ لَهَا فَحَمَلَتْ، فَولدت غلامين توأمين: أَولهمَا اسْمه (3) " عِيصُو " وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ " الْعِيصَ "، وَهُوَ وَالِدُ الرُّومِ. وَالثَّانِي خَرَجَ وَهُوَ آخِذٌ بِعَقِبِ أَخِيهِ فَسَمَّوْهُ " يَعْقُوبَ " وَهُوَ إِسْرَائِيلُ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. قَالُوا: وَكَانَ إِسْحَاقُ يُحِبُّ عيصو أَكْثَرَ مِنْ يَعْقُوبَ ; لِأَنَّهُ بِكْرُهُ. وَكَانَتْ أُمُّهُمَا " رفقا " تحب يَعْقُوب أَكثر ; لانه الاصغر.   (1) ا: عَلَيْهِمَا السَّلَام (2) ا: ثوابل (3) ط: سموهُ (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قَالُوا: فَلَمَّا كَبِرَ إِسْحَاقُ وَضَعُفَ بَصَرُهُ اشْتَهَى عَلَى ابْنِهِ الْعِيصِ طَعَامًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَصْطَادَ لَهُ صَيْدًا وَيَطْبُخَهُ لَهُ ; لِيُبَارِكَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ لَهُ. وَكَانَ الْعِيصُ صَاحِبَ صَيْدٍ، فَذَهَبَ يَبْتَغِي ذَلِكَ، فَأَمَرَتْ " رِفْقَا " ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يذبح جديين من خِيَار غنمه، وينصع مِنْهُمَا طَعَامًا كَمَا اشْتَهَاهُ أَبُوهُ، وَيَأْتِيَ إِلَيْهِ بِهِ قبل أَخِيه ليدعو لَهُ، فَقَامَتْ فَأَلْبَسَتْهُ ثِيَابَ أَخِيهِ، وَجَعَلَتْ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَعُنُقِهِ من جلد الجلديين ; لِأَنَّ الْعِيصَ كَانَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ وَيَعْقُوبَ لَيْسَ كَذَلِك. فَلَمَّا جَاءَ بِهِ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَدُكَ (1) . فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَجَسَّهُ وَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَّا الصَّوْتُ فَصَوْتُ يَعْقُوبَ، وَأَمَّا الْجَسُّ وَالثِّيَابُ فَالْعِيصُ. فَلَمَّا أَكَلَ وَفَرَغَ دَعَا لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ إِخْوَتِهِ قَدْرًا، وَكَلِمَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الشُّعُوبِ بَعْدَهُ، وَأَنْ يَكْثُرَ رِزْقُهُ وَوَلَدُهُ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَاءَ أَخُوهُ الْعِيصُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِده فقربه إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: ماهذا يَا بنى؟ قَالَ: [هَذَا] (2) الطَّعَام الذى اشتهبته، فَقَالَ: أَمَا جِئْتَنِي بِهِ قَبْلَ السَّاعَةِ وَأَكَلْتُ مِنْهُ وَدَعَوْتُ لَكَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَعَرَفَ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَجْدًا كَثِيرًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ تَوَاعَدَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، وَسَأَلَ أَبَاهُ فَدَعَا لَهُ بِدَعْوَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَجْعَلَ لِذُرِّيَّتِهِ غيظ الْأَرْضِ، وَأَنْ يُكْثِرَ أَرْزَاقَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهُمَا مَا يَتَوَاعَدُ بِهِ الْعِيصُ أَخَاهُ يَعْقُوبَ، أَمَرَتِ ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَخِيهَا " لابان (3) " الذى بِأَرْض حران، وَأَن يكون   (1) ا: وَلذَلِك (2) لَيست فِي ا. (3) ا: الا بَان. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 عِنْده إِلَى حِين يسكن غضب أَخِيه، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِهِ. وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا إِسْحَاقَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَيُوصِيَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ، فَفَعَلَ. فَخرج يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام من عِنْدهم من آخِرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَأَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي مَوْضِعٍ فَنَامَ فِيهِ، وَأخذ حَجَرًا فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَنَامَ، فَرَأَى فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ مِعْرَاجًا مَنْصُوبًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى لارض، وَإِذَا الْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ فِيهِ وَيَنْزِلُونَ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خاطبه، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي سَأُبَارِكُ عَلَيْكَ وَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ، وَأَجْعَلُ لَكَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ. فَلَمَّا هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ فَرِحَ بِمَا رَأَى، وَنذر لله لئمن رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا لَيَبْنِيَنَّ فِي هَذَا الْموضع معبدًا لله عزوجل وَأَن جَمِيع مَا يرزقه من شئ يَكُونُ لِلَّهِ عُشْرُهُ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ دُهْنًا يَتَعَرَّفُهُ بِهِ، وَسَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ: " بَيْتَ إِيلَ " أَيْ بَيْتَ اللَّهِ. وَهُوَ مَوْضِعُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ الَّذِي بَنَاهُ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. قَالُوا: فَلَمَّا قَدِمَ يَعْقُوبُ عَلَى خَالِهِ أَرْضَ حَرَّانَ، إِذَا لَهُ ابْنَتَانِ: اسْمُ الْكُبْرَى: " لَيَا " وَاسْمُ الصُّغْرَى: " رَاحِيلَ " وَكَانَتْ أَحْسَنَهُمَا وَأَجْمَلَهُمَا، فَأَجَابَهُ (1) إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْعَى عَلَى غَنَمِهِ سَبْعَ سِنِينَ. فَلَمَّا مَضَت الْمدَّة على خَاله " لابان " صنع طَعَامًا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَزَفَّ إِلَيْهِ [لَيْلًا (2) ] ابْنَته الْكُبْرَى " ليا "، وَكَانَت ضَعِيفَة الْعَينَيْنِ   (1) كَذَا وَلَعَلَّ فِيهَا سقطا: فَطلب يَعْقُوب من خَاله أَن يُزَوجهُ راحيل. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ يَعْقُوبُ إِذَا هِيَ " لَيَا "، فَقَالَ لِخَالِهِ: لِمَ غَدَرْتَ بِي؟ وَأَنْتَ إِنَّمَا خَطَبْتُ إِلَيْكَ رَاحِيلَ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِنَا أَنْ نُزَوِّجَ الصُّغْرَى قَبْلَ الْكُبْرَى (1) ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أُخْتَهَا فَاعْمَلْ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى وأزواجكها. فَعمل سبّ سِنِينَ وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ مَعَ أُخْتِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ. وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ كَافٍ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ لِأَنَّ فِعْلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا وَإِبَاحَتِهِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ. وَوَهَبَ " لَابَانُ " لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنِ ابْنَتَيْهِ جَارِيَةً ; فَوَهَبَ لليا جَارِيَة اسْمهَا: " زلفى "، ووهب لراحيل جَارِيَة اسْمهَا: " بلهى ". وَجَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ضَعْفَ " لَيَا " بِأَنْ وَهَبَ لَهَا أَوْلَادًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَدَتْ لِيَعْقُوبَ، رُوبِيلُ، ثُمَّ شَمْعُونُ، ثُمَّ لَاوِي، ثُمَّ يَهُوذَا. فَغَارَتْ عِنْدَ ذَلِكَ " رَاحِيلُ " وَكَانَتْ لَا تَحْبَلُ، فَوهبت ليعقوب جاريتها " بلهى " فَوَطِئَهَا فَحملت، وَولدت لَهُ غُلَاما سمعته " دَان "، وحملت وَولدت غُلَاما آخر سمته " نيفتالى ". فعمدت عِنْد ذَلِك " ليا " فَوهبت جاريتها " زلفى " مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَلَدَتْ لَهُ: جَادَ وَأَشِيرَ، غُلَامَيْنِ ذَكَرَيْنِ ثُمَّ حَمَلَتْ " لَيَا " أَيْضًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا خَامِسًا مِنْهَا وَسَمَّتْهُ " أَيْسَاخَرَ " (2) ثُمَّ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا سَادِسًا سَمَّتْهُ " زَابِلُونَ ". ثُمَّ حملت وَولدت بِنْتا سمتها " دِينَار " (2) فَصَارَ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ يَعْقُوبَ. ثُمَّ دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى " رَاحِيلُ " وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَاما من يَعْقُوب   (1) ا: على الْكُبْرَى. (2) ا: دنيا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فَسَمِعَ اللَّهُ نِدَاءَهَا وَأَجَابَ دُعَاءَهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا عَظِيمًا شَرِيفًا حَسَنًا جَمِيلًا سَمَّتْهُ " يُوسُفَ ". كُلُّ هَذَا وَهُمْ مُقِيمُونَ بِأَرْضِ حَرَّانَ، وَهُوَ يَرْعَى عَلَى خَالِهِ غَنَمَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ عَلَى الْبِنْتَيْنِ سِتَّ سِنِينَ أُخْرَى، فَصَارَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِشْرِينَ سَنَةً. فَطَلَبَ يَعْقُوبُ مِنْ خَالِهِ " لَابَانَ " أَنْ يُسَرِّحَهُ لِيَمُرَّ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لَهُ خَالُهُ: إِنِّي قَدْ بُورِكَ لِي بِسَبَبِكَ فَسَلْنِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: تُعْطِينِي كُلَّ حَمَلٍ يُولَدُ مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبْقَعَ، (1) وَكُلَّ حَمَلٍ ملمع أَبيض سَواد، وَكُلَّ أَمْلَحَ (2) بِبَيَاضٍ، وَكُلَّ أَجْلَحَ (3) أَبْيَضَ مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَمَدَ بَنُوهُ فَأَبْرَزُوا مِنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ من التيوس، لِئَلَّا يُولد شئ مِنَ الْحُمْلَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَسَارُوا بِهَا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ. قَالُوا: فَعَمَدَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قُضْبَانٍ رَطْبَةٍ بيض من لوز ولب (4) ، فَكَانَ يقشرها بلقا، وينصبها فِي مساقى الْغنم من الْمِيَاه، لتنظر الْغَنَمُ إِلَيْهَا فَتَفْزَعَ وَتَتَحَرَّكَ أَوْلَادُهَا فِي بُطُونِهَا، فَتَصِيرَ أَلْوَانُ حُمْلَانِهَا كَذَلِكَ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ الْمُعْجِزَاتِ.   (1) الابقع: مَا فِيهِ سَواد وَبَيَاض. (2) الاملح: مَا يخالطه بياضه سَواد (3) الاجلح: مالاقرن لَهُ (4) ا: ودلب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فَصَارَ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ وَدَوَابُّ وَعَبِيدٌ، وَتَغَيَّرَ لَهُ وَجْهُ خَالِهِ وَبَنِيهِ، وَكَأَنَّهُمُ انْحَصَرُوا مِنْهُ. وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَعْقُوبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ، وَوَعَدَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ، فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهِ فَأَجَابُوهُ مُبَادِرِينَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَسَرَقَتْ رَاحِيلُ أَصْنَامَ أَبِيهَا. فَلَمَّا جَاوَزُوا وَتَحَيَّزُوا عَنْ بِلَادِهِمْ، لِحَقَهُمْ " لَابَانُ " وَقَوْمُهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لابان بِيَعْقُوب عاتبه فِي خُرُوجه بِغَيْر علمه، وهلا أعلمهُ (1) فيخرجهم فِي فَرح ومزاهر وَطُبُولٍ، وَحَتَّى يُوَدِّعَ بَنَاتِهِ وَأَوْلَادَهُنَّ، وَلِمَ أَخَذُوا أَصْنَامَهُ مَعَهُمْ؟ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ يَعْقُوبَ عِلْمٌ مِنْ أَصْنَامِهِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَخَذُوا لَهُ أَصْنَامًا، فَدَخَلَ بُيُوتَ بَنَاتِهِ وَإِمَائِهِنَّ يُفَتِّشُ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، وَكَانَتْ رَاحِيلُ قَدْ جَعَلَتْهُنَّ فِي برذعة الْجَمَلِ وَهِيَ (2) تَحْتَهَا، فَلَمْ تَقُمْ، وَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا طَامِثٌ. فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِنَّ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَاثَقُوا عَلَى رَابِيَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا " جَلْعَادُ " عَلَى أَنَّهُ لَا يُهِينُ بَنَاتِهِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يُجَاوِزُ هَذِهِ الرَّابِيَةَ إِلَى بِلَادِ الْآخَرِ، لَا لَابَانُ وَلَا يَعْقُوبُ، وَعَمِلَا طَعَامًا وَأَكَلَ الْقَوْمُ مَعَهُمْ وَتَوَدَّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ. وَتَفَارَقُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ يَعْقُوبُ من أَرض " ساعير " تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَة يُبَشِّرُونَهُ   (1) ا: أعلهم. (2) ا: وَهن. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 [بِالْقُدُومِ (1) ] . وَبَعَثَ يَعْقُوبُ الْبُرُدَ إِلَى أَخِيهِ الْعِيصُو يترفق لَهُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ. فَرَجَعَتِ الْبُرُدُ وَأَخْبَرَتْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ الْعِيصَ قَدْ رَكِبَ إِلَيْكَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ. فَخَشِيَ يَعْقُوبُ مِنْ ذَلِكَ، وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلَّى لَهُ، وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ وَتَمَسْكَنَ لَدَيْهِ، وَنَاشَدَهُ عَهْدَهُ وَوَعْدَهُ الَّذِي وَعَدَهُ بِهِ. وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ شَرَّ أَخِيهِ الْعِيصَ. وَأَعَدَّ لِأَخِيهِ هَدِيَّةً عَظِيمَةً وَهِيَ: مِائَتَا شَاةٍ، وَعِشْرُونَ تَيْسًا [وَمِائَتَا نَعْجَةٍ، وَعِشْرُونَ كَبْشًا، وَثَلَاثُونَ لِقْحَةً (2) ، وَأَرْبَعُونَ بَقَرَةً، وَعَشَرَةٌ مِنَ الثِّيرَانِ (3) ] وَعِشْرُونَ أَتَانًا وَعَشَرَةٌ مِنَ الْحُمُرِ. وَأَمَرَ عَبِيدَهُ أَنْ يَسُوقُوا كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَحْدَهُ. وَلْيَكُنْ بَيْنَ كُلِّ قَطِيعٍ وَقَطِيعٍ مَسَافَةٌ، فَإِذَا لَقِيَهُمُ الْعِيصُ فَقَالَ لِلْأَوَّلِ لِمَنْ أَنْتَ؟ وَلِمَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ فَلْيَقُلْ: لِعَبْدِكَ يَعْقُوبَ، أَهْدَاهَا لِسَيِّدِي الْعِيصَ وَليقل الذى بعده كَذَلِك [وَكَذَلِكَ الَّذِي بَعْدَهُ (4) ] وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ: وَهُوَ جَاءَ بَعْدَنَا. وَتَأَخَّرَ يَعْقُوبُ بِزَوْجَتَيْهِ وَأَمَتَيْهِ وَبَنِيهِ الْأَحَدَ عَشَرَ بَعْدَ الْكُلِّ بِلَيْلَتَيْنِ، وَجَعَلَ يَسِيرُ فِيهِمَا لَيْلًا وَيَكْمُنُ نَهَارًا. فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ، تَبَدَّى لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَظَنَّهُ يَعْقُوبُ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ، فَأَتَاهُ [يَعْقُوبُ (3) ] لِيُصَارِعَهُ وَيُغَالِبَهُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ فِيمَا يُرَى، إِلَّا أَنَّ الْمَلَكَ أَصَابَ وَرِكَهُ فَعَرَجَ يَعْقُوبُ. فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعْقُوبُ. قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْعَى بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَّا إِسْرَائِيلُ. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ وَمَا اسْمُكَ؟ فَذَهَبَ عَنْهُ. فَعلم أَنه ملك من   (1) لَيست فِي ا (2) اللقحة: النَّاقة الحلوب. (3) سَقَطت من ا (4) من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الْمَلَائِكَةِ، وَأَصْبَحَ يَعْقُوبُ وَهُوَ يَعْرُجُ مِنْ رِجْلِهِ. فَلذَلِك لَا يَأْكُل بَنو إِسْرَائِيل عرق النِّسَاء! وَرفع يَعْقُوب عَيْنَيْهِ فَإِذا أَخُوهُ عيصو قَدْ أَقْبَلَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ أَهله. فَلَمَّا أرى أَخَاهُ الْعِيصَ سَجَدَ لَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ تَحِيَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَكَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ ; كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ لِآدَمَ تَحِيَّةً [لَهُ (1) ] وَكَمَا سَجَدَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَأَبَوَاهُ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي. فَلَمَّا رَآهُ الْعِيصُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاحْتَضَنَهُ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، وَرَفَعَ الْعِيصُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَهَبَ اللَّهُ لِعَبْدِكَ، فَدَنَتِ الْأَمَتَانِ وَبَنُوهُمَا فَسَجَدُوا لَهُ. وَدَنَتْ " لِيَا " وَبَنُوهَا فسجدوا لَهُ. وَدنت " راحيل " وَابْنهَا يُوسُف فخرا سجدا لَهُ. وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا. وَرَجَعَ الْعِيصُ فَتَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَلَحِقَهُ يَعْقُوبُ بِأَهْلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي وَالْعَبِيد قَاصِدين جبال " ساعير ". فَلَمَّا مر بساحور ابتنى لَهُ بَيْتا، ولدُوا بِهِ ضلالا، ثمَّ مر على أورشليم قَرْيَة شخيم فَنزل قبل (2) الْقرْيَة، وَاشْترى مزرعة شخيم ابْن جمور بِمِائَةِ نَعْجَةٍ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ فُسْطَاطَهُ، وَابْتَنَى ثَمَّ مَذْبَحًا فَسَمَّاهُ " إِيلَ " إِلَهَ إِسْرَائِيلَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَائِهِ لِيَسْتَعْلِنَ لَهُ فِيهِ. وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ، الَّذِي جَدَّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: وَهُوَ مَكَانُ الصَّخْرَةِ الَّتِي علمهَا بِوَضْعِ الدُّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا أَولا.   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: قبلى الْقرْيَة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ هُنَا قِصَّةَ " دِينَا " بِنْتِ يَعْقُوب بنت " ليا " وَمَا كَانَ من أمرهَا مَعَ شخيم بن جمور الَّذِي قَهَرَهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ ثُمَّ خطبهَا من أَبِيهَا وإخوتها، فَقَالَ إخوتها إِلَّا أَنْ تَخْتَتِنُوا كُلُّكُمْ فَنُصَاهِرَكُمْ وَتُصَاهِرُونَا، فَإِنَّا لَا نصاحر قَوْمًا غُلْفًا، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاخْتَتَنُوا كُلُّهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُمْ مِنْ أَلَمِ الْخِتَانِ، مَالَ عَلَيْهِمْ بَنُو يَعْقُوبَ فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم، وَقتلُوا شخيما وأباه جمور لِقَبِيحِ مَا صَنَعُوا إِلَيْهِمْ، مُضَافًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، فَلِهَذَا قَتَلَهُمْ بَنو يَعْقُوب وَأخذُوا أَمْوَالهم غنيمَة. ثمَّ حملت راحيل فَولدت غُلَاما هُوَ " بِنْيَامِينُ " إِلَّا أَنَّهَا جَهَدَتْ فِي طَلْقِهَا [بِهِ (1) ] جَهْدًا [شَدِيدًا (1) ] وَمَاتَتْ عَقِيبَهُ، فَدَفَنَهَا يَعْقُوبُ فِي " أَفَرَاثٍ ". وَهِيَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَصَنَعَ يَعْقُوبُ عَلَى قَبْرِهَا حَجَرًا، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِقَبْرِ رَاحِيلَ إِلَى الْيَوْمِ. وَكَانَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ الذُّكُورُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. فَمِنْ لَيَا: رُوبِيلُ، وَشَمْعَونُ، وَلَاوِي، ويهودا، وَأَيْسَاخَرُ (2) ، وَزَابِلُونَ. وَمِنْ رَاحِيلَ: يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ. وَمِنْ أمة راحيل: دَان، ونفتالى. وَمِنْ أَمَةِ لَيَا: جَادٌ (3) وَأَشِيرُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَجَاءَ يَعْقُوبُ إِلَى أَبِيهِ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ حَيْثُ كَانَ يَسْكُنُ إِبْرَاهِيمُ. ثُمَّ مَرِضَ إِسْحَاقُ وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً: وَدَفَنَهُ ابْنَاهُ: الْعِيصُ وَيَعْقُوبُ مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي الْمَغَارَةِ الَّتِى اشْتَرَاهَا (4) . كَمَا قدمنَا.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: وأشاخر (3) ا: حاذ (4) هَذَا الْخَبَر الطَّوِيل عَن يَعْقُوب وأخيه، مروى عَن أهل الْكتاب، وَلَيْسَ فِي الاخبار الاسلامية تعرض لَهُ. (م 20 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ذِكْرُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ فِي حَيَاة إِسْرَائِيل فَمن ذَلِك: قصَّة يُوسُف بن راحيل وَقد أنزل الله عزوجل فِي شَأْنِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِيُتَدَبَّرَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَالْأَمْرِ الْحَكِيمِ. أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين ". قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة، فَمن أَرَادَ تَحْقِيقه فلينظره ثمَّ، وتكلمنا عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَقْصًى فِي مَوْضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا نُبَذًا مِمَّا هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالنَّجَازِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّهُ تَعَالَى يَمْدَحُ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، بَيِّنٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ، يَفْهَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ ذَكِيٍّ [زَكِيٍّ. فَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَنْزَلَهُ أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلْقِ (1) ] فِي أَشْرَفِ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، بِأَفْصَحِ لُغَةٍ وَأَظْهَرِ بَيَان.   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ فِي الْأَخْبَارِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْآتِيَةِ ذَكَرَ أَحْسَنَهَا وَأَبْيَنَهَا، وَأَظْهَرَ الْحَقَّ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَدَمَغَ الْبَاطِلَ وَزَيَّفَهُ وَرَدَّهُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَأَعْدَلُ الشَّرَائِعِ وَأَوْضَحُ الْمَنَاهِجِ، وَأَبْيَنُ حُكْمًا (1) وَأَعْدَلُ حَكَمًا. فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا (2) ". يعْنى صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين " أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فِيهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامور (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة حملا (4) ". يَعْنِي مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ وَاتَّبَعَ غَيره من الْكتب فَإِنَّهُ يَنَالهُ   (1) ا: حلما. (2) من الْآيَة: 115 من سُورَة الانعام. (3) آخرو سُورَة الشورى (4) الْآيَات: 99 - 11 من سُورَة طه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 هَذَا الْوَعِيدُ. كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: " مَنِ ابْتَغَى (1) الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ " وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ (2) بْنُ النُّعْمَانِ، حَدثنَا هِشَام، أَنبأَنَا خَالِد عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَغَضب وَقَالَ: " أتتهوكون (3) فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاء نقية، لَا تسألوهم عَن شئ فيخبروكم بِحَق فتكذبونه أَو بباطل فتصدقونه، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ". إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عمر وَفِيهِ: " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ". وَقَدْ أَوْرَدْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ. وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلم وخواتيمه، وَاخْتصرَ لى اختصارا، وَقد أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ ". ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصَّحِيفَةِ فَمُحِيَتْ حرفا حرفا.   (1) ا: اتبع. (2) ا: جريج. (3) تتهوكون: تتحيرون أَو تتهورون. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 " إِذْ قَالَ يُوسُف لابيه يَا أبث إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتهمْ لى ساجدين * قَالَ يَا بنى لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا، إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يحتبيك رَبك ويعلمك من تَأْوِيل الاحاديث، يتم نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْك من قبل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق إِن رَبك عليم حَكِيم " قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ لَهُ مِنَ الْبَنِينَ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا [ذَكَرًا] (1) وَسَمَّيْنَاهُمْ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ، وَكَانَ أَشْرَفُهُمْ وَأَجَلُّهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ غَيْرُهُ، وَبَاقِي إِخْوَتِهِ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ. وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ فِعَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ (2) يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط " وَزعم أَن هؤلاءهم الْأَسْبَاطُ فَلَيْسَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوِيٍّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ شُعُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاء (3) وَالله أعلم. وَمَا يُؤَيِّدُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمُخْتَصُّ من بَين إخْوَته بالرسالة والنبوة - أَنه [مَا (3) ] نَص عَلَى وَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ سِوَاهُ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكرْنَاهُ   (1) لَيست فِي ا. (2) يُرِيد الْخَبَر الْمُتَقَدّم عَن إِسْحَق والعيص. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم ". انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. فَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَبْدَةَ عَنْ عبد الصَّمد ابْن عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَهُ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم بِمَا أغْنى عَن إِعَادَته هُنَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ: رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ، كَأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى بَقِيَّة إخْوَته، وَالشَّمْس وَالْقَمَر وهما عِبَارَةٌ عَنْ أَبَوَيْهِ، قَدْ سَجَدُوا لَهُ، فَهَالَهُ ذَلِكَ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ، فَعَرَفَ أَبُوهُ أَنَّهُ سَيَنَالُ مَنْزِلَةً عَالِيَةً وَرِفْعَةً عَظِيمَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَته فِيهَا. فَأمره يكتمانها وَأَنْ لَا يَقُصَّهَا عَلَى إِخْوَتِهِ ; كَيْلَا (1) يَحْسُدُوهُ وَيَبْغُوا لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَكِيدُوهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ [وَالْمَكْرِ] (2) . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ (3) . وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: " اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِكِتْمَانِهَا، فَإِن كَانَ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعًا. وَهُوَ غَلَطٌ [مِنْهُم] (4) .   (1) ا: لِئَلَّا. (2) لَيست فِي ا. (3) يُرِيد عدم نبوتهم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 " وَكَذَلِكَ يجتبيك رَبك " أَيْ وَكَمَا أَرَاكَ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْعَظِيمَةَ، فَإِذَا كتمتها " يجتبيك رَبك " أَيْ يَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيل الاحاديث " أَيْ يُفَهِّمُكَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ وَتَعْبِيرِ الْمَنَامِ مَا لَا يفهمهُ غَيْرك. وَيتم نعْمَته عَلَيْك " أَي بالوحى إِلَيْك " وعَلى آل يَعْقُوب " أَيْ بِسَبَبِكَ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِكَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. " كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق " أَيْ يُنْعِمُ عَلَيْكَ وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ، كَمَا أَعْطَاهَا أَبَاك يَعْقُوب، وَجدك إِسْحَق، وَوَالِدَ جَدِّكَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، " إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم " كَمَا قَالَ تَعَالَى: " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسَالَته ". لهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: " يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بن ظهير - وَقد ضعفه الائمة - عَمَّن السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: بُسْتَانَةُ الْيَهُودِيُّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ أَنَّهَا سَاجِدَةٌ لَهُ مَا أَسْمَاؤُهَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلم يجبهُ بشئ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَسْمَائِهَا، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: " هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمَائِهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هِيَ جَرَيَان والطارق، وَالذَّيَّال، وَذُو الكتفان، وَقَابِس، وَوَثَّاب، وَعَمُودَان (1) وَالْفَيْلَق، وَالْمصْبح، وَالضَّرُوح، وَذُو الْفَرْع. والضياء والنور ".   (1) ط: عمر دَان. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: [إِي (1) ] وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا. وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى: فَلَمَّا قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مُشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ، وَالشَّمْسُ أَبُوهُ وَالْقَمَرُ أُمُّهُ. * * * " لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بعض السيارة إِن كُنْتُم فاعلين ". يُنَبه تَعَالَى على مَا فِي هَذِه الْقِصَّة من الْآيَات وَالْحكم، والدلالات والمواعظ والبينات (2) . ثمَّ ذكر حسد إخْوَة يُوسُف لَهُ على محبَّة أَبِيه لَهُ ولاخيه - يعنون شقيقه لامه بنيامين - أَكثر مِنْهُم، وهم عصبَة أَي جمَاعَة يَقُولُونَ: فَكُنَّا نَحن أَحَق بالمحبة من هذَيْن " إِن أَبَانَا لفى ضلال مُبين " أَيْ بِتَقْدِيمِهِ حُبَّهُمَا عَلَيْنَا. ثُمَّ اشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ يُوسُفَ أَوْ إِبْعَادِهِ إِلَى أَرْضٍ لَا يَرْجِعُ (3) مِنْهَا، لِيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِم أَيْ لِتَتَمَحَّضَ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ بَعْدَ (4) ذَلِكَ. فَلَمَّا تَمَالَأُوا عَلَى ذَلِكَ وتوافقوا عَلَيْهِ " قَالَ قَائِل مِنْهُم " قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ يهوذا، وَقَالَ قَتَادَة وَمُحَمّد بن إِسْحَق: هُوَ أَكْبَرُهُمْ رُوبِيلُ: " لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غيابة الْجب يلتقطه   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: وَالْبَيَان. (3) ا: لَا مرجع فِيهَا. (4) ا: على ذَلِك. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 بعض السيارة " أَيِ الْمَارَّةِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ " إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " مَا تَقُولُونَ لَا مَحَالَةَ، فَلْيَكُنْ هَذَا الَّذِي أَقُولُ لَكُمْ، فَهُوَ أَقْرَبُ حَالًا مِنْ قَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ وَتَغْرِيبِهِ. فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى هَذَا، فَعِنْدَ ذَلِك " قَالُوا يَا أَبَانَا مَالك لَا تأمنا على يُوسُف وَإِنَّا لَهُ الناصحون * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون * قَالَ إنى ليحزني أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنحن عصبَة إِنَّا إِذا لخاسرون ". طَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ أَنْ يُرْسِلُ مَعَهُمْ أَخَاهُمْ يُوسُفَ، وَأَظْهَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَرْعَى مَعَهُمْ، وَأَنْ يَلْعَبَ وَيَنْبَسِطَ، وَقَدْ أَضْمَرُوا لَهُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ. فَأَجَابَهُمُ الشَّيْخُ، عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ: يَا بَنِيَّ يَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ أُفَارِقَهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَمَعَ هَذَا أَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا فِي لَعِبِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ (1) ، فَيَأْتِيَ الذِّئْبُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَغَفْلَتِكُمْ عَنْهُ ". " قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذا لخاسرون " أَيْ لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا، أَوِ اشْتَغَلْنَا عَنْهُ حَتَّى وَقَعَ هَذَا وَنحن جمَاعَة، إِنَّا إِذا لخاسرون، أَيْ عَاجِزُونَ هَالِكُونَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَرَاءَهُمْ يَتْبَعُهُمْ، فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ حَتَّى أَرْشَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ غَلَطِهِمْ وخطئهم فِي التَّغْرِيب ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَحْرَصَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعَهُمْ، فَكَيْفَ يَبْعَثُهُ وَحْدَهُ.   (1) ا: عَلَيْهِ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ". لَمْ يَزَالُوا بِأَبِيهِمْ حَتَّى بَعَثَهُ مَعَهُمْ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنَيْهِ (1) ، فَجَعَلُوا يَشْتُمُونَهُ وَيُهِينُونَهُ بِالْفَعَالِ وَالْمَقَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، أَيْ فِي قَعْرِهِ عَلَى رَاعُوفَتِهِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي وَسَطِهِ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمَائِحُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ لِيَمْلَأَ الدِّلَاءَ إِذَا قَلَّ الْمَاءُ، وَالَّذِي يَرْفَعُهَا بِالْحَبْلِ يُسَمَّى الْمَاتِحَ. فَلَمَّا أَلْقَوْهُ فِيهِ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنه لابد لَكَ مِنْ فَرَجٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ أَنْتَ فِيهَا عَزِيزٌ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْك خائفون مِنْك، " وهم لَا يَشْعُرُونَ ". قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: وهم لَا يَشْعُرُونَ بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وهم لَا يَشْعُرُونَ " أَيْ لَتُخْبِرَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ لَا يَعْرِفُونَكَ فِيهَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ. فَلَمَّا وَضَعُوهُ فِيهِ وَرَجَعُوا عَنْهُ، أَخَذُوا قَمِيصَهُ فَلَطَّخُوهُ بشئ مِنْ دَمٍ، وَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ عِشَاءً وَهُمْ يَبْكُونَ، أَيْ عَلَى أَخِيهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَغُرَنَّكَ بُكَاءُ الْمُتَظَلِّمِ فَرُبَّ ظَالِمٍ وَهُوَ باك! وَذكر بكاء إخْوَة   (1) ا: عينه (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يُوسُفَ وَقَدْ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، أَيْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ ; لِيَكُونَ أَمْشَى لِغَدْرِهِمْ لَا لِعُذْرِهِمْ. " قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا " أَي ثيابنا " فَأَكله الذِّئْب " أَيْ فِي غَيْبَتِنَا عَنْهُ فِي اسْتِبَاقِنَا. وَقَوْلُهُمْ " وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ " أَي وَمَا أَنْت بمصدق لمنا فِي الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ مِنْ (1) أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ عِنْدَكَ. فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي هَذَا؟ فَإِنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَضَمِنَّا لَكَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِكَثْرَتِنَا حَوْلَهُ، فَصِرْنَا غَيْرَ مُصَدَّقِينَ عِنْدَكَ، فَمَعْذُورٌ أَنْتَ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِكَ لَنَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ. " وَجَاءُوا على قَمِيصه يدم كذب " أَيْ مَكْذُوبٍ مُفْتَعَلٍ ; لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى سَخْلَةٍ (2) ذَبَحُوهَا، فَأَخَذُوا مِنْ دَمِهَا فَوَضَعُوهُ عَلَى قَمِيصِهِ، ليوهموه أَن أَكَلَهُ الذِّئْبُ. قَالُوا: وَنَسُوا أَنْ يَخْرِقُوهُ، وَآفَةُ الْكَذِبِ النِّسْيَانُ! وَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عَلَائِمُ الرِّيبَةِ لَمْ يَرُجْ صَنِيعُهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ ; فَإِنَّهُ كَانَ يفهم عداوتم لَهُ، وَحَسَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، لِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ (3) الْجَلَالَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهَ أَنْ يَخُصَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ. وَلِمَا رَاوَدُوهُ عَنْ أَخْذِهِ فَبِمُجَرَّدِ مَا أَخَذُوهُ أعدموه، وغيبوه عَن عَيْنَيْهِ وَجَاءُوا وهم يتباكون، وعَلى مَا تمالاوا يتواطاون. وَلِهَذَا " قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ * وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ".   (1) ا: فِي (2) السخلة: ولد الشَّاة (3) امن المهابة وَالْجَلالَة (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ رُوبِيلَ أَشَارَ بِوَضْعِهِ فِي الْجُبِّ لِيَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَردهُ إِلَى أَبِيه، فغافلوه وباعوه لتكل الْقَافِلَة. فَلَمَّا جَاءَ روبيل آخِرِ النَّهَارِ لِيُخْرِجَ يُوسُفَ لَمْ يَجِدْهُ، فَصَاحَ وشق ثِيَابه، وَعَمَدَ أُولَئِكَ إِلَى جَدْيٍ فَذَبَحُوهُ، وَلَطَّخُوا مِنْ دَمِهِ جُبَّةَ يُوسُفَ، فَلَمَّا عَلِمَ يَعْقُوبُ شَقَّ ثِيَابَهُ، وَلَبِسَ مِئْزَرًا أَسْوَدَ وَحَزِنَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً. وَهَذِهِ الرَّكَاكَةُ جَاءَتْ مِنْ خَطَئِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَالتَّصْوِيرِ. * * * " وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فأدلى دلوه قَالَ يَا بشرى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ * وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نجزى الْمُحْسِنِينَ " يخبر تَعَالَى عَن قصَّة يُوسُف حِين وضع فِي الْجب: أَنه جليس ينْتَظر فرج الله ولطفه بِهِ، فَجَاءَت سيارة، أَيْ مُسَافِرُونَ. قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: كَانَتْ بِضَاعَتُهُمْ من (1) الفتسق وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ (2) قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ مِنَ الشَّامِ، فَأَرْسَلُوا بَعْضَهُمْ لِيَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَلَمَّا أَدْلَى أَحَدُهُمْ دَلْوَهُ تَعَلَّقَ فِيهِ يُوسُفُ. فَلَمَّا رَآهُ ذَلِك الرجل " قَالَ يَا بشرى " أَي يَا بشارتى " هَذَا غُلَام   (1) ط: فِي. (2) البطم: الْحبَّة الخضراء. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وأسروه بضَاعَة " أَي أوهموا أَنه مَعَهم غُلَام مِنْ جُمْلَةِ مَتْجَرِهِمْ " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ، وَبِمَا يُسِرُّهُ وَاجِدُوهُ مِنْ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ لَهُمْ. وَمَعَ هَذَا لَا يُغَيِّرُهُ تَعَالَى، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ وَالرَّحْمَة بِأَهْل مِصْرَ ; بِمَا (1) يُجْرِي اللَّهُ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي يَدْخُلُهَا فِي صُورَةِ أَسِيرٍ رَقِيقٍ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُمَلِّكُهُ أَزِمَّةِ الْأُمُورِ وَيَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، بِمَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ. وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِأخذ السيارة لَهُ لحقوقهم، وَقَالُوا هَذَا غُلَامُنَا أَبِقَ مِنَّا، فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، أَيْ قَلِيلٍ نَزْرٍ، وَقِيلَ هُوَ الزيف " دَرَاهِم مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ من لزاهدين ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَنَوْفٌ الْبِكَالِيُّ (2) وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، اقتسموها دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُحَمّد بن إِسْحَق: أَرْبَعُونَ درهما. وَالله أَعْلَمُ. " وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أكرمي مثواه [أَيْ أَحْسِنِي إِلَيْهِ (3) ] " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نتخذه ولدا "، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَهِّلَهُ لَهُ (4) وَيُعْطِيَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَزِيزَهَا وَهُوَ الْوَزِيرُ بهَا،   (1) ا: فِيمَا. (2) هُوَ أَبُو زيد نوف بن فضاله البكالى. وَهُوَ ابْن امْرَأَة كَعْب الاحبار. تَابِعِيّ. اللّبَاب 1 / 137. (3) لَيست فِي ا. (4) ا: لذَلِك. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الذى الخزائن مسلمة إِلَيْهِ. قَالَ ابْن إِسْحَق: واسْمه إطفير ابْن روحيب قَالَ: وَكَانَ ملك مصر يَوْمئِذٍ الربان بْنَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ. قَالَ: وَاسْمُ امْرَأَة الْعَزِيز: " راعيل " بنت رعاييل. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ اسْمُهَا " زَلِيخَا " وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبُهَا. وَقِيلَ " فَكَا " بِنْتُ يَنُوسَ (1) ، رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَن ابْن هِشَام الرِّفَاعِي. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمصْر - يعْنى الذى جلبه إِلَيْهَا - مَالك ابْن زعر بن نويب بْنِ عَفْقَا بْنِ مِدْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. فَاللَّهُ أعلم. وَقَالَ ابْن إِسْحَق عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لامْرَأَته: " أكرمي مثواه "، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى: " يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الامين "، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ثُمَّ قِيلَ: اشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ بِوَزْنِهِ مِسْكًا وَوَزْنِهِ حَرِيرًا وَوَزْنِهِ وَرِقًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: " وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الارض " أَيْ وَكَمَا قَيَّضْنَا هَذَا الْعَزِيزَ وَامْرَأَتَهُ يُحْسِنَانِ إِلَيْهِ وَيَعْتَنِيَانِ بِهِ مَكَّنَّا لَهُ فِي أَرْضِ مصر " ولنعلمه من تَأْوِيل الاحاديث " أَيْ فَهْمِهَا، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِنْ ذَلِكَ. " وَاللَّهُ غَالب على أمره " أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابًا وَأُمُورًا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعِبَادُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.   (1) ا: بنت موسن. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نجزى الْمُحْسِنِينَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ وَهُوَ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْأَرْبَعِينَ الَّذِي يُوحِي اللَّهُ فِيهِ إِلَى عِبَادِهِ النَّبِيِّينَ، عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ: فَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ الْحُلُمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة ". * * * " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ، وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ، قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لذنبك إِنَّك كنت من الخاطئين " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نَفْسِهِ وَطَلَبِهَا مِنْهُ مَالا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْمَالِ. وَالْمَنْصِبِ وَالشَّبَابِ. وَكَيْفَ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ، وَتَهَيَّأَتْ لَهُ وَتَصَنَّعَتْ، وَلَبِسَتْ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَأَفْخَرَ لِبَاسِهَا، وَهِيَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ امْرَأَةُ الْوَزير. قَالَ ابْن إِسْحَق: وَبِنْتُ أُخْتِ [الْمَلِكِ] (1) الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَابٌّ بَدِيعُ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فَعَصَمَهُ رَبُّهُ عَنِ الْفَحْشَاء، وحماه عَن مَكْرِ النِّسَاءِ، فَهُوَ سَيِّدُ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ، السَّبْعَةِ الْأَتْقِيَاءِ، الْمَذْكُورِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ مُعَلّق قبله بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لاتعلم شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَيْهَا وَحَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْحِرْصِ، فَقَالَ: " معَاذ الله إِنَّه ربى " يَعْنِي زَوْجَهَا صَاحِبَ الْمَنْزِلِ سَيِّدِي " أَحْسَنَ مَثْوَايَ " أَيْ أَحْسَنَ إِلَيَّ وَأَكْرَمَ مُقَامِي عِنْدَهُ " إِنَّهُ لَا يفلح الظَّالِمُونَ " وَقد تكلمنا على قَوْله تَعَالَى: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [لَوْلَا أَنْ رأى برهَان ربه (1) ] بِمَا فِيهِ كِفَايَة ومقنع فِي التَّفْسِير.   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا مُتَلَقًّى مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى بِنَا. وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ وَبَرَّأَهُ، وَنَزَّهَهُ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَحَمَاهُ عَنْهَا وَصَانَهُ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ". " وَاسْتَبَقَا الْبَاب " أَي هرب مِنْهَا طَالبا الْبَابِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فِرَارًا مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ فِي أَثَرِهِ " وَأَلْفَيَا " أَيْ وَجَدَا " سَيِّدَهَا " أَيْ زَوْجَهَا لَدَى الْبَاب، فبدرته بِالْكَلَامِ وَحَرَّضَتْهُ عَلَيْهِ، " قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَاب أَلِيم " اتَّهَمَتْهُ وَهِيَ الْمُتَّهَمَةُ، وَبَرَّأَتْ عِرْضَهَا وَنَزَّهَتْ سَاحَتَهَا. فَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفسِي "، احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ. " وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ". قِيلَ كَانَ صَغِيرًا فِي الْمَهْدِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ. وَقِيلَ كَانَ رَجُلًا قَرِيبًا إِلَى " قطفير " بَعْلِهَا، وَقِيلَ قَرِيبًا إِلَيْهَا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا: ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. فَقَالَ: " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ من الْكَاذِبين " أَيْ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَاوَدَهَا فَدَافَعَتْهُ حَتَّى قدت مقدم قَمِيصه. " وَإِن كَانَ (21 - قصَص الانبياء 1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقين " [أَيْ] (1) لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ هَرَبَ مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ وَتَعَلَّقَتْ فِيهِ فَانْشَقَّ قَمِيصُهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كيدكن عَظِيم " أَيْ هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ مَكْرِكُنَّ، أَنْتِ (2) راودتيه عَن نَفسه، ثمَّ اتهمتيه بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ أَضْرَبَ بَعْلُهَا [عَنْ هَذَا (3) ] صَفْحًا فَقَالَ: " يُوسُف أعرض عَن هَذَا " أَيْ لَا تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ، لِأَنَّ كِتْمَانَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْأَلْيَقُ وَالْأَحْسَنُ وَأَمَرَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهَا، وَالتَّوْبَةِ إِلَى رَبِّهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأهْلُ مِصْرَ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيُؤَاخِذُ بِهَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ لَهَا بَعْلُهَا، وَعَذَرَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عَلَى مِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ عَفِيفٌ نَزِيهٌ (4) بَرِئُ الْعِرْضِ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ فَقَالَ: " استغفري لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ". * * * " وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سكينا، وَقَالَت اخْرُج   (1) لَيست فِي ا (2) ا: أَنْت الذى. (3) لَيست فِي ا (4) ا: نزه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا، إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نِسَاءِ الْمَدِينَة، مِنْ نِسَاءِ الْأُمَرَاءِ وَبَنَاتِ الْكُبَرَاءِ فِي الطَّعْنِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَعَيْبِهَا، وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا فِي مراودتها فتاها، وحبها الشَّديد لَهُ، وَهُوَ لَا يُسَاوِي هَذَا ; لِأَنَّهُ مَوْلًى مِنَ الْمَوَالِي وَلَيْسَ مِثْلُهُ أَهْلًا لِهَذَا. وَلِهَذَا قُلْنَ: " إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين " أَي فِي وَضعهَا الشئ فِي غير مَحَله. " فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن " أَيْ بِتَشْنِيعِهِنَّ عَلَيْهَا وَالتَّنَقُّصِ لَهَا، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِالْعَيْبِ وَالْمَذَمَّةِ بِحُبِّ مَوْلَاهَا وَعِشْقِ فَتَاهَا، فَأَظْهَرْنَ ذَمًّا وَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلِهَذَا أَحَبَّتْ أَنْ تَبْسُطَ عُذْرَهَا عِنْدَهُنَّ، وَتُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفَتَى لَيْسَ كَمَا حَسِبْنَ، وَلَا مِنْ قبيل مالديهن. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ فَجَمَعَتْهُنَّ فِي مَنْزِلِهَا، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ ضِيَافَةَ مِثْلِهِنَّ، وَأَحْضَرَتْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ، كَالْأُتْرُجِّ وَنَحْوِهِ، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا، وَكَانَتْ قَدْ هَيَّأَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَلْبَسَتْهُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَهُوَ فِي غَايَةِ طَرَاوَةِ الشَّبَابِ (1) وَأَمَرَتْهُ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِنَّ بِهَذِهِ (2) الْحَالَةِ، فَخَرَجَ وَهُوَ أحسن من الْبَدْر لَا محَالة.   (1) ا: وَكَانَ فِي غَايَة طرازة الشَّبَاب. (2) ا: فِي هَذِه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 " فَلَمَّا رأينه أكبرنه " أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَأَجْلَلْنَهُ وَهِبْنَهُ، وَمَا ظَنَنَّ أَنْ يكون مثلا هَذَا فِي بَنِي آدَمَ، وَبَهَرَهُنَّ حُسْنُهُ حَتَّى اشْتَغَلْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَجَعَلْنَ يَحْزُزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ بِتِلْكَ السَّكَاكِينِ وَلَا يَشْعُرْنَ بِالْجِرَاحِ، وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا ملك كريم. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ". قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَكَانَ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْحُسْنِ الْبَشَرِيِّ. وَلِهَذَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ وَحُسْنِهِ. وَيُوسُفُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا ; كَمَا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أُنْثَى بَعْدَ حَوَّاءَ أَشَبْهَ بِهَا مِنْ سَارَةَ امْرَأَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَ وَجْهُ يُوسُفَ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَكَانَ إِذَا أَتَتْهُ امْرَأَةٌ لِحَاجَةٍ غَطَّى وَجْهَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فِي الْغَالِبِ مُبَرْقَعًا لِئَلَّا يَرَاهُ النَّاسُ. وَلِهَذَا لما قَامَ عذرن (1) امْرَأَةَ الْعَزِيزِ فِي مَحَبَّتِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَجَرَى لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ مَا جَرَى ; مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ بِجِرَاحِ السَّكَاكِينِ، وَمَا رَكِبَهُنَّ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالدَّهَشِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَمُعَايَنَتِهِ. " قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لمتننى فِيهِ " ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِالْعِفَّةِ (2) التَّامَّةِ فَقَالَتْ: " وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفسه فاستعصم " أَيِ امْتَنَعَ " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ ليسجنن وليكونا من الصاغرين ". (1) ط: عذر. (2) ط: بالعصمة. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وَكَانَ بَقِيَّةُ النِّسَاءِ حَرَّضْنَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِسَيِّدَتِهِ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَنَأَى لِأَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين " يَعْنِي إِنْ وَكَلْتَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَيْسَ لِي مِنْ نَفْسِي إِلَّا الْعَجْزُ وَالضَّعْفُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. فَأَنَا ضَعِيفٌ إِلَّا مَا قَوَّيْتَنِي وَعَصَمْتَنِي وَحَفِظْتَنِي، وَحُطْتَنِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ; قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا، ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شئ، ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون * يَا صَاحِبي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ ان لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثر النَّاس لَا يعْملُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ: أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأسه قضى الامر الذى فِيهِ تستفتيان ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ أَنَّهُمْ بَدَا لَهُمْ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ (1) بَعْدَ مَا عَلِمُوا بَرَاءَةَ يُوسُفَ أَنْ يَسْجُنُوهُ إِلَى وَقْتٍ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة، وَأحمد لِأَمْرِهَا، وَلِيُظْهِرُوا أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَسُجِنَ بِسَبَبِهَا، فَسَجَنُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. وَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَصَمَهُ بِهِ ; فَإِنَّهُ أَبْعَدُ لَهُ عَنْ مُعَاشَرَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ. وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِد!. قَالَ الله: " وَدخل مَعَه السجْن فتيَان ": قِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ وَاسْمُهُ فِيمَا قيل " نبوا " وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ، يَعْنِي الَّذِي يَلِي طَعَامَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ التُّرْكُ: " الْجَاشَنْكِيرُ " وَاسْمُهُ فِيمَا قيل " مجلث " وَكَانَ الْملك قد اتَّهَمَهُمَا قى بَعْضِ الْأُمُورِ فَسَجَنَهُمَا. فَلَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ فِي السجْن أعجبهما سمته (2) وهديه، ودله وطريقته، قَوْله وَفِعْلُهُ، وَكَثْرَةُ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ، وَإِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَرَأى كل وَاحِد مهما رُؤْيَا تُنَاسِبُهُ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: رَأَيَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. أَمَّا السَّاقِي فَرَأَى كَأَنَّ ثَلَاثَ قضبان من حبلة (3) وَقد أَوْرَقَتْ وَأَيْنَعَتْ عَنَاقِيدُ الْعِنَبِ، فَأَخَذَهَا فَاعْتَصَرَهَا فِي كَأْسِ الْمَلِكِ وَسَقَاهُ. وَرَأَى الْخَبَّازُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ سِلَالٍ مِنْ خُبْزٍ، وَضَوَارِي الطُّيُورِ تَأْكُلُ (4) من السل الاعلى.   (1) ا: المرائى. (2) ا: سيمته. (3) الحبلة: الكرمة. (4) ا: تَأْخُذ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فقصاها عَلَيْهِ وطلبا مِنْهُ أَن يعبرها لَهما وَقَالا: " إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ " فَأَخْبرهُمَا أَنه عليم بتعبيرها خَبِير بأمرها، " وَقَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قبل أَن يأتيكما ". قِيلَ: مَعْنَاهُ مَهْمَا رَأَيْتُمَا مِنْ حُلْمٍ فَإِنِّي أعبره لكم قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَكُونُ كَمَا أَقُولُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أُخْبِرُكُمَا بِمَا يَأْتِيكُمَا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ مَجِيئه حلوا وحامضا، كَمَا قَالَ عِيسَى: " وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ". وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ هَذَا مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ، لِأَنِّي مُؤْمِنٌ بِهِ مُوَحِّدٌ لَهُ، مُتَّبِعٌ مِلَّةَ آبَائِي الْكِرَامِ: إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. " مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شئ، ذَلِك من فضل الله علينا " أَي بِأَن هدَانَا لهَذَا، " وعَلى النَّاس " أَيْ بِأَنْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَنُرْشِدَهُمْ وَنَدُلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَهُوَ فِي فِطَرِهِمْ مَرْكُوزٌ، وَفِي جِبِلَّتِهِمْ مَغْرُوزٌ " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ". ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَذَمَّ عِبَادَةَ مَا سوى الله عزوجل، وَصغر أَمر الاوثان وحقرها، وَضعف أمرهَا فَقَالَ: " يَا صَاحِبي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سميتوها أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان، إِن الحكم إِلَّا الله " [أَي الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ (1) ] " أَمَرَ أَن لَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه " [أَي وَحده لَا شريك لَهُ (1) ] و " ذَلِك الدّين الْقيم " أَيِ الْمُسْتَقِيمُ وَالصِّرَاطُ الْقَوِيمُ " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ " أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ مَعَ وُضُوحِهِ وظهوره.   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَكَانَت دَعوته لَهما فِي هَذَا الْحَالِ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ ; لِأَنَّ نُفُوسَهُمَا مُعَظِّمَةٌ لَهُ، مُنْبَعِثَةٌ عَلَى تَلَقِّي مَا يَقُولُ بِالْقَبُولِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَدْعُوَهُمَا إِلَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُمَا مِمَّا سَأَلَا عَنْهُ وَطَلَبَا مِنْهُ. ثُمَّ لَمَّا قَامَ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَى مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ قَالَ: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أما أَحَدكُمَا فيسقى ربه خمرًا " [قَالُوا وَهُوَ السَّاقِي (1) ] " وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير من رَأسه " [قَالُوا وَهُوَ الْخَبَّازُ (1) ] " قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان " أَيْ وَقَعَ هَذَا لَا مَحَالَةَ، وَوَجَبَ كَوْنُهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ (2) ; فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ ". [وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسلم أَنَّهُمَا قَالَا: لما نَرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُمَا: " قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان (3) "] " وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجْن بضع سِنِين ". يخبر تَعَالَى أَن يُوسُف قَالَ للذى ظَنّه ناجيا مِنْهُمَا وَهُوَ الساقى: " اذْكُرْنِي عِنْد رَبك "، يَعْنِي اذْكُرْ أَمْرِي وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ السَّجْنِ بِغَيْرِ جُرْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ (4) فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَوْلُهُ: " فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه " أَيْ فَأَنْسَى النَّاجِيَ مِنْهُمَا الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَهُ مُجَاهِد وَمُحَمّد بن   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: مَا لم تقص. (3) سَقَطت من المطبوعة. (4) ا: السَّاعِي. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 إِسْحَق وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَهْلِ الْكتاب. " فَلبث " يُوسُف " فِي السجْن بضع سِنِين ". وَالْبِضْعُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، وَقِيلَ إِلَى السَّبْعِ، وَقِيلَ إِلَى الْخَمْسِ، وَقِيلَ مَا دون الْعشْرَة حَكَاهَا الثَّعْلَبِيّ. وَيُقَال بضع نشوة وَبِضْعَةُ رِجَالٍ. وَمَنَعَ الْفَرَّاءُ اسْتِعْمَالَ الْبِضْعِ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ نَيِّفٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ " [وَقَالَ تَعَالَى: " فِي بضع سِنِين (1) "] . وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ بِضْعَةَ عَشَرَ وَبِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى التِّسْعِينَ، وَلَا يُقَالُ: بِضْعٌ وَمِائَةٌ، وَبِضْعٌ وَأَلْفٌ. وَخَالَفَ الْجَوْهَرِيُّ فِيمَا زَادَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ، فَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى تِسْعِينَ. وَفِي الصَّحِيحِ: " الْإِيمَانُ بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة، وفى رِوَايَة وَسَبْعُونَ شُعْبَة، وأعلاها (2) قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الاذى عَن الطَّرِيق ". وَمن قَالَ إِن الصمير فِي قَوْله: " فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه " عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ فَقَدْ ضَعُفَ مَا قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. تَفَرَّدَ بِإِسْنَادِهِ إِبْرَاهِيم بن يزِيد الخورى الْمَكِّيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَمُرْسَلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ لَا يقبل، وَلَا هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا قَول ابْن حبَان فِي صَحِيحه، عِنْد ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْحباب الجمحى، [حَدثنَا   (1) لَيست فِي ا. (2) اأرفعها. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 مُسَدّد بن مسرهد، حَدثنَا خَالِد بن عبد الله، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ لَوْلَا الْكَلِمَة الَّتِى قَالَهَا " اذْكُرْنِي عِنْد رَبك " مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: " لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ "، قَالَ: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَهُ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ لَهُ أَشْيَاءُ يَنْفَرِدُ بِهَا وَفِيهَا نَكَارَةٌ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ أَنْكَرِهَا [وَأَشَدِّهَا (1) ] وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يَشْهَدُ بِغَلَطِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عجاف، وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات، يَا أَيهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بعد أمة، أَنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سمان يأكلهن سبع عجاف، وَسبع سنبلات خضر وَأخر يَا بسات، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا، فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يغاث النَّاس وَفِيه يعصرون. "   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 هَذَا كَانَ من جملَة أَسبَاب خُرُوج يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام من السجْن على وَجه الاحترام والاكرام، وَذَلِكَ أَن ملك مصر، وَهُوَ الريان بن الْوَلِيد (1) ابْن ثروان بن أراشة بن فاران بن عَمْرو بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نوح، رأى هَذِه الرُّؤْيَا. قَالَ أهل الْكتاب: رأى كَأَنَّهُ على حافة نهر، وَكَأَنَّهُ قد خرج مِنْهُ سبع بقرات سمان، فَجعلْنَ يرتعن فِي رَوْضَة هُنَاكَ، فَخرجت سبع هزال ضِعَاف من ذَلِك النَّهر، فرتعن مَعَهُنَّ ثمَّ ملن عَلَيْهِنَّ فأكلتهن، فَاسْتَيْقَظَ مذعورا. ثمَّ نَام فَرَأى سبع سنبلات خضر فِي قَصَبَة وَاحِدَة، وَإِذا سبع أخر دقاق يَا بسات فأكلنهن، فَاسْتَيْقَظَ مذعورا. فَلَمَّا قصها على ملئه وَقَومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها، بل " قَالُوا أضغاث أَحْلَام " أَيْ أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَعَلَّهَا لَا تَعْبِيرَ لَهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَا خِبْرَةَ لَنَا بِذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالُوا: " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بعالمين " فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ النَّاجِي مِنْهُمَا، الَّذِي وَصَّاهُ يُوسُف بِأَن يذكرهُ عِنْد ربه فنسيه إِلَى حِينِهِ هَذَا، وَذَلِكَ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عزوجل وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا سَمِعَ رُؤْيَا الْمَلِكِ، وَرَأَى عَجْزَ، النَّاسِ عَنْ تَعْبِيرِهَا، تَذَكَّرَ أَمْرَ يُوسُفَ، وَمَا كَانَ أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ التَّذْكَارِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وادكر " أَي تذكر " بعد أمة " أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَهُوَ بِضْعُ سِنِين. وَقَرَأَ بَعضهم   (1) هَذِه الاسماء والانساب لَيست ثَابِتَة وَلَا مدعمة من التَّارِيخ، وَقد كَانُوا يتكلفون مَعْرفَتهَا. وَمَا كَانَ أغناهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 كَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ: " وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " أَيْ بَعْدَ نِسْيَانٍ. وَقَرَأَهَا مُجَاهِدٌ: " بَعْدَ أَمْهٍ " بِإِسْكَانِ الْمِيمِ " وَهُوَ النِّسْيَانُ أَيْضًا. يُقَالُ أَمِهَ الرَّجُلُ يَأْمَهُ أَمَهًا وَأَمْهًا، إِذَا نَسِيَ. قَالَ الشَّاعِرُ. أَمِهْتُ وَكُنْتُ لَا أنسى حَدِيثا * كَذَاك الدَّهْر يررى بِالْعَقُولِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ وَلِلْمَلِكِ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرسلون " أَيْ فَأَرْسِلُونِي إِلَى يُوسُفَ فَجَاءَهُ فَقَالَ: " يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر، أخر يَابِسَاتٍ. لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا ذَكَرَهُ لَهُ الساقى، اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا رَآهُ فَفَسَّرَهُ لَهُ. وَهَذَا غَلَطٌ. وَالصَّوَابُ مَا قَصَّهُ الله فِي كِتَابه الْقُرْآن لَا ماعربه هَؤُلَاءِ الجهلة الثيران ; من فرى وهذيان (1) . فَبَذَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِلَا تَأَخُّرٍ وَلَا شَرْطٍ، وَلَا طَلَبَ الْخُرُوجَ سَرِيعًا ; بَلْ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَعَبَّرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ مَنَامِ الْمَلِكِ، الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ سَبْعِ سِنِينَ مِنَ الْخِصْبِ وَيَعْقُبُهَا سَبْعٌ جُدْبٌ " ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس " يَعْنِي يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ وَالْخِصْبُ وَالرَّفَاهِيَةُ " وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " يَعْنِي مَا كَانُوا يَعْصِرُونَهُ مِنَ الْأَقْصَابِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَغَيْرِهَا. فَعَبَّرَ لَهُمْ وَعَلَى الْخَيْرِ دَلَّهُمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالَتَيْ خِصْبِهِمْ وَجَدْبِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنِ ادِّخَارِ حُبُوبِ سنى الخصب فِي (2) السَّبع الاول   (1) الاصل: وريان. محرفة. (2) ا: من. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فِي سُنْبُلِهِ، إِلَّا مَا يُرْصَدُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَمِنْ تَقْلِيلِ الْبَذْرِ فِي سِنِيِّ الْجَدْبِ فِي السَّبْعِ الثَّانِيَةِ، إِذِ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْبَذْرَ مِنَ الْحَقْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ على كَمَال الْعلم وَكَمَال الرى وَالْفَهْمِ. * * * " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُف عَن نَفسه؟ قُلْنَ حاش الله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ، أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رب غَفُور رَحِيم ". لَمَّا أَحَاطَ الْمَلِكُ عِلْمًا بِكَمَالِ [عِلْمِ (1) ] يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَمَامِ عَقْلِهِ، وَرَأْيِهِ السَّدِيدِ وَفَهْمِهِ، أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ إِلَى حَضْرَتِهِ ; لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ خَاصَّتِهِ. فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ، أَحَبَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنه حبس ظلما وعدوانا، وَأَنه برِئ السَّاحَةِ مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ بُهْتَانًا. " قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبك " يَعْنِي الْمَلِكَ " فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قطعن أيهديهن، إنى ربى بكيدهن عليم " قيل مَعْنَاهُ: إِن سيدى الْعَزِيز يعلم برأتي مِمَّا نُسِبَ إِلَيَّ ; أَيْ فَمُرِ الْمَلِكَ فَلْيَسْأَلْهُنَّ: كَيْفَ [كَانَ (1) ] امْتِنَاعِي الشَّدِيدُ عِنْدَ مُرَاوَدَتِهِنَّ إِيَّايَ؟ وَحَثِّهِنَّ لِي عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ بِرَشِيدٍ وَلَا سديد؟   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فَلَمَّا سُئِلْنَ عَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفْنَ بِمَا وَقَعَ من الْأَمْرِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ الْحَمِيدِ و " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سوء ". فَعِنْدَ ذَلِك " قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز " وهى زليخا: " الْآن حصحص الْحق " أَيْ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ وَوَضَحَ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. " أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقين " أَي فِيمَا يَقُوله ; وَمن أَنَّهُ بَرِئٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَاوِدْنِي، وَأَنَّهُ حُبِسَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَزُورًا وَبُهْتَانًا. وَقَوْلُهُ: " ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يهدى كيد الخائنين " قِيلَ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، أَيْ إِنَّمَا طَلَبْتُ تَحْقِيقَ هَذَا لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا، أَيْ إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاوَدَةً لَمْ يَقَعْ مَعَهَا فِعْلُ فَاحِشَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ. وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَى الْأَوَّلِ. " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رحم إِن ربى غَفُور رَحِيم " ; قِيلَ إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، وَقِيلَ مِنْ كَلَامِ زَلِيخَا، وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ [الْأَوَّلَيْنِ (1) ] وَكَوْنُهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ وَأَقْوَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * " وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ   لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ، وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ". لما ظهر للْملك بَرَاءَة عرضه، ونزاهة ساحته عَمَّا كَانُوا أظهرُوا عَنهُ مِمَّا نسبوه إِلَيْهِ، " قَالَ ائتونى بِهِ أستخلصه لنَفْسي " أَيْ أَجْعَلْهُ مِنْ خَاصَّتِي، وَمِنْ أَكَابِرِ دَوْلَتِي، وَمِنْ أَعْيَانِ حَاشِيَتِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ وَسَمِعَ مَقَالَهُ وَتَبَيَّنَ حَالَهُ " قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِين " أَيْ ذُو مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ. قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِن الارض إنى حفيظ عليم " طَلَبَ أَنْ يُوَلِّيَهُ النَّظَرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْرَاءِ (1) ، لما يتَوَقَّع من حُصُول الْخلَل فِيهَا (2) بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِ سِنِيِّ الْخِصْبِ، لِيَنْظُرَ فِيهَا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ فِي خَلْقِهِ، مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَأَخْبَرَ الْمَلِكَ أَنَّهُ حَفِيظٌ، أَيْ قَوِيٌّ عَلَى حِفْظِ مَا لَدَيْهِ، أَمِينٌ عَلَيْهِ، عَلِيمٌ بِضَبْطِ الْأَشْيَاءِ وَمَصَالِحِ الْأَهْرَاءِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ وَالْكَفَاءَةَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ عَظَّمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جِدًّا، وَسَلَّطَهُ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ، وَأَلْبَسَهُ خَاتمه، وَألبسهُ الْحَرِير وطوقع الذَّهَبَ وَحَمَلَهُ عَلَى مَرْكَبِهِ الثَّانِي، وَنُودِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ: أَنْت رب وَمُسَلَّطٌ، وَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْظَمَ مِنْكَ إِلَّا بِالْكُرْسِيِّ. قَالُوا: وَكَانَ يُوسُفُ إِذْ ذَاكَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سنة، وزوجه امْرَأَة عَظِيمَة   (1) الاهراء: خَزَائِن الطَّعَام. (2) ط: فِيمَا بعد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الشَّأْنِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ عَزَلَ قِطْفِيرَ عَنْ وَظِيفَتِهِ (1) وَوَلَّاهَا يُوسُفَ. وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ زَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ، لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، فَوَلَدَتْ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَام رجلَيْنِ وهما: أفرايم (1) ومنسا. قَالَ: وَاسْتَوْثَقَ لِيُوسُفَ مُلْكُ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ فَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَحُكِيَ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ يَوْمَ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ عُمُرُهُ ثَلَاثِينَ سنة، وَأَن الْملك خاطبه بسبعين لُغَة، وفى كل (2) ذَلِكَ يُجَاوِبُهُ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْهَا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء " أَيْ بَعْدَ السَّجْنِ وَالضِّيقِ وَالْحَصْرِ، صَارَ مُطْلَقَ الرِّكَابِ بِدِيَارِ مِصْرَ، " يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ " أَيْ أَيْنَ شَاءَ حَلَّ مِنْهَا مُكْرَمًا مَحْسُودًا مُعَظَّمًا. " نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أجر الْمُحْسِنِينَ " [من أَيْ (3) ] هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي آخِرَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّوَابِ الْجَمِيلِ. وَلِهَذَا قَالَ ": وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ". وَيُقَال إِن قطفير زَوْجَ زَلِيخَا كَانَ قَدْ مَاتَ، فَوَلَّاهُ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَزَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا، فَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ.   (1) ا: أفريثم. (2) ا: وكل. (3) من: ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وَذكر مُحَمَّد ابْن إِسْحَق أَنَّ صَاحِبَ مِصْرَ - الْوَلِيدَ بْنَ الرَّيَّانِ - أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقد قَالَ بَعضهم: وَرَاء مضيق الْخَوْف متسع الامن * وَأول مفروح بِهِ غَايَة الْحُزْنِ (1) فَلَا تَيْأَسَنْ، فَاللَّهُ مَلَّكَ يُوسُفًا * خَزَائِنَهُ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ السِّجْنِ * * * " وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدُومِ إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَمْتَارُونَ طَعَامًا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِتْيَانِ سِنِيِّ الْجَدْبِ وَعُمُومِهَا عَلَى سَائِرِ الْعباد والبلاد. وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ ذَاكَ الْحَاكِمَ فِي أُمُورِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ دِينًا وَدُنْيَا. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ عَرَفَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ مَا صَارَ إِلَيْهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَكَانَةِ وَالْعَظَمَةِ، فَلِهَذَا عَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ فَعَرَفَهُمْ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَعْرِفُوهُ فَأَغْلَظَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ، وَقَالَ: أَنْتُم جواسيس، جئْتُمْ [لنا] (2)   (1) ا: آخر الْحزن. (2) من ا. (م 22 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لِتَأْخُذُوا خير بِلَادِي. فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ ; إِنَّمَا جِئْنَا نَمْتَارُ (1) لِقَوْمِنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ الَّذِي أَصَابَنَا، وَنَحْنُ بنوأب وَاحِدٍ مِنْ كَنْعَانَ، وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَصَغِيرُنَا عِنْدَ أَبِينَا. فَقَالَ لابد أَنْ أَسْتَعْلِمَ أَمْرَكُمْ. وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ حَبَسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ، وَاحْتَبَسَ شَمْعُونَ عِنْدَهُ لِيَأْتُوهُ بِالْأَخِ الْآخَرِ. وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ. قَالَ الله تَعَالَى: " فَلَمَّا جهزهم بجهازهم " أَيْ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَته ; من إِعْطَاءِ كُلِّ إِنْسَانٍ حِمْلَ بِعِيرٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ " قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ "، وَكَانَ قد سَأَلَهُمْ عِنْد حَالِهِمْ، وَكَمْ هُمْ؟ فَقَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ وَبَقِيَ شَقِيقُهُ عِنْدَ أَبِينَا. فَقَالَ: إِذَا قَدِمْتُمْ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأْتُونِي بِهِ مَعَكُمْ. " أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْل وَأَنا خير المنزلين؟ " أَيْ قَدْ أَحْسَنْتُ نُزُلَكُمْ وَقِرَاكُمْ، فَرَغَّبَهُمْ لِيَأْتُوهُ [بِهِ (2) ] ثُمَّ رَهَّبَهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوهُ بِهِ فَقَالَ (3) " فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تقربون " أَيْ فَلَسْتُ أُعْطِيكُمْ مِيرَةً، وَلَا أَقْرَبُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، عَكْسُ مَا أَسْدَى إِلَيْهِمْ أَوَّلًا. فَاجْتَهَدَ (4) فِي إِحْضَارِهِ مَعَهُمْ لِيَبُلَّ شَوْقَهُ مِنْهُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. " قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ " أَيْ سَنَجْتَهِدُ فِي مَجِيئِهِ مَعَنَا وَإِتْيَانِهِ إِلَيْكَ بِكُل مُمكن. " وَإِنَّا لفاعلون " أَيْ وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِهِ. ثُمَّ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَضَعُوا بِضَاعَتَهُمْ وَهِيَ مَا جَاءُوا بِهِ يتعوضون بِهِ   (1) ا: لنتمار. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: قَالَ. (4) ا: فاجتهدوا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 عَنِ الْمِيرَةِ، فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا " لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ ". قِيلَ أَرَادَ أَنْ يَرُدُّوهَا إِذَا وَجَدُوهَا فِي بِلَادِهِمْ، وَقِيلَ خَشِيَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَقِيلَ تَذَمَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنِ الْمِيرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بِضَاعَتِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهَا كَانَتْ صُرَرًا مِنْ وَرِقٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * " فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ، فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ، قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي؟ هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا، وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ، فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ من الله من شئ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من شئ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ ". يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ بَعْدَ رجوعهم [إِلَى أَبِيهِم] (1)   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَقَوْلهمْ لَهُ: " منع منا الْكَيْل " [أَيْ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا (1) ] إِنْ لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا (2) أَخَانَا، فَإِنْ أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَّا. " وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِم قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغى؟ " أَي شئ نُرِيدُ وَقَدْ رُدَّتْ إِلَيْنَا بِضَاعَتُنَا؟ " وَنَمِيرُ أَهْلَنَا " أَيْ نَمْتَارُ لَهُمْ وَنَأْتِيهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ فِي سنتهمْ ومحلهم، " ونحفظ أخانا ونزداد " بِسَبَبِهِ " كَيْلَ بَعِيرٍ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " ذَلِكَ كيل يسير " أَيْ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ وَلَدِهِ الْآخَرِ. وَكَانَ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أضن شئ بِوَلَدِهِ بِنْيَامِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشُمُّ فِيهِ رَائِحَةَ أَخِيهِ وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ، وَيَتَعَوَّضُ بِسَبَبِهِ مِنْهُ. فَلِهَذَا قَالَ: " لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يحاط بكم " أَيْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ. " فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ، قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نقُول وَكيل ". أَكَّدَ الْمَوَاثِيقَ وَقَرَّرَ الْعُهُودَ، وَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فِي وَلَدِهِ، وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ! وَلَوْلَا حَاجَتُهُ وَحَاجَةُ قَوْمِهِ إِلَى الْمِيرَةِ، لَمَا بَعَثَ الْوَلَدَ الْعَزِيزَ، وَلَكِنَّ الْأَقْدَارَ لَهَا أَحْكَامٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ لِيَدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. قِيلَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُصِيبَهُمْ أَحَدٌ بِالْعَيْنِ، وَذَلِكَ لانهم كَانُوا   (1) لَيست فِي ا (2) ا: فَأرْسل مَعنا أخانا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أَشْكَالًا حَسَنَةً وَصُوَرًا بَدِيعَةً. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ خَبَرًا ليوسف أَو يحدثُونَ عَنهُ بأثر. قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَلِهَذَا قَالَ: " وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شئ ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من شئ، إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمُونَ ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ هَدِيَّةً إِلَى الْعَزِيزِ مِنَ الْفُسْتُقِ وَاللَّوْزِ وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ وَالْعَسَل، وَأخذُوا الداراهم الاولى وعرضا (1) آخر. " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ؟ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ؟ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ، كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ، مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كل ذى علم عليم *   (1) ا: وعوضوا آخر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أعلم بِمَا تصفون * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ، إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ". يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حِينَ دَخَلُوا بِأَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ عَلَى شَقِيقِهِ يُوسُفَ، وَإِيوَائِهِ إِلَيْهِ، وَإِخْبَارِهِ لَهُ سِرًّا عَنْهُمْ بِأَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَمْرِهِ بِكَتْمِ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَسَلَّاهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ. ثُمَّ احْتَالَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ إِيَّاهُ عِنْدَهُ دُونَهُمْ، فَأَمَرَ فِتْيَانَهُ بِوَضْعِ سِقَايَتِهِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَشْرَبُ بهَا ويكيل بهَا للنَّاس الطَّعَام، عَن غرَّة (1) فِي مَتَاعِ بِنْيَامِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ سَرَقُوا صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَوَعَدَهُمْ جِعَالَةً عَلَى رَدِّهِ، حِمْلَ بَعِيرٍ، وَضَمِنَهُ الْمُنَادِي لَهُمْ. فَأَقْبَلُوا عَلَى مَنِ اتَّهَمَهُمْ بِذَلِكَ فَأَنَّبُوهُ وَهَجَّنُوهُ فِيمَا قَالَهُ لَهُم: " قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الارض وَمَا كُنَّا سارقين " يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [مِنَّا] (2) خِلَافَ مَا رَمَيْتُمُونَا بِهِ مِنَ السَّرِقَةِ. " قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِك نجزى الظَّالِمين " [وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَتَهُمْ: أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَلِهَذَا قَالُوا: " كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " (2) ] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيه ثمَّ استخرجها من وعَاء أَخِيه " لِيَكُونَ [ذَلِكَ (2) ] أَبْعَدَ لِلتُّهْمَةِ وَأَبْلَغَ فِي الْحِيلَةِ، [ثمَّ (2) قَالَ   (1) ا: عَن غرته. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 اللَّهُ تَعَالَى: " كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك " أَيْ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ، لَمَا كَانَ يَقْدِرُ يُوسُفُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ فِي سِيَاسَةِ مَلِكِ مِصْرَ، " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ من نشَاء " أَيْ فِي الْعِلْمِ " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليم ". وَذَلِكَ لِأَنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، وَأَتَمَّ رَأْيًا وَأَقْوَى عَزْمًا وَحَزْمًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ: مِنْ قُدُومِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ. فَلَمَّا عَايَنُوا اسْتِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ حِمْلِ بِنْيَامِينَ " قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخ لَهُ من قبل " يَعْنُونَ يُوسُفَ. قِيلَ كَانَ قَدْ سَرَقَ صَنَمَ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ. وَقِيلَ كَانَتْ عَمَّتُهُ قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ ثِيَابِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ منْطقَة كَانَت لاسحق، ثمَّ استخرجوها من بَين ثِيَابه وَهُوَ لايشعر بِمَا صَنَعَتْ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا وَفِي حَضَانَتِهَا لِمَحَبَّتِهَا لَهُ. وَقِيلَ كَانَ يَأْخُذُ الطَّعَامَ مِنَ الْبَيْتِ فَيُطْعِمُهُ الْفُقَرَاءَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَلِهَذَا: " قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفسه " وَهِيَ كَلِمَتُهُ بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ: " أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَالله أعلم بِمَا تصفون " أَجَابَهُمْ سِرًّا لَا جَهْرًا، حِلْمًا وَكَرَمًا وَصَفْحًا وعفوا، فَدَخَلُوا مَعَه فِي الترفق وَالتَّعَطُّفِ فَقَالُوا: " يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبَا شيخ كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ " أَي إِن أطلقنا الْمُتَّهم وأخذنا البرئ، وَهَذَا مَالا نَفْعَلُهُ وَلَا نَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يُوسُفَ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ حِينَئِذٍ. وَهَذَا مِمَّا غَلِطُوا فِيهِ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ جَيِّدًا (1) . " فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا، قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ، فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا: يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ، وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ; عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تفتؤا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ". يَقُول تَعَالَى مخبرا عَنْهُم لَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ: خَلَصُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَالَ كَبِيرُهُمْ وَهُوَ رُوبِيلُ: " أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا من الله "، لتأتينى بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم؟ لَقَدْ أَخْلَفْتُمْ عَهْدَهُ، وَفَرَّطْتُمْ فِيهِ كَمَا فَرَّطْتُمْ فِي أَخِيهِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلِهِ، فَلَمْ يَبْقَ لِي وَجْهٌ أُقَابِلُهُ بِهِ " فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ " أَيْ لَا أَزَالُ مُقِيمًا هَاهُنَا " حَتَّى يَأْذَنَ لى   (1) ا: جدا. (2) ا: مَعَهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 أَبى " فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ؟ " أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي " بِأَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَى رَدِّ أَخِي إِلَى أَبِي، " وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ". " ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق " أَيْ أَخْبِرُوهُ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ فِي ظَاهِرِ الْمُشَاهَدَةِ " وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِى أَقبلنَا فِيهَا "، أَيْ فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ [بِهِ] (1) - مِنْ أَخْذِهِمْ أَخَانَا لِأَنَّهُ سَرَقَ - أَمْرٌ اشْتَهَرَ بِمِصْرَ وَعَلِمَهُ الْعِيرُ الَّتِي كُنَّا نَحْنُ وَهُمْ هُنَاكَ، " وَإِنَّا لَصَادِقُونَ " " قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أمرا فَصَبر جميل " أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، لَمْ يَسْرِقْ فَإِنَّهُ لَيْسَ سجية لَهُ وَلَا خُلُقَهُ. وَإِنَّمَا " سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أمرا، فَصَبر جميل ". قَالَ ابْن إِسْحَق وَغَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُمْ فِي بِنْيَامِينَ مُتَرَتِّبًا عَلَى صَنِيعِهِمْ (2) فِي يُوسُفَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ. وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا! ثُمَّ قَالَ: " عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا " يَعْنِي يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ، " إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ " أَيْ بِحَالِي وَمَا أَنَا فِيهِ مِنْ فِرَاقِ الْأَحِبَّةِ " الْحَكِيمُ " فِيمَا يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَة وَالْحجّة القاطعة. " وَتَوَلَّى عَنْهُم " أَيْ أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ " وَقَالَ يَا أَسَفَى على يُوسُف " ذَكَّرَهُ حُزْنُهُ الْجَدِيدُ بِالْحُزْنِ الْقَدِيمِ، وَحَرَّكَ مَا كَانَ كامنا، كَمَا قَالَ بَعضهم:   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: صنعهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى * مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ وَقَالَ آخَرُ: لَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى الْبُكَا * رَفِيقِي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ (1) فَقَالَ: أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ؟ * لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ (2) فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى * فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ وَقَوْلُهُ: " وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ " أَي من كَثْرَة الْبكاء. " فَهُوَ كظيم " أَي مكظم (3) مِنْ كَثْرَةِ حُزْنِهِ وَأَسَفِهِ وَشَوْقِهِ إِلَى يُوسُفَ. فَلَمَّا رأى بنوه مَا يقاسيه من الوجد وَأَلَمِ الْفِرَاقِ " قَالُوا " لَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ لَهُ والرأفة بِهِ والحرص عَلَيْهِ " تالله تفتؤ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ من الهالكين ". يَقُولُونَ: لَا تَزَالُ تَتَذَكَّرُهُ (4) حَتَّى يَنْحَلَ جَسَدُكَ وَتَضْعُفَ قُوَّتُكَ، فَلَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ كَانَ أَوْلَى بِكَ. " قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأعلم من الله مَالا تعلمُونَ " يَقُولُ لِبَنِيهِ: لَسْتُ أَشْكُو إِلَيْكُمْ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا أَنَا فِيهِ، إِنَّمَا أشكوه إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِي مِمَّا أَنَا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَأعلم أَن رُؤْيا يُوسُف لابد أَن تقع، ولابد أَنْ أَسْجُدَ لَهُ أَنَا وَأَنْتُمْ حَسَبَ مَا رأى. وَلِهَذَا قَالَ: " وَأعلم من الله مَالا تعلمُونَ "   (1) السوافك: المذروفة المنصبة. (2) اللوى: مَا التوى من الرمل. والدكادك: مَا اسْتَوَى مِنْهُ وَتَلَبَّدَ. (3) ا: مكمد. (4) ا: تذكره. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مُحَرِّضًا عَلَى تَطَلُّبِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَأَنْ يَبْحَثُوا عَنْ أَمْرِهِمَا: " يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ " أَيْ لَا تَيْأَسُوا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَفَرَجِهِ، وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنَ الْمَخْرَجِ فِي الْمَضَايِقِ، إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. * * * " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا، إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصيرًا، وأتوني بأهلكم أَجْمَعِينَ ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رُجُوعِ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِلَيْهِ وَقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمِيرَةِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ إِلَيْهِمْ: " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وأهلنا الضّر " أَيْ مِنَ الْجَدْبِ وَضِيقِ الْحَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، " وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة " أَيْ ضَعِيفَةٍ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا مِنَّا إِلَّا أَن تتجاوز عَنَّا. قِيلَ كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً، وَقِيلَ قَلِيلَةً، وَقِيلَ حَبَّ الصَّنَوْبَرِ وَحَبَّ الْبُطْمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَلَقَ الْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ وَنَحْو ذَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 " فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يجزى المتصدقين ". قِيلَ بِقَبُولِهَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَنَزَعَ (1) ] بِهَذِهِ الْآيَةِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَالِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ سِوَاهُ مِنْ ضَعِيفِ الْمَالِ، تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ، قَائِلًا لَهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَرَبِّهِمْ، وَقَدْ حَسَرَ لَهُمْ عَنْ جَبينه الشريف، وَمَا يحويه من الْحَال الذى يعْرفُونَ فِيهِ: " هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُم جاهلون ". " قَالُوا " وتجبوا كُلَّ الْعَجَبِ، وَقَدْ تَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا عَدِيدَةً وهم لَا يعْرفُونَ أَنه هُوَ: " أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ ". " قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أخى ". يَعْنِي أَنَا يُوسُفُ الَّذِي صَنَعْتُمْ مَعَهُ مَا صَنَعْتُمْ، وَسَلَفَ مِنْ أَمْرِكُمْ فِيهِ مَا فَرَّطْتُمْ. وَقَوله: " وَهَذَا أخى " تَأْكِيدٌ لِمَا قَالَ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا كَانُوا أضمروا لَهما من الْحَسَد، وَعمِلُوا فِي أَمْرِهِمَا مِنَ الِاحْتِيَالِ. وَلِهَذَا قَالَ: " قَدْ من الله علينا " أَيْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْنَا وَصَدَقَتِهِ عَلَيْنَا، وَإِيوَائِهِ لَنَا وَشَدِّهِ مَعَاقِدَ عِزِّنَا، وَذَلِكَ بِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ طَاعَة رَبنَا، وصبرنا على ماكان مِنْكُمْ إِلَيْنَا، وَطَاعَتِنَا وَبِرِّنَا لِأَبِينَا، وَمَحَبَّتِهِ الشَّدِيدَةِ لَنَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْنَا. " إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ ".   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 " قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا " أَيْ فَضَّلَكَ وَأَعْطَاكَ مَا لَمْ يُعْطِنَا، " وَإِنْ كُنَّا لخاطئين " أَيْ فِيمَا أَسْدَيْنَا إِلَيْكَ، وَهَا نَحْنُ بَيْنَ يَديك. " قَالَ لاتثريب عَلَيْكُم الْيَوْم " أَي لست أعاتبكم (1) على ماكان مِنْكُمْ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا. ثُمَّ زَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: " يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " وَمن زعم أَن الْوَقْف على قَوْله " لاتثريب عَلَيْكُم " وابتدأ بقوله: " الْيَوْم يغْفر الله لكم " فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا بِقَمِيصِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ، فَيَضَعُوهُ عَلَى عَيْنَيْ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَصَرُهُ بعد ماكان ذَهَبَ، بِإِذْنِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّاتِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ، إِلَى الْخَيْرِ وَالدَّعَةِ وَجَمْعِ الشَّمْلِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، عَلَى أكمل الْوُجُوه وَأَعْلَى الامور. " فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، قَالَ أَلَمْ أقل لكم إنى أعلم من الله مَالا تعلمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، سَمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول: " فَلَمَّا فصلت العير " قَالَ: لما   (1) ط: أعاقبكم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 خَرَجَتِ الْعِيرُ هَاجَتْ رِيحٌ، فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ فَقَالَ: " إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تفندون ". قَالَ: فَوجدَ رِيحه من مسيرَة ثَلَاثَة (1) أَيَّام. وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْريّ وَشعْبَة وَغَيرهم عَنْ أَبِي سِنَانٍ (2) بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ الْمَكِّيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ لَهُ (3) مُنْذُ فَارَقَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَوله: " لَوْلَا أَن تفندون " أَيْ تَقُولُونَ إِنَّمَا قُلْتَ هَذَا مِنَ الْفَنَدِ، وَهُوَ الْخَرَفُ (4) وَكِبَرُ السِّنِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: " تُفَنِّدُونِ " تُسَفِّهُونِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: تُهَرِّمُونِ. " قَالُوا تالله إِنَّك لفى ضلالك الْقَدِيم " قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: قَالُوا لَهُ كَلِمَةً غَلِيظَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ على وَجهه فَارْتَد بَصيرًا " أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ أَلْقَى الْقَمِيصَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَرَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَصِيرًا بَعْدَ ماكان ضَرِيرًا. وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ (5) ذَلِكَ: " أَلَمْ أَقُلْ لكم إنى أعلم من الله مَالا تعلمُونَ " أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْمَعُ شَمْلِي بِيُوسُفَ، وَسَتَقَرُّ عَيْنِي بِهِ، وَسَيُرِينِي فِيهِ وَمِنْهُ مَا يَسُرُّنِي. فَعِنْدَ ذَلِكَ " قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين ".   (1) ط: ثَمَانِيَة أَيَّام. (2) ا: عَن أَبى سعيد (3) ا: وَكَانَ لَهُ عَنهُ. (4) ا: وَهُوَ الْحزن. (5) ا: بعد ذَلِك. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 طلبُوا مِنْهُ أَن يسْتَغْفر لَهُم الله عزوجل عَمَّا كَانُوا فَعَلُوا وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنِ ابْنِهِ، وَمَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِمُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. فَأَجَابَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَمَا عَلَيْهِ عَوَّلُوا قَائِلًا: " سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدثنَا ابْن إِدْرِيس [قَالَ (1) ] : سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَق يذكر عَن محَارب ابْن دثار قَالَ: كَانَ عمر (2) يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ إِنْسَانًا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ لِي " قَالَ: فاستمع إِلَى الصَّوْتَ فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ بقوله: " سَوف أسْتَغْفر لكم ربى ". وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " والمستغفرين بالاسحار ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (3) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ ". وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ: " أَنَّ يَعْقُوبَ أَرْجَأَ بَنِيهِ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ ". قَالَ ابْن جرير: حَدَّثَنى الْمثنى ; قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو أَيُّوبَ (4) الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَن عَطاء وَعِكْرِمَة   (1) سَقَطت من ا (2) المطبوعة: كَانَ عَم لى. وَهُوَ تَحْرِيف (3) ط: فِي الصَّحِيح. (4) ا: ابْن أَيُّوب. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي " يَقُول: " حَتَّى لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ ". وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا. * * * " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ; قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسلما وألحقني بالصالحين ". هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ اجْتِمَاعِ الْمُتَحَابِّينَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الطَّوِيلَةِ، الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا ثَمَانُونَ سَنَةً! وَقيل ثَلَاث وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْحَسَنِ وَقِيلَ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذَكَرُوا أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ (1) أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ تَقْرِيبًا ; فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَاوَدَتْهُ وَهُوَ شَابٌّ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِيمَا قَالَه غير وَاحِد، فَامْتنعَ. فَكَانَ   (1) ا: يدعونَ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ; وَهِيَ سَبْعٌ عِنْدَ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ أُخْرِجَ فَكَانَتْ سَنَوَاتُ الْخِصْبِ السَّبْعُ، ثُمَّ [لَمَّا (1) ] أَمْحَلَ النَّاسُ فِي السَّبْعِ البواقى، جَاءَ إخْوَته يمتارون فِي السَّنَةَ الْأُولَى وَحْدَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ (2) [بِنْيَامِينُ (3) ] وَفِي الثَّالِثَةِ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِإِحْضَارِ أَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَجَاءُوا كُلُّهُمْ. " فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ " وَاجْتمعَ بِهِمَا خُصُوصًا وَحْدَهُمَا دُونَ إِخْوَتِهِ، " وَقَالَ ادْخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين ". قيل هَذَا من الْمُقدم والمؤخر ; تَقْدِيره [قَالَ (3) ] : ادْخُلُوا، مِصْرَ وَآوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ جرير وَهُوَ مَعْذُور. وَقيل [بل (3) ] تَلَقَّاهُمَا وَآوَاهُمَا فِي مَنْزِلِ الْخِيَامِ، ثُمَّ لَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ بَابِ مِصْرَ " قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ الله آمِنين "، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا أَيْضًا، وَأَنَّهُ ضُمِّنَ قَوْلُهُ ادخُلُوا، بِمَعْنى اسْكُنُوا مِصْرَ، أَوْ أَقِيمُوا بِهَا، " إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " لَكَانَ صَحِيحًا مَلِيحًا أَيْضًا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَاشِرَ - وَهِيَ أَرْضُ بُلْبَيْسَ - خَرَجَ يُوسُفُ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ بَعَثَ ابْنَهُ يَهُوذَا بَيْنَ يَدَيْهِ مُبَشِّرًا بِقُدُومِهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلِكَ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَ جَاشِرَ ; يَكُونُونَ فِيهَا، وَيُقِيمُونَ بهَا بن عمهم ومواشيهم. و [قد (4) ] ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ لَمَّا أَزِفَ قُدُومُ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ - وَهُوَ إِسْرَائِيلُ -[أَرَادَ يُوسُفُ (4) ] أَنْ يَخْرُجَ لِتَلَقِّيهِ، فَرَكِبَ مَعَهُ الْمَلِكُ وَجُنُوده ; خدمَة ليوسف   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: أخوهم. (3) من ا. (4) سَقَطت من ا. (23 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّ اللَّهِ " إِسْرَائِيلَ " وَأَنَّهُ دَعَا لِلْمَلِكِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ سِنِيِّ الْجَدْبِ بِبَرَكَةِ قُدُومِهِ إِلَيْهِمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قَدِمَ مَعَ يَعْقُوبَ مِنْ بَنِيهِ وَأَوْلَادِهِمْ - فِيمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ إِنْسَانًا. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ إِنْسَانًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مَسْرُوقٍ: دَخَلُوا وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا. قَالُوا: وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَفِي نَصِّ (1) أَهْلِ الْكتاب: أَنهم كَانُوا سبعين نفسنا وسموهم. * * * قَالَ الله تَعَالَى: " وَرفع أبوبه على الْعَرْش " قِيلَ: كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ كَمَا هُوَ عِنْد عُلَمَاء التَّوْرَاة. وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: أَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ خَالَتُهُ " لَيَا " وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ: بَلْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي بَقَاءَ حَيَاةِ أُمِّهِ إِلَى يَوْمِئِذٍ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا خَالَفَهُ. وَهَذَا قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَفَعَهُمَا عَلَى الْعَرْشِ، أَيْ أَجْلَسَهُمَا [مَعَهُ (2) ] على سَرِيره، " وخروا لَهُ سجدا " أَيْ سَجَدَ لَهُ الْأَبَوَانِ وَالْإِخْوَةُ الْأَحَدَ عَشَرَ، تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا. وَكَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ فِي سَائِرِ الشَّرَائِعِ حَتَّى حرم فِي ملتنا.   (1) ا: وَنَصّ أهل الْكتاب. (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 " وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قبل " أَي هَذَا تَعْبِير ماكنت قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ: مِنْ رُؤْيَتِي الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، حِينَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، وَأَمَرْتَنِي بِكِتْمَانِهَا، وَوَعَدْتَنِي [مَا وَعَدْتِنِي (1) ] عِنْدَ ذَلِكَ " قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أخرجنى من السجْن " أَيْ بَعْدَ الْهَمِّ وَالضِّيقِ، جَعَلَنِي حَاكِمًا نَافِذَ الْكَلِمَةِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَيْثُ شِئْتُ. " وَجَاءَ بكم من البدو " أَيِ الْبَادِيَةِ. وَكَانُوا يَسْكُنُونَ أَرْضَ الْعَرَبَاتِ مِنْ بِلَاد الْخَيل " مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتى " أَيْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ ربى لطيف لما يَشَاء " أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ، وَيَسَّرَهَا وَسَهَّلَهَا مِنْ وُجُوهٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعِبَادُ، بل يقدرها ويبسرها بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. " إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ " أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ " الْحَكِيمُ " فِي خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يُوسُفَ بَاعَ أَهْلَ مِصْرَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ تَحْتَ يَدِهِ، بِأَمْوَالِهِمْ كُلِّهَا ; مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْعَقَارِ وَالْأَثَاثِ، وَمَا يَمْلِكُونَهُ كُلَّهُ، حَتَّى بَاعَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فَصَارُوا أَرِقَّاءَ. ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَعْتَقَ رِقَابَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا، وَيَكُونُ خُمْسُ مَا يستغلون من زُرُوعهمْ (2) وَثِمَارِهِمْ لِلْمَلِكِ فَصَارَتْ سُنَّةَ أَهْلِ مِصْرَ بَعْدَهُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْبَعُ فِي تِلْكَ السِّنِينَ، حَتَّى لَا يَنْسَى الْجِيعَانَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً وَاحِدَةً نِصْفَ النَّهَارِ. قَالَ: فَمن ثمَّ اقْتدى بِهِ   (1) لَيست فِي ا (2) ط: زرعهم. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الْمُلُوك فِي ذَلِك. قلت: و [قد (1) ] كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا يُشْبِعُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ حَتَّى ذَهَبَ الْجَدْبُ وَأَتَى الْخِصْبُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ لِعُمَرَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عَامُ الرَّمَادَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ! * * * ثُمَّ لَمَّا رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نِعْمَتَهُ قَدْ تَمَّتْ، وَشَمْلَهُ قَدِ اجْتَمَعَ، عرف أَن هَذِه الدَّار لَا يقربهَا قَرَار، وَأَن كل شئ فِيهَا وَمَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَمَا بَعْدَ التَّمَامِ إِلَّا النُّقْصَانُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِعَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَسَأَلَ مِنْهُ - وَهُوَ خَيْرُ الْمَسْئُولِينَ - أَنْ يَتَوَفَّاهُ، أَي حِينَ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَهَكَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ " أَيْ حِينَ تَتَوَفَّانَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ (2) ] أَنْ يَرْفَعَ رُوحَهُ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالرُّفَقَاءِ الصَّالِحِينَ (3) مِنَ النَّبِيين والمرسليمن، كَمَا قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا. ثُمَّ قَضَى. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْجِزًا فِي صِحَّةٍ بدنه وسلامته، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَشِرْعَتِهِمْ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَمَنَّى نَبِيٌّ [قَطُّ (2) الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ.   (1) من ا (2) سَقَطت من ا. (3) الصلحاء. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَقَدْ نُهِيَ عَنِ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتَنِ ; كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ: " وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ ". وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " ابْنَ آدَمَ، الْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْفِتْنَةِ ". وَقَالَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: " يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا منسيا ". وَتَمَنَّى الْمَوْتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، لَمَّا تَفَاقَمَتِ الْأُمُورُ وَعَظُمَتِ الْفِتَنُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ. وَتَمَنَّى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ [أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (1) ] صَاحِبُ الصَّحِيحِ، لَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَقِيَ مِنْ مُخَالِفِيهِ الْأَهْوَالَ. فَأَمَّا فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لَا يتمنين أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، إِمَّا مُحْسِنًا [فَلَعَلَّهُ (1) ] يزْدَاد، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ. وَلَكِنْ لِيَقُلِ: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ". وَالْمُرَادُ بِالضُّرِّ هَاهُنَا، مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ فِي بَدَنِهِ ; مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، لَا فِي دِينِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ ذَلِكَ، إِمَّا عِنْدَ احْتِضَارِهِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَن يكون كَذَلِك. وَقد ذكر ابْن إِسْحَق عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ يَعْقُوبَ أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ عِنْدَ يُوسُفَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق. قَالَ السدى:   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فَصَبَرَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَدَفَنَهُ بِالْمَغَارَةِ (1) عِنْد أَبِيه إِسْحَق وَجَدِّهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ عُمُرَ يَعْقُوبَ يَوْمَ دَخَلَ مِصْرَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَرْضِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: فَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِهِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ وَهُوَ غَلَطٌ: إِمَّا فِي النُّسْخَةِ، أَوْ مِنْهُمْ، أَوْ قَدْ أَسْقَطُوا الْكَسْرَ وَلَيْسَ بِعَادَتِهِمْ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، فَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ [هَاهُنَا (2) ] ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى [فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ (2) ] : " أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا، وَنَحْنُ لَهُ مُسلمُونَ " يوصى بَنِيهِ بِالْإِخْلَاصِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ: أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَبَشَّرَ يَهُوذَا بِخُرُوجِ نَبِيٍّ عَظِيمٍ مِنْ نَسْلِهِ تُطِيعُهُ الشُّعُوبُ، وَهُوَ عِيسَى بن مَرْيَمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرُوا: أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُ مِصْرَ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَأَمَرَ يُوسُفُ الْأَطِبَّاءَ فَطَيَّبُوهُ بِطِيبٍ وَمَكَثَ فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ اسْتَأْذَنَ يُوسُفُ مَلِكَ مِصْرَ فِي الْخُرُوجِ مَعَ أَبِيهِ لِيَدْفِنَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَكَابِرُ مِصْرَ وَشُيُوخُهَا. فَلَمَّا وَصَلُوا حَبْرُونَ دَفَنُوهُ (3) فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي   (1) ا: فِي المغارة. (2) سَقَطت من ا. (3) ا: فدفنوه. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كَانَ اشْتَرَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ مِنْ عَفْرُونَ بْنِ صَخْرٍ الْحِيثِيِّ، وَعَمِلُوا لَهُ عَزَاءً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. قَالُوا: ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَعَزَّى إِخْوَةُ يُوسُف يُوسُف فِي أَبِيهِمْ، وَتَرَقَّقُوا لَهُ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُمْ، فَأَقَامُوا بِبِلَادِ مِصْرَ. ثُمَّ حَضَرَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَفَاةُ، فَأَوْصَى أَنْ يُحْمَلَ مَعَهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ فَيُدْفَنَ عِنْدَ آبَائِهِ. فَحَنَّطُوهُ وَوَضَعُوهُ فِي تَابُوتٍ، فَكَانَ بِمِصْرَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مَعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَفَنَهُ عِنْدَ آبَائِهِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالُوا: فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ. هَذَا نَصُّهُمْ فِيمَا رَأَيْتُهُ وَفِيمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ [سَنَةٍ (1) ] وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَوْصَى إِلَى أَخِيه يهوذا، صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه (2) .   