الكتاب: إيضاح شواهد الإيضاح المؤلف: أبو علي الحسن بن عبد الله القيسي (المتوفى: ق 6هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور محمد بن حمود الدعجاني الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1987 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- إيضاح شواهد الإيضاح أبو علي القيسي الكتاب: إيضاح شواهد الإيضاح المؤلف: أبو علي الحسن بن عبد الله القيسي (المتوفى: ق 6هـ) دراسة وتحقيق: الدكتور محمد بن حمود الدعجاني الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1987 م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. قال الفقيه الأستاذ أبو علي حسن بن عبد الله القيسي المقرئ رحمه الله. الحمد لله العظيم السلطان، القديم الإحسان، المتطول على الإنسان باللسان، ومميزة من سائر الحيوان بالبيان، أحمده على الإيمان، وأصلي على خير خلقه محمد نبيه المرسل بأوضح آية وبرهان، صلى الله عليه وآله وصحبه ما اختلف الملوان، وتعاقب الجديدان. أما بعد شرح الله صدرك، وأعلى قدرك فإنك سألتني أن أشرح لك شواهد كتاب الإيضاح، لأبي علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الفسوي، وأبين لك موضع الشاهد منها، وأكشف خفاء الإشكال عنها، إذ كانت من أنفع الشواهد وأعيد الفوائد، عناية منك بالأدب، وتهمماً بلسان العرب، فلم أزل منجذب الرأي إليه، عاكف الذكر عليه، متمنياً أن أجد له مهلاً، أصل فيه إلى ودادك، أو خللاً ارتقه بمرادك، ولم تزل للإجابة عن سؤالك متقاضياً، وعلى غير عذري متغاضياً، فلم يكن لأي بد من مشاورة الفكر، ومساورة الذكر، ومزاحمة الزمان، حتى وفيت لك بالضمان، فأوضحت الشاهد، وقيدت الشارد، ولخصت معانيه وشيدت مبانيه، وقربت تناول جملته، وتحصيل ثمر فائدته، ونسبت كل بيت إلى قائله، إن كان عندي معلوماً، وصيرت مشكل إعرابه مفهوماً، ووصلت البيت بما بعده، وذيلته بما تعلق به من حكاية نادرة، وأمثال سائرة، وذكرت ما فيه من لغة، ليكون كاملاً في معناه، فلا يحتاج الناظر فيه إلى سواه، ووسمته بكتاب "إيضاح شواهد الإيضاح"، ومن الله سبحانه أسأل العون والتوفيق، والهداية إلى سواء الطريق، إنه سميع الدعاء، فعال لما يشاء قريب مجيب. أنشد أبو علي في باب أحكام أواخر الأسماء المعربة: (1) ليثٌ هزبر مدلٌّ عندَ خيستهِ ... بالرّقمتينِ لهَ أجرٍ وأعراسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد، وقيل: هو لمالك بن خويلد الخناعي ثم الهذلي. الشاهد فيه قوله "له أجر"، وذلك أن تقديره: "أجرو"، كأكلب، فلما كان اسماً آخره حرف علة، وقبله ضمة، كسر ما قبل الواو، فانقلبت ياء، فصار تقديره: أجري، الآخر ياء مكسور ما قبلها، فصار بمنزلة قاض وغاز، وهذا الباب استمر فيه القلب واطرد، نحو: حقو وأحق، ودلو وأدل، وعرقوة وعرق، وقلنسوة وقلنس، قال: لا مهل حتى تلحقي بعنس أهل الرياط البيض والقلنسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 قال أبو علي في "التذكرة" أبدلت الواو ياء، لوقوعها طرفاً مضموناً ما قبلها، فصار في التقدير "أجري"، فأبدل من ضمة العين كسرة، ثم أسكنت الياء، استثقالاً للضمة فيها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فابتداء في "كتاب الإيضاح" بتغير الحركة، لضعفها تغيراً عبطاً وارتجالاً، فلما صارت كسرة تطرق بذلك إلى قلب الواو تطرقاً صناعياً، وبدأ في كتابه "التذكرة" بقلب الواو ياء بغير آلة القلب من الكسرة قلبها، استكراها للحرف، تعجرفاً لا رفقاً وتلطفاً، والابتداء بالضمة أسهل منه بالحرف، لأن ابتذل الضعيف أقرب مأخذاً من انحائك على القوي، وإن كان كل واحد من المذهبين حسناً. ومثل ذلك في التغير "إوزة" أصل وضعها "إوزة" فهنا عملان: أحدهما: قلب واو ياء، لانكسار ما قبلها. والآخر: وجوب الإدغام، فإن قدرت أن الصنعة، وقعت في الأول من العملين، فإنك تبدل من الواو ياء، فتصير "إيززة" ثم تأخذ في حديث الإدغام، فتسكن الزاي الأولى، وتنقلا فتحتها إلى "الياء" قبلها، فلما تحركت الياء قويت بالحركة، فرجعت إلى أصلها، وهو "الواو"، ثم أدغمت الزاي الأولى في الثانية، فصارت "إوزة". فقد عرفت الآن أن "الواو" في "إوزة"، إنما بدل من "الياء" التي في "إيززة"، وتلك "الياء" بدل من واو "إوززة". فإن أخذت في التغير من آخر البناء، فنقلت حركة الزاي إلى الواو، ثم أدغمت فصارت "إوزة" فإن الواو فيها على هذا التقدير، هي الأصلية لم تبدل ياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أن تغيير هذا البناء من آخره، ويقول: "لو كان التغيير من أوله لصار "إيزة" ولم تنقلب واواً، لأنها لا تقوى بالحركة المنقولة، لأنها عارضة". وغيره جعل النقل لازماً، فقويت الياء عنده بالحركة فانقلبت واواً، وكذلك إذا بنيت من "أويت" مثل لقلت: "إياه" وأصلها "إأوية"، فإبدال الهمزة التي هي فاء واجب، وإبدال الياء التي هي لام واجب أيضاً، فإن بدأت بالعمل من الأول صرت إلى "إيوية" ثم "إيية" ثم إلى "إياه". وإن بدأت بالعمل من آخر البناء صرت إلى "إأواة" ثم إلى "إيواة" ثم إلى "إياه"، ففرقت العمل في هذا الوجه، ولم تواله كما واليته في الوجه الأول، لأنك لم تجد طريقاً إلى قلب الواو ياء، إلا بعد أن صارت الهمزة قبلها ياء، فلما صارت إلى "إيواة" أبدلت الواو ياء، فصارت "إياة". وإنما لم تقع هذه الواو المضموم ما قبلها في آخر الأسماء، لأن الاسم تلزمه الإضافة إلى "الياء"، فلما أضيفت هذه الأسماء إلى "الياء" لم تخل من أحد أمرين: إما أن تدغم أو تبين، فإن بينت وجمع بين المتجانسة وقعت واو مكسورة، أو واو ساكنة، بعد ضمة قبل ياء، وإن أدغمت قلبت الواو ياء، ولزمك أن تبدل من الضمة كسرة كما أبدلت في "مرضي"، فلما كان الأمر يؤول إلى هذا رفض. ألا ترى أن من قال: أخوك وأبوك، وأخوه وأبوه، حذف الواو في الإضافة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 نفسه فقال: أبي وأخي، كراهية الإدغام وما يحدثه من قلب الحرف، وتغيير الحركة، فإن قيل: فقد قال الشاعر: قدرٌ أحلّكَ ذا المجازِ وقدْ أرى ... وأبيَّ مالكَ ذو المجازِ بدارِ فأضاف "الأب" إلى نفسه، على حد ما تضيف إلى المخاطب والغائب. قلت: ذلك لا يصح لاحتماله؛ وذلك انه يجوز أن يكون جمع "أباً" على أبين ثم أضافه، لأنهم قد أجمعوا هذا الاسم جمع الصحيح قال: فلمَّا تتبينَّ أصواتنا ... بكينَ وفدَّيننا بالأبينا وأنشد محمد بن السري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بمعتركِ الكماةِ مصرّعاتٍ ... يدفنَّ البعولةَ والأبينا ويحتمل قوله تعالى: "قالوا نعبد إلهك وإله أبيك". أن يكون على هذا، لأن العم يسمى أباً، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في العباس رضي الله عنه: "ردوا علي أبي"، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها مضافة يراد بها الجمع، قال الشاعر: فمنْ يكُ سائلاً عنّي فإنّي ... بمكّةَ مولدي وبها ربيتُ وقدْ شئيتْ بها الآباءُ قبلي ... فما شئتْ أبيَّ ولا شئيتُ فإذا كان ذلك كذلك، فلا دلالة في البيت، ودل هذا على رفض استعمالهم ذلك على الحد الذي ذهب إليه. فإن قيل: فقد قالوا: مسلمي وعشري، فأضافوا والصورة صورة ما أنكرت إضافته، قيل: هذا في الجمع أسهل منه في الواحد، لأن الجمع في تقدير الرد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الواحد، فكأن الواو والضمة ليستا بلازمتين، وليس كذلك الواحد، ألا ترى أنه ليس قبل الواحد شيء يرد إليه، كما أن الواحد قبل الجمع، فلما كان كذلك استجيز في الجمع، ولم يستجيز في الواحد. فإن قيل: فعلا استجيز ذلك في الاسم، كما استجيز في الفعل نحو: "سرو" و"يعزو" ويدعو. قيل: لم يجز هذا في الاسم، من حيث جاز في الفعل، ألا ترى أن الفعل لا يضاف، كما يضاف الاسم، فإذا لم يضف أمن فيه ما ذكرت في الاسم، وأيضاً فإن "الفعل" تختلف أبنيته تقول: يغزي، ويغزى ويغزيان، فتزول الواو، وليست الأسماء كذلك، لأنها لازمة مواضعها. لغة البيت الليث: من أسماء الأسد، مأخوذة في اللوثة، بفتح اللام، وهي القوة، ووزنه "فعل". وقد قيل: ليث، أليث، فعلى هذا لا يكون إلا "فعلاً"، وقيل: وزنه "فيل" على اللفظ، وأصله "ليوث" على وزن "فيعل" فلما اجتمعت الواو والياء على هذه الصورة، قبلت الواو ياء، فأدغمت فيها فصار "ليثاً"، ثم إن العين حذفت تخفيفاً، كحذفهم إياها من "هين" و"ميت" فصار "ليثاً". والهزبر: من أسمائه، وهو الشديد، والكلمة رباعية. والخيسة: الأجمة، وهي بيت الأسد، "فعلة" من خيسته إذا حبسته، والمخيس، السجن، ويحتمل أن يكون "فعلة" من الخيس الذي هو الغم، إذ الغم السترة، يقال: غم القمر النجوم، إذا بهرها، وليلة غماء، لا يرى فيها الهلال، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كانت تستر الأسد وتغمه، لكثرة شجرها، والتفاف أغصانها، سميت "خيسة"، ويحتمل أن تكون "فعلة" من خاس الشيء خيساً، إذا تغير وأنتن، وذلك لكثرة صيده، وما يأتي به إلى أجريه، خاس موضعه الذي هو فيه، وتغير عن حاله. ويقال: خست الرجل "خيساً" إذا أعطيته في سلعته ثمناً، ثم أعطته دون ذلك الثمن. والخيس أيضاً: الخير، يقال: ماله! قل خيسه. وهي أيضاً العريسة والعريس، قال رؤبة: أغياله والأجم العريسا وصف به، كانه قال: والأجم الملتف، أو أبدله، لأنه اسم، وفي المثل: "كمبتغي الصيد في عريسه الأسد". وأما قول جرير: إنّي امرؤٌ منْ نزارٍ في أرومتهمْ ... مستحصدٌ أجمي فيهمْ وعريّسي فإنه عنى منبت أصله في قومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وهي أيضاً "الراءة" والصريمة، ولها أسماء غير هذه. والرقمتان: موضع بعينه، وقيل: هما موضعان، أحدهما بقرب المدينة، والآخر بالبادية، فثنى الواحد كما قال: تسالني برامتين سلجما يا مي لو سألت شيئاً أمما وإنما رامة، أرض واحدة معروفة، وقال جرير: بانَ الخليطُ برامتينِ فودعوا ... أو كلّما ظعنوا لبينٍ تجزعُ وقال الفرزدق: فيا ليتَ داري بالمدينةِ أصبحتْ ... بأجفارِ فلجٍ أو بسيفِ الكواظمِ يريد: الجفر وكاظمة، وقال الفرزدق: وإذا ذكرتُ اباكَ أوْ أيّامهُ ... أخزاكَ حيثُ تقبَّلُ الأحجارُ يريد: الحجر الأسود، فإنه جعل كل ناحية حجراً، ألا ترى أنك لو مسست كل ناحية منه، لجاز أن تقول: مسست الحجر، وقال أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 عشيةَ سالَ المربدانِ كلاهما ... سحابةَ موتٍ بالسّيوفِ الصّوارمِ وإنما هو مربد واحد، فثناه مجازاً، لما يتصل به من مجاوره. وقيل: كل روضة: رقمة. وقيل: رقمة الوادي حيث يجتمع الماء، قال الشاعر: كأنّ أباريقَ المدامِ لديهمُ ... ظباءٌ بأعلى الرّقمتينِ قيامُ ويحتمل أن يريد بإحدى الرقمتين، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) . أي: من أحدهما وقال جعفر ابن علبة الحارثي: وقالوا لنا ثنتانِ لا بدَّ منهما ... صدورُ رماحٍ أشرعتْ أو سلاسلُ أي: لابد من إحداهما على أحد القولين. وقوله: "أجر وأعراس": جمع جرو، وهو ولد الأسد والكلب، يقال: جرو، وجرو، والكسر أكثر، والكثير الجراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 و"أفعل" يأوتي لخمسة أبنية، "فعل" نحو كلب وأكلب. و"فعل" نحو: رجل وأرجل، و"فعل" نحو: ركن وأركن. و"فعل" نحو: زمن وأزمن، و"فعل" نحو: ضلع وأضلع. والجرو من القثاء مكسور الجيم، عند الأصمعي، وعند أبي عبيدة: جرو، وجرو وجرو، ثلاثة أوجه. والجرو أيضاً: وعاء يجمع الكعابر التي في رؤوس العيدان والجرو: صغير الشجر. والجرو: الحنظلة إذا صارت مثل النبقة، ويقال، إذا وطن الإنسان نفسه على الأمر: "قد ضربت له جروة، وضربت له جروتي أي وطنت عليه نفسي وإذا جزعت ثم صبرت قلت: قد ضربت جروتي عنه وعليه"، أي: صبرت عنه. والجروة: النفس. والأعراس: جمع عرس، وهي زوج الرجل، استعارها للأسد، واستعارها بعضهم للظليم فقال: كبيضة الأدحي بين العرسين وقال امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 على نقنقٍ هيقٍِ لهُ ولعرسهِ ... بمنعرجِ الوعساءِ بيضٌ رصيصُ لأن كل واحد منهما عرس الآخر، فالرجل عرس المرأة، والمرأة عرس الرجل، قال العجاج: أنجب عرس جبلاً وعرس أراد: أنجب عرسين، كما قال: كأن بين فكها والفك وهذا يدل على أن ما عطف بالواو، بمنزلة ما جاء في لفظ واحد. معنى البيت يقول: إن الدهر لا يبقى على مخلوق، ولا على الأسد الذي هذه صفته، وقبل البيت ما يدل على هذا، وكان لأبي ذؤيب عشرة من الولد ماتوا في عام واحد، فهو يرثيهم، وفيهم قال قصيدته المشهورة: أمن المنون وريبه تتوجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وأول هذه القصيدة: يا ميَّ إنْ تفقدي قوماً ولدتهمُ ... أو تخسليهمْ فإنَّ الدَّهربَ خلاّسُ عمروٌ وعبدُ منافٍ والّذي عهدتْ ... ببطنِ مكّةَ آبي الضّيمِ عبّاسُ يا ميَّ إنَّ سباع الأرضِ هالكةٌ ... والعفر والأدمُ والأرامُ والنّاسُ تاللهِ لا يعجزُ الأيّامَ مبتركٌ ... في حومةِ الموتِ رزّامٌ وفرّاسُ ليثٌ هزبرٌ مدلٌّ عندَ خيستهِ ... بالرّقمتينِ لهُ أجرٍ وأعراسُ يحمي الصّريمةَ أحدانُ الرّجالِ لهُ ... صيدٌ ومجترئٌ باللّيلِ همّاسْ يخاطب أم بنيه، يقول لها: إن مات بنوك، فقد مات عمرو. وهو ابن عبد مناف بن قصي، وهو هاشم بن عبد مناف. إعراب البيت رفع قوله: "هزبر مدل" لأنها صفات لما قبلها. و"عند خيسته" متعلق "بمدل" بمعنى يدل بمكانه، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة، فيتعلق حينئذ بمحذوف. وفي الظرف ضمير عائد على الموصوف، و"بالرقمتين" في موضع الحال. و"عند خيسته" متعلق بمحذوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقوله "له أجر" جملة من مبتدأ وخبر، في موضع الصفة لما قبله، ويجوز أن يجوز أن يكون "أجر" مرفوعاً بالابتداء، و"بالرقمتين" خبره، و"له" تبين كقول الشاعر: كان جزائي بالعصا أن أجلدا وقال آخر: أبت للأعادي أن تديخ رقابها ويرتفع "أجر على مذهب أبي علي الفارسي، بأنه فاعل بالمجرور، لأنه في موضع الصفة، ولا يجيز غيره، وحكى أن المذهبين متفقان على هذا الموضع وأشباهه، استنبطه من كلام سيبويه "مررت برجل معه صقر. صائداً به غداً، فالنصب على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يشبه "فيها عبد الله قائم". فتأول أن "الصقر" يرتفع "بمعه"، ولا يرتفع بالابتداء، لأن "معه" صفة جرت على موصوفها، وإذا جرت على موصوفها، فهي في موضعها ومرتبتها، لا يجوز أن ينوي بها غير ذلك الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 كما أن الفاعل إذا وقع في موضعه في قولك: "ضرب غلامه زيداً، لم يجز أن ينوى به غير موضعه". وإذا كان قد جرى في ضرب من القياس أن يرفع بالظرف في نحو: "في الدار زيد"مع أنه لم يجر صفة على موصوف وجب إذا جرت معه صفة يجب الرفع بها، لأن الصفة تؤكد معنى الفعلية وتحقق الشبه، وقد خولف في هذا. قال أبو الحجاج الشنتمري رحمه الله: "ظن بعض النحويين: أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا على الابتداء، فيكون "صقر" مرفوعاً "بمعه"، وتأول قوله: "لأنه ليس يرفعه الابتداء"، والذي علم من مذهب سيبويه في هذا الموضع وغيره، أن الظرف لا يرفع ما بعده". ومعنى قوله: لأنه ليس يرفعه الابتداء، "الهاء" في "أنه" ترجع إلى أول الكلام، يريد الهاء المجرورة في "معه" ولم يرد (الصقر) ". وذكر أن هذا تفسير شارحي الكتاب، وهو أصح تفسير في الباب. فإن قيل: أيجوز أن تعلق الظرفين اللذين هما "عند خسيته" و"بالرقمتين" بنفس "مدل" فيكون عاملاً فيهما. قلت: لا يجوز ذلك، لأن العامل لا يعمل في ظرفين فصاعداً، إلا إذا كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الظروف متباينة، مثل قولك: قعدت يوم الجمعة أمامك "فيوم الجمعة" ظرف زمان، "وأمامك" ظرف مكان، فجاز أن يعمل فيهما. فأما إذا كانت من جنس واحد، فلا يجوز أن يعمل فيهما معاً، و"عند خسيته" و"بالرقمتين" ظرفان من جنس واحد. فإن قيل: فاجعل"بالرقمتين" بدلاً من "خسيته" مثل "خرجت يوم الجمعة سحر". قلت: بينهما فرق، وذلك أن الظرفين إذا كانا من جنس واحد، إما أن يكون الثاني هو الأول في المعنى أو بعضه، فإن كان هو الأول في المعنى أبدلته منه، وكان من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وإن كان بعضه، كان من بدل البعض من الكل نحو قولك: "خرجت يوم الجمعة سحر"، ألا ترى أن المعنى "خرجت سحر يوم الجمعة" و"عند خيسته" و"بالرقمتين"، وإن كانا من جنس واحد، فإن الأول بعض، والثاني كل، ولا يجوز بدل الكل من البعض فلو كان النظم "بالرقمتين" "عند خيسته" جاز البدل، ولذلك ما ذهب سيبويه في قول الشاعر: اعتادَ قلبكَ منْ سلمى عوائدهُ ... وهاجَ أهواءكَ المكنونةَ الطّللُ ربعٌ قراءٌ أذاع المعصراتُ بهِ ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خضلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 إلى أن رفع على الابتداء وقطع، كأنه قال: ذاك ربع، أو هو ربع، ولم يجعله بدلاً من "الطلل"، من حيث كان الربع أكثر منه، ومحال إبدال الأكثر من الأقل، لما فيه من نقصان البيان، فأما قول الآخر: أحب ريا ما حييت أبدا ألا ترى أن مدة حياته بعض الأبد، وقد أبدل "الأبد" من مدة حياته، فالجواب أنه وضع الأبد موضع بعضه، وهو مدة حياته، كما قال قيس بن زهير: ولولا ظلمهُ ما زلت أبكي ... عليهِ الدّهرَ ما طلعَ النّجومُ فالدهر في هذا البيت، أعم وأوسع من مدة طلوع النجوم، وذلك فيما ينتظر ويتوقع من الزمان سقوط النجوم، والدهر باق متصور، فإذا كان ذلك كذلك، فالدهر هنا يريد: بعضه، ألا ترى أنه قد أبدل منه قوله "ما طلع النجوم". فأعلمتك أن الدهر في البيت بعضه. فإن قيل: ما الذي دعاك إلى هذا؟!، فهلا جعلت "ما طلع النجوم" من بدل البعض من الكل، فاسترحت من الاغتراب. قلت: هذا فاسد، لأن الشاعر أراد المبالغة في بكائه الدهر، وليس يريد الاقتصار بعد التناهي، فاعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأنشد أبو علي الابتداء: (2) تعدونَ عقرَ النّيبِ أفضلَ مجدكمْ ... بني ضوطري لولا الكميَّ المقنّعا هذا البيت لجرير بن الخطفي. الشاهد فيه قوله "لولا الكمي"، لأن "لولا" هذه هي التي للتحضيض، لا التي يرتفع الاسم بعدها بالابتداء، ولذلك نصب "الكمي" بفعل مضمر. لغة البيت "تعدون" من العد والإحصاء، أي: تحسبون، ويجوز أن يكون معناه: تعتقدون. ومعنى العقر: عرقبة الإبل، وكانوا يعرقبونها، لئلا تذهب ويتحرونها بعد ذلك، ألا ترى إلى قول أبي العلاء المعري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولولا حفاظي قلتُ للمرءِ صاحبي ... بسيفكَ قيّدها فلستُ أبالي فجعل عرقبتها تقييداً، وجعل السيف قيداً. والنيب: المسان من الإبل، واحدتها: ناب، على تقدير "فعل" و"فعل" في الجمع، كدار ودور، وساق وسوق، ونظيره من الصحيح أسد وأسد، ووثن ووثن، وإنما هي "نيب" فكسرت النون لتصح الياء، كما فعلوا ذلك في "أبيض" و"بيض" ألا ترى أنه مثل أحمر وحمر. والمجد والكرم والشرف والحسب بمعنى واحد، ومن الناس من فرق بينهما، فقال: الشرف والمجد لا يكونان إلا في الآباء والأجداد، والكرم والحسب يوصف بهما الرجل الذي له آباء أشراف، ويوصف بهما الرجل أيضاً الذي يشرف بنفسه. وهذا التقدير تحكم من قائله، لأن الشرف: مشتق من الإشراف والعلو، فكل من علا غيره بفضل في نفسه، أو في آبائه، فقد استحق أن يسمى شريفاً. وكذلك المجد: من قولهم: مجدت الإبل مجوداً إذا شبعت من الكلأ، وأمجدها صاحبها، فكل من كثرت مناقبه، وحسنت أفعاله، فهو ماجد. وحكى الخليل مجد الرجل، ومجد، وأمجد، إذا كرم فعله، ويدل على صحة هذا قول عائشة رضي الله عنها "كل شرف دونه لؤم فاللؤم أحق به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أحق به" وقال الشاعر: وما يشرفُ الإنسانُ إلاَّ بنفسهِ ... وإنْ خصه جدٌّ شريفٌ ووالدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وأما الكرم: فيكون بمعنى الفضل في كل شيء، كان معه عطاء أو لم يكن، فلذلك قيل: ثوب كريم، وكتاب كريم. والضوطري: الحمقى، وتقديرها "فو علي" كالخوزلى. والضوطر: الضخم اللئيم، ويقال فيه: ضيطر، وضيطار. والكمي: الشجاع، وهو "فعيل" لفظاً ومعنى، كأنه يكمي شجاعته فلا يظهرها إلا عند الحاجة، ويحتمل أن يكون "فعيلا" بمعنى "مفعول"، أي؛ يكمى، كأنه مستور، ومن أمثالهم: "الشجاع موقى". وجمع الكمي: كماة، على تقدير حذف الزائد منه، وإنما هو في الحقيقة كام، كقاض وقضاة. والمقنع: الذي عليه بيضة ومغفر. معنى البيت كانت بين أبى الفرزدق وبين سحيم بن وثيل منافسة، فنحر غالب ناقة وأمر أن يصنع منها طعام، وجعل يهدي منها إلى قوم من بني تميم، لهم جلالة، جفاناً من ثريد، ووجه منها إلى سحيم بن وثيل جفنة، فكفاها، وضرب الذي أتاه بها، وقال: أمفتقر أنا إلى طعامه؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فنحر هو ناقة، فوقعت المنافرة بينهما، فنحر غالب ناقتين، ونحر سحيم ناقتين، ثم نحر غالب ثلاثاً، ونحر سحيم ثلاثاً، فعمد غالب إلى مئة ناقة فنحرها، فغلب غالب: فلما انصرف الناس إلى الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر: هلا نحرت كما نحر، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر بأن إبله كانت غائبة، ثم عمد إلى ثلاث مئة ناقة وعقرها، وقال للناس شأنكم بها. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذا مما أهل به لغير الله، فلا يأكل أحد منها شيئاً، وأمر بطرح الناس عنها، فأكلتها السباع والكلاب. فكان الفرزدق يفخر بذلك، فقال جرير: ليس الفخر في عقر النوق، وقال: وقدْ سرّني أنْ لا يعدَّ لمعشرٍ ... من المجدِ إلاَّ عقرنيبٍ بصوأرِ يقول: تحسبون عقر النيب أفضل مجدكم، فهلا حسبتم عقر الكمي المقنع من أفضل مجدكم، لأن قتل الشجعان والأبطال، أفضل ما فعلتم، من عقر النيب وأفخر وصفهم بالجبن والخور، ونسبهم إلى الضعف واللؤم والنوك وإنما يهجو الفرزدق، ويعرض به، للمعاقرة، التي كانت بين سحيم بن وثيل الرياحي وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 غالب أبي الفرزدق، ويناقض الفرزدق في قصيدته التي يقول فيها: يقولونَ زرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيفَ بشيءٍ وصلهُ قدْ تقطّعا فلستُ ولوْ عزَّتْ عليَّ بزائرٍ ... تراباً على مرموسةٍ قدْ تضعضعا وأهونُ مفقودٍ إذا الموتُ غالهُ ... على المرءِ منْ أصحابهِ منْ تقنّعا يقولُ ابنُ خنزيرٍ بكيتَ ولمْ تكنْ ... على امرأةٍ عينا أخيكَ لتدمعا وأهونُ رزءٍ لامرئٍ غيرِ عاجزٍ ... رزيَّةُ مرتجِّ الرَّوادفِ أفرعا وما ماتَ عندَ ابنِ المراغةِ مثلها ... ولا تبعتهُ ظاعناً حينَ دعدعا الدعدعة: الدعاء بالمعز. يرثي حدراء، ويهجو جريراً، وكان سار إليها ليدخل بها، بعد أن ساق إليها صداقها، فبلغه هلكها في طريقه، وأشار إليه بعض أصحابه، أن يمضي حتى يلم بأهلها، ويزور قبرها، فأبى وانصرف وقال هذه القصيدة. فأجابه جرير: وقفنا فحيّينا الدّيارَ ولا ترى ... مربعنا يومَ الحنينِ مربعا وفيها يقول: أتعدلُ يربوعاً خناثى مجاشعٍ ... إذا عدَّ بالأيدي القنا فتزعزعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وفقأتُ عينيْ غالبٍ عندَ كيرهِ ... وأقلعتُ عنْ أنفِ الفرزدقِ أجدعا وفيها يقول: سأذكرُ ما لمْ تذكروا عندَ منقرٍ ... وأثني بعارٍ منْ حميدةَ أشنعَ تعدُّونَ عقرَ النّيبِ أفضلَ مجدكمْ ... ........................... إعراب البيت معنى تعدون: تعتقدون، وهو مما يتعدى إلى مفعولين كما قال: لا أعدُّ الإقتارَ عدماً ولكنْ ... فقدُ منْ (قدْ) رزئتهُ الإعدامُ ألا ترى أن الذي بمعناه، يتعدى إلى مفعولين، تقول: فلان يرى الحق قول فلان، ويرى الباطل قول زيد، ويجوز أن تقتصر فيه على المفعول الأول، فتقول: فلان يرى رأي الخوارج، ويرى رأي أبي حنيفة، أي؛ يعتقده، قال الشاعر: لا بأسَ بالفارسِ أنْ يفرا ... إذا رأىَ ذاكَ وأنْ يكرا أي إذا اعتقد صواب ذلك. وقال أبو علي الفارسي وابن جني: "رأى" بمعنى: اعتقد يتعدى إلى مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 واحد وجعل أبو الفتح بن جني انتصاب "سبة" في بيت السموأل بن عاديا: وإنَّا لقومٌ لا نرى القتلَ سبّةً ... إذا ما رأتهُ عامرٌ وسلولُ على الحال، لأن "نرى" هنا بمعنى: "نعتقد"، ولو كانت مفعولاً ثانياً، و"نرى" بمعنى علمت، لأعادها فقال: إذا ما رأته عامر وسلول "سبة"، أو إذا ما رأته إياها، لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يعلمه عالمان على صفة وضدها. فعلى القول الأول، ينتصب "أفضل مجدكم" على أنه مفعول ثان، ويجوز أن تكون "تعدون" من العدد، وهو مما يتعدى إلى مفعولين، الثاني بحرف جر، تقول: عددتك المال، أي؛ عددت لك. وقال أبو علي الفارسي: يقال عددتك المال، وعددت لك المال، أي: عددت لك فعلى هذا يكون معنى البيت "تحسبون عقر النيب من أفضل مجدكم" فهو منتصب بإسقاط حرف الجر فيكون: "أفضل مجدكم" الثاني محذوفاً، لدلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الأول عليه، والتقدير: فلولا حسبتم، أو اعتقدتم عقر الكمي المقنع من أفضل مجدكم، أو أفضل مجدكم، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومثال "لولا" في التحضيض، هلا، ولوما، وألا، وقيل في "ألا": إن همزتها بدل من هاء، وأنها "هلا". وقيل أيضاً: إنها مركبة من "أن" و"لا"، وهذا مذهب أبي الحسن. وحروف التحضيض بابها الفعل، قال الله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون) وقال: (لو ما تأتينا بالملائكة) ، فإن قيل: فما تقول في قول الصمة بن عبد الله القشيري: ونبئتُ ليلى أرسلتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهلاَّ نفسُ ليلى شفيعها و"هلا" هنا من حروف التحضيض، وقد أوقع بعدها المبتدأ والخبر. قلت: استعمل الجملة من المبتدأ والخبر، موضع الجملة من الفعل والفاعل، اتساعاً، وهو في هذا الموضع عزيزاً جداً، وإنما استعمل ذلك مراعاة للمضارعة التي بين المبتدأ والفاعل؛ وذلك أن كل واحد منهما مخبر عنه، وأنهما مرفوعان، وكل واحدة من الجملة تعطف على الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ومثل هذا في استعمال الجملة، من المبتدأ والخبر، موضع الجملة من الفعل والفاعل، قول عدي بن زيد: لوْ بغيرِ الماءِ حلقي شرقٌ ... كنتُ كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري ومثله قول صخر الغي: عاودني حبُّها وقدْ شحطتْ ... صرفُ نواها فإنّني كمدُ أوقع "فإنني كمد" موقع كمدت. وقال آخر: ولوْ بيديْ سواكَ غداةَ زلَّتْ ... بيَ القدمانِ لمْ أرجُ إطّلاعا وهذا البيت غريب الإعراب، وذلك أن الباء من قوله: "بيدي" متعنلقة بمحذوف، هو خبر "غداة" في الأصل، فجرى مجرى قولك: بيدي خيرك وشرك، وبيدي صلاح أمرك. وغداة: على هذا في موضع رفع الابتداء، وخبرها "بيدي سواك"، "وفتحت غداة زلت"، وإن كانت في موضع رفع، لأنها ظرف مضاف إلى غير معرب، كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 على حين عاتبت المشيب على الصبا وقال تعالى: (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) بمعنى أم صمتم، ومثله: (هل لكم مما ملكت إيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء) . تقديره: فتستووا. وأما قول الآخر: قالتْ أراكَ بما أنفقتَ ذا سرفٍ ... فيما فعلت فهلاَّ فيكَ تصريدُ فهذا أسهل، لأن الظرف بالفعل أشبه، وإليه أقرب. ألا ترى أنه قد جاء في كلامهم عطف الفعل على الظرف، وعطف الظرف على الفعل، والعطف نظير التثنية، ومحال أن يثني الشيء، فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في الاعتداد والثبات واحدة. فمما جاء فيه عطف الظرف على الفعل قول الشاعر: نقاسمهمْ أسيافنا شرَّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهمْ صدورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فعطف قوله "ففينا" على قوله "نقاسمهم"، وقال آخر في عطف الفعل على الظرف: زمانٌ عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطّيرهُ الشّيبُ عنّي فطارا فعطف قوله: "فطيرة" على قوله "علي" وقال تعالى: (يوم تبلى السرائر، فما له من قوة) ، فعطف "له" على "تبلى". "وأنشد أبو علي في الباب". (3) وقد جعلتُ إذا ما قمتُ يثقلني ... ثوبي فأنهضُ نهضَ الشَاربِ الثَّملِ هذا البيت للحكم بن عبدل الأسدي، ونسبه الجاحظ لأبي حية النميري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الشاهد فيه استعمال "جعل" كاستعمال الأفعال التي لمقاربة الفعل، والأخذ فيه، كقولهم: طفق يفعل، وأخذ يقول، وجعلت يثقلني ثوبي، كما تقول طفقت أتكلم، وكدت أقوم. لغة البيت "جعل" هذه اللفظة تقال على أنحاء. يقال: جعل الشيء يجعله جعلاً، واجتعله، كلاهما: وضعه. قال: وما مغبُّ بثني الحنوِ مجتعلٌ ... في الغيلِ في ناعمِ البرديِّ محراباً وجعله، يجعله، جعلاً: صنعه. قال سيبويه: "جعلت متاعك بعضه فوق بعض: ألقيته" وقال مرة: عملته. وجعل الطين خزفاً: صيره. وجعل البصرة بغداد: ظنها إياها، وجعل يفعل كذا: أقبل وأخذ. وقال الزجاج: جعلت زيداً أخاك: نسبته إليك. وقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) معناه: بيناه، حكاه الزجاج. وقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً) قال الزجاج: "الجعل" هنا في موضع القول، والحكم على الشيء، كما تقول: قد جعلت زيداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أعلم الناس، أي؛ قد وصفته بذلك، وحكمت به. وتجاعلوا الشيء: جعلوه بينهم. وجعل له كذا على كذا: شارطه به عليه (وجعل الظلمات والنور) بمعنى: خلق. والنهوض: البراح، نهض: إذا زال. والناهض: الفرخ الذي وقر جناحه، ونهض للطيران. والشارب: اسم الفاعل من شرب الماء وغيره، ويقال للساكنين على نهر: شاربة. والشاربان ما طال من ناحية السبلة. والشوارب: عروق محدقة بالحلقوم، تأخذ الماء. والثمل: السكر. والثمل أيضاً: الظل. معنى البيت يقول: ضعفت قوتي، لفقد شبابي، حتى عجزت عن حمل ثوبي، فإذا أردت النهوض أثقلني، فأمشي الثمل، وهو السكران. ولم ألف لهذا البيت آخر، ولكني وجدته في قافية رائية، وموضع الثمل: السكر. وبعده: وقدْ جعلتُ إذا ما قمتُ يوجعني ... ظهري فأنهضُ نهضَ الشّاربِ السَّكرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وكنت أمشي على رجلينِ معتدلاً ... فصرتُ أمشي على أخرى من الشَّجرِ وأنشد أبو علي في أمياله: ما للكواعب يا عيساءُ قدْ جعلتْ ... تزورُّ عنَّي، وتطوى دوني الحجرُ وكنتُ فتَّاحَ أبوابٍ مغلّقةٍ ... ذبَّ الرّيادِ إذا ما خولسَ النَّظرُ ومعنى "ذب الرياد": كثير الذهاب والمجيء. فاليومَ صرتُ أرى الشّخصينِ أربعةً ... والواحدَ اثنينِ لمّا بوركَ البصرُ وكنتُ أمشي على رجلينِ معتدلا ... فصرتُ أمشي على ما تنبتُ الشَّجرُ وكان الحكم بن عبدل الأسدي أعرج. فذكر الأصبهاني أنه لقي عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان أمير الكوفة، وكان أعرج، وكان صاحب شرطته أعرج، وقد تعرض لعبد الحميد سائل أعرج، فقال الحكم، معرضاً بعبد الحميد وصاحب شرطته: ألقِ العصا ودعِ التّعارجَ والتمسْ ... عملاً فهذي دولةُ العرجانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فأميرنا وأميرُ شرطتنا معاً ... لكليهما يا قومنا رجلانِ فبلغت أبياته الأمير، فوصله بدارهم وثياب، وسأله أن يكف عنه، وكان قد ترك الوقوف إلى أبواب الملوك، لعرجه، فإذا أراد حاجة كتب على عصاه حاجته، وبعث بها، فتقضى حاجته، فقال في ذلك يحيى بن نوفل: عصا حكمٍ في الدَّارِ أوَّلُ داخلٍ ... ونحنُ على الأبوابِ نقصي ونحجبُ وكانتْ عصا موسى لفرعونَ آيةً ... وهذي لعمرُ اللهِ أدهى وأعجبُ إعراب البيت "يثقلني" في موضع نصب "بجعل"، كما كان "يقوم" في موضع نصب (بكاد) ، إذا قلت: كدت أقوم. واستعمال الفعل بعد "كاد" وأخواتها فرع، واستعمال الاسم موضعه أصل، لكنه أصل مرفوض، ألا ترى إلى قول تأبط شراً، كيف استعمله في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فأبتُ إلى فهمٍ وما كدتُ آبياً ... وكمْ مثلها فارقتها وهيَ تصفرُ فاستعمل الاسم المرفوض، كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع، نحو صرف ما لا ينصرف، وإظهار التضعيف، وتصحيح المعتل، ونحو ذلك، وقد جاء مفعول "عسى" اسماً على أصله، قال: أكثرتَ في العذلِ ملحّاً دائما ... لا تكثرنْ إنّي عسيتُ صائما وفي المثل "عسى الغوير أبؤساً". ونصب "نهض الشارب الثمل" على المصدر المشبه به، وتقديره: فأنهض نهضاً مثل نهض الشارب الثمل "ومثله: ضربت ضرب زيد، ولم تضرب ضربه، وإنما ضربت مثله. "وأنشد أبو علي في الباب". (4) وقدْ جعلتْ نفسي تطيبُ لضغمةٍ ... لضغمهماها يقرع العظم نابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 هذا البيت لمغلس بن لقيط الأسدي. الشاهد فيه قوله: "جعلت نفسي تطيب" وهو كالذي قبله. لغة البيت الضغمة: العضة، ومنه قيل للأسد: ضيغم. والقرع هنا: وصول الناب إلى العظم، وجعل للضغمة نابا مجازاً واتساعاً. والقرع: الضرب بالعصا، وقرعت الشيء: نقرته، وفي الحديث "أن ابن عباس كان يقرع الصفا" فيقول: "إن دابة الأرض تسمع قرعي". وقرع جبهته بالإناء: إذا استوفى ما فيه، وقال الشاعر: كأنَّ الشُّهبَ في الآذانِ منها ... إذا قرعوا بحافتها الجبينا وقرع الفحل الناقة: ضربها، وقرعت الباب: استفتحته. وقرع الدهر بقوارعه: أصاب بها، وقرع للأمر ظنبوبه: جد فيه وعزم. وقرعت الرجل: غلبته وقرعت القيامة: إذا قامت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والناب: السن التي خلف الرباعية. والجمع: أنياب. والناب: سيد القوم. والناب: الناقة المسنة، والجمع: نيب، وأنياب. معنى البيت إنه يرثي أخاه أطيطا، ويشتكي من رجلين من قومه، أحدهما: مدرك بن حصين، والآخر: مرة بن عداء، ويصف شدة أصابته منهما، فيقول: قد جعلت نفسي تطيب لوقوع نائبه عظيمة، لما أصابني منهما من الشدة والمكروه، كما يقول الإنسان: طابت نفسي على الموت، لما نالني من ذل فلان، وفي هذه القصيدة: أبقيتْ ليَ الأيامُ بعدكَ مدركاً ... وخندفَ والدنيا قليلُ عتابها قريبينِ كالذّئبينِ يقتسمانني ... وشرُّ صحاباتِ الرّجالِ ذئابها إذا رأيا لي غفلةً أغريا بها ... أعاديَّ والأعداءُ كلبي كلابها وإنْ رأياني قدْ حذرتُ تبغّيا ... لرجلي مغوَّاةً هياماً ترابها سقيتكما قبلَ التَّفرُّقِ شربةً ... يمرُّ على باغي الظّلامِ شرابها إعراب البيت "ها" ضمير المصدر، ووصله، وكان وجه الكلام "لضغمهما إياها"، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المصدر لم يستحكم في العمل والإضمار استحكام الفعل، فمجيء الضمير المنفصل مع المصدر أحسن، والمصدر الذي هو "لضغمهما" مضاف إلى الفاعل في المعنى، والمفعول المضغوم محذوف، ولو ذكره مع هذه الهاء لقال: "لضغمهما إياي إياها" فيقدم "إياي" لوجهين: الأول: أنه ضمير المتكلم، وهو أولى بالتقديم من ضمير الغائب. والثاني: أن "إياي" ضمير المفعول به، و"إياها" ضمير المصدر، فهو فضلة، مستغنى عنه بما هو آكد منه، وكان الأصل "لضغمهما إياي مثلها" فحذف "مثلاً" وأقام المضاف إليه مقامه، فكان ينبغي أن يأتي بالضمير المنصوب المنفصل. وحذف المفعول مع المصدر إذا كان معه الفاعل كثير، كما يحذف معه الفاعل أيضاً. وقوله: "يقرع العظم نابها" جملة في موضع الصفة "لضغمة". وأنشد أبو علي في باب خبر المبتدأ. (5) علينَ بكديونٍ وأشعرنَ كرّةً ... فهنَّ إضاءٌ صافياتُ الغلائلِ هذا البيت للنابغة الذبياني اسمه زياد بن معاوية بن جابر، ويكنى: أبا أمامة، وأبا عقرب، وهما بنتاه، وإنما قيل له: النابغة، لأنه لم يقل الشعر إلا بعد أن كبر وساد قومه، فلم يفجأهم إلا وقد نبغ عليهم بالشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقال آخرون: سمي النابغة ببيت قاله، وهو: وحلتْ في بني القينِ بنِ جسرِ ... وقدْ نبغتْ لهمْ منه شؤونُ والنوابغ من الشعراء ثمانية: نابغة بني ذبيان هذا، والنابغة الجعدي، والنابغة الشيبباني، والنابغة الغنوي، والنابغة العدواني، والنابغة التغلبي، ونابغة جديلة، ونابغة حارث. وليس فيهم جاهلي إلا الذيباني خاصة، والجعدي مخضرم. والشاهد فيه قوله "فهن إضاء" "فإضاء" خبر المبتدأ، منزل منزلة الأول، وتقديره: فهن مثل "أضاء". والإضاء: الغدران، والدروع ليست بعذر، وإنما شبهها بها، فهي مثلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لغة البيت الكديون: عكر الزيت. والكرة: البعر المدقوق، ومعنى أشعرن: جعل عليها ملاصقاً لها، لئلا تصدأ. والشعار: ما لبسه الإنسان لجسده، والدثار: ما لبسه على ثوبه. وواحد الإضاء: أضأة، مثل رقبة ورقاب، ورحبة ورحاب. ويجوز أن يكون "إضاء" جمع: أضأ، وأضاً جمع أضاة، وقد قالوا في جمعه: أضوات وإضون، وأضا، وإضي بكسر الهمزة، وأضي بضمها وإضاً، ويجوز أن يكون "أضاً" وإضا: جمع "أضاً"، لا جمع أضاة كما قال أبو الفتح، في قول الراجز: مواقع الطير على الصفي أن يكون صفي: جمع صفاً. ولام "أضاة" واو، لقولهم في الجمع: أضوات، ومن روى: "فهن وضاء" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 لم يكن فيه شاهد لأبي علي، لأن المبتدأ على هذه الراوية هو الخبر، و"وضاء": جمع وضيئ، مثل: كريم وكرام، وظريف وظراف. والغلائل: جمع غلالة، التي هي الثوب الذي يلبس تحت الدرع، لا يصيبها دنس لنقائها. وقيل: الغلائل: جمع غليل، وهو مسمار الدرع، وهو "فعيل" بمعنى "مفعول"، من غل إذا أدخل في الحلق. وقيل: واحد الغلائل: غليلة، وهو المسمار أيضاً، وخصه بالصفاء، لأنه أول ما يصدأ من الدرع، ويقال لمن رق لونه: إنه لصافي الغلالة، فعلى هذا: الغلائل: صفاء الدروع وصقالتها، وحسن ديباجتها، وفي العين والبارع: الغلالة: الدرع، لأنه يغل فيها، أي؛ يدخل. معنى البيت وصف دروعاً صقلت وصفيت، وزهي تعاهد بالكديون والكرة، ليبقى صفاؤها، فقد صارت كالغدر، وكثيراً ما شبهت الدروع بالغدر، وما احسن المعري في قوله: غديرٌ وشتهُ الرّيحُ وشيةَ صانعٍ ... فلمْ يتغيّرْ حينَ دامَ سكونها كأنَّ الدّبى غرقى بهِ غيرَ أعينٍ ... إذا ردَّ فيها ناظرٌ يستبينها إعراب البيت يجوز أن تكون "صافيات الغلائل" خبراً بعد خبر، كقوله تعالى: (كونوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قردة خاسئين) ، جعله خبراً بعد خبر، لفضيلة السلامة، وهو كقوله: "حلو حامض"، ولو جعلته صفة "لقردة" لصغر معناه، ألا ترى أن القردة لذلتها وصغارها خاسئة أبداً، فتكون إذن صفة غير مقيدة، وإذا جعلت "خاسئين" خبراً ثانياً حسن وأفاد، حتى كأنه قال: "كونوا قردة، كونوا خاسئين" ألا ترى أنه ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلا ما لصاحبه، وليس كذلك الصفة بعد الموصوف، إنما اختصاص العامل بالموصوف، ثم الصفة تابعة له. ولست أعني بقولي: "كونوا قردة خاسئين" أن العامل في "خاسئين" عامل ثان غير الأول، إنما هذا شيء يقدر مع البدل، فأما في الخبرين فالعامل فيهما واحد، ولو كان هناك عامل آخر، لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد، وإنما معاد الخبر على المخبر منهما، ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ من مجموعها لا من أحدهما، لأن الخبر لا يكون بأحدهما، إنما يكون بمجموعهما وهذا شيء عرض فقلنا فيه. وأول القصيدة: أهاجكَ منْ أسماءَ رسمُ المنازلِ ... فروضةُ نعميٍّ فذاتُ الأجاولِ وبعد البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عتادَ امرئٍ لا ينقضُ البعدُ همَّهُ ... طلوبِ الأعادي واضحٍ غيرِ خاملِ تحينُ بكفّيهِ المنايا وتارةً ... يسحَّانِ سحّاً منْ عطاءٍ ونائلِ إذا حلَّ بالأرضِ البريّةِ أصبحتْ ... كئيبةَ وجهٍ غبُّها غيرُ طائلِ وأنشد أبو علي في الباب. (6) كلا يوميْ طوالةَ وصلُ أروى ... ظنونٌ آنَ مطَّرحُ الظّنونِ هذا البيت للشماخ، واسمه معقل بن ضرار بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان. وقيل: اسمه الهيثم، ويكفي أبا سعد. الشاهد فيه على ما أجازه من تقديم خبر المبتدأ قوله: "كلا يومي"؛ لأنه منتصب على الظرف، والعامل فيه "ظنون" الذي هو خبر المبتدأ، فتقديم معمول الخبر كتقديم الخبر. لغة البيت طوالة: اسم بئر. والظنون: الوشل أوى البئر القليلة الماء. والظنون أيضاً: الذي لا