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: عَلَيْهِ السَّلَام. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ابْن إِسْحَق: كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ. وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ موص بن رزاح بن الْعيص بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَيُّوبُ بن موص بن رعويل بن الْعيص بن إِسْحَق ابْن يَعْقُوبَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَلَمْ تَحْرِقْهُ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَرَّرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وهرون " الْآيَات مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ دُونَ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى: " إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْكُم كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط وَعِيسَى وَأَيوب " الْآيَةَ. فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَق. وَامْرَأَتُهُ قِيلَ: اسْمُهَا " لَيَا " بِنْتُ يَعْقُوبَ، وَقِيلَ رَحْمَة بنت أفراثيم (1) ، وَقيل [ليابنت (2) ] منسا (3) بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ. وَهَذَا أَشْهَرُ فَلِهَذَا ذَكرْنَاهُ هَاهُنَا.   (1) ط: أفرايم. (2) سَقَطت من ا. (3) ا: بنت يُوسُف (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ثمَّ نعطف بِذكر أَنْبيَاء بنى إِسْرَائِيل بعذ ذِكْرِ قِصَّتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عندنَا وذكرى للعابدين (1) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة ص " وَاذْكُر عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أنس مسنى الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب * اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم رَحْمَة منا وذكرى لاولى الالباب وَخذ بِيَدِك ضعتا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب ". وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثمَّ إِبْرَاهِيم، ثمَّ إِسْمَاعِيل، ثمَّ إِسْحَق، ثُمَّ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ لُوطٌ، ثُمَّ هُودٌ، ثُمَّ صَالِحٌ، ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وهرون، ثُمَّ إِلْيَاسُ، ثُمَّ الْيَسَعُ، ثُمَّ عُرْفِيُّ [بْنُ سويلخ (1) ] بن أفراثيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتى من بنى يَعْقُوب، ثمَّ أبوب بن زراح بْنِ آمُوصَ بْنِ لِيفَرَزَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَفِي بَعْضِ هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ: [فَإِنَّ هُودًا وَصَالِحًا: الْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا بَعْدَ نُوحٍ وَقيل إِبْرَاهِيمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (2) ] * * * قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ ; مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي، والاراضي المتسعة   (1) الْآيَتَانِ: 83، 84 من سُورَة الانبياء (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بِأَرْض الثَّنية مِنْ أَرْضِ حُورَانَ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ. وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كثير. فسلب مِنْهُ ذَلِك جَمِيعه، وابتلى فِي جسده بأنواع [من (1) ] الْبَلَاءِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا. وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، ذَاكِرٌ لله عزوجل فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ. وَطَالَ مَرَضُهُ حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ، كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا. فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ. وَتَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ. وَضَعُفَ حَالُهَا وَقَلَّ مَالُهَا حَتَّى كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ ; لِتُطْعِمَهُ وَتَقُومَ بأوده، رضى الله عمنها وأرضاها، وهى صابرة مَعَه على ماحل بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُصِيبَةِ بِالزَّوْجِ، وَضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ وَخِدْمَةِ النَّاسِ، بَعْدَ السَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْحُرْمَةِ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الامثل فالامثل " [وَقَالَ (2) ] " يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ " وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 حَتَّى إِنَّ الْمَثَلَ لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ; فِي كَيْفِيَّةِ ذَهَابِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَبَلَائِهِ فِي جَسَدِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ بَلْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ: فَزَعَمَ وهب أَن ابْتُلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ. وَقَالَ أَنَسٌ: ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جسده حَتَّى فرج الله عَنهُ وَأعظم لَهُ الْأَجْرَ وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ حُمَيْدٌ: مكث فِي بلواه ثَمَانِيَة عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهِ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا قَالَتْ: يَا أَيُّوبُ ; لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ لَفَرَّجَ عَنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا، فَهَل (1) قَلِيلٌ لِلَّهِ أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً؟ فَجَزِعَتْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ وَتُطْعِمُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَيُّوبَ، خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ بَلَائِهِ أَوْ تُعْدِيَهُمْ بِمُخَالَطَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَخْدِمُهَا، عَمَدَتْ فَبَاعَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا بِطَعَامٍ طَيِّبٍ كَثِيرٍ، فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ، فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟ وَأَنْكَرَهُ، فَقَالَتْ: خَدَمْتُ بِهِ   (1) ا: فَهُوَ قَلِيل. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 أُنَاسًا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا فَبَاعَتِ الضَّفِيرَةَ الْأُخْرَى بِطَعَامٍ فَأَتَتْهُ بِهِ، فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ لَهَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى رَأْسَهَا مَحْلُوقًا قَالَ فِي دُعَائِهِ: [رب] إنى مسنى الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ ". وَقَالَ [ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ (1) ] حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لايوب أَخَوان، فجَاء يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحه، فقاما من بعيد، قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا فَجَزِعَ أَيُّوبُ من قَوْلهمَا جزعا لم يحزع [مثله (1) ] من شئ قطّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانًا وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصَانِ قَطُّ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ. مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس ابْن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ لَهُ ; كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ لَهُ صَاحبه:   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وماذاك؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ. فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ؟ غَيْرَ أَن الله عزوجل يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا، كَرَاهِيَة أَن يذكر اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ. قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: أَنِ " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ " فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبُ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أحسن ماكان، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ! هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟ فَوَاللَّهِ القدبر عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ (1) أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ ". هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهَكَذَا رَوَاهُ بِتَمَامِهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَن مُحَمَّد ابْن الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بن إِسْمَعِيل، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَلْبَسُهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ فَتَنَحَّى أَيُّوبُ وَجلسَ فِي نَاحيَة، فَجَاءَت امْرَأَته   (1) الاندر: البيدر. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فَلم تعرفه، فَقَالَت: يَا عبد الله: أَيْن ذهب هَذَا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ، وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً، فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ! قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عبد الله؟ فَقَالَ: وَيحك أَنا أَيُّوب قدرد اللَّهُ عَلَيَّ جَسَدِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ، وَقَرِّبْ عَنْ صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ (1) بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذهب، فَجعل يَأْخُذ [مِنْهُ (2) ] بِيَدِهِ وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ (3) ؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ؟ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ [فَاللَّهُ أعلم (4) ] .   (1) ا: بشر (2) لَيست فِي ا (3) ا: مَا تشبع (4) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُرْسِلَ عَلَى أَيُّوبَ رِجْلٌ (1) مِنْ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا فِي ثَوْبِهِ، فَقِيلَ يَا أَيُّوبُ: أَلَمْ يَكْفِكَ مَا أَعْطَيْنَاكَ؟ قَالَ: أَيْ رَبِّ وَمَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِكَ!. هَذَا مَوْقُوفٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَن همام بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رجل جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي (2) فِي ثَوْبه. فناداه ربه عزوجل: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بلَى يَا رب، وَلَكِن لاغنى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَقَوله: " اركض برجلك " أَيِ اضْرِبِ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ، فَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ. فَأَنْبَعَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بَارِدَةَ الْمَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهَا وَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ الله عَنهُ مَا كَانَ يحده مِنَ الْأَلَمِ وَالْأَذَى، وَالسَّقَمِ وَالْمَرَضِ، الَّذِي كَانَ فِي جَسَدِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ صِحَّةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَجَمَالًا تَامًّا وَمَالًا كَثِيرًا ; حَتَّى صَبَّ لَهُ مِنَ الْمَالِ صَبًّا، مَطَرًا عَظِيمًا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم " فَقِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَقِيلَ آجَرَهُ فِيمَنْ سَلَفَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَدَلَهُمْ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ بِكُلِّهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ: " رَحمَه من عندنَا " أَي رفعنَا   (1) الرجل: الْجَمَاعَة الْعَظِيمَة. (2) يحثى: يجمع (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عَنْهُ شِدَّتَهُ، وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، رَحْمَةً مِنَّا بِهِ وَرَأْفَةً وَإِحْسَانًا. " وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " أَيْ تَذْكِرَةً لِمَنِ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، فَلَهُ أُسْوَةٌ بِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ ; حَيْثُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا اسْمَ امْرَأَتِهِ [فَقَالَ (1) ] : هِيَ " رَحْمَةُ " مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ أبعد النجعة وَأغْرقَ النَّزْعِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ [اللَّهُ (1) ] إِلَيْهَا شَبَابَهَا وَزَادَهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا. وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعِينَ سَنَةً بِأَرْضِ الرُّومِ عَلَى دِينِ الْحَنِيفِيَّةِ، ثُمَّ غَيَّرُوا بَعْدَهُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: " وَخذ بِيَدِك ضعثا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ، إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب " هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا كَانَ مِنْ حَلِفِهِ لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ. فَقِيلَ حَلِفُهُ ذَلِكَ لبيعها ضفائرها، وَقيل لانه عارضها (2) الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ يَصِفُ لَهَا دَوَاءً لِأَيُّوبَ فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَحَلَفَ ليضربنها مائَة سَوط. فَلَمَّا عافاه الله عزوجل أَفْتَاهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا وَهُوَ كَالْعِثْكَالِ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّمَارِيخَ، فَيَجْمَعَهَا كُلَّهَا وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ هَذَا مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ بِمِائَةِ سَوْطٍ وَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ. وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَأَطَاعَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ الصَّابِرَةِ الْمُحْتَسِبَةِ، الْمُكَابِدَةِ الصِّدِّيقَةِ البارة الراشدة، رضى الله عَنْهَا.   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: اعترضها. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَلِهَذَا عقب الله الرُّخْصَةَ وَعَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ: " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْد إِنَّه أواب ". وَقَدِ اسْتَعْمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَتَوَسَّعَ آخَرُونَ فِيهَا حَتَّى وَضَعُوا كِتَابَ الْحِيَلِ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَصَدَّرُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَتَوْا فِيهِ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ: أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ إِنَّهُ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَحْتَجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَبِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ، وَبِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِمَعْنَاهُ. وَأَنَّهُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ " حَوْمَلَ "، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ " بشر " ابْن أَيُّوبَ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنه " ذوالكفل " فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَاتَ ابْنُهُ هَذَا وَكَانَ نَبِيًّا فِيمَا يَزْعُمُونَ وَكَانَ عُمُرُهُ مِنَ السِّنِينَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ. وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا قِصَّةَ ذِي الْكِفْلِ ; إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ. إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ [وَهَذِه هِيَ (1) ] .   (1) لَيست فِي ا. (24 - قصَص الانبياء 1) (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 قِصَّةُ ذِي الْكِفْلِ الَّذِي زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ ابْن أَيُّوب قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ (1) قِصَّةِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحين ". وَقَالَ تَعَالَى بعد قصَّة أَيُّوب أَيْضا فِي سُورَة ص: " وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الاخيار ". فَالظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَقْرُونًا مَعَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نبى، على مِنْ رَبِّهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَدْ زَعَمَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا (2) [عَادِلًا. وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ] (3) . وروى ابْن جرير وَأَبُو نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا [صَالِحًا (4) ] . وَكَانَ قَدْ تَكَفَّلَ لبنى قومه أَن يكفيهم أَمرهم، وَيقْضى بَينهم بِالْعَدْلِ [فَفعل (4) ] فَسمى ذاالكفل.   (1) ا: فِي قصَّة أَيُّوب. (2) ا: وَحكما عدلا (3) لَيست فِي ا. (4) سَقَطت من ط (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ: لَوْ أَنى اسْتخْلف رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي، حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ؟ فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: من يتَقَبَّل منى (1) بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفُهُ: يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ. قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا تغْضب؟ قَالَ نعم. قَالَ: فَرده ذَلِك الْيَوْم، وَقَالَ مثلهَا [فِي] (2) الْيَوْمَ الْآخَرَ، فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ أَنَا، فَاسْتَخْلَفَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَقُولُ لِلشَّيَاطِينِ: عَلَيْكُمْ بِفُلَانٍ، فَأَعْيَاهُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ دَعُونِي وَإِيَّاهُ، فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ فَقِيرٍ، وَأَتَاهُ حِين أَخذ مضجعه للقائلة، وَكَانَ لاينام اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةَ، فَدَقَّ الْبَابَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ. قَالَ: فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَجَعَلَ يَقُصُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي وَفَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا، وَجَعَلَ يُطَوِّلُ عَلَيْهِ حَتَّى حضر الرواح وَذَهَبت القائلة. فَقَالَ: إِذا رحت فإننى آخُذْ لَكَ بِحَقِّكَ. فَانْطَلَقَ وَرَاحَ فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَتْبَعُهُ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَعَلَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمَظْلُومُ. فَفَتَحَ لَهُ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذا قعدت فأتني؟   (1) ا: من يتَقَبَّل لى. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ، إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ، وَإِذَا قُمْتَ جَحَدُونِي. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي. قَالَ: فَفَاتَتْهُ القائلة، فراح فَجعل ينتظره فَلَا يَرَاهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهله، لاتدعن أَحَدًا يَقْرُبُ هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ، فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ. فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَرَاءَكَ وَرَاءَكَ. فَقَالَ: قد أَتَيْته أمس وَذكرت لَهُ أَمْرِي. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَدَعَ أَحَدًا يَقْرُبُهُ. فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّةً فِي الْبَيْتِ فَتَسَوَّرَ مِنْهَا، فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا هُوَ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ. قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ آمُرْكَ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قبلى وَالله فَلم تُؤْتَ، فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَرَفَهُ. فَقَالَ: أَعَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ، أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شئ فَفعلت كل مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ ذَا الْكِفْلِ، لانه تكفل بِأَمْر فوفى بِهِ! و [قد] (1) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ وَابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ نَحْوُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أبوالجماهر، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ كنَانَة بن الاخنس، قَالَ: سَمِعت الاشعري   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 - يَعْنِي أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ على هَذَا الْمِنْبَر يَقُول: ماكان ذوالكفل نَبيا (1) وَلَكِن كَانَ رجل صَالح يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذوالكفل من بعده [فَكَانَ (2) ] يصلى كل يَوْم مائَة صَلَاة، فَسمى ذاالكفل. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مرار - لم أحدث بِهِ، وَلَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: " كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرجل من امْرَأَته أرعدت وبكت، فَقَالَ [لَهَا (2) ] مَا يبكيك؟ أأكرهتك؟ قَالَتْ لَا: وَلَكِنْ هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا حَمَلَتْنِي عَلَيْهِ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَتَفْعَلِينَ هَذَا وَلَمْ تَفْعَلِيهِ قَطُّ! ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ اذْهَبِي بِالدَّنَانِيرِ لَكِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْصِي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلْكِفْلِ! وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ وَقَالَ حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ فَوَقَفَهُ على ابْن عمر.   (1) ا: بنبى. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعْدًا هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ هَذَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ هُوَ ذَا الْكِفْلِ [وَإِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ الْكِفْلُ (2) ] مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ فَهُوَ رجل آخر غير الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن. فَالله تَعَالَى أعلم.   (1) ا: وَلم يرو عَنهُ إِلَّا عبد الله. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بَاب ذكر اسْم من أهلكوا بعامة وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أهلكنا الْقُرُون الاولى.." الْآيَةَ (1) . كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أهلكنا الْقُرُون الاولى ". وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ. وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقْفُهُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُهْلِكَتْ بِعَامَّةٍ قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمِنْهُمْ: أَصْحَابُ الرَّسِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: " وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تبرنا تتبيرا ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد ".   (1) الْآيَة: 42 من سُورَة الْقَصَص. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَهَذَا السِّيَاقُ وَالَّذِي قَبْلَهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا وَدُمِّرُوا وَتُبِّرُوا، وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَهَذَا يَرُدُّ اخْتِيَارَ ابْنِ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ عِنْد ابْن إِسْحَق وَجَمَاعَةٍ كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثَمُودَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ، عِنْدَ ذِكْرِ بِنَاءِ دمشق، عَن تَارِيخ أَبى الْقَاسِم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وَغَيْرِهِ، أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ كَانُوا بِحَضُورٍ، فَبَعْثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُقَالُ لَهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ، فَكَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ. فَسَارَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بن إرم ابْن سَام بن نوح وَولده مِنَ الرَّسِّ، فَنَزَلَ الْأَحْقَافَ. وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الرَّسِّ وَانْتَشَرُوا فِي الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَفَشَوْا مَعَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا. حَتَّى نَزَلَ جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، دِمَشْقَ وَبَنَى مَدِينَتَهَا، وَسَمَّاهَا جَيْرُونَ، وَهِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ. وَلَيْسَ أَعْمِدَةُ الْحِجَارَةِ فِي مَوْضِعٍ أَكْثَرَ مِنْهَا بِدِمَشْقَ، فَبَعَثَ اللَّهُ هُودَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن رَبَاح بن خَالِد بن الحلود بْنِ عَادٍ، إِلَى عَادٍ، يَعْنِي أَوْلَادَ عَادٍ بالاحقاف فَكَذبُوهُ، فأهلكهم الله عزوجل. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ قَبْلَ عَادٍ بدهور متطاولة فَالله أعلم.   (1) الْآيَتَانِ: 38 - 39: (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَبِيبِ ابْن بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَذْرَبِيجَانَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي بكر عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسُّوا فِيهَا نَبِيّهم، أَي دفنوه فِيهَا. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجَ وهم أَصْحَاب يس. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَلْجُ مِنْ قُرَى الْيَمَامَةِ. قُلْتُ: فَإِن كَانُوا أَصْحَاب يس كَمَا زَعَمَهُ عِكْرِمَةُ، فَقَدْ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِمْ: " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون " وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُمْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ. وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُمْ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ أُهْلِكُوا أَيْضًا وَتُبِّرُوا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النقاس: أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ كَانَتْ لَهُمْ بِئْرٌ تَرْوِيهِمْ وَتَكْفِي أَرْضَهُمْ جَمِيعَهَا، وَكَانَ لَهُمْ مَلَكٌ عَادِلٌ حَسَنُ السِّيرَةِ، فَلَمَّا مَاتَ وَجَدُوا عَلَيْهِ وَجْدًا عَظِيمًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ تَصَوَّرَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَمُتْ، وَلَكِنْ تَغَيَّبْتُ عَنْكُمْ حَتَّى أَرَى صَنِيعَكُمْ. فَفَرِحُوا أَشَدَّ الْفَرَحِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ حِجَابٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَبَدًا، فَصَدَّقَ بِهِ أَكْثَرُهُمْ، وَافْتَتَنُوا بِهِ وَعَبَدُوهُ. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبيا، فَأخْبرهُم (1) أَنَّ هَذَا شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ.   (1) ا: وَأخْبرهمْ. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ، وَكَانَ اسْمُهُ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي الْبِئْرِ، فَغَارَ مَاؤُهَا وَعَطِشُوا بَعْدَ رَيِّهِمْ، وَيَبِسَتْ أَشْجَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ ثِمَارُهُمْ، وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ. وَتَبَدَّلُوا بَعْدَ الْأُنْسِ بِالْوَحْشَةِ، وَبَعْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالْفُرْقَةِ، وَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَسَكَنَ فِي مَسَاكِنِهِمُ الْجِنُّ وَالْوُحُوشُ (1) ، فَلَا يُسْمَعُ بِبِقَاعِهِمْ إِلَّا عَزِيفُ الْجِنّ وزئير الاسود (2) وَصَوْتُ الضِّبَاعِ. فَأَمَّا مَا رَوَاهُ - أَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ - عَنْ مُحَمَّدِ [بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ عَن (3) ] ابْن إِسْحَق عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " إِن أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ "، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أهل قربَة فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا ذَلِكَ العَبْد الْأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ عَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقَوْهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ أَصَمَّ، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعُهُ وَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى تِلْكَ (4) الْبِئْرِ فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ وَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَيُدْلِي إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، ثُمَّ يَرُدُّهَا كَمَا كَانَتْ. قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَمَ حُزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَهَا وَجَدَ سنة، فاضطجع فَنَامَ (5) ، فَضرب الله على أُذُنه سبع سِنِين   (1) ا: والوحش. (2) ط: الاسد. (3) سَقَطت من ا. (4) ا: ذَلِك. (5) ا: ينَام (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 نَائِما. ثمَّ إِنَّه هَب فتمطى فتحول (1) لِشِقِّهِ الْآخَرِ، فَاضْطَجَعَ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ وَاحْتَمَلَ حُزْمَتَهُ وَلَا يَحْسَبُ أَنَّهُ نَامَ (2) إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حُزْمَتَهُ ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ. ثمَّ [إِنَّه (3) ] ذهب إِلَى الحفيرة (4) ، إِلَى مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يجده. وَقد كَانَ بدا لِقَوْمِهِ فِيهَا بَدَاءٌ، فَاسْتَخْرَجُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ. قَالَ: فَكَانَ (5) نَبِيُّهُمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ مَا فَعَلَ، فَيَقُولُونَ لَهُ مَا نَدْرِي؟ حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وهب (6) الاسود من نومته (7) بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ". فَإِنَّهُ [حَدِيثٌ (8) ] مُرْسَلٌ وَمَثَلُهُ فِيهِ نَظَرٌ. وَلَعَلَّ بَسْطَ قِصَّتِهِ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَدْ رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الرَّسِّ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ بدالهم فَآمَنُوا بِنَبِيِّهِمْ. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثَتْ لَهُمْ أَحْدَاثٌ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ بَعْدَ هَلَاكِ آبَائِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ حَيْثُ تُوُعِّدُوا بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا، وَلَمْ يُذْكَرْ هَلَاكُهُمْ، وَقد صرح بِهَلَاك أَصْحَاب الرس. وَالله تَعَالَى أعلم.   (1) ا: وتحول. (2) ا: إِلَّا أَنه نَام سَاعَة. (3) لَيست فِي ا. (4) ا: الحفرة (5) اوكان (6) ا: وَأهب (7) ا: نَومه. (8) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قصَّة قوم يس وهم (1) : أَصْحَاب الْقرْيَة أَصْحَاب يس قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شئ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طائركم مَعكُمْ أإن ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى، قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * ومالى لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تغنى عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قيل ادخل الْجنَّة قَالَ: يَا لَيْت قوم يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خامدون " (2) . اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ هَذِه الْقرْيَة " أنطاكية "   (1) ط: وَمِنْهُم. تَحْرِيف (2) الْآيَات: 13 - 29 من سُورَة يس (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 رَوَاهُ ابْن إِسْحَق فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبِ [الْأَحْبَارِ (1) ] ووهب [ابْن مُنَبّه، وَكَذَا روى عَن بُرَيْدَة بن الخصيب وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة والزهرى وَغَيرهم. قَالَ ابْن إِسْحَق فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ وَوَهْبٍ (1) ] أَنَّهُمْ قَالُوا: وَكَانَ لَهَا مَلِكٌ اسْمُهُ أَنْطِيخَسُ بن أنطيخس وَكَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ. فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ ثَلَاثَةً من الرُّسُل وهم: صَادِق ومصدوق (2) ، وَشَلُومُ، فَكَذَّبَهُمْ. وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُمْ رُسُلٌ مِنَ الله عزوجل. وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلًا مِنَ الْمَسِيحِ. وَكَذَا قَالَ ابْن جرير، عَن وهب، عَن ابْن سُلَيْمَان، عَن شُعَيْب الجبائى: كَانَ اسْم الْمُرْسلين (3) الْأَوَّلَيْنِ: شَمْعُونَ، وَيُوحَنَّا، وَاسْمُ الثَّالِثِ بُولِسَ، وَالْقَرْيَةِ أَنْطَاكِيَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَسِيحُ ثَلَاثَةً مِنَ الْحَوَارِيِّينَ كَانُوا أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلِهَذَا كَانَتْ إِحْدَى الْمُدُنِ الْأَرْبَعِ الَّتِى تكون فِيهَا بتاركة النَّصَارَى. وَهُنَّ: أَنْطَاكِيَةُ، وَالْقُدْسُ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَرُومِيَّةُ. ثُمَّ بعْدهَا القسطنطنية وَلَمْ يُهْلَكُوا. وَأَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ (4) فِي الْقُرْآنِ أُهْلِكُوا، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ قِصَّتِهَا بعد قَتلهمْ صديق الْمُرْسلين ": إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خامدون " وَلَكِن إِنْ كَانَتِ الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ، بُعِثُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ قَدِيمًا فَكَذَّبُوهُمْ وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ عُمِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ آمَنُوا بِرُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، فَلَا يمْنَع هَذَا. وَالله أعلم.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: وصدوق. (3) ا: الرسولين (4) ا: المذكورون. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ فَضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ ; وَلِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاضْرِبْ لَهُم مثلا " يعْنى لقَوْمك يَا مُحَمَّد " أَصْحَاب الْقرْيَة " يَعْنِي الْمَدِينَةَ " إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث " أَيْ أَيَّدْنَاهُمَا بِثَالِثٍ (1) فِي الرِّسَالَةِ، " فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون "، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ ; كَمَا قَالَتِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ لِرُسُلِهِمْ، يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَشَرِيًّا. فَأَجَابُوهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّا رُسُلُهُ إِلَيْكُمْ، وَلَوْ كُنَّا كَذَّبَنَا عَلَيْهِ لَعَاقَبْنَا وَانْتَقَمَ مِنَّا أَشَدَّ الِانْتِقَامِ. " وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين " أَي إِنَّمَا علينا أَن نُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ " قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم " أَيْ تَشَاءَمْنَا بِمَا جِئْتُمُونَا بِهِ، " لَئِنْ لَمْ تنتهوا لنرجمنكم " [قيل (2) ] بالمقال، وَقيل بالفعال. يُؤَيّد الاول قَوْله: " وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم " توعدوهم (3) بِالْقَتْلِ والاهانة. " قَالُوا طائركم مَعكُمْ " أَيْ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟ " أَيْ بِسَبَبِ أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ بِالْهُدَى وَدَعَوْنَاكُمْ إِلَيْهِ، تَوَعَّدْتُمُونَا بِالْقَتْلِ والاهانة؟ " بل أَنْتُم قوم مسرفون " أَيْ لَا تَقْبَلُونَ الْحَقَّ وَلَا تُرِيدُونَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى " يعْنى لنصرة   (1) ا: بثالثهما. (2) من ا. (3) المطبوعة: فوعدوهم (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الرُّسُلِ وَإِظْهَارِ الْإِيمَانِ بِهِمْ " قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ " أَيْ يَدْعُونَكُمْ (1) إِلَى الْحَقِّ الْمَحْضِ بِلَا أُجْرَةٍ وَلَا جِعَالَةٍ. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ مِمَّا لَا يَنْفَعُ شَيْئًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. " إِنِّي إِذًا لفى ضلال مُبين " أَي إِن تركت عبَادَة الله وعبدت مَعَه مَا سواهُ. ثمَّ قَالَ مُخَاطبا للرسل: " إِن آمَنت بربكم فاسمعون " قِيلَ " فَاسْتَمِعُوا مَقَالَتِي وَاشْهَدُوا لِي بِهَا عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاسْمَعُوا يَا قَوْمِي إِيمَانِي بِرُسُلِ اللَّهِ جَهْرَةً. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَتَلُوهُ، قِيلَ رَجَمًا، وَقِيلَ عَضًّا، وَقِيلَ وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رجل وَاحِد فَقَتَلُوهُ. وَحكى ابْن إِسْحَق عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وطئوه بأرجلهم، حَتَّى أخرجُوا قصبته. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: كَانَ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ " حَبِيبَ بْنَ مُرَى " ثُمَّ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا، وَقِيلَ حباكا (2) ، وَقِيلَ إِسْكَافًا، وَقِيلَ قَصَّارًا، وَقِيلَ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي غَارٍ هُنَاكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاس: كَانَ حبيب الْبحار قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ فَقتله قومه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى. " قيل ادخل الْجنَّة " يَعْنِي لَمَّا قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا رأى فِيهَا من النضرة وَالسُّرُور " قَالَ   (1) المطبوعة: أَي يدعونكم. (2) ا: حِبَالًا. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي ربى وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين " يعْنى ليؤمنوا بِمَا آمَنت بِمَا فَيَحْصُلَ لَهُمْ مَا حَصَلَ لِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاس: نصح قومه فِي حَيَاته بقوله: " يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين " وَبعد مماته [فِي قَوْله (1) ] " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي ربى وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين " [رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: لَا يلقى الْمُؤمن إِلَّا ناصحا. لَا يلقى غَاشًّا ; لَمَّا عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ. " قَالَ: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لى ربى وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين (1) ] تمنى وَالله أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِمَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ الله وَمَا هُوَ عَلَيْهِ! قَالَ قادة: فَلَا وَاللَّهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هم خامدون ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا منزلين " أَي وَمَا احْتَجْنَا فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَى إِنْزَالِ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ. هَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ (2) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ جُنْدًا، أَيْ رِسَالَةً [أُخْرَى (3) ] . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قُلْتُ: وَأَقْوَى، وَلِهَذَا قَالَ: " وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ " أَي وَمَا كُنَّا نحتاج (4)   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: أشياخه. (3) لَيست فِي ا. (4) ا: مُحْتَاجين. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فِي الِانْتِقَامِ إِلَى هَذَا حِينَ كَذَّبُوا رُسُلنَا وَقَتَلُوا وَلِيَّنَا " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذا هم خامدون ". قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ الَّذِي لِبَلَدِهِمْ، ثُمَّ صَاح بهم صَيْحَة وَاحِدَة فإذاهم خامدون، أَيْ قَدْ أُخْمِدَتْ أَصْوَاتُهُمْ، وَسَكَنَتْ حَرَكَاتُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ لَيْسَتْ أَنْطَاكِيَةَ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ [أُهْلِكُوا (1) ] بِتَكْذِيبِهِمْ (2) رُسُلَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَأَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ آمَنُوا وَاتَّبَعُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَيْهِمْ. فَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْأَشْقَرِ (3) ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " السُّبَّقُ ثَلَاثَةٌ: فَالسَّابِقُ إِلَى مُوسَى يُوشَع ابْن نُونٍ، وَالسَّابِقُ إِلَى عِيسَى صَاحِبُ يس، وَالسَّابِقُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ "، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ ; لِأَنَّ حُسَيْنًا هَذَا مَتْرُوكٌ شيعي مِنَ الْغُلَاةِ، وَتَفَرُّدُهُ بِهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضعفه بِالْكُلِّيَّةِ. وَالله أعلم.   (1) لَيست فِي ا (2) ابتكذيب. (3) ا: الاصفر. " م 25 - قصَص الانبياء " (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: " فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المومنين (2) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة وَالصَّافَّات: " وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزِيدُونَ * فآمنوا فمتعناهم إِلَى حِين (3) " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة ن: " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مذمون * فاجتباه ربه فَجعله من الصَّالِحين (4) ". قَالَ أهل التَّفْسِير: بعث الله ينس عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى أهل " نِينَوَى "   (1) الْآيَة: 98 (2) الْآيَتَانِ: 87، 88 (3) الْآيَات: 129 - 148 (4) الْآيَات: 48 - 50 (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 من أَرض الْموصل، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله عزوجل، فَكَذَّبُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِهُمْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَتَحَقَّقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثمَّ عجوا إِلَى الله عزوجل، وَصَرَخُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسْكَنُوا لَدَيْهِ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ وَالْأُمَّهَاتُ. وَجَأَرَتِ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ والمواشى، فرغت الابل وفصلانها، وخارت الْبَقر وَأَوْلَادهَا، وثغث الْغَنَمُ وَحُمْلَانُهَا وَكَانَتْ سَاعَةً عَظِيمَةً هَائِلَةً. فَكَشَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، عَنْهُمُ الْعَذَاب الذى كَانَ قد اتَّصل بهم سَببه، وَدَارَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنقعها إيمَانهَا " أَيْ هَلَّا وُجِدَتْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْقُرُونِ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نبى إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون ". وَقَوْلُهُ: " إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين " أَيْ آمَنُوا بِكَمَالِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ يَنْفَعُهُمْ هَذَا الْإِيمَانُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ كَمَا أَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الاظهر من السِّيَاق: نعم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " لَمَّا آمَنُوا " وَقَالَ تَعَالَى: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزِيدُونَ * فآمنوا فمتعناهم إِلَى حِين "، وَهَذَا الْمَتَاعُ إِلَى حِينٍ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ رَفْعِ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ لَا مَحَالَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ: فَعَنْ مَكْحُولٍ عَشَرَةُ آلَافٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قَوْلِهِ: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ " قَالَ: " يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا " فَلَوْلَا هَذَا الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ لَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ فَاصِلًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَنْهُ: وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَنْهُ وَبِضْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْحُوتِ أَوْ بَعْدَهُ؟ أوهما أُمَّتَانِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: هِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي التَّفْسِيرِ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ مُغَاضِبًا بِسَبَبِ قَوْمِهِ، رَكِبَ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ فَلَجَّتْ بِهِمْ، وَاضْطَرَبَتْ وَمَاجَتْ بِهِمْ وَثَقُلَتْ بِمَا فِيهَا، وَكَادُوا يَغْرَقُونَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قَالُوا: فَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعُوا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَوْهُ مِنَ السَّفِينَةِ لِيَتَخَفَّفُوا مِنْهُ. فَلَمَّا اقْتَرَعُوا وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ فَلَمْ يَسْمَحُوا بِهِ، فَأَعَادُوهَا ثَانِيَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَشَمَّرَ (1) لِيَخْلَعَ ثِيَابَهُ وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ. ثُمَّ أَعَادُوا الْقُرْعَةَ ثَالِثَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِن يُونُس لمن المرسليمن * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ من المدحضين * فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم ". وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أُلْقِيَ فِي الْبَحْر، وَبعث الله عزوجل حُوتًا عَظِيمًا مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ فَالْتَقَمَهُ وَأَمَرَهُ الله تَعَالَى أَن لَا يَأْكُل لَهُ لَحْمًا وَلَا يهشم لَهُ عَظْمًا فَلَيْسَ لَكَ بِرِزْقٍ، فَأَخْذَهُ فَطَافَ [بِهِ (2) ] الْبِحَارَ كُلَّهَا. وَقِيلَ إِنَّهُ ابْتَلَعَ ذَلِكَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ أَكْبَرُ مِنْهُ. قَالُوا: وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِ الْحُوتِ حَسِبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَحَرَّكَ جَوَارِحَهُ فَتَحَرَّكَتْ، فَإِذَا هُوَ حَيٌّ فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا وَقَالَ: يَا رَبِّ اتَّخَذْتُ لَك السجدا [فِي مَوضِع (2) ] لَمْ يَعْبُدْكَ أَحَدٌ فِي مَثَلِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَار لبئه فِي بَطْنِهِ. فَقَالَ مَجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ: الْتَقَمَهُ ضُحًى وَلَفَظَهُ عَشِيَّةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا، وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَيَشْهَدُ لَهُ شعر أُميَّة بن أَبى الصَّلْت:   (1) ا: فتشمر (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وَأَنت بِفضل مِنْك نجيت يونسا * وَقد بَات فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ [أَبِي (1) ] الْحَسَنِ وَأَبُو مَالِكٍ: مَكَثَ فِي جَوْفِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مِقْدَارُ مَا لَبِثَ فِيهِ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الْحُوتُ يَطُوفُ بِهِ فِي قَرَارِ الْبِحَارِ اللُّجِّيَّةِ، وَيَقْتَحِمُ بِهِ لُجَجَ الْمَوْجِ الْأُجَاجِيِّ (2) ، فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ لِلرَّحْمَنِ، وَحَتَّى سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَى لِفَالِقِ الْحَبِّ والنوى، وَرب السَّمَوَات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا بَيْنَهَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ، قَالَ مَا قَالَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ ذُو الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ وَالْبَلْوَى، سَامِعُ الْأَصْوَاتِ وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَعَالِمُ الْخِفْيَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ، وَمُجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَإِنْ عَظُمَتْ، حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْأَمِينِ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ وإله الْمُرْسلين: " وَذَا النُّون إِذْ ذهب " [أَي إِلَى أَهله (1) ] " مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ونجيناه من الْغم وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ " " فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ " أَي نضيق عَلَيْهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: نُقَدِّرُ مِنَ التَّقْدِيرِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ، قَدَرَ وَقَدَّرَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ. فَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى * تَبَارَكْتَ ; مَا تُقَدِّرْ يَكُنْ، فَلَكَ الْأَمْرُ " فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُون   (1) لَيست فِي ا (2) الاجاجى: الْملح. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك ; ظلمَة الْحُوتِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ. وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: ابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ فَصَارَت ظُلْمَةُ الْحُوتَيْنِ مَعَ ظُلْمَةِ الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون " قيل مَعْنَاهُ فلولا أَنَّهُ سَبَّحَ اللَّهَ هُنَالِكَ، وَقَالَ مَا قَالَ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْخُضُوعِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَى وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، لَلَبِثَ هُنَالِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَبُعِثَ مِنْ جَوْفِ ذَلِكَ الْحُوتِ. هَذَا مَعْنَى ماروى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ " مِنْ قَبْلِ أَخْذِ الْحُوتِ لَهُ " مِنَ الْمُسَبِّحِينِ " أَيِ الْمُطِيعِينَ الْمُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يحفضك، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ". وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ حَدِيث مُحَمَّد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 إِسْحَق، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ [قَالَ (1) ] سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ [الْحُوتِ (1) ] أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوت: أَن خُذْهُ وَلَا تخدش لَهُ لَحْمًا وَلَا تكسر لَهُ عَظْمًا. فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ سمع يُونُس حسا، فَقَالَ فِي نَفسه ماهذا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ. قَالَ فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ! قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. قَالُوا: الْعَبْدُ الصَّالِحُ ; الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ: " وَهُوَ سقيم ". هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَادِ. كَذَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبى حَاتِم فِي تَفْسِيره: حَدثنَا أَبُو عبد اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ [ابْنِ (2) ] أَخِي وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ يزِيد الرفاشى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ أَنَسًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِن يُونُسَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنى كنت من الظَّالِمين. فَأَقْبَلت [هَذِه] (2) الدعْوَة تَحت الْعَرْش، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ من بِلَاد غَرِيبَة. فَقَالَ:   (1) لَيست فِي ا (2) سَقَطت من ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أما تعرفُون ذَاك؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ. قَالُوا: عَبَدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عمل متقبل (1) ودعوة مجابة؟ قَالُوا: يَا رَبنَا! أَو لَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنَجِّيَهُ مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ ". وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. زَادَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ قُسَيْطٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْيَقْطِينَةَ. قُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَا الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ [قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ (2) ] وَهَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً (3) وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، أَوْ قَالَ هَشَاشِ الارض، قَالَ: فتفسخ عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ حَتَّى نَبَتَ. وَقَالَ [أُمَيَّةُ (2) ] بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي ذَلِكَ بَيْتًا مِنْ شِعْرِهِ؟ فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ برحمة * من الله لَوْلَا الله أصبح ضاويا (4) وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ ضَعِيفٌ، وَلَكِنْ يَتَقَوَّى بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ ; كَمَا يَتَقَوَّى ذَاكَ بِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " فنبذناه " أَيْ أَلْقَيْنَاهُ " بِالْعَرَاءِ " وَهُوَ الْمَكَانُ الْقَفْرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شئ مِنَ الْأَشْجَارِ، بَلْ هُوَ عَارٍ مِنْهَا، " وَهُوَ سقيم "   (1) ا: لم نزل ترفع لَهُ عملا متقبلا (2) سَقَطت من ا (3) الاروية: أُنْثَى الوعل. وَالْجمع أروى وَانْظُر الْحَيَوَان للجاحظ 3 / 498. (4) ا: ألفى ضاحيا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أَيْ ضَعِيفُ الْبَدَنِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: كَهَيْئَةِ الصَّبِيِّ [حِينَ يُولَدُ (1) ] وَهُوَ المنفوس لَيْسَ عَلَيْهِ شئ. " وأنبتنا على شَجَرَة من يَقْطِين " قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَهِلَالُ بن يسَاف وَعبد الله بن طَاوُوس والسى وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْقَرْعُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي إِنْبَاتِ الْقَرْعِ عَلَيْهِ حِكَمٌ جَمَّةٌ ; مِنْهَا أَنَّ وَرَقَهُ فِي غَايَةِ النُّعُومَةِ، وَكَثِيرٌ وَظَلِيلٌ، وَلَا يَقْرَبُهُ ذُبَابٌ، وَيُؤْكَلُ ثَمَرُهُ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَى آخِرِهِ، نيا وَمَطْبُوخًا، وَبِقِشْرِهِ وَبِبِزْرِهِ أَيْضًا. وَفِيهِ نَفْعٌ كَثِيرٌ وَتَقْوِيَةٌ لِلدِّمَاغِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَة فِي تسخير الله تَعَالَى لخه تِلْكَ الْأُرْوِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ لَبَنَهَا وَتَرْعَى فِي الْبَرِّيَّةِ، وَتَأْتِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فاستجبنا لَهُ فنجيناه من الْغم " أَيِ الْكَرْبِ وَالضِّيقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ " وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ " أَي وَهَذَا صنيعنا بِكُل من دَعَانَا وَاسْتَجَارَ بِنَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عمرَان (2) بن بكار الكلاعى، حَدثنَا يحيى ابْن صَالح، حَدثنَا أبويحيى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ (3) بْنَ مَالِكٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اسْمُ اللَّهِ الذى   (1) سَقَطت من ا (2) اعمر. (3) ا: سعيد. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: " فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ " فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ أَبُو خَالِدٍ: أَحْسَبُهُ عَنْ مُصْعَبٍ - يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ - عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ لَهُ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: يُرِيد بِهِ: " وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ ". وَهَذَانِ طَرِيقَانِ عَنْ سَعْدٍ. وَثَالِثٌ أَحْسَنُ مِنْهُمَا: وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عُمَيْر، حَدثنَا يُونُس بن ابى إِسْحَق الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ - وَهُوَ ابْن أَبى وَقاص رضى الله عَنهُ - قَالَ: مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي ثُمَّ لَمْ يرد عَلَيَّ السَّلَامَ، [فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: هَلْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ شئ؟ قَالَ: لَا. وماذاك؟ قُلْتُ لَا، إِلَّا أَنِّي مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ آنِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي ثمَّ لم يرد عَلَيَّ السَّلَامَ (1) ] قَالَ: فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنعك أَن لاتكزون رددت على   (1) سَقَطت من. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أَخِيكَ السَّلَامَ؟ قَالَ: مَا فَعَلْتُ. قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ بَلَى، حَتَّى حَلَفَ وَحَلَفْتُ. قَالَ: ثُمَّ إِنْ عُثْمَانَ ذَكَرَ فَقَالَ بَلَى، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، إِنَّكَ مَرَرْتَ بِي آنِفًا، وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُهَا قَطُّ إِلَّا تَغَشَّى بَصَرِي وَقَلْبِي غِشَاوَةٌ. قَالَ سَعْدٌ: فَأَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَشَغَلَهُ حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الْأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا؟ أَبُو إِسْحَق؟ " قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " خه (1) ؟ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ فَشَغَلَكَ. قَالَ: " نَعَمْ دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنى كنت من الظَّالِمين "، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا [مُسْلِمٌ رَبَّهُ (2) ] فِي شئ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ. ذِكْرُ فَضْلِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين " وَذكره تَعَالَى فِي جملَة الانبياء الكرامو فِي سورتي النِّسَاء والانعام، عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا وَكِيع، حثنا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ [بِهِ (2) ] .   (1) المطبوعة: فَمه. محرفة. (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدثنَا شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى. وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. قَالَ شُعْبَةُ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ: لَمْ يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، هَذَا أَحُدُهَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ [أَحْمَدُ (1) ] عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُونُس (2) بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، أَنبأَنَا إِسْرَائِيل، عَمَّن أَبى يحيى العتاب، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ من حَدِيث شُعْبَة بِهِ.   (1) لَيست فِي ا (2) ط: يُوسُف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وفى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عبد الرَّحْمَن ابْن هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِهِ: وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أفضل (1) من يُونُس بن مَتى [وَهَذَا اللَّفْظ يقوى أحد الْقَوْلَيْنِ من الْمَعْنى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى (2) ] أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَن يفضل نَفسه على يُونُس. وَالْقَوْل الآخر: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَنِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، كَمَا قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ الله وَالْمُرْسلِينَ. وَإِلَى هُنَا ينتهى الْجُزْء الاول من " قصَص الانبياء لِابْنِ كثير " ويتلوه يَقُولَ أَنَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.   (1) لَيست فِي ا (2) ط: يُوسُف. (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وفى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عبد الرَّحْمَن ابْن هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِهِ: وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أفضل (1) من يُونُس بن مَتى [وَهَذَا اللَّفْظ يقوى أحد الْقَوْلَيْنِ من الْمَعْنى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى (2) ] أَيْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَن يفضل نَفسه على يُونُس. وَالْقَوْل الآخر: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَنِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، كَمَا قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى " وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ مِنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ الله وَالْمُرْسلِينَ. وَإِلَى هُنَا ينتهى الْجُزْء الاول من " قصَص الانبياء لِابْنِ كثير " ويتلوه الْجُزْء الثَّانِي وأوله: " قصَّة مُوسَى الكليم " بعون الله وتوفيقه.   (1) ا: خير (2) لَيست فِي ا (3) سَقَطت من المطبوعة! (*) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ذكر قصَّة مُوسَى الكليم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ عازر بن لاوى بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام، قَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتنَا أَخَاهُ هرون نَبِيًّا (1) ". وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة مبسوطة مُطَوَّلَة وَغير مُطَوَّلَة. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ. وَسَنُورِدُ سِيرَتَهُ هَاهُنَا مِنِ ابْتِدَائِهَا إِلَى آخِرِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَمَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّلَفُ وَغَيْرُهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. قَالَ الله تَعَالَى: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم طسم. تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين، نتلو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا، يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون " (2) .   (1) سُورَة مَرْيَم (2) سُورَة الْقَصَص (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 يَذْكُرُ تَعَالَى مُلَخَّصَ الْقِصَّةِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا بَعْدَ هَذَا، فَذكر أَنه يَتْلُو عَلَى نَبِيِّهِ خَبَرَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي كَأَنَّ سَامِعَهُ مُشَاهِدٌ لِلْأَمْرِ مُعَايِنٌ لَهُ. " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شيعًا "، أَيْ تَجَبَّرَ وَعَتَا وَطَغَى وَبَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ الْأَعْلَى. وَجَعَلَ أَهلهَا شيعًا، أَيْ قَسَّمَ رَعِيَّتَهُ إِلَى أَقْسَامٍ، وَفِرَقٍ وَأَنْوَاعٍ، يستضعف طَائِفَة مِنْهُم، وَهُمْ شَعْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ سلالة نَبِي الله يَعْقُوب ابْن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ خِيَار أهل الارض. وَقد سلط عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكَ الظَّالِمَ الْغَاشِمَ الْكَافِرَ الْفَاجِرَ، يستعبدهم ويستخدمهم فِي أخس الصَّنَائِع والحرف وأرداها [وَأَدْنَاهَا (1) ] وَمَعَ هَذَا " يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين ". وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْقَبِيحِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا يأثرونه عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ. وَذَلِكَ - وَالله أعلم - حِين كَانَ جَرَى عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ الْخَلِيلِ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ، مِنْ إِرَادَتِهِ إِيَّاهَا عَلَى السُّوءِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ لَهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ مَشْهُورَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَحَدَّثَ بِهَا الْقِبْطُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ووصلت إِلَى فِرْعَوْن فَذكرهَا لَهُ بعض أُمَرَائِهِ وَأَسَاوِرَتِهِ وَهُمْ يَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذَرًا مِنْ وُجُودِ هَذَا الْغُلَامِ، وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ! وَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي مَالك، عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن   (1) لَيست فِي أ (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ، كَأَنَّ نَارًا [قَدْ (1) ] أَقْبَلَتْ مِنْ نَحْوِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَحْرَقَتْ دَوْرَ مِصْرَ وَجَمِيعَ الْقِبْطِ وَلَمْ تَضُرَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ هَالَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَ الكهنة والحذقة والسحرة. وسألهم عَن ذَلِك، فَقَالُوا: هَذَا غُلَام يُولد من هَؤُلَاءِ، يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، فَلِهَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ وَتَرْكِ النِّسْوَانِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الارض " وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، " وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " أَيِ الَّذِينَ يَئُولُ مُلْكُ مِصْرَ وَبِلَادُهَا إِلَيْهِمْ. " وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون " أَي سنجعل الضَّعِيف قَوِيا والمقهور قاهر وَالذَّلِيلَ عَزِيزًا. وَقَدْ جَرَى هَذَا كُلُّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا. " الْآيَة. وَقَالَ تَعَالَى: " فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ ومقام كريم * كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل " (2) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ احْتَرَزَ كُلَّ الِاحْتِرَازِ أَنْ لَا يُوجَدَ مُوسَى، حَتَّى جَعَلَ رِجَالًا وَقَوَابِلَ يَدُورُونَ عَلَى الْحَبَالَى، وَيَعْلَمُونَ مِيقَاتَ وَضْعِهِنَّ، فَلَا تَلِدُ امْرَأَةٌ ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحَهُ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ من سَاعَته.   (1) لَيست فِي ا. (2) الْآيَات: 57 - 59 من سُورَة الشُّعَرَاء (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بقتل الْغِلْمَانِ، لِتَضْعُفَ شَوْكَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يُقَاوِمُونَهُمْ إِذا غالبوهم أَو قاتلوهم. وَهَذَا فِيهِ نظر، بل هُوَ بَاطِل. وَإِنَّمَا هَذَا فِي الامر بقتل الْولدَان بعد بعثة مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واستحيوا نِسَاءَهُمْ " وَلِهَذَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: " أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ". فَالصَّحِيحُ أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ (1) الْغِلْمَانِ أَولا، حذرا من وجود مُوسَى. هَذَا، وَالْقدر يَقُول: يَا أيهذا (2) الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمَغْرُورُ بِكَثْرَةِ جُنُودِهِ وَسُلْطَةِ بَأْسِهِ وَاتِّسَاعِ سُلْطَانِهِ: قَدْ حَكَمَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا تُخَالَفُ أَقْدَارُهُ: أَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ الَّذِي تَحْتَرِزُ مِنْهُ، وَقَدْ قَتَلْتَ بِسَبَبِهِ مِنَ النُّفُوسِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، لَا يَكُونُ مُرَبَّاهُ إِلَّا فِي دَارِكَ وَعَلَى فِرَاشِكَ، وَلَا يُغَذَّى إِلَّا بِطَعَامِكَ (3) وَشَرَابِكَ [فِي مَنْزِلك (4) ] وَأَنت الَّذِي تتبناه وتربية وتتفداه، وَلَا تَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ مَعْنَاهُ، ثُمَّ يَكُونُ هَلَاكُكَ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ عَلَى يَدَيْهِ، لِمُخَالَفَتِكَ مَا جَاءَكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَتَكْذِيبِكَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنْتَ وَسَائِرُ الْخَلْقِ، أَن رب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، ذُو الْبَأْسِ الْعَظِيمِ، وَالْحَوَلِ وَالْقُوَّةِ، والمشيئة الَّتِي لَا مرد لَهَا!   (1) ا: كَانَ يقتل الغلمان أَولا. (2) ا: يَا أَيهَا الْملك (3) ا: إِلَّا من طَعَامك. (4) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْقِبْطَ شَكَوْا إِلَى فِرْعَوْنَ قِلَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِسَبَب قتل ولدانهم الذُّكُور، وخشي أَنْ تَتَفَانَى الْكِبَارُ مَعَ قَتْلِ الصِّغَارِ، فَيَصِيرُونَ هم الَّذين يلون مَا كَانَ بَنو إِسْرَائِيل يعالجون فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ عَامًا وَأَنْ يُتْرَكُوا عَاما فَذكرُوا أَن هرون عَلَيْهِ السَّلَام ولد فِي عَام الْمُسَامحَة عَن قتل الابناء، وَأَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ولد فِي عَامِ قَتْلِهِمْ، فَضَاقَتْ أُمُّهُ بِهِ ذَرْعًا واحترزت من أول مَا حبلت، وَلم يكن يظْهر عَلَيْهِم مَخَايِلُ الْحَبَلِ. فَلَمَّا وَضَعَتْ أُلْهِمَتْ أَنِ اتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا، فَرَبَطَتْهُ فِي حَبْلٍ وَكَانَتْ دَارُهَا مُتَاخِمَةً لِلنِّيلِ، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَإِذَا خَشِيَتْ (1) مِنْ أَحَدٍ وَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، فَأَرْسَلَتْهُ (2) فِي الْبَحْرِ، وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَإِذَا ذَهَبُوا اسْتَرْجَعَتْهُ إِلَيْهَا بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وهم لَا يَشْعُرُونَ ". هَذَا الْوَحْيُ وَحَيُّ إِلْهَامٍ وَإِرْشَادٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبك ذللا يخرج من بطونها " الْآيَة (3) .   (1) ا: فَإِذا أحست. (2) ا: وأرسلته. (3) الْآيَتَانِ: 68، 58 من سُورَة النَّحْل. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَلَيْسَ هُوَ بِوَحْيِ (1) نُبُوَّةٍ كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أُمِّ مُوسَى " أيارخا "، وَقِيلَ " أَيَاذَخْتُ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا أُرْشِدَتْ إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأُلْقِيَ فِي خَلَدِهَا وَرُوعِهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي، فَإِنَّهُ إِنْ ذَهَبَ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرُدُّهُ إِلَيْكِ، وَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُهُ نَبِيًّا مُرْسَلًا، يُعْلِي كَلِمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ تَصْنَعُ مَا أُمِرَتْ بِهِ فَأَرْسَلَتْهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَذَهَلَتْ أَنْ تَرْبُطَ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا فَذَهَبَ مَعَ النِّيلِ فَمَرَّ عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ " فالتقطه آل فِرْعَوْن " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ". قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ. وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِمَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ قُيِّضُوا لِالْتِقَاطِهِ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، صَارَت اللَّام معللة كَغَيْرِهَا، وَالله أعلم. ويقوى هَذَا التَّقْدِير الثَّانِي قَوْله: " إِن فِرْعَوْن وهامان " [وَهُوَ الْوَزير السوء] (3) " وجنودهما " [التَّابِعين لَهُمَا (3) ] " كَانُوا خَاطِئِينَ "، أَيْ كَانُوا عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ، فَاسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ وَالْحَسْرَةَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ الْجَوَارِيَ الْتَقَطْنَهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي تَابُوتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْنَ عَلَى فَتْحِهِ، حَتَّى وَضَعْنَهُ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ " آسِيَةَ " بِنْتِ مُزَاحِمِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ، الَّذِي كَانَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ. وَقِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ مُوسَى. وَقِيلَ [بَلْ (3) ] كَانَتْ عَمَّتَهُ، حَكَاهُ السُّهيْلي، فَالله أعلم.   (1) ا: وَحي نبوة. (2) ا: وأرسلته. (3) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَسَيَأْتِي مَدْحُهَا وَالثَّنَاءُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهُمَا يَكُونَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ. فَلَمَّا فَتَحَتِ الْبَابَ وَكَشَفَتِ الْحِجَابَ، رَأَتْ وَجْهَهُ يَتَلَأْلَأُ بِتِلْكَ الْأَنْوَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ وَوَقَعَ نَظَرُهَا عَلَيْهِ أَحَبَّتْهُ حبا شَدِيدا [جدا (1) ] . فَلَمَّا جَاءَ فِرْعَوْنُ قَالَ: مَا هَذَا؟ وَأَمَرَ بِذَبْحِهِ، فَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْهُ وَدَفَعَتْ عَنْهُ وَقَالَتْ: " قُرَّةُ عين لي وَلَك ". فَقَالَ لَهَا فِرْعَوْن: أما لَك فَنعم وأمالي فَلَا. أَيْ لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. وَالْبَلَاءُ مُوكل بالْمَنْطق! وَقَوْلها: " عَسى أَن ينفعنا " قد أَنَالَهَا اللَّهُ مَا رَجَتْ مِنَ النَّفْعِ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَسْكَنَهَا جَنَّتَهُ بِسَبَبِهِ. " أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " وَذَلِكَ أَنَّهُمَا تَبَنَّيَاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ. قَالَ الله تَعَالَى: " وهم لَا يَشْعُرُونَ " أَيْ لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمْ، أَنَّ قَيَّضَهُمْ (2) لِالْتِقَاطِهِ، مِنَ النِّقْمَةِ الْعَظِيمَةِ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُوده؟ [وَعند أهل الْكتاب أَن الَّتِي التقطت مُوسَى " دربتة " ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ ذِكْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا من غلطهم على كتاب الله عزوجل (3) . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ، فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وهم لَهُ ناصحون؟ * فرددناه إِلَى   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: أَن قيض. (3) سقط من المطبوعة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يعلمُونَ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: " وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا " أَي من كل شئ من أُمُور الدُّنْيَا إِلَّا من مُوسَى " إِن كَادَت لتبدى بِهِ " أَيْ لَتُظْهِرُ أَمْرَهُ وَتَسْأَلُ عَنْهُ جَهْرَةً " لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا " أَيْ صَبَّرْنَاهَا وَثَبَّتْنَاهَا " لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لاخته " وَهِي ابْنَتهَا الْكَبِيرَة: " قصيه " أَيِ اتَّبِعِي أَثَرَهُ، وَاطْلُبِي [لِي (1) ] خَبَرَهُ " فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جنب " قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ بُعْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ. وَلِهَذَا قَالَ: " وهم لَا يَشْعُرُونَ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَقَرَّ بِدَارِ فِرْعَوْنَ أَرَادُوا أَنْ يُغَذُّوهُ بِرَضَاعَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْ ثَدْيًا وَلَا أَخَذَ طَعَامًا، فَحَارُوا فِي أمره، واجتهدوا عَلَى تَغْذِيَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَفْعَلْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ " فَأَرْسَلُوهُ مَعَ الْقَوَابِلِ وَالنِّسَاءِ إِلَى السُّوقِ، لَعَلَّهُمْ (2) يَجِدُونَ مَنْ يُوَافِقُ رَضَاعَتَهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ وُقُوفٌ بِهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ عَلَيْهِ إِذْ بَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ، فَلَمْ تُظْهِرْ أَنَّهَا تَعْرِفُهُ بَلْ قَالَتْ: " هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وهم لَهُ ناصحون؟ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ، قَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ علَيْهِ؟ فَقَالَتْ: رَغْبَة فِي سرُور الْمَلِكِ وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ. فَأَطْلَقُوهَا وَذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ. فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ الْتَقَمَ ثَدْيَهَا وَأَخَذَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْتَضِعُهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَذهب البشير   (1) من ا. (2) ا: لَعَلَّ يَجدونَ. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 إِلَى " آسِيَةَ " يُعْلِمُهَا بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَتْهَا إِلَى مَنْزِلِهَا وَعَرَضَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ تُحْسِنَ إِلَيْهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَسْتُ أَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنْ تُرْسِلِيهِ مَعِي. فَأَرْسَلَتْهُ مَعَهَا، وَرَتَّبَتْ لَهَا رَوَاتِبَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَاتِ وَالْكُسَاوى وَالْهِبَاتِ، فَرَجَعَتْ بِهِ تَحُوزُهُ إِلَى رَحْلِهَا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ شَمَلَهُ بِشَمْلِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وعد الله حق " أَيْ كَمَا وَعَدْنَاهَا (1) بِرَدِّهِ وَرِسَالَتِهِ، فَهَذَا رَدُّهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ. " وَلَكِنَّ أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ ". وَقد امتن على مُوسَى بِهَذَا لَيْلَة كَلمه، فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: " وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ محبَّة مني " [وَذَلِكَ أَنه كَانَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ (2) ] " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عينى " قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ تُطْعَمَ وَتُرَفَّهَ وَتُغَذَّى بِأَطْيَبِ الْمَآكِلِ، وَتَلْبَسَ أَحْسَنَ الْمَلَابِسِ بِمَرْأًى مِنِّي، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي لَكَ فِيمَا صَنَعْتُ بِكَ وَلَكَ، وَقَدَّرْتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي. " إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يكفله؟ فرددناك إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ، وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ". وَسَنُورِدُ حَدِيثَ الْفِتُونِ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التكلان (3) ] .   (1) ا: وعدنا. (2) من ا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 " وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماو علما، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ: هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ، قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى أُمِّهِ برده لَهَا وَإِحْسَانِهِ بِذَلِكَ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهَا، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى، وَهُوَ احْتِكَامُ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَهُوَ سِنُّ الْأَرْبَعِينَ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَهُوَ النُّبُوَّةُ والرسالة الَّتِى [كَانَ (1) ] بشر بهَا أمه حِين قَالَ: " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ". ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، وَذَهَابِهِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِقَامَتِهِ هُنَالِكَ، حَتَّى كَمَلَ الْأَجَلُ وَانْقَضَى الْأَمَدُ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُ، وَإِكْرَامِهِ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ. كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ تَعَالَى: " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَة والسدى: وَلذَلِك نصف النَّهَار، وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ. " فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يقتتلان " أَي يتضاربان ويتهارشان " هَذَا من   (1) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 شيعته " أَي إسرائيلى، " وَهَذَا من عدوه " أَيْ قِبْطِيٌّ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. " فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ على الذى من عدوه " وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتْ لَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ صَوْلَةٌ، بِسَبَبِ نِسْبَتِهِ إِلَى تَبَنِّي فِرْعَوْنَ لَهُ وَتَرْبِيَتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ عَزُّوَا وَصَارَتْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ، وَارْتَفَعَتْ رؤوسهم بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَرْضَعُوهُ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ أَيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا اسْتَغَاثَ ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ مُوسَى " فَوَكَزَهُ ". قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ طَعْنَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، " فَقَضَى عَلَيْهِ " أَيْ فَمَاتَ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ كَافِرًا مُشْرِكًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُرِدْ مُوسَى قَتْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زَجْرَهُ وَرَدْعَهُ. وَمَعَ هَذَا، " قَالَ " مُوسَى: " هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَليّ " [أَيْ مِنَ الْعِزِّ وَالْجَاهِ (1) ] " فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا للمجرمين ". " فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا، قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ، وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى، قَالَ يَا مُوسَى إِن الملا   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، قَالَ رَبِّ نجني من الْقَوْم الظَّالِمين " يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى أَصْبَحَ بِمَدِينَةِ مِصْرَ خَائِفًا - أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ - أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقَتِيلَ الَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، إِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى فِي نُصْرَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَقْوَى ظُنُونُهُمْ أَنَّ مُوسَى مِنْهُمْ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَصَارَ يَسِيرُ فِي الْمَدِينَةِ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ " خَائِفًا يَتَرَقَّبُ " أَيْ يَتَلَفَّتُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا ذَلِكَ الرَّجُلُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، أَيْ يَصْرُخُ بِهِ وَيَسْتَغِيثُهُ عَلَى آخَرَ قَدْ قَاتَلَهُ، فَعَنَّفَهُ مُوسَى وَلَامَهُ عَلَى كَثْرَةِ شَرِّهِ وَمُخَاصَمَتِهِ، قَالَ لَهُ: " إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ " ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لِمُوسَى وَلِلْإِسْرَائِيلِيِّ، فَيَرْدَعُهُ عَنْهُ وَيُخَلِّصُهُ مِنْهُ، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْقِبْطِيِّ " قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تكون من المصلحين ". قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَامَ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ مُوسَى بِالْأَمْسِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مُوسَى مُقْبِلًا إِلَى الْقِبْطِيِّ اعْتَقَدَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ، لَمَّا عَنَّفَهُ قبل ذَلِك بقوله: " إِنَّك لغَوِيّ مُبين " فَقَالَ مَا قَالَ لِمُوسَى، وَأَظْهَرَ الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ وَقَعَ بِالْأَمْسِ. فَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ فَاسْتَعْدَى (1) فِرْعَوْنَ على مُوسَى. وَهَذَا الَّذِي لم يذكر كثير من النَّاس   (1) ط: فاستدعى. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 سِوَاهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا هُوَ الْقِبْطِيُّ، وَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ مُقْبِلًا إِلَيْهِ خَافَهُ، وَرَأَى من سجيته انتصارا جَدِيدا (1) لِلْإِسْرَائِيلِيِّ. فَقَالَ مَا قَالَ مِنْ بَابِ الظَّنِّ وَالْفِرَاسَةِ: أَنَّ هَذَا لَعَلَّهُ قَاتِلُ ذَاكَ الْقَتِيلِ بِالْأَمْسِ، أَوْ لَعَلَّهُ فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّ حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِ مَا دَلَّهُ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ بَلَغَهُ أَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ ذَلِكَ الْمَقْتُولِ بِالْأَمْسِ فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ. وَسَبَقَهُمْ رَجُلٌ نَاصِحٌ مِنْ طَرِيقٍ أقرب. " وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة " ساعيا إِلَيْهِ مشفقا عَلَيْهِ فَقَالَ: " يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُج " أَيْ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ " إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ " أَيْ فِيمَا أَقُولُهُ لَكَ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب "، أَيْ فَخَرَجَ مِنْ مَدِينَةِ مِصْرَ مِنْ فَوْرِهِ [عَلَى وَجْهِهِ] (2) لَا يَهْتَدِي إِلَى طَرِيقٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، قَائِلًا: " رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ * وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا؟ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ، وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيّ من خير فَقير ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خُرُوجِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، أَيْ يَتَلَفَّتُ، خَشْيَةَ أَنْ يُدْرِكَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلَا إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرَ قبلهَا.   (1) ا: جيدا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 " وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ " أَيْ اتَّجَهَ لَهُ طَرِيقٌ يَذْهَبُ فِيهِ، " قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يهديني سَوَاء السَّبِيل " أَيْ عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّرِيقُ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَقْصُود. وَكَذَا وَقع، فقد أَوْصَلَتْهُ إِلَى مَقْصُودٍ وَأَيُّ مَقْصُودٍ. " وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدين " وَكَانَتْ بِئْرًا يَسْتَقُونَ مِنْهَا، وَمَدْيَنُ هِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ فِيهَا أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُمْ قَبْلَ زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَلَمَّا وَرَدَ الْمَاءَ الْمَذْكُورَ " وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ * وَوَجَدَ مِنْ دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان " أَي تكفكفان [عَنْهُمَا (1) ] غَنَمَهُمَا أَنْ تَخْتَلِطَ بِغَنَمِ النَّاسِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعَ بَنَاتٍ، وَهَذَا أَيْضًا من الْغَلَط، ولعلهن كن سبعا (2) ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَ تَسْقِي اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ، وَهَذَا الْجمع مُمكن إِن كَانَ ذَاك مَحْفُوظًا، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى بِنْتَيْنِ " قَالَ مَا خَطْبُكُمَا؟ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ " أَي لَا نقدر على وُرُود الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ صُدُورِ الرِّعَاءِ، لِضَعْفِنَا، وَسَبَبُ مُبَاشَرَتِنَا هَذِهِ الرَّعِيَّةَ ضَعْفُ أَبِينَا وَكِبَرُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَسَقَى لَهُمَا ". قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّعَاءَ كَانُوا إِذَا فَرَغُوا مِنْ وِرْدِهِمْ، وضعُوا على فَم الْبِئْر صَخْرَة عَظِيمَة، فتجئ هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ فَيَشْرَعَانِ غَنَمَهُمَا (3) فِي فَضْلِ أَغْنَامِ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، جَاءَ مُوسَى فَرفع تِلْكَ الصَّخْرَة   (1) من ا. (2) ا: وَكَأَنَّهُ كَانَ. (3) ا: غَنمهمْ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتَقَى لَهُمَا وَسَقَى غَنَمَهُمَا، ثُمَّ رد الْحجر كَمَا كَانَ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمْرُ: وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةٌ، وَإِنَّمَا اسْتَقَى ذَنُوبًا وَاحِدًا فَكَفَاهُمَا. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، قَالُوا: وَكَانَ ظِلَّ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَآهَا خَضْرَاءَ تَرِفُّ " فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقير ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا الْبَقْلَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا (1) فَسَقَطَتْ نَعْلَا قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَفَاءِ وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ (2) - وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه - وَإِن بَطْنه للاصق (3) بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَأَنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَة. قَالَ عَطاء ابْن السَّائِبِ لَمَّا قَالَ: " [رَبِّ] إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيّ من خير فَقير " أَسْمَعَ الْمَرْأَةَ. " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ، إِن خير مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ، عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَليّ، وَالله على مَا نقُول وَكيل ".   (1) ا: وَكَانَ خَائفًا. (2) ا: إِلَى الظل. (3) ا: لاصق. (*) " 2 - قصَص الانبياء 2 " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 لَمَّا جَلَسَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الظِّلِّ وَقَالَ: " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير فَقير " سَمِعَتْهُ الْمَرْأَتَانِ فِيمَا قِيلَ، فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا، فَيُقَال إِنَّه استنكر سرعَة رجوعهما، فأخبرتاه بِمَا كَانَ (1) مِنْ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا، أَنْ تَذْهَبَ إِلَيْهِ فَتَدْعُوهُ، " فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تمشي على استحياء " أَي مَشى الْحَرَائِر، " قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سقيت لنا ". صَرَّحَتْ لَهُ بِهَذَا لِئَلَّا يُوهِمَ كَلَامُهَا رِيبَةً، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حَيَائِهَا وَصِيَانَتِهَا. فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص " وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَمَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ فِرَارًا مَنْ فِرَعَوْنِهَا، " قَالَ " لَهُ [ذَلِكَ الشَّيْخُ] (2) " لَا تَخَفْ نَجَوْتَ من الْقَوْم الظَّالِمين " أَيْ خَرَجْتَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ فَلَسْتَ فِي دَوْلَتِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّيْخِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ هُوَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرِينَ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَصَرَّحَ طَائِفَةٌ بِأَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاشَ عُمْرًا طَوِيلًا بَعْدَ هَلَاكِ قَوْمِهِ، حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَزَوَّجَ بِابْنَتِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِم وَغَيره من الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ صَاحِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا، اسْمُهُ شُعَيْبٌ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالنَّبِيِّ صَاحِبِ مَدْيَنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَقِيلَ: ابْنُ عَمِّهِ، وَقِيلَ: رَجُلٌ   (1) ا: مَا كَانَ. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقِيلَ: رَجُلٌ اسْمُهُ " يَثْرُونُ " هَكَذَا هُوَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ: يثرون كَاهِن مَدين. أَي كبيرها وعالمها. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: اسْمُهُ يَثْرُونُ. زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ ابْنُ أخي شُعَيْب. وَزَاد ابْنُ عَبَّاسٍ: صَاحِبُ مَدْيَنَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ بَشَّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَجَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ لِأَبِيهَا: " يَا أَبَتِ اسْتَأْجرهُ " أَيْ لِرَعْيِ غَنَمِكَ، ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِأَنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ عُمْرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَأَبُو مَالك وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن إِسْحَق وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ، قَالَ لَهَا أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِهَذَا؟ فَقَالَتْ إِنَّهُ رَفَعَ صَخْرَةً لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ، فَقَالَ: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمْ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: صَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَت: " يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الامين "، وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحين ". اسْتدلَّ بِهَذِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى صِحَّةِ مَا إِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 بَاعَهُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَوِ الثَّوْبَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، لِقَوْلِهِ: " إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ". وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ مُرَاوَضَةٌ لَا مُعَاقَدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَحْمَدَ عَلَى صِحَة الِاسْتِئْجَار (1) بِالطُّعْمَةِ وَالْكُسْوَةِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَاسْتَأْنَسُوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مترجما [عَلَيْهِ (2) ] فِي كِتَابِهِ: " بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنه " حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْمُصَفّى الحمصى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَليّ، عَن سعيد ابْن أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَليّ بن رَبَاح، قَالَ: سَمِعت عتبَة (3) ابْن النُّدَّرِ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ طسم، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: " إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ أَو عشر سِنِين على عفة فرجه وَطَعَام بَطْنه ". وَهَذَا الحَدِيث مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَلِيٍّ الْخُشَنِيَّ الدِّمَشْقِيَّ الْبَلَاطِيَّ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِتَفَرُّدِهِ (4) . وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الله ابْن بكر، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ. ح. وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن لَهِيعَة، عَن الْحَارِث بن يزِيد الْحَضْرَمِيّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عتبَة ابْن النُّدَّرِ السُّلَمِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام آجر نَفسه بعفة (5) فرجه وطعمة بَطْنه ".   (1) ا: الايجار. (2) من ا. (3) ا: عقبَة. محرفة. (4) قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي ميزَان الِاعْتِدَال 4 / 109: شامى واه..تَرَكُوهُ. قَالَ رَحِيم: لَيْسَ بشئ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يشْتَغل بِهِ وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. (5) : الْعِفَّة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ " " وَاللَّهُ عَلَى مَا نقُول وَكيل "، يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ، فَأَيُّهُمَا قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَقَالَتِنَا سَامِعٌ وَشَاهِدٌ، وَوَكِيلٌ عَلِيَّ وَعَلَيْكَ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقْضِ مُوسَى إِلَّا أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ وَأَتَمَّهُمَا وَهُوَ الْعَشْرُ سِنِينَ كَوَامِلَ تَامَّةً. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدِمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [بِهِ] (1) وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، حَدثنِي إِبْرَاهِيم ابْن يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " سَأَلْتُ جِبْرِيلَ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا ". وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أعين،   (1) من أ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 عَنِ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا: أَنَّ رَسُول الله سَأَلَ عَن ذَلِك جِبْرِيل فَسَأَلَ جِبْرِيل إِسْرَائِيل، فَسَأَلَ إسْرَافيل الرب عزوجل فَقَالَ: " أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا ". وَبِنَحْوِهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ سَرْجٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: " أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا ". وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِم من حَدِيث عُوَيْد ابْن أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: " أَوْفَاهُمَا وَأَبَرهمَا " قَالَ: " وَإِن سُئِلت أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا ". وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ الْحَارِث بن يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: " إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ " فَلَمَّا وَفَّى الْأَجَلَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟ قَالَ: " أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا ". فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ - سَأَلَ (1) امْرَأَته أَن تسْأَل أَبَاهَا أَن يُعْطِيهَا   (1) ا: أَمر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ، مِنْ قَالِبِ لَوْنٍ (1) مِنْ وَلَدِ ذَلِك الْعَام، وَكَانَت غنمه سَوْدَاء حِسَانًا، فَانْطَلَقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [إِلَى عَصًا قَسَمَهَا مِنْ طَرَفِهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام] (2) بِإِزَاءِ الْحَوْض، فَلم يصدر مِنْهَا شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا شَاةً شَاةً، قَالَ: " فأتأمت وألبنت (3) " وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ، إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ، لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ، وَلَا ضَبُوبٌ، وَلَا عزوز، وَلَا ثعول، وَلَا كموش (4) تَفُوتُ الْكَفَّ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوِ افْتَتَحْتُمُ (5) الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ ". قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: " الْفَشُوشُ: وَاسِعَةُ الشَّخْبِ، وَالضَّبُوبُ (6) : طَوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ. وَالْعَزُوزُ: ضيقَة الشخب، والثعول: الصَّغِيرَة الضَّرع كالحلمتين، والكموش: الَّتِي لَا يُحْكَمُ الْكَفُّ عَلَى ضَرْعِهَا لِصِغَرِهِ. وَفِي صِحَّةِ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: " لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحبه: كل شَاة ولدت على غير لَوْنهَا فلك وَلَدهَا، فَعمد مُوسَى فَوضع حِبَالًا (7) على المَاء فَلَمَّا رَأَتْ الحبال فَزِعَتْ فَجَالَتْ جَوْلَةً فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شَاة وَاحِدَة، فَذهب بأولادهن [كُلهنَّ] (8) ذَلِك الْعَام " وَهَذَا إِسْنَاد [جيد (9) ] رِجَاله ثِقَات، وَالله أعلم.   (1) ا: فَأَعْطَاهَا ولد من ولدت من قالبه لون. وقالب لون: على غير لون أمهَا. (2) سَقَطت من ا. (3) ا: فأغنت وأنثت (4) ا: كمشة. (5) ط: اقتحمتم (6) الشخب: مَا يخرج من الضَّرع من اللَّبن. (7) ط: خيالا. (8) لَيست فِي ا. (9) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام حِين فَارق خَاله " لَا بَان " أَنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ مَا يُوَلَدُ مِنْ غَنَمِهِ بُلْقًا، فَفَعَلَ نَحْوَ مَا ذُكِرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. فَالله أعلم. * * * [قَالَ الله (2) :] " فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبٍ الطُّورِ نَارًا، قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، فذانك برهَان مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قوما فاسقين " تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَكْمَلَهُمَا، وَقَدْ يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: " فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجل " وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ أَكْمَلَ عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: " وَسَارَ بِأَهْلِهِ " أَيْ مِنْ عِنْدِ صِهْرِهِ، زاعما (1) - فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ اشْتَاقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَصَدَ زِيَارَتَهُمْ بِبِلَادِ مِصْرَ فِي صُورَةِ مُخْتَفٍ، فَلَمَّا سَارَ بِأَهْلِهِ وَمَعَهُ وِلْدَانٌ مِنْهُمْ وَغَنَمٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مُدَّةَ مُقَامِهِ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَة، وتاهوا فِي طريقهم فَلم يهتدوا   (1) من ا. (2) ا: ذَاهِبًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 إِلَى السُّلُوكِ فِي الدَّرْبِ الْمَأْلُوفِ، وَجَعَلَ يُورِي زِنَادَهُ فَلَا يُوْرِي شَيْئًا، وَاشْتَدَّ الظَّلَامُ وَالْبَرَدُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ عَنْ بُعْدٍ نَارًا تَأَجَّجُ فِي جَانِبِ الطُّورِ - وَهُوَ الْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ - " فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنست نَارا " وَكَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ رَآهَا دُونَهُمْ، لِأَنَّ هَذِهِ النَّار هِيَ نور فِي الْحَقِيقَة، وَلَا يصلح رُؤْيَتُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، " لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ " أَيْ [لَعَلِّي (1) ] أَسْتَعْلِمُ مِنْ عِنْدِهَا عَنِ الطَّرِيقِ " أَو جذوة من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ وَمُظْلِمَةٍ، لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ على النَّار هدى (2) " فَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ وَكَوْنِهِمْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ. وَجَمَعَ الْكُلَّ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْله: " إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تصطلون " وَقَدْ أَتَاهُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ وَأَيُّ خَبَرٍ، وَوَجَدَ عِنْدَهَا هُدًى وَأَيُّ هُدًى، وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا وَأَيُّ نُورٍ؟ !. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين ". وَقَالَ فِي النَّمْلِ: " فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رب الْعَالمين " أَيْ سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيحكم مَا يُرِيد " يَا مُوسَى إِنَّه أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم ".   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: ذَاهِبًا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ فِي سُورَةِ طه: " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤمن بهَا وَاتبع هَوَاهُ فتردى ". قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: لَمَّا قَصَدَ مُوسَى إِلَى تِلْكَ النَّارِ الَّتِي رَآهَا فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَجَدَهَا تَأَجَّجُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ مِنَ الْعَوْسَجِ (1) ، وَكُلُّ مَا لِتِلْكَ النَّارِ فِي اضْطِرَامٍ، وَكُلُّ مَا لِخُضْرَةِ [تِلْكَ (2) ] الشَّجَرَةِ فِي ازْدِيَادٍ. فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ فِي لِحْفِ جَبَلٍ غَرْبِيٍّ مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ، وَمَا كنت من الشَّاهِدين " وَكَانَ مُوسَى فِي وَادٍ اسْمُهُ " طُوًى " فَكَانَ مُوسَى مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ، وَتِلْكَ الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، فَأُمِرَ أَوَّلًا بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَوْقِيرًا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ النُّورِ، مَهَابَةً لَهُ وَخَوْفًا عَلَى بَصَرِهِ. ثُمَّ خَاطَبَهُ تَعَالَى كَمَا يَشَاءُ قَائِلًا لَهُ: " إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين " " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري " أَي أَنا رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِلَّا لَهُ.   (1) العوسج: الشوك. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَار، وَإِنَّمَا الدَّار الْبَاقِيَة يَوْم الْقِيَامَة، الَّتِي لابد مِنْ كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا " لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى " أَيْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَحَضَّهُ وَحَثَّهُ عَلَى الْعَمَلِ لَهَا، وَمُجَانَبَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا مِمَّنْ عَصَى مَوْلَاهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُخَاطِبًا وَمُؤَانِسًا وَمُبَيِّنًا لَهُ أَنَّهُ الْقَادِر على كل شئ، الَّذِي يَقُول للشئ كن فَيكون: " وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى؟ " أَيْ أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا مُنْذُ صحبتهَا؟ " قَالَ هِيَ عصاي أتوكؤ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مآرب أُخْرَى ". أَي بلَى هَذِهِ عَصَايَ الَّتِي أَعْرِفُهَا وَأَتَحَقَّقُهَا، " قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى " وَهَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يكلمهُ [هُوَ الَّذِي (1) ] يَقُول للشئ كُنْ فَيَكُونُ، وَأَنَّهُ الْفَعَّالُ بِالِاخْتِيَارِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكتاب: أَنه سَأَلَ برهانا [صَادِقا (1) ] عَلَى صِدْقِهِ عِنْدَ مَنْ يُكَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ مصر، فَقَالَ لَهُ الرب عزوجل: مَا هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِكَ؟ قَالَ عَصَايَ (2) ، قَالَ أَلْقِهَا إِلَى الْأَرْضِ " فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى " فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ قُدَّامِهَا، فَأَمَرَهُ الرب عزوجل أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ وَيَأْخُذَهَا بِذَنَبِهَا، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا ارْتَدَّتْ عَصًا فِي يَدِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدبرا وَلم يعقب " أَي قد صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً لَهَا ضَخَامَةٌ [هَائِلَةٌ (3) ] وَأَنْيَابٌ تصك، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي سُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ،   (1) من ا. (2) ا: قَالَ: عَصا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يُقَالُ [لَهُ] الْجَانُّ والجنان، وَهُوَ لطيف وَلَكِن سَرِيعُ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ جِدًّا، فَهَذِهِ جَمَعَتِ الضَّخَامَةَ وَالسُّرْعَةَ الشَّدِيدَةَ. فَلَمَّا عَايَنَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَلَّى مُدَبِّرًا " أَيْ هَارِبًا مِنْهَا، لِأَنَّ طَبِيعَتَهُ الْبَشَرِيَّةَ (1) تَقْتَضِي ذَلِكَ " وَلَمْ يُعَقِّبْ " أَيْ وَلَمْ يلْتَفت، فناداه ربه قَائِلا لَهُ: " يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمنينَ ". فَلَمَّا رَجَعَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُمْسِكَهَا " قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى " فَيُقَالُ إِنَّهُ هَابَهَا شَدِيدًا، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي كُمِّ مِدْرَعَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي وَسَطِ فمها. وَعند أهل الْكتاب: أمسك بِذَنَبِهَا، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا إِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ عَصًا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ، فَسُبْحَانُ الْقَدِيرِ الْعَظِيمِ، رَبِّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ! ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِدْخَالِ يَدِهِ فِي جَيْبِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَزْعِهَا فَإِذَا هِيَ تَتَلَأْلَأُ كَالْقَمَرِ بَيَاضًا مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا بَهَقٍ، وَلِهَذَا قَالَ: " اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ " قِيلَ مَعْنَاهُ: إِذَا خِفْتَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى فُؤَادِكَ يَسْكُنْ جَأْشُكَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، إِلَّا أَن بركَة الايمان بِهِ حق بِأَن (2) ينفع مَنِ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: " وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِنَّهُمْ كَانُوا قوما فاسقين "   (1) ا: لَان طبيعة الْبشر تَقْتَضِي ذَلِك. (2) ا: إِلَّا بِأَن. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 أَي هَاتَانِ الْآيَتَانِ وهما: الْعَصَا وَالْيَد، هما الْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: " فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قوما فاسقين " وَمَعَ ذَلِكَ سَبْعُ آيَاتٍ أُخَرُ. فَذَلِكَ تِسْعُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ سُبْحَانَ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ (1) ] فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " وَهِيَ الْمَبْسُوطَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ: " وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مجرمين " كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذِه التسع الْآيَات غير الْعشْر الْكَلِمَات، فَإِن التسع من كَلِمَات اللَّهِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْعَشْرَ مِنْ كَلِمَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ سُورَة بني إِسْرَائِيل. * * *   (2) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأخي هرون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا، فَلَا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون ". يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فِي جَوَابه لرَبه عزوجل حِينَ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى عَدُوِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَظُلْمِهِ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ فِي قَتْلِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ [وَلِهَذَا (1) ] " قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هرون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يصدقني إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون " أَيْ اجْعَلْهُ مَعِي مُعِينًا وَرِدْءًا وَوَزِيرًا يُسَاعِدُنِي، وَيُعِينُنِي عَلَى أَدَاءِ رِسَالَتِكَ [إِلَيْهِمْ (2) ] فَإِنَّهُ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا وَأَبْلَغُ بَيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُ إِلَى سُؤَالِهِ: " سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ونجعل لَكمَا سُلْطَانا " أَي برهانا " فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا " أَيْ فَلَا يَنَالُونَ مِنْكُمَا مَكْرُوهًا بِسَبَبِ قِيَامِكُمَا بِآيَاتِنَا، وَقِيلَ بِبَرَكَةِ آيَاتِنَا. " أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغالبون ". وَقَالَ فِي سُورَةِ طه: " اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يفقهوا قولي " قِيلَ إِنَّهُ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ لُثْغَةٌ، بِسَبَبِ تِلْكَ الْجَمْرَة الَّتِي وَضعهَا على لِسَانه،   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَالَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ أَرَادَ اخْتِبَارَ عَقْلِهِ، حِينَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ آسِيَةُ وَقَالَتْ: إِنَّهُ طِفْلٌ، فَاخْتَبَرَهُ بِوَضْعِ تَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهَمَّ بِأَخْذِ التَّمْرَةِ فَصَرَفَ الْمَلَكُ يَدَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ، فَأَخَذَهَا فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ فَأَصَابَهُ لُثْغَةٌ بِسَبَبِهَا. فَسَأَلَ زَوَالَ بَعْضِهَا بِمِقْدَارِ مَا يَفْهَمُونَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْ زَوَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَالرُّسُلُ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا بَقِيَتْ فِي لِسَانِهِ بَقِيَّةٌ. وَلِهَذَا قَالَ فِرْعَوْنُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فِيمَا زَعَمَ إِنَّهُ يَعِيبُ بِهِ الْكِلِيمَ: " وَلَا يَكَادُ يُبِينُ " أَيْ يُفْصِحُ عَنْ مُرَادِهِ، وَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَفُؤَادِهِ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي * هرون أخي * اشْدُد بن أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قد أُوتيت سؤلك يَا مُوسَى " (1) أَيْ قَدْ أَجَبْنَاكَ إِلَى جَمِيعِ مَا سَأَلْتَ، وَأَعْطَيْنَاكَ الَّذِي طَلَبْتَ. وَهَذَا مِنْ وَجَاهَتِهِ عِنْدَ ربه عزوجل، حِينَ شَفَعَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى أَخِيهِ فَأَوْحَى إِلَيْهِ. وَهَذَا جَاهٌ عَظِيمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَانَ عِنْد الله وجيها ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هرون نَبيا " (2) . وَقَدْ سَمِعَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَجُلًا يَقُولُ لاناس وهم سائرون فِي   (1) سُورَة طه: 24 - 36 (2) الْآيَة: 53 من سُورَة مَرْيَم (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 طَرِيقِ الْحَجِّ: أَيُّ أَخٍ أَمَنُّ عَلَى أَخِيهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ حَوْلَ هَوْدَجِهَا: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حِينَ شَفَعَ فِي أَخِيه هرون فَأوحى إِلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتنَا أَخَاهُ هرون نَبيا ". * * * وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأرْسل إِلَى هرون * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ " (1) تَقْدِير الْكَلَام: فَأتيَاهُ فَقَالَا لَهُ ذَلِك، وبلغاه مَا أرسلا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَفُكَّ أُسَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْضَتِهِ وَقَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَيَتْرُكُهُمْ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ حَيْثُ شَاءُوا، وَيَتَفَرَّغُونَ لِتَوْحِيدِهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّضَرُّعِ لَدَيْهِ. فَتَكَبَّرَ فِرْعَوْنُ فِي نَفْسِهِ وَعَتَا وطغى، وَنظر إِلَى مُوسَى بِعَين الازدراء والتقص قَائِلًا لَهُ: " أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا من عمرك سِنِين؟ " أَيْ أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِي مَنْزِلِنَا؟ وَأَحْسَنَّا إِلَيْهِ وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي فر مِنْهُ، خلافًا   (1) الْآيَات: 10 - 91 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ مَاتَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَدْيَنَ، وَأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: " وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافرين " أَيْ وَقَتَلْتَ الرَّجُلَ الْقِبْطِيَّ، وَفَرَرْتَ مِنَّا وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا. " قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ " أَيْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَى وَيَنْزِلَ عَلَى، " فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حكما وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين ". ثُمَّ قَالَ مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ عَمَّا امْتَنَّ بِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ: " وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَليّ أَن عبدت بني إِسْرَائِيل " أَيْ وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي ذَكَرْتَ، مِنْ أَنَّكَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُقَابِلُ مَا اسْتَخْدَمْتَ هَذَا الشَّعْبَ الْعَظِيمَ بِكَمَالِهِ، وَاسْتَعْبَدْتَهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَخِدْمَتِكَ وَأَشْغَالِكَ. " قَالَ فِرْعَوْن ومارب الْعَالمين؟ * قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون ". يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى مِنَ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَمَا أَقَامَهُ الْكَلِيمُ عَلَى فِرْعَوْنَ اللَّئِيمِ، مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ الْحِسِّيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - أَظْهَرَ جَحْدَ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ " فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي ". (3 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مُعَانِدٌ، يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الْإِلَهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَت عَاقِبَة المفسدين ". وَلِهَذَا قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لِرِسَالَتِهِ، وَالْإِظْهَارِ أَنَّهُ مَا ثَمَّ رَبٌّ أرْسلهُ: " وَمَا رب الْعَالمين؟ " لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: " إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ " فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا: وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا وَابْتَعَثَكُمَا؟ فَأَجَابَهُ مُوسَى قَائِلًا: " رب السَّمَوَات والارض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين " يَعْنِي رب الْعَالمين خَالق هَذِه السَّمَوَات والارض الْمُشَاهدَة، وَمَا بَينهمَا من الْمَخْلُوقَات المتعددة (1) ، مِنَ السَّحَابِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُوقِنٍ أَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِأَنْفُسِهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ وَمُحْدِثٍ وَخَالِقٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. " قَالَ " أَيْ فِرْعَوْنُ " لِمَنْ حَوْلَهُ " مِنْ أُمَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ وَوُزَرَائِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ والتنقص مَا قَرَّرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَلَّا تَسْتَمِعُونَ " يَعْنِي كَلَامَهُ هَذَا. " قَالَ " مُوسَى مُخَاطِبًا لَهُ وَلَهُمْ: " ربكُم وَرب آبائكم الاولين " أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ فِي الْآبَادِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ نَفسه، وَلَا أَبوهُ وَلَا أمه، وَلَا يَحْدُثْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ، وَإِنَّمَا أَوْجَدَهُ وَخَلَقَهُ رب الْعَالمين. وَهَذَانِ   (1) ط: المتجددة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الْمَقَامَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنه الْحق (1) ". وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَسْتَفِقْ فِرْعَوْنُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَلَا نَزَعَ عَنْ ضَلَالَتِهِ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى طُغْيَانِهِ وَعِنَادِهِ وَكُفْرَانِهِ: " قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون " أَيْ هُوَ الْمُسَخِّرُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ (2) الْمُسَيَّرُ لِلْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، خَالِقُ الظَّلَّامِ وَالضِّيَاءِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، رَبُّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، خَالِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ السَّائِرَةِ، وَالثَّوَابِتِ الْحَائِرَةِ، خَالِقُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَالنَّهَارِ بِضِيَائِهِ، وَالْكُلُّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ سَائِرُونَ، وَفِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، يَتَعَاقَبُونَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَيَدُورُونَ. فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ. فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَانْقَطَعَتْ شُبَهُهُ (3) ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ سِوَى الْعِنَادِ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ سُلْطَانِهِ وجاهه وسطوته " قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين * قَالَ أولوجئتك بشئ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين ". وَهَذَانِ هُمَا الْبُرْهَانَانِ اللَّذَانِ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِمَا، وَهَمَا الْعَصَا وَالْيَدُ، وَذَلِكَ مَقَامٌ أَظْهَرَ فِيهِ الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، الَّذِي بَهَرَ بِهِ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ، حِين   (1) الْآيَة: 53 من سُورَة فصلت (2) ا: النيرة. (3) ا: شبهته. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، أَيْ عَظِيمُ الشَّكْلِ، بَدِيعٌ فِي الضَّخَامَةِ وَالْهَوْلِ، وَالْمَنْظَرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ الْبَاهِرِ، حَتَّى قِيلَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لما شَاهد ذَلِك وعاينه، أَخذه رهب (1) شَدِيدٌ وَخَوْفٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ إِنَّهُ حَصَلَ لَهُ إِسْهَالٌ عَظِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فِي يَوْم، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَبَرَّزُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَانْعَكَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ. وَهَكَذَا لَمَّا أَدْخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَاسْتَخْرَجَهَا، أَخْرَجَهَا وَهِيَ كَفِلْقَةِ الْقَمَرِ تَتَلَأْلَأُ نُورًا يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، فَإِذَا أَعَادَهَا إِلَى جيبه (2) [واستخرجها (3) ] رَجَعَتْ إِلَى صِفَتِهَا الْأُولَى. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لم ينْتَفع فِرْعَوْن - لَعنه الله - بشئ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ سِحْرٌ، وَأَرَادَ مُعَارَضَتَهُ بِالسَّحَرَةِ، فَأَرْسَلَ يَجْمَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ مَمْلَكَتِهِ وَمن هم فِي رَعِيَّتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَدَوْلَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، مِنْ إِظْهَارِ اللَّهِ الْحَقَّ الْمُبِينَ وَالْحُجَّةَ الْبَاهِرَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ وَمِلَّتِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. * * * وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: " فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَا لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى ". يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى فِيمَا كَلَّمَهُ بِهِ لَيْلَة أوحى إِلَيْهِ، وأنعم بِالنُّبُوَّةِ   (1) ا: رعبة. (2) ا: فِي جيبه. (3) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ: قَدْ كُنْتُ مُشَاهِدًا لَكَ وَأَنْتَ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْتَ تَحْتَ كَنَفِي وَحِفْظِي وَلُطْفِي، ثُمَّ أَخْرَجْتُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ بِمَشِيئَتِي وَقُدْرَتِي وَتَدْبِيرِي، فَلَبِثْتَ فِيهَا سِنِينَ " ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ " أَيْ مِنِّي لِذَلِكَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ تَقْدِيرِي وَتَسْيِيرِي " وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي " أَيْ اصْطَفَيْتُكَ لِنَفْسِي بِرِسَالَتِي وَبِكَلَامِي. " اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذكري "، يَعْنِي وَلَا تفترا فِي ذكري إِذا قَدِمْتُمَا (1) عَلَيْهِ وَوَفَدْتُمَا إِلَيْهِ (2) ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَكمَا على مخاطبته ومجاوبته، وَأَدَاء (3) النَّصِيحَةِ إِلَيْهِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي (4) وَهُوَ مُلَاقٍ (5) قرنه " وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (6) " ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يخْشَى " وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ (7) وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهِ وَتَجَبُّرِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَرْدَى خَلْقِهِ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ صَفْوَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَمَعَ هَذَا يَقُولُ لَهُمَا وَيَأْمُرُهُمَا أَنْ يَدْعُوَاهُ إِلَيْهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَيُعَامِلَاهُ [بألطف (8) ] مُعَاملَة من يرجوا أَن يتَذَكَّر أَو يخْشَى.   (1) ا: إِذا دخلتما (2) ا: عَلَيْهِ. (3) ط: وإهداء. (4) ا: لمن يذكرنِي. (5) ا: وَهُوَ مناجز قرنه. (6) سُورَة الانفال 45. (7) ا: وَعلمه. (8) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 كَمَا قَالَ لرَسُوله: " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن (1) "، وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ (2) ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا " أَعْذِرَا إِلَيْهِ، قَوْلًا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلنَا مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَيَّ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ. قَالَ يزِيد الرقاشِي عِنْد هَذِه الْآيَة: يامن يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ ! " قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ علينا أَو أَن يطغى "، وَذَلِكَ أَن فِرْعَوْن كَانَ جبارا عنيدا وشيطانا مَرِيدًا، لَهُ سُلْطَانٌ فِي بِلَادِ مِصْرَ طَوِيلٌ عَرِيضٌ، وَجَاهٌ وَجُنُودٌ، وَعَسَاكِرُ وَسَطْوَةٌ، فَهَابَاهُ مِنْ حَيْثُ الْبَشَرِيَّةُ، وَخَافَا أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، فَثَبَّتَهُمَا تَعَالَى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى فَقَالَ: " لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى "، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ". " فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ على من كذب وَتَوَلَّى " يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَيَدْعُوَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَنْ يَعْبُدَهُ وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن يُرْسل   (1) سُورَة النَّحْل (2) سُورَة العنكبوت (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 مَعَهُمَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِهِ وَقَهْرِهِ وَلَا يعذبهم. " قد جئْنَاك بِآيَة من رَبك " وَهُوَ الْبُرْهَانُ الْعَظِيمُ فِي الْعِصِيِّ وَالْيَدِ، " وَالسَّلَامُ على من اتبع الْهدى " تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ بَلِيغٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ تَهَدَّدَاهُ وَتَوَعَّدَاهُ عَلَى التَّكْذِيبِ فَقَالَا: " إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى " أَيْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِقَلْبِهِ، وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ مَدْيَنَ، دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ وأخيه هرون، وهما يتعشيان من طَعَام فِيهِ " الطفشيل "، وَهُوَ اللِّفْتُ، فَأَكَلَ مَعَهُمَا. ثُمَّ قَالَ يَا هرون: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي وَأَمَرَكَ أَنْ نَدْعُوَ فِرْعَوْنَ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَقُمْ مَعِي. فَقَامَا يَقْصِدَانِ بَابَ فِرْعَوْنَ فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ. فَقَالَ مُوسَى لِلْبَوَّابِينَ وَالْحَجَبَةِ: أَعْلِمُوهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بِالْبَابِ. فَجَعَلُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا [عَلَيْهِ (1) ] إِلَّا بَعْدَ حِين طَوِيل. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: أَذِنَ لَهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُ أَحَدٌ يَتَجَاسَرُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ لَهُمَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ إِنَّ مُوسَى تَقَدَّمَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ بِعَصَاهُ، فَانْزَعَجَ فِرْعَوْنُ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمَا، فَوَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ فدعواه إِلَى الله عزوجل كَمَا أَمَرَهُمَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: إِن هرون اللاوى - يَعْنِي [الَّذِي (2) ] من نسل لاوى بن يَعْقُوب - سيخرج   (1) لَيست فِي ا. (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وَيَتَلَقَّاكَ (1) ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ مَشَايِخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِنْدِ فِرْعَوْنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا آتَاهُ من الْآيَات وَقَالَ لَهُ [إِنِّي (2) ] سَأُقْسِّي قَلْبَهُ فَلَا يُرْسِلُ الشَّعْبَ، وَأَكْثَرُ آيَاتِي وأعاجيبي بِأَرْض مصر. وَأوحى الله إِلَى هرون أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَخِيهِ يَتَلَقَّاهُ بِالْبَرِّيَّةِ عِنْدَ جَبَلِ حُورِيبَ، فَلَمَّا تَلْقَاهُ أَخْبَرَهُ مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ. فَلَمَّا دَخَلَا مِصْرَ جَمْعَا شُيُوخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا بَلَّغَاهُ رِسَالَةَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ هُوَ [اللَّهُ (3) ] لَا أَعْرِفُهُ وَلَا أُرْسِلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. * * * وَقَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: " قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شئ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا، وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى (4) " يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ أَنْكَرَ إِثْبَاتَ الصَّانِعِ تَعَالَى قَائِلًا: " فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شئ خلقه ثمَّ هدى " أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَعْمَالًا وَأَرْزَاقًا وَآجَالًا، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابِهِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا قدره لَهُ، فطابق عمله فيهم على الْوَجْه الَّذِي قدره وَعلمه، وَقدرته وَقدره لكَمَال علمه. وَهَذِه   (1) ا: ويلتقيان. (2) من ا. (3) لَيست فِي ا. (4) سُورَة طه 49، 50. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خلق فسوى * والذى قدر فهدى " أَيْ قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ. " قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الاولى " يَقُولُ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: فَإِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ الْهَادِي الْخَلَائِقَ لِمَا قَدَّرَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَلِمَ عَبَدَ الْأَوَّلُونَ غَيْرَهُ؟ وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَنْدَادِ مَا قَدْ عَلِمْتَ؟ فَهَلَّا اهْتَدَى إِلَى مَا ذَكَرْتَهُ الْقُرُونُ الْأُولَى؟ " قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ ربى وَلَا ينسى " أَيْ هُمْ وَإِنْ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَكَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَقُول لانهم (1) جهلة مثلك، وكل شئ فَعَلُوهُ مُسْتَطَرٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ، مِنْ صَغِيرٍ وكبير، وسيجزيهم على ذَلِك ربى عزوجل، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ لَا يضل عَنهُ شئ وَلَا يَنْسَى رَبِّي شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عَظَمَةَ الرَّبِّ وَقُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ، وَجَعْلَهُ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالسَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَتَسْخِيرَهُ السَّحَابَ وَالْأَمْطَارَ لِرِزْقِ الْعِبَادِ وَدَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، كَمَا قَالَ: " كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لاولى النهى " أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَالْفِطَرِ الْقَوِيمَةِ غير السقيمة، فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِق الرازق، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أندادا وَأَنْتُم تعلمُونَ " (2) .   (1) ا: فَإِنَّهُم. (2) الْآيَتَانِ: 21، 22 من سُورَة الْبَقَرَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وَلَمَّا ذَكَرَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَاهْتِزَازَهَا بِإِخْرَاجِ نَبَاتِهَا فِيهِ نَبَّهَ بِهِ عَلَى الْمَعَادِ فَقَالَ: " مِنْهَا " أَيْ مِنَ الْأَرْضِ " خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى " كَمَا قَالَ تَعَالَى: " كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ " وَقَالَ تَعَالَى: " وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَات والارض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) ". * * * ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يحْشر النَّاس ضحى " (2) . يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ شَقَاءِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ، فِي تَكْذِيبِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَقَوْلِهِ لِمُوسَى إِنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ، وَنَحْنُ نُعَارِضُكَ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْ مُوسَى أَنَّ يُوَاعِدَهُ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومٍ. وَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْ يُظْهِرَ آيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ جَهْرَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ. [وَلِهَذَا (3) ] " قَالَ: مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة " وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ وَمُجْتَمَعٍ لَهُمْ " وَأَن يحْشر النَّاس ضحى " أَيْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي وَقْتِ اشْتِدَادِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ أَظْهَرَ وَأَجْلَى، وَلَمْ يَطْلُبْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فِي ظَلَامٍ، كَيْمَا يروج عَلَيْهِم محالا   (1) الْآيَة 27 من سُورَة الرّوم (2) الْآيَات: 56 - 59 من سُورَة طه (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَبَاطِلًا، بَلْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا جَهْرَةً، لانه على بَصِيرَة من ربه، ويقين بِأَن (1) اللَّهَ سَيُظْهِرُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ، وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الْقِبْطِ! * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا، وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلح الْيَوْم من استعلى ". يخبر تَعَالَى عَن فِرْعَوْن أَنه فَجَمَعَ مَنْ كَانَ بِبِلَادِهِ (2) مِنَ السَّحَرَةِ، وَكَانَتْ بِلَادُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَمْلُوءَةً سَحَرَةً فُضَلَاءَ، فِي فَنِّهِمْ غَايَةٌ، فَجَمَعُوا لَهُ مَنْ كُلِّ بَلَدٍ وَمِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمُّ غَفِيرٌ، فَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا - قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ سَبْعِينَ ألفا قَالَه الْقَاسِم بن أبي بردة (3) ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ (4) أَلْفًا، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَرَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْعُرَفَاءِ فَيَتَعَلَّمُوا السِّحْرَ. وَلِهَذَا قَالُوا: " وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ من السحر " وَفِي هَذَا نظر.   (1) ا: أَن. (2) ا: فِي بِلَاده. (3) ا: ابْن أبي بزَّة. (4) ا: وَثَمَانِينَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وَحَضَرَ فِرْعَوْنُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ نَادَى فِيهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا هَذَا الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ، فَخَرَجُوا وَهُمْ يَقُولُونَ: " لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هم الغالبين ". وَتَقَدَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّحَرَةِ فَوَعَظَهُمْ، وَزَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ الْبَاطِلِ، الَّذِي فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ فَقَالَ: " وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ من افترى * فتنازعوا أَمرهم بَينهم ". قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِسَاحِرٍ، وَقَائِلٌ [مِنْهُمْ (1) ] يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وأسروا التناجي [بهذ (1) ] وَغَيْرِهِ. " قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما " يَقُولُونَ: إِن هَذَا وأخاه هرون، ساحران عليمان مطبقان متقنان لهَذِهِ الصِّنَاعَة، ومرادهما أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا وَيَصُولَا عَلَى الْمَلِكِ وحاشيته، ويستأصلاكم عَن آخركم، ويستأمرهما عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ. " فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صفا وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى " وَإِنَّمَا قَالُوا الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَوَاصَوْا، وَيَأْتُوا بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكِيدَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالسِّحْرِ وَالْبُهْتَانِ. وَهَيْهَاتَ! كَذَبَتْ وَاللَّهِ الظُّنُونُ، وَأَخْطَأَتِ الآراء، أَنى يُعَارض الْبُهْتَان،   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وَالسِّحْرُ وَالْهَذَيَانُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا الدَّيَّانُ، عَلَى يَدَيْ عَبْدِهِ الْكَلِيمِ، وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ، الَّذِي يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ وَتَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ والاذهان! وَقَوْلهمْ: " فَأَجْمعُوا كيدكم " أَيْ جَمِيعَ مَا عِنْدَكُمْ " ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا " أَي جملَة وَاحِدَة، ثمَّ حضوا بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى التَّقَدُّمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا. * * * " قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا، إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ، وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ". لما اصطف السَّحَرَة ووقف مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تُجَاهَهُمْ - قَالُوا [لَهُ (1) ] إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ قَبْلَكَ " قَالَ بَلْ أَلْقُوا " أَنْتُمْ، وَكَانُوا قَدْ عَمَدُوا إِلَى حِبَالٍ وَعِصِيٍّ، فَأَوْدَعُوهَا الزِّئْبَقَ وَغَيْرِهِ، مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تضطرب بسبها تِلْكَ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ اضْطِرَابًا يُخَيَّلُ لِلرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: " بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس واسترهبوهم وَجَاءُوا   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 بِسحر عَظِيم ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى * فأوجش فِي نَفسه خيفة مُوسَى " أَيْ خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا بِسِحْرِهِمْ وَمِحَالِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يصنع شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ: " لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا. إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ، وَلَا يُفْلِحُ السَّاحر حَيْثُ أَتَى " فَعِنْدَ ذَلِكَ أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ وَقَالَ: " مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحق بكلماته وَلَو كره المجرمون ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين * قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين * رب مُوسَى وهرون ". وَذَلِكَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما أَلْقَاهَا، صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ قَوَائِمَ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَعُنُقٍ عَظِيمٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ انْحَازُوا مِنْهَا وَهَرَبُوا سِرَاعًا، وَتَأَخَّرُوا عَنْ مَكَانِهَا وَأَقْبَلَتْ هِيَ عَلَى مَا أَلْقَوْهُ (1) مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، فَجَعَلَتْ تَلَقَّفَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَأَمَّا السَّحَرَةُ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا مَا هَالَهُمْ وَحَيَّرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاطَّلَعُوا عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَلَا بَالِهِمْ وَلَا يَدْخُلُ تَحت صناعاتهم (2) وأشغالهم، فَعِنْدَ ذَلِك وهنالك   (1) ا: على مَا أَقبلت. (2) ا: صناعاتهم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 تَحَقَّقُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِسحر وَلَا شعوذة (1) ، وَلَا مِحَالٍ وَلَا خَيَالٍ، وَلَا زُورٍ وَلَا بُهْتَانٍ وَلَا ضَلَالٍ، بَلْ حَقٌّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقُّ، الَّذِي ابْتَعَثَ هَذَا الْمُؤَيَّدَ بِهِ بِالْحَقِّ. وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةَ الْغَفْلَةِ، وَأَنَارَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْهُدَى وأراح عَنْهَا الْقَسْوَةَ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ وَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَقَالُوا جَهْرَةً لِلْحَاضِرِينَ وَلَمْ يَخْشَوْا عُقُوبَةً وَلَا بلوى: " آمنا بِرَبّ مُوسَى وهرون " كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمنا بِرَبّ هرون وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ، إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يحيا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تزكّى ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَالْقَاسِمُ بْنُ أبي بردة (2) وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَمَّا سَجَدَ السَّحَرَةُ رَأَوْا مَنَازِلَهُمْ وَقُصُورَهُمْ فِي الْجَنَّةِ تُهَيَّأُ لَهُمْ، وَتُزَخْرَفُ لِقُدُومِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَهْوِيلِ فِرْعَوْنَ وَتَهْدِيدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ السَّحَرَة قد أَسْلمُوا وأشهروا   (1) ا: شعبذة. (2) ا: ابْن أبي بزَّة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ذكر مُوسَى وهرون فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ، أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَمْرًا بَهَرَهُ، وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَبَصَرَهُ، وَكَانَ فِيهِ كَيْدٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَصَنْعَةٌ بَلِيغَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلسَّحَرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ: " آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لكم " أَيْ هَلَّا شَاوَرْتُمُونِي فِيمَا صَنَعْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بِحَضْرَةِ رَعِيَّتِي؟ ! ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، وَكَذَبَ فَأَبْعَدَ قَائِلًا: " إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي علمكُم السحر "، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تعلمُونَ ". وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ [الَّذِي (1) ] يَعْلَمُ كُلُّ فَرْدٍ عَاقِلٍ (2) مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، بَلْ لَا يَرُوجُ مَثَلَهُ عَلَى الصِّبْيَانِ، فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَرَهُ هَؤُلَاءِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ؟ ثُمَّ هُوَ لَمْ يَجْمَعْهُمْ وَلَا عِلْمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ، حَتَّى كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي اسْتَدْعَاهُمْ، وَاجْتَبَاهُمْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَوَادٍ سَحِيقٍ، وَمِنْ حَوَاضِرِ بِلَادِ مِصْرَ وَالْأَطْرَافِ، وَمِنَ الْمُدُنِ وَالْأَرْيَافِ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيل *   (1) من ا (2) ا: كل عَاقل (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون * قَالُوا أرجئه (1) وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ؟ * قَالَ نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا، فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجدين * قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين * رب مُوسَى وهرون * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، رَبنَا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مُسلمين ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: " ثُمَّ بَعَثْنَا من بعدهمْ مُوسَى وهرون إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين * وَقَالَ   (1) ط: أرجه. (*) " 4 - قصَص الانبياء 2 " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بكلماته وَلَو كره المجرمون ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: " قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أولو جئْتُك بشئ مُبِينٍ؟ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَأِ؟ ؟ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نتبع السَّحَرَة إِن كَانُوا هم الغالبين * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ؟ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رب مُوسَى وهرون * قَالَ آمنتم لَهُ قبل آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبنَا خطايانا أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَافْتَرَى وَكَفَرَ غَايَةَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 " إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر " وَأَتَى بِبُهْتَانٍ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ بَلِ الْعَالَمُونَ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا فسوق تعلمُونَ "، وَقَوله: " لاقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف " يَعْنِي يَقْطَعُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى وَعَكْسَهُ، " ولاصلبنكم أَجْمَعِينَ " أَي ليجعلنهم (1) مَثُلَةً وَنَكَالًا لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ [أَحَدٌ] (2) مِنْ رَعِيَّتِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع النّخل " أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، لِأَنَّهَا أَعْلَى وَأَشْهَرُ " ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى " يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا من الْبَينَات " أَيْ لَنْ نُطِيعَكَ وَنَتْرُكَ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ " وَالَّذِي فَطَرَنَا ". قِيلَ مَعْطُوفٌ، وَقِيلَ قَسَمٌ " فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض " أَيْ فَافْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ " إِنَّمَا تَقْضِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا " أَيْ إِنَّمَا حُكْمُكَ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْتَقَلْنَا مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ صِرْنَا إِلَى حُكْمِ الَّذِي أَسْلَمْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَا رُسُلَهُ " إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأبقى " أَي ثَوَابه خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَتْنَا بِهِ مِنَ التَّقْرِيبِ (3) وَالتَّرْغِيبِ، " وَأَبْقَى " أَيْ وَأَدْوَمُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لنا رَبنَا خطايانا " أَيْ مَا اجْتَرَمْنَاهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ " أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ مِنَ الْقِبْطِ، بِمُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَام.   (1) ا: ليجعلهم. (2) سَقَطت من ا. (3) ا: التَّرْهِيب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: " وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا " أَيْ لَيْسَ لَنَا عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُنَا (1 بِمَا جَاءَنَا بِهِ رَسُولُنَا، وَاتِّبَاعُنَا آيَاتِ رَبِّنَا لما جاءتنا " رَبنَا أفرغ علينا صبرا " أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى مَا ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ هَذَا الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَالسُّلْطَانِ الشَّدِيدِ، بَلِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، " وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ". وَقَالُوا أَيْضًا يَعِظُونَهُ وَيُخَوِّفُونَهُ بِأْسَ رَبِّهِ الْعَظِيمِ: " إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يحيا " يَقُولُونَ لَهُ: فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَكَانَ مِنْهُمْ. " وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى " أَيِ الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ، " جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تزكّى " فَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْأَقْدَارُ الَّتِي لَا تُغَالَبُ وَلَا تُمَانَعُ، وَحُكْمُ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ، لِيُبَاشِرَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، يَصُبُّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ الْحَمِيمُ. وَيُقَالُ لَهُ عَلَى وَجه التقريع والتوبيخ، وَهُوَ المقبوح المنبوح والذميم اللَّئِيم: " ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم ". وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - صَلَبَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانُوا [مِنْ] (2) أَوَّلِ النَّهَارِ سَحَرَةً، فَصَارُوا مِنْ آخِرِهِ شُهَدَاءَ بَرَرَةً! وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُمْ: " رَبَّنَا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مُسلمين ".   (1) ا: إِلَّا فِي إيمَاننَا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فَصْلٌ وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيم، وَهُوَ الغلب الَّذِي غلبته الْقِبْطِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْهَائِلِ، وَأَسْلَمَ السَّحَرَةُ الَّذين استنصروا بهم، لَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قَصَصِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: " وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ونستحيي نِسَاءَهُمْ، وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون * وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ، أَنَّهُمْ حَرَّضُوا مِلَكَهُمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَذِيَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُقَابَلَتِهِ بَدَلَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ، بِالْكُفْرِ وَالرَّدّ والاذى. قَالُوا: " أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وآلهتك " يَعْنُونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ دَعْوَتَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْي عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَسَادٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ القبط، لعنهم الله. وَقَرَأَ بَعضهم: " ويذرك وإلهتك " أَيْ وَعِبَادَتَكَ. وَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَيَذْرُ دِينَكَ، وتقويه الْقِرَاءَة الاخرى. وَالثَّانِي: ويذر أَن يعبدك، فَإِنَّهُ كَمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ إِلَهٌ لَعَنَهُ اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 " قَالَ سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ " أَي لِئَلَّا يكثر مُقَاتلَتهمْ. " وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون " أَي غالبون. " وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا " [أَيْ إِذَا هَمُّوا هُمْ بِأَذِيَّتِكُمْ وَالْفَتْكِ بِكُمْ، فَاسْتَعِينُوا أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ وَاصْبِرُوا عَلَى بَلِيَّتِكُمْ (1) ] " إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتقين " أَي فكونوا أَنْتُم الْمُتَّقِينَ لتَكون لكم الْعَاقِبَة، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ من الْقَوْم الْكَافرين ". وَقَوْلهمْ: " قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بعد مَا جئتنا " أَيْ قَدْ كَانَتِ الْأَبْنَاءُ تُقْتَلُ قَبْلَ مَجِيئِكَ وَبَعْدَ مَجِيئِكَ إِلَيْنَا، " قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب ". وَكَانَ فِرْعَوْنُ الْمَلِكَ، وَهَامَانُ الْوَزِيرَ، وَكَانَ قَارُونُ إِسْرَائِيلِيًّا مِنْ قَوْمِ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، كَمَا سَتَأْتِي قِصَّتُهُ فِيمَا بَعْدُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. " فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضلال " وَهَذَا الْقَتْل للغلمان من بعد   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 بَعْثَةِ مُوسَى إِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ والاذلال، والتقليل لملا بني إِسْرَائِيل (1) ، لِئَلَّا يكون لَهُم شَوْكَة يمتنعون بهَا، ويصولون عَلَى الْقِبْطِ بِسَبَبِهَا وَكَانَتِ الْقِبْطُ مِنْهُمْ يَحْذَرُونَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرُدَّ عَنْهُمْ قَدَرَ الَّذِي يَقُول للشئ كُنْ فَيَكُونُ. " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَو أَن يظْهر فِي الارض الْفساد ". وَلِهَذَا يَقُولُ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ: " صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا ". وَهَذَا مِنْهُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ فِي زَعمه خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُضِلَّهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ! " وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب " أَيْ عُذْتُ بِاللَّهِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهِ [وَاسْتَجَرْتُ] (2) بِجَنَابِهِ (3) ، من أَن يَسْطُو فِرْعَوْن وَغَيره عَليّ بِسوء. وَقَوله: " من كل متكبر " أَيْ جَبَّارٍ عَنِيدٍ لَا يَرْعَوِي وَلَا يَنْتَهِي، وَلَا يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَعَادًا وَلَا جَزَاءً. وَلِهَذَا قَالَ: " مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ". * * * " وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الارض، فَمن   (1) ا: لبني إِسْرَائِيل. (2) سَقَطت من المطبوعة. (3) ا: بجانبه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا؟ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد ". وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَمُخَالِفٌ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْقِبْطِ بِمُوسَى إِلَّا هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ شَمْعَانُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ إِلَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. وَفِي تَارِيخ الطَّبَرَانِيّ: أَن اسْمه " خير " فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، فَلَمَّا هَمَّ فِرْعَوْنُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - بِقَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَ مَلَأَهُ فِيهِ، خَافَ هَذَا الْمُؤْمِنُ عَلَى مُوسَى، فَتَلَطَّفَ فِي رَدِّ فِرْعَوْنَ بِكَلَامٍ جَمَعَ فِيهِ التَّرْغِيب والترهيب، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " وَهَذَا مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ هَذَا الْمقَام، فَإِن فِرْعَوْن لَا أَشَدُّ جَوْرًا مِنْهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا أَعْدَلَ مِنْهُ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 لَان فِيهِ عصمَة نَبِي وَيحْتَمل أَنه كاشفهم (1) بِإِظْهَارِ إِيمَانِهِ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِمَا كَانَ يَكْتُمُهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " قَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُول رَبِّي الله " أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَالَ رَبِّيَ اللَّهُ [فَمثل (2) ] هَذَا لَا يُقَابل بِهَذَا، بل بالاكرام والاحترام أَو الْمُوَادَعَة وَترك الانتقام. يَعْنِي لانه " قد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم " أَيْ بِالْخَوَارِقِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صَدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، فَهَذَا إِنْ وَادَعْتُمُوهُ كُنْتُم فِي سَلامَة، لانه " إِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه " وَلَا يضركم ذَلِك " وَإِن يَك صَادِقا " وَقَدْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ " يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ "، أَيْ وَأَنْتُمْ تُشْفِقُونَ أَنْ يَنَالَكُمْ أَيْسَرُ جَزَاءٍ مِمَّا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ، فَكَيْفَ بِكُمْ إِنَّ حَلَّ جَمِيعُهُ عَلَيْكُمْ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّلَطُّفِ وَالِاحْتِرَازِ وَالْعَقْلِ التَّامِّ. وَقَوله: " يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الارض " يُحَذِّرُهُمْ أَنَّ يَسْلُبُوا هَذَا الْمُلْكَ الْعَزِيزَ، فَإِنَّهُ مَا تَعَرَّضَتِ الدُّوَلُ لِلدِّينِ إِلَّا سُلِبُوا مُلْكَهُمْ وَذَلُّوا بَعْدَ عِزِّهِمْ!. وَكَذَا وَقْعَ لِآلِ فِرْعَوْنَ، مَا زَالُوا فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ، وَمُخَالَفَةٍ وَمُعَانَدَةٍ لِمَا جَاءَهُمْ مُوسَى بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالْأَمْلَاكِ وَالدُّورِ وَالْقُصُورِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ حُوِّلُوا إِلَى الْبَحْرِ مُهَانِينَ، وَنُقِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ إِلَى أَسْفَل السافلين.   (1) ا: كاشرهم. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وَلِهَذَا قَالَ هَذَا الرجل الْمُؤمن الْمُصدق، الْبَارُّ الرَّاشِدُ، التَّابِعُ لِلْحَقِّ، النَّاصِحُ لِقَوْمِهِ، الْكَامِلُ الْعقل: " يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الارض " أَيْ عَالِينَ عَلَى النَّاسِ حَاكِمِينَ عَلَيْهِمْ، " فَمَنْ ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا؟ " أَيْ لَوْ كُنْتُمْ أَضْعَافَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لَمَا نَفَعَنَا ذَلِكَ، وَلَا رَدَّ عَنَّا بَأْسَ مَالِكِ الْمَمَالِكِ. " قَالَ فِرْعَوْن " أَيْ فِي جَوَابِ هَذَا كُلِّهِ: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أرى " أَيْ مَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا مَا عِنْدِي " وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد ". وَكَذَبَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَهَاتَيْنِ المقدمتين، فَإِنَّهُ قد كَانَ يتَحَقَّق فِي بَاطِنِهِ وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ يُظْهِرُ خِلَافَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا وَعُتُوًّا وَكُفْرَانًا. قَالَ الله تَعَالَى إِخْبَارًا عَن مُوسَى: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَن يستفزهم من الارض فأغرقناه وَمن مَعَه جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ " فَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَشَادٍ مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ عَلَى سَفَهٍ وضلال وخبل وخيال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فَكَانَ أَوَّلًا مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَالْأَمْثَالَ، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ إِلَى أَنِ اتَّبَعُوهُ وَطَاوَعُوهُ (1) وَصَدقُوهُ، فِيمَا زعم من الْكفْر والمحال، فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ رَبٌّ، تَعَالَى اللَّهُ ذُو الْجلَال! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ؟ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ". وَقَالَ تَعَالَى " فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبين * إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود ". وَالْمَقْصُودُ [بَيَانُ (2) ] كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أرى " وَفِي قَوْلِهِ: " وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ". * * * وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الاحزاب * مثل   (1) ا: وطاعوه. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 دأب قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْم تولون مُدبرين مالكم من الله من عَاصِم، وَمن يضلل الله فَمَاله من هاد * وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ من بعده رَسُولا، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُم، كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار (1) ". يُحَذِّرُهُمْ وَلِيُّ اللَّهِ إِنْ كَذَّبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ [مُوسَى (1) ] أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ من قبلهم، من النقمات والمئلات، مِمَّا تَوَاتر عِنْدهم وَعند غَيرهم، مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زمانهم ذَلِك، مِمَّا أَقَامَ بِهِ الْحُجَجَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، فِي صدق مَا جَاءَت بِهِ الانبياء، لما أَنْزَلَ (2) مِنَ النِّقْمَةِ بِمُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَّفَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّنَادِ، أَيْ حِينَ يُنَادي النَّاس بَعضهم بَعْضًا، حِين يولون إِنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا " يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وزر * إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر " وَقَالَ تَعَالَى: " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسل عَلَيْكُم شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِ آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ ".   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: نزل. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: " يَوْمَ التَّنَادِّ " بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَي يَوْمَ الْفِرَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمُ الْبَأْسَ، فَيَوَدُّونَ (1) الْفِرَارَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ " فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون (2) ". ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَنْ نُبُوَّةِ يُوسُفَ فِي بِلَادِ مصر، وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ. وَهَذَا مِنْ سُلَالَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ بَرِّيَّتِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ أهل الديار المصرية فِي ذَلِك الزَّمَان، وَأَن مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ. وَلِهَذَا قَالَ: " فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ الله من بعده رَسُولا " أَيْ وَكَذَّبْتُمْ فِي هَذَا. وَلِهَذَا قَالَ: " كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم " أَي يردون حجج وَبَرَاهِينَهُ وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ، بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَمْقُتُهُ (3) اللَّهُ غَايَةَ الْمَقْتِ، أَيْ يُبْغِضُ مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ، " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ متكبر جَبَّار " قرئَ بالاضافة والنعت، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ: أَيْ هَكَذَا إِذَا خَالَفَتِ الْقُلُوبُ الْحَقَّ - وَلَا تُخَالِفُهُ إِلَّا بِلَا بُرْهَانٍ - فَإِنَّ الله يطبع عَلَيْهَا، أَي يخْتم عَلَيْهَا [بِمَا فِيهَا (4) ] . * * *   (1) ا: فيريدون. (2) الْآيَتَانِ: 12، من سُورَة الانبياء (3) ا: يمقت الله عَلَيْهِ. (4) سقط من المطبوعة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لعَلي أبلغ الاسباب * أَسبَاب السَّمَوَات فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ". كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَزَعَمَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ مَا كَذَّبَهُ وَافْتَرَاهُ فِي قَوْلِهِ [لَهُمْ (1) ] " مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لاظنه كَاذِبًا ". وَقَالَ هَاهُنَا: " لعَلي أبلغ الاسباب أَسبَاب السَّمَوَات " أَيْ طُرُقَهَا وَمَسَالِكَهَا " فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاظنه كَاذِبًا " وَيَحْتَمِلُ هَذَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا غَيْرِي، وَالثَّانِي فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِر حَال فِرْعَوْن، فَإِنَّهُ كَانَ يُنكر ظَاهرا إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ حَيْثُ قَالَ: " فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى " [أَيْ (1) ] فَأَسْأَلَهُ هَلْ أَرْسَلَهُ أَمْ (2) لَا؟ " وَإِنِّي لاظنه كَاذِبًا " أَيْ فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَصُدَّ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصد عَن السَّبِيل " وَقُرِئَ: " وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تباب ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يَقُولُ: إِلَّا فِي خسار، أَي بَاطِل، لَا يحصل لَهُ شئ مِنْ مَقْصُودِهِ الَّذِي رَامَهُ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَوَصَّلُوا بِقُوَاهُمْ إِلَى نَيْلِ السَّمَاءِ أَبَدًا - أَعْنِي السَّمَاءَ الدُّنْيَا - فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهَا من السَّمَوَات العلى؟   (1) لَيست فِي ا (2) ا: أَولا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الِارْتِفَاعِ الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله عزوجل؟ وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الصَّرْحَ، وَهُوَ الْقَصْرُ الَّذِي بَنَاهُ وَزِيرُهُ هَامَانُ [لَهُ (1) ] لَمْ يُرَ بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا مِنَ الْآجُرِّ الْمَشْوِيِّ بِالنَّارِ وَلِهَذَا قَالَ: " فَأوقد لي ياهامان على الطين فَاجْعَلْ لي صرحا ". وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يُسَخَّرُونَ فِي ضَرْبِ اللَّبِنِ، وَكَانَ مِمَّا حَمَلُوا مِنَ التَّكَالِيفِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُسَاعَدُونَ عَلَى شئ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهِ، بَلْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ تُرَابَهُ وَتِبْنَهُ وَمَاءَهُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ قِسْطٌ مُعَيَّنٌ، إِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ ضُرِبُوا (2) وَأُهِينُوا غَايَةَ الْإِهَانَةِ وَأُوذُوا غَايَةَ الْأَذِيَّةِ. وَلِهَذَا قَالُوا لِمُوسَى: " أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَينْظر كَيفَ تعلمُونَ ". فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِبْطِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. * * * وَلْنَرْجِعْ إِلَى نَصِيحَةِ الْمُؤْمِنِ وَمَوْعِظَتِهِ وَاحْتِجَاجِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب ". يَدْعُوهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ الْحق، وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ من عِنْد رَبِّهِ. ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ [الْفَانِيَةِ (3) ]   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: وَإِلَّا ضربوا. (3) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 الْمُنْقَضِيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَرَغَّبَهُمْ فِي طَلَبِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي لَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ لَدَيْهِ، الْقَدِير الَّذِي ملكوت كل شئ بِيَدَيْهِ. الَّذِي يُعْطِي عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا، وَمِنْ عَدْلِهِ لَا يُجَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، الَّتِي من وافاها - مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات - فَلهُ الدَّرَجَات (1) الْعَالِيَاتُ، وَالْغُرَفُ الْآمِنَاتُ، وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةِ الْفَائِقَاتُ، وَالْأَرْزَاقُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا تَبِيدُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي كُلُّ مَا لَهُمْ مِنْهُ فِي مَزِيدٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي إِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يصيرون إِلَيْهِ، فَقَالَ: " وَيَا قوم مَالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جرم أَن مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب ". كَانَ يَدعُوهُم إِلَى عبَادَة رب السَّمَوَات والارض، الَّذِي يَقُول للشئ كُنْ فَيَكُونُ، وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ الضَّالِّ الْمَلْعُونِ! وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيل الانكار: " وَيَا قوم مَالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ".   (1) ط: فَلهم الجنات العاليات. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ نَفْعٍ وَلَا إِضْرَار (1) ، فَقَالَ: " لَا جرم أَن تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار " أَيْ لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا وَلَا حُكْمًا فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَكَيْفَ تَمْلِكُهُ يَوْمَ الْقَرَارِ؟ وَأَمَّا الله عزوجل فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَيُمِيتُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ، فَيُدْخِلُ طَائِعَهُمُ الْجَنَّةَ، وعاصيهم إِلَى النَّارَ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ بِقَوْلِهِ: " فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ " قَالَ الله: " فوقاه الله سيئات مَا مكروا " أَيْ بِإِنْكَارِهِ سَلِمَ مِمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَمَكْرِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، مِمَّا أَظْهَرُوا لِلْعَامَّةِ مِنَ الْخَيَالَاتِ والمحالات، الَّتِي ألبسوا (2) بِهَا عَلَى عَوَامِّهِمْ وَطَغَامِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ: " وَحَاقَ " أَيْ أَحَاطَ " بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا " أَيْ تُعْرَضُ أَرْوَاحُهُمْ فِي بَرْزَخِهِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً عَلَى النَّارِ. " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب ". وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْلِكْهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، وَإِزَاحَةِ الشّبَه عَنْهُم، وَأخذ الْحجَّة عَلَيْهِم مِنْهُم،   (1) ا: لَا تملك نفعا وَلَا ضرا. (2) ا: لَيْسُوا. (*) (م 5 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 بالترهيب (1) تَارَةً وَالتَّرْغِيبِ أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ " يخبر تَعَالَى أَنه ابتلى آل فِرْعَوْن و [هم] (2) قَوْمُهُ مِنَ الْقِبْطِ، بِالسِّنِينَ وَهِيَ أَعْوَامُ الْجَدْبِ الَّتِي لَا يُسْتَغَلُّ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا يُنْتَفَعُ بضرع. وَقَوله: " وَنقص من الثمرات " وَهِيَ قِلَّةُ الثِّمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ " لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ " أَي فَلم ينتفعوا وَلم يرتدعوا، بَلْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. " فَإِذَا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة " وَالْخصب وَنَحْوه " قَالُوا لنا هَذِه " أَيْ هَذَا الَّذِي نَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِنَا " وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَه " أَيْ يَقُولُونَ هَذَا بِشُؤْمِهِمْ أَصَابَنَا هَذَا، وَلَا يَقُولُونَ فِي الاول إِنَّه ببركتهم وَحسن مجاورتهم [لَهُم (3) ] وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُنْكِرَةٌ مُسْتَكْبِرَةٌ نَافِرَةٌ عَنِ الْحَقِّ، إِذَا جَاءَ الشَّرُّ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَلَا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله " أَيِ [اللَّهُ (3) ] يَجْزِيهِمْ عَلَى هَذَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ. " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". " وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَك بمؤمنين " أَيْ مَهْمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ - وَهِيَ الخوارق للعادات - فلسنا نؤمن بك   (1) ا: فبالترهيب (2) من ا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وَلَا نَتَّبِعُكَ وَلَا نُطِيعُكَ، وَلَوْ جِئْتَنَا بِكُلِّ آيَةٍ. وَهَكَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَاب الاليم ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قوما مجرمين " أَمَّا الطُّوفَانُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ كَثْرَةُ الامطار المغرقة الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ [وَالضَّحَّاكُ (1) ] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْمَوْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّوفَانُ الْمَاءُ وَالطَّاعُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمْرٌ طَافَ بِهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ قَالَ (1) ] : " الطُّوفَانُ الْمَوْتُ " وَهُوَ غَرِيبٌ. وَأَمَّا الْجَرَادُ فَمَعْرُوفٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْجَرَادِ، فَقَالَ: " أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ ". وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّقَذُّرِ لَهُ، كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الضَّبِّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزْونَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الاحاديث والْآثَار فِي التَّفْسِير.   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ اسْتَاقَ خَضْرَاءَهُمْ فَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ زرعا وَلَا ثِمَارًا وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا (1) . وَأَمَّا الْقُمَّلُ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ (2) الْحِنْطَةِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ: هُوَ دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْقمل (3) [هِيَ (4) ] الْبَرَاغِيثُ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّهَا الْحَمْنَانُ وَهُوَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ فَوْقَ القمامة (5) فَدخل مَعَهم الْبيُوت والفرش، قلم يَقِرَّ لَهُمْ قَرَارٌ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهُ الْغَمْضُ وَلَا الْعَيْشُ. وَفَسَّرَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِهَذَا الْقُمَّلِ الْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا الضَّفَادِعُ فَمَعْرُوفَةٌ، لَبَّسَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَسْقُطُ فِي أطعمتهم وأوانيهم. حَتَّى إِن أحدهم إِذا فتح فَاه (6) لطعام أَو شراب سَقَطت فِيهِ ضِفْدِعَةٌ مِنْ تِلْكَ الضَّفَادِعِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَكَانَ قَدْ مُزِجَ مَاؤُهُمْ كُلُّهُ [بِهِ (7) ] فَلَا يَسْتَقُونَ مِنَ النِّيلِ شَيْئًا إِلَّا وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا (8) ، وَلَا مِنْ نَهْرٍ وَلَا بِئْرٍ وَلَا شئ إِلَّا كَانَ دَمًا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. هَذَا كُلُّهُ وَلَمْ يَنَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ شئ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ عَنْ (9)   (1) السبد: الْقَلِيل. واللبد: الْكثير. (2) ا: فِي. (3) لَيست فِي ا. (4) من ا. (5) ط: القمقامة، وَهِي صغَار القردان. (6) ط: فَمه. (7) لَيست فِي ا (8) الدَّم العبيط: الطرى. (9) ط: من فعل مُوسَى. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فِعْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنَالُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ. * * * قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق: فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مغلولا، ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِيَ فِي الشَّرِّ، فَتَابَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ، فَأَخَذَهُ بِالسِّنِينَ: فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الطُّوفَانَ [ثُمَّ الْجَرَادَ، ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ (1) ]- وَهُوَ الْمَاءُ - فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ثُمَّ رَكَدَ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَحْرُثُوا وَلَا أَنْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، حَتَّى جُهِدُوا جوعا. فَلَمَّا بَلغهُمْ ذَلِك " قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل ". فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَكَشْفَهُ عَنْهُمْ. فَلَمَّا لَمَّ يفوا لَهُ بشئ [مِمَّا قَالُوا (1) ] أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ، فَأَكَلَ الشَّجَرَ فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ حَتَّى تَقَعَ دُورُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يفوا لَهُ بشئ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ، فَذَكَرَ لِي أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَمَشَى إِلَى كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا، فَانْثَالَ عَلَيْهِمْ قُمَّلًا، حَتَّى غَلَبَ عَلَى الْبُيُوتِ وَالْأَطْعِمَةِ، ومنعهم النّوم والقرار   (1) سقط من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فَلَمَّا جَهَدَهُمْ قَالُوا [لَهُ (1) ] مِثْلَ مَا قَالُوا لَهُ، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ (2) يَفُوا لَهُ بشئ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ، فَمَلَأَتِ الْبيُوت والاطعمة والآنية، فَلَا يَكْشِفْ أَحَدٌ ثَوْبًا وَلَا طَعَامًا، إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا جَهَدَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا ربه فكشف عَنْهُم، فَلم يفوا بشئ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ، فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا، لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بِئْرٍ وَلَا نَهْرٍ، وَلَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ، إِلَّا عَادَ دَمًا عَبِيطًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُرَادُ بِالدَّمِ الرُّعَافُ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ، فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ، وَالِاسْتِكْبَارِ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ، وتصديق رَسُوله، مَعَ مَا أيده بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْبَلِيغَةِ الْقَاهِرَةِ، الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا عِيَانًا، وَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ دَلِيلًا وَبُرْهَانًا. وَكُلَّمَا شَاهَدُوا آيَةً وَعَايَنُوهَا، وَجَهْدهمْ وأضنكهم، حلفوا وعاهدوا   (1) سَقَطت من ا. (2) ط: فَلَمَّا لم يفوا لَهُ بشئ مِمَّا قَالُوا أرسل الله عَلَيْهِم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 مُوسَى لَئِنْ كَشَفَ (1) عَنْهُمْ هَذِهِ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَيُرْسِلُنَّ مَعَهُ مَنْ هُوَ مِنْ حِزْبِهِ، فَكُلَّمَا رُفِعَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ عَادُوا إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ آيَةً أُخْرَى هِيَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَتْ قبلهَا وَأقوى، فَيَقُولُونَ ويكذبون (2) ، وَيَعِدُونَ وَلَا يَفُونَ: " لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل " فَيُكْشَفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى جَهْلِهِمُ الْعَرِيضِ الطَّوِيلِ. هَذَا، وَالْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْقَدِيرُ، يُنْظِرُهُمْ وَلَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَخِّرُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ بِالْوَعِيدِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ أَخَذَهُمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ (3) إِلَيْهِمْ، أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلًا لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، فِي سُورَةِ حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا، وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ، قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا ألْقى عَلَيْهِ   (1) ا: كشفت. (2) ط: فيكذبون. (3) ط: والانذار. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ". يَذْكُرُ تَعَالَى إِرْسَالَهُ عَبْدَهُ الْكَلِيمَ [الْكَرِيمَ (1) ] إِلَى فِرْعَوْنَ الْخَسِيسِ اللَّئِيمِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَيَّدَ رَسُولَهُ بآيَات بَيِّنَات واضحات، تسْتَحقّ أَن تقَابل بالتعظيم والتصديق، وَأَن يرتدعوا عماهم فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَبِهَا يَسْتَهْزِئُونَ، وَعَن سَبِيل الله يصدون وَعَن الْحق يَنْصَرِفُونَ (2) . فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَتْرَى يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وكل آيَة أكبر من الَّتِي تتلوها، لَان التوكيد أَبْلَغُ مِمَّا قَبْلَهُ. " وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إننا لَمُهْتَدُونَ " لم يكن لفظ السَّاحر فِي زمنهم نَقْصًا وَلَا عَيْبًا، لِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هُمُ السَّحَرَةُ، وَلِهَذَا خَاطَبُوهُ بِهِ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَضَرَاعَتِهِمْ لَدَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ ينكثون ". [ثمَّ (1) ] خبر تَعَالَى عَنْ تَبَجُّحِ فِرْعَوْنَ بِمُلْكِهِ، وَعَظْمَةِ بَلَدِهِ وحسنها، وتخرق الانهار فِيهَا، وَهِي الخلجانات الَّتِي يكسرونها أَيَّام (3) زِيَادَةِ النِّيلِ ثُمَّ تَبَجَّحَ بِنَفْسِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَأَخَذَ يَتَنَقَّصُ رَسُولَ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَزْدَرِيهِ بِكَوْنِهِ " لَا يكَاد يبين " يَعْنِي كَلَامَهُ، بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي لِسَانِهِ مِنْ [بَقِيَّةِ تِلْكَ (1) ] اللُّثْغَةِ، الَّتِي هِيَ شَرَفٌ لَهُ وَكَمَالٌ وَجَمَالٌ، وَلَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُ أَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَ بعد ذَلِك التَّوْرَاة عَلَيْهِ.   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: يصدون. (3) ط: أَمَام. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَتَنَقَّصَهُ فِرْعَوْنُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - بِكَوْنِهِ لَا أَسَاوِرَ فِي يَدَيْهِ، وَلَا زِينَةَ عَلَيْهِ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ، لَا يَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ، فَكَيْفَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ (1) عَقْلًا، وَأَتَمُّ مَعْرِفَةٌ، وَأَعْلَى هِمَّةً وَأَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَمُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْأُخْرَى؟ وَقَوْلُهُ: " أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترنين " لَا يحْتَاج الامر إِلَى ذَلِك، فَإِن كَانَ الْمُرَادُ (2) أَنْ تُعَظِّمَهُ الْمَلَائِكَةُ فَالْمَلَائِكَةُ يُعَظِّمُونَ وَيَتَوَاضَعُونَ لِمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَثِيرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ " فيكف يَكُونُ تَوَاضُعُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ لِمُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّكْرِيمُ! وَإِنْ كَانَ (3) الْمُرَادُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِالرِّسَالَةِ فَقَدْ أُيِّدَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يَدُلُّ قَطْعًا لِذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلِمَنْ قَصَدَ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَيَعْمَى عَمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ والحجج والواضحات مَنْ نَظَرَ إِلَى الْقُشُورِ، وَتَرَكَ لُبَّ اللُّبَابِ، وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ، وَخَتَمِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، كَمَا هُوَ حَالُ فِرْعَوْنَ الْقِبْطِيِّ الْعَمِيِّ الْكَذَّابِ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فاستخف قومه فأطاعوه " أَيْ اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ وَدَرَّجَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ إِلَى أَنْ صَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ " إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسفونا " أَي أغضبونا " انتقمنا مِنْهُم " أَيْ بِالْغَرَقِ وَالْإِهَانَةِ وَسَلْبِ الْعِزِّ، وَالتَّبَدُّلِ بِالذُّلِّ وبالعذاب بعد النِّعْمَة،   (1) ا: أتم. (2) ا: إِن كَانَ إِنَّمَا المُرَاد. (3) وَإِن كَانَ إِنَّمَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَالْهَوَانِ بَعْدَ الرَّفَاهِيَةِ، وَالنَّارِ بَعْدَ طِيبِ الْعَيْشِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ [مِنْ ذَلِكَ (1) ] . " فجعلناهم سلفا " أَيْ لِمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي الصِّفَاتِ " وَمَثَلًا " أَيْ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ وَخَافَ مِنْ وَبِيلِ مَصْرَعِهِمْ، مِمَّنْ بَلَغَهُ جَلِيَّةُ خَبَرِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى، وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي فَأوقد لي ياهامان عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وظنو أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين " (2) . يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَادَّعَى مِلْكُهُمُ الْبَاطِلَ وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ وَأَطَاعُوهُ فِيهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ الْقَدِيرِ الْعَزِيزِ، الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ عَلَيْهِمْ، فَانْتَقَمَ مِنْهُمْ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَأَغْرَقَهُ هُوَ وَجُنُودَهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم ديار، بل كل قَدْ غَرِقَ فَدَخَلَ النَّارَ، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ لَعْنَةً بَيْنَ الْعَالَمِينَ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.   (1) لَيست فِي ا (2) الْآيَات 36 - 41 من سُورَة الْقَصَص (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ذِكْرُ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ لَمَّا تَمَادَى قِبْطُ مِصْرَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَعِنَادِهِمْ، مُتَابَعَةً لِمَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ، وَمُخَالَفَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام أَقَامَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ الْحُجَجَ الْعَظِيمَةَ الْقَاهِرَةَ، وَأَرَاهُمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا بَهَرَ الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَ الْعُقُولَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرْعَوُونَ وَلَا يَنْتَهُونَ، وَلَا يَنْزِعُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ. وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. قِيلَ ثَلَاثَةٌ: وَهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَا عِلْمَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِخَبَرِهَا، وَمُؤمن آل فِرْعَوْن الَّذِي تقدّمت حِكَايَةُ مَوْعِظَتِهِ وَمَشُورَتِهِ وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّجُلُ النَّاصِحُ الَّذِي جَاءَ يَسْعَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين ". قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ [وَمُرَادُهُ غَيْرُ السَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْقِبْطِ (1) ] . وَقِيلَ بَلْ آمَنَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالسَّحَرَةُ كُلُّهُمْ وَجَمِيعُ شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإنَّهُ لمن المسرفين (2) ". فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: " إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ " عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَى مُوسَى لِقُرْبِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا هُوَ مُقَرر فِي التَّفْسِير   (1) سَقَطت من ا. (2) الْآيَة: 83 من سُورَة يُونُس. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وَإِيمَانُهُمْ كَانَ خُفْيَةً لِمَخَافَتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَسَطْوَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ وَسُلْطَتِهِ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ أَنْ يَنِمُّوا عَلَيْهِمْ إِلَيْهِ فَيَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا: " وَإِنَّ فِرْعَوْن لعال فِي الارض " أَي جَبَّار عنيد مشتغل بِغَيْر الْحق، " وَإنَّهُ لمن المسرفين " أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئُونِهِ وَأَحْوَالِهِ. وَلَكِنَّهُ جُرْثُومَةٌ قَدْ حَانَ انْجِعَافُهَا (1) وَثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ قَدْ آنَ قِطَافُهَا، وَمُهْجَةٌ مَلْعُونَةٌ قَدْ حُتِمَ إِتْلَافُهَا. وَعند ذَلِك قَالَ مُوسَى: " يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمين * ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين " فَأَمرهمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، فَأْتَمَرُوا بِذَلِكَ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَبشر الْمُؤمنِينَ ". أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَام أَن يتخذا لِقَوْمِهِمَا بُيُوتًا مُتَمَيِّزَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ بُيُوتِ القبط، ليكونوا على أهبة الرَّحِيلِ إِذَا أَمَرُوا بِهِ، لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بُيُوتَ بعض. وَقَوله: " وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة ". قِيلَ مَسَاجِدَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاك وَزيد ابْن أسلم وَابْنه عبد الرَّحْمَن وَغَيرهم.   (1) الانجعاف: الاقتلاع والاستئصال. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا: الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ وَالضِّيقِ بِكَثْرَةِ [الصَّلَاةِ] (1) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة "، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا [حِينَئِذٍ] (1) يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَمَعَابِدِهِمْ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتهم، عوضا عَمَّا فاتهم من إِظْهَار شَعَائِر الدِّينِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، الَّذِي اقْتَضَى حَالُهُمْ إِخْفَاءَهُ خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَالْمَعْنَى الاول أقوى لقَوْله: " وَبشر الْمُؤمنِينَ ". وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي الثَّانِيَ أَيْضًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: " وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قبْلَة ": أَيْ مُتَقَابِلَةً. * * * " وَقَالَ مُوسَى: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ " (2) . هَذِهِ دَعْوَةٌ عَظِيمَةٌ دَعَا بِهَا كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ، غَضَبًا لِلَّهِ [عَلَيْهِ] (1) لِتَكَبُّرِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَصَدِّهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمُعَانَدَتِهِ وَعُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ، وَالْبُرْهَانَ الْقَطْعِيَّ، فَقَالَ: " رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وملاه " [يَعْنِي قَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّته ودان بِدِينِهِ (3) ]   (1) سَقَطت من ا. (2) سُورَة يُونُس 88، 89. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 " زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلك " أَيْ وَهَذَا يَغْتَرُّ بِهِ مَنْ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدُّنْيَا، فيحسب الْجَاهِل أَنهم على شئ، لَكِن هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَهَذِهِ الزِّينَةِ، مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَرَاكِبِ الْحَسَنَةِ الْهَنِيَّةِ، وَالدُّورِ الْأَنِيقَةِ وَالْقُصُورِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَزِيزِ وَالتَّمْكِينِ، وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ فِي الدُّنْيَا لَا الدِّينِ. " رَبَّنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم "، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ أَهْلِكْهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكُ: اجْعَلْهَا حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ زُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً، وَقَالَ أَيْضًا: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا حِجَارَةً ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز لغلام لَهُ [قُم (1) ] ائتنى بكيس. فَجَاءَهُ بكيس، فَإِذا فِيهِ حمص وبيض قَدْ حُوِّلَ حِجَارَةً! رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ " وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَاب الاليم " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ دَعْوَةُ غَضَبٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِدِينِهِ وَلِبَرَاهِينِهِ. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا (2) ، وَحَقَّقَهَا وَتَقَبَّلَهَا، كَمَا اسْتَجَابَ لِنُوحٍ فِي قَوْمِهِ حَيْثُ قَالَ: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، مُخَاطِبًا لِمُوسَى حِينَ دَعَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَمَّنَ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى دُعَائِهِ   (1) لَيست فِي: ا (2) ا: لَهما. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي أَيْضًا: " قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يعلمُونَ ". * * * قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: اسْتَأْذَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرْعَوْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ كَارِهٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الارض (1) مَكِيدَةٌ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُمْ وَيَخْرُجُوا عَنْهُمْ. وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَنْ يَسْتَعِيرُوا حُلِيًّا مِنْهُمْ، فَأَعَارُوهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا بِلَيْلٍ فَسَارُوا مُسْتَمِرِّينَ ذَاهِبِينَ مِنْ فَوْرِهِمْ، طَالِبِينَ بِلَادَ الشَّامِ. فَلَمَّا عَلِمَ بِذَهَابِهِمْ فِرْعَوْنُ حَنِقَ عَلَيْهِمْ كُلَّ الْحَنَقِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي اسْتِحْثَاثِ جَيْشِهِ وَجَمْعِ جُنُودِهِ لِيَلْحَقَهُمْ وَيَمْحَقَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُم لنا لغائظون * وَإِنَّا لجَمِيع حذرون * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين * وأنجينا مُوسَى   (1) كَذَا ولعلها: فِي نفس الامر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم " (1) . قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا رَكِبَ فِرْعَوْنُ فِي جُنُودِهِ طَالِبًا بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْفُو أَثَرَهُمْ كَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ، حَتَّى قِيلَ كَانَ فِي خُيُولِهِ مِائَةُ أَلْفِ فَحْلٍ أَدْهَمَ، وَكَانَتْ عِدَّةُ جُنُودِهِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ غَيْرَ الذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدُخُولِهِمْ إِلَيْهَا صُحْبَةَ أَبِيهِمْ إِسْرَائِيل أَرْبَعمِائَة سنة وستا وَعِشْرِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَحِقَهُمْ بِالْجُنُودِ، فَأَدْرَكَهُمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، وَلَمْ يَبْقَ ثَمَّ رَيْبٌ وَلَا لَبْسٌ، وَعَايَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ وَتَحَقَّقَهُ وَرَآهُ، وَلَمْ يبْق إِلَّا الْمُقَاتلَة والمجادلة (2) وَالْمُحَامَاةُ. فَعِنْدَهَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى وَهُمْ خَائِفُونَ: " إِنَّا لمدركون " وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْبَحْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ وَلَا مَحِيدٌ إِلَّا سُلُوكُهُ وَخَوْضُهُ، وَهَذَا مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْجِبَالُ عَنْ يَسْرَتِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَهِيَ شَاهِقَةٌ مُنِيفَةٌ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ غَالَقَهُمْ وَوَاجَهَهُمْ، وَعَايَنُوهُ فِي جُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ (3) وَعَدَدِهِ وَعُدَدِهِ، وَهُمْ مِنْهُ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالذُّعْرِ، لِمَا قَاسَوْا فِي سُلْطَانه من الاهانة وَالْمَكْر (4) . فَشَكَوْا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ مَا هُمْ فِيهِ مِمَّا قد شاهدوه وعاينوه. فَقَالَ لَهُم   (1) الْآيَات. 52 - 68 من سُورَة الشُّعَرَاء (2) ا: والمحاولة. (3) ا: فِي جيوشه وَجُنُوده. (4) ا: وَالْمُنكر (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الرَّسُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سيهدين " وَكَانَ فِي السَّاقَةِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَنَظَرَ إِلَى الْبَحْرِ وَهُوَ يَتَلَاطَمُ بِأَمْوَاجِهِ، وَيَتَزَايَدُ زَبَدُ أجاجه، وَهُوَ يَقُول: هَا هُنَا أمرت. وَمَعَهُ أَخُوهُ هرون، ويوشع ابْن نُونٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٌ مِنْ سَادَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمُ الْكِبَارِ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَجعله نَبيا بعد مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله، وَمَعَهُمْ [أَيْضًا (1) ] مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ وُقُوفٌ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِكَمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ عُكُوفٌ. وَيُقَالُ إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ جَعَلَ يَقْتَحِمُ بِفَرَسِهِ مِرَارًا فِي الْبَحْرِ، هَلْ يُمْكِنُ سُلُوكُهُ؟ فَلَا يُمْكِنُ، وَيَقُولُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَاهُنَا أُمِرْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَاقْتَرَبَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي جِدِّهِمْ وَحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَغَضَبِهِمْ وَحَنَقِهِمْ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر، عِنْد ذَلِكَ أَوْحَى الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ: " أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْر ". فَلَمَّا ضَرَبَهُ، يُقَالُ إِنَّهُ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَنَّاهُ بِأَبِي خَالِدٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم ". وَيُقَال إِنَّه انْفَلق اثنى عشر طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَسِيرُونَ فِيهِ، حَتَّى قيل إِنَّه صَار فِيهِ أَيْضا   (1) لَيست فِي ا. (*) (6 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 شَبَابِيكَ لِيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا! وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ إِذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهِ ضِيَاءٌ حَكَاهُ. وَهَكَذَا كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ قَائِمًا مِثْلَ الْجِبَالِ، مَكْفُوفًا بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ الصَّادِرَةِ من الَّذِي يَقُول للشئ كن فَيكون، وَأمر الله تَعَالَى رِيحَ الدَّبُورِ فَلَفَحَتْ حَالَ (1) الْبَحْرِ فَأَذْهَبَتْهُ، حَتَّى صَارَ يَابِسًا لَا يَعْلَقُ فِي سَنَابِكِ الْخُيُولِ وَالدَّوَابِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا * لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (2) " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا آلَ أَمْرُ الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، بِإِذْنِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الشَّدِيدِ الْمِحَالِ، أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجُوزَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْحَدَرُوا فِيهِ مُسْرِعِينَ مُسْتَبْشِرِينَ مُبَادِرِينَ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مَا يُحَيِّرُ النَّاظِرِينَ. ويهدى قُلُوب الْمُؤمنِينَ. فَلَمَّا جازوه (3) وجاوزوه وَخَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ، وَانْفَصَلُوا عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ أَوَّلِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ إِلَيْهِ، وَوُفُودِهِمْ عَلَيْهِ. فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ لِيَرْجِعَ كَمَا (4) كَانَ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ وَصُولٌ إِلَيْهِ، وَلَا سَبِيلٌ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ (5) الْقَدِيرُ ذُو الْجَلَالِ أَنَّ يَتْرُكَ الْبَحْرَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ وَهُوَ   (1) الْحَال: الطين الاسود. (2) الْآيَات: 77 - 79 من سُورَة طه. (3) المطبوعة: جاوزوه. محرفة. (4) ا: عَمَّا (5) ا: فَأمر (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الصَّادِقُ فِي الْمَقَالِ: " وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنِعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بلَاء مُبين (1) ". فَقَوله تَعَالَى: " واترك الْبَحْر رهوا " أَيْ سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِهِ، لَا تُغَيِّرْهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا تَرَكَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَحَالَتِهِ (2) وَانْتَهَى فِرْعَوْنُ، فَرَأَى مَا رَأَى وَعَايَنَ مَا عَايَنَ، هَالَهُ هَذَا الْمَنْظَرُ الْعَظِيمُ، وَتَحَقَّقَ مَا كَانَ يَتَحَقَّقُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ رَبِّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، فَأَحْجَمَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَنَدِمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى خُرُوجِهِ فِي طَلَبِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، لَكِنَّهُ أَظْهَرَ لِجُنُودِهِ تَجَلُّدًا وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْعِدَا، وَحَمَلَتْهُ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ وَالسَّجِيَّةُ الْفَاجِرَةُ عَلَى   (1) الْآيَات: 17 - 23 من سُورَة الدُّخان. (2) ا: وحاله. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 أَنْ قَالَ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَعَلَى بَاطِلِهِ تَابَعُوهُ (1) : انْظُرُوا كَيْفَ انْحَسَرَ [الْبَحْرُ (2) ] لِي لِأُدْرِكَ عَبِيدِي الآبقين من يَدي، الخارجين على (3) طَاعَتِي وَبَلَدِي؟ وَجَعَلَ يُورِي فِي نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ خَلْفَهُمْ، وَيَرْجُو أَنْ يَنْجُوَ وَهَيْهَاتَ، وَيُقْدِمُ تَارَةً وَيُحْجِمُ تَارَاتٍ! فَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَدَّى فِي صُورَةِ فَارِسٍ رَاكِبٍ عَلَى رَمَكَةِ حَائِلٍ (4) فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْ فَحْلِ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَمْحَمَ إِلَيْهَا وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَسْرَعَ جِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ، وَاسْتَبَقَ الْجَوَادَ وَقَدْ أَجَادَ، فَبَادَرَ مُسْرِعًا، هَذَا وَفِرْعَوْنُ لَا يملك من نَفسه ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْجُنُودُ قَدْ سَلَكَ الْبَحْرَ اقْتَحَمُوا وَرَاءَهُ مُسْرِعِينَ، فَحَصَلُوا فِي الْبَحْرِ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ، حَتَّى هَمَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كليمه فِيمَا أوحاه إِلَيْهِ أَن يضْرب بعصاه الْبَحْر. فَضَرَبَهُ فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا كَانَ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤمنين * وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم. " أَيْ فِي إِنْجَائِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِغْرَاقِهِ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَخْلُصْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَنَاهِجِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُوده   (1) ا: بَايعُوهُ. (2) سَقَطت من. (3) ا: عَن طَاعَتي. (4) الرمكة: الْفرس. والحائل: الَّتِي لم تلقح. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 بَغْيًا وَعَدْوًا، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون ". يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَيْفِيَّةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ زَعِيمِ كَفَرَةِ الْقِبْطِ، وَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَخْفِضُهُ تَارَةً وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى (1) ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَإِلَى جُنُودِهِ، مَاذَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ وَبِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، لِيَكُونَ أَقَرَّ لاعين بني إِسْرَائِيل، وأشقى لِنُفُوسِهِمْ. فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ الْهَلَكَةَ وَأُحِيطَ بِهِ، وَبَاشَرَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَنَابَ حِينَئِذٍ وَتَابَ، وَآمَنَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَاب الاليم (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ (3) ". وَهَكَذَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَنْ يُطْمَسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُشْدَدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الاليم، أَيْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُمَا - أَيْ لِمُوسَى وهرون - حِين دعوا بِهَذَا: " قد أجيبت دعوتكما " فَهَذَا مِنْ إِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ كَلِيمِهِ وأخيه هرون عَلَيْهِمَا السَّلَام.   (1) ا: ترفعه تَارَة وتخفضه أُخْرَى. (2) سُورَة يُونُس 96، 97 (3) سُورَة غَافِر 84، 85. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لما قَالَ فِرْعَوْنُ: " آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنو إِسْرَائِيل " قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ! ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عدى بن ثَابت، وَعَطَاء ابْن السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فَم فِرْعَوْن مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ (1) الرَّحْمَةُ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وَأَشَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَةٍ إِلَى وَقْفِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: " آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ " قَالَ فَخَافَ جِبْرِيلُ أَنْ تَسْبِقَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِيهِ غَضَبَهُ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْحَالَ بِجَنَاحَيْهِ، فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ فَيَرْمُسُهُ (2) . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أبي خَالِد بِهِ.   (1) ا: أَن تُدْرِكهُ (2) يرمسه: يدفنه (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بن زَاذَان وَلَيْسَ بِمَعْرُوف (1) ، وَعَن أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " قَالَ لي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أُغَطُّهُ وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ رَحْمَةُ اللَّهِ فَيَغْفِرَ لَهُ! " يَعْنِي فِرْعَوْنَ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ كَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَيُقَالُ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ خَطَبَ بِهِ النَّاسَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مَا بَغَضْتُ أَحَدًا بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: " أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى " وَلَقَدْ جَعَلْتُ أَدُسُّ فِي فِيهِ الطِّينَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المفسدين " اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَنَصٌّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ تَعَالَى مِنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانَ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ إِذَا عَايَنُوا النَّارَ وَشَاهَدُوهَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: " يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ من الْمُؤمنِينَ " قَالَ الله: " بل بدالهم مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ". وَقَوْلُهُ " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ": قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: شَكَّ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ لَا يَمُوتُ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَرَفَعَهُ عَلَى مُرْتَفَعٍ، قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَقِيلَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ الَّتِي يعرفونها   (1) ذكره الذَّهَبِيّ فِي ميزَان الِاعْتِدَال 3 / 403 وَقَالَ: لَهُ حَدِيث مُنكر. قَالَ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَقَالَ ابْن معِين: لَا أعرفهُ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 مِنْ مَلَابِسِهِ، لِيَتَحَقَّقُوا بِذَلِكَ هَلَاكَهُ، وَيَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ: " فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ " أَيْ مُصَاحِبًا دِرْعَكَ الْمَعْرُوفَةَ بِكَ، " لِتَكُونَ " أَيْ أَنْت آيَة " لمن خَلفك " أَي من بني إِسْرَائِيل، ودليلا على قدرَة الله الَّذِي أهْلكك، وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ: " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَة ". وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: ننجيك بجسدك مصاحبا درعك، لتَكون عَلَامَةً لِمَنْ وَرَاءَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَأَنَّكَ هَلَكْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُ وَجُنُودِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة وَالْيَهُود تَصُوم يَوْم عَاشُورَاء، فَقَالَ: " مَا هَذَا الْيَوْم الَّذِي تصومونه؟ " فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى [مِنْهُمْ (1) ] فَصُومُوا ". وَأَصْلُ هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا. وَالله أعلم.   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كمالهم آلِهَةٌ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ، وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (1) " يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَجُنُوده فِي غرقهم، وَكَيف سلبهم عزهم وَمَا لَهُم وَأَنْفُسَهُمْ، وَأَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ: " كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل (2) " وَقَالَ: " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الارض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين (3) " وَقَالَ هَاهُنَا: " وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يعرشون ".   (1) سُورَة الاعراف 136 - 141. (2) الْآيَة: 59 من سُورَة الشُّعَرَاء. (3) الْآيَة: 5 من سُورَة الْقَصَص. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 أَيْ أَهْلَكَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمُ الْعَزِيزَ الْعَرِيضَ فِي الدُّنْيَا، وَهَلَكَ الْمَلِكُ وَحَاشِيَتُهُ وَأُمَرَاؤُهُ وَجُنُودُهُ، وَلَمْ يَبْقَ بِبَلَدِ مِصْرَ سِوَى الْعَامَّةِ والرعايا. ذكر ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي تَارِيخِ مِصْرَ: أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَسَلَّطَ نِسَاءُ مِصْرَ (1) عَلَى رِجَالِهَا، بِسَبَبِ أَنَّ نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ تَزَوَّجْنَ بِمَنْ دُونَهُنَّ مِنَ الْعَامَّةِ، فَكَانَتْ لَهُنَّ السَّطْوَةُ عَلَيْهِمْ. وَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ سُنَّةَ نِسَاءِ مِصْرَ إِلَى يَوْمنَا (2) هَذَا! وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ أَوَّلَ سَنَتِهِمْ وَأُمِرُوا أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ أَهْلِ بَيْتٍ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى حَمَلٍ فَلْيَشْتَرِكِ الْجَارُ وَجَارُهُ فِيهِ. فَإِذَا ذَبَحُوهُ فَلْيَنْضَحُوا مِنْ دَمِهِ عَلَى أَعْتَابِ أَبْوَابِهِمْ، لِيَكُونَ عَلَّامَةً لَهُمْ عَلَى بُيُوتِهِمْ، وَلَا يَأْكُلُونَهُ مَطْبُوخًا، وَلَكِنْ مَشْوِيًّا بِرَأْسِهِ وَأَكَارِعِهِ وَبَطْنِهِ، وَلَا يُبْقُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَكْسِرُوا لَهُ عَظْمًا، وَلَا يُخْرِجُوا مِنْهُ شَيْئًا إِلَى خَارِجِ بُيُوتِهِمْ. وَلْيَكُنْ خُبْزُهُمْ فَطِيرًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَتِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ فَإِذَا أَكَلُوا فَلْتَكُنْ أَوْسَاطُهُمْ مَشْدُودَةً، وَخِفَافُهُمْ فِي أَرْجُلِهِمْ، وَعِصِيُّهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلْيَأْكُلُوا بِسُرْعَةٍ قِيَامًا، وَمَهْمَا فَضَلَ عَنْ عَشَائِهِمْ فَمَا بَقِيَ إِلَى الْغَدِ فَلْيَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ. وَشَرَعَ لَهُمْ هَذَا عِيدًا لِأَعْقَابِهِمْ مَا دَامَتِ التَّوْرَاةُ مَعْمُولًا بِهَا، فَإِذَا نُسِخَتْ بَطَلَ شَرْعُهَا. وَقَدْ وَقَعَ. قَالُوا: وَقتل الله عزوجل فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبْكَارَ الْقِبْطِ وَأَبْكَارَ دَوَابِّهِمْ،   (1) المطبوعة: مصرى. محرفة. (2) ا: إِلَى يَوْمك هَذَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 لِيَشْتَغِلُوا عَنْهُمْ. وَخَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَأَهَّلُ مِصْرَ فِي مَنَاحَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ وَأَبْكَارِ أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ مِنْ بَيْتٍ إِلَّا وَفِيهِ عَوِيلٌ. وَحِينَ جَاءَ الْوَحْيُ إِلَى مُوسَى خَرَجُوا مُسْرِعِينَ، فَحَمَلُوا الْعَجِينَ قَبْلَ اخْتِمَارِهِ، وَحَمَلُوا الْأَزْوَادَ فِي الْأَرْدِيَةِ وَأَلْقَوْهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حُلِيًّا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ سِوَى الذَّرَّارِيِّ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِمْ بِمِصْرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ. وَهَذِهِ السَّنَةُ عِنْدَهُمْ تُسَمَّى سَنَةَ الْفَسْخِ، وَهَذَا الْعِيدُ عِيدُ الْفَسْخِ، وَلَهُمْ عِيدُ الْفطر (1) ، وَعِيدُ الْحَمَلِ وَهُوَ أَوَّلُ السَّنَةِ، وَهَذِهِ الْأَعْيَادُ الثَّلَاثَةُ آكَدُ أَعْيَادِهِمْ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِمْ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ أَخْرَجُوا مَعَهُمْ تَابُوتَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَرَجُوا عَلَى طَرِيقِ بَحْرِ سُوفَ (2) ، وَكَانُوا فِي النَّهَارِ يَسِيرُونَ وَالسَّحَابُ بَيْنَ أَيْديهم يسير أمامهم فِيهِ عَمُود نور، وَاللَّيْل أمامهم عَمُود نَارٍ، فَانْتَهَى بِهِمُ الطَّرِيقُ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَنَزَلُوا هُنَالِكَ، وَأَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُمْ هُنَاكَ حُلُولٌ عَلَى شَاطِئِ الْيَمِّ، فَقَلِقَ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: كَانَ بَقَاؤُنَا بِمِصْرَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الْبَريَّة. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: لَا تَخْشَوْا فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى بلدهم بعد هَذَا.   (1) ط: الفطير. (2) ا: بَحر سون. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 قَالُوا: وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَأَنْ يَقْسِمَهُ لِيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبَحْرِ وَالْيَبَسِ. وَصَارَ الْمَاءُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا كَالْجَبَلَيْنِ، وَصَارَ وَسَطُهُ يَبَسًا، لِأَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنُوبِ وَالسَّمُومِ. فَجَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ وَأَتْبَعُهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوهُ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَرَجَعَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّ هَذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ، وَأَنَّ الْبَحْرَ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الصُّبْحِ. وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ فِي تَعْرِيبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ حِينَئِذٍ سَبَّحَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ لِلرَّبِّ، وَقَالُوا: " نُسَبِّحُ الرَّبَّ [الْبَهِيَّ (1) ] ، الَّذِي قَهَرَ الْجُنُودَ، وَنَبَذَ فُرْسَانَهَا فِي الْبَحْرِ الْمَنِيعِ الْمَحْمُودِ " وَهُوَ تَسْبِيحٌ طَوِيلٌ. قَالُوا وَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ - أُخْتُ هَارُونَ - دُفًّا بِيَدِهَا، وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي أَثَرِهَا كُلُّهُنَّ بِدُفُوفٍ وَطُبُولٍ. وَجَعَلَتْ مَرْيَمُ تُرَتِّلُ لَهُنَّ وَتَقُولُ: سُبْحَانَ الرَّبِّ الْقَهَّارِ، الَّذِي قَهَرَ الْخُيُولَ وَرُكْبَانَهَا إِلْقَاءً فِي الْبَحْرِ. هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِمْ. وَلَعَلَّ هَذَا [هُوَ مِنَ (1) ] الَّذِي حمل مُحَمَّد ابْن كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ عَلَى زَعْمِهِ: أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عمرَان أم عِيسَى، هِيَ أُخْت هرون ومُوسَى، مَعَ قَوْله: " يَا أُخْت هرون ". وَقَدْ بَيَّنَّا غَلَطَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ (2) خَالَفَهُ فِيهِ. وَلَوْ قدر أَن هَذَا مَحْفُوظ،   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: كل أحد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فَهَذِهِ مَرْيَم بنت عمرَان أُخْت مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَأُمُّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ وَافَقَتْهَا فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَاسْمِ الْأَخِ، لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ نَجْرَان عَن قَوْله: يَا أُخْت هرون فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لَهُمْ، حَتَّى سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُمْ: " النَّبِيَّةُ " كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ مَلِكَةٌ، وَمِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ أَمِيرَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرَةً [شَيْئًا] (1) مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَا هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لَهَا، لَا أَنَّهَا نَبِيَّةٌ حَقِيقَةً يُوحَى إِلَيْهَا. وَضَرْبُهَا بِالدُّفِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْيَادِ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ضَرْبَ الدُّفِّ فِي الْعِيدِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَنَا أَيْضًا فِي حَقِّ النِّسَاءِ، لِحَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ عَائِشَةَ يضربان بِالدُّفِّ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعٌ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ إِلَيْهِمْ، وَوَجْهُهُ إِلَى الْحَائِطِ فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ زَجَرَهُنَّ وَقَالَ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: " دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا ". وَهَكَذَا يُشْرَعُ عِنْدَنَا فِي الْأَعْرَاسِ وَلِقُدُومِ الْغُيَّابِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَالله أعلم. وَذكروا أَنهم لما جازوا الْبَحْرَ وَذَهَبُوا قَاصِدِينَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ مَكَثُوا   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُونَ مَاءً، فَتَكَلَّمَ مَنْ تكلم مِنْهُم بِسَبَب ذَلِك، فوجدوا مَاء زعافا أُجَاجًا لَمْ يَسْتَطِيعُوا شُرْبَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى فَأَخَذَ خَشَبَةً فَوَضَعَهَا فِيهِ، فَحَلَا وَسَاغَ شُرْبُهُ. وَعَلَّمَهُ الرَّبُّ هُنَالِكَ فَرَائِضَ وَسُنَنًا، وَوَصَّاهُ وَصَايَا كَثِيرَةً. * * * وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ [الْعَزِيزِ (1) ] الْمُهَيْمِنِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ: " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون * إِن هَؤُلَاءِ متبر ماهم فِيهِ، وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (2) " قَالُوا هَذَا الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ، وَقَدْ عَايَنُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، مَا دَلَّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ ذِي الْجَلَالِ [وَالْإِكْرَامِ (3) ] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا، قِيلَ كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُمْ: لِمَ يَعْبُدُونَهَا؟ فَزَعَمُوا لَهُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، وَيَسْتَرْزِقُونَ بِهَا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ صَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً كَمَا لِأُولَئِكَ آلِهَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ: " إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ". ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فِي تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالشَّرْعِ، وَالرَّسُولِ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ وَمَا   (1) لَيست فِي ا (2) سُورَة الاعراف 138، 139. (3) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وتوريثه إيَّاهُم ماكان فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّعَادَةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْقَهَّارُ، وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلَ هَذَا السُّؤَال، بل [هَذَا (1) ] الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة " أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: " وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بل زعمتم أَن لن نجْعَل لكم موعدا (2) " فَالَّذِينَ زَعَمُوا هَذَا بعض النَّاس لاكلهم. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حنين، فمررنا بسدرة فَقُلْنَا يَا رَسُول الله اجْعَل لنا هَذِه ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ! هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ [مِنْ (3) ] قَبْلِكُمْ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح.   (1) سَقَطت من ا. (2) سُورَة الْكَهْف 47، 48. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بن إِسْحَق وَمَعْمَرٍ وَعَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا " ذَاتُ أَنْوَاطٍ " قَالَ فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: " قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قوم مُوسَى: " اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ ماهم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ " * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا انْفَصَلَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ وَوَاجَهَ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَدَ فِيهَا قَوْمًا مِنَ الْجَبَّارِينَ، مِنْ الْحَيْثَانِيِّينَ وَالْفَزَارِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. فَأَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَمُقَاتَلَتِهِمْ، وَإِجْلَائِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَمُوسَى الْكَلِيمِ الْجَلِيلِ، فَأَبَوْا وَنَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ، وَأَلْقَاهُمْ فِي التِّيهِ، يَسِيرُونَ وَيَحِلُّونَ وَيَرْتَحِلُونَ وَيَذْهَبُونَ وَيَجِيئُونَ، فِي مُدَّةٍ مِنَ السِّنِينَ طَوِيلَةٍ هِيَ مِنَ الْعَدَدِ أَرْبَعُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ * وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الارض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين (1) ". يذكرهم نَبِي الله نعْمَة الله عَلَيْهِم وإحسانه إِلَيْهِم بِالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُقَاتَلَةِ أَعْدَائِهِ فَقَالَ: " يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا ترتدوا على أدباركم " أَي تنكصوا على أعقابكم، وتنكلوا عَن قتال أعدائكم " فتنقلبوا خاسرين " أَيْ فَتَخْسَرُوا بَعْدَ الرِّبْحِ، وَتَنْقُصُوا بَعْدَ الْكَمَالِ. " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ " أَيْ عُتَاةً كَفَرَةً مُتَمَرِّدِينَ " وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا داخلون " خَافُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ وَقَدْ عَايَنُوا هَلَاكَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ أَجْبَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَدُّ بَأْسًا، وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَأَعْظَمُ جُنْدًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلُومُونَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمَذْمُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، مِنَ الذِّلَّةِ عَنْ مُصَاوَلَةِ الْأَعْدَاءِ، وَمُقَاوَمَةِ الْمَرَدَةِ الْأَشْقِيَاءِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسّرين [هَاهُنَا (2) ] آثارا فِيهَا مجازفات كَثِيرَة   (1) الْآيَات: 20 - 26 من سُورَة الْمَائِدَة. (2) لَيست فِي ا. (*) (م - 7 قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 بَاطِلَةٌ، يَدُلُّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ عَلَى خِلَافِهَا مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشْكَالًا هَائِلَةً ضِخَامًا [جِدًّا (1) ] حَتَّى إِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ تَلَقَّاهُمْ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الْجَبَّارِينَ، فَجَعَلَ يَأْخُذُهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيَلُفُّهُمْ فِي أَكْمَامِهِ وحجرة سَرَاوِيلِهِ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَجَاءَ بِهِمْ فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْجَبَّارِينَ، فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ حَتَّى عَرَّفُوهُ. وَكُلُّ هَذِهِ هَذَيَانَاتٌ وَخُرَافَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَأَنَّ الْمَلِكَ بَعَثَ مَعَهُمْ عِنَبًا كُلُّ عِنَبَةٍ تَكْفِي الرَّجُلَ، وَشَيْئًا مِنْ ثِمَارِهِمْ لِيَعْلَمُوا ضَخَامَةَ أَشْكَالِهِمْ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرُوا هَاهُنَا أَنَّ عُوجَ بْنَ عُنُقَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْجَبَّارِينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُهْلِكَهُمْ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثَمِائَةِ [ذِرَاعٍ (2) ] وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلْثَ ذِرَاعٍ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ [طُولُهُ (1) ] سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ ". قَالُوا: فَعَمَدَ عُوجُ إِلَى قِمَّةِ (3) جَبَلٍ فَاقْتَلَعَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَهَا عَلَى جَيْشِ مُوسَى، فَجَاءَ طَائِرٌ فَنَقَرَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَخَرَقَهَا فَصَارَتْ طَوْقًا فِي عُنُقِ عُوجَ بْنِ عُنُقَ. ثُمَّ عَمَدَ مُوسَى إِلَيْهِ فَوَثَبَ فِي الْهَوَاء عشرَة   (1) لَيست فِي ا (2) من ا. (3) ا: قلَّة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 أَذْرُعٍ وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَبِيَدِهِ عَصَاهُ وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَصَلَ إِلَى كَعْبِ قَدَمِهِ فَقَتَلَهُ. يُرْوَى هَذَا عَنْ نَوْفٍ (1) الْبِكَالِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ نَظَرٌ. ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ مِنْ وَضْعِ جُهَّالِ بَنِي إِسْرَائِيل، فَإِن الاخبار الكاذبة قَدْ كَثُرَتْ عِنْدَهُمْ، وَلَا تَمْيِيزَ لَهُمْ بَيْنَ صِحَّتهَا وَبَاطِلِهَا. ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعْذُورِينَ فِي النُّكُولِ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى نُكُولِهِمْ، وَعَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ عَلَى تَرْكِ جِهَادِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِنْهُمْ بِالْإِقْدَامِ، وَنَهَيَاهُمْ عَنِ الْإِحْجَامِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. " قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ " أَيْ يَخَافُونَ اللَّهَ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ " يُخَافُونَ " أَيْ يهابون " أنعم الله عَلَيْهِمَا " أَيْ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالشَّجَاعَةِ " ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ * وَعَلَى اللَّهِ فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين " أَيْ إِذَا تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَعَنْتُمْ بِهِ وَلَجَأْتُمْ إِلَيْهِ، نَصَرَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ [وَأَيَّدَكُمْ عَلَيْهِمْ] (2) وأظفركم بهم. " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " فصمم ملؤهم على النّكُول عَنِ الْجِهَادِ، وَوَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَوَهَنٌ كَبِيرٌ، فَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ وَكَالِبَ لَمَّا سَمِعَا هَذَا الْكَلَام   (1) المطبوعة: عَوْف. محرفة. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 شقا (1) ثيابهما، وَإِن مُوسَى وهرون سجدا إعظاما لهَذَا الْكَلَام وغضبا لله عزوجل، وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ مِنْ وَبِيلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. " قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الارض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين " عوقبوا على نكولهم بالتيهان فِي الارض، يَسِيرُونَ إِلَى غَيْرِ مَقْصِدٍ، لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمَسَاءً. وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ دَخَلَهُ، بَلْ مَاتُوا كُلُّهُمْ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذَرَّارِيُّهُمْ، سِوَى يُوشَعَ وَكَالِبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. لَكِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَقُولُوا لَهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ (2) مُوسَى لِمُوسَى، بَلْ لَمَّا اسْتَشَارَهُمْ فِي الذَّهَابِ إِلَى النَّفِيرِ تكلم الصّديق فَأحْسن، وَتكلم غَيره (3) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ "، حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاء، لَعَلَّ الله أَن يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقول سعد ونشطه ذَلِك.   (1) ا: فتقاء (2) اأصحاب مُوسَى (3) ا: وَغَيره (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن مُخَارق بن عَبْدِ اللَّهِ الْأَحْمَسِيِّ، عَنْ طَارِقٍ - هُوَ ابْنُ شِهَابٍ - أَنَّ الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: " اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ. أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ (1) : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: " اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ "، ولكننا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ يَسَارِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ. فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرِقُ لِذَلِكَ وَسُرَّ بِذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَالْمَغَازِي مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُخَارِقٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه: حَدثنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَارَ إِلَى بَدْرٍ، اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الانصار: يَا معشر الانصار   (1) ا: قَالَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: إِذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: " اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ "، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ (1) الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ الاعلى ابْن حَمَّادٍ عَنْ مُعْتَمِرٍ (2) عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحوه.   (1) برك الغماد: مَوضِع بِالْيمن أَو وَرَاء مَكَّة بِخمْس لَيَال، أَو أقْصَى معمور الارض. (2) ط: عَن معمر (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فَصْلٌ فِي دُخُولِ بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ قَدْ ذَكَرْنَا نُكُولَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلَمْ أَرَ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ قِصَّةَ نُكُولِهِمْ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَلَكِنَّ فِيهَا: أَنَّ يُوشَعَ جَهَّزَهُ مُوسَى لِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ مُوسَى وهرون وَخُورَ جَلَسُوا عَلَى رَأْسِ أَكَمَةٍ، وَرَفَعَ مُوسَى عَصَاهُ، فَكُلَّمَا رَفَعَهَا انْتَصَرَ يُوشَعُ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّمَا مَالَتْ يَدُهُ بِهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ نَحْوِهِ غلبهم أُولَئِكَ وَجعل هرون وَخُورُ يُدَعِّمَانِ يَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَانْتَصَرَ حِزْبُ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ " يَثْرُونَ " كَاهِنَ مَدْيَنَ وَخَتَنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَلَغَهُ [مَا كَانَ (1) مِنْ] أَمْرِ مُوسَى وَكَيْفَ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ، فَقَدِمَ عَلَى مُوسَى مُسْلِمًا، وَمَعَهُ ابْنَتُهُ " صِفُّورَا " زَوْجَةُ مُوسَى، وَابْنَاهَا مِنْهُ، جَرْشُونُ، وَعَازِرُ، فَتَلَقَّاهُ مُوسَى وَأَكْرَمَهُ، وَاجْتَمَعَ بِهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَظَّمُوهُ وَأَجَلُّوهُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ رَأَى كَثْرَةَ اجْتِمَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى فِي الْخُصُومَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَى مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَى النَّاسِ [رِجَالًا (1) ] أُمَنَاءَ أَتْقِيَاءَ أَعِفَّاءَ، يُبْغِضُونَ الرِّشَاءَ وَالْخِيَانَةَ، فَيَجْعَلُهُمْ عَلَى النَّاسِ رُءُوسَ أُلُوف، ورؤوس مئين، ورؤوس خمسين، ورؤوس عشرَة، فيقضوا بَين النَّاس،   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ جَاءُوكَ فَفَصَلْتَ بَيْنَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَرِّيَّةَ عِنْدَ سَيْنَاءَ، فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ. وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ، وَهِيَ أَوَّلُ فَصْلِ الرَّبِيعِ، فَكَأَنَّهُمْ دَخَلُوا التِّيهَ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَنَزَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ، وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ فَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، وَأَمَرَهُ أَن يذكر بني إِسْرَائِيل مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكَيْفَ حَمَلَهُمْ عَلَى مِثْلِ جَنَاحَيْ نِسْرٍ مِنْ يَدِهِ وَقَبْضَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ وَلْيَسْتَعِدُّوا إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلْيَجْتَمِعُوا حَوْلَ الْجَبَلِ، وَلَا يَقْتَرِبَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ دَنَا مِنْهُ قُتِلَ، حَتَّى وَلَا شئ مِنَ الْبَهَائِمِ، مَا دَامُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ (1) فَإِذَا سَكَنَ الْقَرْنُ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرْتَقُوهُ. فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَأَطَاعُوا (2) وَاغْتَسَلُوا وَتَنَظَّفُوا وَتَطَيَّبُوا. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ رَكِبَ الْجَبَلَ غَمَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا أَصْوَاتٌ وَبُرُوقٌ، وَصَوْتُ الصُّورِ شَدِيدٌ جِدًّا. فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِك فَزعًا   (1) الْقرن: مَا ينْفخ فِيهِ، وَمِنْه حَدِيث التِّرْمِذِيّ: قَالَ رَسُول الله (ص) : " كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ وحنا جَبهته؟ ؟، يَعْنِي إسْرَافيل. (2) ا: فأطاعوه (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 شَدِيدًا، وَخَرَجُوا فَقَامُوا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، وَغَشِيَ الْجَبَلَ دُخَانٌ عَظِيمٌ فِي وَسَطِهِ عَمُودُ نُورٍ (1) [زلزل الْجَبَلُ كُلُّهُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً، وَاسْتَمَرَّ صَوْتُ الصُّورِ، وَهُوَ الْبُوقُ (2) ] وَاشْتَدَّ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوْقَ الْجَبَل، وَالله يكلمهُ ويناجيه. وَأمر الرب عزوجل مُوسَى أَنْ يَنْزِلَ، فَيَأْمُرَ (3) بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يقتربوا من الْجَبَل ليسمعوا وَصِيَّة الله، وَأمر الْأَحْبَارَ، وَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ، أَنْ يَدْنُوا فَيَصْعَدُوا الْجَبَلَ، لِيَتَقَدَّمُوا (4) بِالْقُرْبِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ [لَا مَحَالَةَ (5) ] . فَقَالَ مُوسَى: يَا رب إِنَّهُم لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن يصعدوا، وَقَدْ نَهَيْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ [تَعَالَى] أَن يذهب فَيَأْتِي مَعَه بأَخيه هرون، وَلْيَكُنِ الْكَهَنَةُ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالشَّعْبُ وَهُمْ بَقِيَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، غَيْرَ بَعِيدٍ، فَفَعَلَ مُوسَى. وَكَلَّمَهُ ربه عزوجل، فَأمره حِينَئِذٍ بالعشر الْكَلِمَات. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمُوا حَتَّى فَهَّمَهُمْ مُوسَى، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لمُوسَى: بلغنَا أَنْت عَن الرب عزوجل، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَمُوتَ. فَبَلَّغَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ هَذِهِ الْعَشْرُ الْكَلِمَاتِ: وَهِيَ: الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا. وَالْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّبْتِ وَمَعْنَاهُ تَفَرُّغُ يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي نَسَخَ اللَّهُ بِهِ السَّبْتَ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِيَطُولَ عُمْرُكَ فِي الْأَرْضِ. الَّذِي   (1) ا: نَار. (2) سَقَطت من ا. (3) المطبوعة: فَأمر. (4) المطبوعة، ليتقدموا. (5) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 يُعْطِيكَ اللَّهُ رَبُّكَ. لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ عَلَى صَاحِبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لَا تَمُدَّ عَيْنَكَ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِكَ، وَلَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ صَاحِبِكَ، وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ، وَلَا حِمَارَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي لِصَاحِبِكَ. وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْحَسَدِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ: مَضْمُونُ هَذِهِ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون ". وَذَكَرُوا بَعْدَ الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ وَصَايَا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا مُتَفَرِّقَةً عَزِيزَةً، كَانَتْ فَزَالَتْ، وَعُمِلَ بِهَا حِينًا مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا عِصْيَانٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَيْهَا فَبَدَّلُوهَا وَحَرَّفُوهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ سَلَبُوهَا فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً مبدلة، بَعْدَمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مُكَمِّلَةً. فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ أَلَّا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتٍ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالحا ثمَّ اهْتَدَى " (1) يَذْكُرُ تَعَالَى مِنَّتَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْجَاهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنَ الضِّيقِ والحرج وَأَنه وعدهم صُحْبَة نَبِيّهم إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أَيْ مِنْهُمْ، لِيُنَزِّلَ عَلَيْهِ أَحْكَامًا عَظِيمَةً فِيهَا مُصْلِحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ شِدَّتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ فِي سَفَرِهِمْ (2) فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، مِنَّا مِنَ السَّمَاءِ، يُصْبِحُونَ فَيَجِدُونَهُ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ، وَمَنِ ادَّخَرَ مِنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَلِيلًا كَفَاهُ، أَوْ كَثِيرًا لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ، فَيَصْنَعُونَ مِنْهُ مِثْلَ الْخُبْزِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ (3) النَّهَارِ غَشِيَهُمْ طير السلوى، فيقتنصون مِنْهَا (4) بِلَا كُلْفَةٍ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ حَسَبَ كِفَايَتِهِمْ لِعَشَائِهِمْ. وَإِذَا كَانَ فَصْلُ الصَّيْفِ ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ عَنْهُمْ حر الشَّمْس وضوءها الباهر، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فاتقون "   (1) الْآيَات: 80 - 82 من سُورَة طه. (2) ا: وسفرهم (3) ا: فِي آخر. (4) ط: مِنْهُ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 إِلَى أَنْ قَالَ: " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ والسلوى، كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم، وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ ". إِلَى أَنْ قَالَ: " وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا، قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فَذكر تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، طَعَامَيْنِ شَهِيَّيْنِ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا سَعْيٍ لَهُمْ فِيهِ، بَلْ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْمَنَّ بَاكِرًا، وَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرَ السَّلْوَى عشيا، وأنبع المَاء لَهُم، يضْرب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَجَرًا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ بِالْعَصَا، فَتَفَجَّرَ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سبط عين مِنْهُ تنبجس، ثمَّ تتفجر مَاء زلالا فيستقون [فيشربون (1) ] وَيَسْقُونَ دَوَابَّهُمْ، وَيَدَّخِرُونَ كِفَايَتَهُمْ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الْحَرِّ. وَهَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ، وَعَطِيَّاتٌ جَسِيمَةٌ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَلَا قَامُوا بِشُكْرِهَا وَحَقِّ عِبَادَتِهَا. ثُمَّ ضَجِرَ كَثِيرٌ [مِنْهُم (1) ] مِنْهَا وَتَبَرَّمُوا بِهَا، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا مِنْهَا بِبَدَلِهَا، مِمَّا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا. فَقَرَّعَهُمُ الْكَلِيمُ وَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ (2) عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَعَنَّفَهُمْ قَائِلًا: " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم " أَيْ هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَتُرِيدُونَهُ بَدَلَ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا حَاصِلٌ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَوْجُودٌ بِهَا، وَإِذَا هَبَطْتُمْ إِلَيْهَا، أَيْ وَنَزَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا تصلحون لمنصبها - تَجِدُونَ بِهَا مَا تَشْتَهُونَ وَمَا تَرُومُونَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْمَآكِلِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَغْذِيَةِ الرَّدِيَّةِ، وَلَكِنِّي لَسْتُ أُجِيبكُم إِلَى سُؤال ذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَا أُبَلِّغُكُمْ مَا تَعَنَّتُّمْ بِهِ مِنَ الْمُنَى. وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُمُ الصادرة مِنْهُم، تدل على أَنهم لم   (1) من ا. (2) ا: ونبههم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يَنْتَهُوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَا تطغوافيه فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فقد هوى " أَيْ فَقَدْ هَلَكَ وَحَقَّ لَهُ وَاللَّهِ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَزَجَ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، بِالرَّجَاءِ لِمَنْ أَنَابَ وَتَابَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، فَقَالَ: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وآمن وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 سُؤال الرُّؤْيَة (1) قَالَ تَعَالَى: " وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقَالَ مُوسَى لاخيه هرون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قَالَ لَنْ تَرَانِي، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي، فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِ شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ، فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا، سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (2) ". قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَمُجَاهِدٌ: الثَّلَاثُونَ لَيْلَةً هِيَ شَهْرُ ذِي الْقعدَة بِكَمَالِهِ، وأتمت أَرْبَعِينَ لَيْلَة بِعشر من ذِي الْحِجَّةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ (3) لَهُ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، وَفِي مِثْلِهِ أَكْمَلَ   (1) لَيْسَ فِي ا (2) الْآيَات: 142 - 147 من سُورَة الاعراف. (3) ا: كَلَامه لَهُ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الله عزوجل لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُ، وَأَقَامَ (1) حُجَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الْمِيقَاتَ، وَكَانَ فِيهِ صَائِمًا يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ، فَلَمَّا كَمَلَ الشَّهْرُ أَخذ لحاء شَجَرَة فمضغه ليطيب ريح فَمه، فَأمره اللَّهُ أَنْ يُمْسِكَ عَشْرًا أُخْرَى، فَصَارَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ خَلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ اسْتَخْلَفَ عَلَى شعب بني إِسْرَائِيل أَخَاهُ هرون، الْمُحَبَّبَ الْمُبَجَّلَ الْجَلِيلَ. وَهُوَ ابْنُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَوَزِيرُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مُصْطَفِيهِ، فَوَصَّاهُ، وَأَمَرَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي نُبُوَّتِهِ مُنَافَاةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا " أَي فِي الْوَقْت الَّذِي أَمر بالمجئ فِيهِ " وَكَلمه ربه " أَيْ كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ الْخِطَابَ، فَنَادَاهُ وَنَاجَاهُ، وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ. وَهَذَا مَقَامٌ رَفِيعٌ وَمَعْقِلٌ مَنِيعٌ، وَمَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَمَنْزِلٌ مُنِيفٌ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَتْرَى، وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَلَمَّا أُعْطِيَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَلِيَّةَ وَالْمَرْتَبَةَ السَّنِيَّةَ، وَسَمِعَ الْخِطَابَ، سَأَلَ رَفْعَ الْحِجَابِ، فَقَالَ لِلْعَظِيمِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الابصار القوى الْبُرْهَان: " رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي " ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي هُوَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ ذَاتًا وَأَشَدُّ ثَبَاتًا مِنَ الْإِنْسَانِ، لَا يَثْبُتُ عِنْدَ التَّجَلِّي مِنَ الرَّحْمَنِ، وَلِهَذَا قَالَ: " وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني " وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: " يَا مُوسَى إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِس إِلَّا تدهده (2) ".   (1) ا: وَإِقَامَة. (2) تدهده: تدحرج. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةٍ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ (1) وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " لَا تُدْرِكهُ الابصار " ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، إِذَا تَجَلَّى لشئ لَا يقوم لَهُ شئ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ". قَالَ مُجَاهِدٌ: " وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني " فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا، " فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ " فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ، وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ، وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ الْجَبَلُ فَخَرَّ صَعِقَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَيْثٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للجبل جعله دكا " قَالَ هَكَذَا بِأُصْبُعِهِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ. لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تجلى - يعْنى من العظمة - مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، قَالَ: تُرَابا، " وخر   (1) السبحات: الانوار. (*) " 8 - قصَص الانبياء 2 " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 مُوسَى صعقا أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتًا. وَالصَّحِيحُ الاول لقَوْله: " فَلَمَّا أَفَاق " فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ غَشْيٍ " قَالَ سُبْحَانَكَ " - تَنْزِيهٌ وَتَعْظِيمٌ وَإِجْلَالٌ أَنْ يَرَاهُ بِعَظَمَتِهِ أحد، " تبت إِلَيْك " أَيْ فَلَسْتُ أَسْأَلُ بَعْدَ هَذَا الرُّؤْيَةَ، " وَأَنَا أول الْمُؤمنِينَ " أَنه لَا يراك [أحد (1) ] حَيّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَا بس إِلَّا تَدَهْدَهَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيق عَمْرو بن يحيى بن عمار بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ " لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَهُ الْأَنْصَارِيُّ حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَفِيهِ: " لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى " وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، أَوْ نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ، أَوْ لَيْسَ هَذَا إِلَيْكُمْ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَيْسَ يُنَالُ هَذَا بِمُجَرَّد الرَّأْي، بل بالتوقيف.   (1) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَذَا قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ، ثُمَّ نُسِخَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، لَأَنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَا هَاجر أَبُو هُرَيْرَة إِلَّا عَام حنين مُتَأَخِّرًا، فَيَبْعُدُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَفْضَلُ الْبَشَرِ بَلِ الْخَلِيقَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرجت للنَّاس " وَمَا كَمُلُوا إِلَّا بِشَرَفِ نَبِيِّهِمْ. وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ". ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، الَّذِي تَحِيدُ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، حَتَّى أُولُو الْعَزْمِ الْأَكْمَلُونَ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى بن مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ - أَيْ آخِذًا بِهَا - فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْخَلَائِقِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَيُصْعَقُونَ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ والجلاء، فَيَكُونُ أَوَّلَهُمْ إِفَاقَةً مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُصْطَفَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ. قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " أَفلا أَدْرِي أصعق فأفاق قبلى؟ " أَي وَكَانَت (1) صَعْقَتُهُ خَفِيفَةً، لِأَنَّهُ قَدْ نَالَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي الدُّنْيَا صَعْقٌ، " أَوْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ " يَعْنِي فَلم يصعق بِالْكُلِّيَّةِ.   (1) ا: وَكَانَت. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَهَذَا فِيهِ شرف كَبِير لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلِهَذَا نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضِيلَتِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا ضَرَبَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، قَدْ يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ هَضْمٌ بِجَنَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَتَهُ (1) وَشَرَفَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وبكلامي " أَي فِي ذَلِك الزَّمَان، لاما (2) قَبْلَهُ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، كَمَا ظَهَرَ شَرَفُهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكن من الشَّاكِرِينَ " أَيْ فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ، وَلَا تَسْأَلْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ذَلِك. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ جَوْهَرٍ نَفِيسٍ، فَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَفِيهَا مَوَاعِظُ عَنِ الْآثَامِ، وَتَفْصِيلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْحَلَال وَالْحرَام. " فَخذهَا بِقُوَّة " أَيْ بِعَزْمٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ قَوِيَّةٍ " وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا   (1) ا: فَضله (2) ا: فِيمَا قبله. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 بأحسنها " أَن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها " ساريكم دَار الْفَاسِقين " أَي سَتَرَوْنَ عَاقِبَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِي، الْمُكَذِّبِينَ لرسلي. " سأصرف عَن آياتي " [أَيْ عَنْ فَهْمِهَا وَتَدَبُّرِهَا، وَتَعْقُّلِ مَعْنَاهَا الَّذِي أُرِيدَ مِنْهَا، وَدَلَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهَا (1) ] " الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا " أَيْ وَلَوْ شَاهَدُوا مَهْمَا شَاهَدُوا (2) مِنَ الْخَوَارِقِ والمعجزات، لَا ينقادون لِاتِّبَاعِهَا، " وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا " [أَيْ لَا يَسْلُكُوهُ وَلَا يَتَّبِعُوهُ (1) ] " وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا " أَيْ صَرَفْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِنَا، وَتَغَافُلِهِمْ عَنْهَا، وإعراضهم عَن التَّصْدِيق بهَا والتفكير فِي مَعْنَاهَا، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا. " وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ ".   (1) سَقَطت من ا (2) ا: شاهدوه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قصَّة عِبَادَتهم الْعجل فِي غيب كليم الله عَنْهُم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا! اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا، قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا، قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ للَّذين هم لرَبهم يرهبون " (1) وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا، قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا، أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أم أردتم أَن يحل   (1) الْآيَات: 148 - 154 من سُورَة الاعراف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَن لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا * وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نفعا؟ وَلَقَد قَالَ لَهُم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هرون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا * أَن لَا تتبعن أفعصيت أَمْرِي؟ * قَالَ يَابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ؟ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ، وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا، لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شئ علما " (1) يذكر تَعَالَى ماكان مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ ذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ فَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ يُنَاجِيهِ رَبُّهُ وَيَسْأَلُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ [وَهُوَ تَعَالَى (2) ] يُجِيبُهُ عَنْهَا. فَعمد رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ هرون السامري، فَأخذ مَا كَانُوا اسْتَعَارُوهُ مِنَ الْحُلِيِّ، فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا وَأَلْقَى فِيهِ قَبْضَة من التُّرَاب، كَانَ أَخذهَا   (1) الْآيَات: 83 - 98 من سُورَة طه. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، حِينَ رَآهُ يَوْمَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ. فَلَمَّا أَلْقَاهَا فِيهِ خاركما يَخُورُ الْعِجْلُ الْحَقِيقِيُّ. وَيُقَالُ إِنَّهُ اسْتَحَالَ عِجْلًا جَسَدًا أَيْ لَحْمًا وَدَمًا حَيًّا يَخُورُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ بَلْ كَانَتِ الرِّيحُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ دُبُرِهِ خَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ فَيَخُورُ كَمَا تَخُورُ الْبَقَرَةُ، فَيَرْقُصُونَ حَوْلَهُ وَيَفْرَحُونَ. " فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسى " أَيْ فَنَسِيَ مُوسَى رَبَّهُ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ يَتَطَلَّبُهُ وَهُوَ هَاهُنَا! تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرا، وتقدست أسماؤه وَصِفَاته، وتضاعفت آلاؤه وهباته (1) . قَالَ الله تَعَالَى مُبينًا بُطْلَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِلَهِيَّةِ هَذَا الَّذِي قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانا بهيما أَو شَيْطَانا رجيما: " أَفلا يرَوْنَ أَن لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نفعا؟ " وَقَالَ: " أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين ". فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرُدُّ جَوَابًا، وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَهْدِي إِلَى رُشْدٍ، اتَّخَذُوهُ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، عَالِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ. " وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْديهم " أَيْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا " وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ". * * *   (1) ا: وعداته. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ، وَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَعَهُ الْأَلْوَاحُ الْمُتَضَمِّنَةُ التَّوْرَاةَ، أَلْقَاهَا، فَيُقَالُ إِنَّهُ كَسَرَهَا. وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ غَيْرَهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَاهَا حِينَ عَايَنَ مَا عَايَنَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنَّهُمَا كَانَا لَوْحَيْنِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا أَلْوَاحٌ مُتَعَدِّدَةٌ. وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَأَمَرَهُ بِمُعَايَنَةِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ " ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَعَنَّفَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ [وَهَجَّنَهُمْ] (1) فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحِ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح، " قَالُوا إِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ " تَحَرَّجُوا مِنْ تَمَلُّكِ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَخْذِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ الْجَسَدِ الَّذِي لَهُ خُوَارٌ، مَعَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ الصَّمَدِ الْقَهَّارِ! ثُمَّ أقبل على أَخِيه هرون عَلَيْهِمَا السَّلَام قَائِلا لَهُ: " يَا هرون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَن لَا تتبعن " أَيْ هَلَّا لَمَّا رَأَيْتَ مَا صَنَعُوا اتَّبَعْتَنِي فَأَعْلَمْتَنِي بِمَا فَعَلُوا. فَقَالَ: " إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقول فرقت بَين بني إِسْرَائِيل " أَيْ تَرَكْتَهُمْ وَجِئْتَنِي وَأَنْتَ قَدِ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ.   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 " قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ " وَقد كَانَ هرون عَلَيْهِ السَّلَامُ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الْفَظِيعِ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ أَتَمَّ الزَّجْرِ. قَالَ الله تَعَالَى: " وَلَقَد قَالَ لَهُم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ " أَيْ إِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ أَمَرَ هَذَا الْعِجْلِ وَجَعَلَهُ يَخُورُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ، " وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَن " أَي لَا هَذَا " فَاتبعُوني " أَيْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ " وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى " يشْهد (1) الله لهرون عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا " أَنَّهُ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُطِيعُوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ. ثمَّ أقبل مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ " قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ؟ " أَي أَيْ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ " قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ أَيْ رَأَيْتُ جِبْرَائِيلَ وَهُوَ رَاكِبٌ فَرَسًا " فَقَبَضْتُ قَبْضَة من أثر الرَّسُول " أَيْ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعضهم أَنه رَآهُ، وَكلما وَطِئَتْ بِحَوَافِرِهَا عَلَى مَوْضِعٍ اخْضَرَّ وَأَعْشَبَ، فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِ حَافِرِهَا، فَلَمَّا أَلْقَاهُ فِي هَذَا الْعِجْلِ الْمَصْنُوعِ (2) مِنَ الذَّهَبِ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. وَلِهَذَا قَالَ: " فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي " قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس " وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَمَسَّ أَحَدًا، مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَسِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسُّهُ، هَذَا مُعَاقَبَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي الْأُخْرَى فَقَالَ: " وَإِنَّ لَكَ موعدا لن تخلفه " وَقُرِئَ: " لن نخلفه " " وَانْظُر إِلَى   (1) ا: فَشهد. (2) ا: المصوغ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا " قَالَ: فَعَمَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْعِجْلِ، فَحَرَقَهُ [قِيلَ] (1) بِالنَّارِ، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ بِالْمَبَارِدِ، كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْ عَابِدِيهِ عَلَّقَ عَلَى شِفَاهِهِمْ من ذَلِك الرماد مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ بَلِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شئ علما ". وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين " وَهَكَذَا وَقَعَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " وَكَذَلِكَ نجزي المفترين " مُسَجَّلَةٌ لِكُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ (2) وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، وَإِحْسَانِهِ عَلَى عَبِيدِهِ فِي قَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم ". لَكِنْ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَةَ عَابِدِي الْعِجْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم فَتَابَ   (1) من ا. (2) ا: حكمته (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 عَلَيْكُم إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم (1) " فَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَصْبَحُوا يَوْمًا وَقَدْ أَخَذَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ فِي أَيْدِيهِمُ السُّيُوفَ، وَأَلْقَى الله عَلَيْهِم ضَبَابًا حَتَّى لَا يَعْرِفَ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَلَا النَّسِيبُ نَسِيبَهُ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى عَابِدِيهِ فَقَتَلُوهُمْ وَحَصَدُوهُمْ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَتَلُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا! ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون " اسْتدلَّ بَعضهم بقوله: " وَفِي نسختها " عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ كَمَا سَيَأْتِي: أَنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ عَلَى أَثَرِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ. وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ، لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا " قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة ". وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، قَتَلُوا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ ذَهَبَ مُوسَى يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، فَغُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة   (1) سُورَة الْبَقَرَة 54 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ، قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ من أَشَاء، ورحمتي وسعت كل شئ، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يحدونه مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المفلحون (1) ". ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ كَانُوا عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَهُمْ مُوسَى وهرون ويوشع وناذاب (2) وَأَبِيهُو، ذَهَبُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْتَذِرُوا عَن بني إِسْرَائِيل عَن عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ. وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَتَطَيَّبُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا، فَلَمَّا ذَهَبُوا مَعَهُ وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْجَبَلِ وَعَلَيْهِ الْغَمَامُ وَعَمُودُ النُّور سَاطِع صعد (3) مُوسَى الْجَبَلَ. فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ (4) سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: " وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (5) ". وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله (6) " أَيْ مُبَلَّغًا، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ سَمِعُوهُ مُبَلَّغًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ السَّبْعِينَ رَأَوُا اللَّهَ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا   (1) الْآيَات: 155 - 157 من سُورَة الاعراف (2) ا: وياذاب (3) ا: وَصعد. (4) ا: فَذكر أَن بني إِسْرَائِيل سمعُوا. (5) الْآيَة: 75 من سُورَة الْبَقَرَة. (6) الْآيَة: 6 من سُورَة التَّوْبَة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ". وَقَالَ هَاهُنَا " فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي ". قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا: الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، وَقَالَ انْطَلَقُوا إِلَى اللَّهِ فَتُوبُوا إِلَيْهِ بِمَا صَنَعْتُمْ وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ. فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ، لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبَّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ. فَطَلَبَ (1) مِنْهُ السَّبْعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ، وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِي الْغَمَامِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا. وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضرب دونه الْحجاب، وَدَنَا الْقَوْمُ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ وَقَعُوا سجودا، فسمعوه وَهُوَ يكلم مُوسَى، يَأْمُرهُ وَيَنْهَاهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ. فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامَ أَقْبَلَ إِلَيْهِم فَقَالُوا: " يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جهرة " فَأَخَذتهم الرجفة، وَهِي الصاعقة فأتلفت (2) أَرْوَاحُهُمْ فَمَاتُوا جَمِيعًا. فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: " رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهلكتهم من قبل   (1) ا: فَقَالَ لَهُ وَطلب مِنْهُ. (2) ا: فأثلبت وَفِي ط: فالتقت. وَمَا أثْبته أرى أَنه الصَّوَاب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وإياي، أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا؟ " أَيْ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنَّا فَإِنَّا بُرَآءُ مِمَّا عَمِلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا قَوْمَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَقَوْلُهُ: " إِنْ هِيَ إِلَّا فتنتك " أَيِ اخْتِبَارُكَ وَابْتِلَاؤُكَ وَامْتِحَانُكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، يَعْنِي أَنْتَ الَّذِي قَدَّرْتَ هَذَا، وَخَلَقْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ اخْتِبَارًا تَخْتَبِرُهُمْ بِهِ كَمَا: " قَالَ لَهُم هرون مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ " أَي اختبرتم. وَلِهَذَا قَالَ: " تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي من تشَاء " أَيْ مَنْ شِئْتَ أَضْلَلْتَهُ بِاخْتِبَارِكَ إِيَّاهُ، وَمَنْ شِئْت هديته، لَك الحكم والمشيئة [وَلَا مَانِعَ (1) ] وَلَا رَادَّ لِمَا حَكَمْتَ وَقَضَيْتَ. " أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هدنا اليك " أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ. " قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ من أَشَاء، ورحمتي وسعت كل شئ " أَيْ أَنَا أُعَذِّبُ مَنْ شِئْتُ بِمَا أَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَخْلُقُهَا وَأُقَدِّرُهَا. " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شئ " كَمًّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الله لما فرغ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْش: إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي (1) " " فسأكتبها الَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ " أَيْ فَسَأُوجِبُهَا حَتْمًا لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ: " الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الامي " الْآيَةَ. وَهَذَا فِيهِ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته من الله لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي جُمْلَةِ مَا نَاجَاهُ بِهِ وَأَعْلَمَهُ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ قَتَادَة: قَالَ مُوسَى يَا رب إِنِّي أجد فِي الالواح أمة هِيَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْآخِرُونَ فِي الْخَلْقِ، السَّابِقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الالواح أمة أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ يقرءونها، وَكَانَ من قبلهم يقرءُون كِتَابَهُمْ نَظَرًا، حَتَّى إِذَا رَفَعُوهَا لَمْ يَحْفَظُوا شَيْئا وَلم يعرفوه، وَإِن الله أَعْطَاهُم (2) مِنَ الْحِفْظِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الْأُمَمِ، قَالَ: رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الالواح أمة يُؤمنُونَ بِالْكتاب الاول وبالكتاب   (1) سقط من ا. (2) ا: وَإِن الله أَعْطَاكُم أيتها الامة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 الْآخِرِ، وَيُقَاتِلُونَ فُضُولَ (1) الضَّلَالَةِ حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً صَدَقَاتُهُمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ، وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا. وَكَانَ من قبلهم [من الامم (2) ] إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقُبِلَتْ مِنْهُ بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكْلَتْهَا، وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ فتأكلها السبَاع وَالطير، وَإِن الله أَخذ صَدَقَاتهمْ من غنيهم لفقيرهم (3) ، قَالَ: رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ بِحَسَنَةٍ ثُمَّ لَمْ يعملها كتبت لَهُ عشرَة أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ: رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً هُمُ الْمُشَفَّعُونَ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي، قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبَذَ الْأَلْوَاحَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ (4) . وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ مُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوْرَدُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا أَصْلَ لَهَا وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ بِعَوْنِ الله وتوفيقه، وَحسن هدايته ومعونته وتأييده.   (1) الرِّوَايَة فِي الوفا لِابْنِ الْجَوْزِيّ: 1 / 40 أهل الضَّلَالَة. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: من غنيكم لفقيركم. (4) ا: من أمة مُحَمَّد. (*) (9 - قصَص الانبياء 9) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: " ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ الله ربه عزوجل عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرْفَعِهِمْ مَنْزِلَةً " أَخْبَرَنَا عمر بن سعيد الطَّائِي ببلخ (1) ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أبحر شَيْخَانِ صالحان، قَالَا سَمِعْنَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ ربه عزوجل: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يجِئ (2) بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ [لَهُ (3) ] ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: كَيْفَ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَقَدْ نزل النَّاس مَنَازِلهمْ وَأخذُوا إخاذاتهم؟ فَيُقَال لَهُ: أترضى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَي رب، فَيُقَال: لَك هَذَا وَمثله مَعَه (4) فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ رَضِيتُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. وَسَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً؟ قَالَ سَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ". وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الله عزوجل: " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أعين جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ -[وَهُوَ (3) ] ابْنُ عُيَيْنَةَ - بِهِ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: " فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلْكِ [مَلِكٍ (3) ] مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُول رضيت رب. فَيُقَال لَهُ: لَك ذَلِك   (1) ط: بمنبج. (2) المطبوعة: يحيا. محرفة (3) سَقَطت من ا. (4) المطبوعة: وَمثله وَمثله. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: رضيت رب. فَيُقَال هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غرس كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ". قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: " فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعْملُونَ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ: قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَرْفُوعُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانِ: " ذِكْرُ سُؤَالِ الْكَلِيمِ رَبَّهُ عَنْ خِصَالٍ سَبْعٍ ": حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مُحَمَّد بن مُسلم بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا السَّمْح حَدثهُ ابْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلَ مُوسَى ربه عزوجل عَنْ سِتِّ خِصَالٍ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ، وَالسَّابِعَةُ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يُحِبُّهَا: قَالَ: يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَتْقَى؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُ وَلَا يَنْسَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَهْدَى؟ قَالَ: الَّذِي يَتَّبِعُ الْهُدَى. قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَحْكَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَحْكُمُ لِلنَّاسِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: عَالِمٌ لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ، يَجْمَعُ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعَزُّ؟ قَالَ الَّذِي إِذَا قَدَرَ غَفَرَ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى؟ قَالَ: الَّذِي يَرْضَى بِمَا يُؤْتَى. قَالَ: فَأَي عِبَادك أفقر؟ قَالَ: صَاحب مَنْقُوص ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ الْغنى عَن ظهر (1) ، إِنَّمَا الْغنى   (1) الظّهْر: كَثْرَة المَال. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 غِنَى النَّفْسِ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ". قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَوْلُهُ " صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ " يُرِيد بن مَنْقُوصَ حَالَتِهِ، يَسْتَقِلُّ مَا أُوتِيَ وَيَطْلُبُ الْفَضْلَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْن حميد، عَن يَعْقُوب التَّمِيمِي، عَن هرون بن هُبَيْرَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى ربه عزوجل فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِيهِ " قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى علمه، عَسى أَن يجد (1) كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى. قَالَ: أَيْ رَبِّ فَهَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ الْخَضِرُ فَسَأَلَ السَّبِيل إِلَى لقِيه، فَكَانَ (2) مَا سَنَذْكُرُهُ [بَعْدُ (3) ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ (4) . ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يحيى بن إِسْحَق، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْمُؤْمِنُ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا! قَالَ: فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، قَالَ: يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رب وَعزَّتك وجلالك لَو كَانَ مقطع الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ. [قَالَ (3) ] ثُمَّ قَالَ: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْكَافِرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَفتح لَهُ   (1) ا: يصبب. (2) ا: كَمَا سَنذكرُهُ. (3) لَيست فِي ا. (4) ا. وَله الْمِنَّة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بَاب إِلَى النَّار فَقَالَ (1) : يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ. فَقَالَ [مُوسَى (2) ] أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: " ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا يَذْكُرُهُ بِهِ ": حَدَّثَنَا ابْنُ سَلمَة، حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ إِنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا. قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ أهل السَّمَوَات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ [السَّبْعِ (3) ] فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ البطاقة، وَأقرب شئ إِلَى مَعْنَاهُ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ عَرَفَةَ. وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كل شئ قَدِيرٌ ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَة الْكُرْسِيّ: حَدثنَا أَحْمد بن الْقَاسِم ابْن عَطِيَّة، حَدثنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الدسكي (4) ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ إِسْحَق، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى: هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ قَالَ:   (1) ط: فَيَقُول. (2) لَيست فِي ا. (3) سَقَطت من ا. (4) االدسيكى. وَلم أجد هَذِه النِّسْبَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 اتَّقوا الله! فناداه ربه عزوجل: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ، فَخُذْ زُجَاجَتَيْنِ فِي يَدَيْكَ فَقُمِ اللَّيْلَ، فَفَعَلَ مُوسَى. فَلَمَّا ذهب من اللَّيْل ثلثه نَعَسَ فَوَقَعَ لِرُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ انْتَعَشَ فَضَبَطَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ نَعَسَ فَسَقَطَتِ الزُّجَاجَتَانِ فَانْكَسَرَتَا، فَقَالَ: يَا مُوسَى لَوْ كُنْتُ أَنَامُ لسقطت السَّمَوَات وَالْأَرْضُ فَهَلَكْنَ كَمَا هَلَكَتِ الزُّجَاجَتَانِ فِي يَدَيْكَ! قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا إِسْحَق بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ (1) عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: " وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَل ينَام الله عزوجل؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ فِي كُلِّ يَدِ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا. قَالَ: فَجَعَلَ يَنَامُ وَكَادَتْ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ، فَيَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ، قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا: أَنْ لَوْ كَانَ يَنَامُ لَمْ تَسْتَمْسِكِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِسْرَائِيلِيًّا. * * * وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا   (1) الاصل: ابْن سبل. محرفة ر التصويب من ميزَان الِاعْتِدَال 1 / 276 وَقَالَ عَنهُ: يماني لَهُ حَدِيث مُنكر رَوَاهُ عَنِ الْحَكَمِ بْنَ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: قَالَ: " وَقع فِي نفس مُوسَى..الحَدِيث ". (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (1) " وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (2) ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ أَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ. فَقَالُوا: انْشُرْهَا عَلَيْنَا فَإِنْ كَانَتْ أَوَامِرُهَا وَنَوَاهِيهَا سَهْلَةً قَبِلْنَاهَا. فَقَالَ: بَلِ اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا، فَرَاجَعُوهُ مِرَارًا، فَأمر الله الْمَلَائِكَة فَرفعُوا الْجَبَل على رؤوسهم حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، أَيْ غَمَامَةٌ، عَلَى رؤوسهم. وَقِيلَ لَهُمْ إِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا وَإِلَّا سَقَطَ هَذَا (3) الْجَبَلُ عَلَيْكُمْ [فَقَبِلُوا ذَلِكَ (4) ] وَأُمِرُوا بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ بِشِقِّ وُجُوهِهِمْ، فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ، يَقُولُونَ لَا [سَجْدَةَ (4) ] أَعْظَمُ مِنْ سَجْدَةٍ رَفَعَتْ عَنَّا الْعَذَابَ. وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَلَمَّا نَشَرَهَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تَقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " ثمَّ توليتم من بعد ذَلِك " أَيْ [ثُمَّ (4) ] بَعْدَ مُشَاهَدَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ نَكَثْتُمْ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ " فَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُم وَرَحمته " بِأَن تدارككم بالارسال إِلَيْكُم وإنزال الْكتب عَلَيْكُم. " لكنتم من الخاسرين ".   (1) سُورَة الْبَقَرَة 63، 64. (2) سُورَة الاعراف 171. (3) ا: ذَلِك الْجَبَل. (4) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قِصَّةُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ أَعُوَذٌ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لاشية فِيهَا، قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (1) ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَ الْمَالِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَهُ بَنُو أَخٍ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ لِيَرِثُوهُ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ فِي اللَّيْلِ وَطَرْحَهُ فِي مَجْمَعِ الطُّرُقِ، وَيُقَالُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ اخْتَصَمُوا فِيهِ، وَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَجَعَلَ يَصْرُخُ وَيَتَظَلَّمُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ تَخْتَصِمُونَ وَلَا تَأْتُونَ نَبِيَّ اللَّهِ؟ فجَاء ابْن أَخِيه فَشَكا أَمر عَمه   (1) سُورَة الْبَقَرَة 67 - 73. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 إِلَى رَسُول الله مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ إِلَّا أَعْلَمَنَا بِهِ " فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ علم مِنْهُ. وَسَأَلُوهُ أَنَّ يَسْأَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ رَبَّهُ عزوجل. فَسَأَلَ ربه عزوجل فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ. فَقَالَ " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بقرة، قَالُوا أتتخذنا هزوا؟ " يَعْنُونَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ، وَأَنت تَقول [لنا (1) ] هَذَا؟ " قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلين " أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَقُولَ عَنْهُ غَيْرَ مَا أَوْحَى إِلَيَّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجَابَنِي حِين سَأَلته عَمَّا سالتموني (2) أَنْ أَسْأَلَهُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فَلَوْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَيِّ بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لحصل الْمَقْصُود مِنْهَا، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد عَلَيْهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. فَسَأَلُوا عَنْ صِفَتِهَا، ثُمَّ عَنْ لَوْنِهَا، ثُمَّ عَنْ سِنِّهَا، فَأُجِيبُوا بِمَا عَزَّ وجوده عَلَيْهِم. وَقد ذكرنَا تَفْسِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أمروا بِذبح بقرة عوان، وَهِي الْوسط النّصْف بَين الْفَارِضِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ، وَالْبِكْرُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ. ثُمَّ شَدَّدُوا وَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا، فَأُمِرُوا بِصَفْرَاءَ فَاقِعٍ لَوْنُهَا، أَي مشرب بحمرة، تسر   (1) من ا. (2) ط: عَمَّا سَأَلْتُمُونِي عَنهُ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الناظرين، وَهَذَا اللَّوْن غزيز. ثمَّ شَدَّدُوا أَيْضا " قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ ". فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: " لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنَوْا لَمَا أُعْطُوا " وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاشية فِيهَا، قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَضْيَقُ مِمَّا تَقَدَّمَ، حَيْثُ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ لَيْسَتْ بِالذَّلُولِ، وَهِيَ الْمُذَلَّلَةُ بِالْحِرَاثَةِ وَسَقَى الارض (1) بالساقية، مُسَلَّمَةٌ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة وَقَتَادَة. وَقَوله: " لاشية فِيهَا " أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا، بَلْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمِنْ مُخَالَطَةِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ غَيْرِ لَوْنِهَا. فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَحَصَرَهَا بِهَذِهِ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ " قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ". وَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ كَانَ بَارًّا بِأَبِيهِ، فَطَلَبُوهَا مِنْهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْغَبُوهُ فِي ثمنهَا حَتَّى أَعْطوهُ، فِيمَا ذكره السُّدِّيُّ، بِوَزْنِهَا ذَهَبًا فَأَبَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَعْطَوْهُ بِوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَبَاعَهَا مِنْهُمْ. فَأَمَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بِذَبْحِهَا " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ " أَيْ وَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِهَا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا قِيلَ بِلَحْمِ فَخِذِهَا، وَقِيلَ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الغضروف (2) ، وَقيل بالبضعة   (1) ا: وَسَقَى الْحَرْث. (2) ا: الَّذِي فِي الغضروف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، فَلَمَّا ضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا أَحْيَاهُ الله تَعَالَى، فَقَامَ وَهُوَ يشخب (1) أوداجه، فَسَأَلَهُ نَبِي الله [مُوسَى (2) ] مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي. ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون " أَيْ كَمَا شَاهَدْتُمْ إِحْيَاءَ هَذَا الْقَتِيلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى، إِذَا شَاءَ إِحْيَاءَهُمْ أَحْيَاهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَة كَمَا قَالَ: " وَمَا خَلقكُم وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة (3) ".   (1) يسخب: يسيل. (2) من ا. (3) سُورَة لُقْمَان 28. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قصَّة مُوسَى وَالْخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟ * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلنِي عَن شئ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا، قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاما فَقتله، قَالَ أقتلت نفسا زاكية (1) بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبرا * قَالَ إِن سَأَلتك عَن شئ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عذرا *   (1) ط: زكية. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ فَأَقَامَهُ، قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صبرا ". قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّ مُوسَى هَذَا الَّذِي رَحَلَ إِلَى الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بْنُ منسا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ صُحُفِهِمْ وَيَنْقُلُ عَنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ نَوْفُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّامِيُّ الْبِكَالِيُّ. وَيُقَالُ إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ، وَكَانَتْ أُمُّهُ زَوْجَةَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا الْحميدِي، حَدثنَا سُفْيَان، حَدثنَا عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاس: إِن نَوْفًا البكالى   (1) الْآيَات: 60 - 82 من سُورَة الْكَهْف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحب بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ: حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك. قَالَ مُوسَى: يَا رب فَكيف لِي بِهِ؟ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأخذ حوتا فَجعله فِي مكتل، ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نون، حَتَّى إِذا أَتَيَا الصَّخْرَة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتَ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا. وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا. حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: " آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سفرنا هَذَا نصبا " قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أمره الله بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهَ: " أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا " قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى [وَلِفَتَاهُ (1) ] عَجَبًا فَقَالَ لَهُ مُوسَى: " ذَلِك مَا كُنَّا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا ". قَالَ: فَرَجَعَا يقصان آثارهما حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بأرضك السَّلَام؟   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " قَالَ إِنَّك لن تَسْتَطِيع معي صبرا " يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى: " سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا وَلَا أعصى لَك أمرا " فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ (1) : " فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شئ حَتَّى أحدث لَك مِنْهُ ذكرا * فَانْطَلقَا " يمشيان على سَاحل الْبَحْر، فمرت بهما سفينة فَكَلمُوهُمْ (2) أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ (3) فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا " لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عسرا ". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَكَانَت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ من علم الله إِلَّا مثل مانفص هَذَا العصفور بمنقاره مِنْ هَذَا الْبَحْرِ! ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فبينماهما يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً (4) بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا   (1) ا: قَالَ الْخضر. (2) ا: فَكَلَّمَهُمْ. (3) النول: الاجر. (4) ط: زكية. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيع معي صبرا؟ " قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى " قَالَ إِنْ سَأَلتك عَن شئ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ". " فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جدارا يُرِيد أَن ينْقض " [قَالَ: مائل. فَقَامَ الْخضر (1) ] " فأقامه " بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا " لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك سأنبئك " إِلَى قَوْله: " ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ (2) ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: " وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا " وَكَانَ يَقْرَأُ: " وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ". ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ: " فَخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَمَعَهُمَا الْحُوتُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَنَزَلَا عِنْدَهَا، قَالَ: فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ ". قَالَ سُفْيَانُ: وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو قَالَ: وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا الْحَيَاةُ، لَا يُصِيب من مَائِهَا شئ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتُ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعين، قَالَ: فَتحَرك وانسل من المكتل فَدخل الْبَحْرَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ " قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غداءنا لقد لَقينَا " الْآيَة " (3) وسَاق الحَدِيث.   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: كَانَ. (3) فِي ازيادة: كَذَا قَالَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَقَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. * * * وَقَالَ الْبُخَارِيُّ (2) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ سمعته يحدثه عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ قَالَ سَلُونِي، فَقُلْتُ: أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ - جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ - بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ نَوْفٌ، يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي: قَالَ: قَدْ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ. وَأَمَّا يَعْلَى فَقَالَ لِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ [قَالَ] (1) ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ، وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَّى، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ لَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، قِيلَ بَلَى. قَالَ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ؟ قَالَ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ اجْعَلْ لِي عِلْمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ لِي عَمْرٌو: قَالَ حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوت، وَقَالَ لي يعلى: قَالَ خُذ نونا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ. فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ مَا كلفت كثيرا، فَذَلِك قَوْله جلّ ذكره " وَإِذ قَالَ مُوسَى لفتاه " يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير،   (1) لَيست فِي ا. (2) صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 334 كتاب التَّفْسِير. (*) (م 10 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قَالَ بَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ (1) إِذْ تَضَرَّبَ (2) الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهَ لَا أُوقِظُهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْبَحْرِ حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ، قَالَ لِي عَمْرٌو: هَكَذَا، كَأَنَّ أَثَره فِي حجر وَحلق بَين إيهاميه وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا. " لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نصبا " قَالَ: قد قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ. أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا فَوَجَدَا خَضِرًا - قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ - عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ على كبد الْبَحْر، قَالَ سعيد بن جُبَير مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وطرفه تَحت رَأسه، فَلم عَلَيْهِ مُوسَى فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: هَلْ بأرضى مِنْ سَلَامٍ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا شَأْنك؟ قَالَ: جئْتُك لتعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ؟ يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ. فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ علم الله كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ. " حَتَّى إِذا ركبا فِي السَّفِينَة " وجد مَعَابِرَ صِغَارًا تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ، عَرَفُوهُ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ. قَالَ فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ: خَضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ، فَخَرَقَهَا وَوَتَّدَ فِيهَا   (1) الثريان: (2) تضرب: تحرّك. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَتِدًا " قَالَ " مُوسَى: " أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْت شَيْئا إمرا " قَالَ مُجَاهِد: مُنْكرا. " قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا " كَانَتِ الْأُولَى نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا " قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاما فَقتله " قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ " قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ " لم تعْمل بالخبيث. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً، كَقَوْلِكَ غُلَاما زكيا. " فَانْطَلقَا فوجدا جدارا يُرِيد أَن ينْقض فأقامه " قَالَ سعيد بِيَدِهِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ. قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ " قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا " قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ. " وَكَانَ وَرَاءَهُمْ " وَكَانَ أَمَامَهُمْ، قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ. أَنَّهُ " هُدَدُ بْنُ بُدَدَ " وَالْغُلَامُ الْمَقْتُول اسْمه يَزْعُمُونَ " جَيْسُورُ " " مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا " فَأَرَدْت إِذا هِيَ مرت بِهِ أَن يَدعهَا لعيبها، فَإِذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بهَا. وَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ: سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بالقار. " وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين " وَكَانَ كَافِرًا " فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا " أَيْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ، " فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ربهما خيرا مِنْهُ زَكَاة " لقَوْله: " أقتلت نفسا زكية " " وَأقرب رحما " هما بِهِ أرْحم مِنْهُمَا بِالْأَوَّلِ الَّذِي قَتَلَ [خَضِرٌ (1) ] . وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً، وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أبي إِسْحَق عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنِّي، فَأُمِرَ أَنْ يَلْقَى هَذَا الرَّجُلَ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِسْحَق عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ مَوْقُوفًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْن عتبَة [بن مَسْعُود (1) ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بن قيس ابْن حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ نَعَمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي تَفْسِير سُورَة الْكَهْف وَللَّه الْحَمد.   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَقَوْلُهُ: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَة " قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمُ ابْنَا كَاشِحَ " وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا " قِيلَ كَانَ ذَهَبًا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ عِلْمًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبًا فِيهِ عِلْمٌ. قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعيد الْجَوْهَرِي، حَدثنَا بشر ابْن الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْصُبِيُّ عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْغَسَّانِيِّ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَفَعَهُ قَالَ: " إِنَّ الْكَنْز الَّذِي ذكره الله فِي كِتَابه لوح من الذَّهَب مصمت مَكْتُوب فِيهِ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ نَصِبَ! وَعَجِبْتُ لمن ذكر النَّار لم ضحك؟ وَعَجِبت لمن ذكر الْمَوْت كَيفَ (1) غفل؟ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ نَحْوُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: " وَكَانَ أَبوهُمَا صَالحا "، قِيلَ إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ وَقِيلَ الْعَاشِرَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرجل الصَّالح يحفظ فِي ذُريَّته وَالله الْمُسْتَعَانُ. وَقَوْلُهُ: " رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ - " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، وَأَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ بِأَمْرِ رَبِّهِ فَهُوَ نَبِيٌّ، وَقِيلَ رَسُولٌ [وَقِيلَ وَلِيٌّ (2) ] وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا من قَالَ إِنَّه كَانَ مَلَكًا. قُلْتُ وَقَدْ أَغْرَبَ جِدًّا مَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ ضَحَّاكٍ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنه كَانَ فِي زمن   (1) ا: لم غفل. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 " أَفْرِيدُونَ "، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَفْرِيدُونَ، وَذُو الْفَرَسِ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ فَخَلَدَ وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ. وَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ. وَقِيلَ اسْمُهُ مَلْكَانُ، وَقِيلَ إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا، وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زمن سباسب بن بهراسب. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ أَفْرِيدُونَ وَبَيْنَ سَبَاسِبَ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ، وَاسْتَمَرَّ حَيًّا إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى فِي زَمَنِ " مَنُوشِهْرَ " الَّذِي هُوَ من ولد أبرج بْنِ أَفْرِيدُونَ أَحَدِ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَكَانَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ بَعْدَ جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ لِعَهْدِهِ وَكَانَ عَادِلًا. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ، وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ دِهْقَانًا (1) ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الْخُطَبِ الْحِسَانِ وَالْكَلِمِ الْبَلِيغِ النَّافِعِ الْفَصِيحِ مَا يُبْهِرُ الْعَقْلَ، وَيُحَيِّرُ السَّامِعَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولتنصرنه،   (1) الدهْقَان: زعيم فلاحى الْعَجم وَرَئِيس الاقليم. (2) سُورَة آل عمرَان 84. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي؟ قَالُوا أَقْرَرْنَا. قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (1) " فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ كُلِّ نَبِيٍّ عَلَى أَنْ يُؤمن بِمن يجِئ بعده من الانبياء وينصره [واستلزم ذَلِك الايمان وَأخذ الْمِيثَاق لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لانه خَاتم الانبياء فَحق على كل نَبِي أدْركهُ أَن يُؤمن بِهِ وَيَنْصُرُهُ (2) ] فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَانِهِ، لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ وَالْقِيَامُ بِنَصْرِهِ، وَلَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَحْتَ لِوَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، كَمَا كَانَ تَحْتَهَا جِبْرِيلُ وَسَادَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقُصَارَى الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَهُوَ الْحَقُّ، أَوْ رَسُولًا كَمَا قيل، أَو ملكا فِيمَا ذكر. وأياما كَانَ فَجِبْرِيلُ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ، وَمُوسَى أَشْرَفُ مِنَ الْخَضِرِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَتُهُ، فَكَيْفَ إِنْ كَانَ الْخَضِرُ وَلِيًّا كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ؟ فَأَوْلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ وَأَحْرَى. وَلَمْ يُنْقَلْ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ بَلْ وَلَا ضَعِيفٍ يُعْتَمَدُ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ التَّعْزِيَةِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ رَوَاهُ، فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [وَسَنُفْرِدُ لِخَضِرٍ تَرْجَمَةً عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ هَذَا (3) ] .   (1) سُورَة آل عمرَان 84. (2) سقط من المطبوعة وأثبته من ا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: " وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاك فُتُونًا " " حَدِيثُ الْفُتُونِ ". حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدثنَا يزِيد بن هَارُون، حَدثنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ عبد الله ابْن عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى: " وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا " فَسَأَلته عَن الْفُتُون ماهي؟ فَقَالَ اسْتَأْنف النَّهَار يَابْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا. فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْت إِلَى ابْن عَبَّاس لَا تنجز مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تذكر فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ مَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ ترَوْنَ؟ فاتمروا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ [عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ، يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ (1) ] فَفَعَلُوا ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بآجالهم، وَالصغَار   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 يُذْبَحُونَ قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ الَّتِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ واتركوا بناتهم (1) ، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا (2) مِنْهُمْ أَحَدًا، فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَفْنَوْا بِمَنْ تَقْتُلُونَ وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بهَارُون فِي الْعَام الَّذِي لَا يقتل فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ، يَابْنَ جُبَيْرٍ! مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: أَنْ " لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ". فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ (3) أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَتُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ. فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا فَعَلْتُ بِابْنِي؟ لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ؟ فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى عِنْدَ فُرْضَةٍ (4) تَسْتَقِي مِنْهَا جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ الْمَلِكِ بِمَا وَجَدْنَا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئا حَتَّى دفعنه إِلَيْهَا. فَلَمَّا فتحنه رَأَتْ فِيهِ   (1) ا: فيقل بناتهم. (2) ا: فَلَا يقتل (3) ا: إِذا وَلدته. (4) الفرضة: الثغرة يستقى مِنْهَا فِي النَّهر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 غُلَاما، فَألْقى [الله (1) ] عَلَيْهِ مِنْهَا محبَّة لم يلق مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ " وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارغًا " من ذكر كل شئ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ، أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ. وَذَلِكَ من الْفُتُون يَابْنَ جُبَيْرٍ! فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْن فَأَسْتَوْهبهُ مِنْهُ، فَإِن وهبه منى كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ. فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لي وَلَك " فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أقرّ فِرْعَوْن أَن يكون قُرَّة عين لَهُ، كَمَا أقرَّت امْرَأَته لهداه الله كماهداها، وَلَكِن حَرَمَهُ ذَلِكَ ". فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إِلَى كل امْرَأَة لَهَا لَان تَخْتَارُ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ. فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ. وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا (2) ، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا؟ أَحَيٌّ ابْنِي أَمْ قد أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ. " فبصرت بِهِ " أُخْته " عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ " وَالْجنب: أَن يسمو بصر الانسان إِلَى شئ بَعِيدٍ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ لَا يَشْعُرُ بِهِ. فَقَالَت من الْفَرح   (1) لَيست فِي ا (2) الواله: الذاهلة الْمُتَحَيِّرَة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 حِين أعياهم الظئرات: أَنَا " أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ " فَأَخَذُوهَا فَقَالُوا: مَا يُدْرِيكِ مَا نصحهمْ لَهُ؟ هَل تعرفينه؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَابْنَ جُبَيْرٍ! فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي صِهْرِ الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَلِكِ. فَأَرْسَلُوهَا فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضعته فِي حجرهانزا (1) إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا، وَانْطَلق البشير إِلَى امْرَأَة فِرْعَوْن يبشرها أَنَّ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ. فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتْرُكَ بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ، فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي، فَيَكُونَ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا، فَعَلْتُ، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ مَوْعُودَهُ، فَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ. فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ، مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ مَا كَانَ فِيهِمْ. * * * فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْن لَام مُوسَى: أزيريني ابْني (2) ، فوعدتها يَوْمًا تزيرها (3) إِيَّاه فِيهِ، وَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن لخزانها وظئورها وَقَهَارِمَتِهَا: لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِيَ الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ. لِأَرَى ذَلِكَ فِيهِ.   (1) نزا: وثب. (2) ط: أريني ابْني. (3) ط تريها إِيَّاه فِيهِ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي [كُلَّ (1) ] مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ، فَلَمْ تَزَلِ الْهَدَايَا وَالْكَرَامَةُ وَالنِّحَلُ تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا نَحَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ، وأنحلت أمه لحسن أَثَرِهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحِلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ فَمَدَّهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نبيه؟ إِنَّه زعم أَنه يرثك وَيَعْلُوكَ وَيَصْرَعُكَ! فَأَرْسِلْ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ من الْفُتُون يَابْنَ جُبَيْرٍ بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ (2) . فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ مَا بدالك فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبَتْهُ لِي؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي؟ فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الْحَقَّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ وَلُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ باللؤلؤتين واجتنب الْجَمْرَتَيْن عرفت أَن يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْن وَهُوَ يعقل. فَقرب إِلَيْهِ الْجَمْرَتَيْن واللؤلؤتين فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَانْتَزَعَهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ أَلَّا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ [مَعَهُ (3) ] بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: أُرِيد بِهِ فُتُونًا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 كُلَّ الِامْتِنَاعِ. فَبَيْنَمَا (1) مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِفْظَهُ لَهُمْ [لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا أُمُّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى] (2) مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقتله، وَلَيْسَ يراهما أحد إِلَّا الله عزوجل وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: " هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ " ثُمَّ قَالَ: " رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظهيرا للمجرمين * فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب " الاخبار. فَأتى فِرْعَوْن فَقيل لَهُ: إِن بني إِسْرَائِيل قتلوا رجلا من آل فِرْعَوْن فَخذ لنا بحقنا وَلَا ترخص لَهُم، فَقَالَ ابغونى قَاتله وَمن يشْهد عَلَيْهِ، فَإِن الْملك وَإِن كَانَ صفوة من قومه (3) ، لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يقتل (4) بِغَيْر بَيِّنَة وَلَا ثَبت، فَاطْلُبُوا لي علم ذَلِك آخذ لكم بحقكم. فَبَيْنَمَا هم يطوفون لَا يَجدونَ بَيِّنَة، إِذا بمُوسَى من الْغَد قد رأى ذَلِك الاسرائيلي يُقَاتل رجلا من آل فِرْعَوْن آخر، فاستغاثه الاسرائيلي على الفرعوني، فصادف مُوسَى وَقد نَدم على مَا كَانَ مِنْهُ وَكره الَّذِي رأى، فَغَضب الاسرائيلي وَهُوَ يُرِيد أَن يبطش بالفرعوني، فَقَالَ للاسرائيلي لما   (1) ا: فَبَيْنَمَا. (2) سَقَطت من المطبوعة وأثبتها من ا. (3) ا: وَإِن كَانَ صفوة لَهُ مَعَ قومه. (4) ا: لَا يَسْتَقِيم لَهُ أَن يُقيد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فعل بالامس وَالْيَوْم: " إِنَّك لغَوِيّ مُبين "، فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: " إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ " أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: " يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ " وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ فَتَتَارَكَا. وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ حِينَ (1) يَقُولُ: " أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ " فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأخذ رسل فِرْعَوْن فِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَمْشُونَ عَلَى هِينَتِهِمْ، يَطْلُبُونَ مُوسَى وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَهُ. وَذَلِكَ من الْفُتُون يَابْنَ جُبَيْرٍ! فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ علم إِلَّا حسن ظَنّه بربه عزوجل، فَإِنَّهُ قَالَ: " عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تذودان " يَعْنِي بِذَلِكَ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: " مَا خطبكما " معتزلتين النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ الْقَوْمَ وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ. فَسَقَى لَهُمَا فَجَعَلَ يغترف مِنَ الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ وَانْصَرَفَتَا بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَانْصَرَفَ مُوسَى فاستظل بشجرة، وَقَالَ: " رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير فَقير "   (1) احيث. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلًا بِطَانًا (1) فَقَالَ إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ " قَالَ لَا تَخَفْ نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين " لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْنَا مِنْ سُلْطَانٍ ولسنا فِي مَمْلَكَته (2) ، فَقَالَت إِحْدَاهمَا: " يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الامين " فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ. ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ. فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ. فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ " أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ " فَفعل فَكَانَت على نَبِي الله مُوسَى ثَمَان سِنِينَ وَاجِبَةً، وَكَانَتِ السَّنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا. قَالَ سَعِيدُ - وَهُوَ ابْن جُبَير - لَقِيَنِي رجل من أهل النَّصْرَانِيَّة من عُلَمَائهمْ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ لَا، وَأَنَا [يَوْمَئِذٍ] (3) لَا أَدْرِي. فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاس فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ:   (1) الحفل: الممتلئة الضروع بِاللَّبنِ. والبطان: الشباع. (2) ا: ملكه (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ ثَمَانِيَةً كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً، لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ لِيُنْقِصَ مِنْهَا شَيْئًا؟ وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَتَهُ الَّتِي وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ. فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِذَلِكَ، قُلْتُ: أَجَلْ وَأَوْلَى. فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ، مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ. فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ (1) وَعُقْدَةِ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ ربه أَن يُعينهُ بأَخيه هَارُون، يكون لَهُ ردْءًا، يتَكَلَّم عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ. فآتاه الله عزوجل [سُؤْلَهُ (3) ] ، وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ. فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لَقِيَ هَارُونَ، فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمَا. ثُمَّ أُذِنَ لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَا: " إِنَّا رَسُولا رَبك " قَالَ: " فَمن رَبكُمَا؟ " فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ: " ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ " حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا فَاقْتَحَمَ (4) عَنْ سَرِيرِهِ وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يكفها عَنهُ فَفعل   (1) ا: فِي الْقَتْل (2) ا: يكون عَنهُ ردْءًا (3) لَيست فِي ا (4) ا: واقتحم (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ. فَاسْتَشَارَ الملا [من (1) ] حوله فبمَا رأى فَقَالُوا لَهُ: " إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى " يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ، وَقَالُوا لَهُ: اجْمَعِ السَّحَرَةَ فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ، حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا. فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ. قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يعْمل السحر بالحيات (2) والحبال والعصى الَّذِي نعمل، فَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أقاربي وخاصتي، وَأَنا صانع إِلَيْكُم كل شئ أَحْبَبْتُمْ. فَتَوَاعَدُوا " يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ". قَالَ سَعِيدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ، الْيَوْمَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ، هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنَّ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ " يَعْنُونَ مُوسَى وهرون استهزاء بهما، فَقَالُوا يَا مُوسَى، بعد تريثهم بِسِحْرِهِمْ " إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ " قَالَ بَلْ أَلْقُوا، " فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ " فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: " أَنْ أَلْقِ عصاك " فَلَمَّا أَلْقَاهَا صَارَت ثعبانا عَظِيمَة   (1) لَيست فِي ا (2) ا: يعْمل بِالسحرِ والحيات. (*) " 11 - قصَص الانبياء 2 " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 فاغرة فاها، فَجعلت الْعَصَا تَلْتَبِس بالحبال، حَتَّى صَارَت حرْزا للثعابين (1) تَدْخُلُ فِيهِ حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلَا حَبْلًا إِلَّا ابْتَلَعَتْهُ. فَلَمَّا عَرَفَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ، قَالُوا لَو كَانَ هَذَا سحرًا لم يبلغ مِنْ سِحْرِنَا كُلَّ هَذَا، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ. فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهَرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ وَظَهَرَ الْحَقُّ " وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ". وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مبتذلة تَدْعُو الله بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أَنَّهَا إِنَّمَا ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى. * * * فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ (2) وَقَالَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يصنع غير هَذَا؟ أرسل اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيطْلب إِلَيْهِ أَن يكفها عَنهُ، ليوافقه عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كف ذَلِك عَنهُ أخلف بوعده ونكث عَهده، حَتَّى أَمر الله مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِن [حاشرين (3) ]   (1) الاصل إِلَى الثعابين (2) ا: أخلف من غده (3) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْر: إِذا ضربك مُوسَى عَبدِي بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى يَجُوزَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ الْتَقِ عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ. فَنَسِيَ مُوسَى أَن يضْرب الْبَحْر بالعصى وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ (1) مَخَافَةَ (2) أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لله عزوجل!. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا " قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لمدركون " افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ وَعَدَنِي رَبِّي إِذَا أَتَيْتُ الْبَحْرَ انْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى أُجَاوِزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى فَلَمَّا [أَنْ (3) ] جَاوَزَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ، وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَ فَلَمَّا جَاوز مُوسَى الْبَحْر قَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ. * * * ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ " قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تجهلون * إِن هَؤُلَاءِ متبر ماهم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ " قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ.   (1) القصيف: أَي تكسر أمواج الْبَحْر حَتَّى يسمع لَهَا صَوت كالرعد. (2) ا: فخاف. (3) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَمضى فأنزلهم مُوسَى منزلا وَقَالَ: أطِيعُوا هرون فَإِن الله قد اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا. فَلَمَّا أَتَى ربه عزوجل وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صامهن ليلهن ونهارهن، كره أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ - قَالَ يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طيب الرّيح. قَالَ: أَو مَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أطيب عِنْدِي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ! ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ. فَلَمَّا رَأَى قَوْمُ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِم فِي الاجل ساءهم ذَلِك، وَكَانَ هرون قد خطبهم فَقَالَ: إِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عَوَارِيُّ وَوَدَائِعُ، وَلَكُمْ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَا أرى أَن تحتسبوا مالكم عِنْدَهُمْ، وَلَا أُحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتَوْدَعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَّةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسَكِيهِ لِأَنْفُسِنَا. فَحَفَرَ حَفِيرًا وَأَمَرَ كُلَّ قوم عِنْدهم من ذَلِك مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَحْرَقَهُ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ. وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا، فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بهرون فَقَالَ لَهُ هرون: يَا سامري أَلا تلقى مَا فِي يَديك؟ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ طَوَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاوز بكم الْبَحْر، وَلَا ألقيها لشئ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا أَلْقَيْتُهَا أَنْ يكون مَا أُرِيد، فألقاها ودعا لَهُ هرون. فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عِجْلًا، فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحُفْرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ، لَيْسَ فِيهِ روح وَله خُوَارٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ فِيهِ صَوْتٌ قَطُّ، إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ. فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ؟ قَالَ: هَذَا رَبُّكُمْ، وَلَكِنَّ مُوسَى أَضَلَّ الطَّرِيقَ! وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبُّنَا لَمْ نَكُنْ ضيعناه وعكفنا عَلَيْهِ حِينَ رَأَيْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ مُوسَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ بِرَبِّنَا وَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُصَدِّقُ وَأُشْرِبُ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السامري فِي الْعجل وأعلنوا عدم التَّكْذِيب بِهِ. فَقَالَ لَهُم هرون عَلَيْهِ السَّلَام: " يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَن " لَيْسَ هَذَا. قَالُوا: فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَخْلَفَنَا؟ هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قد مَضَت. وَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: أَخْطَأَ رَبَّهُ فَهُوَ يَطْلُبُهُ وَيَبْتَغِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، " فَرجع مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسَفًا " فَقَالَ لَهُمْ مَا سَمِعْتُمْ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ " وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ " وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ. ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ واستغفر لَهُ، وَانْصَرف (1) إِلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صنعت؟ قَالَ: قبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول وفطنت لَهَا وعميت عَلَيْكُم " فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ، وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا " وَلَو كَانَ إِلَهًا لم يخلص إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ. فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هرون، فَقَالُوا لجماعتهم: يَا مُوسَى سل لنا [رَبك (2) ] أَن يفتح لنا بَاب تَوْبَة نصنعها فتكفر عَنَّا مَا عَملنَا. فَاخْتَارَ مُوسَى من قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ، لَا يَأْلُو الْخَيْرَ من خِيَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْحق، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ. فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فعل فَقَالَ: " رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا؟ " وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ اللَّهُ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مَا أشْرب قلبه من حب الْعجل وإيمانه بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَقَالَ: " وَرَحْمَتِي وسعت كل شئ، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا   (1) ا: فَانْصَرف. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة والانجيل ". فَقَالَ: يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إِن رَحْمَتي كَتَبْتَهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، فَلَيْتَكَ أَخَّرْتَنِي حَتَّى تخرجني فِي أمة ذَلِك الرجل المرحوم. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رجل مِنْهُم مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ، فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ وَلَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ. وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذين كَانَ خَفِي على مُوسَى وهرون [أَمرهم] ، وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا، وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ. ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بهَا، فنتق (1) اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بأيمانهم وهم مصغون يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ، وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قوم جبارون، خلقهمْ خلق مُنكر، وَذكروا من ثمارهم أمرا عجبا (2) مِنْ عِظَمِهَا، فَقَالُوا: " يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ " لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، " فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ". " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ " قِيلَ لِيَزِيدَ: هَكَذَا قَرَأَهُ؟ قَالَ نَعَمْ، مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَّا بِمُوسَى وَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أعلم بقومنا   (1) نتق: رفع. : وَفِي ا: ونتق. (2) ا: عجيبا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 إِن كُنْتُم إِثْمًا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. وَيَقُولُ أنَاس: إِنَّهُم من قوم مُوسَى. فَقَالَ الَّذين يخَافُونَ من بني إِسْرَائِيلَ: " قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ. وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ فَاسْتَجَابَ الله لَهُ، وَسَمَّاهُمْ كَمَا سماهم مُوسَى فَاسِقِينَ، فَحَرَّمَهَا (1) عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ؟ ؟ وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا. وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يشربون مِنْهَا، فَلَا يرتحلون من محلّة إِلَّا وجدوا ذَلِك الْحجر بَينهم بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ [بالمنزل الاول (2) ] بِالْأَمْسِ. * * * رَفَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أَن مُعَاوِيَة سمع ابْن عَبَّاس يحدث هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَ. فَقَالَ: كَيْفَ يُفْشِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حضر   (1) ط: وحرمها. (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ذَلِكَ؟ فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ وَانْطَلق بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَق، هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ؟ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ؟ قَالَ إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الفرعوني بِمَا سمع من الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي شَهِدَ ذَلِكَ وَحَضَرَهُ. هَكَذَا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ يزِيد بن هرون. وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَكَوْنُهُ مَرْفُوعًا فِيهِ نَظَرٌ. وَغَالِبُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَفِيهِ شئ يَسِيرٌ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ. وَفِي بَعْضِ مَا فِيهِ نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ [مِنْ (1) كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أعلم.   (1) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ذِكْرُ بِنَاءِ قُبَّةِ الزَّمَانِ قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَمَلِ قبَّة من خشب الشمشاز وَجُلُودِ الْأَنْعَامِ وَشَعْرِ الْأَغْنَامِ، وَأَمَرَ بِزِينَتِهَا بِالْحَرِيرِ الْمُصَبَّغِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُفَصَّلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَهَا عَشْرُ سُرَادِقَاتٍ، طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ (1) ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ وَأَطْنَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَدِمَقْسٍ (2) مُصَبَّغٍ، وَفِيهَا رُفُوفٌ وَصَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَلِكُلِّ زَاوِيَةٍ بَابَانِ وَأَبْوَابٌ أُخَرُ كَبِيرَةٌ، وَسُتُورٌ مِنْ حَرِيرٍ مُصَبَّغٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذكره. وبعمل تَابُوت من خشب الشمشاز يَكُونُ طُولُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَيَكُونُ مُضَبَّبًا بِذَهَبٍ خَالِصٍ [مِنْ (3) ] دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، وَلَهُ أَرْبَعُ حِلَقٍ فِي أَرْبَعِ زَوَايَاهُ، وَيَكُونُ عَلَى حَافَّتَيْهِ كَرُوبِيَّانِ مِنْ ذَهَبٍ - يَعْنُونَ صِفَةَ مَلِكَيْنِ بِأَجْنِحَةٍ، وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ صَنَعَهُ (4) رَجُلٌ اسْمُهُ: " بَصْلِيَالُ ". وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ مَائِدَةً من خشب الشمشاز طولهَا ذراعان وعرضها ذراعان (5) وَنَصِفٌ، لَهَا ضِبَابُ ذَهَبٍ وَإِكْلِيلُ ذَهَبٍ، بِشَفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ بِإِكْلِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَرْبَعِ حِلَقٍ مِنْ نَوَاحِيهَا من ذهب، مغرزة فِي مثل الرُّمَّان من خشب ملبس ذَهَبا. وَأَن يعْمل صحافا ومصافي وقصاعا على الْمَائِدَة،   (1) ا: مائَة وَعِشْرُونَ. (2) ا: وَنقش. (3) لَيست فِي ا. (4) ا: صفة. (5) ط: طولهَا ذِرَاع وعرضها ذِرَاع وَنصف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ويصنع مَنَارَة من الذَّهَب دُلِيَّ فِيهَا سِتُّ قَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ كل جَانب ثَلَاثَة، عَلَى كُلِّ قَصَبَةٍ ثَلَاثُ سُرُجٍ. وَلْيَكُنْ فِي الْمَنَارَةِ أَرْبَعُ قَنَادِيلَ، وَلْتَكُنْ هِيَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآنِيَةِ مِنْ قِنْطَارٍ مِنْ ذَهَبٍ. صَنَعَ ذَلِكَ " بَصْلِيَالُ " أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَ الْمَذْبَحَ أَيْضًا. ونصبت (1) هَذِهِ الْقُبَّةَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ سَنَتِهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الرَّبِيعِ وَنَصَبَ تَابُوتَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن إِن كُنْتُم مُؤمنين ". وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِهِمْ مُطَوَّلًا جِدًّا، وَفِيهِ شَرَائِعُ لَهُمْ وَأَحْكَامٌ وَصِفَةُ قُرْبَانِهِمْ، وَكَيْفِيَّتُهُ. وَفِيهِ أَنَّ قُبَّةَ الزَّمَانِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ الَّذِي هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَجِيئِهِمْ (2) بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ فِيهَا وَإِلَيْهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا دَخَلَهَا يَقِفُونَ عِنْدَهَا (3) ، وَيُنْزِلُ عَمُودَ الْغَمَامِ عَلَى بَابِهَا، فَيَخِرُّونَ عِنْدَ ذَلِك سجدا لله عزوجل. وَيُكَلِّمُ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمُودِ الْغَمَامِ الَّذِي هُوَ نُورٌ وَيُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ التَّابُوتِ صَامِدٌ إِلَى مَا بَيْنَ الْكَرُوبِيِّيْنِ فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ يخبر بني إِسْرَائِيل بِمَا أوحاه الله عزوجل إِلَيْهِ من الاوامر والنوهي.   (1) ط: وَنصب. (2) ط: مجئ. (3) ا: حولهَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وَإِذا تحاكموا إِلَيْهِ فِي شئ لَيْسَ عِنْده من الله فِيهِ شئ يجِئ إِلَى قُبَّةِ الزَّمَانِ، وَيَقِفُ عِنْدَ التَّابُوتِ وَيَصْمُدُ لِمَا بَيْنَ ذَيْنِكَ الْكَرُوبِيِّيْنِ، فَيَأْتِيهِ الْخِطَابُ بِمَا فِيهِ فَصْلُ تِلْكَ الْحُكُومَةِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ فِي زَمَانِهِمْ، أَعْنِي اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ وَالْحَرِير المصبغ واللآلى، فِي مَعْبَدِهِمْ وَعِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا، بَلْ قَدْ نُهِينَا عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا، لِئَلَّا تَشْغَلَ الْمُصَلِّينَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا وَسَّعَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلَّذِي وَكَّلَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ: ابْنِ لِلنَّاسِ مَا يُكِنُّهُمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاس. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا نزخرفنها كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَنَائِسَهُمْ. وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، إِذْ جمع الله هممهم (1) فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَصَانَ أَبْصَارَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ وَالتَّفَكُّرِ فِي غَيْرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ (2) ، مِنَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ كَانَتْ قُبَّةُ الزَّمَانِ هَذِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ، يُصَلُّونَ إِلَيْهَا وَهِيَ قِبْلَتُهُمْ وَكَعْبَتُهُمْ، وَإِمَامُهُمْ كَلِيمُ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُقَدِّمُ الْقُرْبَانِ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَلَمَّا مَاتَ هَارُونُ ثُمَّ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام اسْتمرّ بَنُو هَارُونَ فِي الَّذِي كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُمْ، مِنْ أَمْرِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ فِيهِمْ إِلَى الْآنَ.   (1) ط: هَمهمْ. (2) ا: فِي غير مَا هم فِيهِ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وَقَامَ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مُوسَى وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ (1) بَعْدَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ نَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ على صَخْرَة بَيت الْقُدس فَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا بَادَتْ صَلَّوْا إِلَى مَحِلَّتِهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ، فَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ صَلَّى إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا هَاجَرَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى إِلَيْهَا سِتَّةَ عَشَرَ - وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا. ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقِيلَ الظُّهْرِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. إِلَى قَوْلِهِ: " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فلنوليك قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (2) " الْآيَات.   (1) ا: الامور. (2) سُورَة الْبَقَرَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 قِصَّةُ قَارُونَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي، أَو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا؟ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ، إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ، ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ، يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا، وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (1) ". قَالَ الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ   (1) الْآيَات: 76 - 83 من سُورَة الْقَصَص. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 قَالَ: كَانَ قَارُونُ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَزَادَ فَقَالَ: هُوَ قَارون بن يصهب بْنَ قَاهَثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهَثَ. قَالَ ابْن جرير (1) وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَرَدَّ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عَمَّ مُوسَى. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوِّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَثْرَةَ كُنُوزِهِ، حَتَّى إِن مفاتحه كَانَ يَثْقُلُ حِمْلُهَا عَلَى الْفِئَامِ (2) مِنَ الرِّجَالِ الشِّدَادِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ [مِنَ الْجُلُودِ وَإِنَّهَا كَانَتْ (3) ] تُحْمَلُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَدْ وَعَظَهُ (4) النُّصَحَاءُ مِنْ قَوْمِهِ قَائِلِينَ: " لَا تفرح " أَيْ لَا تَبْطَرْ بِمَا أُعْطِيتَ وَتَفْخَرْ عَلَى غَيْرك، " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة " يَقُولُونَ: لِتَكُنْ هِمَّتُكَ مَصْرُوفَةً لِتَحْصِيلِ (5) ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَعَ هَذَا " لَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا " أَيْ وَتَنَاوَلْ مِنْهَا بِمَالِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، فَتَمَتَّعْ لِنَفْسِكَ بِالْمَلَاذِّ الطَّيِّبَةِ الْحَلَالِ، " وَأَحْسِنْ كَمَا أحسن الله إِلَيْك " أَيْ وَأَحْسِنْ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ الله   (1) المطبوعة: قَالَ ابْن جريج وَهُوَ تَحْرِيف. (2) الفئام: الْجَمَاعَة من النَّاس. (3) من ا (4) ا: نصحه. (5) ا: إِلَى تَحْصِيل (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 خَالِقُهُمْ وَبَارِئُهُمْ إِلَيْكَ، " وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الارض " أَيْ وَلَا تُسِئْ إِلَيْهِمْ وَلَا تُفْسِدْ فِيهِمْ، فَتُقَابِلَهُمْ ضِدَّ مَا أُمِرْتَ فِيهِمْ فَيُعَاقِبَكَ وَيَسْلُبَكَ مَا وَهَبَكَ، " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ". فَمَا كَانَ جَوَاب قَوْمَهُ لِهَذِهِ النَّصِيحَةِ الصَّحِيحَةِ الْفَصِيحَةِ إِلَّا أَنَّ " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي " يَعْنِي أَنا لَا أحتاج إِلَى اسْتِمَاع (1) مَا ذَكَرْتُمْ، وَلَا [إِلَى (2) ] مَا إِلَيْهِ أَشَرْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا لِعِلْمِهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَأَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَلَوْلَا أَنِّي حَبِيبٌ إِلَيْهِ وَحَظِيٌّ عِنْدَهُ لَمَا أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي. قَالَ الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِ فِيمَا (3) ذهب إِلَيْهِ: " أَو لم يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا؟ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ " أَيْ قَدْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ قَارُونَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، فَلَوْ كَانَ مَا قَالَ صَحِيحًا لَمْ نُعَاقِبْ أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَالُهُ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَهُ وَاعْتِنَائِنَا بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا (4) "، وَقَالَ تَعَالَى: " أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (1) " وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: " إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على علم عِنْدِي ". وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ أَنه كَانَ يعرف صَنْعَة الكيمياء،   (1) ط: إِلَى اسْتِعْمَال (2) لَيست فِي ا. (3) المطبوعة: وَمَا ذهب (4) سُورَة (5) الْآيَتَانِ: 55، 56 من سُورَة الْمُؤْمِنُونَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْكِيمْيَاءَ تخييل وصنعة، لَا تُحِيلُ الْحَقَائِقَ، وَلَا تُشَابِهُ صَنْعَةَ الْخَالِقِ (1) . وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ لَا يَصْعَدُ الدُّعَاءُ بِهِ مِنْ كَافِرٍ بِهِ، وَقَارُونُ كَانَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقًا فِي الظَّاهِرِ. ثُمَّ لَا يَصِحُّ جَوَابُهُ لَهُمْ بِهَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَلَازُمٌ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. * * * قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَخرج على قومه فِي زينته " ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، مِنْ مَلَابِسَ وَمَرَاكِبَ وَخَدَمٍ وَحَشَمٍ. فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُعَظِّمُ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُ، وَغَبَطُوهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمُ الْعُلَمَاءُ، ذَوُو الْفَهْمِ الصَّحِيحِ الزُّهَّادُ الْأَلِبَّاءُ، قَالُوا لَهُمْ: " وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا " أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأَجَلُّ وَأَعْلَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ " أَيْ وَمَا يُلْقَى هَذِهِ النَّصِيحَةَ وَهَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهَذِهِ الْهِمَّةَ السَّامِيَةَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ الْعَلِيَّةِ، عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى زَهْرَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ [إِلَّا مِنْ هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ وَثَبَّتَ فُؤَادَهُ، وَأَيَّدَ لُبَّهُ وَحَقَّقَ مُرَادَهُ (2) ] . وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ، وَالْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين ".   (1) ط: الخلاق. (2) لَيست فِي ا (*) (م 12 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خُرُوجَهُ فِي زِينَتِهِ وَاخْتِيَالَهُ فِيهَا، وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ بِهَا قَالَ: " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض " كَمَّا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. وَقَدْ ذُكِرَ [عَنِ (1) ] ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى امْرَأَةً بَغِيًّا مَالًا عَلَى أَنْ تَقُولَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ: إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا، فَيُقَالُ إِنَّهَا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْعَدَ مِنَ الْفَرَقِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَاسْتَحْلَفَهَا من ذَلِك عَلَى ذَلِكَ، وَمَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَغْفَرَتِ اللَّهَ وَتَابَتْ إِلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَّ مُوسَى لِلَّهِ سَاجِدًا، وَدَعَا اللَّهَ عَلَى قَارُونَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ إِن قَارون لماخرج عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ مَرَّ بِجَحْفَلِهِ وَبِغَالِهِ وَمَلَابِسِهِ عَلَى مَجْلِسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ انصرفت وُجُوه كثير مِنْهُم (2) يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ، فقد فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ فَلَتَدْعُوَنَّ عَليّ ولادعون عَلَيْك.   (1) سَقَطت من المطبوعة. (2) ا: كثير من النَّاس. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 فَخرج [مُوسَى] (1) وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى. تَدْعُو أَو أَدْعُو أَنا؟ قَالَ: أَدْعُو أَنَا، فَدَعَا قَارُونُ فَلَمْ يُجَبْ لَهُ فِي مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَدْعُو؟ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ مُرِ الْأَرْضَ فَلْتُطِعْنِي الْيَوْمَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَأَقْبَلَتْ بِهَا حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا، ثُمَّ أَشَارَ مُوسَى بِيَدِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوِي فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ كَثِيرَةً، أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا وَتَرَكْنَاهَا قَصْدًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَمَا كَانَ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المنتصرين " لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا من غَيره كَمَا قَالَ: " فَمَاله من قُوَّة وَلَا نَاصِر ". وَلَمَّا حَلَّ بِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْخَسْفِ وَذَهَاب الاموال وخراب الدَّار، وإهلاك النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْعَقَارِ، نَدِمَ مَنْ كَانَ تَمَنَّى مِثْلَ مَا أُوتِيَ، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي يُدَبِّرُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ الْمَخْزُونِ، وَلِهَذَا قَالُوا: " لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ "   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وَقد تكلمنا على لفظ ويكأن فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: وَيْكَأَنَّ بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَن " الدَّار الْآخِرَة " وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي يُغْبَطُ من أعطيها وبعزى مَنْ حُرِمَهَا إِنَّمَا هِيَ مُعَدَّةٌ " لِلَّذِينِ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ". فَالْعُلُوُّ [هُوَ (1) ] التَّكَبُّرُ وَالْفَخْرُ وَالْأَشَرُ وَالْبَطَرُ. وَالْفَسَادُ هُوَ عَمَلُ الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِفْسَادِ مَعَايِشِهِمْ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ وَعَدَمِ النُّصْحِ لَهُم. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: " وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين ". وَقِصَّةُ قَارُونَ هَذِهِ قَدْ تَكُونُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ، لِقَوْلِهِ: " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ " فَإِنَّ الدَّارَ ظَاهِرَةٌ فِي الْبُنْيَانِ، وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ، وَتَكُونُ الدَّارُ عِبَارَةً عَنِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي تُضْرَبُ فِيهَا الْخِيَامُ، كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمِي * وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلِمِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَذَمَّةَ قَارُونَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب (2) ".   (1) لَيست فِي ا. (2) الْآيَتَانِ: 23، 24 من سُورَة غَافِر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بَعْدَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ: " وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظْلمُونَ (1) ". فَالَّذِي خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ قَارُونُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالَّذِي أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَجُنُودُهُمَا إِنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: " مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمد رَحمَه الله.   (1) الْآيَتَانِ: 39، 40 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 بَاب ذِكْرُ فَضَائِلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي (2) فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكن من الشَّاكِرِينَ " وَتَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَصُعِقُ فَأَفَاقَ قَبْلِي؟ أم جوزي بصعقة الطّور؟ " وَقد قدمنَا أَنَّهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، وَإِلَّا فَهُوَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، [قَطْعًا (3) ] جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ. وَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب والاسباط " إِلَى أَن قَالَ: " رسلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نقصصهم عَلَيْك، وكلم الله مُوسَى تكليما (4) ". وَقَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكَانَ عِنْد الله وجيها (5) ".   (1) الْآيَات: 51 - 52 من سُورَة مَرْيَم (2) الْآيَة: 144 من سُورَة الاعراف (3) لَيست فِي ا (4) الْآيَة: 164 من سُورَة النِّسَاء (5) الْآيَة: 69 من سُورَة الاحزاب (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم بن روح ابْن عُبَادَةَ، عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ وَخِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مُوسَى كَانَ رجلا حييا ستيرا لَا يرى [من (1) ] جلده شئ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ. فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ (2) وَإِمَّا آفَة، وَإِن الله عزوجل أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجْرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلْقَ اللَّهُ، وبرأه [الله (3) ] مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَو خمْسا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ". وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ [عَنْ مَعْمَرٍ (4) ] عَنْ هَمَّامٍ عَنْهُ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ مِنْ وَجَاهَتِهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي أَخِيه عِنْد الله،   (1) سَقَطت من الاصل وأثبتها من صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 18 ط الاميرية. (2) الادرة: انتفاخ الخصية. (3) من ا. وَرِوَايَة البُخَارِيّ: وأبرأه مِمَّا يَقُولُونَ. (4) سَقَطت من ا: (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَزِيرًا، فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَأَعْطَاهُ طَلِبَتَهُ [وَجَعَلَهُ نَبِيًّا (1) ] ، كَمَا قَالَ: " وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هرون نَبيا " ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَة عَن الاعمش (2) قَالَ سَمِعت أَبَا وَائِلٍ، قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ (3) مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ، حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ (4) بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَجَّاجٍ، سَمِعْتُ إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ مَوْلًى لِهَمْدَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زَائِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ ". قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ فَقَسَمَهُ، قَالَ: فَمَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ، فَثَبَتُّ حَتَّى سَمِعْتُ مَا قَالَا، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي [شَيْئًا (1) ] وَإِنِّي مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَهُمَا يَقُولَانِ كَذَا وَكَذَا. فاحمر   (1) سَقَطت من ا (2) ا: حَدثنَا الاعمش (3) ط: قسْمَة. وَمَا أثْبته عَن اموافق لرِوَايَة البُخَارِيّ 2 / 118 (4) ا: لقد أوذى. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " دَعْنَا مِنْكَ فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ! " وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَن الْوَلِيد ابْن أَبِي هَاشِمٍ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلِأَبِي دَاوُد من طَرِيق ابْن عبد عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِمُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ: " فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى. قِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي! ". وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ. وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ - فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ: أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَادَّةُ: أَنَّ مُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ، وَأَنَّهُ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - مر (1) بمُوسَى، فَقَالَ: ارْجع إِلَى رَبك فسله التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَإِنِّي قَدْ عَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً. فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ مُوسَى وَبَين الله عزوجل، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ أَيْ بِالْمُضَاعَفَةِ، فَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَجَزَى اللَّهُ عَنَّا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْن بن نمير عَن حُصَيْن ابْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: " عُرِضْتَ عَلَيَّ الْأُمَمُ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ ". هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا. وَقَدْ رَوَاهُ الامام أَحْمد مطولا فَقَالَ: حَدثنَا شُرَيْح، حَدثنَا هِشَام، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ أَنا، ثمَّ قلت: إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ لُدِغْتُ. قَالَ: وَكَيْفَ فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ قَالَ وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ "، فَقَالَ سَعِيدٌ - يَعْنِي ابْنَ جُبَيْرٍ - قَدْ أَحْسَنَ مَنِ أنهى إِلَيّ مَا سمع.   (1) ا: فَمر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ هَذِهِ أُمَّتِي؟ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قِيلَ انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ أُمَتُّكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ. ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ، فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا قَطُّ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ فَقَالَ: " هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ " يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ (1) الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ. ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ! ". وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ فِي الصِّحَاح والحسان وَغَيرهَا وَقد أوردناها فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَة وأهوالها (2) . * * *   (1) المطبوعة: ابْن مُحَيْصِن. وَهُوَ خطأ. (2) وَذَلِكَ فِي كتاب النِّهَايَة للمؤلف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَوْرَدَ قِصَّتَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِرَارًا، وَكَرَّرَهَا كَثِيرًا، مُطَوَّلَةً ومبسوطة ومختصرة، وَأثْنى عَلَيْهِ [ثَنَاء] بَلِيغًا. وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُهُ اللَّهُ وَيَذْكُرُهُ، وَيَذْكُرُ كِتَابَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: " وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ". وَقَالَ تَعَالَى: " الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيز ذُو انتقام ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله على بشر من شئ، قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا، وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صلَاتهم يُحَافِظُونَ ". فَأثْنى الله تَعَالَى عَلَى التَّوْرَاةِ، ثُمَّ مَدَحَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مَدْحًا عَظِيمًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِهَا: " ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 أحسن وتفصيلا لكل شئ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ، فَلَا تخشوا النَّاس واخشوني وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " إِلَى أَنْ قَالَ: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ " الْآيَةَ. فَجُعِلَ الْقُرْآنُ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لَهَا وَمُبَيِّنًا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اسْتُحْفِظُوا عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حِفْظِهَا وَلَا عَلَى ضَبْطِهَا وَصَوْنِهَا، فَلِهَذَا دَخَلَهَا مَا دَخَلَهَا مِنْ تَغْيِيرِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ، لسوء فهمهم (1) وَقُصُورِهِمْ فِي عُلُومِهِمْ، وَرَدَاءَةِ قُصُودِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ لِمَعْبُودِهِمْ، عَلَيْهِم لعائن الله المتتابعة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ على الله وعَلى رَسُوله - مَالا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَمَا لَا يُوجَدُ (2) مِثْلُهُ وَلَا يُعْرَفُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: " وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى وهرون الْفرْقَان وضياء وَذكر لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ منكرون ".   (1) ا: لسوء فَهُوَ مُهِمّ. (2) ا: وَلَا يُوجد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: " فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى، أَو لم يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ؟ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أتبعه إِن كُنْتُم صَادِقين (1) ". فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ وَعَلَى الرَّسُولَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَالَتِ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: " إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ". وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى مِنْ أَوَّلِ الْوَحْيِ وَتَلَا عَلَيْهِ: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بالقلم * علم الانسان مَا لم يعلم " قَالَ: سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرِيعَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَت [شَرِيعَة (2) ] عَظِيمَةً، وَأُمَّتُهُ كَانَتْ أُمَّةً كَثِيرَةً، وَوُجِدَ فِيهَا أَنْبِيَاءُ وَعُلَمَاءُ، وَعُبَّادٌ وَزُهَّادٌ وَأَلِبَّاءُ، وَمُلُوكٌ وَأُمَرَاءُ، وَسَادَاتٌ وَكُبَرَاءُ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا فَبَادُوا، وَتَبَدَّلُوا كَمَا بُدِّلَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ مِلَّتُهُمْ، وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ خُطُوبٌ وَأُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَلَكِنْ سَنُورِدُ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَهُ خَبَرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.   (1) سُورَة الاحقاف 3 (2) سَقَطت من المطبوعة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 ذكر حجه عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [وَصِفَتِهِ (1) ] قَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا هِشَام، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " قَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى وَهُوَ هَابِطٌ من الثَّنية، وَله جؤار إِلَى الله عزوجل بِالتَّلْبِيَةِ "، حَتَّى أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَاءَ فَقَالَ: " أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا هَذِهِ ثَنِيَّةُ هَرْشَاءَ، قَالَ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتُهُ خُلْبَةٌ " - قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْنِي لِيفًا - وَهُوَ يلبى. أخرجه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: " إِنَّ مُوسَى حَجَّ عَلَى ثَوْرٍ أَحْمَرَ "، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " ك ف ر " قَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ يَقُولُونَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ " ك ف ر " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ. قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ: " أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحبكُم، وَأما مُوسَى فَرجل آدم جعد [الشّعْر (2) ] عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْحَدَرَ مِنَ الْوَادِي يُلَبِّي "، قَالَ هشيم: الخلبة: الليف.   (1) من ا. (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ، عَنْ إِسْرَائِيل، عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ: فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ (1) جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سِبْطٌ، قَالُوا فإبراهيم؟ قَالَ: انْظُر إِلَى صَاحِبِكُمْ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: حَدَّثَ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ (2) ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِي بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى بن مَرْيَمَ مَرْبُوعُ (3) الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ (4) الرَّأْسِ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرازق حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ: " لَقِيتُ مُوسَى، قَالَ فَنَعَتَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ - مُضْطَرب (5) ، رجل الرَّأْس كَأَنَّهُ من رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى - فَنَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، يَعْنِي الْحمام، قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ. " الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَالِبُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي تَرْجَمَة الْخَلِيل.   (1) ا: فأبيض. (2) ا: ابْن عمكم. (3) المربوع: الْوسط بَين الطَّوِيل والقصير. (4) السبط: المسترسل، نقيض الْجَعْد. (5) المضطرب: الطَّوِيل مَعَ رخاوة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ذِكْرُ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: " وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ " حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْن مُوسَى، حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه (1) فَرجع إِلَى ربه عزوجل، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ فَالْآنَ. قَالَ: فَسَأَلَ الله عزوجل أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ". قَالَ: وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحوه قد رَوَى مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ - وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَسَيَأْتِي. وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا الْحسن، حَدثنَا لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ يَعْنِي سُلَيْمَ بْنَ جُبَيْرٍ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَ: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ   (1) صَكه: قعه. (*) (م 13 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي. قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً. قَالَ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ فَالْآنَ يَا رَبِّ مِنْ قَرِيبٍ " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَهُ. ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا قَالَ لَهُ هَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ، لِمَجِيئِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ يَعْرِفُهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا جَاءَ جِبْرِيل فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَكَمَا وَرَدَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيم وَلُوط فِي صُورَةِ شَبَابٍ، فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلَا لُوطٌ أَوَّلًا. وَكَذَلِكَ مُوسَى لَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، لذَلِك لطمه فَفَقَأَ عَيْنَهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِشَرِيعَتِنَا فِي جَوَازِ فَقْءِ عَيْنِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْكَ فِي دَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ. ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ يَدَهُ لِيَلْطِمَهُ، قَالَ لَهُ أَجِبْ رَبَّكَ، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 التَّأْوِيلُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ اللَّفْظُ، مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ أَجِبْ رَبَّكَ بِلَطْمِهِ. وَلَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَتَمَشَّى لَهُ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَلَمْ يحمل قَوْله هَذَا على أَنه مُطَابق، إِذْ لم يتَحَقَّق فِي [تِلْكَ (1) ] السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ أَنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أُمُورًا كَثِيرَةً كَانَ يُحِبُّ وُقُوعَهَا فِي حَيَاته، من خُرُوجهمْ مِنَ التِّيهِ، وَدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَكَانَ قَدْ سبق فِي قدرَة (2) اللَّهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمُوتُ فِي التِّيهِ بعد هرون أَخِيهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ وَدَخَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أهل الْكتاب وَجُمْهُور الْمُسلمين. و [مِمَّا] (3) يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَوْتَ: رب أدنني إِلَى الارض المقدسة رمية حجر، وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا لَمْ يَسْأَلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعَ قَوْمِهِ بِالتِّيهِ وَحَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَيْهَا. وَلَكِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ. وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ: " فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ وَسُلَيْمَانُ   (1) من ا. (2) المطبوعة: دورة محرفة. وَمَا أثْبته من ا. (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 التَّيْمِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَالَ السّديّ عَن أبي مَالك وَأبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى إِنِّي مُتَوَفٍّ هرون فَائِتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَ مُوسَى وهرون نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَإِذَا هُمْ بِشَجَرَةٍ لَمْ تُرَ شَجَرَةٌ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمْ بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ، وَإِذَا هُمْ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فُرُشٌ، وَإِذَا فِيهِ ريح طيبَة. فَلَمَّا نظر هرون إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا فِيهِ أَعْجَبَهُ، قَالَ يَا مُوسَى: إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَنَامَ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ، قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ، قَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ، قَالَ لَهُ: لَا تَرْهَبْ أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ. قَالَ: يَا مُوسَى [بَلْ (1) ] نَمْ مَعِي فَإِنْ جَاءَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا. فَلَمَّا نَامَا أَخذ هرون الْمَوْتُ، فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعَتْنِي، فَلَمَّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ، وَرُفِعَ السَّرِيرُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ هرون قَالُوا إِن مُوسَى قتل هرون، وحسده على حب بني إِسْرَائِيل لَهُ، وَكَانَ هرون أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِك قَالَ لَهُم: (1) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَيْحَكُمْ! كَانَ أَخِي أَفَتَرُونِي أَقْتُلُهُ؟ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ السَّرِيرُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ثُمَّ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ إِذْ أَقْبَلَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ، فَالْتَزَمَ مُوسَى وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مُوسَى نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَاسْتَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدَيْ يُوشَعَ. فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَالُوا قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ. قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَدَعَا اللَّهَ فَأَتَى كُلُّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى، وَإِنَّا قَدْ رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا. فَتَرَكُوهُ. وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى إِلَّا مَاتَ وَلَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ. وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ مُوسَى، سِوَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَكَالِبَ بْنِ يُوفَنَّا، وَهُوَ زَوْجُ مَرْيَم أُخْت مُوسَى وهرون، وَهُمَا الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ، اللَّذَانِ أَشَارَا عَلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا، فَلَمْ يَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَنْضَرَ وَلَا أَبْهَجَ، فَقَالَ يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ: لِمَنْ تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ؟ فَقَالُوا: لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَرِيمٍ، فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 أَنْ تَكُونَ هَذَا الْعَبْدَ فَادْخُلْ هَذَا الْقَبْرَ، وَتَمَدَّدْ فِيهِ وَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّكَ، وَتَنَفَّسْ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَمَاتَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَدَفَنُوهُ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بن خَالِد وَيُونُس، قَالَا حَدثنَا حَمَّاد ابْن سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ يُونُسُ: رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا، قَالَ فَأَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَأَتَى رَبَّهُ فَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فَقَأَ عينى، وَلَوْلَا كرامته عَلَيْك لعتبت عَلَيْهِ وَقَالَ يُونُسُ، لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ - قَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى عبدى، وَقل (1) لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ أَوْ مَسْكِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: فَقَالَ: مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ. قَالَ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ ". قَالَ يُونُسُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، فرفعه [أَيْضا (2) ] .   (1) ا: فَقل لَهُ. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ذِكْرُ نُبُوَّةِ يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَام. هُوَ الْخَلِيل يُوشَع بن نون بْنِ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم السَّلَام، وَأهل الْكتاب يَقُولُونَ: يُوشَع ابْن عَمِّ هُودٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ (1) غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ كَمَا تقدم من قَوْله: " وَإِذ قَالَ مُوسَى لفتاه " " فَلَمَّا جاوزا قَالَ لفتاه " وَقَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهُمُ السَّامِرَةُ، لَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ [مُصدقا لما مَعَهم (2) ] [مِنْ رَبِّهِمْ (3) ] فَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيره من الْمُفَسّرين عَن مُحَمَّد بن إِسْحَق: مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ حُوِّلَتْ مِنْ مُوسَى إِلَى يُوشَعَ فِي آخِرِ عُمْرِ مُوسَى، فَكَانَ مُوسَى يَلْقَى يُوشَعَ فَيَسْأَلُهُ مَا أَحْدَثَ اللَّهُ [إِلَيْهِ (4) ] مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، حَتَّى قَالَ لَهُ: يَا كَلِيمَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يُوحى الله إِلَيْك حَتَّى تُخبرنِي   (1) ا: فِي الْكتاب (2) من ا (3) سَقَطت من ا (4) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 أَنْتَ ابْتِدَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ مُوسَى الْحَيَاةَ وَأَحَبَّ الْمَوْتَ. فَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ وَالْوَحْيُ وَالتَّشْرِيعُ وَالْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ من جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَمْ يَزَلْ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُدَلَّلًا وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّةِ فَقْئِهِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ يَعِيشُهَا، قَالَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ الْمَوْتُ، قَالَ فَالْآنَ يَا رَبِّ. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، وَقَدْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الَّذِي ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَق إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَفِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ: أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَزَلْ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى فِي كل حِين (1) يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ مُوسَى، كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ سِيَاقِ كِتَابِهِمْ عِنْدَ تَابُوتِ الشَّهَادَة فِي قبَّة الزَّمَان. وَلَقَد ذَكَرُوا فِي السَّفَرِ الثَّالِثِ: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى وهرون أَنْ يَعُدَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَسْبَاطِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَا عَلَى كُلِّ سِبْطٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا وَهُوَ النَّقِيبُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ، قِتَالِ الْجَبَّارِينَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَكَانَ هَذَا عِنْدَ اقْتِرَابِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي صُورَتِهِ تِلْكَ، وَلِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِأَمْرٍ كَانَ يَرْتَجِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَدَرِ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ، بَلْ فِي زَمَانِ [فَتَاهَ (2) ] يُوشَعَ بن نون عَلَيْهِ السَّلَام.   (1) : فِي كل أَمر. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَرَادَ غَزْوَ الرُّومِ بِالشَّامِ فَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ ثُمَّ رَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ إِلَى الشَّامِ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (1) " وَلَمَّا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ جَيْشَ أُسَامَةَ، تُوُفِّيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُسَامَةُ مُخَيِّمٌ بِالْجَرْفِ، فَنَفَّذَهُ صَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ لَمَّا لَمَّ شَعَثَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا كَانَ دهى مِنْ أَمْرِ أَهْلِهَا، وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، جَهَّزَ الْجُيُوشَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً إِلَى الْعِرَاقِ أَصْحَابِ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِلَى الشَّامِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ وَمَكَّنَ لَهُمْ وبهم، وملكهم نواصي أعدائهم. وَهَكَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُجَنِّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ نُقَبَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وأقرضتم الله قرضا حسنا لاكفرن عَنْكُم سيأتكم، وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل (2) " يَقُولُ لَهُمْ: لَئِنْ قُمْتُمْ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَنْكِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا نَكَلْتُمْ أَوَّلَ مرّة، لاجعلن ثَوَاب هَذِه   (1) سُورَة التَّوْبَة 29 (2) سُورَة الْمَائِدَة 12 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 مكفرا (1) لِمَا وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِ تِلْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَةِ " قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (2) ". وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: " فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ". ثمَّ ذمهم تَعَالَى عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ وَنَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَهُمْ كَمَا ذَمَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكْتُبَ أَسْمَاءَ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ يَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ مِمَّنْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا مِنْهُمْ. السِّبْطُ الْأَوَّلُ: سِبْطُ رُوبِيلَ لِأَنَّهُ بِكْرُ يَعْقُوبَ، وَكَانَ عِدَّةُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، ولقيهم مِنْهُم وَهُوَ اليصور بن شديئور (3) . السِّبْطُ الثَّانِي: سِبْطُ شَمْعُونَ، وَكَانُوا تِسْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ شَلُومِيئِيلُ بْنُ هُورِيشَدَّاي (4) ، السِّبْطُ الثَّالِثُ: سِبْطُ يَهُوذَا، وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا وسِتمِائَة، ونقيبهم نحشون بن عمينا ذاب. السِّبْطُ الرَّابِعُ سِبْطُ إِيسَّاخَرَ وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ ألفا وَأَرْبَعمِائَة ونقيبهم نشائيل بن صوعر (5) ، السِّبْطُ الْخَامِسُ: سِبْطُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ [السبط (5) ] السَّادِس:   (1) ا: كفر. (2) سُورَة الْفَتْح 16. (3) ا: النصون بن ساذون (4) ا: شاموال بن صور شدى (5) ا: صاعون. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 سِبْطُ مِيشَا - وَكَانُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ (1) ، وَنَقِيبَهُمْ جَمْلِيئِيلُ بْنُ فَدَهْصُورَ. السِّبْطُ السَّابِعُ: سِبْطُ بِنْيَامِينَ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أبيدن بن جد عون. السبط الثَّامِن: سبط حاد، وَكَانُوا خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَنَقِيبُهُمْ الْيَاسَافُ بْنُ رَعُوئِيلَ. السِّبْطُ التَّاسِعُ: سِبْطُ أَشِيرَ، وَكَانُوا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ فَجْعِيئِيلُ بْنُ عُكْرَنَ. السِّبْطُ الْعَاشِرُ: سِبْطُ دَانَ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَخِيعَزَرُ بن عمشداى (2) . السِّبْطُ الْحَادِي عَشَرَ: سِبْطُ نِفْتَالِي، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَلْبَابُ بْنُ حِيلُونَ هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ مِنْهُم (3) " بَنو لاوى " فقد أَمر اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَا يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ موكلون بِحمْل قبَّة الشَّهَادَة وضربها [وخزنها (4) ] ونصبها وَحملهَا إِذا ارتحلوا، وهم سبط مُوسَى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنِ ابْنِ شَهْرٍ فَمَا فَوْقُ ذَلِكَ، وَهُمْ فِي أنفسهم قبائل من (5) كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ مِنْ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَحْرُسُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا وَيَقُومُونَ بِمَصَالِحِهَا وَنَصْبِهَا وَحَمْلِهَا، وَهُمْ كُلُّهُمْ حولهَا، ينزلون ويرتحلون أمامها ويمنتها وَشِمَالَهَا وَوَرَاءَهَا. وَجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ غَيْرَ بَنِي لَاوِي خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ. لَكِنْ قَالُوا: فَكَانَ عدد بني إِسْرَائِيل   (1) ا: أَرْبَعمِائَة (2) ا: عميشذى. (3) ا: فيهم. (4) من ا (5) ط: عهد إِلَى كل قَبيلَة طَائِفَة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 مِمَّنْ عُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، مِمَّنْ حَمَلَ السِّلَاحَ، سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسمِائة وَخَمْسَة وَخَمْسِينَ رَجُلًا، سِوَى بَنِي لَاوِي. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنْ كَانَتْ كَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِهِمْ، لَا تُطَابِقُ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَانَ بَنُو لَاوِي الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَسِيرُونَ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمُ الْقَلْبُ، وَرَأْسُ الْمَيْمَنَةِ بَنُو روبيل، وَرَأس الميسرة بَنو دَان وَبَنُو نِفْتَالِي (1) يَكُونُونَ سَاقَةً. وَقَرَّرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ - الْكِهَانَةَ فِي بنى هرون، كَمَا كَانَتْ لِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَهُمْ: نَادَابُ وَهُوَ بِكْرُهُ، وَأَبِيهُو وَالْعَازَرُ، وَيَثْمَرُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ نكل عَن دُخُول مَدِينَة الجبارين لذين قَالُوا: " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " قَالَهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ، وَرَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ من عُلَمَاء السّلف وَالْخلف: وَمَات مُوسَى وهرون قَبْلَهُ كِلَاهُمَا فِي التِّيهِ جَمِيعًا. وَقَدْ زَعَمَ ابْن إِسْحَق أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ مُوسَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ. وَذَكَرَ فِي مُرُورِهِ إِلَيْهَا قِصَّةَ بِلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ   (1) ا: وَبَنُو ثالى يلفون. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 يَلْهَثْ: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ (1) " وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّهُ كَانَ - فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ - يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى وَقَومه - فَامْتنعَ عَلَيْهِم، وَلما أَلَحُّوا عَلَيْهِ رَكِبَ حِمَارَةً لَهُ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مُعَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَبَضَتْ بِهِ حِمَارَتُهُ فَضَرَبَهَا حَتَّى قَامَتْ، فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَقَامَتْ ثُمَّ رَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ لَهُ يَا بِلْعَامُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي تَرُدُّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا؟ أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَيْهِمْ؟ فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا، فَضَرَبَهَا حَتَّى سَارَتْ بِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَأْسِ جَبَلِ " حُسْبَانَ " وَنَظَرَ إِلَى مُعَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ لِسَانُهُ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، وَيَدْعُو عَلَى قَوْمِ نَفْسِهِ، فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا هَذَا، وَانْدَلَعَ (2) لِسَانُهُ حَتَّى وَقع على صَدره، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: قد ذهبت الْآن مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةِ. ثُمَّ أَمَرَ قَوْمَهُ أَنْ يُزَيِّنُوا النِّسَاءَ وَيَبْعَثُوهُنَّ بِالْأَمْتِعَةِ يَبِعْنَ عَلَيْهِمْ وَيَتَعَرَّضْنَ لَهُمْ لَعَلَّهُم يقعون فِي الزِّنَا، فَإِنَّهُ مَتَى زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ، فَفَعَلُوا وَزَيَّنُوا نِسَاءَهُمْ وَبَعَثُوهُنَّ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، فَمَرَّتِ (3) امْرَأَةٌ مِنْهُم اسْمهَا " كسبتي " بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ " زِمْرِيُّ بْنُ شَلُومَ " يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ رَأْسَ سِبْطِ بَنِي شَمْعُونَ [بْنِ يَعْقُوبَ (3) ] فَدَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ، فَلَمَّا خلابها   (1) الْآيَات: 175 - 177 من سُورَة الاعراف. (2) ط: واندفع. (3) ا: حَتَّى مرت (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 أَرْسَلَ اللَّهُ الطَّاعُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلَ يَجُوسُ فِيهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى " فِنْحَاصَ " بن الْعيزَار بن هرون، أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا الْقُبَّةَ فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا عَلَى النَّاسِ وَالْحَرْبَةِ فِي يَدِهِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَأَسْنَدَهَا إِلَى لِحْيَتِهِ، وَرَفْعَهُمَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ، وَرَفَعَ الطَّاعُونَ. فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَكَانَ فِنْحَاصُ بِكْرَ أَبِيهِ الْعَيْزَارِ بن هرون، فَلِهَذَا يَجْعَلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِوَلَدِ فِنْحَاصَ مِنَ الذَّبِيحَة اللبة (1) وَالذِّرَاعَ وَاللَّحْيَ، وَلَهُمُ الْبِكْرُ مِنْ [كُلِّ (2) ] أَمْوَالِهِمْ وأنفسها. وَهَذَا الَّذِي ذكره ابْن إِسْحَق من قصَّة بلعام صَحِيح، وَقد ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى دُخُولَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ ابْن إِسْحَاق، وَلكنه غير مَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّاقِلِينَ عَنْهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَصِّ التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ لِبَعْضِ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى كَانَتْ فِي خِلَالِ سَيْرِهِمْ فِي التِّيهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرَ " حُسْبَانَ " وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ هَذَا الْجَيْش مُوسَى الَّذِينَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حِينَ خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ قَاصِدًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّدِّيَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى كل تَقْدِير فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَن هرون توفى بالتيه قبل مُوسَى   (1) ا: الْقبَّة وط: اللَّيْلَة. محرفة. (2) لَيست فِي ا. (3) ط: جعل عَلَيْهِم لَهَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 أَخِيهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَنَتَيْنِ، وَبَعْدَهُ مُوسَى فِي التِّيهِ أَيْضًا، كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَنَّهُ سَأَلَ [رَبَّهُ (2) ] أَن يقربهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. فَكَانَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ، وَقَصَدَ بِهِمْ بَيت الْمُقَدّس، هُوَ يُوشَع ابْن نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ، أَنَّهُ قَطَعَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَهْرَ الْأُرْدُنِّ وَانْتَهَى إِلَى أَرِيحَا، وَكَانَتْ مَنْ أَحْصَنِ الْمَدَائِنَ سُورًا وَأَعْلَاهَا قُصُورًا، وَأَكْثَرِهَا أَهْلًا، فَحَاصَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهَا يَوْمًا وَضَرَبُوا بِالْقُرُونِ - يَعْنِي الْأَبْوَاقَ - وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَتَفَسَّخَ سُورُهَا وَسَقَطَ وَجْبَةً وَاحِدَةً، فَدَخَلُوهَا وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا فِيهَا مِنَ الْغَنَائِمِ، وَقَتَلُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَحَارَبُوا مُلُوكًا كَثِيرَةً وَيُقَالُ إِنَّ يُوشَعَ ظَهَرَ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ. وَذكروا أَنه انْتهى محاصرته إِلَى يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ تَغْرُبُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ الَّذِي جُعِلَ عَلَيْهِمْ وَشُرِعَ لَهُمْ ذَلِكَ الزَّمَانَ، قَالَ لَهَا إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ الْقَمَرَ فَوَقَفَ عِنْدَ الطُّلُوعِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ كَانَتِ اللَّيْلَة الرَّابِعَة عشر من الشَّهْر الاول وَهُوَ قِصَّةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ. وَأَمَّا قِصَّةُ الْقَمَرِ فَمِنْ عِنْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ بَلْ فِيهِ زِيَادَةٌ تُسْتَفَادُ فَلَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ. وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ هَذَا فِي فَتْحِ أَرِيحَا فِيهِ نَظَرٌ، ولاشبه - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَفَتْحُ أَرِيحَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ " انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا مُوسَى، وَأَنَّ حَبْسَ الشَّمْسِ كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا أَرِيحَا كَمَا قُلْنَا. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ: أَنَّ الشَّمْسَ رَجَعَتْ حَتَّى صَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [صَلَاةَ (1) ] الْعَصْرِ، بَعْدَ مَا فَاتَتْهُ بِسَبَبِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِهِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّهَا الله عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ فَرَجَعَتْ. وَقَدْ صَحَّحَهُ أَحْمد (2) ابْن أبي صَالح الْمصْرِيّ وَلكنه لَيْسَ فِي شئ من الصِّحَاح وَلَا الحسان، وَهُوَ مِمَّا تتوافر الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَتَفَرَّدَتْ بِنَقْلِهِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مَجْهُولَةٌ لَا يُعْرَفُ حَالُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ [قَدْ () ] مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ، وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمْ يَرْفَعْ سقفها، وَلَا آخر قد شترى غنما أَو خلفات (3) وَهُوَ ينْتَظر (4) أَوْلَادهَا.   (1) لَيست فِي ا. (2) المطبوعة: عَليّ بن أبي صَالح. وَهُوَ خطأ، صَوَابه من ا. (3) الخلفات: النوق الْحَوَامِل. (4) وَهُوَ منتظر , (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 [قَالَ (1) ] : فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ. اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا. فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ، قَالَ: فَجمعُوا مَا غنموا، فَأَتَت النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ، فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ؟ ؟، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ فليبايعني قبيلتك، فَبَايَعته قبيلته، قَالَ فلصقت بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ أَنْتُم غللتم. [قَالَ (1) :] فَأَخْرَجُوا [لَهُ (1) ] مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَوَضَعُوهُ بِالْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ، فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا ". انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقد روى الْبَزَّار من طَرِيق مبارك ابْن فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. قَالَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهِمْ بَابَ الْمَدِينَةِ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا سُجَّدًا أَيْ رُكَّعًا مُتَوَاضِعِينَ شَاكِرِينَ لله عزوجل عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ، الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعْدَهُمْ إِيَّاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا حَالَ دُخُولِهِمْ: " حِطَّةٌ " أَيْ حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا الَّتِي سَلَفَتْ، مِنْ نُكُولِنَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَّا. وَلِهَذَا [لَمَّا (1) ] دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْم فتحهَا،   (1) لَيست فِي ا (*) (14 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 دَخَلَهَا وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ، وَهُوَ مُتَوَاضِعٌ حَامِدٌ شَاكر، حَتَّى إِن عثنونه - طَرَفُ لِحْيَتِهِ - لَيَمَسُّ مَوْرِكَ (1) رَحْلِهِ، مِمَّا يُطَأْطِئُ رَأسه خضعانا لله عزوجل وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْجُيُوشُ مِمَّنْ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الحدق، وَلَا سِيَّمَا الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ لَمَّا دَخَلَهَا اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَهِيَ صَلَاةُ الشُّكْرِ على النَّصْر، على الْمَشْهُور (2) من قَول الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ إِنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، وَمَا حَمَلَ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَقْتَ الضُّحَى. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خالفوا مَا أمروا بِهِ قولا وفعلا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أسْتَاهِهِمْ [وَهُمْ (3) ] يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ: حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ " وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ (4) ". وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مُخَاطِبًا لَهُمْ: " وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يفسقون ".   (1) المورك. (2) ا: على الْمَنْصُوص. (3) من ا. (4) افي شعيرَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وادخلوا الْبَاب سجدا " قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَن ابْن إِسْحَق عَن الْبَراء. قَالَ مُجَاهِد والسدى وَالضَّحَّاك: وَالْبَاب هُوَ بَابُ حِطَّةٍ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ، فَإِنَّهُم دخلُوا يزحفون وهم مقنعوا رؤوسهم. وَقَوله: " وَقُولُوا حطة " الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، أَيِ ادْخُلُوا سُجَّدًا فِي حَالِ قَوْلِكُمْ حِطَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: " ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حطة نغفر لكم خطاياكم " فبدلوا فَدَخَلُوا يزحفون على أستاههم وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِبَعْضِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ مَوْقُوفًا. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 لبني إسرئيل: " ادخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ " فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ تَبْدِيلُهُمْ كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كِيسَانَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمَّنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ " وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: " فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم " قَالَ قَالُوا " هطى سقاثا أزمة مزيا (1) " فَهِيَ فِي الْعَرَبيَّة: " حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ " وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ، بِإِرْسَالِ الرِّجْزِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الطَّاعُونُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (2) مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ أَوِ السَّقَمَ رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ". وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَهَذَا لَفظه من حَدِيث الثَّوْريّ عَن   (1) ا: " هطى سمقانا " أدنه بزنا " (2) ا: فِي الصَّحِيح. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 حبيب بن أبي ثَابت، عَن إِبْرَاهِيم عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّاعُونُ رِجْزُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرِّجْزُ الْعَذَابُ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مَالِكٍ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ الْغَضَبُ، وَقَالَ الشّعبِيّ: لرجز إِمَّا الطَّاعُونُ وَإِمَّا الْبَرْدُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الطَّاعُونُ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَمَرُّوا فِيهِ، وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ يُوشَعُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ ابْن مائَة وَسبع وَعشْرين سنة، فَكَانَت مُدَّةُ حَيَّاتِهِ بَعْدَ مُوسَى سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 ذكر قصتي الْخضر والياس عَلَيْهِمَا السَّلَام أَمَّا الْخَضِرُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَحَلَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ [اللَّدُنِّيِّ (1) ] ، وَقَصَّ اللَّهُ [مِنْ (1) ] خَبَرِهِمَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَوْرَدْنَا هُنَا ذِكْرَ الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِذِكْرِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ الَّذِي رَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَضِرِ، فِي اسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، وَنُبُوَّتِهِ، وَحَيَاتِهِ إِلَى الْآنَ - عَلَى أَقْوَالٍ - سَأَذْكُرُهَا لَكَ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: يُقَالُ إِنَّهُ الْخَضِرُ بْنُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصُلْبِهِ، ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الله الرُّومِي، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَغَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السِّجِسْتَانِيُّ: سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: إِنَّ أَطْوَلَ بَنِي آدَمَ عُمْرًا الْخَضِرُ، وَاسْمَهُ خَضْرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ. قَالَ: وَذكر ابْن إِسْحَق: أَنَّ آدَمَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) ] لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 أَخْبَرَ بَنِيهِ أَنَّ الطُّوفَانَ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ، وَأَوْصَاهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلُوا جَسَدَهُ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَة، وَأَن يدفنوه [مَعَهم (1) ] فِي مَكَانٍ عَيَّنَهُ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا هَبَطُوا إِلَى الْأَرْضِ أَمَرَ نُوحٌ بَنِيهِ أَنْ يَذْهَبُوا بِبَدَنِهِ فَيَدْفِنُوهُ حَيْثُ أَوْصَى. فَقَالُوا إِنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ وَعَلَيْهَا وَحْشَةٌ، فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ إِنَّ آدَمَ دَعَا لِمَنْ يَلِي دَفْنَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَهَابُوا الْمَسِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى كَانَ الْخَضِرُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ، وَأَنْجَزَ الله مَا وعده، فَهُوَ يحيا إِلَى مَا شَاءَ الله لَهُ أَن يحيا. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ اسْمَ الْخَضِرِ " بَلْيَا " وَيُقَالُ بليا بن ملكان ابْن فالغ بن عَامر؟ ؟ بن شالخ بن أرفخشد ابْن سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: اسْمُ الْخَضِرِ - فِيمَا بَلَغْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْمُعَمَّرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ خضرون (2) ابْن عمياييل بن اليفز بن الْعيص بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ هُوَ أَرَمَيَا بْنُ حَلْقِيَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ ابْنَ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مُوسَى مَلِكِ مِصْرَ. وَهَذَا غَرِيبٌ جدا. قَالَ ابْن الجوزى: رَوَاهُ مُحَمَّد ابْن أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ أَخُو إِلْيَاسَ، قَالَهُ السدى كَمَا سَيَأْتِي. وَقيل   (1) من ا. (2) ا: خضروان. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقِيلَ كَانَ ابْنَ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهَاجَرَ مَعَهُ. وَقِيلَ كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ بشتاسب بن بهراسب. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي زمن أفريدون بن اثفيان حَتَّى أدْركهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: الْخَضِرُ أُمُّهُ رُومِيَّةٌ وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ. [وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ فِرْعَوْنَ أَيْضًا. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَيْلُهُ أُسَرِيَ بِهِ وَجَدَ رَائِحَةً طَيِّبَةً، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا. وَقَالَ: وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخضر كَانَ من أشرف بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَطَّلَعَ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ فَعَلَّمَهُ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَن لَا تعلم أحد، وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ ثُمَّ طَلَّقَهَا. ثُمَّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِأُخْرَى فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا وَأَفْشَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى. فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ، فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ فَرَأَيَاهُ فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا وَأَفْشَى عَلَيْهِ الْآخَرُ. قَالَ قد رَأَيْت الْخضر (1) ، قيل وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ؟ قَالَ فُلَانٌ، فَسُئِلَ فَكَتَمَ. وَكَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ، فَقتل،   (1) الاصل: الْعِزّ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ الْكَاتِمُ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ. قَالَ فَبَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ تَعِسَ فِرْعَوْنُ، فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا، وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ وَزَوْجٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا، فَأَبَيَا، فَقَالَ: إِنِّي قَاتِلُكُمَا، فَقَالَا: إِحْسَانٌ مِنْكَ إِلَيْنَا إِنْ أَنْتَ قَتَلَتْنَا أَنْ تَجْعَلَنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَجَعَلَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: وَمَا وَجَدْتُ رِيحًا أَطْيَبَ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ مَائِلَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا الْمُشْطُ فِي أَمْرِ الْخَضِرِ قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ] (1) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنْيَتُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَنَّ الْخَضِرَ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] (1) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءُ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الْفَرْوَةُ: الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ يَعْنِي الْهَشِيمَ الْيَابِسَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الْفَرْوَةُ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ شَبَّهَهُ بِالْفَرْوَةِ، وَمِنْهُ قِيلُ فَرْوَةُ الرَّأْسِ وَهِيَ جِلْدَتُهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ، كَمَا قَالَ الرَّاعِي:   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَلَقَدْ (1) تَرَى الْحَبَشِيَّ حَوْلَ بُيُوتِنَا * جَذِلًا إِذَا مَا نَالَ يَوْمًا مأ كلا صعلا (2) أصك كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ * بُذِرَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهُ فُلْفُلًا قَالَ الْخطابِيّ: [وَيُقَال (3) ] إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، قلت: وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (4) ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا، فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَوْلَى وَأَقْوَى، بَلْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا عَدَاهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيل بن حَفْص بن عمر الابلى: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ وَأَبُو جَزِيٍّ وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا لِأَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّتْ خَضْرَاءَ ". وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى وَيُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمَّا رَجَعَا يَقُصَّانِ الْأَثَرَ، وَجَدَاهُ عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ قَدْ جُعِلَ طَرَفَاهُ من تَحت رَأسه وقدميه، فَسلم مُوسَى (3) عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَرَدَّ، وَقَالَ: أَنَّى بِأَرْضِكِ السَّلَامُ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ أَنا مُوسَى. قَالَ:   (1) المطبوعة: وَقد. (2) االصعل: الدَّقِيق الرَّأْس والعنق. والاصك المضطرب الرُّكْبَتَيْنِ والعرقوبين. وَفِي المطبوعة: جَعدًا أصك. وَمَا أثْبته من ا (3) من ا (4) ا: فِي الحَدِيث (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 [نَبِي (1) ] بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ نَعَمْ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمَا. وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْقِصَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا علما ". الثَّانِي: قَوْلُ مُوسَى لَهُ: " هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شئ حَتَّى أحدث لَك مِنْهُ ذكرا ". فَلَوْ كَانَ وَلِيًّا وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ (2) لَمْ يُخَاطِبْهُ مُوسَى بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى مُوسَى هَذَا الرَّدَّ، بَلْ مُوسَى إِنَّمَا سَأَلَ صُحْبَتَهُ لِيَنَالَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَهُ. فَلَوْ كَانَ غَيْرَ نَبِيٍّ، لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا، وَلَمْ تَكُنْ لِمُوسَى - وَهُوَ نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَرَسُولٌ كَرِيمٌ وَاجِبُ الْعِصْمَةِ - كَبِيرُ رَغْبَةٍ وَلَا عَظِيمُ طَلِبَةٍ فِي عِلْمِ وَلِيٍّ غَيْرِ وَاجِبِ الْعِصْمَةِ، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ والتفتيش عَنهُ، وَلَوْ أَنَّهُ يَمْضِي حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ ثَمَانِينَ سَنَةً. ثُمَّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ تَوَاضَعَ لَهُ وَعَظَّمَهُ، وَاتَّبَعَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفِيدٍ مِنْهُ فَدلَّ (3) عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ خُصَّ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ وَالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ بِمَا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى الْكَلِيمَ، نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَرِيمَ. وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ الرُّمَّانِيُّ (3) عَلَى نُبُوَّةِ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام.   (1) من ا. (2) ا: وَلم يكن بِنَبِي. (3) ا: دلّ. (4) ا: البلقاني. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَضِرَ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ. وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَبُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى عِصْمَتِهِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النُّفُوسِ بِمُجَرَّدِ مَا يُلْقَى فِي خَلَدِهِ، لِأَنَّ خَاطِرَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْعِصْمَةِ، إِذْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَمَّا أَقْدَمَ الْخَضِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ إِذا بلغ يكفر، وَيحمل أَبَوَيْهِ على الْكفْر لشدَّة محبتها لَهُ فَيُتَابِعَانِهِ عَلَيْهِ، فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرْبُو عَلَى بَقَاءِ مُهْجَتِهِ، صِيَانَةً لِأَبَوَيْهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَعُقُوبَتِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ طَرَقَ هَذَا الْمَسْلَكَ بِعَيْنِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَصَحَّحَهُ. وَحَكَى الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ أَيْضًا. الرَّابِع: أَنه لما فسر الْخضر تَأْوِيل الْأَفَاعِيلِ لِمُوسَى وَوَضَّحَ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَجَلَّى، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: " رَحْمَةً مِنْ رَبك وَمَا فعلته عَن أمرى " يَعْنِي مَا فَعَلَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، بَلْ [أَمر (1) ] أُمِرْتُ بِهِ وَأُوحِيَ إِلَيَّ فِيهِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ ولَايَته، بل وَلَا رسَالَته، كَمَا قَالَه آخَرُونَ. وَأما كَونه ملكا من الْمَلَائِكَة [فَقَوْل (1) ] غَرِيب جِدًّا، وَإِذَا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ - كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يبْق لمن قَالَ بولايته   (1) من: ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وَإِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأُمُورِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ، مُسْتَنَدٌ يَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ، وَلَا مُعْتَمَدٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي وُجُودِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ، قِيلَ لِأَنَّهُ دَفَنَ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الطُّوفَانِ فَنَالَتْهُ دَعْوَةُ أَبِيهِ آدَمَ بِطُولِ الْحَيَاةِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ فَحَيِيَ. وَذَكَرُوا أَخْبَارًا اسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى بَقَائِهِ إِلَى الْآنَ. وَسَنُورِدُهَا [مَعَ غَيْرِهَا (1) ] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِمُوسَى حِينَ: " قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صبرا " رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ كَثِيرَةٌ: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أنيأنا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو عبد الله الصفار، حَدثنَا أَبُو بكر بن أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَلْطِيُّ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُفَارِقَ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي، قَالَ: كُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضَرَّارًا، كُنْ بَشَّاشًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ، ارْجِعْ عَنِ اللَّجَاجَةِ وَلَا تَمْشِ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى زِيَادَةُ: وَلَا تَضْحَكْ إِلَّا مِنْ عَجَبٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ الْخَضِرُ: يَا مُوسَى إِنَّ النَّاسَ مُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ هُمُومِهِمْ بِهَا! وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْكَ طَاعَته.   (1) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر من طَرِيق زَكَرِيَّاء ابْن يحيى الْوَقَّاد - إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ - قَالَ قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ الثَّوْرِيُّ، قَالَ مُجَالِدٌ، قَالَ أَبُو الْوَدَّاكِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخطاب، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَالَ أخي مُوسَى يَا رب وَذكر كَلمته - فَأَتَاهُ الْخَضِرُ وَهُوَ فَتًى طَيِّبُ الرِّيحِ حَسَنُ بَيَاضِ الثِّيَابِ مُشَمِّرُهَا، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله يَا مُوسَى ابْن عِمْرَانَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. قَالَ مُوسَى: هُوَ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا أُحْصِي نِعَمَهُ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى: أُرِيدُ أَنْ تُوصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا بَعْدَكَ، فَقَالَ الْخُضَرُ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنَ الْمُسْتَمِعِ، فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَكَ إِذَا حَدَّثَتْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَاذَا تَحْشُو بِهِ وِعَاءَكَ، وَاعْزِفْ عَنِ (1) الدُّنْيَا وَأَنْبِذْهَا وَرَاءَكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ وَلَا لَكَ فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ، وَإِنَّمَا جعلت بلغَة للعباد والنزود مِنْهَا لِيَوْمِ الْمَعَادِ (2) وَرُضْ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ تَخْلُصْ مِنَ الْإِثْمِ. يَا مُوسَى تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ، [فَإِنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ، وَلَا تكن مكثارا للْعلم مهذارا (3) ] فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَنْطِقِ تَشِينُ الْعُلَمَاءَ وَتُبْدِي مَسَاوِئَ السخفاء. وَلَكِن عَلَيْك بالافتصاد، فَإِن ذَلِك من التَّوْفِيق والسداد   (1) المطبوعة: واغرف من الدُّنْيَا!. وَهُوَ تَحْرِيف (2) ا: للمعاد (3) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَأعْرض عَن الْجُهَّال وماطلهم، وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْحُكَمَاءِ وزين الْعلمَاء. وَإِذا شَتَمَكَ الْجَاهِلُ فَاسْكُتْ عَنْهُ حِلْمًا، وَجَانِبْهُ حَزْمًا، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جَهْلِهِ عَلَيْكَ وَسَبِّهِ إياك أَكثر وَأعظم. يَابْنَ عمرَان وَلَا ترى أَنَّكَ أُوتِيتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، فَإِنَّ الاندلاث (1) والتعسف من الاقتحام والتكلف. يَابْنَ عِمْرَانَ لَا تَفْتَحَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا غَلْقُهُ، وَلَا تُغْلِقَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا فَتحه. يَابْنَ عِمْرَانَ مَنْ لَا تَنْتَهِي مِنَ الدُّنْيَا نَهْمَتُهُ، وَلَا تَنْقَضِي مِنْهَا رغبته وَمَنْ يُحَقِّرُ حَالَهُ، وَيَتَّهِمُ اللَّهَ فِيمَا قَضَى لَهُ كَيْفَ يَكُونُ زَاهِدًا (2) ؟ هَلْ يَكُفُّ عَنِ الشَّهَوَاتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ؟ أَوْ يَنْفَعُهُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَاهُ؟ لِأَنَّ سَعْيَهُ إِلَى آخِرَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ. يَا مُوسَى تَعَلَّمْ مَا تَعَلَّمْتَ لِتَعْمَلَ بِهِ، وَلَا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَوَارُهُ، وَلِغَيْرِكَ نُورُهُ. يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوَى لِبَاسَكَ، وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلَامَكَ، وَاسْتَكْثِرْ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّكَ مُصِيبٌ (3) السَّيِّئَاتِ، وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ قَلْبَكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّكَ، وَاعْمَلْ خَيْرًا فَإِنَّكَ لَا بُدَّ عَامِلٌ سُوءًا، قَدْ وُعِظْتَ إِنْ حَفِظْتَ. قَالَ: فَتَوَلَّى الْخَضِرُ وَبَقِيَ مُوسَى مَحْزُونًا مَكْرُوبًا يَبْكِي. لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَأَظُنُّهُ من صَنْعَة زَكَرِيَّا بن يحيى الْوَقَّاد المصرى [وَقد (4) ] كَذَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ [مِنَ الْأَئِمَّةِ (2) ] وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر سكت عَنهُ.   (1) الاندلاث: الانصباب. (2) ا: عابدا (3) ا: تصيب (4) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِمْرَانَ الْكِنْدِيُّ، حَدثنَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد، عَن مُحَمَّد ابْن زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [لِأَصْحَابِهِ (1) ] " أَلَّا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْخَضِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مَكَاتَبٌ، فَقَالَ تَصَدَّقْ عَلَيَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ. فَقَالَ الْخَضِرُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَمر يكون، مَا عِنْدِي من شئ أُعْطِيكَهُ. فَقَالَ الْمِسْكِينُ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ لَمَا تَصَدَّقت عَليّ، فَإِنِّي نظرت إِلَى السَّمَاء فِي وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ الْبَرَكَةَ عِنْدَكَ. فَقَالَ الْخَضِرُ: آمَنت بِاللَّه مَا عِنْدِي شئ أُعْطِيكَهُ، إِلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي، فَقَالَ الْمِسْكِينُ: وَهَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَمَا إِنِّي لَا أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي، بِعْنِي. قَالَ فَقَدَّمَهُ إِلَى السُّوق فَبَاعَهُ بأربعمائة دِرْهَم، فَمَكثَ عِنْدِي المُشْتَرِي زَمَانا لَا يَسْتَعْمِلهُ فِي شئ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ [إِنَّمَا (2) ] ابْتَعْتَنِي الْتِمَاسَ خَيْرٍ فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ قَالَ: لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ، قَالَ: فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ. وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ. فَخَرَجَ الرجل لبَعض حاجاته ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الْحِجَارَةَ فِي سَاعَةٍ، فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ تُطِيقُهُ. ثُمَّ عُرِضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ، فَقَالَ إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِينًا فاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً   (1) لَيست فِي ا (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قَالَ فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: إِنِّي (1) أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، قَالَ لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ، قَالَ فَاضْرِبْ مِنَ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ. فَمضى الرجل لسفره، فَرجع وَقد شيد بِنَاؤُه. فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ مَا سَبِيلُكَ (2) وَمَا أَمْرُكَ؟ فَقَالَ سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ، وَالسُّؤَالُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ، سَأُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا؟. أَنَا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِهِ، سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَة فَلم يكن عِنْدِي من شئ أُعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي، فَبَاعَنِي. وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ اللَّهِ فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ، وَقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جِلْدُهُ لَا لَحْمَ لَهُ وَلَا عَظْمَ يَتَقَعْقَعُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، شَقَقْتُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَلَمْ أَعْلَمْ! فَقَالَ (3) لَا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ. فَقَالَ الرَّجُلُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، أَوْ أُخَيِّرُكَ فَأُخَلِّي سَبِيلَكَ، فَقَالَ أُحِبُّ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي، فَأَعْبُدُ رَبِّي، فَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَقَالَ الْخَضِرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنْهَا. وَهَذَا حَدِيثٌ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَفِي رِجَالِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " عُجَالَةِ الْمُنْتَظِرِ فِي شَرْحِ حَالِ الْخَضِرِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّاب ابْن الضَّحَّاك، وَهُوَ مَتْرُوك، عَن بَقِيَّة.   (1) ط: فَإِنِّي (2) ا: مَا سببك (3) ا: قَالَ (*) (15 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَقد روى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَاد إِلَى السُّدِّيُّ: أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ كَانَا أَخَوَيْنِ، وَكَانَ أَبُوهُمَا مَلِكًا، فَقَالَ إِلْيَاسُ لِأَبِيهِ: إِنَّ أَخِي الْخَضِرَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي الْمُلْكِ، فَلَو أَنَّك زَوجته لَعَلَّه يجِئ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُ، فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِكْرٍ، فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، فَإِنْ شِئْتِ أَطْلَقْتُ سَرَاحَكِ، وَإِنْ شِئْتِ أَقَمْتِ مَعِي تَعْبُدِينَ الله عزوجل وَتَكْتُمِينَ عَلَى سِرِّي. فَقَالَتْ نَعَمْ، وَأَقَامَتْ مَعَهُ سَنَةً. فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ دَعَاهَا الْمَلِكُ، فَقَالَ إِنَّكِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ فَأَيْنَ الْوَلَدُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْوَلَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَأَمَرَهُ أَبوهُ فَطلقهَا وزوجه بِأُخْرَى ثَيِّبًا قَدْ وُلِدَ لَهَا، فَلَمَّا زُفَّتْ إِلَيْهِ قَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَأَجَابَتْ إِلَى الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ. فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ سَأَلَهَا الْمَلِكُ عَنِ الْوَلَدِ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَكَ لَا حَاجَة لَهُ بِالنسَاء، فَتَطَلَّبَهُ أَبُوهُ فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. فَيُقَالُ إِنَّهُ قَتَلَ الْمَرْأَةَ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِهَا أَفْشَتْ سِرَّهُ، فَهَرَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَ الْأُخْرَى. فَأَقَامَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ يَوْمًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهُ أَنَّى لَكَ هَذَا الِاسْمُ؟ فَقَالَ إِنِّي مِنْ أَصْحَابِ الْخَضِرِ، فَتَزَوَّجَتْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا. ثُمَّ صَارَ مِنْ أَمْرِهَا أَنْ صَارَتْ مَاشِطَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُمَشِّطُهَا إِذْ وَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ فَقَالَتْ: لَا، رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أَبِيك الله. فأعلمت أَبَاهَا فَأمر بنقرة مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَأُلْقِيَتْ فِيهَا. فَلَمَّا عَايَنَتْ ذَلِكَ تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا ابْنٌ مَعَهَا صَغِيرٌ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ فَمَاتَتْ، رَحِمَهَا اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى نُفَيْعٍ - وَهُوَ كَذَّابٌ وَضَّاعٌ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - وَهُوَ كَذَّابٌ أَيْضًا - عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ الْخَضِرَ جَاءَ لَيْلَةً فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مَا يُنَجِّينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي، وَارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّالِحِينَ إِلَى مَا شوقتهم إِلَيْهِ ". فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ قُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا فَضَّلَ [شَهْرَ (1) ] رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَفَضَّلَ أُمَّتَكَ عَلَى الْأُمَمِ كَمَا فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ " الْحَدِيثَ. وَهُوَ مَكْذُوبٌ لَا يَصح سندا وَلَا متْنا، فَكف لَا يَتَمَثَّلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ويجئ بِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا وَمُتَعَلِّمًا؟ ! وَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي حِكَايَاتِهِمْ وَمَا يُسْنِدُونَهُ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ: أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِي إِلَيْهِمْ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَمَحَالَّهُمْ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يَعْرِفُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمَ اللَّهِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، حَتَّى يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادَى، بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ سَقِيمُ الْمَتْنِ، يَتَبَيَّنُ فِيهِ أَثَرُ الصَّنْعَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ قَائِلا: أَنْبَأَنَا (2) أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بكر ابْن بَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالك   (1) لَيست فِي ا (2) ط: أخبرنَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَبَكَوْا حَوْلَهُ وَاجْتَمَعُوا. فَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ جَسِيمٌ صَبِيحٌ فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَبَكَى. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِن فِي الله عزاء من كل مُصِيبَة، وَعِوَضًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالك، فَإلَى الله فأنيبوا وَإِلَيْهِ فارغبوا، وَقد نظر إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ لم يجْبر، وَانْصَرف. فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أتعرفون الرجل؟ فَقَالَ أَبُو بكر وَعلي: نعم، هُوَ أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ بِهِ. وَفِي مَتْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ ضَعِيفٌ فَهَذَا مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ. قُلْتُ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ هَذَا هُوَ ابْن معمر الْبَصْرِيّ، وروى عَنْ أَنَسٍ نُسْخَةً، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعُقَيْلِيُّ: أَكْثَرُهَا مَوْضُوعٌ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا مُنْكَرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ غَالٍ فِي التَّشَيُّعِ. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي مُسْنده: أَنبأَنَا (1) الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ جَعْفَر ابْن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده على عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَت التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا،   (1) ط: أخبرنَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَتُدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا الْخَضِرُ. شَيْخُ الشَّافِعِيِّ الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: يَكْذِبُ. زَادَ أَحْمَدُ: وَيَضَعُ الْحَدِيثَ. ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ وَمَثَلُهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ هَاهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْن الْمُنْكَدِرِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى جَنَازَةٍ إِذْ سَمِعَ هَاتِفًا وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَسْبِقْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَانْتَظَرَهُ حَتَّى لَحِقَ بِالصَّفِّ، فَذَكَرَ دُعَاءَهُ لِلْمَيِّتِ: إِنْ تُعَذِّبْهُ فَكَثِيرًا عَصَاكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُ فَفَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ. وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: طُوبَى لَكَ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَرِيفًا أَوْ جَابِيًا أَوْ خَازِنًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ شُرْطِيًّا. فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا الرَّجُلَ نَسْأَلْهُ عَنْ صَلَاتِهِ وَكَلَامِهِ عَمَّنْ هُوَ؟ [قَالَ (1) ] فَتَوَارَى عَنْهُمْ، فَنَظَرُوا فَإِذَا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ الْخَضِرُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ مُبْهَمٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَلَا يَصِحُّ مَثَلُهُ. وَرَوَى الْحَافِظَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحَرَّرِ (2) عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: دَخَلْتُ الطَّوَافَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول: يَا من لَا يمنعهُ   (1) لَيست فِي ا. (2) ط: ابْن مُحرز. وَهُوَ تَحْرِيف صَوَابه من اوانظر ميزَان الِاعْتِدَال 2 / 500. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَيَا مَنْ لَا يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ وَلَا مَسْأَلَةُ السَّائِلِينَ - ارْزُقْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَ، فَقَالَ لي: أَو سمعته؟ قُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ لِي: وَالَّذِي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ - قَالَ: وَكَانَ هُوَ الْخَضِرَ - لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ خَلْفَ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ وَعَدَدِ النُّجُومِ، لَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحَرَّرِ، فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ وَللَّه أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَالك بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا صَالح ابْن أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: بَيْنَمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، إِذَا هُوَ بَرْجَلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا يُغْلِطُهُ السَّائِلُونَ، وَيَا مَنْ لَا يتبرم بإلحاح الملحين ارزقني بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعِدْ دُعَاءَكَ هَذَا قَالَ: أَو قد سَمِعْتَهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَادْعُ بِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَوَالَّذِي نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ لَو كَانَ عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ وَمَطَرِهَا، وَحَصْبَاءِ الْأَرْضِ وَتُرَابِهَا، لَغَفَرَ لَكَ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقد رَوَاهُ (1) ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا: حَدثنَا   (1) ط: وَقد أورد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْخَضِرُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِم ابْن الْحُصَيْنِ (1) أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَق المزكى، حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَق بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يزِيد أملاه عَلَيْنَا بِعَبَّادَانَ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ (2) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي الْمَوْسِمِ فَيَحْلِقُ كُلُّ [وَاحِدٍ (3) ] مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ، وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا الله مَا شَاءَ الله لَا يصرف السوء (4) إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ". قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَّ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، آمَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالسَّرَقِ. قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرُ هَذَا الشَّيْخِ [عَنْهُ (5) ] يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ رَزِينٍ هَذَا (6) . وَقَدْ روى عَن مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ.   (1) ا: ابْن الْحُسَيْن. (2) ط: ابْن زُرَيْق. وَهُوَ تَحْرِيف صَوَابه من ا. وَانْظُر ميزَان الِاعْتِدَال 1 / 490. (3) من ا. (4) ط: الشَّرّ. (5) لَيست فِي ا (6) ط: عَنهُ (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ: مَجْهُولٌ وَحَدِيثُهُ غير مَحْفُوظ. وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْمُنَادِي: هُوَ (1) حَدِيثٌ وَاهٍ بِالْحَسَنِ بْنِ رَزِينٍ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْجَهْضَمِيِّ - وَهُوَ كَذَّابٌ - عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْمَقْدِسِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا قَالَ: يَجْتَمِعُ كُلَّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ - جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَالْخَضِرُ وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا مَوْضُوعًا تَرَكْنَا إِيرَادَهُ قَصْدًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى الْخُشَنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ قَالَ: إلْيَاس وَالْخضر يصومان شهر رَمَضَان بِبَيْت الْمَقْدِسِ، وَيَحُجَّانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً [وَاحِدَةً (2) ] تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ - بَانِيَ جَامِعِ دِمَشْقَ - أَحَبَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ الْقَوَمَةَ أَنْ يُخْلُوهُ لَهُ فَفَعَلُوا، فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل جَاءَ فِي بَابِ السَّاعَاتِ فَدَخَلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْخَضْرَاءِ، فَقَالَ لِلْقَوَمَةِ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُخْلُوهُ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الْخضر يجِئ كل لَيْلَة يصلى هَاهُنَا. قَالَ ابْن عَسَاكِر أَيْضا: أَنبأَنَا أَبُو الْقَاسِم ابْن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد أَنبأَنَا أَبُو بكر بن الطَّبَرِيّ، أَنبأَنَا أَبُو الْحُسَيْن ابْن الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن   (1) ا: هَذَا حَدِيث. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ (1) عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ رَبَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يُمَاشِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعْتَمَدًا عَلَى يَدَيْهِ، فَقُلْتُ فِي نَفسِي: إِن هَذَا الرجل حاف، قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ - قُلْتُ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِكَ آنِفًا؟ قَالَ وَهل رَأَيْته يَا رَبَاح؟ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ بَشَّرَنِي أَنِّي سَأَلِي وَأَعْدِلُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، الرَّمْلِيُّ مَجْرُوحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قَدَحَ أَبُو الْحُسَيْن بن المنادى فِي ضَمرَة والسرى ورباح، ثمَّ أورد من طرق أخر عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالْخَضِرِ، وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَبِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَجَمَاعَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ. وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لَا يَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ، وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرهَا عَن ضعف الْإِسْنَادِ. وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَويلا عَن الدَّجَّال: وَقَالَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا: " يَأْتِي الدَّجَّالُ - وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ - فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِهِمْ، فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْك رَسُول الله   (1) ط: جَمْرَة. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِهِ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ لَا، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُول حِين يحيا: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً فِيكَ مِنِّي الْآنَ. قَالَ فَيُرِيدُ قَتْلَهُ الثَّانِيَةَ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ. قَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْعَلُ عَلَى حلقه صحيفَة مِنْ نُحَاسٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ الْخَضِرُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ ثُمَّ يُحْيِيهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ [بِهِ (1) ] . وَقَالَ أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْخَضِرُ، وَقَوْلُ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ: بَلَغَنِي - لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: فَيَأْتِي بِشَابٍّ مُمْتَلِئٍ شَبَابًا فَيَقْتُلُهُ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ، بَلْ يَكْفِي التَّوَاتُرُ. وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: " عُجَالَةُ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ " لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِك من المرفوعات فَبين أَنَّهَا مَوْضُوعَة، وَمن الْآثَار عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بَعْدَهُمْ فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَمِنْهُم البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو الْحُسَيْن بن المنادى وَالشَّيْخ أَبُو الْفرج ابْن الجوزى، وَقد انتصر لذَلِك   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَألف (1) فِيهِ كتابا أسماه " عُجَالَةَ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ " فَيَحْتَجُّ لَهُم بأَشْيَاء كَثِيرَة: مِنْهَا قَوْله: " وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد "، فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ بَشَرًا (2) فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ حَتَّى يثبت. وَلم يذكر فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ عَنْ مَعْصُومٍ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وأخذتم على ذَلِك إِصْرِي؟ قَالُوا أَقْرَرْنَا، قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ من الشَّاهِدين ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاق، لَئِن بعث مُحَمَّدًا وَهْمُ أَحْيَاءٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَشْرَفُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَدْ روى الامام أَحْمد فِي مُسْنده: حَدثنَا شُرَيْح بن النُّعْمَان، حَدثنَا   (1) ا: وصنف (2) ا: بشريا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 هَشِيمٌ، أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ". وَهَذَا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيَعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ [مُكَلَّفُونَ] (1) فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ، وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ. كَمَا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لما اجْتمع بهم (2) لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ. وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى (3) بِهِمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِذَا عُلِمَ هَذَا - وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ (4) مُؤْمِنٍ - عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ. هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا، وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْمَعْلُومُ (5) أَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يُنْقَلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمشَاهد   (1) لَيست فِي ا (2) ط: مَعَهم. (3) ا: فيصلى (4) ا: لكل مُؤمن. (5) ا: وَمَعْلُوم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا دَعَا بِهِ لرَبه عزوجل، وَاسْتَنْصَرَهُ وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: " اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ "، وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، فِي بَيْتٍ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ: وَبِبِئْرِ (1) بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ * جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا، لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ: هَلْ مَاتَ؟ فَقَالَ نَعَمْ. قَالَ وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْغُبَارِيِّ قَالَ: وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي العجالة. فَإِن قيل: فَهَل (2) يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يلْزم مِنْهُ تَخْصِيص العموميات بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ. ثُمَّ مَا الْحَامِلُ (3) لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ؟ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ وَأَعْلَى فِي مَرْتَبَتِهِ وَأَظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ؟ ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ، لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   (1) اومعلوم. (2) المطبوعة: وثبير. وَهُوَ تَحْرِيف (3) ا: فَهَلا. (4) ا: الْحَاصِل. محرفة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ، وَإِنْكَارُهُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الْمَقْلُوبَةِ وَالْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ وَالْأَهْوَاءِ الْعَصَبِيَّةِ، وَقِتَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ وَشُهُودُهُ جُمُعَهُمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، وَنَفْعُهُ إِيَّاهُمْ وَدَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، وَتَسْدِيدُهُ الْعُلَمَاءَ وَالْحُكَّامَ، وَتَقْرِيرُهُ الادلة والاحكام، أفضل مِمَّا يُقَالُ عَنْهُ مِنْ كُنُونِهِ فِي الْأَمْصَارِ، وَجَوْبِهِ الْفَيَافِيَ وَالْأَقْطَارَ، وَاجْتِمَاعِهِ بِعُبَّادٍ لَا يُعْرَفُ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَجَعْلِهِ لَهُمْ كَالنَّقِيبِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ لَا يتَوَقَّف فِيهِ أحد فِيهِ بعد التفهيم، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَمن ذَلِك مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَيْلَةً الْعِشَاءَ ثُمَّ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّهُ إِلَى مِائَةٍ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَحَدٌ ". وَفِي رِوَايَةٍ " عَيْنٌ تَطْرِفُ ". قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهِلَ النَّاسُ (1) من مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ (2) قَرْنِهِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَة [صَلَاةَ] (3) الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ ". وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ.   (1) وهلوا: فزعو (2) الانخرام: الِانْقِطَاع. (3) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَوْ بِشَهْرٍ: " مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ - أَوْ مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ الْيَوْمَ مَنْفُوسَةٍ - يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ ". وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: " يَسْأَلُونَنِي عَنِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ: كُلٌّ مِنْهُمَا عَن جَابر بن عبد الله بن نَحوه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عباد، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ ". وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَقْطَعُ دَابِرَ دَعْوَى حَيَاةِ الْخَضِرِ. قَالُوا: فَالْخَضِرُ (1) إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ الْمَظْنُونُ الَّذِي يَتَرَقَّى فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْقَطْعِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ   (1) ا: وَالْخضر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لم يَعش بعد مِائَةَ سَنَةٍ، فَيَكُونُ الْآنَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَصَّصِ لَهُ حَتَّى يَثْبُتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ: " التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ " عَنِ البُخَارِيّ وَشَيْخه أبي بكر بن الْعَرَبِيِّ: أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ مَاتَ بَعْدَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِهَذَا وَأَنَّهُ بَقِيَ إِلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرٌ وَرَجَّحَ السُّهَيْلِيُّ بَقَاءَهُ، وَحَكَاهُ عَنِ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْزِيَتُهُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بَعْدَهُ فَمَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ضَعَّفْنَاهُ، وَلَمْ يُورِدْ أَسَانِيدَهَا وَالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 [وَأما] (1) إلْيَاس عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى وهرون مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: " وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إلياسين * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤمنِينَ (2) ". قَالَ عُلَمَاء النّسَب هُوَ: إلْيَاس النشبى، وَيُقَال: ابْن ياسين بن فنحَاص بن الْعيزَار بن هرون. وَقيل: إلْيَاس بن العازر بن الْعيزَار ابْن هَارُون بن عمرَان. قَالُوا وَكَانَ إرْسَاله إِلَى أهل بعلبك غربي دمشق، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله عزوجل وَأَن يتْركُوا عبَادَة صنم لَهُم كَانُوا يسمونه " بعلا ". وَقيل كَانَت امْرَأَة اسْمهَا " بعل " وَالله أعلم. [والاول أصح (2) ] وَلِهَذَا قَالَ لَهُم: " أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * الله ربكُم وَرب آبائكم الاولين ". فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ. فَيُقَالُ إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ وَاخْتَفَى عَنْهُمْ قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ كَعْب الاحبار أَنه قَالَ: إِن إلْيَاس اختفى مَنْ مَلِكِ قَوْمِهِ فِي الْغَارِ الَّذِي تَحْتَ الدَّم عشر سِنِين، حَتَّى أهلك الله   (1) من ا (2) الْآيَات، 123 - 132 (3) لَيست فِي ا (*) (16 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الْمَلِكَ وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَأَتَاهُ إِلْيَاسُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، وَأَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ غَيْرَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُمْ. فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ ابْن سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَةِ دِمَشْقَ قَالَ: أَقَامَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ فِي كَهْفِ جَبَلٍ عِشْرِينَ لَيْلَةً - أَوْ قَالَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً - تَأْتِيهِ الْغِرْبَانُ بِرِزْقِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَق، ثُمَّ يَعْقُوبُ ثُمَّ يُوسُفُ ثُمَّ لُوطٌ ثُمَّ هُودٌ ثُمَّ صَالِحٌ ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُون ابْنا عمرَان، ثمَّ إلْيَاس النشبى بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ قاهث بن لاوى بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. هَكَذَا قَالَ: وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ. وَقَالَ مَكْحُولٌ عَنْ كَعْبٍ: أَرْبَعَةُ (1) أَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ، اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ إِلْيَاسُ وَالْخضر، وَاثْنَانِ فِي السَّمَاء: إِدْرِيس وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُمَا يَحُجَّانِ كُلَّ سَنَةٍ وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَأَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ بِعَرَفَات كل سنة.   (1) ا: أَنْبيَاء أَرْبَعَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَبينا أَنه لم يَصح شئ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْخَضِرَ مَاتَ، وَكَذَلِكَ إِلْيَاسُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَمَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ لما دَعَا ربه عزوجل أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كذَّبُوهُ وَآذَوْهُ، فَجَاءَتْهُ دَابَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ النَّارِ فَرَكِبَهَا، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ رِيشًا وَأَلْبَسَهُ النُّورَ، وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَصَارَ مَلَكِيًّا بَشَرِيًّا سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا، وَأَوْصَى إِلَى الْيَسَعِ بْنِ أَخْطُوبَ، فَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ صِحَّتَهَا بَعِيدَةٌ، وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي [أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَعْدَانِيُّ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ سِنَانٍ] (1) حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَلَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرحومة المغفورة المتاب لَهَا قَالَ: فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي فَإِذَا رَجُلٌ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَقَالَ لِي من أَنْت؟ فَقلت: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قُلْتُ هوذا يسمع كلامك، قَالَ: فأته فأقرئه [مني (2) ] السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ (3) أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ. قَالَ: فَأتيت النَّبِي   (1) سَقَطت من ا. (2) من ا. (3) ا: إِن أَخَاك. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَجَاءَ حَتَّى لقِيه فعانقه وَسلم، ثمَّ قعدا يتحادثان فَقَالَ لَهُ: يارسول الله إِنِّي مَا آكل فِي السّنة إِلَّا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي (1) فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، عَلَيْهَا خُبْزٌ وَحُوتٌ وَكَرَفْسٌ، فَأَكَلَا وَأَطْعَمَانِي وَصَلَّيْنَا الْعَصْر، ثمَّ ودعه وَرَأَيْت مره فِي السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ: فَقَدْ كَفَانَا الْبَيْهَقِيُّ أَمْرَهُ، وَقَالَ: [هَذَا (1) ] حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدْرَكُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَدْرَكِ: فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ وَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ " وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِالسَّعْي إِلَى بَيْنِ يَدَيْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ كُلَّ سَنَةٍ شَرْبَةً تَكْفِيهِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ الْآخَرِ. وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا يَصح شئ مِنْهَا. وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ من طَرِيق أُخْرَى واعترف بضعفها   (1) ا: فطر. (2) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ، كَيْفَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ أوردهُ من طَرِيق حُسَيْن بْنِ عَرَفَةَ عَنْ هَانِئِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ عَن ابْن الْأَسْقَعِ، فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا مُطَوَّلًا. وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ (1) كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، قَالَا: فَإِذَا هُوَ أَعْلَى جِسْمًا [مِنَّا (2) ] بِذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة، وَاعْتذر بِعَدَمِ قدرته لِئَلَّا تَنْفِرَ الْإِبِلُ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَا مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ: إِنَّ لِي فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَةً، وَفِي الْمَائِدَةِ خُبْزٌ وَرُمَّانٌ وَعِنَبٌ وَمَوْزٌ وَرُطَبٌ وَبَقْلٌ، مَا عَدَّا الْكُرَّاثَ. وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنِ الْخَضِرِ فَقَالَ: عَهْدِي بِهِ عَامَ أَوَّلَ، وَقَالَ لِي: إِنَّكَ سَتَلْقَاهُ قَبْلِي فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ، بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا وَصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا لَا يَسُوغُ (3) شَرْعًا. وَهَذَا مَوْضُوعٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ طرفا فِيمَن اجْتمع إلْيَاس مِنَ الْعُبَّادِ، وَكُلُّهَا لَا يُفْرَحُ بِهَا، لِضَعْفِ إِسْنَادِهَا أَوْ لِجَهَالَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا. وَمِنْ أَحْسَنِهَا مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ، فَدَخَلْتُ حَائِطًا أُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ فَافْتَتَحْتُ: " حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ من الله الْعَزِيز   (1) ا: أَنه كَانَ (2) من ا. (3) ا: لَا يجوز. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ * ذِي الطول " فَإِذا رجل من خَلْفي على بغلة شهباء، عَلَيْهِ مقطعات يمنية فَقَالَ لي: إِذا قلت " غَافِر الذَّنب " فَقُلْ: يَا غَافِرَ الذَّنْبِ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَإِذَا قُلْتَ " قَابِلِ التَّوْبِ " فَقُلْ يَا قَابِلَ التَّوْبِ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَإِذَا قُلْتَ " شَدِيدِ الْعِقَابِ " فَقُلْ يَا شَدِيدَ الْعِقَابِ لَا تُعَاقِبْنِي، وَإِذَا قلت " ذِي الطول " فَقُلْ يَا ذَا الطَّوْلِ تَطَوَّلْ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا لَا أَحَدَ. وَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ: مَرَّ بِكُمْ رَجُلٌ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهِ مُقَطِّعَاتٌ يَمَنِيَّةٌ؟ فَقَالُوا: مَا مَرَّ بِنَا أَحَدٌ. فَكَانُوا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ إِلْيَاسُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَكَذبُوهُ فَإِنَّهُم لمحضرون " أَي للعذاب، إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أَو فِي الْآخِرَةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ والمؤرخون وَقَوله: " إِلَّا عباد الله المخلصين " أَيْ إِلَّا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين " أَيْ أَبْقَيْنَا بَعْدَهُ (1) ذِكْرًا حَسَنًا لَهُ فِي الْعَالَمِينَ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: " سَلام على إلياسين " [أَيْ سَلَامٌ عَلَى إِلْيَاسَ (2) ] وَالْعَرَبُ تُلْحِقُ النُّونَ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَتُبَدِّلُهَا مِنْ غَيْرِهَا كَمَا قَالُوا: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْمَاعِينُ [وَإِسْرَائِيلُ وإِسْرَائِينُ، وَإِلْيَاسُ وَإِلْيَاسِينُ] (2) وَقد قرئَ: سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ، أَيْ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ، وَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدَة ابْن رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَحَكَاهُ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيره كَمَا تقدم. وَالله أعلم.   (1) ا: أبقينا لَهُ. (2) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ وَأُمُورِ السَّالِفِينِ من أمتنَا وَغَيرهم أَن الْقَائِم بِأُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ يُوشَعَ كَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا، يَعْنِي أَحَدَ أَصْحَابِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ مَرْيَمَ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ مِمَّنْ يَخَافُونَ اللَّهَ، وَهُمَا يُوشَعُ وَكَالِبُ، وَهُمَا الْقَائِلَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ نَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ: " ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ الْقَائِم بِأُمُور بني إِسْرَائِيل حزقيل ابْن بُوذَى (2) وَهُوَ الَّذِي دَعَا اللَّهَ فَأَحْيَا الَّذِينَ أخرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت.   (1) كَذَا فِي اموافقا للطبري، وَفِي ا: نودى. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 قِصَّةُ حِزْقِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون ". قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ إِنَّ كَالِبَ بْنَ يُوفَنَّا لَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [بَعْدَ يُوشَعَ (1) ] خَلَفَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِزْقِيلَ بْنَ بُوذَى (2) وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا بَلَغَنَا. " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْت " قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ فَنَزَلُوا بِصَعِيدٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ السِّبَاعِ، فَمَضَتْ عَلَيْهِمْ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ مُتَفَكِّرًا فَقِيلَ لَهُ: أَتُحِبُّ أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَنْتَ تَنْظُرُ؟ فَقَالَ: نعم. فَأمر أَن يدعوا تِلْكَ الْعِظَامَ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَأَنْ يَتَّصِلَ الْعَصَبُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. فَنَادَاهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ (3) مِنَ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ. " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْت فَقَالَ لَهُم   (1) لَيست فِي ا. (2) كَذَا فِي اموافقا للطبري، وَفِي ا: نودى. (3) ا: نَاس ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 الله موتوا ثمَّ أحياهم " قَالُوا: كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ قِبَلَ وَاسِطَ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا فَهَلَكَ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ وَسَلِمَ الْآخَرُونَ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعُوا سَالِمِينَ فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ. فَوَقَعَ فِي قَابِلٍ، فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ، فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا. فَمَاتُوا حَتَّى إِذَا هَلَكُوا وَبَقِيَتْ أَجْسَادُهُمْ مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ وَيَلْوِي شِدْقَيْهِ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ [أَنَّهُ تَعَجَّبَ (1) ] مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: نَادِ. فَنَادَى: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي. فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ يَطِيرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. أَنْ نَادِ: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِي لَحْمًا [فَاكْتَسَتْ لَحْمًا (2) ] وَدَمًا وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ فِيهَا. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: نَادِ. فَنَادَى: أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي فَقَامُوا. قَالَ أَسْبَاطٌ: فَزَعَمَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنهم قَالُوا حِين أحيوا " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى، سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَاد رسما، حَتَّى مَاتُوا لآجالهم (3) الَّتِي كتبت لَهُم.   (1) لَيست فِي ا (2) ا: بآجالهم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَعَنْهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ تِسْعَةَ آلَافٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ أَذَرِعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: هَذَا مَثَلٌ. يَعْنِي أَنَّهُ سِيقَ مَثَلًا مُبَيِّنًا أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ! وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ [أَقْوَى (1) ] أَنَّ هَذَا وَقَعَ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الْحَارِث ابْن نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَة ابْن الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. يَعْنِي فِي مُشَاوَرَتِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا بِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ. فَحَمِدَ الله عمر ثمَّ انْصَرف. وَقَالَ الامام: حَدثنَا حجاج وَيزِيد الْمُفْتى قَالَا حَدثنَا ابْن أبي ذُؤَيْب (2) عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْن عَوْفٍ أَخْبَرَ عُمَرُ وَهُوَ فِي الشَّامِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا *   (1) لَيست فِي ا (2) ا: ابْن أبي ذِئْب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 السَّقَمَ عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ مِنَ الشَّامِ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (1) وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مُدَّةَ لُبْثِ حِزِقْيلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قُبِضَ نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ بَعْلٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِم إلْيَاس بن ياسين بن قنحاص ابْن الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّةَ إِلْيَاسَ تَبَعًا لِقِصَّةِ الْخَضِرِ لِأَنَّهُمَا يُقْرَنَانِ فِي الذِّكْرِ غَالِبًا، وَلِأَجْلِ أَنَّهَا بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فَتَعَجَّلْنَا قِصَّتَهُ لِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: ثُمَّ تَنَبَّأَ فِيهِمْ بَعْدَ إِلْيَاسَ وَصِّيُهُ اليسع بن أخطوب عَلَيْهِ السَّلَام. وَهَذِه:   (1) ا: قَالَ ابْن اسحق. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 قِصَّةُ الْيَسَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [فِي قَوْلِهِ (1) ] " وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا على الْعَالمين " وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: " وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسع وَذَا الكفل وكل من الاخيار " قَالَ ابْن إِسْحَق: حَدثنَا بِشْرٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ كَانَ بَعْدَ إِلْيَاسَ الْيَسَعُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ مُسْتَمْسِكًا بِمِنْهَاجِ إِلْيَاسَ وشريعته حَتَّى قَبضه الله عزوجل إِلَيْهِ ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمُ الْخُلُوفُ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْخَطَايَا وَكَثُرَتِ الْجَبَابِرَةُ وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَكَانَ فيهم ملك عَنِيدٌ طَاغٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ الَّذِي تَكَفَّلَ لَهُ ذوالكفل إِن هُوَ تَابَ وَرجع دَخَلَ الْجَنَّةَ فَسُمِّى ذَا الْكِفْلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِرَ فِي حَرْفِ الْيَاءِ مِنْ تَارِيخِهِ: الْيَسَعُ وَهُوَ الْأَسْبَاطُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ شُوتَلْمَ بْنِ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ عَمِّ إِلْيَاسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَيُقَالُ كَانَ مُسْتَخْفِيًا مَعَهُ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ مِنْ مَلِكِ بَعْلَبَكَّ ثُمَّ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا فَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ خَلَفَهُ اليسع فِي قومه ونبأه الله بعده.   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ [بْنِ سِنَانٍ (1) ] عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. قَالَ وَقَالَ غَيره وَكَانَ [الاسباط (2) ] ببانياش. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ اليسع بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد وَمن قَرَأَ والليسع وَهُوَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْتُ: قد قدمنَا قصَّة ذالكفل بعد قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ فَالله تَعَالَى أعلم. فَصْلٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ مَرَجَ أَمر بني إِسْرَائِيل وعظمت مِنْهُم (3) الخطوب وَالْخَطَايَا وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدَلَ الْأَنْبِيَاءِ مُلُوكًا جَبَّارِينَ يَظْلِمُونَهُمْ وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَهُمْ وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ مِنْ غَيرهم أَيْضا، وَكَانُوا إِذْ قَاتَلُوا أَحَدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ يَكُونُ مَعَهُمْ تَابُوتُ الْمِيثَاقِ الَّذِي كَانَ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ. كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. فَكَانُوا يُنْصَرُونَ بِبَرَكَتِهِ وَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِمْ مَعَ أَهْلِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ غَلَبُوهُمْ وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَخْذِهِ فَانْتَزَعُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مَلِكُ بَنَى إِسْرَائِيلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَان مَالَتْ عُنُقه فَمَاتَ كمدا.   (1) من ا (2) من ا (3) ا: وعظمت فيهم الاحداث. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَبَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَالْغَنَمِ بِلَا رَاعٍ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ لَهُ شَمْوِيلُ، فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ الْأَعْدَاءَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. قَالَ ابْن جرير: فَكَانَ من وَفَاةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَى أَنَّ بَعْثَ الله عزوجل شَمْوِيلَ بْنَ بَالَى أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا بِمُدَدِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مُلِّكُوا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا تَرَكْنَا ذِكْرَهُمْ قَصْدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قصَّة شمويل عَلَيْهِ السَّلَام وفيهَا بَدْء أَمر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ شَمْوِيلُ وَيُقَالُ أَشْمَوِيلُ بْنُ بَالَى بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ يَرْخَامَ بْنِ أَلْيَهْوَ بْنِ تَهْوِ بْنِ صُوفَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَاحِثَ بن عموصا بن عزريا. قَالَ مقَاتل: وَهُوَ من وَرَثَة هَارُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ أَشْمَوِيلُ بْنُ هَلْفَاقَا (1) وَلَمْ يَرْفَعْ فِي نَسَبِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. حَكَى السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالثَّعْلَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ مِنْ أَرْضِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَوْا مِنْ أَبْنَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى، فَجَعَلَتْ تَدْعُو اللَّهَ عزوجل أَنْ يَرْزُقَهَا وَلَدًا ذَكَرًا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ أَشْمَوِيلَ، وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ، أَيْ سَمْعِ اللَّهُ دُعَائِي. فَلَمَّا تَرَعْرَعَ بَعَثَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَسْلَمَتْهُ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ فِيهِ يَكُونُ عِنْدَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ خَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانَ عِنْدَهُ فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذَا صَوْتٌ يَأْتِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَانْتَبَهَ مَذْعُورًا فَظَنَّهُ الشَّيْخُ يَدْعُوهُ فَسَأَلَهُ: أَدَعَوْتَنِي؟ فَكَرِهَ أَنْ يفزعه فَقَالَ: نعم نم. فَنَامَ.   (1) ا: ابْن ملقاتا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَإِذَا جِبْرِيلُ يَدْعُوهُ. فَجَاءَهُ فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ قَدْ بَعَثَكَ إِلَى قَوْمِكَ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا؟ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا! فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا. قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ. قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. قَالَ الَّذِينَ يظنون أَنهم ملاقوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارض وَلَكِن الله ذوفضل على الْعَالمين ". قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ نَبِيُّ هَؤُلَاءِ [الْقَوْمِ (1) ] الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُوَ شَمْوِيلَ. وَقِيلَ شَمْعُونُ وَقِيلَ هُمَا وَاحِدٌ. وَقِيلَ يُوشَعُ، وَهَذَا بعيد لما ذكره الامام أَبُو جَعْفَر ابْن جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ بَيْنَ مَوْتِ يُوشَعَ وَبَعْثَةِ شَمْوِيلَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمَّا أَنْهَكَتْهُمُ الْحُرُوبُ وَقَهْرَهُمُ (2) الْأَعْدَاءُ سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُنَصِّبَ لَهُمْ مَلِكًا يَكُونُونَ تَحْتَ طَاعَتِهِ لِيُقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهِ وَمَعَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْدَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ: " هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا؟ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله " أَي وَأي شئ يَمْنَعُنَا مِنَ الْقِتَالِ " وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وأبنائنا " يَقُولُونَ نَحْنُ مَحْرُوبُونَ مَوْتُورُونَ، فَحَقِيقٌ لَنَا أَنْ نُقَاتِل عَن أَبْنَائِنَا المنهورين (3) الْمُسْتَضْعَفِينَ فيهم المأسورين فِي قبضتهم. قَالَ الله تَعَالَى: " فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عليم بالظالمين " كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَّا الْقَلِيلُ وَالْبَاقُونَ رجعُوا ونكلوا عَن الْقِتَال.   (1) لَيست فِي ا (2) ا. وقهرتهم (3) ا: المنهوبين. (*) (م 17 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 " وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا " قَالَ الثَّعْلَبِيّ وَهُوَ طالوت بن قيش بن أفيل (1) بن صارو (2) بن تحورت بن أفيح ابْن أَنِيسَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ سَقَّاءً! وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ دَبَّاغًا وَقيل غير ذَلِك. وَالله أَعْلَمُ. وَلِهَذَا " قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَة من المَال " وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي سِبْطِ لَاوِي وَأَنَّ الْمُلْكَ كَانَ فِي سِبْطِ يَهُوذَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ نَفَرُوا مِنْهُ وَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا نَحْنُ أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ و [قد (3) ] ذكرُوا أَنَّهُ فَقِيرٌ لَا سِعَةَ مِنَ الْمَالِ مَعَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مَلِكًا. " قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ والجسم ". قِيلَ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ أَيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ طُولُهُ عَلَى طُولِ هَذِهِ الْعَصَا وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ يَفُورُ هَذَا الْقَرْنُ الَّذِي فِيهِ مِنْ دُهْنِ الْقُدْسِ فَهُوَ مِلْكُهُمْ. فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ وَيَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتِلْكَ الْعَصَا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى طُولِهَا سِوَى طَالُوتَ وَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ شَمْوِيلَ فَارَ ذَلِك الْقرن فدهنه مِنْهُ وعينه للْملك (4) عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وزاده بسطة فِي الْعلم " قِيلَ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَقِيلَ بَلْ مُطْلَقًا " وَالْجِسْمِ " قِيلَ الطُّولُ وَقِيلَ الْجَمَالُ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ   (1) ا: ابْن أسَال. (2) ا: ابْن صرار. (3) من ا. (4) المطبوعة: وعينه الْملك. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 عَلَيْهِ السَّلَامُ " وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ " فَلَهُ الْحُكْمُ وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ " وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ". " وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِن كُنْتُم مُؤمنين " وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَرَكَةِ وِلَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَيْهِمْ وَيُمْنِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ سُلِبَ مِنْهُمْ وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانُوا يُنْصَرُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ بِسَبَبِهِ " فِيهِ سكينَة من ربكُم " قِيلَ طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ صُدُور الانبياء، وَقيل السكينَة مثل الرّيح الخجوح. وَقِيلَ صُورَتُهَا مِثْلُ الْهِرَّةِ إِذَا صَرَخَتْ فِي حَالِ الْحَرْبِ أَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّصْرِ " وَبَقِيَّةٌ مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون " قيل كَانَ فِيهِ رضاض الالواح وشئ من الْمَنّ الَّذِي كَانَ نزل عَلَيْهِم بالتيه " تحمله الْمَلَائِكَة " أَيْ تَأْتِيكُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ يَحْمِلُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا لِيَكُونَ آيَةً لِلَّهِ عَلَيْكُمْ وَحُجَّةً بَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُهُ لَكُمْ وَعَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ هَذَا الْمَلِكِ الصَّالِحِ عَلَيْكُمْ. وَلِهَذَا قَالَ: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُم مُؤمنين ". وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ الْعَمَالِقَةُ عَلَى هَذَا التَّابُوتِ وَكَانَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ [الْمُبَارَكَةِ (1) ] وَقِيلَ كَانَ فِيهِ التَّوْرَاةُ أَيْضًا فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ وَضَعُوهُ تَحْتَ صَنَمٍ لَهُمْ بِأَرْضِهِمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا التَّابُوتُ عَلَى رَأْسِ الصَّنَمِ فَوَضَعُوهُ تَحْتَهُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي إِذا التابوت فَوق الصَّنَم، فَلَمَّا   (1) لَيست فِي أ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 تَكَرَّرَ هَذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِمْ وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ، فَأَخَذَهُمْ دَاءٌ فِي رِقَابِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ فِي عَجَلَةٍ وَرَبَطُوهَا فِي بَقَرَتَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا، فَيُقَالُ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَاقَتْهُمَا حَتَّى جَاءُوا بِهِمَا مَلَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ جَاءَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ (1) مِنَ الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ * وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. " فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا النَّهْرُ هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشَّرِيعَةِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ بِجُنُودِهِ عِنْدَ هَذَا النَّهْرِ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ لَهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا: أَنَّ مَنْ شرب من هَذَا النَّهر فَلَا يَصْحَبُنِي فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَلَا يَصْحَبُنِي إِلَّا من لم يطعمهُ إِلَّا غرفَة بِيَدِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُم ". قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْجَيْشُ ثَمَانِينَ أَلْفًا فَشَرِبَ مِنْهُ سِتَّة وَسَبْعُونَ ألفا، فبقى مَعَه أَرْبَعَةُ آلَافٍ. كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ وَزُهَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. قَالَ: كُنَّا أَصْحَاب مُحَمَّد   (1) المطبوعة: كَمَا هُوَ الْمَفْهُوم بالجنود من الْآيَة. وَلَا معنى لَهَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا (1) مَعَهُ النَّهْرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا بِضْعَةَ عَشْرَ وَثَلَاثُمِائَةِ مُؤْمِنٍ. وَقَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّ عِدَّةَ الْجَيْشِ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا جَيْشُ مُقَاتِلَةٍ يَبْلُغُونَ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده " أَيِ اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ وَاسْتَضْعَفُوهَا عَنْ مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ " قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين " يَعْنِي ثَبَّتَهُمُ الشُّجْعَانُ مِنْهُمْ (2) وَالْفُرْسَانُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِيقَانِ الصَّابِرُونَ عَلَى الْجِلَادِ وَالْجِدَالِ وَالطِّعَانِ. " وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُفْرِغَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ أَيْ يَغْمُرَهُمْ بِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ فَتَسْتَقِرَّ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَقْلَقَ، وَأَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَجَالِ الْحَرْبِ وَمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ وَحَوْمَةِ الْوَغَى وَالدُّعَاءِ إِلَى النزال فسألوا التثبيت الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِهِ وَآلَائِهِ، فَأَجَابَهُمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِلَى مَا سَأَلُوا (3) وَأَنَالَهُمْ مَا إِلَيْهِ [فِيهِ] (4) رَغِبُوا.   (1) ا: جازوا. (2) ط يعْنى بهَا الفرسان مِنْهُم. وَلَعَلَّه محريف وَمَا أثْبته من ا. (3) ا: إِلَى مَا طلبُوا. (4) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَلِهَذَا قَالَ " فهزموهم بِإِذن الله " أَي بحول الله [وقوته (1) ] لابحولهم، وَبِقُوَّةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ وَكَمَالِ عَدَدِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء " فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهُ قَتَلَهُ قَتْلًا أَذَلَّ بِهِ جُنْدَهُ وَكَسَّرَ (2) جَيْشَهُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ غَزْوَةٍ يَقْتُلُ فِيهَا مَلِكٌ عَدُوَّهُ فَيَغْنَمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ وَيَأْسِرُ الْأَبْطَالَ وَالشُّجْعَانَ [وَالْأَقْرَانَ (3) ] وَتَعْلُو كَلِمَةُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ (4) وَيُدَالُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيَظْهَرُ الدِّينُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِيمَا يَرْوِيهِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَبِيهِ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، كَانَ سَمِعَ طَالُوتُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يُحَرِّضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ بِابْنَتِي وَأَشْرَكْتُهُ فِي مُلْكِي، وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْمِي بِالْقَذَّافَةِ وَهُوَ الْمِقْلَاعُ رَمْيًا عَظِيمًا، فَبَيْنَا هُوَ سَائِرٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ نَادَاهُ حَجَرٌ أَنْ خُذْنِي فَإِنَّ بِي تَقْتُلُ جَالُوتَ. فَأَخَذَهُ ثُمَّ حَجَرٌ آخَرُ كَذَلِكَ ثُمَّ آخَرُ كَذَلِكَ، فَأَخَذَ الثَّلَاثَةَ فِي مِخْلَاتِهِ فَلَمَّا تَوَاجَهَ الصَّفَّانِ بَرَزَ جَالُوتُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَإِنِّي أكره قَتلك. فَقَالَ: لكني   (1) من ا. (2) ط: وكسره. (3) لَيست فِي ا (4) ا: كلمة الله على الاديان. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 أحب قَتلك. وَأخذ تِلْكَ الاحجار الثَّلَاثَة فَوَضَعَهَا فِي الْقَذَّافَةِ ثُمَّ أَدَارَهَا فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ حَجَرًا وَاحِدًا. ثُمَّ رَمَى بِهَا جَالُوتَ فَفَلَقَ رَأَسَهُ وَفَرَّ جَيْشُهُ مُنْهَزِمًا، فَوَفَّى لَهُ طَالُوتُ بِمَا وَعَدَهُ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَجْرَى حُكْمَهُ فِي مُلْكِهِ وَعَظُمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحَبُّوهُ وَمَالُوا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ طَالُوتَ، فَذَكَرُوا أَنَّ طَالُوتَ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْعُلَمَاءُ يَنْهَوْنَ طَالُوتَ عَنْ قَتْلِ دَاوُدَ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ (1) حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. ثُمَّ حَصَلَ لَهُ تَوْبَةٌ وَنَدَمٌ وَإِقْلَاعٌ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُ وَجَعَلَ يُكْثِرُ مِنَ الْبُكَاءِ وَيَخْرُجُ إِلَى الْجَبانَة فيبكى حَتَّى بيل الثَّرَى بِدُمُوعِهِ فَنُودِيَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْجَبَّانَةِ: أَنْ يَا طَالُوتُ قَتَلْتَنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ وَآذَيْتَنَا وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ. فَازْدَادَ لِذَلِكَ بُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاشْتَدَّ وجله ثمَّ جعل يسْأَل عَن عَالم يسْأَل عَنْ أَمْرِهِ وَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَهَلْ أَبْقَيْتَ عَالِمًا؟ ! حَتَّى دُلَّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ فَأَخَذَتْهُ فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى قَبْرِ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَدَعَتِ اللَّهَ فَقَامَ يُوشَعُ مِنْ قَبْرِهِ فَقَالَ: أَقَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ فَقلت لَا وَلَكِنَّ هَذَا طَالُوتُ يَسْأَلُكَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَنْخَلِعُ مِنَ الْمُلْكِ وَيَذْهَبُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يُقْتَلَ. ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا. فَتَرَكَ الْمُلْكَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَهَبَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ فَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلُوا. قَالُوا: فَذَلِك قَوْله " وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ". هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِإِسْنَادِهِ (2) . وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ ونكارة. وَالله أعلم.   (1) * ا: يقتلهُمْ. (2) ا: وَإِسْنَاده. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فَأَخْبَرَ طَالُوتَ بِتَوْبَتِهِ هُوَ اليسع ابْن أَخْطُوبَ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهَا أَتَت بِهِ إِلَى قبر شمويل فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا صَنَعَ بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ، وَهَذَا أَنْسَبُ. وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ لَا أَنَّهُ قَامَ مِنَ الْقَبْرِ حَيًّا، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [قَالَ (1) ابْنُ جَرِيرٍ] : وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّةَ مُلْكِ طالوت إِلَى أَن قتل مَعَ أَوْلَاده أَرْبَعُونَ سنة. فَالله أعلم.   (1) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 قصَّة دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ وَشَمَائِلِهِ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا بن عُوَيْد بن عَابِر بن سَلمُون بن نحشون بن عوينادب ابْن إِرَمَ بْنِ حَصَرُونَ بْنِ فَارَصَ بْنِ يَهُوذَا بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَبْدُ اللَّهِ وَنَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَق عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصِيرًا أَزْرَقَ الْعَينَيْنِ قَلِيل الشّعْر طَاهِر الْقلب ونقيه. تُقُدِّمَ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ جَالُوتَ وَكَانَ قَتْلُهُ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ بِقُرْبِ مَرْجِ الصُّفَّرِ، فَأَحَبَّتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَإِلَى مُلْكِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ مَا كَانَ وَصَارَ الْمُلْكُ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَين الْملك والنبوة بَين خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ الْمُلْكُ يَكُونُ فِي سِبْطٍ والنبوة فِي آخر فاجتمعا فِي دَاوُدَ هَذَا. وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارض وَلَكِن الله ذوفضل على الْعَالمين " أَيْ لَوْلَا إِقَامَةُ الْمُلُوكِ حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ لَأَكَلَ قَوِيُّ النَّاسِ ضَعِيفَهُمْ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي بعض الْآثَار " السُّلْطَان ظلّ مالله؟ ؟ فِي أَرْضِهِ ". وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزع بِالْقُرْآنِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ جالوت لما بارز طالوت فَقَالَ لَهُ خرج إِلَيّ وَأخرج إِلَيْكَ فَنَدَبَ طَالُوتُ النَّاسَ فَانْتَدَبَ دَاوُدُ فَقَتَلَ جَالُوتَ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِطَالُوتَ ذِكْرٌ، وَخَلَعُوا طَالُوتَ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ دَاوُدَ. وَقِيلَ إِنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ شَمْوِيلَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ وَلَّاهُ قَبْلَ الْوَقْعَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنه إِنَّمَا ولى ذَلِك بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ قَتْلَهُ جَالُوتَ كَانَ عِنْدَ قَصْرِ أَمِّ حَكِيمٍ وَأَنَّ النَّهْرَ الَّذِي هُنَاكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَالَ تَعَالَى " وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير " وَقَالَ تَعَالَى: " وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ. وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَل أَنْتُم شاكرون " أَعَانَهُ الله على عمل الدروع من الْحَدِيد ليحصن (1) الْمُقَاتلَة من الاعداء وأرشده إِلَى صنعتها وكيفيتها فَقَالَ: " وَقدر فِي السرد " أَي لَا تدق المسمار فيفلق وَلَا تُغَلِّظْهُ فَيَفْصِمَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وَعِكْرِمَة. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: كَانَ اللَّهُ قد ألان لَهُ الْحَدِيد حَتَّى كَانَ يقْتله بِيَدِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَارٍ وَلَا مِطْرَقَةٍ. قَالَ قَتَادَة: فَكَانَ   (1) ا: لتحصين. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدُّرُوعَ مِنْ زَرَدٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ صَفَائِحَ. قَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخطاب ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْأَيْدُ الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ. يَعْنِي ذَا قُوَّةٍ فِي الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُعْطِيَ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى ". وَقَوْلُهُ: " إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطير محشورة كل لَهُ أواب " كَمَا قَالَ: " يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ " أَيْ سَبِّحِي مَعَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ " إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ " أَيْ عِنْدَ آخَرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَهَبَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيم مَا لم يُعْطه أحد بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا تَرَنَّمَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِ يَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ يُرَجِّعُ بِتَرْجِيعِهِ وَيُسَبَّحُ بتسبيحه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَكَذَلِكَ الْجِبَالُ تُجِيبُهُ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ كُلَّمَا سَبَّحَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: أُعْطِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَطُّ، حَتَّى إِنْ كَانَ الطَّيْرُ والوحش ينعكف حَوْلَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا وَحَتَّى إِنَّ الْأَنْهَارَ لَتَقِفُ! وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا حَجَلَ كَهَيْئَةِ الرَّقْصِ، وَكَانَ يقْرَأ لزبور بِصَوْتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ فَيَعْكُفُ (1) الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى صَوْتِهِ حَتَّى يَهْلَكَ بَعْضُهَا جُوعًا. وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ سَمِعْتُ صُبَيْحًا أَبَا تُرَابٍ رَحمَه الله (2) قَالَ أَبُو عوَانَة: وحَدثني أَبُو الْعَبَّاس المدنى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعَدَوِيُّ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ ابْنُ حَاتِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الزَّبُورِ تَفَتَّقَتِ الْعَذَارَى [وَهَذَا غَرِيبٌ (3) ] . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْغِنَاءِ فَقَالَ: وَمَا بَأْس بذلك؟ سَمِعت عبيد بن عمر يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْخُذُ الْمِعْزَفَةَ فَيَضْرِبُ بِهَا فَيَقْرَأُ عَلَيْهَا فَتَرُدُّ عَلَيْهِ صَوْتَهُ يُرِيد بذلك أَن يبكى وتبكى. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوت   (1) ا: لتعتكف (2) كَذَا فِي ا. وَفِي المطبوعة محرفة: أنبئنا برادح (3) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ (1) آلِ دَاوُدَ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَقَدْ أُعْطِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ. عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ (2) أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ الْبَرْبَطَ وَالْمِزْمَارَ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ. وَقَدْ كَانَ مَعَ هَذَا الصَّوْتِ الرَّخِيمِ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ لِكِتَابِهِ الزَّبُورِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ فَتُسْرَجُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسْرَجَ دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَلَفْظُهُ: " خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عمل يَدَيْهِ.   (1) ا: من مزامر (2) المطبوعة: التِّرْمِذِيّ، محرفة. وَمَا أثْبته من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ: وَرَوَاهُ مُوسَى ابْن عُقْبَةَ (1) ، عَنْ صَفْوَانَ، هُوَ ابْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أسندء ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّبْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ هَاهُنَا الزبُور الَّذِي أنزلهُ عَلَيْهِ وأوحاه إِلَيْهِ، وَذكر رِوَايَة (2) أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فَإِنَّهُ كَانَ مَلِكًا لَهُ أَتْبَاعٌ، فَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِمِقْدَارِ مَا تُسْرَجُ الدَّوَابُّ، وَهَذَا أَمْرٌ سَرِيعٌ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّرَنُّمِ وَالتَّغَنِّي بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخَشُّعِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وآتينا دَاوُد زبورا " وَالزَّبُورُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ وَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ مَا هُوَ مَعْرُوف لمن نظر فِيهِ. * * * وَقَوله: " وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب " أَيْ أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَحُكْمًا نَافِذًا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَقَرٍ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهُ. فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَرْجَأَ أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعِيَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ دَاوُدُ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيّ أَن أَقْتلك   (1) ا: ابْن عُيَيْنَة. محرفة. وَانْظُر صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 120 ط الاميرية. (2) كَذَا بالاصل وَلَعَلَّه: وَذكره لَهُ أشبه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فَأَنَا قَاتِلُكَ لَا مَحَالَةَ، فَمَا خَبَرُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَهُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَمُحِقٌّ فِيمَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ، وَلَكِنِّي كنت اعتلت أَبَاهُ قبل هَذَا. فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ. فَعَظُمَ أَمْرُ دَاوُدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ جِدًّا وَخَضَعُوا لَهُ [خُضُوعًا (1) ] عَظِيما. قَالَ ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَوْله تَعَالَى " وشددنا ملكه " وَقَوله تَعَالَى " وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة " [أَي النُّبُوَّة (1) ] " وَفصل الْخطاب " قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمى وَغَيرهم: فصل الْخطاب الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ يَعْنُونَ بِذَلِكَ: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالسُّدِّيُّ هُوَ إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْحُكْمِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ قَوْلُ: " أَمَّا بَعْدُ ". وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا كَثُرَ الشَّرُّ وَشَهَادَاتُ الزُّورِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ دَاوُدُ سِلْسِلَةٌ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. فَكَانَتْ مَمْدُودَةً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا تَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي حَقٍّ فَأَيُّهُمَا كَانَ مُحِقًّا نَالَهَا وَالْآخَرُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا. فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا لُؤْلُؤَةً فَجَحَدَهَا مِنْهُ وَأخذ عكازا وأودعها فِيهِ، فَلَمَّا حضرا عِنْد الصَّخْرَة تَنَاوَلَهَا الْمُدَّعِي فَلَمَّا قِيلَ لِلْآخَرِ خُذْهَا بِيَدِكَ عَمَدَ إِلَى الْعُكَّازِ فَأَعْطَاهُ الْمُدَّعِي وَفِيهِ تِلْكَ اللُّؤْلُؤَةُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ. ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّلْسِلَةَ فَنَالَهَا. فَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ رُفِعَتْ سَرِيعًا مِنْ بَيْنِهِمْ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقد رَوَاهُ إِسْحَق بْنُ بِشْرٍ عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ وهب بِهِ بِمَعْنَاهُ   (1) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 " وَهل أَتَاك نبؤ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِيُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب " وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ هَاهُنَا قِصَصًا وَأَخْبَارًا أَكْثَرُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ لَا مَحَالَةَ. تَرَكْنَا إِيرَادَهَا فِي كِتَابِنَا قَصْدًا اكْتِفَاءً وَاقْتِصَارًا عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ " ص ": هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَوْ إِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ، قَالَ سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ " ص " فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْن عَبَّاس من أَيْن سجدت؟ قَالَ أَو مَا تقْرَأ: " وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان " " أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده " فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي السُّجُودِ فِي " ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ. وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي " ص " وَقَالَ: سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَهُوَ (1) ] عَلَى الْمِنْبَرِ " ص " فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَة نزل فَسجدَ وَسجد مَعَه النَّاس فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ (2) النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنْ رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ. (3) تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الصِّدِّيقِ النَّاجِي، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَأَى رُؤْيَا أَنَّهُ يَكْتُبُ " ص " فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى الَّتِي يسْجد بهَا رأى   (1) لَيست فِي ا (2) كَذَا فِي اموافقا لسنن أبي دَاوُد 1 / 223. وَمعنى تشزن: انتصب وتهيأ. وَفِي المطبوعة: تشرف. محرفة. (3) المطبوعة تشرفتم. محرفة. وَمَا أثْبته من ا (*) (م 18 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الدواة والقلم وكل شئ بِحَضْرَتِهِ انْقَلَبَ سَاجِدًا. قَالَ: فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا بَعْدُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ (1) خُنَيْسٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي جَدُّكَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَقَرَأت السَّجْدَة فسجدت الشَّجَرَة بسجودي، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ وَهِيَ سَاجِدَةٌ: " اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بهَا عنْدك أجرا وَاجْعَلْهَا عِنْدَكَ ذُخْرًا وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مني كَمَا قبلت من عَبدك دَاوُد ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا حَكَى الرَّجُلُ عَنْ كَلَامِ الشَّجَرَةِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَثَ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الرِّوَايَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب " أَي إِن لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِزُلْفَى، وَهِيَ الْقُرْبَةُ الَّتِي يقربهُ الله بهَا ويدنيه من   (1) ا: وخنيس (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 حَظِيرَة قدسه بِسَبَبِهَا، كَمَا ثَبت فِي حَدِيث: " الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَا وَلُوا ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْأَغَرِّ بِهِ وَقَالَ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِ: " وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لزلفى وَحسن مآب " قَالَ: يقوم (1) دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ فَيَقُولُ (2) اللَّهُ: يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي الْيَوْمَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ الْحَسَنِ الرَّخِيمِ الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: وَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبْتُهُ فَيَقُولُ: إِنِّي أَرُدُّهُ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. قَالَ فَيَرْفَعُ دَاوُدُ بِصَوْت يستفرغ نعيم أهل الْجنان (3) . " يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيل الله لَهُم   (1) ا: يُقَام (2) ا: ثمَّ يَقُول (3) ا: الْجنَّة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب " هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَحُكَّامُ النَّاسِ، وَأَمْرُهُمْ بِالْعَدْلِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ، لَا مَا سِوَاهُ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَوَعُّدُ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ ذَلِكَ وَحَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (1) فِي الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَأَنْوَاعِ القربات، حَتَّى إِنَّه كَانَ لَا يمضى سَاعَةٌ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ إِلَّا وَأَهْلُ بَيْتِهِ فِي عِبَادَةٍ لَيْلًا وَنَهَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: " اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكُور " قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ، حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ (2) عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجَلْدِ، قَالَ قَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إِلَى شُكْرِكَ إِلَّا بِنِعْمَتِكَ؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الوحى: " أَن يَا دَاوُد أَلَسْت تَعَلَمُ أَنَّ الَّذِي بِكَ مِنَ النِّعَمِ مِنِّي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَإِنِّي أَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكَ " وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنبأَنَا أَبُو بكر بن بابويه، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بن عبَادَة، حَدثنِي عبد الله ابْن لَاحِقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ دَاوُدُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّكَ أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ يَا دَاوُد! " وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ الثَّوْريّ مثله   (1) ط: الْوَقْت. (2) المطبوعة المزى. محرفة. وَهُوَ صَالح بن بشير المرى، مَوْلَاهُم، الْبَصْرِيّ نسب إِلَى مرّة ابْن الْحَارِث بن عبد الْقَيْس. اللّبَاب 3 / 129 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وَقَالَ عبد الله بن الْمُبَارك فِي فِي كِتَابِ الزُّهْدِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: حَقٌّ (1) عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى هَذِهِ السَّاعَاتِ وَإِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ زَمَانَهُ وَيَحْفَظَ لِسَانَهُ وَيُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَظْعَنَ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: زَادٌ لِمَعَادِهِ وَمَرَمَّةٌ لِمَعَاشِهِ، وَلَذَّةٌ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ الرَّقَاشِيِّ [عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ (2) ] عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فَذَكَرَهُ. وَأَبُو الْأَغَرِّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَبْهَمَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَقد أورد (3) الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَلِيحَةً مِنْهَا قَوْلُهُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ. وَرَوَى بِسَنَدٍ غَرِيبٍ مَرْفُوعًا قَالَ دَاوُدُ: يَا زَارِعَ السَّيِّئَاتِ أَنْتَ تَحْصُدُ شَوْكَهَا وحسكها.   (1) ا: وَحقّ. (2) سَقَطت من ا (3) ط: روى. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وَعَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الْخَطِيبِ الْأَحْمَقِ فِي نَادِي الْقَوْمِ كَمَثَلِ الْمُغَنِّي عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى. وَقَالَ: انْظُرْ مَا تَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْكَ فِي نَادِي الْقَوْمِ فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ. وَقَالَ: لَا تَعِدَنَّ (1) أَخَاكَ بِمَا لَا تُنْجِزُهُ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ عَدَاوَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمر الْوَاقِدِيّ، حَدَّثَنى هِشَام ابْن سعد، عَن عمر مولى عفرَة، قَالَ قَالَتْ يَهُودُ، لَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ! انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا وَالله مَاله هِمَّةٌ إِلَّا إِلَى النِّسَاءِ: حَسَدُوهُ لِكَثْرَةِ نِسَائِهِ وَعَابُوهُ بِذَلِكَ فَقَالُوا لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا رَغِبَ فِي النِّسَاءِ. وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ حيى ابْن أَخْطَبَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَسِعَتِهِ على نبيه صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَقَالَ: " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ من فَضله " يَعْنِي بِالنَّاسِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وآتيناهم ملكا عَظِيما " يَعْنِي مَا آتَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَت لَهُ ألف امْرَأَة. سَبْعمِائة مهرية (2) وَثَلَاثُمِائَةٍ سُرِّيَّةٌ، وَكَانَتْ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أُورْيَا أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْفِتْنَةِ هَذَا أَكْثَرُ مِمَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْكَلْبِيُّ نَحْوَ هَذَا وَأَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ وَلِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ، مِنْهُنَّ ثَلَاثُمِائَةٍ سُرِّيَّةٌ. وَرَوَى الْحَافِظُ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يَرْوِيِ عَنِ   (1) ا: لَا تواعد. (2) ا: مهيرة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ابْن عَبَّاس من طَرِيق الْفرج بن فضَالة الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحِمْصِيِّ، عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصِّيَامِ فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ بِحَدِيثٍ كَانَ عِنْدِي فِي الْبَحْث مَخْزُونًا، إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ دَاوُدَ فَإِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَكَانَ شُجَاعًا لَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ. وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بسبعين صَوتا يكون فِيهَا، وَكَانَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يُبْكِي فِيهَا نَفسه ويبكى ببكائه كل شئ وَيصرف بِصَوْتِهِ الْمَهْمُومُ وَالْمَحْمُومُ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمِنْ وَسَطِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمِنْ آخِرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَسْتَفْتِحُ الشَّهْرَ بِصِيَامٍ وَوَسَطَهُ بِصِيَامٍ وَيَخْتِمُهُ بِصِيَامٍ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ يَصُوم ابْن الْعَذْرَاء البتول عِيسَى بن مَرْيَمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَلْبَسُ الشَّعْرَ، يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يَمُوتُ وَلَا بَيت يخرب، وَكَانَ أَيْنَمَا أدْركهُ اللَّيْل صف بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَقَامَ يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ رَامِيًا لَا يَفُوتُهُ صَيْدٌ يُرِيدُهُ، وَكَانَ يَمُرُّ بِمَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقْضِي لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ أُمِّهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهَا كَانَت تَصُوم يوماوتفطر يَوْمَيْنِ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وَقد روى (1) الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي هَرِمٍ عَنْ صَدَقَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي صَوْمِ دَاوُدَ. ذكر كمية حَيَاته وَكَيْفِيَّة وَفَاته قَدْ تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ ظَهْرِهِ فَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يُزْهِرُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ كَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ (2) آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً وَنَسِيَ آدَمُ مَا كَانَ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ دَاوُدَ فَأَتَمَّهَا اللَّهُ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَلِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي قِصَّةِ آدَمَ. قَالَ ابْن جرير: وَقد زعم أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ عُمُرَ دَاوُدَ كَانَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. قُلْتُ: هَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: وَكَانَت مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهَذَا قَدْ يُقْبَلُ نَقْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا يُنَافِيهِ وَلَا مَا يَقْتَضِيهِ. وَأَمَّا وَفَاتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ الامام أَحْمد فِي مُسْنده: حَدثنَا قبيصَة (2) حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ بن عَمْرو بن أبي عَمْرو، عَن الْمطلب،   (2) ا: عمره. (2) ا: قُتَيْبَة (1) كَذَا. ولعلها: رَوَاهُ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فِيهِ غيرَة شَدِيدَة فَكَانَ إِذا خرج أغلق الْأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ. قَالَ: فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ، وَالله لنفتضحن بِدَاوُد. فجَاء دَاوُد فَإِذا الرجل قَائِم فِي وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنا الَّذِي لَا أهاب الْمُلُوك وَلَا أمنع (1) من الْحجاب. فَقَالَ دَاوُد: أَنْت وَالله إِذن ملك الْمَوْت مرْحَبًا بِأَمْر الله. ثمَّ مكث حَتَّى قبضت (2) روحه فَلَمَّا غسل وكفن وَفرغ من شَأْنه طلعت عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى دَاوُد. فأظلته الطير حَتَّى أظلمت عَلَيْهِ الارض، فَقَالَ سُلَيْمَان للطير: اقبضي جنَاحا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرينا كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ، وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ " أَيْ وَغَلَبَتْ عَلَى التَّظْلِيلِ عَلَيْهِ [الْمَضْرَحِيَّةُ وَهِيَ (3) ] الصُّقُورُ الطِّوَالُ الْأَجْنِحَةِ وَاحِدُهَا مَضْرَحِيٌّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ الصَّقْرُ الطَّوِيلُ الْجَنَاحِ. وَقَالَ السدى عَن أبي مَالك، عَن ابْن مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام فَجْأَة وَكَانَ بسبت، وَكَانَت الطير تظله. وَقَالَ السدى   (1) ا: وَلَا أمتنع. (2) ا: فزمل دَاوُد مَكَانَهُ حَتَّى قبضت نَفسه. (3) لَيست فِي ا (4) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أَيْضًا، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَجْأَةً. وَقَالَ أَبُو السَّكَنِ الْهَجَرِيُّ: مَاتَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فَجْأَةً وَدَاوُدُ فَجْأَةً وَابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَجْأَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ وَهُوَ نَازِلٌ مِنْ مِحْرَابِهِ فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي أَنْزِلُ أَوْ أَصْعَدُ. فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قد نفدت السُّنُونُ وَالشُّهُورُ وَالْآثَارُ وَالْأَرْزَاقُ. قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا عَلَى مَرْقَاةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاقِي فَقَبَضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا وَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفِلَسْطِينِيِّ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنِ النَّاسَ حَضَرُوا جِنَازَةَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَلَسُوا فِي الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ قَالَ: وَكَانَ قَدْ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ سِوَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَمُتْ فِي بني إِسْرَائِيل بعد مُوسَى وهرون أَحَدٌ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ جَزَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى دَاوُدَ. قَالَ: فَآذَاهُمُ الْحَرُّ فَنَادَوْا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَن يعْمل (1) لَهُم وقاية لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحَرِّ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطير فأجابت فَأمرهَا أَن تظل (1) النَّاس، فتراص بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى اسْتَمْسَكَتِ   (1) ا: يعجل (2) ا: فأظلت. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 الرِّيحُ فَكَادَ النَّاسُ أَنْ يَهْلِكُوا غَمًّا فَصَاحُوا إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْغَمِّ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطَّيْرَ أَنْ أَظِلِّي النَّاسَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمْسِ وَتَنَحِّي؟ ؟ عَنْ نَاحِيَةِ الرِّيحِ. فَفَعَلَتْ فَكَانَ النَّاس فِي ظلّ تهب (1) عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا رَأَوْهُ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيد بن مُسلم، عَن الْهَيْثَم بن حيمد، عَن الْوَضِين بن عَطاء، عَن نصر ابْن عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ مَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مكث أَصْحَاب الْمَسِيح على سنَنه وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ كَانَ ضَعِيفًا فِي الحَدِيث. وَالله أعلم.   (1) ط: وتهب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 قصَّة سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر: وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا بْنِ عُوَيْدِ ابْن عَابِر بن سَلمُون بن تخشون؟ ؟ بن عمينا اداب (1) بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم أبي الرّبيع نَبِي الله بن نَبِيِّ اللَّهِ. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ مَاكُولَا: فَارْصُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَ نَسَبَهُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأوتينا من كل شئ إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين (2) " أَيْ وَرِثَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَرثهُ فِي الْمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ، فَمَا كَانَ لِيُخَصَّ بِالْمَالِ دُونَهُمْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ " وَفِي لَفْظَة: " نَحن مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " فَأَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُورَثُ أَمْوَالُهُمْ عَنْهُمْ كَمَا يُورَثُ غَيْرُهُمْ، بَلْ تَكُونُ أَمْوَالُهُمْ صَدَقَةً مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ لَا يَخُصُّونَ بِهَا أقرباؤهم، لِأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ وَأَحْقَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا هِيَ عِنْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ. وَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وأوتينا من كل شئ " يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ مَا يتخاطب بِهِ الطُّيُورُ بِلُغَاتِهَا وَيُعَبِّرُ لِلنَّاسِ عَنْ مَقَاصِدِهَا وإرادتها.   (1) تقدم فِي نسب دَاوُد: ابْن عمينا دب. (2) سُورَة النَّمْل (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ حشاد، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْوَانِيُّ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي يَعْقُوب الْعَمى، حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ، قَالَ مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بِعُصْفُورٍ يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: وَمَا يَقُولُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: يَخْطُبُهَا إِلَى نَفْسِهِ وَيَقُولُ زَوِّجِينِي أُسْكِنْكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ! قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِأَنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ بِالصَّخْرِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْكُنَهَا أَحَدٌ وَلَكِنْ كَلُّ خَاطِبٍ كَذَّابٌ! [رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ زَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِهِ (1) ] وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا من الْآيَات: " وأوتينا من كل شئ " أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِدَدِ وَالْآلَاتِ وَالْجُنُودِ وَالْجُيُوشِ وَالْجَمَاعَاتِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ وَالشَّيَاطِينِ السَّارِحَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ضَمَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النَّاطِقَاتِ وَالصَّامِتَاتِ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبين " أَي من بارئ البريات وخالق الارض وَالسَّمَوَات كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ".   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ وَابْنِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فِي جَيْشِهِ جَمِيعِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَسِيرُونَ مَعَهُ وَالطَّيْرُ سَائِرَةٌ مَعَهُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا مِنَ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْجُيُوشِ الثَّلَاثَةِ وَزَعَةٌ أَيْ نُقَبَاءُ يَرُدُّونَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ؟ ؟ [عَنْهُ (1) ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ " فَأَمَرَتْ وَحَذَّرَتْ وَاعْتَذَرَتْ عَنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ بِعَدَمِ الشُّعُورِ. وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبٌ أَنَّهُ مَرَّ وَهُوَ عَلَى الْبِسَاطِ بِوَادٍ بِالطَّائِفِ وَأَنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ كَانَ اسْمهَا جرسا، وَكَانَتْ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الشَّيْصَبَانِ وَكَانَتْ عَرْجَاءَ وَكَانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ، بَلْ فِي هَذَا السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْكِبِهِ رَاكِبًا فِي خُيُولِهِ وَفُرْسَانِهِ، لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ عَلَى الْبِسَاطِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنَلِ النَّمْلَ مِنْهُ شئ وَلَا وطئ، لَأَنَّ الْبِسَاطَ كَانَ (2) عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالْخِيَامِ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرُ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ مَا خَاطَبَتْ بِهِ تِلْكَ النَّمْلَةُ لِأُمَّتِهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الْحَمِيدِ وَتَبَسَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الجهلة من   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: يكون. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 أَنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَنْطِقُ قَبْلَ سُلَيْمَانَ وَتُخَاطِبُ النَّاسَ حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَهْدَ وَأَلْجَمَهَا فَلَمْ تَتَكَلَّمْ مَعَ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هَكَذَا لَمْ يكن لِسُلَيْمَان فِي فهم مقالها (1) مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ إِذْ قَدْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُهَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا أَيْضًا فَائِدَةٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالَ " رَبِّ أوزعني " [أَيْ أَلْهِمْنِي وَأَرْشِدْنِي (2) ] " أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا ترضاه وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين " فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُقَيِّضَهُ لِلشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَأَنْ يَحْشُرَهُ إِذَا تَوَفَّاهُ مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ. وَالْمُرَادُ بِوَالِدَيْهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمُّهُ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَتْ أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَدَعُ الْعَبْدَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ. [وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَسْقُونَ فَرَأَى نَمْلَةً قَائِمَةً رَافِعَةً إِحْدَى قَوَائِمهَا   (1) ط: لغاتها. وَمَا أثْبته من ا. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 تَسْتَسْقِي، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ إِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ اسْتَسْقَتْ فَاسْتُجِيبَ لَهَا! قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سُلَيْمَانُ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ، عَنْ سَلَامَةَ بْنِ رَوْحِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقُونَ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ النَّبِي: ارْجعُوا فقد ستجيب لَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَرَ النَّاسَ فَخَرَجُوا فَإِذَا بِنَمْلَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رِجْلَيْهَا بَاسِطَةٍ يَدَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ وَلَا غَنَاءَ بِنَا عَنْ فَضْلِكَ ". قَالَ: فَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ] (1) . * * * وَقَالَ الله تَعَالَى: " وتفقد الطير فَقَالَ مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ من كل شئ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يسجدوا لله الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي؟ ؟ فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَة أمرا حَتَّى تَشْهَدُون قَالُوا نَحن أولُوا قُوَّة وَأولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّة وهم صاغرون ". يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ وَالْهُدْهُدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّيُورَ كَانَ عَلَى كُلِّ صنف مِنْهَا مقدمون يقدمُونَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ وَيَحْضُرُونَ عِنْدَهُ بِالنَّوْبَةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْجُنُودِ مَعَ الْمُلُوكِ، وَكَانَتْ وَظِيفَةُ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَعْوَزُوا الْمَاءَ فِي الْقِفَارِ فِي حَال الاسفار يجِئ فَيَنْظُرُ لَهُمْ هَلْ بِهَذِهِ الْبِقَاعِ مِنْ مَاءٍ، وَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَاءِ تَحْتَ تُخُومِ الْأَرْضِ، فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ حَفَرُوا عَنْهُ (1) وَاسْتَنْبَطُوهُ وَأَخْرَجُوهُ [وَاسْتَعْمَلُوهُ (2) ] لِحَاجَتِهِمْ. فَلَمَّا تَطَلَّبَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَدَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَوْضِعه من مَحل   (1) ا: لَهُ. (2) لَيست فِي ا. (*) (م 19 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 خدمته " فَقَالَ مالى لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ " أَي مَاله مَفْقُود مِنْ هَاهُنَا أَوْ قَدْ غَابَ عَنْ بَصَرِي فَلَا أرَاهُ بحضرتي " لاعذبنه عذَابا شَدِيدا " تَوَعَّدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ " أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين " أَيْ بِحُجَّةٍ تُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ. قَالَ الله تَعَالَى: " فَمَكثَ غير بعيد " أَيْ فَغَابَ (1) الْهُدْهُدُ غَيْبَةً لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ ثُمَّ قَدِمَ مِنْهَا " فَقَالَ " لِسُلَيْمَانَ " أَحَطتُ بِمَا لَمْ تحط بِهِ " أَيِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ " وجئتك من سبأ بِنَبَأٍ يَقِين " أَيْ بِخَبَرٍ صَادِقٍ " إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيت من كل شئ وَلها عرش عَظِيم " يَذْكُرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ سَبَأٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ مِنَ الْمَمْلَكَةِ الْعَظِيمَةِ وَالتَّبَابِعَةِ الْمُتَوَّجِينَ، وَكَانَ الْمُلْكُ؟ ؟ قَدْ آلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْهُمُ ابْنَةُ مَلِكِهِمْ لَمْ يُخْلِفْ غَيْرَهَا فَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ [وَغَيْرُهُ (2) ] أَنَّ قَوْمَهَا مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَبِيهَا رَجُلًا فَعَمَّ بِهِ الْفَسَادُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَخْطُبُهُ فَتَزَوَّجَهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَقَتْهُ خَمْرًا ثُمَّ حَزَّتْ رَأْسَهُ وَنَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِم وَهِي بلقيس بنت السيرح وَهُوَ الهدهاد. وَقيل شرَاحِيل بن ذِي جدن ابْن السيرح بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سبأ بن يشجب بن يعرب ابْن قَحْطَانَ، وَكَانَ أَبُوهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ وَكَانَ قد تأبى (3) أَن   (1) ا: غَابَ (2) لَيست؟ ؟ فِي ا. (3) ط: وَكَانَ يَأْبَى أَن يتَزَوَّج. وَمَا أثْبته من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَيُقَالُ إِنَّهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَة من الْجِنّ اسْمهَا رَيْحَانَة بنت السكن، فَولدت لَهُ هَذِه الْمَرْأَة وَاسْمهَا تلقمة وَيُقَالُ لَهَا بَلْقِيسُ. وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَحَدَ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ جِنِّيًّا. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بن قبحونة، حَدثنَا أَبُو بكر بن حرجة، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ ذُكِرَتْ بَلْقِيسُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً " إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ هَذَا هُوَ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَّغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ: " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بِمِثْلِهِ (1) ] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: " وَأُوتِيَتْ مِنْ كل شئ " أَيْ مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُؤْتَاهُ الْمُلُوكُ " وَلها عرش عَظِيم " يَعْنِي سَرِيرَ مَمْلَكَتِهَا كَانَ مُزَخْرَفًا بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ واللآلئ وَالذَّهَب والحلى الباهر.   (1) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ وَعِبَادَتَهُمُ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِضْلَالَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَصَدَّهُ إِيَّاهُمْ عَن عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَوَات والارض وَيعلم مَا يخفون وَمَا يعلنون، أَيْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم " أَيْ لَهُ الْعَرْشُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ مَعَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابَهُ يَتَضَمَّنُ دَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْخُضُوعِ لِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَلِهَذَا قَالَ لَهُم: " أَلا تعلوا عَليّ " أَيْ لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنْ طَاعَتِي وَامْتِثَالِ أَوَامِرِي (2) " وأتوني مُسلمين " أَيْ وَأَقْدِمُوا عَلَيَّ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ بِلَا مُعَاوَدَةٍ وَلَا مُرَاوَدَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْكِتَابُ مَعَ الطَّيْرِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَ النَّاسُ الْبَطَائِقَ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى، تِلْكَ الْبِطَاقَةُ كَانَتْ مَعَ طَائِرٍ سَامِعٍ مُطِيعٍ فَاهِمٍ عَالِمٍ بِمَا يَقُولُ وَيُقَالُ لَهُ. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْهُدْهُدَ حَمَلَ الْكِتَابَ وَجَاءَ إِلَى قَصْرِهَا فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي خَلْوَةٍ لَهَا ثُمَّ وَقَفَ نَاحِيَةً يَنْتَظِرُ [مَا يَكُونُ مِنْ (2) ] جَوَابِهَا عَنْ كِتَابِهَا، فَجَمَعَتْ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَأَكَابِرَ دواتها إِلَى مَشُورَتِهَا " قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيّ كتاب كريم " ثُمَّ قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانَهُ أَوَّلًا " إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَان " [ثُمَّ قَرَأَتْهُ (2) ] " وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين " ثُمَّ شَاوَرَتْهُمْ (3) فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ حَلَّ بِهَا وَتَأَدَّبَتْ مَعَهُمْ وَخَاطَبَتْهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ " قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كنت   (1) ا: أمرى. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: ثمَّ أَمرتهم فِي أمرهَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 قَاطِعَة أمرا حَتَّى تَشْهَدُون " تَعْنِي ماكنت لِأَبُتَّ أَمْرًا إِلَّا وَأَنْتُمْ حَاضِرُونَ " قَالُوا نَحْنُ أولُوا قُوَّة وَأولُوا بَأْس شَدِيد " يَعْنُونَ لَنَا قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْجِلَادِ وَالْقِتَالِ وَمُقَاوَمَةِ الْأَبْطَالِ، فَإِنْ أَرَدْتِ مِنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا عَلَيْهِ من القادرين " و " مَعَ هَذَا " الامر إِلَيْك فانظري مَاذَا تأمرين " فَبَذَلُوا لَهَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَأَخْبَرُوهَا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرَ لِتَرَى فِيهِ مَا هُوَ الْأَرْشَدُ لَهَا وَلَهُمْ. فَكَانَ رأيها أتم وَأَشد مِنْ رَأْيِهِمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ وَلَا يُخَادَعُ " قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " تَقُولُ بِرَأْيِهَا السَّدِيدِ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَوْ قَدْ غَلَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ لَمْ يَخْلُصِ الْأَمْرُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَّا إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنِ الحدة والشدة وَالسَّطْوَةُ الْبَلِيغَةُ إِلَّا عَلَيَّ " وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ " أَرَادَتْ أَنْ تُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهَا. وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهَا بِهَدِيَّةٍ تُرْسِلُهَا وَتُحَفٍ تَبْعَثُهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَهُوَ وَجُنُوده عَلَيْهِم قادرون. " و " لهَذَا " لما جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون " هَذَا وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْهَدَايَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أُمُور عَظِيمَة، ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهَا إِلَيْهِ وَوَافِدِهَا الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَاضِرُونَ يَسْمَعُونَ " ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ولنخرجنهم مِنْهَا أَذِلَّة وهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 صاغرون " يَقُولُ ارْجِعْ بِهَدِيَّتِكَ الَّتِي قَدِمْتَ بِهَا إِلَى مَنْ قَدْ مَنَّ بِهَا فَإِنَّ عِنْدِي مِمَّا قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَسْدَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَالرِّجَالِ مَا هُوَ أَضْعَافُ هَذَا وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ بِسَبَبِهِ " فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قبل لَهُم بهَا " أَيْ فَلْأَبْعَثَنَّ إِلَيْهِمْ بِجُنُودٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعَهُمْ ولانزالهم؟ ؟ وَلَا مُمَانَعَتَهُمْ وَلَا قِتَالَهُمْ وَلَأُخْرِجَنَّهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أَذِلَّة " وهم صاغرون " عَلَيْهِم الصغار و [الْعَار] (1) وَالدَّمَارُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَادَرُوا إِلَى إِجَابَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَأَقْبَلُوا صُحْبَةَ الْمَلِكَةِ أَجْمَعِينَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ خَاضِعِينَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ [وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ (1) ] قَالَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ مِنَ الْجَانِّ مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ: " قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين. قيل   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين ". لما طلب سُلَيْمَان من الجان أَن يحضروا لَهُ عرش بلقيس، وَهُوَ سَرِير مملكتها الَّتِي تجْلِس عَلَيْهِ وَقت حكمهَا، قبل قدومها عَلَيْهِ " قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك " يَعْنِي قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ حُكْمِكَ وَكَانَ فِيمَا يُقَالُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ يَتَصَدَّى لِمُهِمَّاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا لَهُمْ من الاشغال " وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين " أَي وَإِنِّي لذُو قدرَة عَلَى إِحْضَارِهِ إِلَيْكَ وَأَمَانَةٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ لَدَيْكَ " قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ علم من الْكتاب " الْمَشْهُور أَنه آصف ابْن برخينا وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُؤْمِنِي الْجَانِّ، كَانَ فِيمَا يُقَالُ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ. وَقِيلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَقِيلَ: إِنَّهُ سُلَيْمَانُ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَضَعَّفَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ. قَالَ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ قَوْلٌ رَابِع وَهُوَ: جِبْرِيلُ. " أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْك طرفك " قِيلَ مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ طَرْفُكَ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْكَ. وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ أَبْعَدُ مَنْ تَرَاهُ مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَكِلَّ طَرْفُكَ إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُطْبِقَ جَفْنَكَ. وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ إِذَا نَظَرْتَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ غَايَةٍ مِنْكَ ثُمَّ أَغْمَضْتَهُ. وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قِيلَ. " فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ " أَيْ فَلَمَّا رَأَى عَرْشَ بَلْقِيسَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 " قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر " أَيْ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيَّ وَفَضْلِهِ عَلَى عَبِيدِهِ لِيَخْتَبِرَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ أَوْ خِلَافِهِ " وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ " أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ " وَمَنْ كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم " أَيْ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يُغَيَّرَ حَلْيُ هَذَا الْعَرْشِ وَيُنَكَّرَ لَهَا لِيَخْتَبِرَ فَهْمَهَا وَعَقْلَهَا وَلِهَذَا قَالَ: " نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ " وَهَذَا مِنْ فِطْنَتِهَا وَغَزَارَةِ فَهْمِهَا، لِأَنَّهَا اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَكُونَ عَرْشُهَا لِأَنَّهَا خَلَّفَتْهُ وَرَاءَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ، وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ الْغَرِيبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ: " وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ. وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قوم كَافِرين " أَيْ وَمَنَعَهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَسْجُدُ لَهَا هِيَ وَقَوْمُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ اتِّبَاعًا لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ لَا لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحٍ مِنْ زُجَاجٍ وَعَمِلَ فِي مَمَرِّهِ مَاءً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ سَقْفًا مِنْ زُجَاجٍ، وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ، وَأُمِرَتْ بِدُخُولِ الصَّرْحِ وَسُلَيْمَانُ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ [فِيهِ (2) ] " فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين " وَقد   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 قِيلَ إِنَّ الْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يُبَشِّعُوا مَنْظَرَهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ وَأَنْ تُبْدِيَ عَنْ سَاقَيْهَا لِيَرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ فَيُنَفِّرَهُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَخَشُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّ أُمَّهَا مِنَ الْجَانِّ فَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَافِرَهَا كَانَ كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ إِزَالَتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا سَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ زَوَالِهِ فَذَكَرُوا لَهُ الْمُوسَى، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ الْجَانَّ فَصَنَعُوا لَهُ النُّورَةَ وَوَضَعُوا لَهُ الْحَمَّامَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ. فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّهُ قَالَ أوه من عَذَاب أَوْهِ أَوْهِ قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَوْهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَرَّهَا عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَأَمَرَ الْجَانَّ فَبَنَوْا لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ بِالْيَمَنِ، غمدان وسالحين وبيتون. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَلْ زَوَّجَهَا بِمَلِكِ هَمْدَانَ وَأَقَرَّهَا عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَسَخَّرَ زَوْبَعَةَ ملك الْيَمَنِ فَبَنَى لَهَا الْقُصُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْيَمَنِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: " وَوَهَبَنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ. وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ. هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مآب ". يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَالَ: " نعم العَبْد إِنَّه أواب " أَيْ رَجَّاعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْخَيْلِ الصَّافِنَاتِ وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حَافِرِ الرَّابِعَةِ، الْجِيَادِ وَهِيَ الْمُضَمَّرَةُ السِّرَاعُ. فَقَالَ: " إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب " يَعْنِي الشَّمْسَ. وَقِيلَ الْخَيْلُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. " رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والاعناق " قِيلَ مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسُّيُوفِ. وَقِيلَ مَسَحَ عَنْهَا الْعرق لما أجراها وسابق بَينهَا بَين يَدَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْأَوَّلُ، فَقَالُوا اشْتَغَلَ بِعَرْضِ تِلْكَ الْخُيُولِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ. وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَال إِنَّه كَانَ سائغا فِي شريعتهم، فَأخر الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ وَعَرْضُ الْخَيْلِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْخِير [النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (1) ] صَلَاة الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا إِذْ ذَاك حَتَّى نسخ بِصَلَاة   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الْخَوْفِ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ [إِلَى الْيَوْمِ (1) ] أَنَّهُ (2) يجوز تَأْخِيرهَا بِعُذْر الْقِتَالِ الشَّدِيدِ. كَمَا ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نِسْيَانًا وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ فِعْلُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْله: " حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب " عَائِد على الْخَيل وَأَنه لم تَنْتَهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والاعناق " يَعْنِي مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ عَرَاقِيبِهَا وَأَعْنَاقِهَا، فَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْحِ الْعَرَقِ. وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعَذِّبَ الْحَيَوَانَ بِالْعَرْقَبَةِ وَيُهْلِكَ مَالًا بِلَا سَبَبٍ وَلَا ذَنْبٍ لَهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَذَا سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْمُسلمُونَ أَن يظفر الْكفَّار على شئ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَغْنَامٍ وَنَحْوِهَا جَازَ ذَبْحُهَا وَإِهْلَاكُهَا لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهَا. وَعَلَيْهِ حُمِلَ صَنِيعُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ عَقَرَ فَرَسَهُ بمؤتة. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا عَظِيمَةً. قِيلَ كَانَت عشرَة آلَاف فرس. وَقيل [كَانَت (3) ] عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ. وَقِيلَ كَانَ فِيهَا عِشْرُونَ فَرَسًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدثنَا سعيد ابْن أَبِي مَرْيَمَ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي عمَارَة بن غزيَّة، أَن مُحَمَّد ابْن إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَت:   (1) لَيست فِي ا (2) ا: إِذْ يجوز. (3) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا (1) سِتْرٌ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَات لعَائِشَة لعب (2) فَقَالَ: ماهذا يَا عَائِشَةُ؟ فَقَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ. فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أرى وشطهن؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: وَمَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ هَذَا قَالَتْ جَنَاحَانِ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ! قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ. قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ (3) بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا، وَهُوَ الرّيح الَّتِي كَانَت غدوها شهر ورواحها شهر، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي الدَّهْمَاءِ، وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ قَالَا: أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ: أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ الله عزوجل وَقَالَ إِنَّكَ لَا تَدَعُ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عزوجل إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ ". * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثمَّ أناب " ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا من الْمُفَسّرين هَا هُنَا آثَارًا كَثِيرَةً عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَأَكْثَرُهَا أَو كلهَا مُتَلَقَّاة من الاسرائيليات،   (1) السهوة: الكوة (2) المطبوعة: تلعب وَمَا أثْبته من اموافقا لسنن أبي دَاوُد 2 / 305. (3) المطبوعة. وَقَالَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، وَقَدْ نَبَّهْنَا على ذَلِك فِي كتَابنَا التَّفْسِير واقتصرناها هُنَا عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ. وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَابَ عَنْ سَرِيرِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا عَادَ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَنَاهُ بِنَاءً مُحْكَمًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ جَدَّدَهُ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهُ مَسْجِدًا إِسْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ دَعْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمُلْكَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بعده بعد إكماله الْبَيْت الْمُقَدّس؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ لما بنى بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ ربه عزوجل خِلَالًا ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَنَا الثَّالِثَةُ: سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ؟ فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَانَا إِيَّاهَا. فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 وَعَلَى أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: " وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حكما وعلما " وَقَدْ ذَكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانَ لَهُمْ كَرْمٌ فَنَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ قَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ رَعَتْهُ بِاللَّيْلِ فَأَكَلَتْ شَجَرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَمَ لِأَصْحَابِ الْكَرْمِ بِقِيمَتِهِ فَلَمَّا خَرجُوا على سُلَيْمَان قَالَ: بِمَ حَكَمَ لَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَقَالُوا: بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ أَمَا لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمَا حَكَمْتُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ إِلَى أَصْحَابِ الْكَرْمِ فَيَسْتَغِلُّونَهَا نِتَاجًا وَدَرًّا حَتَّى يُصْلِحَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ كَرْمَ أُولَئِكَ وَيَرُدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَسَلَّمُوا غَنَمَهُمْ، فَبَلَغَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ ابْنَ إِحْدَاهُمَا فَتَنَازَعَتَا فِي الْآخَرِ فَقَالَتِ الْكُبْرَى: إِنَّمَا ذهب بابنك؟ وَقَالَت الصُّغْرَى: بل إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَحَكَمَ بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا نِصْفُهُ؟ فَقَالَت الصُّغْرَى يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لَهَا ". وَلَعَلَّ كُلًّا مِنَ الْحُكْمَيْنِ كَانَ سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَكِنْ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ أَرْجَحُ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا أَلْهَمَهُ إِيَّاهُ وَمَدَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ: " وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَل أَنْتُم شاكرون ". ثمَّ قَالَ: " ولسليمان الرّيح عَاصِفَة " أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً " تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شئ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عملا دون ذَلِك وَكُنَّا لَهُم حافظين " وَقَالَ فِي سُورَة ص: " فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مآب " لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ الَّتِي هِيَ أَسْرَعُ سَيْرًا وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ لَهَا " تَجْرِي بأَمْره رخاء حَيْثُ أصَاب " أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ، كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَخْشَابٍ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَسَعُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّورِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْخِيَامِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الْأِنْسِ وَالْجَانِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ فَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ مُسْتَنْزَهًا أَوْ قِتَالَ مَلِكٍ أَوْ أَعْدَاءٍ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَاءَ، فَإِذَا حَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبِسَاطِ أَمَرَ الرِّيحَ فَدَخَلَتْ تَحْتَهُ [فَرَفَعَتْهُ (1) ] فَإِذَا اسْتَقَلَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ الرُّخَاءَ فَسَارَتْ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ الْعَاصِفَةَ [فَحَمَلَتْهُ (1) ] أَسْرَعَ مَا يَكُونُ فَوَضَعَتْهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يرتجل فِي   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَغْدُو بِهِ الرِّيحُ فَتَضَعُهُ بِإِصْطَخْرَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فَيُقِيمُ هُنَاكَ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ آخِرِهِ فَتَرُدُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور ". قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِهَا وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْهَا فَيَبِيتُ بِكَابُلَ وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ وَكَابُلَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعِمْرَانِ وَالْبُلْدَانِ أَنَّ إِصْطَخْرَ بَنَتْهَا الْجَانُّ لِسُلَيْمَانَ وَكَانَ فِيهَا قَرَارُ مَمْلَكَةِ (2) التُّرْكِ قَدِيمًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى كَتَدْمُرَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَابِ جَيْرُونَ وَبَابِ الْبَرِيد اللَّذَان بِدِمَشْقَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَأَمَّا الْقِطْرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ النُّحَاسُ. قَالَ قَتَادَةُ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ أَنَبْعَهَا اللَّهُ لَهُ. قَالَ السُّدِّيُّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْبِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ: " وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ من عَذَاب السعير " أَيْ وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْجِنِّ عُمَّالًا   (1) ا: ملك. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ لَا يَفْتُرُونَ وَلَا يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنِ الْأَمْرِ عَذَّبَهُ وَنَكَّلَ بِهِ " يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب " وَهِي الاماكن الْحَسَنَة وصدور الْمجَالِس " وتماثيل " وَهِيَ الصُّوَرُ فِي الْجُدْرَانِ، وَكَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شريعتهم وملتهم " وجفان كالجواب ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَفْنَةُ كَالْجَوْبَةِ مِنَ الْأَرْضِ. وَعَنْهُ كَالْحِيَاضِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْجَوَابُ جمع جابية وعى؟ ؟ الْحَوْض الَّذِي يجبى فِيهِ المَاء، قَالَ الاعشى: تروح على آل المحلق جَفْنَة * كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ (1) وَأَمَّا الْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَثَافِيُّهَا مِنْهَا، يَعْنِي أَنَّهُنَّ ثَوَابِتُ لَا يَزُلْنَ عَنْ أَمَاكِنِهِنَّ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا بِصَدَدِ إِطْعَامِ الطَّعَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخلق من إِنْسَان وحيوان قَالَ تَعَالَى: " اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشكُور " وَقَالَ تَعَالَى: " وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الاصفاد " يَعْنِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ سَخَّرَهُ فِي الْبِنَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْغَوْصِ فِي الْمَاءِ لاستخراج مَا هُنَالك من الْجَوَاهِر واللآلئ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ إِلَّا هُنَالِكَ. وَقَوله: " وَآخَرين مُقرنين فِي الاصفاد " أَيْ قَدْ عَصَوْا فَقُيِّدُوا مُقَرَّنِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي الاصفاد وَهِي الْقُيُود، وَهَذَا كُله من جملَة مَا هيأه اللَّهُ وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي [هِيَ (2) ] مِنْ تَمَامِ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ قبله.   (1) تفهق: تفيض من امتلائها. (2) لَيست فِي ا (*) (م 20 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ (1) عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي (2) فسمعناه يَقُول: أعوذ بِاللَّه مِنْكَ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ [قَدْ (3) ] سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ. فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة بِهِ.   (1) ا: ابْن شريك وَهُوَ تَحْرِيف (2) ط: فصلى. وَمَا أثْبته من ا. وَهَذِه الْكَلِمَة لَيست فِي صَحِيح مُسلم. (3) سَقَطت من المطبوعة وأثبتها من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وَقَالَ أَحْمد: حَدثنَا أَبُو أَحْمد، حَدثنَا مرّة بن معبد، حَدثنَا أَبُو عبيد حَاجِب سُلَيْمَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي، فَذَهَبْتُ أَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَدَّنِي ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ (1) الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ ". رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْهُ " فَمَنِ اسْتَطَاعَ " إِلَى آخِرِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ مِنَ النِّسَاءِ أَلْفُ امْرَأَةٍ سَبْعُمِائَةٍ بِمُهُورٍ وَثَلَاثُمِائَةٍ سَرَارِيُّ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ ثَلَاثُمِائَةٍ حَرَائِرُ وَسَبْعُمِائَةٍ مِنَ الْإِمَاءِ، وَقَدْ كَانَ يُطِيقُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ الله. فَلم يقل فَلم   (1) ا: مَا بَين. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: تِسْعِينَ وَهُوَ أَصَحُّ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَلِدُ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوَلَدَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَاما يضْرب بِالسَّيْفِ فِي سَبِيل الله عزوجل ". إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدثنَا هِشَام، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ. فَمَا وَلَدَتْ إِلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشِقِّ إِنْسَانٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوِ اسْتَثْنَى لَوُلِدَ لَهُ مِائَةُ غُلَامٍ كلهم يُقَاتل فِي سَبِيل الله عزوجل ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا (1) مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [قَالَ (2) ] وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَطَافَ بِهِنَّ قَالَ: فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا (3) وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ ". وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ مثله. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا مُقَاتِلٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسِتُّمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَقَالَ يَوْمًا: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى أَلْفِ امْرَأَةٍ فَتَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو اسْتَثْنَى فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوُلِدَ لَهُ مَا قَالَ فُرْسَانٌ وَلَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عزوجل ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ لِحَالِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ، فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَ الرِّوَايَاتِ الصِّحَاحَ. وَقَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُمُورِ الْمُلْكِ وَاتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَتَنَوُّعِهَا مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا يُعْطِيهِ اللَّهُ أَحَدًا بَعْدَهُ كَمَا قَالَ: " وَأُوتِينَا   (1) ا: أخبرنَا (2) لَيست فِي ا. (3) ا: إِلَّا إمرأة وَاحِدَة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 من كل شئ " " وَقَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ " وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِنَصِّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَأَسْدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْكَامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَيْهِ قَالَ: " هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ " أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ، فَلَا حِسَابَ عَلَيْكَ أَيْ تَصَرَّفْ فِي الْمَالِ كَيْفَ شِئْتَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَوَّغَ لَكَ مَا تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُحَاسِبُكَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ النَّبِيِّ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُعْطِيَ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ خُيِّرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ. فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخِلَافَةَ وَالْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ فِي أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا وَهَبَهُ لِنَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا نَبَّهَ عَلَى مَا أَعَدَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَجْرِ الْجَمِيلِ وَالْقُرْبَةِ الَّتِي تُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْمَعَادِ وَالْحِسَابِ حَيْثُ يَقُول تَعَالَى: " وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ذكر وَفَاته وَكم كَانَت مُدَّة مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين ". رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ كَذَا. فَيَقُول لاي شئ أَنْتِ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ وَإِنْ كَانَتْ لدواء أنبتت. فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ: قَالَت الخروب. قَالَ: لاي شئ أَنْتِ؟ قَالَتْ لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَنَحَتَهَا عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا حَوْلًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ. فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ. لَفَظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سَلمَة بن كهيل، عَن سعيد ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا. وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 عَبَّاس، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ فَيَأْتِيهَا فَيَسْأَلُهَا مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ: اسْمِي كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا. فَيَجْعَلُهَا كَذَلِكَ حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا الْخَرُّوبَةُ (1) فَسَأَلَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَت: أَنا الخروبة. فَقَالَ: ولاي شئ نَبَتِّ؟ فَقَالَتْ: نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ (2) سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ. ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْتُ جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ. فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ فَمَرَّ وَلَمْ يَكُنْ شَيْطَانٌ يَنْظُرُ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا احْتَرَقَ، فَلم يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَنَظَرَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا، فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ فَأَخْرَجُوهُ وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، قَدْ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ وَلَمْ يعلموامنذ كم مَاتَ فوضعوا   (1) ا: الخروب. (2) ا: قَالَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ حَوْلًا [كَامِلًا (1) ] فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَكْذِبُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يعْملُونَ لَهُ [ذَلِك (2) ] وَذَلِكَ قَول الله عزوجل: " مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين " يَقُولُ: تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْك المَاء والطين. قَالَ: فَإِنَّهُم يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ. قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخشب فَهُوَ مَا يَأْتِيهَا بِهِ الشَّيْطَان تشكرا لَهَا. وَهَذَا فِيهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَة، قَالَ: قَالَ سُلَيْمَان ابْن دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْبِضَ رُوحِي فَأَعْلِمْنِي قَالَ: مَا أَنَا أعلم بِذَاكَ مِنْك إِنَّمَا هِيَ كتب يلقى إِلَيَّ فِيهَا تَسْمِيَةُ مَنْ يَمُوتُ. وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلمنِي، فَأَتَاهُ فَقَالَ:   (1) لَيست فِي ا (2) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ. فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ لَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَصَاهُ وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ. قَالَ: وَالْجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةَ الْأَرْضِ يَعْنِي إِلَى مِنْسَأَتِهِ فَأَكْلَتْهَا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ ذَلِكَ انْفَضُّوا وَذَهَبُوا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين ". قَالَ أَصْبَغُ: وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا مَكَثَتْ سنة تَأْكُل من مِنْسَأَتِهِ حَتَّى خَرَّ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السّلف وَغَيرهم وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَنْبَأَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُلْكَهُ كَانَ عِشْرِينَ سَنَةً. وَالله أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ ثُمَّ مَلَكَ بعده ابْنه رحبعام (1) [مُدَّةَ (2) ] سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جرير. وَقَالَ: ثمَّ تَفَرَّقت بعده مملكة بني إِسْرَائِيل.   (1) ا: رخعم. (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِم السَّلَام مِمَّن لَا يعلم وَقت زمانهم على التَّعْيِين إِلَّا أَنهم بعد دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقبل زَكَرِيَّا وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَمِنْهُمْ شِعْيَا (1) بْنُ أَمْصِيَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَهُوَ مِمَّنْ (2) بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَكَانَ فِي زَمَانه ملك اسْمه حزقيا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ سَامِعًا مُطِيعًا لِشِعْيَا فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَانَتِ الْأَحْدَاثُ قَدْ عَظُمَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرِضَ الْمَلِكُ وَخَرَجَتْ فِي رِجْلِهِ قُرْحَةٌ، وَقَصَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَلِكُ بَابِلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهُوَ سَنْحَارِيبُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ. وَفَزِعَ النَّاسُ فَزَعًا عَظِيمًا شَدِيدًا. وَقَالَ الْمَلِكُ لِلنَّبِيِّ شِعْيَا: مَاذَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ سَنْحَارِيبَ وَجُنُوده؟ فَقَالَ: لم يُوح إِلَى فيهم شئ بَعْدُ ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالْأَمْرِ لِلْمَلِكِ حزقيا بِأَنْ يُوصِيَ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى وَسَبَّحَ وَدَعَا وَبَكَى فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ عزوجل بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهَ الْآلِهَةِ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، يَا من   (1) فِي الْقَامُوس: وسعيا بن مصيا، نَبِي بشر بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام والشين لُغَة. (2) ا: وَهُوَ الَّذِي يشر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ اذْكُرْنِي بِعِلْمِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي سِرِّي وَإِعْلَانِي لَكَ. قَالَ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يُبَشِّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَحِمَ بُكَاءَهُ وَقَدْ أخر فِي أَجله خمس عشر سَنَةً وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ سَنْحَارِيبَ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ مِنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحُزْنُ وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تشَاء، عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، فَأَنت الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ. فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا [أَنْ يَأْمُرَهُ (1) ] أَنْ يَأْخُذَ مَاءَ التِّينِ فَيَجْعَلَهُ عَلَى قُرْحَتِهِ فَيَشْفَى وَيُصْبِحَ قَدْ بَرِئَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ فَشُفِيَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ سَنْحَارِيبَ الْمَوْتَ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ سوى سنحاريب وَخَمْسَة من أَصْحَابه مِنْهُم بخْتنصر فَأَرْسَلَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَاءَ بِهِمْ فَجَعَلَهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَطَافَ بِهِمْ فِي الْبِلَادِ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ وَالْإِهَانَةِ لَهُمْ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَيُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَ الْمَلِكَ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَى بِلَادِهِمْ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ مَا قَدْ حَلَّ بِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَمَعَ سَنْحَارِيبُ قَوْمَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَقَالَ لَهُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ: إِنَّا أَخْبَرْنَاكَ عَنْ شَأْنِ رَبِّهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ تُطِعْنَا، وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مِنْ رَبِّهِمْ فَكَانَ أَمْرُ سَنْحَارِيبَ مِمَّا خَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ مَاتَ سَنْحَارِيبُ بَعْدَ سبع سِنِين.   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 قَالَ ابْن إِسْحَاق: ثمَّ لما مَاتَ حزقيا مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَجَ أَمَرُهُمْ وَاخْتَلَطَتْ أَحْدَاثُهُمْ، وَكَثُرَ شَرُّهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا فَقَامَ فِيهِمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَنْذَرَهُمْ بَأْسَهُ وَعِقَابَهُ إِنْ خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ وَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهُدْبَةِ ثَوْبِهِ فَأَبْرَزَهَا فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ جَاءُوا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعُوهُ عَلَى الشَّجَرَةِ فَنَشَرُوهَا وَنَشَرُوهُ مَعَهَا، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (1) .   * (1) وَهَذَا من الاسرائيليات الَّتِي لَا سَنَد لَهَا من الرِّوَايَات الاسلامية، فَلَا تصدق وَلَا تكذب إِلَّا إِن خَالَفت الْحق. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وَمِنْهُمْ أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ الْخَضِرُ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ يَفُورُ بِدِمَشْقَ فَقَالَ: أَيُّهَا الدَّمُ فَتَنْتَ النَّاسَ فَاسْكُنْ. فَسَكَنَ وَرَسَبَ حَتَّى غَابَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَن أَحْمد ابْن حَبَّابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَرْمِيَا: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا، الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ بِذِكْرِي عَنْ ذِكْرِ الْخَلَائِقِ، الَّذِينَ لَا تعرض لَهُم وساوس الفناء وَلَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْبَقَاءِ، الَّذِينَ إِذَا عَرَضَ لَهُمْ عَيْشُ الدُّنْيَا قَلَوْهُ وَاذَا زُوِيَ عَنْهُمْ سُرُّوا بِذَلِكَ، أُولَئِكَ أَنْحَلُهُمْ مَحَبَّتِي وَأُعْطِيهِمْ فَوْقَ غاياتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ذِكْرُ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " وَآتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل أَن لَا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا. وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا " وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ أَرْمِيَا حِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْمَعَاصِي: أَنْ قُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا وَلَا يَفْقَهُونَ، وَأَعْيُنًا وَلَا يُبْصِرُونَ وَآذَانًا وَلَا يَسْمَعُونَ وَإِنِّي تَذَكَّرْتُ صَلَاحَ آبَائِهِمْ فَعَطَفَنِي ذَلِكَ عَلَى أَبْنَائِهِمْ. فَسَلْهُمْ كَيْفَ وَجَدُوا غِبَّ طَاعَتِي، وَهَلْ سَعِدَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَصَانِي بِمَعْصِيَتِي، وَهَلْ شَقِيَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَطَاعَنِي بِطَاعَتِي؟ إِنِ الدَّوَابَّ تَذْكُرُ أَوْطَانَهَا فَتَنْزِعُ إِلَيْهَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ وَالْتَمَسُوا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا، أَمَّا أَحْبَارُهُمْ فَأَنْكَرُوا حَقِّي وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ فَعَبَدُوا غَيْرِي، وَأَمَّا نُسَّاكُهُمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا عَلِمُوا، وَأَمَّا وُلَاتُهُمْ فَكَذَبُوا عَليّ وعَلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 رُسُلِي، خَزَنُوا الْمَكْرَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعَوَّدُوا الْكَذِبَ أَلْسِنَتَهُمْ [وَإِنِّي أُقْسِمُ بِجَلَالِي وَعِزَّتِي لَأُهَيِّجَنَّ عَلَيْهِمْ جُيُولًا لَا يَفْقَهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ (1) ] وَلَا يَعْرِفُونَ وُجُوهَهُمْ وَلَا يَرْحَمُونَ بُكَاءَهُمْ، وَلَأَبْعَثَنَّ فِيهِمْ مَلِكًا جَبَّارًا قَاسِيًا لَهُ عَسَاكِرُ كَقِطَعِ السَّحَابِ وَمَوَاكِبُ كَأَمْثَالِ الْفِجَاجِ كَأَنَّ خَفَقَانَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ وَكَأَنَّ حَمْلَ فُرْسَانِهِ كَرُّ الْعِقْبَانِ يُعِيدُونَ الْعُمْرَانَ خَرَابًا ويتركون الْقرى وَحْشَة، فياويل إيليا وسكانها كَيفَ أذللهم للْقَتْل وأسلط عَلَيْهِم السبا وَأُعِيدُ بَعْدَ لَجَبِ الْأَعْرَاسِ صُرَاخًا، وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيل عواء الذئاب، وَبعد شرفات الْقُصُورِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ وَبَعْدَ ضَوْءِ السُّرُجِ وَهَجَ الْعَجَاجِ وَبِالْعِزِّ الذُّلَّ (2) وَبِالنِّعْمَةِ الْعُبُودِيَّةَ وَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهُمْ بَعْدَ الطِّيبِ التُّرَابَ، وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ الْخَبَبَ، ولاجعلن أَجْسَادهم زبلا للارض وعظامهن ضَاحِيَةً لِلشَّمْسِ، وَلَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَلْوَانِ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاء فَتكون طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَالْأَرْضَ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ فَإِنْ أَمْطَرَتْ لَمْ تَنْبُتِ الْأَرْضُ، وَإِنْ أَنْبَتَتْ شَيْئًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَبِرَحْمَتِي لِلْبَهَائِمِ، ثُمَّ أَحْبِسُهُ فِي زَمَانِ الزَّرْعِ وَأُرْسِلُهُ فِي زَمَانِ الْحَصَادِ فَإِنْ زَرَعُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْئًا سلطت عَلَيْهِ الآفة فَإِن خلص مِنْهُ شئ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ، فَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ، وَإِنْ سَأَلُوا لَمْ أُعْطِهِمْ، وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ، وَإِنْ تَضَرَّعُوا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ أَرْمِيَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ حِينَ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ   (1) سَقَطت من ا (2) ط: وبالعز ذلا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 فيهم فعملوا بِالْمَعَاصِي وَقتلُوا الانبياء طمع بخْتنصر فِيهِمْ وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُمْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا: أَنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ فَقُمْ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَأْتِيكَ أَمْرِي وَوَحْيِي. فَقَامَ أَرْمِيَا فَشَقَّ ثِيَابَهُ وَجَعَلَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ وخر سَاجِدا وَقَالَ: يَا رب وددت أَن أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي حِينَ جَعَلْتَنِي آخِرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَكُونُ خَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَوَارُ بني إِسْرَائِيل من أَجلي. فَقَالَ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: يَا رب من تسلط عَلَيْهِم؟ فَقَالَ: عَبَدَةُ النِّيرَانِ لَا يَخَافُونَ عِقَابِي وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابِي قُمْ يَا أَرْمِيَا فَاسْتَمِعْ وَحْيِي أُخْبِرْكَ خَبَرَكَ وَخَبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ بَطْنِ أُمِّكَ طَهَّرْتُكَ. وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ (1) وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ، فَقُمْ مَعَ الْمَلِكِ تسدده وترشده فَكَانَ مَعَ الْملك يسدده (2) وَيَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ حَتَّى عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ وَنَسَوْا مَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَدَوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا: قُمْ فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ. فَقَالَ أَرْمِيَا: يَا رَبِّ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي مُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسَدِّدْنِي، مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي ذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي. فَقَالَ الله تَعَالَى: أَو لم تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي وَأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ وَالْأَلْسِنَةَ (3) كُلَّهَا بِيَدِي فَأُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ [فَتُطِيعُنِي (4) ] فَأَنا الله الَّذِي لَيْسَ شى، مثلي، قَامَت   (1) فِي تَارِيخ الطَّبَرِيّ 658 ط أوربا: " اختبرتك ". (2) كَذَا فِي ط وَفِي ا: فَكَانَ يرشده ويأتيه الوحى. (3) الطَّبَرِيّ: والالسن. (4) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 السَّمَوَات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ التَّوْحِيدُ وَلَمْ تَتِمَّ الْقُدْرَةُ إِلَّا لِي، وَلَا يَعْلَمُ مَا عِنْدِي غَيْرِي، وَأَنَا الَّذِي كَلَّمْتُ الْبِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلِي وَأَمَرْتُهَا فَفَعَلَتْ أَمْرِي، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا حُدُودًا فَلَا تَعْدُو حَدِّي، وَتَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ فَإِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةً لِطَاعَتِي وَخَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي (1) ، وَإِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْك شئ مَعِي، وَإِنِّي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي فَتَسْتَوْجِبَ لِذَلِكَ أَجْرَ مَنِ اتَّبَعَكَ وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. انْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ فَقُمْ فِيهِمْ وَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ [قَدْ (1) ] ذَكَرَكُمْ بِصَلَاحِ آبَائِكُمْ فَلِذَلِكَ استبقاكم، يَا معشر أَبنَاء الانبياء، وَكَيف وَجَدَ آبَاؤُكُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي وَكَيْفَ وَجَدْتُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي، وَهَلْ وَجَدُوا أَحَدًا عَصَانِي فَسَعِدَ بِمَعْصِيَتِي وَهَلْ عَلِمُوا أَحَدًا أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي؟ إِنَّ الدَّوَابَّ إِذَا ذَكَرَتْ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ نَزَعَتْ إِلَيْهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ وَتركُوا الامر الَّذِي أكرمت بِهِ آبَاءَهُم وابتغوا الْكَرَامَة (2) من غير وَجههَا. فَأَما أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ فاتخذوا عبَادي خولا يتعبدونهم ويعملون فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي [حَتَّى (2) ] أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي وَأَنْسَوْهُمْ ذِكْرِي [وَسُنَّتِي (1) ] وَغَرُّوهُمْ عَنِّي فَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي، فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي. وَأَمَّا مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ فَبَطَرُوا نِعْمَتِي وَأَمِنُوا مَكْرِي وَغَرَّتْهُمُ الدُّنْيَا حَتَّى نَبَذُوا كِتَابِي وَنَسُوا عَهْدِي، فَهُمْ يُحَرِّفُونَ كِتَابِي وَيَفْتَرُونَ عَلَى رُسُلِي جُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ وَغِرَّةً بِي، فَسُبْحَانَ جَلَالِي وَعُلُوِّ مَكَانِي وَعَظَمَةِ شَأْنِي، هَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِي شَرِيكٌ فِي مُلْكِي؟ وَهل يَنْبَغِي ليشر أَن يطاع فِي معصيتي؟   (1) الطَّبَرِيّ: ألبستها مذلة طَاعَتي خوفًا واعترافا لامرى. (2) لَيست فِي ا (3) ا: وَاتبعُوا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وَهَلْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْلُقَ عِبَادًا أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي أَوْ آذَنَ لِأَحَدٍ بِالطَّاعَةِ لِأَحَدٍ وَهِيَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي؟ ! وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ وَفُقَهَاؤُهُمْ فَيَدْرُسُونَ مَا يَتَخَيَّرُونَ، فَيَنْقَادُونَ لِلْمُلُوكِ فَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي ويطيعونهم فِي معصيتى، وبوفون لَهُمْ بِالْعُهُودِ النَّاقِضَةِ لِعَهْدِي، فَهُمْ جَهَلَةٌ بِمَا يعلمُونَ لَا يَنْتَفِعُونَ بشئ مِمَّا عَلِمُوا مِنْ كِتَابِي. وَأَمَّا أَوْلَادُ النَّبِيِّينَ فَمَقْهُورُونَ وَمَفْتُونُونَ، يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ نَصْرِي آبَاءَهُمْ وَالْكَرَامَةَ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ صِدْقٍ مِنْهُمْ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ وَكَيْفَ كَانَ جُهْدُهُمْ فِي أَمْرِي حِين اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّونَ، وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا حَتَّى عَزَّ أَمْرِي وَظَهَرَ دِينِي. فَتَأَنَّيْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَعَلَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ (1) مِنِّي وَيَرْجِعُونَ، فَتَطَوَّلْتُ عَلَيْهِمْ وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ وَأَعْذَرْتُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَكُلُّ ذَلِكَ أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ وَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي [فَحَتَّى (2) ] مَتَى هَذَا؟ أَبِي؟ ؟ يسخرون أم بى يتحرشون أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ. فَإِنِّي أقسم بعزتي لاتيحن عَلَيْهِم فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ (3) وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذَوِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِيًا أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ وَأَنْزِعُ مِنْ قَلْبِهِ [الرَّأْفَةَ (2) ] وَالرَّحْمَةَ وَآلَيْتُ أَنْ يَتَّبِعَهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لَهُ فِيهِ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ وَمُوَاكِبُ مِثْلُ الْعَجَاجِ، وَكَأَنَّ خفيق (4) راياته طيران   (1) ا: يسنخفون. (2) سَقَطت من ا. (3) المطبوعة: الْحَكِيم. وَمَا اثبته من ا. (4) كَذَا فِي اموافقا للطبري وَفِي المطبوعة. حفيف. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 النسور وَحمل فرسانه كريد (1) العقبان، يعيدون الْعمرَان خرابا والقرى وحشا ويعثون فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيُتَبِّرُونَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، قاسية قُلُوبهم لَا يكترثون وَلَا يرقبون وَلَا يَرْحَمُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، يَجُولُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ مِثْلَ زَئِيرِ الْأُسْدِ تَقْشَعِرُّ مِنْ هَيْبَتِهَا الْجُلُودُ وَتَطِيشُ مِنْ سَمْعِهَا الْأَحْلَامُ بِأَلْسِنَةٍ لَا يَفْقَهُونَهَا وَوُجُوهٍ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا الْمُنْكَرُ لَا يَعْرِفُونَهَا. فَوَعِزَّتِي لَأُعَطِّلَنَّ بُيُوتَهُمْ مِنْ كُتُبِي وَقُدُسِي وَلَأُخْلِيَنَّ مَجَالِسَهُمْ مِنْ حَدِيثِهَا وَدُرُوسِهَا وَلَأُوحِشَنَّ مَسَاجِدَهُمْ مِنْ عُمَّارِهَا وَزُوَّارِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَيَّنُونَ بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي وَيَتَهَجَّدُونَ فِيهَا وَيَتَعَبَّدُونَ لِكَسْبِ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ، لَأُبَدِّلَنَّ مُلُوكَهَا بِالْعِزِّ الذُّلَّ وَبِالْأَمْنِ الْخَوْفَ وَبِالْغِنَى الْفَقْرَ وَبِالنِّعْمَةِ الْجُوعَ وَبِطُولِ الْعَافِيَة والرخاء ألوان الْبَلَاءِ، وَبِلِبَاسِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ مَدَارِعَ الْوَبَرِ وَالْعَبَاءَ، وَبِالْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَدْهَانِ جِيَفَ الْقَتْلَى، وَبِلِبَاسِ التِّيجَانِ أَطْوَاقَ الْحَدِيدِ وَالسَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ، ثُمَّ لَأُعِيدَنَّ فِيهِمْ بَعْدَ الْقُصُورِ الْوَاسِعَةِ وَالْحُصُونِ الْحَصِينَةِ الْخَرَابَ، وَبَعْدَ الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعْدَ ضَوْءِ السِّرَاجِ دُخَانَ الْحَرِيقِ، وَبَعْدَ الْأُنْسِ الْوَحْشَةَ وَالْقِفَارَ. ثُمَّ لَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهَا بِالْأَسْوِرَةِ الْأَغْلَالَ وَبِقَلَائِدِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ سَلَاسِلَ الْحَدِيدِ، وبألوان الطّيب والادهان النَّفْع وَالْغُبَارَ، وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ عُبُورَ الْأَسْوَاقِ وَالْأَنْهَارِ وَالْخَبَبَ إِلَى اللَّيْلِ فِي بُطُونِ الْأَسْوَاقِ وَبِالْخُدُورِ وَالسُّتُورِ الْحُسُورَ عَنِ الْوُجُوهِ وَالسُّوقِ وَالْإِسْفَارَ وَالْأَرْوَاحِ السَّمُومَ ثُمَّ لَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْكَائِنُ مِنْهُمْ فِي حَالِقٍ لَوَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، إِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي وَإِنَّمَا أهين من هان عَلَيْهِ أمرى.   (1) الاصل: كسرب العقبان. وَمَا أثْبته من تَارِيخ الطَّبَرِيّ 661 ط أوربا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاءَ خِلَالَ ذَلِكَ فَلَتَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَآمُرَنَّ الْأَرْضَ فَلَتَكُونَنَّ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ فَلَا سَمَاءَ تُمْطِرُ وَلَا أَرْضَ تُنْبِتُ. فَإِنْ أَمْطَرَتْ خِلَالَ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِم الآفة، فَإِن خلص مِنْهُ شئ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ وَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ؟ ؟ وَإِنْ سَأَلُونِي لَمْ أُعْطِهِمْ وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ وَإِنْ تَضَرَّعُوا إِلَيَّ صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَامَتِكَ، وَذَلِكَ بِأَنَّكَ اخْتَرْتَنَا لِنَفْسِكَ وَجَعَلْتَ فِينَا نُبُوَّتَكَ وَكِتَابَكَ وَمَسَاجِدَكَ ثُمَّ مَكَّنَتْ لَنَا فِي الْبِلَادِ وَاسْتَخْلَفْتَنَا فِيهَا وَرَبَّيْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِنِعْمَتِكَ صِغَارًا وَحَفِظْتَنَا وَإِيَّاهُمْ بِرَحْمَتك كبارًا فَأَنت أوفي المنعمين وَإِنْ غَيَّرْنَا، وَلَا تُبَدِّلْ وَإِنْ بَدَّلْنَا وَأَنْ تُتِمَّ فَضْلَكَ وَمَنَّكَ وَطَوْلَكَ وَإِحْسَانَكَ (1) . فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ قُلْتُ لَهُمْ إِنِّي أَبْتَدِئُ عِبَادِي بِرَحْمَتِي وَنِعْمَتِي، فَإِنْ قَبِلُوا أَتْمَمْتُ وَإِنِ اسْتَزَادُوا زِدْتُ وَإِن شكروا ضاعفت وَإِن غيروا غَيَّرْتُ، وَإِذَا غَيَّرُوا غَضِبْتُ [وَإِذَا غَضِبْتُ عَذَّبْتُ وَلَيْسَ يقوم شئ بغضبي (2) ] . قَالَ كَعْب: فَقَالَ أرميا: بِوَجْهِك أَصبَحت أتعلم بَيْنَ يَدَيْكَ [وَهَلْ يَنْبَغِي ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَذَلُّ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْكَ (2) ] وَلَكِنْ بِرَحْمَتِكَ أَبْقَيْتَنِي لِهَذَا الْيَوْمِ وَلَيْسَ [أَحَدٌ (2) ] أَحَقَّ أَنْ يَخَافَ هَذَا الْعَذَابَ وَهَذَا الْوَعِيدَ مِنِّي بِمَا رَضِيتَ بِهِ مِنِّي طَوْلًا وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْخَاطِئِينَ وَهُمْ يعصونك حَولي بِغَيْر نكر وَلَا تَغْيِيرٍ مِنِّي، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذَنْبِي وَإِنْ تَرْحَمْنِي فَذَلِكَ ظَنِّي بِكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، أَتُهْلِكُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ مَسَاكِنُ أَنْبِيَائِكَ ومنزل وحيك   (1) : وَأَن يتم نعْمَته وفضله وَطوله وإحسانه. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ لِمَخْرَبِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَمِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي رُفِعَتْ لِذِكْرِكَ، يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك وتباركت وَتَعَالَيْت لمقتل هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعَذَابِكَ إِيَّاهُمْ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ وَأُمَّةِ مُوسَى نَجِيِّكَ وَقَوْمِ دَاوُدَ صَفِيِّكَ، يَا رَبِّ أَيُّ الْقُرَى تَأْمَنُ عُقُوبَتَكَ بعد، وَأَيُّ الْعِبَادِ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَكَ بَعْدَ وَلَدِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ وَأُمَّةِ نَجِيِّكَ مُوسَى وَقَوْمِ خَلِيفَتِكَ دَاوُدَ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَبَدَةَ النِّيرَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَرْمِيَا مَنْ عَصَانِي فَلَا يَسْتَنْكِرُ نِقْمَتِي، فَإِنِّي إِنَّمَا أَكْرَمْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَصَوْنِي لَأَنْزَلْتُهُمْ دَارَ الْعَاصِينَ، إِلَّا أَنْ أَتَدَارَكَهُمْ بِرَحْمَتِي. قَالَ أَرْمِيَا: يَا رَبِّ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَحَفِظْتَنَا بِهِ، وَمُوسَى قَرَّبْتَهُ نَجَّيًا فَنَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا وَلَا تَتَخَطَّفَنَا وَلَا تُسَلِّطَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا أَرْمِيَا إِنِّي قَدَّسْتُكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ وَأَخَّرْتُكَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، فَلَوْ أَنَّ قَوْمَكَ حَفِظُوا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ لَكُنْتُ الدَّاعِمَ لَهُمْ وَكَانُوا عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ جَنَّةٍ نَاعِمٍ شَجَرُهَا طَاهِرٍ مَاؤُهَا وَلَا يَغُورُ مَاؤُهَا وَلَا تَبُورُ ثِمَارُهَا وَلَا تَنْقَطِعُ، وَلَكِنْ سَأَشْكُو إِلَيْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي كُنْتُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاعِي الشَّفِيقِ أُجَنِّبُهُمْ كُلَّ قَحْطٍ وَكُلَّ عُسْرَةٍ وَأُتْبِعُ بِهِمُ الْخَصْبَ حَتَّى صَارُوا كِبَاشًا يَنْطَحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فياويلهم ثُمَّ يَا وَيْلَهُمْ، إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي وَأُهِينَ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي، إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْقُرُونِ يَسْتَخْفُونَ بِمَعْصِيَتِي وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتَبَرَّعُونَ بِمَعْصِيَتِي تَبَرُّعًا فَيُظْهِرُونَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَعَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ وَظِلَالِ الْأَشْجَارِ حَتَّى عَجَّتِ السَّمَاءُ إِلَيَّ مِنْهُمْ وَعَجَّتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَنَفَرَتْ مِنْهَا الْوُحُوشُ بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ وَأَقَاصِيهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْكِتَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 قَالَ: فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ وَسَمِعُوا مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ واتهموه وَقَالُوا: كذبت وأعظمت عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ فَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ؟ فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ؟ ! لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ. فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وسجنوه، فَعِنْدَ ذَلِك بعث الله عَلَيْهِم بخْتنصر فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ حَاصَرَهُمْ فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " فَجَاسُوا خِلَالَ الديار " قَالَ: فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ الْحَصْرُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ وَتَخَلَّلُوا الْأَزِقَّةَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: " فجاسوا خلال الديار " وَحَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ وَسَبَى الثُّلُثَ وَتَرَكَ الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وسَاق الصّبيان وأوقف النِّسَاء فِي الاسواق حاسرات، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَخَرَّبَ الْحُصُونَ وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ وَحَرَقَ التَّوْرَاة، وَسَأَلَ عَن دانيال الَّذِي كَانَ قد كَتَبَ لَهُ الْكِتَابَ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ وَأَخْرَجَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِمْ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ الْأَصْغَرُ وَمِيشَائِيلُ وَعِزْرَائِيلُ وَمِيخَائِيلُ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ. وَكَانَ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ خلفا من دانيال الاكبر وَدخل بخْتنصر بِجُنُودِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَطِئَ الشَّامَ كُلَّهَا وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا انْصَرَفَ رَاجِعًا وَحَمَلَ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَتْ بِهَا وَسَاقَ السَّبَايَا فَبَلَغَ مَعَهُ عِدَّةُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَحْبَارِ وَالْمُلُوكِ تِسْعِينَ أَلْفَ غُلَامٍ، وَقَذَفَ الْكُنَاسَاتِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَبَحَ فِيهِ الْخَنَازِيرَ وَكَانَ الْغِلْمَانُ سَبْعَةَ آلَافِ غُلَامٍ مَنْ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سبط ايشى بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ وَنِفْتَالِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ دَانِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَسْتَاخِرَ بن يَعْقُوب، وألفين من سبط زيكون بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قِيلَ لَهُ كَانَ لَهُمْ صَاحِبٌ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ وَيَصِفُكَ وَخَبَرَكَ لَهُمْ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاجِدَهُمْ وَتَحْرِقُ كَنَائِسَهُمْ، فَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وَضَرَبُوهُ وقيدوه وحبسوه. فَأمر بخْتنصر فَأَخْرَجَ أَرْمِيَا مِنَ السِّجْنِ فَقَالَ لَهُ: أَكُنْتَ تُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا أَصَابَهُمْ؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ فَإِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ. قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُونِي قَالَ كَذَّبُوكَ وَضَرَبُوكَ وَسَجَنُوكَ؟ قَالَ نَعَمْ: قَالَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِي فَأُكْرِمُكَ وَأُوَاسِيكَ وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقِيمَ فِي بِلَادِكَ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ. قَالَ لَهُ أَرْمِيَا: إِنِّي لَمْ أَزَلْ فِي أَمَانِ اللَّهِ مُنْذُ كُنْتُ لَمْ أَخْرُجْ مِنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَلَوْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ لَمْ يَخَافُوكَ وَلَا غَيْرَكَ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان. فَلَمَّا سمع بخْتنصر هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ تَرَكَهُ فَأَقَامَ أَرْمِيَا مَكَانَهُ بِأَرْض إيليا. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَأَشْيَاءُ مَلِيحَةٌ، وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيبِ غَرَابَةٌ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بخْتنصر أُصْفَهْبَذًا لِمَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ إِلَى الرُّومِ لِلْمَلِكِ عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ، وَكَانَ قَدْ بَنَى مَدِينَة بَلخ الَّتِي تلقب بالخنساء، وَقَاتَلَ التُّرْكَ وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الْأَمَاكِنِ وَبَعَثَ بخْتنصر لِقِتَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ [بِالشَّامِ (1) ] فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ صَالحه   (1) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 أَهْلُ دِمَشْقَ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي بَعَثَ بخْتنصر إِنَّمَا هُوَ بَهْمَنُ مَلِكُ الْفُرْسِ بَعْدَ بَشْتَاسِبُ بْنِ لَهْرَاسِبُ، وَذَلِكَ لِتَعَدِّي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ؟ ؟، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ بخْتنصر لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ وَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي على كبا، يعْنى القمامة، فَسَأَلَهُمْ ماهذا الدَّمُ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا وَكُلَّمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَسَكَنَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ يَحْيَى بن زَكَرِيَّا بعد بخْتنصر بِمُدَّةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٍ أَوْ دَمٌ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَوْ لِمَنْ (1) شَاءَ اللَّهُ مِمَّنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. قَالَ هِشَامُ بن الكلبى: قدم بخْتنصر بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا وَكَانَ مِنْ آلِ دَاوُدَ وَصَانَعَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ مِنْهُ بخْتنصر رَهَائِنَ وَرَجَعَ، فَلَمَّا بَلَغَ طَبَرِيَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَارُوا عَلَى مَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ صَالَحَهُ، فَضَرَبَ رِقَابَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرَّهَائِنِ وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ وَجَدَ فِي السِّجْنِ أَرْمِيَا النَّبِيَّ فَأَخْرَجَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ عَن ذَلِك فَكَذبُوهُ وسجنوه [فَقَالَ بخْتنصر: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ عَصَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ (2) ] وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ ضُعَفَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أسأنا وظلمنا   (1) ا: أَو من شَاءَ الله. (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَنحن نتوب إِلَى الله عزوجل مِمَّا صَنَعْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَنَا، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ، فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيُقِيمُوا مَعَكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ. فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نُقِيمُ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَقَدْ خَرِبَتْ [وَقد (1) ] غضب اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا! فَأَبَوْا أَنْ يُقِيمُوا. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبِلَادِ فَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحِجَازَ وَطَائِفَةٌ يَثْرِبَ وَطَائِفَةٌ وَادِي الْقُرَى، وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْهُم إِلَى مصر، فَكتب بخْتنصر إِلَى مَلِكِهَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ شَرَدَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَقَاتَلَهُ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ حَتَّى بَلَغَ أَقْصَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ بِسَبْيٍ كَثِيرٍ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنِّ وَفِي السَّبْيِ دَانْيَالُ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَانْيَالُ بْنُ حَزْقِيلَ الْأَصْغَرُ لَا الْأَكْبَرُ. عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ذكر شئ مِنْ خَبَرِ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ، عَنِ الْأَجْلَحِ الْكِنْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي الْهُذيْل، قَالَ ضرا بخْتنصر أَسَدَيْنِ فَأَلْقَاهُمَا فِي جُبٍّ، وَجَاءَ بِدَانْيَالَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُهَيِّجَاهُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اشْتَهَى مَا يَشْتَهِي الْآدَمِيُّونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا وَهُوَ بِالشَّامِ: أَنْ أَعْدِدْ طَعَامًا وَشَرَابًا لِدَانْيَالَ فَقَالَ يَا رَبِّ أَنَا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَدَانْيَالُ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْدِدْ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ فَإِنَّا سَنُرْسِلُ مَنْ يَحْمِلُكَ وَيَحْمِلُ مَا أَعْدَدْتَ. فَفَعَلَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ من حمله وَحمل مَا أعده حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُبِّ فَقَالَ دَانْيَالُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا أَرْمِيَا. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَنِي رَبِّي؟ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ دَانْيَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ، وَالْحَمْد لله الَّذِي يُجيب مَنْ رَجَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا. [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالصَّبْرِ نَجَاةً (1) ] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ يَكْشِفُ ضُرَّنَا بَعْدَ كَرْبِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَقِينا حِين يسوء ظننا بِأَعْمَالِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ رَجَاؤُنَا حِينَ تَنْقَطِعُ الْحِيَلُ عَنَّا. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَق عَن أبي خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنَا فِي مَالِ بَيْتِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مصحف، فأخذنا الْمُصحف فحملناه إِلَى   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ (1) قَرَأَهُ، قَرَأْتُهُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا. فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: مَا كَانَ فِيهِ؟ قَالَ: سِيَرُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ. قُلْتُ: فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ؟ قَالَ: حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَنْبِشُونَهُ قُلْتُ: فَمَا يَرْجُونَ مِنْهُ، قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ إِذَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ قُلْتُ مَنْ (2) كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ؟ قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ دَانْيَالُ. قُلْتُ: مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ مَاتَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. قلت: مَا تغير مِنْهُ شئ قَالَ: إِلَّا شَعَرَاتٌ (3) مِنْ قَفَاهُ، إِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مَحْفُوظًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ هُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ، لِأَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ، وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَقِيلَ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقَدْ يَكُونُ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ دَانْيَالَ، إِنْ كَانَ كَوْنُهُ دَانْيَالَ هُوَ الْمُطَابِقَ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا آخَرَ إِمَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الصَّالِحِينَ، وَلَكِنْ قَرُبَتِ الظُّنُونُ أَنَّهُ دَانْيَالُ لِأَنَّ دَانْيَالَ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مَلِكُ الْفُرْسِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَسْجُونًا كَمَا تَقَدَّمَ.   (1) امن العراب. (2) ا: كم كُنْتُم. (3) ا: إِلَّا شعيرات. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ شِبْرٌ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ ذِرَاعٌ، فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنَ الانبياء الاقدمين قبل هَذِه المدد. وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُبُورِ: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الْأَحْمَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دَانْيَالَ دَعَا ربه عزوجل أَنْ تَدْفِنَهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الاشعري نستر وَجَدَهُ فِي تَابُوتٍ تَضْرِبُ عُرُوقُهُ وَوَرِيدَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ دَلَّ عَلَى دَانْيَالَ فَبَشِّرُوهُ بِالْجَنَّةِ. فَكَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حُرْقُوصٌ فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بِخَبَرِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنِ ادْفِنْهُ وَابْعَثْ إِلَى حُرْقُوصٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ. وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ عَالِمًا، قَالَ: وَجَدَ أَبُو مُوسَى مَعَ دَانْيَالَ مُصْحَفًا وَجَرَّةً فِيهَا وَدَكٌ وَدَرَاهِمُ وَخَاتَمُهُ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا الْمُصْحَفُ فَابْعَثْ بِهِ إِلَيْنَا، وَأَمَّا الْوَدَكُ فَابْعَثْ إِلَيْنَا مِنْهُ وَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَشْفُونَ بِهِ واقسم الدَّرَاهِم بَينهم، وَأما الْخَاتم فقد نفلنا كه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (1) مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا وَجَدَهُ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ دَانْيَالُ الْتَزَمَهُ وَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَهُ وَأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ مَالًا مَوْضُوعًا قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ مَنْ جَاءَ اقْتَرَضَ مِنْهَا فَإِنْ رَدَّهَا وَإِلَّا مَرِضَ (2) وَأَنَّ عِنْدَهُ رَبْعَةً (3) فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَيُكَفَّنَ وَيُدْفَنَ وَيُخْفَى قَبْرُهُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ، وَأَمَرَ بِالْمَالِ أَنْ يُرَدَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ وَبِالرَّبْعَةِ فَتُحْمَلُ إِلَيْهِ وَنَفَلَهُ خَاتَمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ أَمَرَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأُسَرَاءِ فَسَكَرُوا (4) نَهْرًا وَحَفَرُوا فِي وَسَطِهِ قَبْرًا فَدَفَنَهُ فِيهِ، ثُمَّ قَدَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْإُسَرَاءَ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَ (5) قَبْرِهِ غَيْرُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت فِي يَد ابْن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ خَاتَمًا نَقْشُ فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِ ذَلِكَ الرجل، قَالَ أَبُو بردة: وَهَذَا خَاتَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ الَّذِي زَعَمَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَنَّهُ دَانْيَالُ أَخَذَهُ أَبُو مُوسَى يَوْمَ دَفَنَهُ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عُلَمَاءَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عَنْ نَقْشِ ذَلِكَ الْخَاتَمِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ دَانْيَالُ فِي سُلْطَانِهِ جَاءَهُ الْمُنَجِّمُونَ وَأَصْحَابُ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّه يُولد كَذَا وَكَذَا غُلَام يعور (6)   (1) ط: عَن ابْن أبي الدُّنْيَا. وَمَا أثْبته عَن. (2) ا: وَإِلَّا برص. (3) الربعة: الصندوق. (4) سَكِرُوا النَّهر: سدوه. (5) ا: فَلم يعلم مَكَان مَوضِع قَبره. (6) يعور: يذهب بِهِ أَو يتلفه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 مُلْكَكَ وَيُفْسِدُهُ، فَقَالَ الْمَلِكُ: وَاللَّهِ لَا يَبْقَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ. إِلَّا أَنَّهُمْ أَخَذُوا دَانْيَالَ فَأَلْقَوْهُ فِي أَجَمَةِ الْأَسَدِ فَبَاتَ الاسد ولبؤته يَلْحَسَانِهِ وَلَمْ يَضُرَّاهُ. فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَوَجَدَتْهُمَا يَلْحَسَانِهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ عُلَمَاءُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ: فَنَقَشَ دَانْيَالُ صُورَتَهُ وَصُورَةَ الْأَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ فِي فَصِّ خَاتَمِهِ لِئَلَّا يَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وَهَذَا ذِكْرُ عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا واجتماع الملا من بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ وشعابها قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ! قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شئ قدير ". قَالَ هِشَام بن الْكَلْبِيِّ: ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا بَلَغَنِي: أَنَّى عَامِرٌ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَاخْرُجْ إِلَيْهَا فَانْزِلْهَا. فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَهَا وَهِيَ خَرَابٌ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَنْزِلَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَامِرُهَا فَمَتَى يَعْمُرُهَا وَمَتَى يُحْيِيهَا اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا! ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَارُهُ وَسَلَّةٌ مِنْ طَعَامٍ فَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ سبعين سنة حَتَّى هلك بخْتنصر وَالْمَلِكُ الَّذِي فَوْقَهُ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ، وَكَانَ مُلْكُهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بَشْتَاسِبُ بن لهراسب، وَكَانَ موت بخْتنصر فِي دَوْلَتِهِ فَبَلَغَهُ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ أَنَّهَا خَرَابٌ وَأَنَّ السِّبَاعَ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ فَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنَ الْإِنْسِ أَحَدٌ، فَنَادَى فِي أَرْضِ بَابِلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ فَلْيَرْجِعْ. وَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ آلِ دَاوُدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمُرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيَبْنِيَ مَسْجِدَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فَرَجَعُوا فَعَمَرُوهَا وَفَتَحَ اللَّهُ لِأَرْمِيَا عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَيْفَ تُبْنَى وَكَيْفَ تُعَمَّرُ، وَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ حَتَّى تَمَّتْ لَهُ مِائَةُ سَنَةٍ. ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ وَهُوَ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَامَ أَكْثَرَ مِنْ سَاعَةٍ وَقَدْ عَهِدَ الْمَدِينَةَ خَرَابًا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَامِرَةً آهِلَةً قَالَ: أعلم أَن الله على كل شئ قَدِيرٌ. قَالَ: فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ فِي زَمَنِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا سُلْطَانٌ يَعْنِي بَعْدَ ظُهُورِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ. هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ (1) وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ لِهْرَاسْبَ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا سَائِسًا لِمَمْلَكَتِهِ قَدْ دَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالْمُلُوكُ وَالْقُوَّادُ وَأَنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ جَيِّدٍ فِي عِمَارَةِ الْأَمْصَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَعَاقِلِ، ثُمَّ لَمَّا ضَعُفَ (2) عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفٍ نَزَلَ عَنِ الْمُلْكِ لِوَلَدِهِ بَشْتَاسِبَ، فَكَانَ فِي زَمَانِهِ ظُهُور دين الْمَجُوسِيَّة وَذَلِكَ أَن رجلا اسْمه زردشت (3) كَانَ قَدْ صَحِبَ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَغْضَبَهُ فَدَعَا عَلَيْهِ أرميا عَلَيْهِ السَّلَام فبرص زردشت فَذَهَبَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ وَصَحِبَ بَشْتَاسِبَ فَلَقَّنَهُ دِينَ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِي اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَقَبِلَهُ مِنْهُ بَشْتَاسِبُ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلَقَا كَثِيرًا مِمَّنْ أَبَاهُ مِنْهُمْ. ثمَّ كَانَ بعد بشتاسب بهمن بْنُ بَشْتَاسِبَ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْمَشْهُورِينَ والابطال الْمَذْكُورين وَقد نَاب بخْتنصر لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَمَّرَ دَهْرًا طَويلا قبحه الله.   (1) ا: عَنْهُم (2) ا: عجز (3) ا: زرادشت (22 قصَص الانبياء 2) (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَارَّ عَلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ هُوَ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ (1) وَهْبُ بن مُنَبّه وَعبد الله بن عبيد ابْن عُمَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَسليمَان بن بردة وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عُزَيْرٌ. وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ من السّلف وَالْخلف وَالله أعلم.   (1) المطبوعة: قَالَ، محرفة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وَهَذِهِ قِصَّةُ الْعُزَيْرِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْن عَسَاكِر: هُوَ عُزَيْر بن جروة وَيُقَال ابْن سوريق بن عديا بن أَيُّوب بن درزنا بن عرى بن تقى بن أُسْبُوع ابْن فِنْحَاصَ بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. وَيُقَال عُزَيْر بن سروخا جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ قَبْرَهُ بِدِمَشْقَ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ حِبَّانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: لَا أدرى العزير (1) بيع أم لَا وَلَا أدرى أَعُزَيْر كَانَ (2) نَبِيًّا أَمْ لَا. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ السِّجْزِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ (4) ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَن عُزَيْرًا كَانَ مِمَّن سباه بخْتنصر وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحْفَظَ وَلَا أَعْلَمَ بِالتَّوْرَاةِ مِنْهُ. قَالَ: وَكَانَ يذكر مَعَ الانبياء حَتَّى محى اللَّهُ اسْمَهُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ سَأَلَ رَبَّهُ عَنِ الْقَدَرِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ وَمُنْقَطِعٌ وَمُنْكِرٌ، وَاللَّهُ أعلم.   (1) المطبوعة: الْعين. محرفة (2) ط: أَكَانَ عُزَيْر. (3) ا: عَن أبي إِسْحَاق السجزى محرفة. (4) المطبوعة: عَن ابْن أبي ذُؤَيْب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وَقَالَ إِسْحَاق بن بشر، عَن سعيد، عَن أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنَّ عُزَيْرًا هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُقَاتِل وجوبير (1) ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِدْرِيسُ، عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بن مُنَبّه قَالَ إِسْحَاق كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثُونِي عَنْ حَدِيثِ عُزَيْرٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا بِإِسْنَادِهِمْ إِنَّ عُزَيْرًا كَانَ عَبْدًا صَالِحًا حَكِيمًا خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى ضَيْعَة لَهُ يتعاهدها، فَلَمَّا انْصَرف أَتَى إِلَى خَرِبَةٍ حِينَ قَامَتِ الظَّهِيرَةُ وَأَصَابَهُ الْحَرُّ، وَدَخَلَ الْخَرِبَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارِهِ فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَمَعَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تِينٌ وَسَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ، فَنَزَلَ فِي ظِلِّ تِلْكَ الْخَرِبَةِ وَأَخْرَجَ قَصْعَةً مَعَهُ فَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ (2) ثُمَّ أَخْرَجَ خُبْزًا يَابِسًا مَعَهُ فَأَلْقَاهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ فِي الْعَصِيرِ لِيَبْتَلَّ لِيَأْكُلَهُ، ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَأَسْنَدَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْحَائِطِ فَنَظَرَ سَقْفَ تِلْكَ الْبُيُوتِ وَرَأَى مَا فِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَقَدْ بَادَ أَهْلُهَا وَرَأَى عِظَامًا بَالِيَةً فَقَالَ: " أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا " فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا وَلَكِنْ قَالَهَا تَعَجُّبًا، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ، فأماته الله مائَة عَام. فَلَمَّا أَنْت عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي بني إِسْرَائِيل أُمُور   (1) ا: وَجُوَيْرِية. (2) ا: فِي السلَّة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وَأَحْدَاثٌ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى عُزَيْرٍ مَلَكًا فخلق قلبه ليعقل قلبه وَعَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا فَيَعْقِلَ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى. ثُمَّ رَكَّبَ خَلْقَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، ثُمَّ كَسَى عِظَامَهُ اللَّحْمَ وَالشَّعْرَ وَالْجِلْدَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَى وَيَعْقِلُ، فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ كَمْ لَبِثْتَ؟ قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم، وَذَلِكَ أَنه كَانَ لبث صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ وَبُعِثَ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَالشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَمْ يَتِمَّ لِي يَوْمٌ. فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامك وشرابك، يَعْنِي الطَّعَامَ الْخُبْزَ الْيَابِسَ، وَشَرَابَهُ الْعَصِيرَ الَّذِي كَانَ اعتصره فِي الْقَصْعَةِ فَإِذَا هُمَا عَلَى حَالِهِمَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْعَصِيرُ وَالْخُبْزُ يَابِسٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ " لَمْ يتسنه " يَعْنِي لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَكَذَلِكَ التِّينُ وَالْعِنَبُ غَضٌّ لم يتَغَيَّر شئ مِنْ حَالِهِمَا، فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَنْكَرْتَ مَا قُلْتُ لَكَ؟ انْظُرْ إِلَى حِمَارك. فَنظر إِلَى حِمَاره قد بليت عِظَامه وَصَارَت نحرة. فَنَادَى الْمَلَكُ عِظَامَ الْحِمَارِ فَأَجَابَتْ وَأَقْبَلَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى رَكَّبَهُ الْمَلَكُ وَعُزَيْرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ثُمَّ أَلْبَسَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ، ثُمَّ كَسَاهَا اللَّحْمَ ثُمَّ أَنْبَتَ عَلَيْهَا الْجِلْدَ وَالشَّعْرَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ فَقَامَ الْحِمَارُ رَافِعًا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ نَاهِقًا يَظُنُّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَت. فَذَلِك قَوْله " وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا " يعْنى وَانْظُر إِلَى عِظَام حِمَارك كَيفَ يركب بَعْضَهَا بَعْضًا فِي أَوْصَالِهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ عِظَامًا مُصَوَّرًا حِمَارًا بِلَا لَحْمٍ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ نَكْسُوهَا لَحْمًا " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شئ قدير " مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِ. قَالَ: فَرَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحِلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ وَأَنْكَرَ النَّاسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وَأنكر منزله فَانْطَلَقَ عَلَى وَهَمٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ، فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً كَانَتْ أَمَةً لَهُمْ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ عُزَيْرٌ وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ، فَلَمَّا أَصَابَهَا الْكِبَرُ أَصَابَهَا الزَّمَانَةُ، فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: يَا هَذِهِ أَهَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا وَقَدْ نَسِيَهُ النَّاسُ. قَالَ فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي. قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ. قَالَتْ: فَإِنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ يَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ وَالشِّفَاءِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ. قَالَ: فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ. فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا فَقَامَتْ صَحِيحَةً كَأَنَّمَا نَشِطَتْ مِنْ عِقَالٍ، فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ. وَانْطَلَقَتْ إِلَى مَحِلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَثَمَانِي عَشْرَ سنة وَبنى بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَنَادَتْهُمْ فَقَالَتْ: هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ. فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رِجْلَيَّ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. قَالَ: فَنَهَضَ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُهُ: كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ. فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِينَا أَحَدٌ حَفِظَ التَّوْرَاةَ فِيمَا حَدثنَا غير عُزَيْر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وَقد حرق بخْتنصر التَّوْرَاة وَلم يبْق مِنْهَا شئ إِلَّا مَا حَفِظَتِ الرِّجَالُ، فَاكْتُبْهَا لَنَا وَكَانَ أَبوهُ سروخا قد دفن التَّوْرَاة أَيَّام بخْتنصر فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ غَيْرُ عُزَيْرٍ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فَاسْتَخْرَجَ التَّوْرَاةَ وَكَانَ قَدْ عَفِنَ الْوَرَقُ وَدَرَسَ الْكِتَابُ. قَالَ: وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَهُ فَجَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ وَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ شِهَابَانِ حَتَّى دَخَلَا جَوْفَهُ. فَتَذَكَّرَ التَّوْرَاةَ فَجَدَّدَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْن الله، لِلَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ الشِّهَابَيْنِ وَتَجْدِيدِهِ التَّوْرَاةَ وَقِيَامِهِ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ بِأَرْضِ السَّوَادِ بِدَيْرِ حَزْقِيلَ، وَالْقَرْيَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا سَايْرَابَاذَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلِنَجْعَلَكَ آيَة للنَّاس " يَعْنِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مَعَ بَنِيهِ وَهُمْ شُيُوخٌ وَهُوَ شَابٌّ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَبَعَثَهُ اللَّهُ شَابًّا كَهَيْئَته يَوْمَ مَاتَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعِثَ بَعْدَ بخْتنصر وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ. وَقَدْ أَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَسْوَدُ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ * وَمِنْ قبله ابْن ابْنه فَهُوَ أكبر يرى ابْنِهِ شَيْخًا يَدِبُّ عَلَى عَصَا * وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلَا فَضْلُ قُوَّةٍ * يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثِرُ يُعَدَّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ تِسْعِينَ حِجَّةً * وَعِشْرِينَ لَا يَجْرِي وَلَا يَتَبَخْتَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَعُمْرُ أَبْيهِ أَرْبَعُونَ أَمَرَّهَا * وَلِابْنِ ابْنِهِ تِسْعُونَ فِي النَّاسِ غُبَّرُ فَمَا هُوَ فِي الْمَعْقُولِ إِنْ كُنْتَ دَارِيًا * وَإِنَّ كُنْتَ لَا تَدْرِي فبالجهل تعذر فَصْلُ الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا بَيْنَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَبَيْنَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ أَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَهَا فَسَرَدَهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَمَرَ اللَّهُ مَلَكًا فَنَزَلَ بِمِغْرَفَةٍ مِنْ نُورٍ فَقَذَفَهَا فِي عُزَيْرٍ فَنَسَخَ التَّوْرَاةَ حَرْفًا بِحَرْفٍ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله " لِمَ قَالُوا ذَلِكَ؟ فَذَكَرُ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ مَا كَانَ مِنْ كَتْبِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ، وَقَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِالتَّوْرَاةِ إِلَّا فِي كِتَابٍ وَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ جَاءَنَا بِهَا مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ. فَرَمَاهُ طَوَائِفُ مِنْهُمْ وَقَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ تَوَاتُرَ التَّوْرَاةِ انْقَطَعَ فِي زَمَنِ الْعُزَيْرِ. وَهَذَا مُتَّجه جدا إِذا كَانَ العزير غَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا (1) قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ. وَفِيمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِي عَن أَبِيه، وَمُقَاتِل عَن عَطاء ابْن أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ تِسْعَةُ أَشْيَاء: بخْتنصر وجنة صنعاه   (1) ا: كَذَا قَالَه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وجنة سبأ وَأَصْحَاب الاخدود وَأمر حاصروا وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ وَأَصْحَابُ الْفِيلِ وَمَدِينَةُ أَنْطَاكِيَةَ وَأَمْرُ تُبَّعٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ كَانَ أَمْرُ عُزَيْر وَبُخْتنَصَّرَ فِي الْفَتْرَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا، إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ". وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ فِيمَا بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، يَعْنِي لِمَا كَانَ مِنْ سُؤَالِهِ عَنِ الْقَدَرِ وَأَنَّهُ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ. وَفِي مَعْنَى قَوْلِ عُزَيْرٍ مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ: قَدْ يَصْبِرُ الْحُرُّ عَلَى السَّيْفِ * وَيَأْنَفُ الصَّبْرَ عَلَى الْحَيْفِ وَيُؤْثِرُ الْمَوْتَ عَلَى حَالَةٍ * يَعْجَزُ فِيهَا عَنْ قِرَى الضَّيْفِ فَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقَدَرِ فَمُحِيَ اسْمُهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُوَ مُنْكَرٌ وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ: قَالَ عُزَيْرٌ فِيمَا يُنَاجِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 رَبَّهُ: يَا رَبِّ تَخْلُقُ خَلْقًا فَتُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا. فَعَادَ فَقِيلَ لَهُ: لَتُعْرِضَنَّ عَنْ هَذَا أَوْ لَأَمْحُوَنَّ اسْمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ لَوْ عَادَ فَمَا محى (1) . وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ يُونُس بن يزِيد، عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً! فَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عُزَيْرٌ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ عُزَيْرٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) المطبوعة: فَمَا محيا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 قصَّة زَكَرِيَّا وَيحيى عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَزِيز: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام امسه يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَن لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ويم يبْعَث حَيا " (1) . وَقَالَ تَعَالَى: " وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّك   (1) سُورَة مَرْيَم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحين. قَالَ رَبِّي أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ؟ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قَالَ آيتك أَن لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبك كثيرا وَسبح بالْعَشي والابكار (1) ". وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الانبياء: " وزَكَرِيا إِذا نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (2) ". قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابه التَّارِيخ الْمَشْهُور الحافل: زَكَرِيَّا بن برخيا وَيُقَالُ زَكَرِيَّا بْنُ دَانٍ، وَيُقَالُ زَكَرِيَّا بْنُ لدن بن مُسلم بن صَدُوق بن حشبان (3) بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صديقَة بن برخيا ابْن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن إينامن بن رحيعام (2) بن سُلَيْمَان بن دَاوُد، أبويحيى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. دَخَلَ البثنة مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ فِي طَلَبِ ابْنِهِ يَحْيَى. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ بِدِمَشْقَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ يَحْيَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نسبه. وَيُقَال فِيهِ زَكَرِيَّا بِالْمَدِّ وَبِالْقَصْرِ. وَيُقَالُ زَكَرِيٌّ أَيْضًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَن يقص على   (1) ا: ابْن حنشبان (2) ا: رخيعم. (2) سُورَة آل عمرَان 37 - 41 (3) سُورَة الانعام 85. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 النَّاسِ خَبَرَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ وَهَبَهُ [اللَّهُ (1) ] وَلَدًا عَلَى الْكبر وَكَانَت امْرَأَته [مَعَ ذَلِك (2) ] عَاقِرًا فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا وَقَدْ أَسَنَّتْ أَيْضًا، حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحمته وَلَا يقنط من فَضله تَعَالَى " ذكر رحمت رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خفِيا ". قَالَ قَتَادَةُ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ النَّقِيَّ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَنَادَى رَبَّهُ مُنَادَاةً أَسَرَّهَا عَمَّنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ مُخَافَتَةً فَقَالَ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ. فَقَالَ اللَّهُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهن الْعظم مني " أَيْ ضَعُفَ وَخَارَ مِنَ الْكِبَرِ " وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شيبا " اسْتِعَارَةٌ مِنَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ أَيْ غَلَبَ عَلَى سَوَادِ الشَّعْرِ شَيْبُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ: إِمَّا تَرَى رَأْسِي حاكى لَونه * طرة صبح تَحت أذيال الدجا وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ * مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جمر الغضا وآض عود اللَّهُمَّ يَبْسًا ذَاوِيًا * مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ مَجَّاجَ الثَّرَى يَذْكُرُ أَنَّ الضَّعْفَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهَكَذَا قَالَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ " إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ". وَقَوله " وَلم أكن بدعائك رب شقيا " أَي مَا عودتني فِيمَا أَسأَلك إِلَّا الْإِجَابَةَ وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمَّا كَفَلَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ ابْن مَا ثَان، وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مِحْرَابَهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَة فِي غير إبانها (3) وَلَا فِي أَوَانِهَا وَهَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَعلم أَن الرازق للشئ فِي غير   (1) لَيست فِي ا (2) من ا (3) المطبوعة: أوانها، وَمَا أثْبته عَن ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 أَوَانِهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ طَعَنَ فِي سِنِّهِ " هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة إِنَّك سميع الدُّعَاء " وَقَوْلُهُ: " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عاقرا " قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَوَالِي الْعُصْبَةُ، وَكَأَنَّهُ خَافَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ بَعْدَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ فَسَأَلَ وُجُودَ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ يَكُونُ بَرًّا تَقِيًّا مَرْضِيًّا وَلِهَذَا قَالَ: فَهَب لي من لَدُنْك " أَيْ مِنْ عِنْدِكَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ " وَلِيًّا يَرِثُنِي " [أَيْ فِي النُّبُوَّةِ وَالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (1) ] " وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " يَعْنِي كَمَا كَانَ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ فَاجْعَلْهُ مِثْلَهُمْ فِي الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتَهُمْ بِهَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ورائة الْمَالِ كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ مَنْ زَعَمَهُ مِنَ الشِّيعَةِ وَوَافَقَهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مِنَ السَّلَفِ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قدمْنَاهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: " وَورث سُلَيْمَان دَاوُد " أَي فِي النُّبُوَّة وَالْملك لما (2) ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ المروى فِي الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد [وَالسّنَن (1) ] وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ " فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ، وَلِهَذَا مَنَعَ الصّديق أَن يصرف ماكان يَخْتَصُّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وَرَائه الَّذِينَ لَوْلَا هَذَا النَّصُّ لَصُرَفَ إِلَيْهِمْ، وَهُمُ ابْنَته فَاطِمَة وأزواجه التسع وَعَمه الْعَبَّاس   (1) لَيست فِي ا. (2) المطبوعة: كَمَا. وَمَا أثْبته من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ فِي مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعبد الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ. الثَّانِي: أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ: " نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " وَصَحَّحَهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَكْنِزُوا لَهَا أَوْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَوْ يُهِمَّهُمْ أَمْرُهَا حَتَّى يَسْأَلُوا الْأَوْلَادَ لِيَحُوزُوهَا بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي الزَّهَادَةِ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَنْ يَسْأَلَ وَلَدًا يَكُونُ وَارِثًا لَهُ فِيهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهَا، كَمَا كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَالْغَالِبُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ مِثْلُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الْعَمَل إجهادا يستفضل مِنْهُ مَا لَا يَكُونُ ذَخِيرَةً لَهُ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَهَذَا أَمر بَين وَاضح لكل من تَأمله وتدبره وتفهمه إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يزِيد، يعْنى ابْن هرون، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: " يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سميا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وَهَذَا مُفَسّر بقوله: " فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين ". فَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَتَحَقَّقَ الْبِشَارَةَ شَرَعَ يَسْتَعْلِمُ على وَجه التَّعَجُّب وجود الْوَلَد لَهُ وَالْحَالة هَذِه " قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا " أَيْ كَيْفَ يُوجَدُ وَلَدٌ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ، قِيلَ كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَالْأَشْبَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ من ذَلِك " وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا " يَعْنِي وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: " أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تبشرون " وَقَالَتْ سَارَّةُ: " يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا لشئ عَجِيبٌ. قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مجيد ". وَهَكَذَا أُجِيب زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لَهُ الْملك الَّذِي يُوحى إِلَيْهِ بِأَمْر ربه: " كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين " أَيْ هَذَا سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيْهِ " وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قبل وَلم تَكُ شَيْئا " أَيْ قُدْرَتُهُ، أَوْجَدَتْكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، أَفَلَا يُوجِدُ مِنْكَ وَلَدًا وَإِنْ كنت شَيخا؟ ! وَقَالَ تَعَالَى: " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " وَمَعْنَى إِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَحَاضَت. وَقيل كَانَ فِي لسانها شئ، أَي بذاءة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 " قَالَ رب اجْعَل لي آيَة " أَيْ عَلَامَةً عَلَى وَقْتَ تَعْلَقُ مِنِّي الْمَرْأَةُ بِهَذَا الْوَلَد المبشر بِهِ " قَالَ آيتك أَن لَا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا " يَقُولُ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَرِيَكَ سَكْتٌ لَا تَنْطِقُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ سَوِيُّ الْخَلْقِ صَحِيحُ الْمِزَاجِ مُعْتَدِلُ الْبِنْيَةِ. وَأُمِرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَلْبِ وَاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ بِفُؤَادِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، فَلَمَّا بُشِّرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ خَرَجَ مَسْرُورًا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مِحْرَابِهِ (1) " فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بكرَة وعشيا " وَالْوَحْيُ هَاهُنَا هُوَ الْأَمْرُ الْخَفِيُّ إِمَّا بِكِتَابَةٍ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، أَوْ إِشَارَةٍ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَوَهْبٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَوَهُبٌ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ، اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ كَلَامَ أَحَدٍ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيا " يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُجُودِ الْوَلَدِ وَفْقَ الْبِشَارَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَبِيهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حَالِ صِبَاهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب. فَقَالَ: مَا للعب خلفنا. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْله " وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا ". وَأما قَوْله: " وَحَنَانًا من لدنا " فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لاأدرى مَا الحنان. وَعَن ابْن عَبَّاس   (1) ا: الْمِحْرَاب. (*) (23 - قصَص الانبياء) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: " وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا " أَيْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا رَحِمْنَا بِهَا زَكَرِيَّا فَوَهَبْنَا لَهُ هَذَا الْوَلَدَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: " وَحَنَانًا " أَيْ مَحَبَّةً عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِتَحَنُّنِ يَحْيَى عَلَى النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَبَوَيْهِ، وَهُوَ مَحَبَّتُهُمَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَبِرُّهُ بِهِمَا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهُوَ طَهَارَةُ الْخُلُقِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ. وَالتَّقْوَى طَاعَةُ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بِرَّهُ بِوَالِدَيْهِ وَطَاعَتَهُ لَهُمَا أَمْرًا وَنَهْيًا وَتَرْكَ عُقُوقِهِمَا قَوْلًا وَفِعْلًا فَقَالَ: " وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عصيا " ثُمَّ قَالَ: " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوت وَيَوْم يبْعَث حَيا " هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَشَدُّ مَا تَكُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنْ عَالَمٍ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ، فَيَفْقِدُ الْأَوَّلَ بَعْدَ مَا كَانَ أَلِفَهُ وَعَرَفَهُ وَيَصِيرُ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْشَاءِ وَفَارَقَ لِينَهَا وَضَمَّهَا وَيَنْتَقِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لِيُكَابِدَ همومها وغمها! وَكَذَلِكَ إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الدَّارَ وَانْتَقَلَ إِلَى عَالَمِ الْبَرْزَخِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ، وَصَارَ بَعْدَ الدُّورِ وَالْقُصُورِ إِلَى عَرْصَةِ الْأَمْوَاتِ سُكَّانِ الْقُبُورِ، وَانْتَظَرَ هُنَاكَ النَّفْخَةَ فِي الصُّوَرِ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، فَمِنْ مَسْرُورٍ وَمَحْبُورٍ وَمِنْ مَحْزُونٍ ومثبور، وَمَا بَين جُبَير وكسير وَفَرِيقٍ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ فِي السَّعِيرِ! وَلَقَدْ أحسن بعض الشُّعَرَاء حَيْثُ يَقُول: وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا مُسْتَصْرِخًا * وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرَورًا فَاحْرِصْ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكَوْا * فِي يَومِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ أَشَقَّ مَا تَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَى يَحْيَى فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْهَا فَقَالَ: " وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيا ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ إِنْ يَحْيَى وَعِيسَى الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَعرف وَالله فضلهما. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين " فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَصُورِ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَشْبَهُ لِقَوْلِهِ " هَبْ لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة ". وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَمَا ينبغى لَاحَدَّ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ". عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بن جدعَان بن مُطَوَّلًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِنَا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمًا وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ قَائِلٌ: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ. وَقَالَ قَائِل: عِيسَى روح الله وكلمته. وَقَالَ: قَائِل إِبْرَاهِيم خَلِيل الله [وهم يذكرُونَ ذَلِك] (1) فَقَالَ: أَيْن الشَّهِيد ابْن الشَّهِيدُ، يَلْبَسُ الْوَبَرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ مَخَافَةَ الذَّنْبِ! قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ من المدلسين وَقد عنعن هَاهُنَا. ثمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَسَاكِرَ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ يحيى بن سعيد الانصاري، ثمَّ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيِّ خَطِيبِ دِمَشْقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَا أَحَدٌ إِلَّا يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. ثمَّ تَلا " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " ثُمَّ رَفَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ ذُبِحَ ذَبْحًا! وَهَذَا مَوْقُوفٌ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ وَكَوْنُهُ مَوْقُوفا أصح من رَفعه وَالله أعلم.   (1) سقط من المطبوعة وأثبته من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ مَعْمَرٍ: مِنْ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ (1) ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بِنَحْوِهِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عبد الرَّحْمَن ابْن أبي نعيم، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَة يحيى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ". وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُول: خرج عِيسَى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا يَتَمَاشَيَانِ، فَصَدَمَ يَحْيَى امْرَأَةً فَقَالَ لَهُ عِيسَى: يَابْنَ خَالَةِ لَقَدْ أصبت الْيَوْم خَطِيئَة مَا أَظن أَنه يُغْفَرَ لَكَ أَبَدًا قَالَ: وَمَا هِيَ يَابْنَ خَالَةِ؟ قَالَ امْرَأَةٌ صَدَمْتَهَا. قَالَ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِهَا. قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ بَدَنُكَ مَعِي فَأَيْنَ رُوحُكَ؟ قَالَ: مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ وَلَوْ أَنَّ قلبى اطْمَأَن إِلَى جِبْرِيلَ لَظَنَنْتُ أَنِّي مَا عَرَفْتُ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَالَ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كَانَ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَيْ خَالَةٍ وَكَانَ عِيسَى يَلْبَسُ الصُّوفَ، وَكَانَ يَحْيَى يَلْبَسُ الْوَبَرَ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ وَلَا عبد وَلَا أمة وَلَا مأوى يأويان إِلَيْهِ، أَيْن مَا جَنَّهُمَا اللَّيْلُ أَوَيَا، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَتَفَرَّقَا قَالَ يحيى:   (1) المطبوعة ابْن سباح. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا أَن أغضب قَالَ لَا (1) تَقْتَنِ مَالًا. قَالَ أَمَّا هَذِهِ فَعَسَى. * * * وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: هَلْ مَاتَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْتًا أَوْ قُتِلَ قَتْلًا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: هَرَبَ مِنْ قَوْمِهِ فَدخل شَجَرَة فَجَاءُوا فوضعوا الْمِنْشَار عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى أَضْلَاعِهِ أَنَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَئِنْ لَمْ يَسْكُنْ أَنِينُكَ لَأَقْلِبَنَّ الارض وَمن عَلَيْهَا. فَكُن أَنِينُهُ حَتَّى قُطِعَ بِاثْنَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ (2) هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ سَنُورِدُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله. وروى إِسْحَق بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي انْصَدَعَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ هُوَ شعيا، فَأَمَّا زَكَرِيَّا فَمَاتَ مَوْتًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، أَنبأَنَا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلَاءِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ فَقَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبْلِّغَهُنَّ وَإِمَّا أَنَّ أُبَلِّغَهُنَّ. فَقَالَ: يَا أخي إِنِّي   (1) ا: فَلَا. (2) ا: وَقد ورد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي. قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ فَقَعَدَ عَلَى الشَّرَفِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله عزوجل أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَن تعملوا بِهن. وأولهن: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَلَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا. وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ. وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ عزوجل كَثِيرًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي إِثْرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عزوجل. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 عَن الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربق الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ من حثا جَهَنَّم. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، ادْعُوَا الْمُسلمين بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سماهم الله عزوجل الْمُسلمين الْمُؤمنِينَ عباد الله عزوجل. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَحْيَى ابْن أَبِي كَثِيرٍ بِهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ الْعَطَّارِ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ، عَنْ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَخِيهِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ فَسَقَطَ ذِكْرُ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِث الاشعري فَذكر نَحْو هَذِهِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أُرْسِلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كَثِيرَ الِانْفِرَادِ مِنَ النَّاسِ، إِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 كَانَ يَأْنَسُ إِلَى الْبَرَارِي وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ وَيَرِدُ مَاءَ الْأَنْهَارِ وَيَتَغَذَّى بِالْجَرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَقُولُ: مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى! وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَبَوَيْهِ خَرَجَا فِي تَطَلُّبِهِ فَوَجَدَاهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ فَلَمَّا اجْتَمَعَا بِهِ أَبْكَاهُمَا بُكَاءً شَدِيدًا لِمَا هُوَ فِيهِ من الْعِبَادَة وَالْخَوْف من الله عزوجل. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ طَعَامُ يحيى بن زَكَرِيَّا العشب، وَإنَّهُ كَانَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ كَانَ القار على عَيْنَيْهِ لخرقه. وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَلَسْتُ يَوْمًا إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَهُوَ يَقُصُّ فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا؟ فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا؟ إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ كَرَاهَةَ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ: قَالَ: فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَفَرَ قَبْرًا وَأَقَامَ فِيهِ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ أَنَا أَطْلُبُكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَنْتَ فِي قَبْرٍ قَدِ احْتَفَرْتَهُ قَائِمٌ تَبْكِي فِيهِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَتِ أَلَسْتَ أَنْتَ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا تُقْطَعُ إِلَّا بِدُمُوعِ الْبَكَّائِينَ. فَقَالَ لَهُ: ابْكِ يَا بُنَيَّ. فَبَكَيَا جَمِيعًا. وَهَكَذَا حَكَاهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَمُجَاهِدٌ بِنَحْوِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ لِلَذَّةِ مَا هُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، فَكَذَا يَنْبَغِي لِلصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَنَامُوا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمحبَّة لله عزوجل ثُمَّ قَالَ: كَمْ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ وَكَمْ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ حَتَّى أَثَّرَ الْبُكَاءُ فِي خَدَّيْهِ مِنْ كَثْرَةِ دُمُوعِهِ. بَيَانُ سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَكَرُوا فِي قَتله أسبابا مِنْ أَشْهَرِهَا أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِدِمَشْقَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبَعْضِ مَحَارِمِهِ أَوْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهَا مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا اسْتَوْهَبَتْ مِنْهُ دَمَ يَحْيَى، فَوَهَبَهُ لَهَا فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ وَدَمِهِ فِي طَسْتٍ إِلَى عِنْدِهَا فَيُقَالُ إِنَّهَا هَلَكَتْ مِنْ فَوْرِهَا وَسَاعَتِهَا. وَقِيلَ بَلْ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ [وَرَاسَلَتْهُ (1) ] فَأَبَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ تَحَيَّلَتْ فِي أَنِ اسْتَوْهَبَتْهُ مِنَ الْمَلِكِ، فَتَمَنَّعَ عَلَيْهَا الْمَلِكُ ثُمَّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِك فَبعث مَنْ قَتَلَهُ وَأَحْضَرَ إِلَيْهَا رَأْسَهُ وَدَمَهُ فِي طَسْتٍ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ الْمُبْتَدَأُ حَيْثُ قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْقُوبٌ الْكُوفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة أُسَرِيَ بِهِ رَأَى زَكَرِيَّا فِي السَّمَاءِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ قَتْلِكَ كَيْفَ كَانَ وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أُخْبِرُكَ أَنَّ يَحْيَى كَانَ خير أهل   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 زَمَانِهِ، وَكَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَصْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَكَانَ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: " سيدا وَحَصُورًا " وَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتْ بَغِيَّةً، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ وَعَصَمَهُ الله وَامْتنع يحيى وأبى عَلَيْهَا فأجمعت عَلَى قَتْلِ يَحْيَى وَلَهُمْ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِي كل عَام، وَكَانَت سنة الْملك أَن يعد وَلَا يُخْلِفَ وَلَا يَكْذِبَ. قَالَ: فَخَرَجَ الْمَلِكُ إِلَى الْعِيدِ فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ فَشَيَّعَتْهُ، وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا وَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ فِيمَا مَضَى، فَلَمَّا أَنْ شَيَّعَتْهُ قَالَ الْمَلِكُ سَلِينِي، فَمَا سَأَلْتِنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ. قَالَتْ: أُرِيدُ دَمَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. قَالَ لَهَا سَلِينِي غَيْرَهُ. قَالَتْ: هُوَ ذَاكَ قَالَ: هُوَ لَكِ. قَالَ فَبَعَثَتْ جَلَاوِزَتَهَا (1) إِلَى يَحْيَى وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ أُصَلِّي، قَالَ: فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا بلغ من صبرك قَالَ: مَا انفلت مِنْ صَلَاتِي. قَالَ: فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَلَمَّا أَمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بِالْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَدْ غَضِبَ إِلَهُ زَكَرِيَّا، لِزَكَرِيَّا فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضَبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّا. قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِي لِيَقْتُلُونِي وَجَاءَنِي النَّذِيرُ، فَهَرَبْتُ مِنْهُمْ وَإِبْلِيسُ أَمَامَهُمْ يَدُلُّهُمْ عَلَيَّ، فَلَمَّا تَخَوَّفْتُ أَنْ لَا أُعْجِزَهُمْ عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ فَنَادَتْنِي وَقَالَت إِلَيّ إِلَيّ. وانصدعت لي وَدخلت فِيهَا. قَالَ: وَجَاءَ إِبْلِيسُ حَتَّى أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِي وَالْتَأَمَتِ الشَّجَرَةُ وَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خَارِجًا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَجَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ إِبْلِيسُ: أما رَأَيْتُمُوهُ   (1) الجلاوزة: (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 دَخَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ، هَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِهِ. فَقَالُوا: نُحَرِّقُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ. فَقَالَ إِبْلِيسُ شُقُّوهُ بِالْمِنْشَارِ شَقًّا. قَالَ: فَشُقِقْتُ مَعَ الشَّجَرَةِ بِالْمِنْشَارِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ وَجَدْتَ لَهُ مَسًّا أَوْ وَجَعًا؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا وجدت ذَلِك الشَّجَرَة الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ رُوحِي فِيهَا. هَذَا سِيَاقٌ (1) غَرِيبٌ جدا وَحَدِيثٌ عَجِيبٌ وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَفِيهِ مَا يُنْكَرُ على كل حَال، وَلم ير فِي شئ من أَحَادِيث السَّرَّاء ذكر زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: فَمَرَرْتُ بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنا الْخَالَة [فجَاء] (2) عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ أُمَّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ. وَقِيلَ بَلْ أَشْيَاعُ وَهِيَ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا، أُمُّ يَحْيَى هِيَ أُخْتُ حَنَّةَ امْرَأَةِ عِمْرَانَ أَمِّ مَرْيَمَ، فَيَكُونُ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ مَرْيَمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ * ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَقْتَلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَمْ بِغَيْرِهِ (3) عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قدم بخْتنصر   (1) ا: إِسْنَاد. (2) من ا (3) ا: أَو. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 دِمَشْقَ فَإِذَا هُوَ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا يَغْلِي، فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَتَلَ عَلَى دَمِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا فَسَكَنَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قُتِلَ بِدِمَشْق وَأَن قصَّة بخْتنصر كَانَتْ (1) بَعْدَ الْمَسِيحِ كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حِينَ أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقِبْلَةِ الَّذِي يَلِي الْمِحْرَابَ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، فَكَانَتِ الْبَشَرَةُ وَالشَّعْرُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَأَنَّمَا قُتِلَ السَّاعَةَ. وَذُكِرَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَنَّهُ جُعِلَ تَحْتَ الْعَمُودِ الْمَعْرُوفِ بِعَمُودِ السَّكَاسِكَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. [وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْأَقْصَى، مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُبْحٍ، عَنْ مَرْوَانَ، عَنْ سعيد بن عبد الْعَزِيز، عَن قَاسم مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: كَانَ مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يَعْنِي دمشق هداد بن هدار، وَكَانَ قَدْ زَوَّجَ ابْنَهُ بِابْنَةِ أَخِيهِ أَرِيلَ ملكة صيدا، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْلَاكِهَا سُوقُ الْمُلُوكِ بِدِمَشْقَ وَهُوَ الصَّاغَةُ الْعَتِيقَةُ، قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَاسْتَفْتَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، فَحَقَدَتْ عَلَيْهِ وَسَأَلَتْ مِنَ الْمَلِكِ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهَا، فَأَبَى عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمَسْجِد جبرون من أَتَاهُ بِرَأْسِهِ فِي صينية،   (1) ا: وَأَن بخْتنصر كَانَ بعد الْمَسِيح. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فَجعل الرَّأْس يَقُول لَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ - فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الطَّبَقَ فَحَمَلَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ أُمَّهَا وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَمَثَّلَتْ بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهَا خُسِفَ بِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا ثُمَّ إِلَى حَقْوَيْهَا، وَجَعَلَتْ أُمُّهَا تُوَلْوِلُ وَالْجَوَارِي يَصْرُخْنَ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، ثُمَّ خُسِفَ بِهَا إِلَى مَنْكِبَيْهَا فَأَمَرَتْ أُمُّهَا السَّيَّافَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهَا لِتَتَسَلَّى بِرَأْسِهَا، فَفَعَلَ فَلَفَظَتِ الْأَرْضُ جُثَّتَهَا عِنْدَ ذَلِكَ، وَوَقَعُوا فِي الذُّلِّ وَالْفَنَاءِ، وَلَمْ يزل دم يحيى يفور حَتَّى قدم بخْتنصر فَقَتَلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَهِيَ دَمُ كُلِّ نَبِيٍّ. وَلَمْ يَزَلْ يَفُورُ حَتَّى وَقَفَ عِنْدَهُ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: أَيُّهَا الدَّمُ أَفْنَيْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاسْكُنْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَسَكَنَ فَرُفِعَ السَّيْفُ وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَتَبِعهُمْ إِلَيْهَا فَقتل خلاق كَثِيرًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَسَبَا مِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُم] (1)   (1) مسْقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 قصَّة عِيسَى بن مَرْيَم عبد الله وَرَسُوله [وَابْن أمته (1) ] عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ [أَفْضَلُ (1) ] الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي أُنْزِلَ صَدْرُهَا وَهُوَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْهَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَانَ قَدْ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجعلُوا يذكرُونَ ماهم عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ وَيَدَّعُونَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهُمُ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ وَعِيسَى وَمَرْيَمُ، عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ، فَأنْزل الله عزوجل صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ كَمَا صَوَّرَ (2) غَيْرَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَقَالَ لَهُ كن فَكَانَ (2) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَبَين أَصْلَ مِيلَادِ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَكَيْفَ حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا عِيسَى، وَكَذَلِكَ بَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ كَمَا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ [كُلِّهِ] (1) بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ. فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: " إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتقبل مني إِنَّك   (1) لَيست فِي ا (2) ا: كَمَا خلق (3) ا: فَيكون (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتهامن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نباتا حسنا وكفلها زَكَرِيَّا، كَمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب ". يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْخُلَّصَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ شَرْعَهُ الْمُلَازِمِينَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ خَصَّصَ فَقَالَ: " وَآلَ إِبْرَاهِيمَ " فَدَخَلَ فِيهِمْ بَنو إِسْمَاعِيل ثُمَّ ذَكَرَ [فَضْلَ] (1) هَذَا الْبَيْتِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ وَهُمْ آلُ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا وَالِدُ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ بَاشِمَ بن أمون بن مِيشَا ابْن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام (3) بْنِ دَاوُدَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: مَرْيَم بنت عمرَان بن مَا ثَان بن العازر ابْن اليود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زريابيل ابْن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون بن ميشابن حزقيا (3) بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يوارم بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَلَا خلاف أَنَّهَا من سلالة دَاوُد عَلَيْهَا السَّلَام وَكَانَ أَبوهَا عمرَان صَاحب   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: رخيعم. (3) ط: حزقا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 صَلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا وَهِيَ حَنَّةُ بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقِيلَ زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ مَرْيَمَ كَانَتْ لَا تَحْبَلُ فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ حَمَلَتْ (1) لَتَجْعَلَنَّ وَلَدَهَا مُحَرَّرًا أَيْ حَبِيسًا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: فَحَاضَتْ مِنْ فَوْرِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَاقَعَهَا بَعْلُهَا فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ " فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَالله أعلم بِمَا وضعت " وَقُرِئَ بِضَم التَّاء " وَلَيْسَ الذّكر كالانثى " أَيْ فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْذِرُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ خُدَّامًا مِنْ أَوْلَادهم. وَقَوْلها: " وَإِنِّي سميتها مَرْيَم " اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ يُولَدُ، وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ فِي ذَهَابِهِ بِأَخِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَ أَخَاهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا " كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سابعه وَيُسمى ويحلق رَأسه ". رَوَاهُ أَحْمد وأمل السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: " ويدمى " بدل وَيُسمى وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهَا: " وَإِنِّي أُعِيذُهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم " قد اسْتُجِيبَ   (1) : لَئِن ولدت. (*) (24 - قصَص الانبياء - 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 لَهَا فِي هَذَا كَمَا تُقُبِّلَ مِنْهَا نَذْرُهَا، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَان إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا " ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرْجِ عَنْ بَقِيَّةَ، عَن عبد الله بن الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذُؤَيْب، عَن عجلَان مولى المشمعل، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَابْنَهَا عِيسَى ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ أَحْمد: حَدثنَا هشيم، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أمه يلكزه الشَّيْطَان فِي حضنيه (1) إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ تَرَ إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ذَلِكَ حِين يلكزه الشَّيْطَان بحضنيه ".   (1) الحضن: الْجنب وهما حضنان. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ قَيْسٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَمَرْيَمَ " ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم ". وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عبيد اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بِأَصْلِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا الْمُغيرَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن الْحِزَامِيُّ (1) ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ ". وَهَذَا على شَرط الصَّحِيحَيْنِ وَلم يخرجوه مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ: " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زَكَرِيَّا " ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا لَفَّتْهَا فِي خُرُوقِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَلَّمَتْهَا إِلَى الْعُبَّادِ الَّذِينَ هُمْ مُقِيمُونَ بِهِ، وَكَانَتِ ابْنَةَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ صَلَاتِهِمْ فَتَنَازَعُوا فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْهَا إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَضَاعِهَا وَكَفَالَةِ مِثْلِهَا فِي صِغَرِهَا. ثُمَّ لَمَّا دَفَعَتْهَا إِلَيْهِمْ تَنَازَعُوا فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيّهم فِي   (1) ط: هُوَ ابْن عبد الله " الحزامى؟ ؟. وَهُوَ مُغيرَة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِد بن حَكِيم بن حزَام الاسدي المدنى. انْظُر ميزَان الِاعْتِدَال 4 / 163. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِهَا دونهم من أجل زَوْجَتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ. فَشَاحُّوهُ فِي ذَلِكَ وَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعَ مَعَهُمْ، فَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ فَخَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَالِبَةً [لَهُمْ] (1) وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا " أَيْ بِسَبَبِ غَلَبِهِ لَهُمْ فِي الْقُرْعَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يختصمون ". قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَلْقَى قَلَمَهُ مَعْرُوفًا بِهِ، ثُمَّ حَمَلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَمَرُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا وَظَهَرَ قَلَمُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعُوا مَرَّةً ثَانِيَةً وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُلْقُوا أَقْلَامَهُمْ فِي النَّهْرِ فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ (2) فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا فَكَانَ قَلَمُ زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ، وَسَارَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَقْتَرِعُوا ثَالِثَةً فَأَيهمْ جرى قلمه مَعَ المَاء وَيكون بَقِيَّةُ الْأَقْلَامِ قَدِ انْعَكَسَ سَيْرُهَا صُعُدًا [فَهُوَ الْغَالِبُ فَفَعَلُوا (1) ] فَكَانَ زَكَرِيَّا هُوَ الْغَالِبَ لَهُمْ فَكَفَلَهَا إِذْ كَانَ أَحَقَّ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا، قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاء بِغَيْر حِسَاب " قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اتَّخَذَ لَهَا زَكَرِيَّا مَكَانًا شَرِيفًا مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ سِوَاهَا، فَكَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ وَتَقُومُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ سدانة   (1) : لَيست فِي ا. (2) ا: فَأَيهمْ جرى قلمه مَعَ المَاء. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الْبَيْتِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا وَتَقُومُ بِالْعِبَادَةِ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا، حَتَّى صَارَتْ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ بِعِبَادَتِهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَرِيمَةِ وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا يَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ فَيَسْأَلُهَا " أَنى لَك هَذَا " فَتَقول " هُوَ من عِنْد الله " أَيْ رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ اللَّهُ " إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب ". فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ " قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّة طيبَة إِنَّك سميع الدُّعَاء ". قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ يَا مَنْ يَرْزُقُ [مَرْيَمَ] (1) الثَّمَرَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ (2) هَبْ لِي وَلَدًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ. فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي قِصَّتِهِ. * * * " إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك وطهرك واسطفاك على نسَاء الْعَالمين. يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء   (1) لَيست فِي ا (2) ا: فِي غير أَيَّامه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم ". يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، بِأَنِ اخْتَارَهَا لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا شَرِيفًا " يكلم النَّاس فِي المهد " أَيْ فِي صِغَرِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي حَالِ كهوليته، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، فَيُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا وَرَحِمَ أُمَّهَا وَأَبَاهَا. فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: " يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك " أَيِ اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ " وَطَهَّرَكِ " أَيْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ " وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالمين ". يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَالَمِي زَمَانِهَا كَقَوْلِهِ لمُوسَى " إِنِّي اصطفيتك على النَّاس " وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ " وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 علم على الْعَالمين " وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا وَأَكْثَرُ عَدَدًا وَأَفْضَلُ عِلْمًا وَأَزْكَى عَمَلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ " مَحْفُوظَ الْعُمُومِ فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قبلهَا أَو جد بَعْدَهَا لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ نَبِيَّةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى مُحْتَجًّا بِكَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى، كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى لعُمُوم قَوْله " واصطفاك على نسَاء الْعَالمين " إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلِ الْجُمْهُورِ كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ فَيَكُونُ أَعْلَى مَقَامَاتِ مَرْيَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صديقَة " فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا وَمِمَّنْ يَكُونُ بَعْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ، مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ [الرَّازِيِّ] (1) وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْأَفُهُ بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ تَرْكَبِ الْإِبِلَ. تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ " وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ [بْنِ (1) ] أَبِي هِنْدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ ابْن الاشعث، حَدثنَا يحيى بن حَاتِم العسكري، أَنبأَنَا بشر بن مهْرَان ابْن حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ سَيِّدَاتُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ". وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ (2) حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَة،   (1) سَقَطت من الاصل وأثبتها من ميزَان الِاعْتِدَال 2 / 11. (2) كَذَا فِي اوفي ط: وهب بن مُنَبّه. وَهُوَ خطا لَان وهب بن مُنَبّه من التَّابِعين وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن عَمْرو. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ: أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ؟ قَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ وَأَنِّي سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَضَحِكْتُ. وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَاتِ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ؟ ؟ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ (1) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأَرْبَعِ. ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى السَّوَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ. لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْن بْنُ الْفَرَّاءِ وَأَبُو غَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنَا الْبَنَّا، قَالُوا أَنْبَأَنَا (2) أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن سُلَيْمَان، حَدثنَا الزبير هُوَ بن بكار، حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحسن،   (1) : اابن أبي يعمر. محرفة وَفِي المطبوعة: ابْن أبي نعيم. محرفة أَيْضا والتصويب من ميزَان الِاعْتِدَال 2 / 595. (2) ا: أخبرنَا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ خَدِيجَةُ ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ". فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَحْفُوظًا بثم الَّتِي لِلتَّرْتِيبِ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دلّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاء، وَتقدم عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا تَنْفِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس مَرْفُوعا. فَذكره بواو الْعَطف لَا بثم التَّرْتِيبِيَّةِ، فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَة، عَن مُعَاوِيَة ابْن قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ [عَنْ مُرَّةَ] (1) الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَام ".   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ. فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ فِي حيات النَّبِيِّ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلْ وَلَا فِي غَيْرِهَا أَعْلَمُ مِنْهَا وَلَا أَفْهَمُ، وَقَدْ غَارَ اللَّهُ لَهَا حِينَ قَالَ [لَهَا] (2) أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَأنْزل [الله] (3) بَرَاءَتَهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ فِيهِمَا رَضِيَ الله عَنْهُمَا   (1) ا: فِي حَيَاة رَسُول الله. (2) من ا. (3) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ. الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ. وَغَيْرِهِنَّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى [مَا عَدَا] (1) الْمَذْكُورَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِك واستأنس بقوله: " ثيبات وأبكارا " قَالَ: فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدثنَا أبي أَنبأَنَا (2) عَمِّيَ الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ جُنَادَةَ، هُوَ الْعَوْفِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " إِن اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَامْرَأَة فِرْعَوْن وَأُخْت مُوسَى ". رَوَاهُ [ابْنُ] (3) جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ وَزَادَ فَقُلْتُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ [قَالَ] (3) الْعُقَيْلِيُّ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحسن، عَن يعلى بن الْمُغيرَة   (1) سقط من ا. (2) احدثنا. (3) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 عَن أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ فَقَالَ لَهَا: بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ يَا خَدِيجَةُ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ؟ قَالَتْ: وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ ابْن بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا؟ ؟ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي [مرض] (1) للْمَوْت فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ ابْن عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي. قَالَ جِبْرِيل معى إِلَيْهَا رِسَالَة من الرب عزوجل يُقْرِئُهَا السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ. قَالَتِ: اللَّهُ السَّلَامُ وَمِنْهُ السَّلَامُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، مَا ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ؟ قَالَ: لؤلؤة   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 جوفاء بَين بَيت مَرْيَم بنت عمرَان وَبنت آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا وصب فِي الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا. وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أبي زرْعَة الدِّمَشْقِي، حَدثنَا عبد الله ابْن صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ، وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَم بنت عمر وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيل، عَن عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه بل هُوَ مَوْضُوع. وَقد رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ عَن مَسْعُود ابْن عبد الرَّحْمَن، عَن ابْن عَابِد، أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَذَكَرَهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَشْبَهُ. قُلْتُ: وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ، وَهَذَا مِنْهُ وَاللَّهُ أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 ذِكْرُ مِيلَادِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاء الْبَتُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكنت نسيا منسيا فناداها من تحتهَا أَن لَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فريا. يَا أُخْت هرون مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيا. ذَلِك عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ للَّذين كفرُوا من مشْهد يَوْم عَظِيم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا الَّتِي هِيَ كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ [قَبْلَهَا] (1) كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ " وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ". وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا أَوْ خَالَتِهَا نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ، وَأَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَظِيرُهَا فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ، وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهَا خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ، لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَعَقُّلٍ (2) . وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا أَو لحَاجَة ضَرُورِيَّة لَا بُد   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: وَلَا عقل. (*) (25 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 مِنْهَا مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا قد خرجت لبَعض شؤونها " وَانْتَبَذَتْ " أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام " فتمثل لَهَا بشرا سويا " فَلَمَّا رَأَتْهُ " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تقيا ". قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ اسْمُهُ " تَقِيٌّ " فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ. " قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك " أَي خاطبها الْملك " قَالَ (1) إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ " [أَيْ] (2) لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاما زكيا " أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا. " قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَام " أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ " وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بغيا " أَيْ وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ " قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَليّ هَين " أَيْ فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَائِلًا " كَذَلِكِ قَالَ رَبك " أَيْ وَعَدَ أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بِذَات بعل وَلَا تكونين مِمَّن تبغين " هُوَ عَليّ هَين " أَيْ وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ وَيَسِيرٌ لَدَيْهِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَقَوْلُهُ: " وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً للنَّاس " أَي ولنجعل خلقه وَالْحَالة هَذِه دَلِيلا   (1) ا: قَائِلا إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك. (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ " وَرَحْمَةً منا " أَيْ نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الله فِي صغره وَكبره فِي طفوليته وكهوليته، بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَقَوْلُهُ: " وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ". يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ مَعَهَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يكون قَوْله " وَكَانَ أمرا مقضيا " كِنَايَةً عَنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَرْيَم ابْنة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحنَا ". فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا، فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا فَانْسَلَكَتْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 " فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا " فَدَلَّ (1) عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ لَا فِي فمها، كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " فَحَمَلَتْهُ " أَيْ فَحَمَلَتْ وَلَدَهَا " فانتبذت بِهِ مَكَانا قصيا " وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ، وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَعِبَادَتِهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى. قَالَ لَهَا: فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ. فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي " بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ". وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ مَرْيَمُ: وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنى حُبْلَى؟   (1) ط: يدل. وَمَا اثبته من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ وَذَلِكَ قَوْله " مُصدقا بِكَلِمَة من الله " وَمَعْنَى السُّجُودِ هَاهُنَا الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ، كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ كَمَا كَانَ [فِي] (1) شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا [مَعًا] (1) ، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. [وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي وَإِذَا كُنْتُ بَيْنَ النَّاسِ سَبَّحَ فِي بَطْنِي] (1) . ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ ووضعن، إِذْ لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ بِهِ فَوَضَعَتْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ " فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جذع النَّخْلَة ". وَالصَّحِيح أَن تعقيب كل شئ بِحَسبِهِ، كَقَوْلِه " فَتُصْبِح الارض   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 مخصرة " وَكَقَوْلِه: " فخلقنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ " وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: شاع وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَمَا دخل على أهل بَيت مادخل على آل [بَيت] (1) زَكَرِيَّا. قَالَ: وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا. وَقَوْلُهُ: " فَأَجَاءَهَا الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة " أَيْ فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، وَهُوَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَاد وَصَححهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِبَيْتِ لَحْمٍ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ هَذَا الْبِنَاءَ الْمشَاهد الهائل. " قَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نسيا منسيا " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا، مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ، وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا (2) الْحَالِ أَوْ كَانَتْ " نَسْيًا مَنْسِيًّا " أَيْ لَمْ تُخْلَقْ بِالْكُلِّيَّةِ.   (1) سَقَطت من ا. (2) ا: هَذِه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وَقَوله: " فناداها من تحتهَا " وَقُرِئَ من تحتهَا عَلَى الْخَفْضِ، وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلم يتَكَلَّم عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَة الْقَوْم. وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زيد وَسَعِيد ابْن جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ابْنُهَا عِيسَى. وَاخْتَارَهُ ابْن جرير. وَقَوله " أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا ". قِيلَ النَّهْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَنِ الْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ ابْنُهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْك رطبا جنيا " فَذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَلِهَذَا قَالَ " فَكُلِي وَاشْرَبِي وقري عينا ". ثُمَّ قِيلَ: كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا وَقِيلَ كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ، لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ، وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ " تُسَاقِطْ عَلَيْك رطبا جنيا ". قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: لَيْسَ شئ أَجود (2) لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ (3) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ   (1) ط: وَهَكَذَا قَالَ. (2) ا: خير. (3) : ط: الانصاري: وَمَا أثْبته من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي حلق مِنْهُ آدم وَلَيْسَ من الشّجر شئ يُلَقَّحُ غَيْرَهَا " وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنِ مَسْرُوق ابْن سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ. وَالصَّحِيحُ مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عدى هَذَا الحَدِيث هن الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ [وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ] (1) . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا. وَقَوْلُهُ: " فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنسيا ". وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تحتهَا قَالَ: " كلى وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أحدا " أَيْ فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ " فَقَوْلِي " لَهُ أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ " إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صوما " أَيْ صَمْتًا، وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ أَسْلَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: " فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْم إنسيا " فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل.   (1) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْت هرون مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أمك بغيا " ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا، فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا فَقَالُوا لَهَا: " يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فريا " أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا. وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَمَلَتْهُ بِنَفْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَعَالَّتْ (1) مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا " قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فريا " وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ والمقال. ثمَّ قَالُوا لَهَا " يَا أُخْت هرون " قِيلَ شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ كَانَتْ تساميه فِي الْعِبَادَة، وَكَانَ اسْمه هرون. قَالَه سعيد بن جُبَير. وَقيل أَرَادوا بهرون أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الْعِبَادَةِ. وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا أُخْت مُوسَى وهرون نَسَبًا، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى [أَدْنَى] (2) مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ، وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْت مُوسَى وهرون صربت بِالدُّفِّ يَوْمَ نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ.   (1) ط: تعلت (2) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ مُطَوَّلًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهَا أَخ اسْمه هرون وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ سِوَاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ أَبِي بِذكرِهِ، عَنْ سِمَاكٍ. عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا: أَرَأَيْت مَا تقرءون: " يَا أُخْت هرون " ومُوسَى قبل عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ فرحت فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ ". وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَفِي رِوَايَةٍ. " أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنهم كَانُوا يتسمون بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ ". وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يكثرون من التَّسْمِيَة بهرون حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كثير مِنْهُم مِمَّن يُسمى بهرون أَرْبَعُونَ أَلْفًا! فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا: " يَا أُخْت هرون " وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أَخ نسبي اسْمه هرون وَكَانَ مَشْهُورًا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، وَلِهَذَا قَالُوا: " مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أمك بغيا " أَي لست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 مِنْ بَيْتٍ هَذَا شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ، فَاتَّهَمُوهَا بِالْفَاحِشَةِ الْعُظْمَى وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ. فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَة فَدَخلَهَا وَأمْسك إِبْلِيس بِطرف رِدَائه فنشره فِيهَا كَمَا قدمْنَاهُ. وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا يُوسُفَ ابْن يَعْقُوبَ النَّجَّارِ. فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ الْمَقَالُ، عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِخْلَاصُ وَالِاتِّكَالُ " فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ " أَيْ خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ فَإِنَّ جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ وَمَا تبغون من الْكَلَام لَدَيْهِ، فَعندهَا " قَالُوا " مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا: " كَيْفَ نُكَلِّمُ من كَانَ فِي المهد صَبيا " أَي كَيفَ تحيلينا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ وَزَبَدِهِ، وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِنَا وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ، إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا، بَلْ تُحِيلِينَ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. فَعِنْدَهَا " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيا ". هَذَا أول كَلَام تفوه بِهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 أَن " قَالَ إِنِّي عبد الله " اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، بَلْ هُوَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا بِسَبَبِهِ بقوله: " آتانى الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا " فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا " وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَار وَلِهَذَا قَالَ: " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كنت " وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عَن النَّقْص وَالْعَيْب من اتِّخَاذ الْوَلَد والصاحبة تَعَالَى وَتَقَدَّسَ " وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيا " وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بِالصَّلَاةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَرَابَاتِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ. ثُمَّ قَالَ " وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا " أَيْ وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. " وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شقيا " أَيْ لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وطاعته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 " وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أبْعث حَيا ". وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ قَالَ: " ذَلِكَ عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيكون " كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ [ذِكْرِ] (2) قِصَّتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: " ذَلِكَ فتلوه عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله عليم بالمفسدين ". وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ وَهُمْ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وأذنيها نكصوا (1) وامتنعوا عَن المباهلة وَعدلُوا   (1) ا: نكلوا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 إِلَى الْمُسَالَمَةِ (1) وَالْمُوَادَعَةِ وَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لَا عَن قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ. فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا، فَبَعَثَ مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِير آل عمرَان وَقد بسطنا هَذِه الْقِصَّة فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة (2) . وَالْمَقْصُود أَن الله تَعَالَى بَين أَمر الْمَسِيح فَقَالَ لِرَسُولِهِ: " ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يمترون " يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: " مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " أَي لَا يعجزه شئ وَلَا يَكْرُثُهُ وَلَا يَؤُودُهُ بَلْ هُوَ [الْقَدِيرُ] (3) الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون " وَقَوله: " إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم " هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ وَإِلَهُهُ وإلهم، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ   (1) ا: إِلَى الْمَسْأَلَة (2) اأنظر السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير 4 / 100 - 108 بتحقيقنا. (3) سَقَطت من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 كفرُوا من مشْهد يَوْم عَظِيم " أَيْ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ. فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّهُ وَلَدُ زَنْيَةٍ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمُثَابُونَ والمؤيدون المنصورون، وَمن خالفهم فِي شئ من هَذِه الْقُيُود فهم الْكَافِرُونَ الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِقَوْلِهِ: " فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْم عَظِيم ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ ". قَالَ الْوَلِيدُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنَادَةَ: وَزَادَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ جَابِرٍ بِهِ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 بَابُ بَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَد تَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا " شَيْئًا عَظِيمًا وَمُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا " تَكَادُ السَّمَوَات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ". فَبَيِّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لَهُ الْوَلَدُ لانه خَالق كل شئ ومالكه، وكل شئ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ السَّمَوَات والارض عبيده، هُوَ رَبُّهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ * بديع السَّمَوَات وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شئ وَهُوَ بِكُل شئ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالق كل شئ فاعبدوه وَهُوَ على كل شئ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (1) " * فَبين أَنه خَالق كل شئ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَنَاسِبَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا نَظِير لَهُ وَلَا شَبيه وَلَا عديل لَهُ، فَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يلد وَلم يُولد   (1) سُورَة الانعام. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وَلم يكن لَهُ كفوا أحد " يُقرر أَنه الاحد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفعاله " الصَّمد " وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحمته و [بلغ (1) ] جَمِيع صِفَاته " لم يلد " أَيْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ وَلَدٌ " وَلَمْ يُولَدْ " أَي وَلم يتَوَلَّد (2) عَن شئ قبله " وَلم يكن لَهُ كفوا أحد " أَيْ وَلَيْسَ لَهُ عِدْلٌ وَلَا مُكَافِئٌ. وَلَا مُسَاوٍ فَقَطَعَ النَّظِيرَ الْمُدَانِيَ وَالْأَعْلَى وَالْمُسَاوِيَ، فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مُتَوَلِّدًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَادِلَيْنِ أَوْ متقاربين، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (3) ". يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، فَالنَّصَارَى لَعَنَهُمُ اللَّهُ غَلَوْا وَأَطْرَوُا الْمَسِيحَ حَتَّى جاوزوا الْحَد.   (1) من ا (2) ا: وَلم يُولد (3) سُورَة الْمَائِدَة (*) (م 26 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا فَنَفَخَ فِيهَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ نَفْخَةً حَمَلَتْ مِنْهَا بِوَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالَّذِي اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْمَلَكِ هِيَ الرُّوحُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا رُوحُ اللَّهِ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا. وَسُمِّيَ عِيسَى بِهَا لِأَنَّهُ كَانَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَهِيَ الْكَلِمَةُ أَيْضًا الَّتِي عَنْهَا خُلِقَ وَبِسَبَبِهَا وُجِدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَوَات والارض كل لَهُ قانتون. بديع السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كن فَيكون (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون (3) ". فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا زَعَمُوهُ وَلَا فِيمَا ائْتَفَكُوهُ، إِلَّا مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَمُشَابَهَةُ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الضَّالَّةِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ الاول صدر   (1) سُورَة آل عمرَان (2) سُورَة الْبَقَرَة 116، 117. (3) سُورَة التَّوْبَة 30 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِلَّةِ الْعِلَلِ وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنِ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ ثَانٍ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ، ثُمَّ صَدَرَ عَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ حَتَّى تَنَاهَتِ الْعُقُولُ إِلَى عَشَرَةٍ وَالنُّفُوسُ إِلَى تِسْعَةٍ وَالْأَفْلَاكُ إِلَى تِسْعَةٍ، بِاعْتِبَارَاتٍ فَاسِدَةٍ ذَكَرُوهَا وَاخْتِيَارَاتٍ بَارِدَةٍ أَوْرَدُوهَا. وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ وَبَيَانِ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ زَعَمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَأَنَّهُ صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْمَلَائِكَةُ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ وَتَنَزَّهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أشهدوا خلقهمْ ستكتب شَهَادَتهم ويسألون (1) " وَقَالَ تَعَالَى: " فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ! مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ. فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عباد الله المخلصين (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين ". وَقَالَ تَعَالَى فِي أول سُورَة الْكَهْف وَهِي مَكِّيَّة: " الْحَمد لله الَّذِي أنزل   (1) سُورَة الزخرف 19، 20. (2) سُورَة الصافات 149 - 160 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا لينذر بَأْسا شَدِيدا من لَدنه ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا حسنا ماكثين فِيهِ أبدا. وينذر الَّذين قَالُوا اتخذ الله ولدا مَا لَهُم بِهِ من علم وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كذبا ". وَقَالَ تَعَالَى: " قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يكفرون (1) " فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَكِّيَاتُ الْكَرِيمَاتُ تَشْمَلُ الرَّدَّ عَلَى سَائِر فَوق الْكَفَرَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا وَزَعَمُوا بِلَا عِلْمٍ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ [الْمُعْتَدُونَ (2) ] علوا كَبِيرا. وَلما كَانَت النَّصَارَى عَلَيْهِم لعنة اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَشْهَرِ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرُ التَّشَعُّبِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ. وَأَمَّا الْحَقُّ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَتَّحِدُ وَيَتَّفِقُ وَالْبَاطِلَ يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ. فَطَائِفَةٌ مِنْ ضُلَّالِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ زَعَمُوا أَن الْمَسِيح هُوَ الله تَعَالَى. وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ابْنُ اللَّهِ، عَزَّ اللَّهُ. وَطَائِفَةٌ قَالُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. جَلَّ اللَّهُ.   (1) سُورَة يُونُس 68 - 70 (2) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 قَالَ الله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيح بن مَرْيَمَ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ على كل شئ قدير ". فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْخَالِق الْقَادِر على كل شئ وَأَنه رب كل شئ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ. وَقَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: " لَقَدْ كَفَرَ الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح بن مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُور رَحِيم. مَا الْمَسِيح بن مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يؤفكون ". حكم تَعَالَى بكفرهم شرعا وَقدرا، فَأخْبر أَنَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ إِلَيْهِم هُوَ عِيسَى بن مَرْيَم، وَقد بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ مُصَوَّرٌ فِي الرَّحِمِ دَاعٍ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّارِ وَعَدَمِ الْفَوْزِ بِدَارِ الْقَرَارِ وَالْخِزْيِ فِي الدَّار وَالْآخِرَة وَالْهَوَانِ وَالْعَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: " إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّار وَمَا للظالمين من أنصار ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَه وَاحِد " قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ (1) : أُقْنُومُ الْأَبِ وَأُقْنُومُ الِابْنِ وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، عَلَى اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك مَا بَين المليكية وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ كَمَا سَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَمَجَامِعَهُمُ الثَّلَاثَةَ فِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَه وَاحِد " أَيْ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كفؤ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، ثُمَّ تَوَعَدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ: " وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ثُمَّ دَعَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ فَقَالَ: " أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُور رَحِيم ". ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَأَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَوله: " كَانَا يأكلان الطَّعَام " كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَيْ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله   (1) ا: المُرَاد بِتِلْكَ الثَّلَاثَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 ثَالِث ثَلَاثَة " زعمهم فِي عِيسَى وَأمه أَنَّهُمَا الالهان مَعَ اللَّهِ، يَعْنِي كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَة: " وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى بن مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كل شئ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (1) ". يخبر تَعَالَى أَنه يسْأَل عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهُ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِعَابِدِيهِ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَافْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ اللَّهُ أَوْ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، فَيَسْأَلُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَلَكِنْ لِتَوْبِيخِ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَيَقُول لَهُ: " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ " أَيْ تَعَالَيْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَرِيكٌ " مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق " أَيْ لَيْسَ هَذَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ سِوَاكَ " إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْت علام الغيوب " وَهَذَا تَأَدُّبٌ عَظِيمٌ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ " مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ " [أَي مَا قلت غير مَا أَمرتنِي عَلَيْهِ (2) ] حِين أرسلتني إِلَيْهِم وأنزلت عَليّ   (1) سُورَة الْمَائِدَة 116 - 118 (2) من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. ثُمَّ فَسَّرَ مَا قَالَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: " أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وربكم " أَيْ خَالِقِي وَخَالِقُكُمْ وَرَازِقِي وَرَازِقُكُمْ " وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا توفيتنى " أَيْ رَفَعْتَنِي إِلَيْكَ حِينَ أَرَادُوا قَتْلِي وَصَلْبِي فَرَحِمْتَنِي وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُمْ وَأَلْقَيْتَ شَبَهِي عَلَى أَحَدِهِمْ حَتَّى انْتَقَمُوا مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ " كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شئ شَهِيد ". ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ (1) التَّفْوِيضِ إِلَى الرَّبِّ عزوجل وَالتَّبَرِّي مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادك " أَيْ وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ " وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " وَهَذَا التَّفْوِيضُ وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْمَشِيئَةِ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز الْحَكِيم " وَلَمْ يَقُلْ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ [الْكَرِيمَةِ] (2) لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ: " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَقَالَ: إِنِّي سَأَلت رَبِّي عزوجل الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى لمن لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا. وَقَالَ: " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تصفون. وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ " (3) .   (1) ا: على سَبِيل. (2) لَيست فِي ا. (3) سُورَة الانبياء 16 - 20 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وَقَالَ تَعَالَى " لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ الله الْوَاحِد القهار. خلق السَّمَوَات والارض بِالْحَقِّ يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّى أَلا هُوَ الْعَزِيز الْغفار (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنا أول العابدين. سُبْحَانَ رب السَّمَوَات والارض رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ (2) ". وَقَالَ تَعَالَى: " وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكبره تَكْبِيرا (3) ". وَقَالَ تَعَالَى: " قل هُوَ الله. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفوا أحد ". وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، يَزْعُمُ أَنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمَّ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ ". وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يزرقهم وَيُعَافِيهِمْ ". وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ " ثُمَّ قَرَأَ: " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيم شَدِيد (4) ".   (1) سُورَة الزمر 4، 5. (2) سُورَة الزخرف 81، 82. (3) سُورَة الاسراء 111 (4) سُورَة هود 102. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَاب غليظ (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يكفرون (3) " وَقَالَ تَعَالَى: " فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا " (4)   (1) سُورَة الْحَج آيَة: 48. (2) سُورَة لُقْمَان آيَة: 24. (3) سُورَة يُونُس آيَة: 68. (4) آخر سُورَة الطارق. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 ذكر منشأ عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام ومرباه فِي صغره وصباه، وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ وَأَنَّ مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ ويوسف ابْن يَعْقُوبَ النَّجَّارُ وَهِيَ رَاكِبَةٌ عَلَى حِمَارٍ لَيْسَ بَينهمَا وَبَين الاكاف شئ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ. وَذَكَرَ وَهْبُ بن مُنَبّه أَنه لما خَرَّتِ الْأَصْنَامُ يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ عِيسَى فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ وَمُرٌّ وَلِبَانٌ هَدِيَّةً إِلَى عِيسَى، فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا عَمَّا أَقْدَمَهُمْ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِذَا قَدْ وُلِدَ فِيهِ عِيسَى بن مَرْيَمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ [فِي الْمَهْدِ (1) ] فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَرْيَمَ بالهدايا وَرَجَعُوا قيل لَهَا إِن رسل   (1) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 [مَلِكِ (1) ] الشَّامِ إِنَّمَا جَاءُوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ. فَاحْتَمَلَتْهُ فَذَهَبت بِهِ إِلَى مصر، فأقامت بِهِ حَتَّى بلغ عمره اثنتى عَشْرَةَ سَنَةً، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ. فَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا مِنْ دَارِهِ وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ فَلم يدر من أَخذهَا، وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِلْأَعْمَى: احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ وَانْهَضْ بِهِ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَقَالَ بَلَى كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ مِنَ الدَّارِ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ وَأَتَيَا بِالْمَالِ فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ طُهُورِ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا يَعْنِي خَمْرًا، كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ [شَيْئًا (1) ] فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا فَلَا يَفْعَلُ بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا وَعَظَّمُوهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنبأَنَا عُثْمَان بن سَاج وَغَيْرُهُ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أبي هُرَيْرَة   (1) لَيست فِي ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 قَالَ: إِن عِيسَى بن مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ طِفْلٌ، فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ لَمْ يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْت الْقَرِيب فِي علوك، المتعال فِي دنوك، الرفيع على كل شئ مِنْ خَلْقِكَ، أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ مُسْتَوِيَاتٍ طِبَاقًا أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ لِأَمْرِكَ، فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَجعلت فِيهِنَّ الرَّعْد المسبح بِالْحَمْد، فبعزتك يجلو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فِي مَفْطُورَ سمواتك وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ دَحَوْتَهَا عَلَى الْمَاءِ فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا وَخَضَعَتْ لِعِزَّتِكَ أَمْوَاجُهَا، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ، ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا وَجُلْمُودُهَا. فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ! فَمن يبلغ بنعته نعتك أم من يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ؟ تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَفُكُّ الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ سترت السَّمَوَات عَنِ النَّاسِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنَّمَا يَخْشَاكَ مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ، نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ، وَلَا رَبٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 يبيد ذكره، وَلَا كَانَ مَعَك شُرَكَاء فَنَدْعُوَهُمْ وَنَذَرَكُ، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نَشْهَدُ أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ ". وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِل، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس، أَن عِيسَى بن مَرْيَم أمسك عَن الْكَلَام بعد أَن كَلَّمَهُمْ طِفْلًا حَتَّى بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الْغِلْمَانُ. ثمَّ أنطقه الله بعد ذَلِك الْحِكْمَة وَالْبَيَانِ فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ القَوْل، وَكَانُوا يسمونه ابْن البغية وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: " وكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما ". قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ، فَجَعَلَ لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ أَبَا جَادٍ فَقَالَ عِيسَى: مَا أَبُو جَادٍ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا أَدْرِي فَقَالَ عِيسَى: كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي. فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: إِذًا فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ. فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مَجْلِسَهُ فَقَالَ: سَلْنِي فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: فَمَا أَبُو جاد؟ فَقَالَ عِيسَى: الالف آلَاء الله. وَالْبَاء بهاء الله. وَالْجِيم بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ. فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَهُ عَلَى كل كلمة بِحَدِيث طَوِيل مَوْضُوع لَا يسْأَل عَنهُ وَلَا يتمادى! وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بن عَيَّاش، عَن إِسْمَاعِيل ابْن يحيى، عَن ابْن أبي مليكَة، عَن ابْن مَسْعُود، عَن مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لَا يَرْوِيهِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ. وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر يَقُول: كَانَ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا. فَيَذْهَبُ الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ لِي. فَتَقُولُ: وَأي شئ خَبَّأْتُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا. فَتَقُولُ لَهُ: من أخْبرك؟ فَيَقُول عِيسَى بن مَرْيَمَ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ لَيُفْسِدَنَّهُمْ. فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ فَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقَالُوا: إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَذَلِكَ. فَكَانُوا كَذَلِك. رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر. وَقَالَ إِسْحَق بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، فَفَشَا ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ وَتَرَعْرَعَ عِيسَى، فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ ومعين " وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ، وَهِي أَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 رَبْوَةٌ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي أَعْلَاهُ مستو يقر عَلَيْهِ وارتفاعه متسع، وَمَعَ علوه فِيهِ عُيُون المَاء الْمعِين، وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ الْمَسِيحَ وَهُوَ نَخْلَة (1) بَيت الْمُقَدّس، وَلِهَذَا " ناداها مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتك سريا " وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دمشق. وَقيل ذَلِك بِمصْر كمازعمه مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ هِيَ الرَّمْلَةُ. وَقَالَ إِسْحَق بْنُ بِشْرٍ: قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ إِنَّ عِيسَى لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ إِيلِيَا [قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ ابْنُ خَالِ أُمِّهِ فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا (2) ] وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ الْإِنْجِيلَ وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي مِنَ الْعَجَائِبِ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَفَشَا فِيهِمْ أَمْرُهُ. بَيَانُ نُزُولِ الْكُتُبِ الاربعة ومواقيتها وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالح، حَدثنِي مُعَاوِيَة ابْن صَالِحٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: " أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَزَلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة   (1) ا: محلّة بَيت الْمُقَدّس. (2) سَقَطت من ا (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ على عِيسَى بن مَرْيَم فِي ثَمَانِيَة عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّبُورِ بِأَلْفِ عَامٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَأُنْزِلَ الْفَرْقَانُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن " الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ أنزل على عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: وَأَنْبَأْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أوحى الله عزوجل إِلَى عِيسَى بن مَرْيَمَ: يَا عِيسَى جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تهن، واسمع وأطع يَابْنَ الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، إِنَّكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ، وَأَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، إِيَّايَ فَاعْبُدْ وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ فَسِّرْ لِأَهْلِ السُّرْيَانِيَّةِ بَلِّغْ مَنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَنِّي أَنَا [الْحَقُّ] (1) الْحَيُّ الْقَائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ، صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالتَّاجِ - وَهِيَ الْعِمَامَةُ - وَالْمِدْرَعَةِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ - وَهِيَ الْقَضِيبُ - الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ الصَّلْتَ الْجَبِينِ الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْجَعْدَ الرَّأْسِ، الْكَثَّ اللِّحْيَة، المقرون الحاجبين، الافنى   (1) لَيست فِي ا. (*) (27 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 الْأَنْفِ، الْمُفَلَّجَ الثَّنَايَا، الْبَادِيَ الْعَنْفَقَةِ، الَّذِي كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ وَكَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ، لَيْسَ عَلَى بَطْنِهِ وَلَا عَلَى صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، عَرَقُهُ فِي وَجهه كَاللُّؤْلُؤِ وريح الْمسك ينفح مِنْهُ، وَلم يُرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، الْحَسَنَ الْقَامَةِ الطَّيِّبَ الرِّيحِ، نَكَّاحَ النِّسَاءِ ذَا النَّسْلِ الْقَلِيلِ، إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ، لَهَا بَيْتٌ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، تُكَفِّلُهُ يَا عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ، لَهُ مِنْهَا فَرْخَانِ مُسْتَشْهَدَانِ وَلَهُ عِنْدِي مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَلَامُهُ الْقُرْآنُ وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ وَأَنَا السَّلَامُ، طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ وَشَهِدَ أَيَّامَهُ وَسمع كَلَامه. قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا غَرَسْتُهَا بِيَدِي، فَهِيَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ وَمَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ وبردها برد الكافور وطممها طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ [وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ (1) ] مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ اسْقِنِي مِنْهَا. قَالَ: حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، وَحَرَامٌ عَلَى الْأُمَمِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا حَتَّى تَشْرَبَ (2) مِنْهَا أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ. قَالَ: يَا عِيسَى، أرفعك إِلَيّ. قَالَ رَبِّ وَلِمَ تَرْفَعُنِي؟ قَالَ: أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: تشهد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ (1) اللَّعِينِ الدَّجَّالِ، أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ صَلَاةٍ ثُمَّ لَا تُصَلِّي بهم لانها مَرْحُومَةٌ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عِيسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. قَالَ: أُمَّةُ أَحْمَدَ، هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ (2) كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. يَا عِيسَى هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ. رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ قَالَ: أوحى الله إِلَى عِيسَى بن مَرْيَمَ: أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ وَلَا تول غَيْرِي فَأخذ لَك، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ، فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ، تَيَقَّظْ مِنْ سَاعَاتِ الْغَفْلَةِ واحكم (3) فِي لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا وَأَمِتْ قَلْبك فِي الْخَشْيَةِ [لِي] (4) وَرَاعِ اللَّيْلَ لِحَقِّ مَسَرَّتِي وَأَظْمِ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جهدك، واعترف بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ، وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي، واحكم فِي عبَادي بعدلي، فقد نزلت عَلَيْك شِفَاء وسواس (5)   (1) : على قتل. (2) ا: حلماء. (3) ا: واحلم لي. (4) لَيست فِي ا. (5) ا: وساوس (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وَأَنت حَيّ تنفس. يَا عِيسَى [بن مَرْيَمَ] (1) مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَو تبدل سنتى. يَا عِيسَى بن مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ [لِأَهْلِهَا] (1) وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ وَتُفْشِي السَّلَامَ، وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ، حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ، قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أهل وَلَا مَال، واكحل عَيْنك بملول (2) الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِرًا محتسبا، وطوبى لَك إِن نالك مَا وعدت الصابرين ارج من الدُّنْيَا بِاللَّه يَوْم يبعثون (3) وذق مذاقة مَا قد حَرْب مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ، وَمَا لَمْ يَأْتِكَ كَيْفَ لذته، فَرح من الدُّنْيَا بالبلغة، وليكفك مِنْهَا الخشن الجئيب (4) ، قد رَأَيْت إِلَى مَا يصير، اعْمَلْ عَلَى حِسَابٍ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ، لَوْ رَأَتْ عَيْنَاك (5) مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي الصَّالِحِينَ ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْن طَاوُوس، عَن أَبِيه قَالَ: لقى عِيسَى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسَ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يصيبك إِلَّا مَا كتب   (1) لَيست فِي ا. (2) كَذَا، وَالْملَّة: الرماد الْحَار (3) كَذَا فِي ا. وَفِي ط: يَوْم بِيَوْم. (4) الجئيب: الغليظ (5) ا: عَيْنك. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 لَك؟ قَالَ إِبْلِيس: فأوف (1) بِذرْوَةِ [هَذَا] (2) الْجَبَل فتردى مِنْهُ فَانْظُر هَل تعيش أم لَا. فَقَالَ ابْن طَاوُوس: عَنْ أَبِيهِ: فَقَالَ عِيسَى: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي عَبْدِي فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يبتلى ربه وَلَكِن الله يبتلى عَبده. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَان، عَن عَمْرو، عَن طَاوُوس قَالَ: أَتَى الشَّيْطَان عِيسَى بن مَرْيَمَ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ فَأْتِ هوة (3) فَأَلْقِ نَفْسَكَ. قَالَ: وَيْلَكَ أَلَيْسَ قَالَ: يَا بن آدَمَ لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ نَفْسِكَ فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ! وَحَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، قَالَ: تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ، أَقَامَ يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ فَقَالَ الشَّيْطَانُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي وَلَكِنَّ رَبِّي إِذا شَاءَ ابتلاني. وعرفه أَنه الشَّيْطَان ففارقه. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا شُرَيْح بن يُونُس، حَدثنَا على ابْن ثَابِتٍ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي عُثْمَان، كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَن كل شئ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ وَقُلْ قَدَرٌ عَلَيَّ. فَقَالَ: يالعين! اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ عزوجل. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْفضل بن مُوسَى الْبَصْرِيّ،   (1) المطبوعة: فَارق. (2) لَيست فِي ا. (3) ا: هَذِه (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ (1) سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَة يَقُول: لقى عِيسَى بن مَرْيَمَ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى بن مَرْيَم الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي ثُمَّ يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِي. قَالَ: فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ ثُمَّ يُحْيِيهِ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَإِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَصَكَّهُ جِبْرِيل صَكَّة بجناحيه فَمَا نباها دون قُرُون الشَّمْس. ثمَّ صَكه أُخْرَى بجناحيه فَمَا نباها دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَسْلَكَهُ فِيهَا، حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لقِيت مِنْك يَابْنَ مَرْيَمَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بكر أَحْمد بن سَيِّدي. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ سُوَيْدٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَاحْتَبَسَهُ فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ عِيسَى يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. قَالَ: فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ، فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَلَمَّا رَآهُمَا إِبْلِيس كف، فَلَمَّا اسْتَقر مَعَهُ عَلَى الْعَقَبَةِ اكْتَنَفَا عِيسَى وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيس بجناحه   (1) ا: ابْن يسَار. محرقة. وَانْظُر ميزَان الِاعْتِدَال 1 / 24. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي. قَالَ: فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ لِعِيسَى: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ بِغَضَبِ عَبْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ حِينَ غضِبت وَلَكِن أَدْعُوك لامر هولك، آمُرُ الشَّيَاطِينَ فَلْيُطِيعُوكَ فَإِذَا رَأَى الْبَشَرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ عَبَدُوكَ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً، فَإِذَا إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَكَفَّ إِبْلِيسُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ يَهْوِي وَمَرَّ عِيسَى وَهُوَ بِمَكَانِهِ فَقَالَ: يَا عِيسَى لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا فَرَمَى بِهِ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ قَالَ: فَغَطُّوهُ فَجَعَلَ كُلَّمَا خَرَجَ (1) غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ. قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ فَقَالُوا: سيدنَا لقد (2) لَقِيتَ تَعَبًا قَالَ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ إِبْلِيسَ قُرْآنًا نَاطِقًا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ على عِيسَى فَقَالَ: " يَا عِيسَى بن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس " يَعْنِي إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي جِبْرِيلَ " تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة والانجيل   (1) المطبوعة: كلما صرخَ. وَهُوَ تَحْرِيف صَوَابه من ا. (3) المطبوعة: قد. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير " الْآيَة كلهَا وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ فَاعْلَمْ خُلُقَانِ عَظِيمَانِ مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي. وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ صُمْنَا فَلم يتَقَبَّل صيامنا وصلينا فَلم تقبل صَلَاتنَا وتصدقنا فَلم تقبل صَدَقَاتِنَا وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْجِمَالِ فَلَمْ يَرْحَمْ بكاؤنا. فَقل لَهُم: وَلم ذَاك وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي؟ أَنَّ ذَاتَ يَدِي قَلَّتْ؟ أَو لَيْسَ خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْضِ بِيَدِي أُنْفِقَ مِنْهَا كَيْفَ أَشَاءُ. أَوْ إِن الْبُخْل يعترينى (1) ، أَو لست أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ (2) وَأَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى. أَوْ أَنَّ رَحْمَتِي ضَاقَتْ؟ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي. وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَا عِيسَى بن مَرْيَم غروا (3) أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا (4) بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الْآخِرَةِ لَعَرَفُوا مِنْ أَيْنَ أُتُوا (5) ، وَإِذًا لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ [وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي (6) ] وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا، يَا عِيسَى إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ! ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضبا.   (1) المطبوعة: لَا يعترينى. وَهُوَ تَحْرِيف، صَوَابه من ا (2) المطبوعة: من سَأَلَ. وَهُوَ تَحْرِيف شنيع. (3) الاصل: عدوا محرفة. (4) ا: فاستأثروا. (5) المطبوعة: أُوتُوا. محرفة. (6) سقط من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 يَا عِيسَى وقضيت يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي أَنْ أَجْعَلَهُمْ جِيرَانَكَ فِي الدَّارِ وَرُفَقَاءَكَ فِي الْمَنَازِلِ وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَوَات وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النَّار. وقضيت يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْضَ أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يتزين (1) بِالْفُحْشِ وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جميل وَأهب لَهُ كل خلق كريم، وَأَجْعَل التَّقْوَى ضَمِيره وَالْحكم مَعْقُولَهُ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ والاسلام مِلَّته، اسْمه أَحْمَدُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَائِلَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ، أَهْدِي بِهِ وَأَفْتَحُ بِهِ بَيْنَ آذَانٍ صُمٍّ وَقُلُوبٍ غُلْفٍ وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَة، وَأَجْعَل أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل، ألهمهم التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس والتهليل فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ لي قيَاما وقعودا وركعا وسجودا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ وأناجليهم فِي صُدُورِهِمْ وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوث فِي النَّهَار، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا السِّيَاق مِمَّا سنورده من سورتي الْمَائِدَة والصف إِن شَاءَ الله وَبِه الثِّقَة.   (1) المطبوعة: وَلَا بزر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وَقد روى أَبُو حُذَيْفَة إِسْحَق بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، قَالُوا: لَمَّا بُعِثَ عِيسَى بن مَرْيَم وجاءهم بِالْبَيِّنَاتِ جعل المُنَافِقُونَ والكافرون مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ: مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ وَمَا ادَّخَرَ فِي منزله؟ فَيُخْبِرُهُمْ، فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا وَالْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ شَكًّا (1) وَكُفْرَانًا. وَكَانَ عِيسَى مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ، إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قبر وَهِي تبكى فَقَالَ لَهَا: مَالك، أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَتْ مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالُوا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَى يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي. قَالَ: فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ، فَقَالَ لَهَا عِيسَى: مَا أَبْطَأَ بِكِ عَنِّي؟ فَقَالَتْ: لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي ثُمَّ (2) جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ فَرَجَعَ إِلَيَّ رُوحِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَة الثَّانِيَة فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ فَشَابَ رَأْسِي وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي مِنْ مَخَافَةِ الْقِيَامَةِ: ثُمَّ أَقْبَلَتْ على أمهَا فَقَالَت: يَا أُمَّاهُ (3) مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مرَّتَيْنِ يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي   (1) ا: شركا. (2) ا: فَلَمَّا جَاءَتْنِي. (3) : يَا أمتاه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وَاحْتَسِبِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا، يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ سَلْ رَبِّي أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ. فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَازْدَادُوا [عَلَيْهِ] (1) غَضَبًا. وَقَدَّمْنَا فِي عقب قِصَّةِ نُوحٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ يحيى لَهُم سَام؟ ؟ ابْن نوح فَدَعَا الله عزوجل وَصلى الله فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا. وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ عَن أبي صَالح وَأبي مَالك، عَن ابْن عَبَّاسٍ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَا اللَّهَ عزوجل فأحياه الله عزوجل، فَرَأى النَّاس أمرا هائلا ومنظرا عجيبا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: " إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى بن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فتنفخ فِيهَا فَيكون طيرا بإذني وَإِذ تبرئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بأننا مُسلمُونَ (2) .   (1) لَيست فِي ا. (2) سُورَة الْمَائِدَة 110، 111. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى ثُمَّ إِرْسَالِهِ بعد هَذَا كُله " وعَلى والدتك " فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ؟ ؟ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ وَلِهَذَا قَالَ " إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس " وَهُوَ جِبْرِيلُ بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ " تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا " أَيْ تَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ وَفِي كُهُولَتِكَ " وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكتاب وَالْحكمَة " أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ. نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ " والتوراة والانجيل " وَقَوْلُهُ: " وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بإذني " أَي تصَوره وتشكله من الطين على هَيْئَة الطير عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ " فَتَنْفُخُ فِيهَا تكون طيرا بإذني " أَيْ بِأَمْرِي يُؤَكِّدُ تَعَالَى بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ. وَقَوْلُهُ " وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ " قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ " والابرص " هُوَ الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا " وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى " أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتعَدِّدَة بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَوْلُهُ " وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين " وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ عَنِ الْأَذَى وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وَقَوْلُهُ: " وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ " قِيلَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ " وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل (1) " " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم (2) " وَقِيلَ الْمُرَادُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَتَوْفِيقٌ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَلِهَذَا اسْتَجَابُوا قَائِلِينَ " آمَنَّا واشهد بأننا مُسلمُونَ ". وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُوله عِيسَى بن مَرْيَمَ أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (2) " وَقَالَ تَعَالَى: " وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أحس عِيسَى مِنْهُم الْكفْر قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أنصار الله آمنا بِاللَّه واشهد   (1) سُورَة النَّحْل 68. (2) سُورَة الْقَصَص 7. (3) سُورَة الانفال 62، 63. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بِأَنا مُسلمُونَ. رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين. ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين (1) ". كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانه وَكَانُوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صدوره إِلَّا عَمَّن أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ، أَسْلَمُوا سِرَاعًا وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا. وَهَكَذَا عِيسَى بن مَرْيَمَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَعْمَى، وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ؟ هَذَا مِمَّا يعلم كل أحد مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وعَلى قدرَة من أرْسلهُ. وَهَكَذَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بُعِثَ فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا   (1) سُورَة آل عمرَان 48 - 54 (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وَلَنْ يَفْعَلُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِق عزوجل، وَالله تَعَالَى لَا يُشبههُ شئ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ. * * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ طَائِفَةً صَالِحَةً [فَكَانُوا] (1) لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا قَامُوا بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى وَهْمُ فِي ذَلِكَ غَالِطُونَ وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِك مخطئون. قَالَ تَعَالَى: " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الماكرين " وَقَالَ تَعَالَى: " وَإِذ قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يدعى للاسلام وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كره الْكَافِرُونَ " إِلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحواريون نَحن   (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 أَنْصَارُ اللَّهِ. فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبحُوا ظَاهِرين (1) ". فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا شَاهَدُوهُ، إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المفلحون (2) ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قالو: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ. قَالَ: " دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا وَفِيهِ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ " رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم " الْآيَةَ وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِي الْعَرَبِيّ الامي خَاتم الانبياء على   (1) سُورَة الصَّفّ 14 (2) سُورَة الاعراف 157. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 الْإِطْلَاقِ أَحْمَدَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين " يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بن مَرْيَم للحواريين من أنصارى إِلَى الله " أَيْ مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ، إِلَى اللَّهِ " قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله " وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا النَّاصِرَةُ فسموا بذلك النَّصَارَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة " يَعْنِي لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ من كفر، وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً، أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصَّفَا فآمنوا واستجابوا (1) وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هم المذكورون فِي سُورَةِ يس لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهْمُ [جُمْهُورُ] (2) الْيَهُودِ فَأَيَّدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: " إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك   (1) ا: واستعجلوا. (2) لَيست فِي ا. (*) (28 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " الْآيَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ كَانَ غَالِبًا (1) لِمَنْ دُونَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَأَطْرَوْهُ وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ [فِيهِ] (2) عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ إِلَى زَمَنِ الاسلام وَأَهله.   (1) ط: كَانَ عَالِيا. (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 ذِكْرُ خَبَرِ الْمَائِدَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى بن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا من الشَّاهِدين. قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالمين ". قَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي نُزُولِ الْمَائِدَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ. وَمَضْمُونُ ذَلِكَ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ بِصِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا أَتَمُّوهَا سَأَلُوا مِنْ عِيسَى إِنْزَالَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لِيَأْكُلُوا مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ وَأَجَابَهُمْ إِلَى طَلِبَتِهِمْ، وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ وَتَكُونَ كَافِيَةً لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ. فَوَعَظَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ وَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا بِشُكْرِهَا وَلَا يُؤَدُّوا حَقَّ شُرُوطِهَا فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ ربه عزوجل. فلمالم يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ وَلَبِسَ مِسْحًا مِنْ شَعْرٍ وَصَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طلبُوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْحَدِرُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ، وَجَعَلَتْ تَدْنُو قَلِيلا قَلِيلا، وَكلما دنت سَأَلَ عِيسَى ربه عزوجل أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لَا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا بَرَكَةً وَسَلَامَةً. فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمَنْدِيلٍ فَقَامَ عِيسَى يَكْشِفُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " فَإِذَا عَلَيْهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحِيتَانِ وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ. وَيُقَالُ: وَخَلٌّ وَيُقَالُ: وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ، وَلَهَا رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، قَالَ اللَّهُ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا، فَقَالُوا: لَا نَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ. فَقَالَ: إِنَّكُمُ الَّذِينَ ابْتَدَأْتُمُ السُّؤَالَ لَهَا. فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ابْتِدَاءً، فَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ وَالْمَرْضَى والزمنى وَكَانُوا قَرِيبا مِنْ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَبَرَأَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أَوْ آفَةٌ أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَنَدِمَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلَاحِ حَالِ أُولَئِكَ. ثُمَّ قِيلَ إِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْهَا، يَأْكُلُ آخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى [قِيلَ] (1) إِنَّهَا (2) كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا نَحْوُ سَبْعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، كَمَا كَانَتْ نَاقَةُ صَالِحٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَحَاوِيجِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَرُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسِخَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ خَنَازِيرَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، حَدثنَا الْحسن بن قزعة   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: إِنَّه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا وَلَا يَدَّخِرُوا وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا. وَهَذَا أَصَحُّ. وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا. وَهُوَ الصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخِلَاسٌ عَنْ عَمَّارٍ مُنْقَطِعٌ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَائِدَةِ: هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِه الْآثَار كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ وَلَا سِيمَا قَوْله: " إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم " كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ وَإِلَى الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ تَنْزِلْ وَإِنَّهُمْ أَبَوْا نُزُولَهَا حِينَ قَالَ " فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين " وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ الْمَائِدَةِ وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي كِتَابِهِمْ، مَعَ أَنَّ خَبَرَهَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُ فَلْيَنْظُرْهُ مِنْ ثَمَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فَصْلٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَقَطَ اسْمُهُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ [بْنُ مُحَمَّدٍ] (1) حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: فَقَدَ الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى فَقِيلَ لَهُمْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَحْرِ، فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ إِذَا هُوَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ وَمُؤْتَزِرٌ بِنِصْفِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ بَعضهم، قَالَ أَبُو هِلَال ظنت أَنه من أفاضلهم: أَلا أجئ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ: فَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الْأُخْرَى فَقَالَ: أَوَّهْ غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الْإِيمَانِ، لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ مَشَى عَلَى الْمَاءِ! وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ ابْن الاعرابي، عَن إِبْرَاهِيم بن أبي الْجَحِيم، عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْبٍ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ عَنْ بَكْرٍ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَان (1) ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاض، قَالَ قيل لعيسى بن مَرْيَم: يَا عِيسَى بِأَيّ شئ تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ؟ قَالَ: بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ. قَالُوا: فَإِنَّا آمَنَّا كَمَا آمَنْتَ وَأَيْقَنَّا كَمَا أَيْقَنْتَ. قَالَ: فَامْشُوا إِذًا. قَالَ: فَمَشَوْا مَعَهُ فِي الْمَوْجِ فَغَرِقُوا فَقَالَ لَهُمْ [عِيسَى] (2) مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: خِفْنَا الْمَوْجَ قَالَ: أَلَا خِفْتُمْ رَبَّ الْمَوْجِ! قَالَ: فَأَخْرَجَهُمْ. ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَقَبَضَ بِهَا ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ذَهَبٌ وَفِي الْأُخْرَى مَدَرٌ أَوْ حَصى   (1) ا: ابْن شَقِيق. (2) لَيست فِي ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 فَقَالَ: أَيُّهُمَا أَحْلَى فِي قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: هَذَا الذَّهَبُ. قَالَ: فَإِنَّهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ! وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ وَلَا يَأْوِي إِلَى مَنْزِلٍ وَلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئا لغد. قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ صَاحَ وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِابْنِ مَرْيَم أَن يذكر عِنْدَهُ السَّاعَةُ وَيَسْكُتَ. وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ صَرَخَ صُرَاخَ الثَّكْلَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاق: أَنبأَنَا معمر، حَدثنَا جَعْفَر بن بلقان، أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ وَلَا أَمْلِكُ نَفْعَ مَا أَرْجُو، وَأَصْبَحَ الْأَمْرُ بِيَدِ غَيْرِي؟ ؟، وَأَصْبَحْتُ مُرْتَهِنًا بِعَمَلِي، فَلَا فَقِيرَ أَفْقَرُ مِنِّي! اللَّهُمَّ لَا تشمت بِي عدوي وَلَا تسؤبى صَدِيقِي، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتِي فِي دِينِي وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي ". وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، كَانَ عِيسَى يَقُولُ لَا يُصِيبُ أَحَدٌ (1) حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا! قَالَ الْفُضَيْلُ: وَكَانَ عِيسَى يَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي الْخَلْقِ فَوَجَدْتُ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ أَغْبَطَ عِنْدِي مِمَّنْ خلق!   (1) ا: لَا نصيب حَقِيقَة الايمان حَتَّى لَا نبالي. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ عِيسَى رَأْسُ الزَّاهِدِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَإِنَّ الْفَرَّارِينَ بِذُنُوبِهِمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى. قَالَ: وَبَيْنَمَا عِيسَى يَوْمًا نَائِمٌ عَلَى حَجَرٍ قَدْ تَوَسَّدَهُ وَقَدْ وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ إِذْ مَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ فَقَالَ: يَا عِيسَى أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؟ فَهَذَا الْحجر من عرض الدُّنْيَا. قَالَ [فَقَامَ عِيسَى (1) ] فَأَخَذَ الْحَجَرَ فَرَمَى بِهِ إِلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا لَكَ مَعَ الدُّنْيَا! وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: خَرَجَ عِيسَى عَلَى أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ وَكِسَاءٌ وَتُبَّانٌ (2) حَافِيًا بَاكِيًا شَعِثًا مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مِنَ الْجُوعِ يَابِسَ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَا الَّذِي أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مَنْزِلَتَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَا عَجَبَ وَلَا فَخْرَ، أَتَدْرُونَ أَيْنَ بَيْتِي؟ قَالُوا: أَيْنَ بَيْتُكَ يَا رُوحَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِيتِي الْمَسَاجِدُ، وَطِيبِي الْمَاءُ، وَإِدَامِي الْجُوعُ، وَسِرَاجِي الْقَمَر بِاللَّيْلِ، وصلائى فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الشَّمْسِ، وَرَيْحَانِي بُقُولُ الْأَرْضِ، وَلِبَاسِي الصُّوفُ (3) ، وَشِعَارِي خَوْفُ رَبِّ الْعِزَّةِ، وَجُلَسَائِي الزمنى وَالْمَسَاكِين، أصبح وَلَيْسَ لي شئ وَأمسى وَلَيْسَ لي شئ وَأَنا طيب النَّفس غير مكترث فَمَنْ أَغْنَى مِنِّي وَأَرْبَحُ! رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ أبان بن حبَان أبي الْحسن العقيلى   (1) سَقَطت من المطبوعة وأثبتها من ا. (2) التبَّان: سَرَاوِيل صَغِير يستر الْعَوْرَة الْمُغَلَّظَة. (3) المطبوعة: الصون. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الْمِصْرِيِّ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيد، عَن شفى من مَاتِعٍ (1) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى: أَنْ يَا عِيسَى انْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِئَلَّا تُعْرَفَ فَتُؤْذَى، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ حَوْرَاءَ وَلَأُولِمَنَّ عَلَيْكَ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفا من رِوَايَة شقى بْنِ مَاتِعٍ (1) ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ الْمُلُوكَ الْحِكْمَةَ فَكَذَلِكَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ وَإِنِّي صَغِيرٌ عِنْد نَفسِي. وَقَالَ إسماعيلي بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر قَالَ: قَالَ عِيسَى لِلْحِوَارِيَّيْنِ: كُلُوا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقَرَاحَ واخرجو من الدُّنْيَا سَالِمين آمِنين، بِحَق مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ عباد الله لَيْسُوا بالمتنعمين، بِحَق مَا أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ شَرَّكُمْ عَالِمٌ يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى عِلْمِهِ يَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مثله. وروى نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُول: يَا بني   (1) الاصل: سفى بن نَافِع. محرفة. والتصويب من المشتبه للذهبي 2 / 399. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 إِسْرَائِيل عَلَيْكُم بِالْمَاءِ القراح والبقل البرير (1) وخبز (2) الشَّعِيرِ، وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقُولُ اعْبُرُوا الدُّنْيَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا (3) . وَكَانَ يَقُولُ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالنَّظَرُ يَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ. وَحَكَى وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مِثْلَهُ وَزَادَ: وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ أَهْلَهَا حزنا طَويلا. وَعَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: يَابْنَ آدم الضَّعِيف اتَّقِ الله حَيْثُ مَا كُنْتَ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا، وَاتَّخَذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَكَ الْبُكَاءَ وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ وَقَلْبَكَ التَّفَكُّرَ، وَلَا تَهْتَمَّ بِرِزْقِ غَدٍ فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ. وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ كَمَا [أَنَّهُ] (4) لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا فَلَا يَتَّخِذِ الدُّنْيَا قَرَارًا. وَفِي هَذَا يَقُولُ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ (5) : لَكُمْ بُيُوتٌ بِمُسْتَنِّ السيوف وَهل * يبْنى على المَاء بَيت أسه مدر!   (1) البرير: ثَمَر الاراك. وَمِنْه حَدِيث طهفة، ونستعضد البريرا، أَي نجنيه للاكل وَانْظُر النِّهَايَة لِابْنِ الاثير 1 / 87. (2) ا: وَالْخبْز الشّعير. (3) هَذِه المرويات تصور مَا أثر عَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من عزوف عَن الْمَتَاع وإقبال على الْعِبَادَة، لَكِنَّهَا لَيست مِمَّا يحْتَج بِهِ فِي موقف الدّين من الدُّنْيَا، أما الاسلام فَإِنَّهُ يجمع بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيجْعَل الدُّنْيَا ميدانا للْعَمَل وَالْجهَاد. (4) لَيست فِي ا. (5) هُوَ أَبُو سعيد سَابق بن عبد الله الْبَرْبَرِي، وَلَيْسَ مَنْسُوبا. إِلَى البربر، وَإِنَّمَا هُوَ: لقب لَهُ. اللّبَاب لِابْنِ الاثير 1 / 107. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ: لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إِنَاءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ قَالَ: قَالَ عِيسَى: طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا حَتَّى يَقْتُلَهُ. وَعَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الدُّنْيَا وَمَكْرَهُ مَعَ الْمَالِ (1) وتزينه مَعَ الْهَوَى، وَاسْتِمْكَانَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَن خَيْثَمَة، كَانَ عِيسَى يضع الطَّعَامَ لِأَصْحَابِهِ وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا بِالْقِرَى. وَبِهِ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ وَلِثَدْيٍ أَرْضَعَكَ. فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَهُ. وَعَنْهُ: طُوبَى لِمَنْ بَكَى مِنْ ذِكْرِ خَطِيئَتِهِ وَحَفِظَ لِسَانَهُ وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ. وَعَنْهُ: طُوبَى لِعَيْنٍ نَامَتْ وَلَمْ تُحَدِّثْ نَفْسَهَا بِالْمَعْصِيَةِ وَانْتَبَهَتْ إِلَى غَيْرِ إِثْمٍ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: مَرَّ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ بِجِيفَةٍ فَقَالُوا: مَا أَنْتَنَ رِيحَهَا فَقَالَ: مَا أَبْيَضَ أَسْنَانَهَا. لِيَنْهَاهُمْ عَنِ الْغِيِبَةِ. وَقَالَ أَبُو بكر ابْن أبي الدُّنْيَا: يحدثنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عدي قَالَ: قَالَ عِيسَى بن مَرْيَم: يَا معشر الحواريين ارضوا   (1) المطبوعة: وفكره من المَال. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ كَمَا رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بَدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا. قَالَ زَكَرِيَّا: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ: أَرَى رِجَالًا بِأَدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنَعُوا * وَلَا أَرَاهُمْ رَضُوا فِي الْعَيْشِ بِالدُّونِ فَاسْتَغْنِ بِالدِّينِ عَنْ دُنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا * اسْتَغْنَى الْمُلُوكُ بِدُنْيَاهُمْ عَنِ الدِّينِ وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا تُكْثِرُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي (1) ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ وَانْظُرُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُعَافًى وَمُبْتَلًى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلَاءِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ قَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ طَلَبَ الْفِرْدَوْسَ فَخُبْزُ الشَّعِيرِ وَالنَّوْمُ فِي الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ كَثِيرٌ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ قَالَ عِيسَى: إِنَّ أَكْلَ الشَّعِيرِ مَعَ الرَّمَادِ وَالنَّوْمَ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ لَقَلِيلٌ فِي طَلَبِ الْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ عِيسَى اعْمَلُوا لِلَّهِ وَلَا تَعْمَلُوا لِبُطُونِكُمُ، انْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الطَّيْرِ تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا، فَإِنْ قُلْتُمْ نَحْنُ أَعْظَمُ بُطُونًا مِنَ الطَّيْرِ فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الاباقير (2) مِنَ الْوُحُوشِ وَالْحُمُرِ فَإِنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا تحرث وَلَا تحصد وَالله يرزقها.   (1) ا: إِلَى. (2) ا: الْآثَار. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عبد الله (1) ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِلْمَسِيحِ: يَا مَسِيحَ اللَّهِ انْظُرْ إِلَى مَسْجِدِ اللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ. قَالَ: آمِينَ آمِينَ بِحَقٍّ مَا أَقُولُ لَكُمْ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ حَجَرًا قَائِمًا إِلَّا أَهْلَكَهُ بِذُنُوبِ أَهْلِهِ، إِن الله لَا يصنع بِالذَّهَب وَلَا الْفضة وَلَا بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ شَيْئًا إِنَّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا الْقُلُوبُ الصَّالِحَةُ وَبِهَا يُعَمِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ، وَبِهَا يُخَرِّبُ اللَّهُ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخه: أخبرنَا أَبُو مَنْصُور ابْن مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرْكَانِيَّةُ، قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الهشيم إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز، عَن الْمُعْتَمِر. عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَدِينَةٍ خَرِبَةٍ، فَأَعْجَبَهُ الْبُنْيَانُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ أَنْ تُجِيبَنِي. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ: أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الْخَرِبَةُ جَاوِبِي عِيسَى. قَالَ فَنَادَتِ الْمَدِينَةُ: عِيسَى حَبِيبِي وَمَا تُرِيدُ مِنِّي؟ قَالَ: مَا فَعَلَ أَشْجَارُكِ وَمَا فَعَلَ أَنْهَارُكِ وَمَا فَعَلَ قُصُورُكِ وَأَيْنَ سُكَّانُكِ؟ قَالَتْ: حَبِيبِي جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ الْحَقُّ فَيَبِسَتْ أَشْجَارِي وَنَشَفَتْ أَنْهَارِي وَخَرِبَتْ قُصُورِي وَمَات سكانى. قَالَ: فَأَيْنَ أَمْوَالهم؟ فَقَالَت: جمعوها من   (1) ا: ابْن عبيد الله (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَوْضُوعَةٌ فِي بَطْنِي، لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَات والارض. قَالَ: فَنَادَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: تعجبت (1) مِنْ ثَلَاثِ أُنَاسٍ: طَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَبَانِي الْقُصُورِ وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهُ، وَمَنْ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! ابْنَ آدَمَ لَا بِالْكَثِيرِ تَشْبَعُ وَلَا بِالْقَلِيلِ تَقْنَعُ، تَجْمَعُ مَالَكَ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ وَتُقْدِمُ عَلَى رَبٍّ لَا يَعْذُرُكَ، إِنَّمَا أَنْتَ عَبْدُ بَطْنِكَ وَشَهْوَتِكَ، وَإِنَّمَا تَمْلَأُ بَطْنك إِذا دخلت قبرك، وَأَنت يَابْنَ آدَمَ تَرَى حَشْدَ مَالِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ فَكَتَبْنَاهُ لِذَلِكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَن إِبْرَاهِيم التيمى، قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَنْزُهُ. وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظَبْيَانَ قَالَ: قَالَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ دُعِيَ عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: رُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ مَعَكَ الْوَادي ويعبر بِكَ النَّادِيَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا أَن عِيسَى قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الحواريين لَا تحدثُوا بالحكم غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ، والامور ثَلَاثَة: أَمر تبين   (1) ط: فعجبت. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَرُدُّوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ عزوجل. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ عِيسَى: لَا تَطْرَحُوا اللُّؤْلُؤَ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنَ الْخِنْزِيرِ! وَكَذَا حَكَى وهب وَغَيره عَنهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ فَإِذَا فَسَدْتُمْ فَلَا دَوَاءَ لَكُمْ، وَإِنَّ فِيكُمْ خَصْلَتَيْنِ مِنَ الْجَهْلِ: الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَالصُّبْحَةُ (1) مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً؟ قَالَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ يَزِلُّ (2) بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جعلتم للدنيا عَلَى رُءُوسِكُمْ وَالْآخِرَةَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ وعملكم دَاء (3) مثلكُمْ مثل شَجَرَة الدقلى (4) تُعْجِبُ مَنْ رَآهَا وَتَقْتُلُ مَنْ أَكَلَهَا. وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ عِيسَى: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَلَسْتُمْ على أَبْوَاب الْجنَّة فَلَا تَدْخُلُونَهَا وَلَا تَدَعُونَ الْمَسَاكِينَ يَدْخُلُونَهَا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: التَقَى يَحْيَى وَعِيسَى، فَصَافَحَهُ عِيسَى وَهُوَ يضْحك فَقَالَ لَهُ   (1) الصبحة. نوم الْغَدَاة (2) ا: زل. (3) المطبوعة؟ ؟: دَوَاء. محرفة. (4) الدقلى: نبت مر، قتال زهره كالورد الاحمر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 يحيى: يَا بن خَالَة مَالِي أَرَاكَ ضَاحِكًا كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ؟ ! فَقَالَ لَهُ عِيسَى: مَالِي أَرَاكَ عَابِسًا كَأَنَّكَ قَدْ يَئِسْتَ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمَا: إِنَّ أَحَبَّكُمَا إِلَيَّ أَبَشُّكُمَا بِصَاحِبِهِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَفَ عِيسَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى قَبْرٍ وَصَاحِبُهُ يُدْلَى فِيهِ، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ الْقَبْرَ وَضِيقَهُ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُمْ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ فِي أَرْحَامِ (1) أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِذَا أَحَبَّ (2) اللَّهُ أَنْ يُوَسِّعَ وَسَّعَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ يَقْطُرُ جِلْدُهُ دَمًا. وَالْآثَارُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِر مِنْهَا طرفا صَالحا اقتصرنا مِنْهَا على هَذَا الْقدر. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب.   (1) ط: من أَرْحَام (2) ا: فَإِذا أَرَادَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 ذكر رفع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ، وَبَيَانُ كَذِبِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى الصَّلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون (1) ". وَقَالَ تَعَالَى: " فبمَا نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الانبياء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا، وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما. وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ مَالهم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " (2) فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ مَا تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ كَانَ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِك الزَّمَان.   (1) سُورَة آل عمرَان 54، 55. (2) سُورَة النِّسَاء 155 - 159. (*) (29 قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمه دَاوُد بن نورا (1) فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ [مِنْ] (2) ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ، وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ عَامَّةُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى أَنَّهُ صُلِبَ وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا. وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قبل مَوته " أَيْ بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَة من سُورَة النِّسَاء، كَمَا أوردنا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ عِنْدَ أَخْبَار الْمَسِيح الدَّجَّال، فَذَكرنَا مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذِي الْجَلَالِ لِقَتْلِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ الْكَذَّابِ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ. وَهَذَا ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ فِي صِفَةِ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ على أَصْحَابه وَفِي الْبَيْت اثْنَا عشر   (1) ا: بن فودا (2) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 رَجُلًا مِنْهُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، يَعْنِي فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِن مِنْكُم من يكفر بِي اثنى عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ [يُلْقَى] (1) عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي فَيكون مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ ذَاكَ. فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثمَّ صلبوه فَكفر بِهِ بَعضهم اثنى عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُوله مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جرير عَن مُسلم بْنِ جُنَادَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مطولا مُحَمَّد ابْن إِسْحَق بن يسَار (2) .   (1) سَقَطت من ا. (2) المطبوعة: ابْن بشار. محرفة (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 قَالَ: وَجَعَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو اللَّهُ عزوجل أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ، يَعْنِي لِيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ وَيُكْمِلَ الدَّعْوَةَ وَيُكْثِرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ قِيلَ: وَكَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ اثْنَا عَشَرَ رجلا: بطرس وَيَعْقُوب بن زبدا وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ، وَأَنْدَرَاوِسُ، وَفِلِيبُّسُ، وَأَبْرَثَلْمَا، وَمَتَّى، وتوماس، وَيَعْقُوب بن حلقيا، وتداوس (1) وفتاتيا، ويودس (2) كريايوطا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى عِيسَى. قَالَ ابْن إِسْحَق: وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ سَرْجَسُ كَتَمَتْهُ النَّصَارَى وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ فَصُلِبَ عَنْهُ. قَالَ: وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ هُوَ يودس بن كريايوطا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْتخْلف عِيسَى شَمْعُون وَقتلت الْيَهُود يودس الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، وَالله خير الماكرين " قَالَ: إِنَّ عِيسَى غَابَ عَنْ خَالَتِهِ زَمَانًا فَأَتَاهَا، فَقَامَ رَأْسُ الْجَالُوتِ الْيَهُودِيُّ فَضَرَبَ عَلَى عِيسَى حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ فَكَسَرُوا الْبَاب وَدخل رَأس جالوت لِيَأْخُذَ عِيسَى فَطَمَسَ اللَّهُ عَيْنَيْهِ عَنْ عِيسَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَمْ أَرَهُ. وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ. فَقَالُوا: أَنْتَ عِيسَى وَأَلْقَى الله شبه   (1) : حلقايا وبراوسيس. (2) ا: ونودس. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 عِيسَى عَلَيْهِ [فَأَخَذُوهُ] (1) فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: " وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ". وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب القمي، عَن هرون ابْن عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى فَقَالُوا لَهُمْ: سحرتمونا لتبرزن إِلَيْنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ جَمِيعًا. فَقَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي مِنْكُمْ نَفْسَهُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ (2) فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنَا عِيسَى. وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ فَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَ لَهُمْ وَظَنُّوا أَنهم قد قتلوا عِيسَى، فظنت النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ وَشَقَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ: احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ فَقَالَ: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ. فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَمَّا مَا صنعت بكم اللَّيْلَة مِمَّا خدمتكم (3) على   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: من يرى الْيَوْم الْجنَّة. (3) ا: مِمَّا حدثتكم. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الطَّعَامِ وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلْيَبْذُلْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ، كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي الَّتِي استعنتكم عَلَيْهَا فتدعون الله [لي] (1) وَتَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمَّ يَسْتَطِيعُوا دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً تُعِينُونِي فِيهَا؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مالنا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ! وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمْنِي. فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ فَأَخَذُوا شَمْعُونَ أَحَدَ الحواريين فَقَالُوا: هَذَا من صحابه. فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ. فَتَرَكُوهُ. ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ وَجعلُوا يقودونه   (1) من ا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وَيَقُولُونَ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ؟ ! وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ فَمَكَثَ سَبْعًا. ثُمَّ إِنْ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كَانَ الْمَصْلُوبُ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى فَقَالَ: عَلَامَ تَبْكِيَانِ؟ قَالَتَا عَلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خير، وَإِن هَذَا شئ شُبِّهَ لَهُمْ. فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَن غُلَام [كَانَ] (1) يتبعهُم يُقَال لَهُ يحيى فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّصَارَى لَعَنَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ وَهِيَ جَالِسَةٌ تَبْكِي عِنْدَ جِذْعِهِ فَأَرَاهَا مَكَانَ الْمَسَامِيرِ مِنْ جَسَدِهِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ رُوحَهُ رُفِعَتْ وَأَنَّ جَسَدَهُ صُلِبَ. وَهَذَا بُهْتٌ وَكَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَزِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ فِي الانجيل على خلاف الْحق وَمُقْتَضى الدَّلِيل (2) . وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حبيب، فِيمَا بلغه،   (1) من ا. (2) المطبوعة: وَمُقْتَضى النَّقْل (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أَنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَا صُلِبَ الْمَصْلُوبُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهَا، أَنْ يُنْزِلَ جَسَدَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ، فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَذْهَبِينَ بِنَا نَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ؟ فَذَهَبَتَا فَلَمَّا دَنَتَا مِنَ الْقَبْرِ قَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى. أَلَا تَسْتَتِرِينَ؟ فَقَالَتْ: وَمِمَّنْ أَسْتَتِرُ؟ فَقَالَتْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْقَبْرِ. فَقَالَتْ أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي لَا أَرَى أَحَدًا فَرَجَتْ مَرْيَمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ، وَكَانَتْ قَدْ بَعُدَ عَهْدُهَا بِهِ، فَاسْتَوْقَفَتْ أُمَّ يَحْيَى وَذَهَبَتْ نَحْوَ الْقَبْرِ فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ، وَعَرَفَتْهُ: يَا مَرْيَمُ أَيْنَ تُرِيدِينَ (1) ؟ فَقَالَت: أَزور قبر الْمَسِيح فَأسلم عَلَيْهِ وَأَحْدِثُ عَهْدًا بِهِ. فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ هَذَا لَيْسَ الْمَسِيحَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ الْمَسِيحَ وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَكِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَصُلِبَ وَقُتِلَ مَكَانَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهُ قَدْ فَقَدُوهُ فَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِهِ فَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ كَذَا وَكَذَا فأت غَيْضَةَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّكِ تَلْقَيْنَ الْمَسِيحَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى أُخْتِهَا وَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَتْهَا عَنْ جِبْرِيلَ وَمَا قَالَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْغَيْضَةِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ عِيسَى فِي الغيضة فَلَمَّا رَآهَا أسْرع إِلَيْهَا وأكب عَلَيْهَا فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَجَعَلَ يَدْعُو لَهَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ، وَقَالَ يَا أُمَّهْ إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقْتُلُونِي وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَنِي إِلَيْهِ وَأَذِنَ لِي فِي لِقَائِكَ وَالْمَوْتُ يَأْتِيكِ قَرِيبًا فَاصْبِرِي واذكري الله كثيرا. ثُمَّ صَعِدَ عِيسَى فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا تِلْكَ الْمرة حَتَّى مَاتَت.   (1) ا: أَيْن تُرِيدُونَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مَرْيَمَ بَقِيَتْ بَعْدَ عِيسَى خَمْسَ سِنِينَ وَمَاتَتْ وَلَهَا ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ [الْبَصْرِيُّ] (1) : كَانَ عُمَرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ رُفِعَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا (2) جُرْدًا مُرْدًّا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ ". وَفِي الْحَدِيثِ: الْآخَرِ: " عَلَى مِيلَادِ عِيسَى وَحُسْنِ يُوسُفَ " وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَن عمَارَة ابْن غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا عَاشَ الَّذِي بَعْدَهُ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ فَلَا أَرَانِي إِلَّا ذَاهِبٌ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ. هَذَا لَفْظُ الفسوى. فَهُوَ حَدِيث غَرِيب. قَالَ الْحَافِظ ابْن عَسَاكِرَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْعُمْرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله   (1) لَيست فِي ا. (2) ا: يدْخلُونَ. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 عَلَيْهِ وَسلم: إِن عِيسَى بن مَرْيَمَ مَكَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ جَرِيرٌ وَالثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ (1) إِبْرَاهِيمَ: مَكَثَ عِيسَى فِي قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رُفِعَ لَيْلَةَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ فِي مِثْلِهَا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعْدَ طَعْنِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى لَمَّا رَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ جَاءَتْهُ سَحَابَةٌ فَدَنَتْ مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهَا وَجَاءَتْهُ مَرْيَمُ فَوَدَّعَتْهُ وَبَكَتْ ثمَّ رفع وَهِي تنظر وَألقى إِلَيْهَا عِيسَى. دا لَهُ وَقَالَ: هَذَا عَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكِ يَوْم الْقِيَامَة وَألقى عمَامَته على شَمْعُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُوَدِّعُهُ بِأُصْبُعِهَا تُشِيرُ بِهَا إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنْهَا، وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ تَوَفَّرَ (2) عَلَيْهَا حُبُّهُ مِنْ جِهَتَيِ الْوَالِدَيْنِ إِذْ لَا أَبَ لَهُ، وَكَانَتْ لَا تُفَارِقهُ سفرا وَلَا حضرا [وَكَانَت كَمَا (3) ] قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَكُنْتُ أَرَى كَالْمَوْتِ مِنْ بَيْنِ سَاعَةٍ * فَكَيفَ بِبَيْنٍ كَانَ مَوْعِدَهُ الْحَشْرُ وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جُبَير (4) أَن الْيَهُود لما صلبوا ذَلِك الرجل شُبِّهَ لَهُمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ الْمَسِيحَ وَسَلَّمَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّصَارَى بِجَهْلِهِمْ ذَلِكَ، تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْب وَالْحَبْس فَبلغ أَمرهم   (1) الاصل: أَن إِبْرَاهِيم (2) ا: موفر (3) من ا (4) ا: ابْن جبر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ وَهُوَ مَلِكُ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِ رَجُلٍ كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ (1) يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيَفْعَلُ الْعَجَائِبَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وأهانوا أَصْحَابه وحبسوهم فَبعث فجِئ بِهِمْ وَفِيهِمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَشَمْعُونُ وَجَمَاعَةٌ، فَسَأَلَهُمْ عَن أَمر الْمَسِيح فأخبروه عَنهُ، فبايعهم فِي دِينِهِمْ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ وَظَهَرَ (2) الْحَقُّ عَلَى الْيَهُودِ وَعَلَتْ كَلِمَةُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى المصلوب فَوضع عَن جذعه وحئ بِالْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَعَظَّمَهُ فَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَتِ النَّصَارَى الصَّلِيبَ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا نَبِيٌّ لَا يُقِرُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ عِيسَى، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ يَعْلَمُ مَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنَّ الرُّومَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَسِيحِ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَذَلِكَ فِي زمَان قسطنطين بن قسطن بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي [زَمَانِ] قُسْطَنْطِينَ الْمَذْكُورِ فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ معتقدة أَنه الْمَسِيح، ووجدوا الْخَشَبَة الَّتِي   (1) ا: وَأَنه كَانَ (2) ا: فأظهر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 صلب عَلَيْهَا للصلوب، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مَا مَسَّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا عُوفِيَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ هَذَا أَمْ لَا، وَهَلْ كَانَ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَوْ كَانَ هَذَا مِحْنَةً وَفِتْنَةً لِأُمَّةِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى عَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذُوا الصُّلْبَانَاتِ وَتَبَرَّكُوا بِشَكْلِهَا وقبلوها، وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ، فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْقُمَامَةُ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْقِيَامَةَ يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فتح عمر بن الْخطاب بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَكَنَسَ عَنْهَا الْقُمَامَةَ بِرِدَائِهِ وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَضَعِ الْمَسْجِدَ وَرَاءَهَا وَلَكِنْ أَمَامَهَا حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ [الْمَسْجِد] الاقصى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 ذكر صِفَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صديقَة ". قِيلَ سُمِّيَ الْمَسِيحَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ سِيَاحَتُهُ فِيهَا وَفِرَارُهُ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِشِدَّةِ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ لَهُ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: " وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ برسلنا وقفينا بِعِيسَى بن مَرْيَم وَآتَيْنَاهُ الانجيل فِيهِ هدى وَنور " وَقَالَ تَعَالَى: " وآتينا عِيسَى بن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس " وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ (1) كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعْنَ فِي الْحِجَابِ " وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ [عَنْ جُنَادَةَ، عَنْ عُبَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (2) ] " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عبد (3) الله وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفظه، وَمُسلم.   (1) ا: فِي ذكره. (2) سقط من ا. (3) ط: عَبده. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ، وَإِذا آمن بِعِيسَى بن مَرْيَمَ ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهِ فَلَهُ أَجْرَانِ ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى. قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا رَجُلٌ حِسْبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. قَالَ وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَبْعَةٌ (2) أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنا أشبه وَلَده بِهِ " الحَدِيث. وَقد تقدم فِي قِصَّتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ. فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ (2) عَرِيضُ الصَّدْرِ. وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سِبْطٌ (3) كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ ". تَفَرَّدَ بِهِ البُخَارِيّ.   (1) ا: قَالَ رَسُول الله. (2) الربعة: الْمُتَوَسّط بَين الطول وَالْقصر. (3) السبط: المسترسل الشّعْر. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مَنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعْرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ بن مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطَطًا (1) أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عُمَرَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَيَّنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ صِفَةَ الْمَسِيحَيْنِ: مَسِيحِ الْهُدَى وَمَسِيحِ الضَّلَالَةِ، لِيُعْرَفَ هَذَا إِذَا نَزَلَ فَيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَيُعْرَفَ الْآخَرُ فَيَحَذَرَهُ الْمُوَحِّدُونَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَنبأَنَا (2)   (1) الْجَعْد: خلاف السبط، وَهُوَ المسترسل من الشّعْر. والقطط: الشَّديد الجعودة. وَفِي الاصل: جعد قطط والتصويب من البُخَارِيّ 2 / 124. (2) ا: حَدثنَا. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رأى عِيسَى بن مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ " وَكَذَا رَوَاهُ [مُسْلِمٌ عَنْ] (1) مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ أَسَرَقْتَ؟ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ. فَقَالَ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَجِيَّةٍ طَاهِرَةٍ، حَيْثُ قَدَّمَ حَلِفَ ذَلِكَ الرجل فَظن (2) أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ كَاذِبًا عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْهُ عِيَانًا، فَقَبِلَ عُذْرَهُ وَرَجَعَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. أَيْ صَدَّقْتُكُ وَكَذَّبْتُ بَصَرِي لِأَجْلِ حَلِفِكَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْمُغيرَة ابْن النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين " فَأَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي فَيُقَال إِنَّهُم لن يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح عِيسَى بن مَرْيَم: " وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت   (1) سَقَطت من المطبوعة (2) ا: وَظن (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنت على كل شئ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم ". تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عبد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُوله ". وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ يُصَلِّي إِذْ جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ فَقَالَ أُجِيبُهَا أَوْ أصلى؟ فَقَالَت: اللَّهُمَّ لَا تمته حَتَّى تُرِيَهِ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صومعة فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ لَهَا مِمَّن؟ قَالَت: مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي. قَالُوا: أَنَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ أُصْبُعَهُ. ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ. فَترك (30 - قصَص الانبياء 2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ: لِمَ ذَلِكَ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الامة يَقُولُونَ سرقت وزنت (1) . وَلَمْ تَفْعَلْ " وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ (2) لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ من حَدِيث عبد الرَّزَّاق نَحوه (3) . قَالَ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا: يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدثنَا قَتَادَة، عَن عبد الرَّحْمَن ابْن آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الانبياء إخْوَة   (1) ا: وزنيت. (2) العلات: الضرائر (3) ا: بِهِ نَحوه. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 لَعَلَّاتٍ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى بن مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَين مخصرتين (1) ، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الْملَل حَتَّى تهْلك فِي زَمَانه كُلُّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ: فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَيَمْكُثُ فِي الارض أَرْبَعِينَ سنة " وَقد بَينا نُزُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: " وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " وَقَوله " وَإنَّهُ لعلم للساعة " الْآيَةَ وَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِدِمَشْقَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ. فَيَقُولُ:   (1) المخصرة: مَا يتَوَكَّأ عَلَيْهِ كالعصا، وَمَا يَأْخُذهُ الْملك ليشير بِهِ إِذا خَاطب. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 لَا بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء مكرمَة اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ فَيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ. فَيُصَلِّي خَلْفَهُ. ثُمَّ يَرْكَبُ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي طَلَبِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَيَلْحَقُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ حِينَ بُنِيَتْ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ الَّتِي هِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ، وَقَدْ بُنِيَتْ أَيْضًا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى حِينَ حَرَقُوا الَّتِي هُدِمَتْ وَمَا حَوْلَهَا، فَينزل عَلَيْهَا عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَأَنَّهُ يخرج مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لثتتيهما (1) ، وَيُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ فِيمَا قِيلَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، أَنَّهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بن أخزم الطَّائِي، حَدثنَا أَبُو قُتَيْبَة مُسلم بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَوْدُودٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: صِفَةُ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِم السَّلَامُ يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ: وَقَدْ بقى من الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيث حسن. كَذَا قَالَ. وَالصَّوَاب: الضَّحَّاك ابْن عُثْمَان الْمدنِي.   (1) ا: أَو ليثنيهما. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ (1) ، عَنْ سَلْمَانَ: قَالَ: الْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ وَعَنْ قَتَادَةَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سنة بالقمرية، لتَكون سِتَّمِائَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: " ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي بَقِيَتْ فِيهَا أُمَّةُ عِيسَى عَلَى هَدْيِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ ابْن نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ ". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَصَّى الْحَوَارِيِّينَ بِأَن يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنَ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَصْبَحَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ الْمَسِيح إِلَيْهِم.   (1) أ: اليزيدي. محرفة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ: لُوقَا وَمَتَّى وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا، وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيح وَرَاءه [وَهُمَا (1) مَتَّى وَيُوحَنَّا، وَمِنْهُمُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابه وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا. وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَصَدَّقَهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضِينَا، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فِي مَغَارَةٍ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْكَنِيسَةِ الْمُصَلَّبَةِ خَوْفًا مِنْ بولس الْيَهُودِيِّ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا مُبْغِضًا لِلْمَسِيحِ وَلَمَّا جَاءَ بِهِ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَ ابْنِ أَخِيهِ حِينَ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ رَجَمَهُ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَمَّا سَمِعَ بُولِصُ أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ دِمَشْقَ جَهَّزَ بِغَالَهُ وَخَرَجَ لِيَقْتُلَهُ، فَتَلَقَّاهُ عِنْدَ كَوْكَبَا، فَلَمَّا وَاجَهَ أَصْحَابَ الْمَسِيحِ جَاءَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ جنَاحه فأعماه، فَلَمَّا رأى ذَلِك وَقع   (1) من هُنَا إِلَى آخر الْكتاب سقط من ا. وَفِي ازيادة نَصهَا: وَقد أنْشد الشَّيْخ شهَاب الدّين القرافى فِي كِتَابه " الرَّد على النَّصَارَى " لبَعْضهِم يرد عَلَيْهِم فِي قَوْلهم بصلب الْمَسِيح وتسليمهم ذَلِك للْيَهُود، مَعَ دَعوَاهُم أَنه ابْن الله، تَعَالَى الله عَن قَوْلهم علوا كَبِيرا. عجبا للمسيح بَين النَّصَارَى * وَإِلَى الله والدا نسبوه أسلموه إِلَى الْيَهُود وَقَالُوا * إِنَّهُم بعد قَتله صلبوه فَإِن كَانَ مَا تَقولُونَ حَقًا * وصحيحا فَأَيْنَ كَانَ أَبوهُ حِين خلى ابْنه رهين الاعادي * أَترَاهُم أرضوه أم أغضبوه فلئن كَانَ رَاضِيا بأذاهم * فاعذروهم لانهم واقفوه وَلَئِن كَانَ ساخطا فاتركوه * واعبدوهم لانهم غلبوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 فِي نَفْسِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ فَجَاءَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ، وَآمَنَ بِهِ فَقَبِلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَيْنَيْهِ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ اذْهَبْ إِلَى ضِينَا عِنْدَكَ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ السُّوقِ الْمُسْتَطِيلِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَهُوَ يَدْعُو لَكَ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَدَعَا فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ وَحَسُنَ إِيمَانُ بُولِصَ بِالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ عبد الله وَرَسُوله وبنيت لَهُ كنيسته بِاسْمِهِ فَهِيَ كَنِيسَةُ بُولِصَ الْمَشْهُورَةُ بِدِمَشْقَ مِنْ زَمَنِ فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى خربَتْ. فَصْلُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: " فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ كُفْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ: " فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْم عَظِيم ". وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الْأَنَاجِيلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ مَا بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ. ثُمَّ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ حَدَثَتْ فِيهِ الطامة الْعُظْمَى والبلية الْكُبْرَى اخْتلف البتاركة الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرَّهَابِينُ فِي الْمَسِيحِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ، وَاجْتَمَعُوا وَتَحَاكَمُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 إِلَى الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَهُمُ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ، فَصَارَ الْمَلِكُ إِلَى قَوْلِ أَكْثَرِ فِرْقَةٍ اتَّفَقَتْ عَلَى قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ، فَسُمُّوا الملكية (1) وَدَحَضَ مَنْ عَدَاهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ، وَتَفَرَّدَتِ الْفِرْقَةُ التَّابِعَةُ لعبد الله بن أريوس الَّذِي ثَبَتَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ فَسَكَنُوا الْبَرَارِيَ وَالْبَوَادِيَ وَبَنَوُا الصَّوَامِعَ وَالدِّيَارَاتِ وَالْقَلَّايَاتِ، وَقَنِعُوا بِالْعَيْشِ الزَّهِيدِ وَلَمْ يُخَالِطُوا أُولَئِكَ الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ وَبَنَتِ الملكية (2) الْكَنَائِسَ الْهَائِلَةَ، عَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَاءِ الْيُونَانِ فَحَوَّلُوا مَحَارِيبَهَا إِلَى الشَّرْقِ وَقَدْ كَانَتْ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الْجَدْيِ. بَيَانُ بِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ وَبَنَى الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَحَلِّ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ، وَبِنَتْ أُمُّهُ هيلانة القمامة، بعنى عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ. وَقَدْ كَفَرَتْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَوَضَعُوا الْقَوَانِينَ وَالْأَحْكَامَ. وَمِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْعَتِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَأَحَلُّوا أَشْيَاءَ هِيَ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرُ، وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ صَلَّى إِلَّا إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى، وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى إِلَيْهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ. وَصَوَّرُوا الْكَنَائِسَ وَلَمْ تَكُنْ مُصَوَّرَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا العقيدة الَّتِي   (1) الاصل الْمَلَائِكَة (2) الاصل الْمَلَائِكَة. (*) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 يَحْفَظُهَا أَطْفَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأَمَانَةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَجَمِيعُ الملكية والنسطورية أَصْحَاب نطورس أهل الْمجمع الثَّانِي، واليعقوبية أَصْحَاب يَعْقُوب البراذعى أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ، يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِر لابث، على مَا فِيهَا [من] رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار ذَات الشواظ فَيَقُولُونَ: " نؤمن بإله وَاحِد ضَابِط الْكل خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كُلِّ مَا يُرَى وَكُلِّ مَا لَا يُرَى، وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ الدُّهُورِ نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي كَانَ بِهِ كل شئ، مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَمَا فِي الْكُتُبِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ، وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ ليدبر الاحياء والاموات الَّذِي لافناء لِمُلْكِهِ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ وَبِمَجْدِ النَّاطِق فِي الانبياء كَنِيسَة وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ، وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْر العتيد كَونه آمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 يَحْفَظُهَا أَطْفَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالْأَمَانَةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَجَمِيعُ الملكية والنسطورية أَصْحَاب نطورس أهل الْمجمع الثَّانِي، واليعقوبية أَصْحَاب يَعْقُوب البراذعى أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ، يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا. وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا وَحَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِر لابث، على مَا فِيهَا [من] رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار ذَات الشواظ فَيَقُولُونَ: " نؤمن بإله وَاحِد ضَابِط الْكل خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْضِ كُلِّ مَا يُرَى وَكُلِّ مَا لَا يُرَى، وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ الدُّهُورِ نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي كَانَ بِهِ كل شئ، مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَمَا فِي الْكُتُبِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ، وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ ليدبر الاحياء والاموات الَّذِي لافناء لِمُلْكِهِ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ وَبِمَجْدِ النَّاطِق فِي الانبياء كَنِيسَة وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ، وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْر العتيد كَونه آمين. وَإِلَى هُنَا يَنْتَهِي كتاب قصَص الانبياء للامام أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن ابْن كثير، وَالْحَمْد لله على نعْمَته.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473