يوثق بما عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وأروى: اسم امرأة. والأروى والأروية: الأنثى من الوعول. وآن معناه: حان. معنى البيت قيل: إن الشماخ لقي محبوبته على هذه البئر، فلم يسر بما رآه منها، فأخبر بذلك، فقال: آن أن أطرح الوصل الظنون، أو الإنسان الظنون، أي؛ أن أسلو، وقيل: أراد "بيومي طوالة": الشتاء والصيف، يريد: الدهر كله، بمعنى: أن وصل هذه المرأة في الدهر كله لا يوثق به. وقيل: وعدته يومين في هذا الموضع، فكان وعدها ظنوناً، فيقول مبتغي وصل أروى، كمبتغي الأروية التي توقلت في جبل لا تصل إليه الرماة. والذي بعد البيت يبينه: وماءٍ قد وردتُ لوصلِ أروى ... عليهِ الطّيرُ كالورقِ اللّجينِ ذعرتُ بهِ القطا ونفيتُ عنهُ ... مقامَ الذّئبِ كالرَّجلِ اللّعينِ وما أروى وإنْ كرمتْ علينا ... بأدنى منْ موقّفةٍ حرونِ تطيفُ بها الرُّماةُ وتتّقيهمْ ... بأوعالٍ معطّفةِ القرونِ ولستُ إذا الهمومُ تحضّرتني ... بأخضعَ في الحوادثِ مستكينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فسلِّ الهمَّ عنكَ بذاتِ لوثٍ ... عذافرةٍ مضبَّرةٍ أمونِ إذا بلّغتني وحملتِ رحلي ... عرابةَ فاشرقي بدمِ الوتينِ رأيتُ عرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيراتِ منقطعَ القرينِ أفادَ سماحةً وأفادَ مجداً ... فليسَ كجامدٍ لحزٍ ضنينِ إذا ما رايةٌ رفعتْ لمجدٍ ... تلقّاها عرابةُ باليمنِ الإعراب قال أبو الفتح: كان أبو علي رحمه الله، يستشهد على تقديم خبر المبتدأ على المبتدأ، بقول ممالك بن خالد: فتىً ما ابنُ الأغرِّ إذا شتونا ... وحبِّ الزّادُ في شهريْ قماحِ ووجه الدلالة منه، أن "إذا" تحتاج إلى عامل تتعلق به، "فالأعزُّ" لا يجوز أن ينصبها، لأنه علم، فيكون الناصب لها "فإذا" إذن منصوبة "بفتى"، وإنما يجوز وقوع المعول فيه، بحيث يجوز وقوع العامل فموضع"إذا" موضع "فتى"، وإذا كان موضعه، علمت أنه وإن كان مقدماً في اللفظ على "ابن الأغر" فإن رتبته أن يكون بعده في موضع "إذا"، وإذا كان كذلك، فهو خبر مقدم عن موضعه إلى صدر الجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقد احتج قوم لتقديم خبر "ليس" عليها (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم) . لما قدم "يوم يأتيهم" والعامل فيه "مصروفاً" ذل ذلك على جواز تقديم الخبر. فإن قيل: إن "كلا يومي طوالة" منتصب بقوله "وصل أروى" وأن التقدير: "وصل أروى كلا يومي طوالة ظنون". قيل: هذا لا يجوز، لأنك لو أوقعته هذا الموقع، وقع في صلة المصدر، الذي هو: وصل أروى، وصلة المصدر لا تتقدم عليه. فإن قيل: "إن كلا يومي طوالة" منصوب على الظرف، والظروف يجوز تقديمها، ولا يؤذن ذلك بجواز تقديم العامل فيها، في نحو قولك "إن في الدار زيداً قائم" ولا يجوز تقديم "قائم" بوجه. قيل: لإن: أحكام ليست للمبتدأ؛ منها: أن خبر"إن" لا يجوز تقديمه على اسم "إن" إلا إذا كان ظرفاً، ويجوز تقديم خبر المبتدأ على المبتدأ، ظرفاً كان أو اسماً أو جملة، فتقول: "قائم زيد" وصاحبك محمد، وفي الدار أخوك، وأبوه منطلق زيد، وأشباه هذا، ولا يجوز شيء من ذلك في "إن" سوى الظروف والمجرورات، لاتساع العرب فيها، ولأن الرفع في خبر "إن" قد زال وانتقل عن المبتدأ، وصار "لإن"، وهي غير متصرفة فلم يتصرف معمولها، وهذا واضح. ويجوز أن تقول: في الدار زيد جالس، وعمراً زيد ضارب، وضارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عمراً زيد، وعبد الله جاريته أبوها ضارب، كل هذا غير ممتنع. فتقدم الظرف إذا كان معمولاً لخبر المبتدأ يؤذن بجوار تقديم الخبر، كما يؤذن به المفعول الصحيح. وليس تقديم الظرف، إذا كان متعلقاً بخبر (إن) يؤذن بتقديم خبرها، ومثال البيت قوله تعالى: (وفي النار هم خالدون) . وإنما ذكر أبو علي هذا، رداً على ون لا يجيز تقديم خبر المبتدأ على المبتدأ من الكوفيين، والعلة عندهم في ذلك أن من الأخبار ما يتضمن ضمير المبتدأ، فيؤدي ذلك إلى الإضمار قبل الذكر. وأيضاً فإن خبر المبتدأ يجري مجرى الفاعل في أنه كالشيء الواحد مع المبتدأ، كما أن الفعل والفاعل كذلك، فكما لا يتقدم الفاعل على فعله بإجماع من الفريقين. كذلك لا يتقدم خبر المبتدأ على المبتدأ. فاستدل عليهم بما يفسد مذهبهم، وللكوفي أن يتناول شاهد البيت، فيرفع "كلا يومي" بالابتداء، و "وصل أروى" مبتدأ ثان، "وظنون" خبره، والجملة خبر عن الأول، والعائد على المبتدأ الذي هو "كلا" محذوف لفظاً، معتقد لدلالة سياق الكلام، تقديره: كلا يومي طوالة وصل أروى ظنون فيه، أو فيهما على الاختلاف في "كلا" هل هو مثنى أو مفرد؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وفي "كلا" أسولة أتي الكلام عليها في بيت جرير: كلا يوميْ أمامةَ يومُ صدٍّ ... وإنْ لمْ تأتها إلا لماما وآن بمعنى: حان، وكذلك أنى يأني إنى وأنياً على القلب، والأناء: هو الوقت. قال أبو علي وأبو الفتح: آن يئين، هو المقلوب عن أنى يأنى؛ لأن (لأنى) مصدراً، ولا مصدر (لآن) ، فوجب أن يكون المتصرف هو الأصل. قال أبو الفتح: وقد حكى أبو زيد: أن الأين: مصدر "آن"، وهو خلاف قول الأصمعي، لأنه جعل الأين: التعب والإعياء، فعلى مذهب أبي زيد هما أصلان معاً، لتساويهما في التصرف. وألف آن منقلبة عن "ياء" وقيل هي منقلبة عن "واو"، لأنها من "الأوان" وأصلها: أون ثم قلب. ومطرح: مصدر بمعنى الاطراح. وأنشد أبو علي في باب من الابتداء بالأسماء الموصولة. (7) وقائلةٍ خولانُ فانكحْ فتاتهمْ ... وأكرومةُ الحيينِ خلوٌكما هيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الشاهد في هذا البيت قوله "خولان فانكح فتاتهم"، فارتفاع "خولان" عنده على معنى: هذه خولان، لامتناعه أن يكون مبتدأ والفاء في خبره، لأنه لا يجوز عنده: زيد فمنطلق، على الابتداء وخبره، إذ الاسم المبتدأ وخبره، كالشيء الواحد، فدخول الفاء فصل بينهما قبل تمام الفائدة. وأبو الحسن الأخفش أجاز ذلك، على اعتقاد زيادة الفاء، وتابعه على هذا المذهب جماعة. لغة البيت خولان قبيلتان أددية وقضاعية، فالأددية: خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد. والقضاعية: خولان بن عمرو بن قضاعة. وقال الكلبي: خولان هو أفكل بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة ابن أدد. والأكرومة: اسم للكرم، كالأحدوثة: اسم للحدثز والخلو والخلوة: المرأة الخالية من الزوج، وبقال للرجل أيضاً: خلو. والفتاة: الجارية الشابة، وجمعها فتيات، والفتاء، الشباب، والفتى: الشاب. ومعنى البيت ظاهر، وقوله: "كما هي" أي كما عهدت بكرا في حالها الأول. وإنما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الحيين، لأن خولان قد اشتملت على حيين وعلى أحياء، ويجوز أن يريد: حي أبيها وحي أمها، أي هي متصلة الشرف، مكتملة الفضل. الإعراب قوله: كما هي الكاف في موضع الصفة للخبر، أو خبر بعد خير، ويحتمل أن تكون "ما" زائدة، و (هي) كناية عما عهدت عليه من بكارتها، وكان ينبغي أن يقول كهدها، لأن المعنى له، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار "كهي" ثم أدخل "ما" فقال: (كما هي) وهذا كما تقول: كن كما أنت، أي؛ كعهدك وحالك. ويحتمل أن يكون "ما" بمعنى التي، فترتفع "هي" بالابتداء، والخبر محذوف للعلم به، والتقدير: كالتي هي معلومة، أو معهودة، أو نحو ذلك والمبتدأ والخبر من صلة التي. وأنشد أبو علي في باب الفاعل (8) إذا هيَ لمْ تستكْ بعودِ أراكةٍ ... تنخّلَ فاستاكتْ بهِ عودُ إسحلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 هذا البيت لطفيل الغنوي، وقيل: هو لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، واسم ربيعة حذيفة. الشاهد فيه إعمال الفعل الأول، وهو قوله: "تنخل عود إسحل فاستاكت به" ولو عمل الثاني لقال: "تنخل فاستاكت بعود اسحل"، ولا سبيل إلى إعمال الفعل الثاني في هذا البيت، لضرورة انكسار البيت. لغة البيت في جلاء الأسنان لغات، يقال: استاك يستاك، وساك يسوك واستن يستن وشاص يشوص، وماص يموص. والأراك: شجرة يستاك بفروعه وأصوله، وهو أحسن المساويك. والإسحل: شجر أطرافه من أحسن السواك، واحدته: إسحلة، وقضبانه لينة مستوية، تشبه بها الأصابع، كما قل امروء القيس: "أو مساويك إسحل" ومعنى تنخل: اختير ونقي، ومنه المنخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 معنى البيت يقول: إن فا هذه المرأة طيب الرائحة، لتعاهد بالسواك، فإن لم تجد عود أراكة، استاكت بالإسحل. وفي هذا الشعر: ديارٌ لسعدى إذْ سعادُ جدليةٌ ... من الأدمِ خمصانُ الحشا غيرُ خنثلِ هجانُ البياضِ أشربتْ لونَ صفرةٍ ... عقيلةُ جوٍّ عازبٍ لمْ يحللِ يحكى أن عريب جارية المأمون دخلت عليه، وفي يده سواك فناولها السواك، فكرهت أن تمانعه أخذه، فتزول عن سلطانه، وسبيل طاعته، وتستدعي سخطه بمخالفته، وتطيرت من تناوله، فمدت يدها إليه متكارهة، وأرسلت دمعتها تنحدر كالجمان، فعجب المأمون من فعلها، وسألها عن شأنها، فقالت: إن فرط الحب، وغلة الاشتياق، يخرجان المحب إلى التطير من كل ما يحاذر أن يقدح في الود، ويزيل عن العهد، ولذلك يقول القائل: أهدى لهُ أحبابهُ أترجةً ... فبكى وأشفقَ منْ عيافهِ زاجرِ خافَ التلوُّنَ والصُّدودَ لأنها ... لونانِ باطنها خلافُ الظَّاهر فضحك المأمون وقال: إن حبك قد تمكن من قلبي، وملك جوارحي، فسلطانه أعز من أن يزيله حادث، أو يرثه وارث، وإني لك كما قال أبي لإحدى جواريه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أحمي الفؤادَ عنِ النساءِ حفيظةً ... كيما يحلَّ حمى الفؤادِ سواكِ فقولي في تطيرك من السواك شيئاً، فقالت بديهة: دليلُ انتفاضِ الودِّ منْ خالصِ الودِّ ... مناولةُ المسواكِ أوْ طبقِ الوردِ تطَّيرتُ إذْ ناولتنيهِ لقولهمْ ... سواكَ أريدُ اليومَ والقلبُ في جهدِ فقال لها المأمون: لتطب نفسك، فلا أريد بك بديلاً، ولا عنك تحويلاً. الإعراب "إذا هي" ها هنا: مرتفعة بفعل مضمر عند سيبويه تقديره: إذا لم تستك هي لم تستك، وهذا الفعل المضمر لا يجوز إظهاره، لإغناء هذا الظاهر المفسر عنه، والعامل في "إذا" "تنخل"، لأنه جواب "إذا". وأنشد أبو علي في الباب. (9) قضى كلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمهُ ... وعزَّةُ ممطولٌ معنىًّ غريمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 هذا البيت لكثير بن عبد الرحمن الخزاعي، صاحب عزو. الشاهد فيه إعمال الفعل الثاني، وهو قوله: "فوفى غريمه" وتقدير الكلام: "قضى كل ذي دين غريمه"، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، على ما أصل في (كتابه) أبو علي رحمه الله. ولو أعمل الأول لقال: (فوقاه غريمه) ويكون التقدير: "قضى كل ذي دين غريمه فوفاه" فيعيد الضمير على الظاهر المتقدم. لغة البيت الممطول: الذي يدفع بوعد بعد وعد، يقال: مطله بدينه مطلاً، ومطل الحداد السبيكة: مدها. والمعنى: الأسير، يقال: عنوت فيهم، وعنيت عنواً وعناء: صرت أسيراً وأعنيته أسرته، وعنوت للحق عنواً: خضعت له. وفي التنزيل: (وعنت الوجوه للحي القيوم) . والعواني: النساء؛ لأنهن يظلمن، فلا ينتصرن، والتعنية: الحبس. قال أبو ذؤيب: مشعشعةً منْ أذرعاتٍ هوتْ بها ... ركابٌ وعنَّتها الزِّقاق وقارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وقال ساعدة بن جؤية: فإنْ يكُ عتَّابٌ أصابَ بسهمهِ ... حشاهُ فعنَّاهُ الجوى والمحارفُ دعا عليه بالحبس، وأثقل من الجراح. والمعنى: جمل كان أهل الجاهلية ينزعون سناسن فقرته، ويعقرون سنامه، لئلا يركب وينتفع بظهره، وذلك إذ ملك صاحبه مئة بعير، وهو البعير الذي أمات إبله به. وهذا يجوز أن يكون من العناء: الذي هو التعب، فهو على ذلك من الياء، ويجوز أن يكون من الحبس عن التصرف، فهو على هذا من الواو. و معنى البيت ظاهر. خبر: وذكر أن عزة دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال لها: أنت عزة كثير؟ فقالت له: أنا أم بكر الضمرية. فقال لها: يا عزة، أتروين من شعر كثير شيئاُ؟ فقالت: ما أعرفه، ولكني سمعت الرواة ينشدون له: قضى كلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمهُ ... وعزُّهُ ممطولٌ معنىًّ غريمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال: أفتروبن له: وقدْ زعمتْ أنَّي تغيَّرتُ بعدها ... ومنْ ذا الذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالَّتي ... علمتِ ولمْ يخبرْ بسرِّكِ مخبرُ فقالت: ما سمعت هذا، ولكني سمعتهم ينشدون له: كأنِّي أنادي صخرةً حينَ أعرضتْ ... منَ الصُّمِ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ صفوحاً فما تلقاكَ إلاَّ بخيلةً ... فمنْ ملَّ منها ذلكَ الوصلَ ملَّتِ قال الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى بن العباس: كان لكثير بن عبد الرحمن غلام تاجر فأتى الشام وهي لا تعرفه، فابتاعت منه حاجتها، ولم تدفع له ثمنها، فكان يختلف إليها مقتضباً، فأنشد يوماً قول مولاه: قضى كلُّ ذي دين .... البيت فقالت له المرأة التي ابتاعت الثياب لها: فهذه والله دار عزة، ولها ابتعت الثياب. فقال: وأنا والله غلام كثير، فأشهد الله أن الثياب لها، ولا آخذ من ثمنها شيئاً، فبلغ ذلك كثيراً فقال: وأنا والله أشهد أنه حر، وأن ما بقي من المال له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الإعراب "عزة" مبتدأ و "غريمها" مبتدأ ثان، و "ممطول" خبره، و (معنى) ، صفة ممطول، والتقدير: وغزة غريمها ممطول معنى، ويجوز أن ترتفع "عزة" بالابتداء، و"ممطول" خبر المبتدأ، و"غريمها" مفعول لم يسم فاعله "بممطول"، ومعنى: خبر بعد خبر. وجاز أن يجري اسم الفاعل على غير من هو له، من غير إبراز الضمير، لأجل الضمير العائد من "الغريم"، ولا يجوز أن يرتفع "الغريم" "بمعنى"، كما جاز ارتفاعه "بممطول"، لخلو ممطول عما يعود إلى المبتدأ الذي هو (عزة) . وقياس قول من لم يظهر الضمير، في اسم الفاعل، وإن جرى على غير من هو له أن يجوز ارتفاعه "الغريم" بمعنى" يضمر في الأول على شريطة التفسير، وكذا قياس قول الكسائي، يجوز أن يرتفع "الغريم" "بمعنى"، لأن الفاعل عنده في قولك: ضربني وضربت زيداً. محذوف، فكما حف من نفس الفعل، كذلك يجوز أن لا يجعل في الاسم شيئاً، إذ كان اسم الفاعل عنده كالفعل في خلوه من الذكر، وينبغي إذا جاز ذلك في الفعل، أن يكون في اسم الفاعل أجوز عنده. وأنشد أبو علي في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 (10) فلوْ أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني ولمْ أطلبْ قليلٌ منَ المالِ هذا البيت لامرئ القيس الشاهد فيه إعمال الفعل الأول، وهو "كفاني" ورفع "قليل" لأنه لم يجعل القليل مطلوباً، والتقدير: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة، لكفاني القليل من المال، واقتصرت عليه، ولم أطلب الملك. ولو أعمل الثاني الذي هو "أطلب" ونصب به "قليلاً"، كان الكلام فاسداً، وذلك أن قوله: فلولا أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ يوجب أنه لم يسع لها، ألا ترى أنك لو قلت: لو لقيت زيداً، لذل أنك لم تلقه فهو ناف عن نفسه طلب أدنى معيشة، وبالنصب يوجب طلب القليل من المال، وهو محال. ومما أعمل فيه الأول قول جزء أخي الشماخ: أتاني فلمْ أسررْ بهِ حينَ جاءني ... حديثٌ بأعلى القنَّتينِ عجيبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ومثله ما أنشد أبو زيد: قطوبٌ فما تلقاهُ إلاَّ كأنَّما ... زوى وجههُ أنْ لاكه فوهُ حنظلِ وقال ذو الرمة: ولمْ أمدحْ لأرضيهُ بشعري ... لئيماً أنْ يكونَ أصابَ مالا معنى البيت وصف بعد همته، فيقول: لو كان سعيي في الدنيا لأدنى حظ منها، لكفتني البلغة من العيش، ولم أتجشم الأمور العظيمة، وبعد البيت ما يدل على هذا. ولكنَّما أسعى لمجدٍ موثَّلٍ ... وقدْ يدركُ المجدَ المؤثَّلَ أمثالي فإن قيل: كيف يجتمع قوله هذا مع قوله: ألا إلاَّ تكنْ إبلٌ فمعزى ... كأنَّ قرون جلَّتها العصيُّ ثم قال: فتوسعُ أهلها أقطاً وسمناً ... وحسبكَ منْ غنىً شبعٌ وريُ فالجواب: إن التقاءهما من جهة القناعة، والجود بما وراءها لأن المرء لا يكون جواداً محضاً، حتى يقنع باليسير، ويجود يالخطير الكثير، ويؤثر، على نفسه ولو كان به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 خصاصة، كما وصف الله به. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن جميعهم. وكان طلحة بن عبيد الله يعطي حتى لا يجد ملبساً وقد منعه من الخروج إلى الصلاة أن لفق له بين ثوبين، وقال عروة بن الورد: إنِّي امرؤٌ عافي إنائيَ شركةٌ ... وأنتَ امرؤٌ عافي إنائكَ واحدُ أقسمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ يقول: إن قوته الذي هو قوام رمقه، ومقيم جسمه يطعمه، ويؤثر به على نفسه، وانه يحسو الماء عند الجهد، وشدة الزمان ويسقي اللبن، وإنما رغبة الجواد في المال ليهبه، ويطلبه لينهبه، وهذا هو المجد الذي أراد امرؤ القيس. وكان قيس بن سعد بن عبادة، يقول في دعائه: "اللهم إني أسأل حمداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ومجداً، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال". ونظر أبو الطيب إلى هذا المعنى فقال: فلا مجدَ في الدنيا لمنْ قلَّ مالهُ ... ولا مالَ في الدنيا لمنْ قلَّ مجدهُ الإعراب قوله "فلو أن ما أسعى": يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، فيكون التقدير: "فلو أن سعيي". ويحتمل أن تكون بمعنى الذي، وعلى هذا فلا بد لها من عائد علبها، فيكون التقدير: "أسعى له" فحذفه حذفاً، للمعرفة بهن على رأي سيبويه، وعلى رأي أبي الحسن، حذف أولا اللام، فبقي "أسعاه" ثم حذف المفعول، لطول الصلة، وللاستغناء عن المفعول، كما قال الله تعالى: (أهذا الذي بعث الله رسولا) ، وقوله تعالى (فاصدع بما تؤمر) . "ما" تحتمل وجهين: الأول: أن تكون مصدرية، فيكون التقدير: فاصدع بالأمر. والثاني: أن تكون "ما" بمعنى الذي، فيكون التقدير: بما تؤمر به. ثم حذف المجرور حذفاً، على رأي سيبويه، ورأي أبي الحسن يحذف حرف الجر ثم يحذف المفعول كالذي تقدم. وأنشد أبو علي في باب الفعل المبني للمفعول به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 (11) ليبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومختبطٌ ممَّا تطيحُ الطوائحُ هذا البيت للحارث بن نهيك النهشلي، وينسب لمزرد إخي الشماخ، ويروى لنهشل بن حري منسوب إلى الحرة، يرثي يزيد القاضي. الشاهد فيه رفع "ضارع" بفعل مضمر يدل عليه ما قبله، لأنه لما قال"لبيك" دل على أن ثم باكياً، يجب عليه أن يبكي، فكأنه قال: يبكيه ضارع ومختبط، وهو من باب ضرب زيد، عمرو، كأنه لما قال: ضرب زيد، قيل له: من ضربه؟ فقال: ضربه عمرو، وكذلك: أكل الخبز، زيد. وركب الفرس، محمد، تقديره: ركبه محمد، ومثله: قوله تعالى (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) . كأنه والله أعلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 على تقدير "يسبحه فيها رجال" ومثله أيضاً قوله تعالى (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) ، معناه: زينه شركاؤهم، وبروى: ليبكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومةٍ على أن يكون مبنياً للفاعل ولا شاهد فيه علة هذا. لغة البيت الضارع: الذليل الخاشع، والمختبط: الرجل عن غير معرفة تقدمت بينكما، ولا يد سلفت منه إليك، يقال: خبطت فلاناً فخبطني بخير، قال علقمة: وفي كلِّ حيٍّ قدْ خبطتَ بنعمةٍ ... فحقَّ لشأسٍ منْ نداكَ ذنوبُ وأصل الاختباط: ضرب الشجر بالعصا، ليسقط ورقها فتعلفها الإبل. ومعنى تطيح: تذهب وتهلك، يقال، أطاحته المنون: إذ هلك، وحكى الجرمي عن الأصمعي: طاح الشيء، وطاحه غيره: أي أبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وألف"طاح" منقلبة عن واو، فيمن قال: طاح طوحاً، إذا هلك. وأيضاً إذا سقط منبسطاً. وأيضاً اضطرب عقله. وهي منقلبة عن ياء، فيمن قال: طيحاً، قال أبو زيد: طاح يطيح طيحاناً، وما أطوحه، وأطيحه. قال سيبويه: "وأما طاح يطيح، فزعم الخليل: أنها "فعل يفعل" كحسب يحسب، وهي من الواو، يذلك علة ذلك، "طوحت" ومن قال طيحت فقد جاء بها على مثل باع يبيع. وقال السيرافي: يجوز أن تكون من الواو والياء. وقال أبو الفتح: من قال: طاح يطيح، فقياسه أن يقول: المطائح، بتصحيح الياء. الفرقة من الناس: وجمعها: طوائح. ويقال: ذهبت طائحة من الناس، أي فرقة، وجاء الطوائح: على أطاح، على تقدير حذف الزيادة من فعله، كأنه من طاح فهو كسر على طوائح، ومثله قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح) . يقال: ألقحت الريح السحاب، إذا ألفته وجمعته، والقياس: ملاقح وملقحات، ولكن قالوا: لواقح كما قالوا: أعقت الفرس فهي عقوق، والقياس معق، كذلك أورس النبت، وهو وارس، والقياس: مورس، وأغضى الليل فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 غاض، والقياس: مغض قال: يخرجنَ منْ أجوازِ ليلٍ غاضِ وأدلى الدلو فهو دال، والقياس: مدل قال: يكشفُ عنْ حمأتهِ دلوُ الدالْ أي: المدلي، وأبقل المكان فهو: باقل، والقياس: مبقل، على أن"مبقلاً" قد جاء على القياس، قال دواد: أعاشني بعدكَ وادٍ مبقلُ ... آكلُ منْ حوذانهِ وأنسلُ المعنى في هذا البيت أمران: أحدهما عام بالبكاء والتفجع على هذا الميت، لفضله وقيامه بما يسند إليه من الأمور، ولكثرة ما يحتاج إليه ويعول عليه. ثم خص فقال: ليبكه الضارع والمختبط، وخص هذين الجنسين اللذين عدماه، إذ لا يجدان من يقوم لهما مقامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الإعراب حذف مفعول "مختبط" أي، مختبط ورقاً، أو معروفاً، أو رزقاً، أو ما أشبه هذا، أو يريد: مختبطه: يعني الرثي، وحذفه لما في الكلام من الدليل عليه. وقوله: "مما تطيح الطوائح" جملة في موضع النعت "للضارع والمختبط"، كأنه قال: كائنان مما تطيح الطوائح. ورواه أبو علي في "التذكرة": قد طوحته الطوائح. وأنشد أبو علي في باب الأفعال التي لا تتصرف. (12) عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيه ... يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ هذا البيت لهدبة بن خشرم العذري. الشاهد فيه استعمال "عسى" بغير" أن" ضرورة، ورفع الفعل، ومثله قول مالك بن الريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وماذا عسى الحجاجُ يبلغُ حهدهُ ... إذا نحن جاوزنا حفير زيادِ وأنشد سيبويه: عسى اللهُ يغني عنْ بلاد ابنِ قادرٍ ... بمنهمرٍ جونِ الربابِ سكوبِ معنى البيت خاطب رجلاً أسيراً من قومه، يؤنسه ويصبره، وقيل: خاطب نفسه، لأنه قال هذا الشعر في سجن معاوية بالمدينة، لأنه أصاب دم رجل من قومه، يقال له: زيادة ابن زيد، وكان لزيادة ابن صغير، يسمى مسوراً، فلم يزل هدبة مسجوناً، حتى أدرك مسور، فبذل له أشراف أهل المدينة عشر ديات في أبيه، ليخلصوا هدبة، فأبى إلا القود، في حكاية طويلة ذكرها أبو العباس المبرد، وأبو الفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الأصبهاني وغيرهما. والشعر: طربتَ وأنتَ أحياناً طروبُ ... وكيفَ وقدْ تعلاَّكَ المشيبُ فقلتُ لهُ: هداكَ اللهُ مهلاً ... وخيرُ القولِ ذو اللبِ المصيبُ عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيهِ ... يكونُ وراءهُ فرجٌ قريبُ فيأمنَ خائفٌ ويفكَ عانٍ ... ويأتيَ أهلهُ الرجلُ الغريبُ الإعراب المشهور في كلام العرب استعمال"عسى" بأن، قال الله تعالى (عسى الله أن يتوب عليهم) ، (عسى الله أن يأتي بالفتح) ، و (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ، وإنما تحذف منها "أن" تشبيهاً"بكاد" وتقريباً للآتي من الحاضر، على جهة التفاؤل للفرج المؤمل. وعسى: طمع وإشفاق. وإنما لم تتصرف عسى، للاستغناء عن ذلك بلزوم "أن" الفعل الذي هو خبرها، و"أن" للتراخي، وتدل على الاستقبال، واستعمل الماضي فيها دون الحاضر والآتي، لخفته. وقيل: إنما لم تتصرف لأنها تناهت في المقاربة، ولما تناهت في المقاربة حدت عن التصرف، فإن قيل: فقد تصرف ما هو مثلها، أو أشد مبالغة في القرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 منها، وذلك شارف، وأطل، ونحو ذلك، وكل متصرف، تقول: هو يشارف مشارفة، ويطل إطلالاً، قيل: في "عسى" سر ليس في غيرها مما ذكرت، وهو أنها تأتي واجبة وليس كذلك شارف، وأطل، وقاربن لأن هذه على كل حال ليست للوقوع البتة، و"عسى" واجبة، فهي أشد مبالغة في ذلك منهن، ألا ترى أن جميع ما في التنزيل منها واجب، إلا حرفا واحداً: وهو قول الشاعر: ظنِّي بهمْ كعسى وهمْ بتنوفةٍ ... يتنازعونَ جواهرَ الأمثالِ أي: ظني بهم كاليقين. فلما تناهت "عسى" في معناها، وكان فيها من ذلك ما ليس في غيرها، أخرجت عن بابها، وباب الفعل الذي يخصه هو التصرف، فمنعته. وذهب بعضهم إلى أن "عسى" إنما منعت التصرف، لشبهها "بلعل"، و "لعل" حرف لا يتصرف، كما لا تتصرف الحروف. وهذا اعتبارا يقود إليه ضعف نظر القائل به، وذلك أن شبه الحرف معنى، مضعف للاسم لا للفعل، ألا ترى أن جميع ما يبنى من الاسم لشبه الحرف، نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 كم، ومن، ونحو ذلك، فأما الفعل فإنه إذا أشبه معناه الحرف، فإنه لا يبني، ولا يمنع التصرف، ألا ترى أكثر الفعل كذلك، وذلك نحو: أستثني، وهو في معنى"إلا"، وهو مع ذلك متصرف معرب، وأنفي في معنى "ما"، لما فيها من معنى الجحدية، وأدعو وأنادي، وهما في معنى "يا" واسأل واستفهم في معنى "هل"، وكل واحد من هذا النوع معرب متصرف، فهذا يدفع قول من قال: يمنع الفعل لتصرف شبهه بالحرف. ويجوز أن يكون معنى "أمسيت": معنى "صرت" فيكون قوله: "فيه" في موضع نصب، لوقوعه موقع الخبر، أي: أمسيت كائنا فيه، ويجوز أن يكون "أمسيت" بمعنى الدخول في المساء، "ففيه": ظرف للفعل متعلق بنفس أمسيت. ويكون بمعنى يقع. قوله: "وراءه" هو على بابه: أن يكون في مغيبه فرج، لأن وراء الشيء، متوار عنه. ويجوز أن يكون "وراء" هنا بمعنى: أمام، قال الله تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) أي أمامهم. ويروى: أمسيت، وأمسيت، بضم التاء وفتحها، يحتمل أن يكون خاطب نفسه، أو رجلاً أسيراً من قومه، يؤنسه ويصبره. وأنشد أبو علي في الباب. (13) قدْ كادَ من طولِ البلى أنْ يمصحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 هذا البيت لرؤبة بن العجاج، وهو من شطر الرجز، من العروض الثالث، وهو المشطور ضربه كعروضه. الشاهد فيه استعمال "كاد" بأن ضرورة، والمستعمل في "كاد" إسقاطها. وأدخلها على خبر "كاد" تشبيهاً "بعسى" كما أسقطت من "عسى" تشبيهاً بكاد، لاشتراكهما في معنى المقاربة، ومثله قول الآخر: كادتِ النَّفسُ أنْ تفيظَ عليهِ ... إذْ ثوى بينَ ريطةِ وبرودِ اللغة يقال: بلى الثوب بلى، وبلاء، أخلق، ويلي الإنسان: قال لبيد: بلينا وما تبلى النجومُ الطوالعُ ... وتبقى الجبالُ بعدنا والمصانعُ وقال الفند الزماني، واسمه شهل بن شيبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أياً طعنةَ ما شيخٍ ... كبيرٍ يفنٍ بالِ ومصح الشيء مصوحاً: غاب في الأرض وغيرها. ومصح الكتاب: درس، ومصحت النار: همدت، وقال: قفا نسألِ الدمنَ الماصحهْ ... وهلْ هيَ إنْ سئلتْ بائحهْ ومصح بالشيء: ذهب به. وصح الظل: قصر. وأنشد أبو علي في باب نعم وبئس. (14) فنعمَ صاحبُ قومٍ لا سلاحَ لهمْ ... وصاحبُ الرَّكبِ عثمانُ بنْ عفَّانا نسب هذا البيت لجماعة، بسبه السيرافي في "أبيات الإصلاح" لكثير بن عبد الله بن العزيزة، وكذلك أبو الفرج الأصبهاني وذكر أن العزيزة أم عبد الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكانت سبية من تغلب، وكثير هذا مخضرم. ونسبه الفارسي في كتابه "البصريات" لحسان بن ثابت، من قصيدته التي يقول فيها: لتسمعنَّ وشيكاً في ديارهم ... اللهُ أكبرُ يا ثاراتِ عثمانا ونسب إلى أوسِ بن مغراء. الشاهد فيه دخول "نعم" على اسم عار من الألف واللام، مضاف إلى ما لا ألف ولا لام فيه، وقد جاء مثله، أنشده الهجري في"نوادره". فنعمَ مناخُ أزفلةٍ عجافٍ ... ملقى نستعينِ على رحيلِ رجالٌ منْ خويلدِ آل عوفٍ ... حيالَ الشمسِ أو مجرى سهيلِ وحسن حذف الألف واللام، من المضاف إليه في بيت "الإيضاح"، ثبوتها في المعطوف، إذ هما شريكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وزعم الأخفش أنها لغة قوم، يرفعون النكرة المضافة "بنعم وبئس"، تشبيهاً بما أضيف إلى ما فيه الألف واللام، وإليه أشار أبو علي في "الإيضاح بقوله: "وقد حكي أنه جاء فاعله مظهراً على غير هذين الوجهين". وقال في "التذكرة": "قال بعض البصريين: اعلم أن العرب تجعل ما أضيف إلى ما ليس فيه ألف ولام، بمنزلة ما فيه ألف ولام، فترفعه كما ترفع ذلك، فتقول: نعم أخو قوم زيد "ولم تسمعه في كتابيه". وقال أبو علي الفارسي: "ولا يجوز على قول سيبويه، نعم أبو رجل، ولا نعم غلام رجل، لأن فاعل هذا الضرب عنده، لا يكون واقعاً إلا على الجنس، ألا ترى أنك لو قلت: أهلك الناس شاة وبعير، على حد الشاة والبعير، لم يحسن. قال أبو علي الفارسي: إن قيل: لعله ينشد: "فنعم صاحب قوم"، بالنصب. قلت: لا يجوز ذلك، لأنك تعطف معرفة مرفوعة على نكرة منصوبة. فإن قيل: لم لا يكون "وصاحب الركب" معطوفاً على المضمر المرفوع في "نعم"؟. فإن ذلك لا يجوز، لأنه مضمر مفسر، لا سبيل إلى إظهاره، ولا تأكيده، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 غير مستغن بنفسه، لافتقاره إلى التفسير، فكأنه لم يعد يتم بعد، والعطف والتأكد والبدل، إنما يكون فيما تم، وإذا قبح العطف على المضمر المرفوع دون تأكيد، فالواجب ألا يجوز هنا ألبته، لما بينته من حال مضمر "نعم". وقد نص أبو علي، وأبو بكر بن السراج، أن هذا العطف لا يجوز، قال أبو بكر ابن السراج: "لا يجوز نعم صاحباً والرجل زيد، من أجل أن "نعم" إذا نصبت، تضمنت مرفوعاً مضمراً فيها، وفي المسألة مرفوع ظاهر، فيستحيل هذا. المعنى قوله: "فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم". إشارة إلى فضل عثمان رضي الله عنه، وأن شفاعته في القيامة تغني غناء من يدفع بسلاحه، عمن لا سلاح معه، ويحتمل أن يريد: أن بذله ماله، وتكرمه، وإطعامه، يقوم مقام السلاح الدافع عمن لا سلاح له. ومقتله رضي الله عنه مشهور في كتب التواريخ، روي أنه لما دخل عليه، والمصحف بين يديه، قال لأول داخل: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه، ثم دخل آخر، فقال له: مثل ذلك، فضربه بالسيف، فأبان يده، فقال: أما والله إنها لأول كف خطت المفضل، إلى أن دخل محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فتعاونوا عليه، فقتلوه، رضي الله عنه، ودفن ليلاً وصلى عليه جبير بن مطعم وقتل معه يوم الدار المغيرة بن شريق، وعمر عثمان رضي الله عنه ست وثمانون سنه. وأنشد أبو علي في الباب. (15) فأمَّا الصُّدورُ لا صدورَ لجعفرٍ ... ولكنَّ أعجازاً شديداً ضربوها هذا البيت ينسب لتوبة بن الحمير، ووقع في "نوادر" الهجري لرجل من الضباب يهجو جعفر بن كلاب. الشاهد فيه رفع "الصدور" بالابتداء، ولم يعد عليها من اللفظ شيء، ولكنه عاد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المعنى، لكون "الصدور" الثانية غير الأولى، إذ هي أعم منها، فتكون "الصدور" الأولى دخلة تحت الثانية، كما كان زيد في قولك: "زيد نعم الرجل" داخلاً تحت الألف واللام، وهذا ظاهر قول أبي علي في "الإيضاح" لاستشهاده به على قوله"زيد نعم الرجل، ويحتمل أن يكون "الصدور" الثانية هي الأولى، إذ الأولى مستغرقة الجنس بالألف واللام، والثانية منفية نفياً عاماً، فأوقع الظاهر موقع المضمر، وكان الوجه أن يقول: "فأما الصدور فليس لجعفر"، ومثل هذا قول الجميح: إذا المرءُ لم يغشَ الكريهةَ أو شكتْ ... حبالُ الهويني بالفتى أنْ تقطعا وكان حقه، أن يأتي "بالفتى" مضمراً، إذ هو "المرء" وأما بيت الكتاب. ألا ليتَ شعري هلْ إلى أمِّ مالكٍ ... سبيلٌ فأما الصبرَ عنها فلا صبرا فإن "الصبر" الثاني فيه، هو الأول، قولاً واحد، لأنه لم يرد أن ينفي صبره كله، إنما نفاه عن هذه المرأة خاصة، وإنه لصبور عن أشياء غيرها، ولو نفى صبره عنها وعن غيرها، لكان ذاماً نفسه. لغة البيت عَجُزُ الشيء، وعَجِزُه، وعُجْزِه، وعجزه: آخره، يذكر ويؤنث، قال أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 خراش يصف عقابأ: بهيماً غيرَ أنَّ العَجْزَ منها ... تخالُ سراتهُ لبناً حليباً وقال اللحياني: هي مؤنثة فقط، والجمع: أعجاز. لا يكسر على غير ذلك. والعَجُزُ في العروض النون المحذوفة من فاعلاتن"، لمعاقبة ألف"فاعلن" وهو في شعر المديد وعجز البيت خلاف صدره. والضرير: حرف الوادي، وأصل الضرر: المشقة. معنى البيت أنه هجا جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة بن قيس عيلان، من أجل الحرب التي وقعت بين الضباب وجعفر، فأعانت بنو أمية بني جعفر بن كلاب"، لصهر كان بينهم، وذلك قطية بنت الحارث، كانت تحت بشر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فقال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 تزاحمنا عندَ المكارمِ جعفرٌ ... بأعجازها إذْ أسلمتها صدورها فأمَّا الصدورُ لا صدورَ لجعفرٍ ... ولكنَّ أعجازاً سديداً ضريرها فالصدور على هذا يعني بها رجالهم والأعجاز كناية عن نسائهم، يعني أن شرفهم، وفضلهم، إنما هو من قبل مناكح نسائهم، لا من قبل أحساب رجالهم، ومثل هذا قول الآخر يهجو بني عبس: فسادةُ عبسٍ في الحديثِ نساؤها ... وقادةُ عبسٍ في القديمِ عبيدها فشرف عبس في القديم بعنترة، وكان هجيناً، وشرفهم في الحديث بمصاهرتهم لبني أمية، وذلك أن ولادة بنت العباس بن جزي لعبسي، كانت تحت عبد الملك بن مروان، وهي أم ولديه، سليمان، والوليد. وقوله: "شديد ضريرها": معناه كثير ما يهونها بعلها ويكلفها ما يشق عليها، إذ ليست عنده بكريمة، ولا حظية، إذ ليست أيضاً مرعية لحسبها، ولا لكرم قومها، فهو يسومها الخسف، وتقيم عنده على أشد الهوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد وصف دغفل بني جعفر بن كلاب، لمعاوية حين سأل عنهم، وقال: "أعناق ظباء، وأعجاز نساء"، ولهذا وصفهم الشاعر، فقال: لا صدور لهم، أي: إنما لهم الأعجاز، أي؛ قوتهم في أعجازهم، لا في صدورهم. الإعراب وحذف "الفاء" من جواب "أما" ضرورة الشعر، لأن هذه "الفاء" هي التي في جواب الشرط، و"أما" حرف متضمن معنى الشرط، وتحرير قولك: "أما زيد فمنطلق" مهما يكن من شيء فزيد منطلق، إذ صرحت بلفظ الشرط، فتجد الفاء في الجواب مقدمة في صدر الجزأين، ولا تقول: أما زيد منطلق، كما تقول فيما هو في معناه، وإنما ذلك لإصلاح اللفظ. ووجه إصلاحه، أن هذه الفاء، وإن كانت جواباً، ولم تكن عاطفة، فإنها على لفظ العاطفة، وبصورتها، فلو قالوا: "أما زيد منطلق"، كما قالوا: مهما يكن من شيء فزيد منطلق، لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف، وبعدها اسم، وليس قبلها اسم، إنما قبلها في اللفظ حرف، وهو "أما" فتنكبوا ذلك لذلك، ووسطوه بين الجزأين، ليكون قبلها اسم وبعدها اسم، فتأتي على صورة العاطفة، فقالوا: "أما زيد فمنطلق"، كما تأتي عاطفة بين الاسمين، في نحو: "قام زيد فعمرو". و"أما" مركبة من "أن" الناصبة، ضمت إلها "ما" ولا يليها إلا الاسم. وحذف خبر "لكن" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اكتفاء بقوله: "لجعفر"، والتقدير: ولكن لها أعجازاً. والعرب تحذف خبر"إن" و"لكن"، إذا فهم المعنى، أنشد سيبويه قول الفرزدق: فلوْ كنتَ ضبَّيّاً عرقتَ قرابتي ... ولكنَّ زنجيَّاً عظيم المشافرِ أراد: ولكن زنجياً لا بعرف قرابتي. ومنهم من يرفع "زنجياً عظيم المشافر"، ويجوز الرفع، وتضمر الاسم كأنه قال: "ولكنك زنجي" ومثله: وما كنتَ ضغَّاطاً ولكنَّ طالباً ... أناخَ قليلاً فوقَ ظهرِ سبيلِ وقال طرفة: وتبسمُ عنْ ألمى كأنَّ منوِّراً ... تخلَّلَ حرَّ الرملِ دعصٌ لهُ ندي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أراد: كأن فيه منوراً. فحذف الظرف الذي فيه، خبر "كأن". وأنشد أبو علي في الباب: (16) فأمَّا القتالُ لا قتالَ لديكمُ ... ولكنَّ سيراً في عراضِ المواكبِ هذا البيت للوليد بن نهيك، أحد بني ربيعة بن مالك بن حنظلة منن بني تميم، ويكنى أب حزاقة، وينسب للكميت بن زيد بن الكميت بن معروف بن الكميت. الشاهد فيه كالشاهد في البيت الذي قبله، من كون "القتال" الأول في ضمن القتال الثاني، أو يكون "القتال" الأول هو الثاني، على نحو ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 لغة البيت العراض: جمع عرض، خلاف الطول، قال أمنكَ برقٌ أبيتُ اللَّيلَ أرقبه ... كأَّنَّهُ في عراضِ الشَّامِ مصباحُ وعروض: من جمعه الكثير أيضاً، وأما جمعه القليل، فأعراض، عن ابن الأعراب ي وأنشد: يطوونَ أعراضَ الفجاجِ الغبرِ ... طيَّ أخي التَّجرِ برودَ التَّجرِ ويقال: عرض عرضا، وعراضة: إذا صار عريضاً، قال كثير عزة: إذا ابتدرَ الناسُ المكارمَ بذَّهمْ ... عراضةُ أخلاقِ ابن ليلى وطولها والجمع: عرضان، والأنثى: عريضة وعراضة. معنى البيت يعير بني عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، بالفرار من الزحف وقبل البيت: فأربعُ راياتٍ بهنَّ فررتمُ ... من الموتِ تلكمْ سبّةُ ملعجائبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فأمّا القتالُ لا قتال لديكم ..... البيت فضحتمْ قريشاً بالفرارِ وأنتمْ ... قمدّون سودانٌ عظامُ المناكبِ وقد هجا الفرزدق خالد بن عبد الله حين قدم البصرة إلى الشام فقال: وقلْ لبني السَّوداءِ قدْ فرَّ فرَّةً ... فلم تبقَ إلاَّ فرَّةٌ في استِ خالدِ فضحتمْ أميرَ المؤمنينَ وأنتمُ ... قمدُّونَ سودانٌ جلادُ السَّواعدِ وهجا عبيد الله بن قيس الرقيات أمية بن عبد الله، أخا خالد، إذ سار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فاراً. وهجا كعب الأشقري عبد العزيز بن عبد الله بن خالد، حين فر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الأزارقة، وأسلم امرأته، أم حفص بنت المنذر بن الجارود العبدي، وهي التي بلغت مائة ألف، وكانت من أجمل النساء، فأنقذها عمرو العبدي، فأتى بها أخاها، الحكم بن الجارود، فأعطاه الحكم عشرة آلاف دينار، وقال له: ما غسل العار عنا أحد غيرك. الإعراب حذف الفاء هنا ضرورة، وحذف خبر "لكن" على تقدير: ولكن لكم سيراً، ويجوز النصب في "القتال" لأنه مصدر ينتصب على المفعول له، كما انتصب ذلك من قول ابن ميادة: ألا ليتَ شعري هلْ إلى أمِّ مالكٍ ... سبيلٌ فأمَّا الصَّبرَ عنها فلا صبرا وأنشد أبو علي في الباب. (17) تزوّدْ مثلَ زادِ أبيكَ فينا ... فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيكَ زادا هذا البيت لجرير، يمدح عمر بن عبد العزيز. الشاهد فيه اجتماع التمييز والمميز على جهة التأكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأجازه أبو بكر بن السراج، وأبو العباس المبرد، وجماعة من النحويين، على جهة التأكيد، وكلهم احتج ببيت جرير هذا، ومنعه جماعة. وسيبويه رحمه الله، لا يجوز عنده. إظهار هذا المضمر، لأن المفسر يغني عن إظهاره، فإذا لم يذكر المفسر، أظهر الفاعل. قال أبو علي الفارسي: "إذا قلت: نعم الرجل رجلاً" فقولك: "رجلاً" توكيد، لأنه مستغنى عنه بذكر الرجل أولاً، وهو بمنزلة قولك: عندي من الدراهم عشرون درهما، وقيل: إن هذا من ضرورة الشعر. والسيرافي لا يجيز الجمع بينهما، وقال أبو الفتح بن جني: "الرجل" في قولك: نعم الرجل زيد، غير الرجل المضمر في "نعم" من نحو قولك: نعم رجلاً زيد، لأن المضمر على شريطة التفسير، لا يظهر ولا يستعمل ملفوظاً به، ولذلك قال سيبويه: "هذا باب مالا يعمل في المعروف إلا مضمراً" أي: إذا فسر بالنكرة، في نحو: نعم رجلاً زيد، فإنه لا يظهر أبداً، وإذا كان كذلك، علمت زيادة "الزاد" في بيت جرير، وذلك أن فاعل "نعم" مظهر، فلا حاجة به إلى التفسير، ومثله "اللام" في قولنا: "الآن حد الزمانين"، غير اللام في قوله سبحانه: (قالوا الآن جئت بالحق) ، لأن "الآن" من قولهم: الآن حد الزمانين "بمنزلة الرجل أفضل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المرأة والملك أفضل من الإنسان، أي: هذا الجنس أفضل من هذا، وهي في قوله تعالى: (الآن جئت بالحق) زائدة". ومثل بيت جرير، قول أبي بكر بن الأسود: ذريني أصطبحْ يا بكرَ إنِّي ... رأيتُ الموتَ نقَّبَ عن هشامِ تخيَّرهُ ولم يعدلْ سواهُ ... ونعمَ المرءُ منْ رجلٍ تهامِ وهذا أبين من بيت جرير، لأن "زاداً" في بيت جرير يحتمل وجهين غير ما أدخله عليه أبو علي: الأول: أن يكون مفعولاً بقوله: "تزودْ" وتنصب "مثل" على الحال، لأنها صفة نكرة مقدمة عليها، فيكون مثل قوله: وبالجسمِ منِّي بيّناً ... شحوبٌ وإنْ تستشهدي العينَ تشهدِ الثاني: أن ينتصب على التمييز من "مثل"، على حد قولك: "ما رأيت مثله رجلاً" فإن قلت: كيف يصح أن يكون "زاداً" مفعولاً"بتزود" أو تمييزاً "لمثل" وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 في حيز المعطوف، و"مثل" في حيز المعطوف عليه؟!. فالجواب: أن هذه الجمل قد اتصلت، فهي مثل: "ضربت وضربني زيداً" وهذا متفق عليه، مجمع على جوازه، ولم يعتقده أحد فضلاً بالأجنبي، وهو في الفاء أحسن لشدة الاتصال. وبعد بيت جرير: فما كعبُ بن مامةَ وابنُ سعدى ... بأجودَ منكَ يا عمر الجوادا يعودُ الفضلُ منكَ على قريشٍ ... وتفرجُ عنهم الكربَ الشِّدادا وقدْ أمَّنتَ وحشهم برفق ... وأعيا الناس وحشكَ أنْ يصادا وتبني المجدَ يا عمرَ بن ليلى ... وتكفي الممحلَ السَّنةَ الجمادا وتدعو الله مجتهداً ليرضى ... وتذكرُ في رعيتكَ المعادا وأنشد أبو علي في باب العوامل الداخلة على الابتداء والخبر. (18) منْ كانَ مرعى عزمه وهمومه ... روضُ الأماني لمْ يزلْ مهزولا هذا البيت لأبي تمام، حبيب بن أوس الطائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الشاهد فيه رفع قوله: "مرعى" بالابتداء، و"روض الأماني" خبره، والجملة خبر "كان"، واسم "كان" مضمر فيها، عائد إلى المبتدأ الذي هو "من"، كما تقول: زيد كان أبوه منطلق "يحتمل أن يرتفع "مرعى" بكان و"روض الأماني" خبرها، وتكون الجملة من اسم كان وخبرها، في موضع خبر المبتدأ، الذي هو "من" كما تقول: زيد كان أبوه منطلقاً". وقد أخذ على أبي علي في الاستشهاد بهن واعتذر له، فقيل: إنما استشهد به لمكان حبيب من الأدب والعلم، فأراد التنويه به والتعظيم لشأنه، وقيل: إن عضد الدولة كان مغرماً بشعره، مفتوناً به، فأدخله في هذا الموضع تصنعاً لعضد الدولة، وإنما يليق بهذا المكان بيت الكتاب: إذا ما المرءُ كانَ أبوهُ عبسٌ ... فحسبك ما تريدُ إلى الكلامِ استشهد به سيبويه: على إضمار اسم "كان" فيها. وبعد البيت: لو جازَ سلطانُ القنوعِ وحكمه ... في الخلقِ ما كانَ القليلُ قليلا الرزق لا تكمدْ عليهِ فإنَّه ... يأتي، ولمْ تبعثْ إليه رسولا يمدح نوح بن عمرو بن حوي السكسكي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأنشد أبو علي في الباب. (19) ولا أنبأنَّ أنَّ وجهكِ شأنهُ ... خموشٌ وإن كانَ الحميمُ حميمُ هذا البيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي، يكنى أبا جهل وقيل: أبا جبيل. الشاهد فيه إضمار الأمر والشأن في "كان" و"الحميم حميم" مبتدأ وخبر، في موضع خبر "كان". لغة البيت النبأ: الخبر. والخموش: الخدش، والخموش: البعوض. والخماشة: الجناية والجراحة. والخوامش: مسيل الماء: واحدتها: خامشة. والحميم: القريب، والحميم في غير هذا: العرق، وهو أيضاً الماء الحار. معنى البيت يخاطب زوجه، ويحضها على الصبر، إن نزلت بها مصيبة، من فقد حميم أو غيره. وقبل البيت: أفاطمَ إنِّي ذاهبٌ فتبيَّني ... ولا تجزعي كلُّ النساء يئيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يقال: آمت المرأة، تئيم، أئمة، وأيوماً، إذا مات زوجها، وهي أيم والجمع: أيامى، كسر "أيم" على القلب، وأيم "فيعل" من الأيمة، كلين، وأصل تكسيرها: "أيائم، بالهمز على قياس قول صاحب الكتاب، وأيايم، غير مهموز على قياس قول أبي الحسن، وعلى الخلاف المشهور بينهما في ذلك. ووزن "أيائم" "فياعل" ثم قدمت اللام على العين، فصار التقدير بها إلى "أيام"، "فيالع"، ثم أبدلت الكسرة فتحة، وانقلبت الياء ألفاً، لانفتاح ما قبلها، فصارت "أيامى" كقولهم: في مدار وصحار: مدارى وصحارى. الإعراب قوله: "ولا أنبأن" مثل قولهم: لا أرينك ها هنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم، كأنه ينهى نفسه، وهو للمخاطب في المعنى، وتأويله، لاينبئني أحد أنك خمشت وجهك، أي لا تفعلي ذلك، فأنبأ به. وقوله: "وإن كان الحميم حميم" يريد: حميماً. كريماً عزيزاً عليك فقده، فحذف الصفة لعلم السامع. وأنشد أبو علي في باب إن وأخواتها. (20) إنَّ منْ لامَ بني بنتِ حسَّا ... ن ألمهُ وأعصهِ في الخطوبِ هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس البكري، ويكنى أبا بصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قال أبو عبيد البكري: قال ابن دريد: العشو من الشعراء ثمانية، وتتبعتهم أنا فوجدتهم خمسة عشر أعشى، وهم أعشى بني بكر، أعشى بني تغلب، أعشى بني ربيعة، أعشى همدان، أعشى شيبان، أعشى باهلة، أعشى بني الجرماز، أعشى عكل، أعشى عنزة، أعشى طرود، أعشى بني أسد، أعشى بني عقيل، أعشى بني مالك، أعشى بني تميم، أعشى بني سليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الشاهد فيه إضمار القصة والحديث في"إن" ثم حذف ذلك الضمير فكأنه قال: إنه من لام في بني بنت حسان، ثم حذف الضمير على هذا الترتيب للضرورة، وهذا إنما يكون في الشعر، ومثله قول الراعي: فلو أنَّ حقَّ اليوم منكم إقامةٌ ... وإنْ كانَ سرعٌ قدْ مضى فتسرَّعا أراد: فلو أنه، ثم حذف الضمير، وقال أمية بن أبي الصلت: ولكنَّ منْ لا يلقَ أمراً ينوبه ... بعدتهِ ينزلْ بهِ وهوَ أعزلُ يريد: ولكنه، فحذف، وقال آخر: إنَّ منْ يدخلِ الكنيسةَ يوماً ... يلقَ فيها جآذراً وظباءَ أراد: أنه فحذف، ومثله آخر: فليتَ دفعتَ اله عنِّيَ ساعةً ... فبتنا على ما خيَّلتْ ناعميْ بالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ولولا اعتقاد حذف الضمير، ما جاز أن تكون "من" شرطاً، والدليل عل أنه شرط جزمه "ألمه" ثم عطف عليه و"أعصبه في الخطوب"، ولو لم يكن في "إن" ضمير، لما جاز أن يكون شرطاً، لأن الشرط له مصدر الكلام، فلو عمل فيه عامل، خرج عن أن يكون متقدماً، وصار حشواً، وإذا كان ذلك كذلك، بطل أن يكون شرطاً. معنى البيت يقول: إنه من لامني في تولي هؤلاء القوم، والتعويل عليهم في الخطوب، ألمه وأعصبه في كل أمر يصيبني، وينزل بي، ويروي: منْ يلمني على بني بنت حسان فلا شاهد فيه حينئذٍ على هذه الرواية. وبعده: إنَّ قيساً قيسَ الفعالِ أبا الأش? ... عثِ أمستْ أصداؤه لشعوبِ كلَّ عام يمدني بجموم ... عندَ وضعِ العنان أو بنجيبِ وأنشد أبو علي في الباب. (21) فليتَ كفافاً كان خيركَ كلَّهُ ... وشركَ عني ما ارتوى الماءَ مرتوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 هذا البيت ليزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، يمنى أبا خالد، هذا قول ابن الأعراب ي. وقال غيره: هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنه عمه. الشاهد فيه حذف تمنى أن يطول عنه شره، ويكف عنه أذاه، يخاطب أخاه، ويعاتبه عند ربه. ويبين معنى البيت ما قبله. لسانكَ ماذيٌّ وعينيكَ علقمٌ ... وشرُّكَ مبسوطٌ وخيركَ منطوي فليت كفافاً ........ البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الإعراب "كفافاً" خبر "كان" مقدماً، و"خيرك" اسم "كان"، و"شرك" معطوف عليه وتقديره: كان خيرك كفافاً، وكان شرك منتهياً، أي مقلعاً، ما ارتوى أصحاب الماء. وقوله: "ما ارتوى الماء مرتوٍ" (ما) مع الفعل بتأويل المصدر، ظرفية، أي: أبد الدهر و"مرتو" فاعل ارتوى، و"الماء" مفعوله. و"كفافاً" مصدر، ولهذا وقع موقع التثنية، بمعنى: مكفوفين، لا علي ولا لي ويتعلق "عني" بكاف، لكونه مصدراً، وهو العامل في الظرف، الذي هو "ما ارتوى الماء" وهذا ظاهر بين لا غبار عليه. قال أبو علي: "إن حملت العطف على "كان"، كان "مرتو" في موضع نصب على خبر"كان" كما قال طرفة: أيها الفتيانُ في مجلسنا ... جردوا منها وراداً وشقرْ وكما قال الآخر: كفى بالنأيِ منْ أسماءَ كافِ أي: كافياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وقال آخر: شئزٌ جنبي كأنِّي مهدأٌ ... جعلَ القينُ على الدفِّ إبرْ وقال الأعشى: وآخذُ منْ كلِّ حيٍّ عصمْ وأهل هذه اللغة يقولون: رأيت فرج، يقفون على حرف الإعراب ساكناً، كالمرفوع والمجرور، ولم يحك هذه اللغة سيبويه، لكن حكاها الجماعة أبو عبيدة وأبو الحسن، وأكثر الكوفيين. ومعنى "مرتو" ها هنا: مقلع أو منته، و"الماء" مرتفع "بارتوى" على حذف مضاف، كأنه قال: ما ارتوى أصحاب الماء، أو شارب الماء". يقال: ارتويت عن كذا، أي: انصرفت عنه، كما يقلع المرتوي عن شربه، ويتعلق قوله: "عني" "بمرتو" وهو العامل في الظرف. قال أبو علي: وإن حملته على "ليت" نصبت و"شرك"، "مرتو": مرفوع، يريد: تنصب "وشرك" "بليت" مقدرة و"مرتو" مرفوع على خبر "ليت" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 و"الماء" مرفوع على التقدير الأول، ويكون معنى"مرتو" مقلعاً أو منتهياً. وهذان الوجهان بينان، وإن كان فيهما تكلف، ولا يجوز نصب"الماء" في هذي الوجهين، لبقاء "كان" و"ليت" بلا خبر. ولا يجوز أن يكون "ما ارتوى" خبر "كان" ولا خبر "ليت"، لانقلاب المعنى، وهو تمنى الشر. قد أخذ على أبي علي في قوله بعد البيت في"الإيضاح" لانقلاب: وإن حملت المعطوف علة "ليت" نصبت قوله "وشرك"، و"مرتو" في موضع رفع، مع قوله وقول غيره من المحققين: إن هذا الاسم المضمر "ليت" لا يجوز العطف عليه، ولا يجوز تأكيده، ولا وصفه، لأنه مضمر على شريطة التفسير. وهذا لا لزم أبا علي، لأنه لم يقل: إن حملت العطف عل الضمير الذي هو اسم "ليت" وقد بين هذا ق مواضع من كلامه، فقال في هذا البيت إثر قوله: وتنصب "شرك" بالعطف على "ليت" فتقيم العاطف مقام العامل المعطوف عليه، لا مقام المعمول فيه، لأن ذلك المضمر، لا يجوز أن يعطف عليه، ولا أن يؤكد، ولكن تعطف على "ليت"، يريد: تحمل الجملة بعدها عليها، ولا يجوز أن ينتصب قوله "كفافاً" "بليت" وكان مع ما بعدها في موضع خبرها لأمرين: أحدهما: الابتداء بالنكرة. والثاني: أن "كان خيرك" ليس هو "كفافاً"، ولا يعود منه ذكر إلى المبتدأ، فبطل، ولم يبق إلا أن يكون كان واسمها وخبرها، خبر "ليت" واسم "ليت" ضمير الأمر. قال أبو الفتح: والتقدير: فليته، أو فليتك فاعلمه. وأنشد أبو علي في الباب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (22) أعدْ نظراً يا عبدَ قيسٍ لعلَّما ... أضاءتْ لكَ النارُ الحمارَ المقيدا هذا البيت للفرزدق. الشاهد فيه إلغاء "لعل" عن العمل، لما دخلت عليها "ما" كفتها عن العمل، ووطأتها للجمل الفعلية، وأزالت اختصاصها بالجمل المبتدئية، ومثله قول الأسود بن كراع: تحلَّلْ وعالجْ ذاتَ نفسكَ وانظرنْ ... أبا جعلٍ لملَّما أنتَ حالمُ لغة البيت "لعل" كلمة معناها: الطمع والإشفاق، وقد جاءت"عل" بغير لام، قال الراجز: يا أبتا علك أو عساكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 واللام عند بعض النحويين زائدة مؤكدة، وسيبويه يجعلها حرفاً واحداً غير مزيد، وحكى أبو زيد: أن لغة عقيل، "لعل" زيدد منطلق، بكسر اللام الأخيرة، وجر "زيد" قال كعب بن سعد الغنوي: فقلتُ ادعُ أخرى وارفعِ الصوتَ ثانياً ... لعلِّ أبي المغوارِ منكَ قريبُ وقال أبو الحسن الأخفش: ذكر أبو عبيدة أنه سمع"لعل" مفتوحة، في لغة من يجريها في قول الشاعر: لعلَّ الله يمكنني عليها ... جهاراً منْ زهيرٍ أوْ أسيدِ وقالوا: لعلت، فأنثوا "لعل" بالتاء، ولم يبدلوها "هاء" في الوقف، كما لم يبدلوها في "ربت" وثمت، ولات، لأنه ليس للحرف قوة الاسم، وتصرفه. وقالوا: لعنك، ورعنك، ولغنك، كل ذلك على البدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قال يعقوب: "قال عيسى بن عمر: سمعت أبا النجم يقول: أغدُ لغنَّا في الرهانِ نرسلهْ أراد: لعلنا، وكذلك لأننا، قال يعقوب سمعت أبا الصقر ينشد: أريني جواداً مات هزلاً لأنَّني ... أرى ما ترينَ أو بخيلاً مخلدا أراد: لعلني، وقال امرؤ القيس: عوجا على الطَّلل المحيل لأنَّنا أراد: لعلنا، و"لعل" كلمة للعاثر، كلعاً، قال الهذلي: وإذا يعثرِ في تجمازهِ ... أقبلت تعسٌ وبدَّته لعل ويقال: أضاء الشيء الشيء: أناره، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أضاءتْ لهمْ أحسابهم ووجوههم ... دجا اللَّيلِ حتَّى نظَّمَ الجزع ثاقبهُ ويقال: ضاءت النار، تضوء ضوءاً وضياء، وأضاءت: ضد أظلمت، وكذلك غير النار، وقال العباس في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنتَ لمَّا ظهرتَ أشرقت الأ ... رضُ وضاءتْ بنوركَ الأفقُ قال الله تعالى: (كلَّما أضاء لهم مشوا فيه) . معنى البيت إنه يخاطب عبد قيس بن جعفر بن ثعلبة اليربوعي، فيقول له: انظر وأعد نظرك، لئلا يذهب عنك حمارك المقيد، يهزأ به، يشير إلى أن ناره ضعيفة يسيرة، ليس لها م الضياء إلا مقدار ما يبصر به حماره، إذا أعاد النظر وأنعمه. وأشار بتقييده حماره إلى ذلته وخموله، فيرقبه لئلا يذهب فيرعى ما ليس له، ويشير إلى أنه لا مال له، ولا هو من أهل الخيل والإبل. وقيل: إنما يخاطب البعيث، وأنه شبهه بالحمار، لقلة ما عنده من الغنى وأنه أمر بالنظر إلى نفسه في النار، فهو أقوى لنظره، وأشد. وهذا البيت من قصيدة أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 رأى عبدُ قيسٍ خفقةً شوَّرتْ له ... يدا قابسٍ ألوى بها ثمًّ اخمدا إعدْ نظراً ........... البيت حمارَ كليبيينِ لم يذكروا لهم ... رماحاً ولمْ يلفوا على الخيلِ روَّدا فما شهدوا يوم النسارِ ولم تعد ... نشاؤهمُ منهم كمياً موسَّدا ويروى أن جريراً، لما قال كلمته التي أولها: غداً باجتماعِ الحيِّ نقضي لبانةً ... وأقسمُ لا تقضى لبانتها غدا إذا صدعَ البينُ الخليطَ وحاولتْ ... بقوٍّ شهاليل النَّوى أن تبدَّدا وفي هذه القصيدة يقول: أقولُ له: يا عبدَ قيسٍ صبابةً ... بأيٍّ ترى مستوقدَ النارِ أوقدا فقال: أرى ناراً يشبُّ وقودها ... بحيثُ استفاضَ الجزعُ شيحا وغرقدا أعجب الناس بها، وتناشدوها، فقال جربر: كأنكم بابن القين قد قال: أعدْ نظراً يا عبدَ قيسٍ لعلَّما ... أضاؤتْ لكَ النَّارُ الحمارَ المقيَّدا فلم يلبثوا أن جاءهم الفرزدق بهذا البيت، فتناشد الناس القصيدة، فقال الفرزدق: كأنكم بابن المراغة قد قال: وما عبتَ منْ نارٍ أضاءَ وقودها ... فراساً وبسطامَ بنْ قيسٍ مقيَّدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فإذا هي قد جاءت لجرير، وفيها هذا البيت، وهذا من المواردة. ومثله ما يروى: أن الفرزدق وجريراً خرجا مرتدفين إلى هشام بن عبد الملك، فتزل جرير يبول، فجعلت الناقة تتلفت، فضربها الفرزدق وقال: علامَ تلفّتينَ وأنتِ تحتي ... وخير الناس كلِّهمُ أمامي متى تردي الرُّصافةَ تستريحي ... من التهجيرِ والدَّبرِ الدَّوامي فقال: الآن يجيء جرير، فأنشده هذين البيتين، فيرد علي، ويقول تلفَّتْ أنَّها تحتَ ابنِ قينٍ ... إلى الكيرينِ والفاسِ الكهامِ متى ترد الرُّصافةَ تخزَ فيها ... كخزيكَ في المواسم كلَّ عامِ قال: فجاء جرير والفرزدق يضحك، فقال: ما يضحكك يا أبا فراس؟ ?! فأنشد البيتين. فقال جرير: تلفَّتُ أنَّها تحتَ ابنِ قينٍ وأنشده البيتين بأعيانهما، كما قال الفرزدق سواء. فقال الفرزدق: والله لقد قلت هذا! فقال له جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟! ومن طريف تواردهما أيضاً، أن الفرزدق مر عليه راكب، وهو بالبصرة، فقال له: من أين وجهك؟ فقال: من اليمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فقال: هل لك عهد بابن المراغة؟ فقال: نعم. قال: فهل أحدث شعراً علقت منه شيئاً؟ قال: نعم. قال: فهات منه فأنشده: هاج الهوى لفؤادكَ المهتاجِ قال الفرزدق: فانظرْ بتوضحَ باكرَ الأحداجِ قال فقلت: هذا هوى شغفَ الفؤادَ مبرِّحُ فقال الفرزدق: ونوىً تقاذفُ غيرُ ذاتِ خلج قال ثم قلت: ليتَ الغرابَ غداةَ ينعبُ دائياً فقال الفرزدق: كانَ الغرابُ مقطَّع الأوداجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فما زلت أقول: صدراً، ويقول عجزاً، حتى ظننت أنه قال القصيدة، وسرقها جرير منه. ثم قال: ويحك! دعنا من هذا، أذكر الحجاج فيها؟! قلت: نعم، قال: إياه أراد. ومثله ما يحكى أن سليمان بن عبد الملك، أتي بأسرى من الروم، نحواً من أربع مئة، فجعل يدفع الأسرى إلى وجوه من معه فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلاً، فدست إليه بنو عبس سيفاً قاطعاً، فضرب به، فأبا رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسير، ودفع إليه سليمان سيفاً، وقال: اقتله به. فقال: لا: بل أضربه بسيف مجاشع، واخترط سيفه، فضربه به، فلم يغن شيئاً. فقال له سليمان: والله لقد بقي عليك عارها وشنارها. فذكر أن الفرزدق، قال لرواته وأصحابه، كأني بابن المراغة قد قال: بسيفِ أبي رغوانَ سيفِ مجاشعٍ ... ضربتَ ولمْ تضربْ بسيف ابنِ ظالمِ ضربتَ بهِ عند الإمامِ فأرعشتْ ... يداكَ وقالوا: محدث غيرُ صارمِ قال: فما لبث إلا يسيراً، حتى جاءت القصيدة، وفيها هذان البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الإعراب اعلم أن "ما" إذا دخلت على "أن" وأخوتها، جاز إعمال بعضها، وإلغاء جميعها. فالملغى منها "إنما" لا يجوز عند الخليل إعمالها. والمعمل منها، قد يجوز إلغاؤه "ليتما" وأما "لعلما وكأنما"، فالإلغاء فيهما أحسن، وقد يجوز إعمالها، "ولكنما" بمنزلة "إنما". والفرق بين بعضها وبعض، أن العرب تزيد"ما" على وجهين: أحدهما: أن تولي الشيء ما لا يليه، وتخرجه عن حكمه، كقولهم: ربما يقوم زيد، وقلما يجلس عمرو. والوجه الثاني: توكيد غير مغير الكلام عن حكمه كقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم) و (فبما رحمة من الله) . فزادت "ما" في "إن" وأخواتها على الوجهين. وتعتبر زيادتها منها، بأن تنظر إلى ما يحسن اتصال الفل به، ويكثر استعماله معه، فتعلم أنه قد زال عن حكمه الأول، وصار من حروف الابتداء، فينبغي أن تلغيه، كقولك: إنما قام زيد و (إنما يخشى الله من عباده العلماء) . وما كان بخلاف هذا، فالأولى أن يجري على أصله من العمل، كقولك: ليتما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 زيد منطلق، ألا ترى أنك لو قلت: ليتما قام زيد، لم يحس حسن إنما قام زيد، فإعمالها أحسن. وإما "لعلمَّا" فاستعمال الفعل بعدها أكثر شيء، فالإلغاء فيها أحسن من الإعمال. والفعل بعد "كأنما" مستعمل كثير، فإعمالها ضعيف جداً، ألا ترى أنك تقول: كأنم قال زيد، (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلما) . و"لكنما" في حسن الفعل بعدها، بمنزلة "إنما" فأجراها مجراها في الإلغاء. وقوله: "أضاءت" فعل ماض، في موضع الحال، وتقديره: لعلما تضيء لك النار الحمار المقيدا، ومثله قول سلمة الجعفي: وكنتُ أرى كالموتِ منْ بينِ ليلةٍ ... فكيفَ ببينٍ كانَ ميعاده الحشرُ وضع "كان" موضع "يكون" ومثله كثير. قال أبو علي: سألت أبا بكر يوماً عن الأفعال، يقع بعضها موقع بعض، فقال: ينبغي للأفعال، أن تكون كلها مثالاً واحداً، لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها، لاختلاف أحوال أزمنتها، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها موقع بعض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قال أبو الفتح: "وهذا كلام من أبي بكر عال سديد، فاعرفه". وأنشد أبو علي في باب "ظننت" وأخواتها. (23) فإنْ تزعميني كنتُ أجهلُ فيكمُ ... فإني شريتُ الحلمَ بعدكِ بالجهلِ هذا البيت لأبي الهذلي. الشاهد فيه وقوع: "كنت أجهل فيكم"، هذه الجملة موقع المفعول الثاني لتزعميني، كما تقول: زعمت زيداً أبوه منطلق. لغة البيت زعمت: بمعنى ظننت، وتكون بمعنى: الكذب، وفي التنزيل (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) . وفيه (فقالوا هذا لله بزعمهم) . وهذا مما يتعدى إلى مفعولين، فأما قول النابغة: زعم الغداف بأنَّ رحلتنا غداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقوله: زعم المهامُ بأنَّ فاها باردٌ فقد تكون الباء زائدة كقوله: سودُ المحاجر لا يقرأنَ بالسُّورِ ويحتمل أن تكون، "زعم"، هنا بمعنى: شهد، فعداه كما تتعدى شهد، كقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) . ومصدره: زَعْمٌ، وزُعْمٌ، وزِعْمٌ، وزَعَمَ يزعم زعماً وزعامة: إذا ضمن. قال: تقول هلكنا إنْ هلكتَ وإنَّما ... على اللهِ أرزاقُ العباد كما زعمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وشريت: من الأضداد، يقال: سريت الشيء شراء: بمعنى بعته وبمعنى اشتريته، قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) . أي: يبيعها، وقال تعالى: (وشره بثمن بخس) . أي: باعوه قال: إنَّا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ ... عنهُ ولا هو بالأبناءِ يشرينا يريد: بعن، وبرد: عبده. ومعنى البيت أنه خاطب محبوبته، يقول: إن زعمت أنني جهلت في حبكم، فصدقت، لأنني بعت حلمي، واشتريت الجهل، فلا أعلم سواكم، ولا أهوى (إلا) ما تهوين، وقال: فيكم: تعظماً لها، وإقامة الوزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقبل البيت: وما أمُّ خشفٍ بالعلايةِ ترتعي ... وترمقُ أحياناً مخاتلةَ الحبلِ بأحسنَ منها يومَ قالتْ تذلُّلاً ... أتصرمُ حبلي، أمْ تدومُ على وصلي فإنْ تزعميني كنتُ أجهلُ فيكمُ ... فإنّي شريتُ الحلمَ بعدكِ بالجهلِ وقال صحابي قدْ غبنتَ وخلتني ... غبنتُ فما أدرى أشكلهم شكلي على أنَّها قالتْ: رأيتُ خويلداً ... تنكرَ حتَّى عادَ أسودَ كالجذلِ وأنشد أبو علي في الباب: (24) أبا الأراجيز يا بن اللَّؤمِ توعدني ... وفي الأراجيزِ خلتُ اللُّؤمُ والخورُ هذا البيت للعين المنقري، واسمه منازل بن ربيعة. وقال صاحب"زهر الأدب": اسمه الحسين بن إبراهيم. يهجو رؤبة بن العجاج، وقيل: يهجو العجاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الشاهد فيه إلغاء خلت، لتوسطها، ورفع"اللؤم" بالابتداء، "وبالأراجيز" موضعه رفع، بأنه خبر المبتدأ. لغة البيت توعدني: تهددني، يقال: أوعدته بكذا إيعاداً في الشر. قال: أوعدني بالسِّجنِ والأداهمِ. وقل ابن الأعرابي: أوعدته خيراً، وهو نادر، وأنشد: يبسطني مرَّةً ويوعدني ... فضلاً طريفاً إلى أياديهِ وقال الفراء: وعدته خيراً ووعدته شراً، بغير ألف، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته، وفي الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد والوعيد. واللؤم: البخل ودناءة الخلق: خال الشيء، خيلاً وخيلاناً، وخال المال، وعلى الشيء خولاً، تعهده، وأصلحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والخور: الضعف والجبن، يقال: خار خوراً، وخار الثور خواراً، صلح. وخار البرد: انكسر. وخار الله لك خيراً: صنعه. والاسم: الخيرة، وخرته: غلبته في المخايرة. معنى البيت أنه يخاطب رؤبة بن العجاج، يقول له: أنت راجز، لا يحسن التقصيد، والتصرف في أنواع الشعر. جعل ذلك دلالة على لؤم طبعه، وخور نفسه، ونقصاه. ويروى هذا البيت: خلتُ اللؤمُ والفشلُ وبعده: إنِّي أنا جلا إنْ كنتَ تنكرني ... يا رؤبَ والحيَّةُ الصماءُ في الجبل ما في الدوائر من رجليَّ منْ عنتِ ... عندَ الرِّهانِ، ولا أكوى من العقلِ كذا أنشده الجاحظ، في كتاب الحيوان، على الإقواء ورواه غيره. وفي الأراجيزِ رأسُ النَّوكِ والفشلِ وأنشد أبو علي في باب أسماء الفاعلين والمفعولين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (25) سلَّ الهمومَ بكلِّ معطي رأسه ... ناجٍ مخالط صهبةٍ متعيِّسِ هذا البيت للمرار الأسدي. الشاهد فيه إضافة اسم الفاعل وجهة التخفيف، وإن كان بمعنى الاستقبال، مراعاة للاسمية التي هي أصله. ومعناه الانفصال والعمل، ولذلك بقي"معطي رأسه" على نكرته، فوصف بالنكرة التي بعده، والدليل على تنكيره أيضاً دخول"كل" عليه، إذ لا تدخل إلا على النكرات، وكذلك"رب". لغة البيت أراد: بكل بعير معطي رأسه، أي: ذلول، منقاد. والناجي: الريع، والنجاء: السرعة. والصهبة: سواد يضرب إلى الحمرة، وهو نجار الكرم، والعتق. والمتعيس والعيس: الأبيض، وهو أفضل ألوان الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والعيس: ماء الفحل، وقيل: ضرابه، وظبي أعيس: أي: أبيض وجمعه: عيس. وبعد البيت: مغتالِ أحبلهِ مبينٍ عتقه ... في منكبٍ زبنَ المطيِّ عرندس وأنشد أبو علي في الباب: (26) يوماً تراها كشبهِ أرديةِ ال? ... عصبِ ويوماً أديمها نغلا هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. الشاهد فيه فصله بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ضرورة، فصل بقوله: "يوماً" بين الواو و"أديمها". لغة البيت العصب: من برود اليمن موشاة، يعصب غزلها، ثم يدرج، ثم يصبغ، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يحاك. وليس من برود الرقم ولا يجمع، إنما يقال: برد عَصَبٌ وبرود عَصْبٌ. والعصب أيضاً: الطي والشد. والعصب: جفوف الريق بالفم، قال: يصلِّي على منْ ماتَ منَّا عريفنا ... ويقرأُ حتَّى يعصبَ الرِّيقُ بالفمِ وقال آخر: يعصبُ فاهُ الرِّيق أيَّ عصبِ ... عصبَ الجبابِ بشفاهِ الوطبِ والعصب أيضاً: جمع عصبة، وهو كل شجرة تلتوي على الشجر، ولها ورق ضعيف قال: إنَّ سليمى علّقتْ فؤادي ... تنشُّبَ العصبِ فروعَ الوادي وأديم الأرض، وأدمتها: وجهها. والنغل: الفساد، وأصله في الجلد، يقال: نغل الجلد في الدباغ ينغل، نغلاً، فهو نغل. ومعنى البيت مفهوم. يقول: يوماً ترى الأرض بالنور والنبات كأردية العصب، ويوماً تراها مختلفة سوداء مغبرة، كالجلد النغل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الإعراب قد تقدم موضع الشاهد من البيت، وقد جاء في الكتاب العزيز، (فبشرناها باسحق، ومن وراء اسحق يعقوب) . في قراءة من جعل "يعقوب" في موضع جر، وعليه تلقاه القوم، من أنه مجرور الموضع، والآية أصعب مأخذاً من البيت، من قبل أن حرف العطف في الآية ناب عن الجار الذي هو الباء في قوله: "بإسحاق" وأقوى أحوال حرف العطف، أن يكون في قوة العامل قبله، وأن يلي من العمل ما كان الأول يليه. والجار لا يجوز فصله من مجروره. وهو في الآية، قد فصل بين الواو ويعقوب، بقوله: (ومن وراء إسحاق) . وقلنا إن الفصل بين الجار والمجرور لا يجوز، وهو أقبح منه بين المضاف والمضاف إليه، وقال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فلو كنتَ في خلقاءَ أو رأسِ شاهقٍ ... وليسَ إلى منها النزول سبيلُ ففصل بين الجار والمجرور بالظرف، الذي هو"منها" وليس كذلك حرف العطف في قوله: "ويوماً أديمها نغلا"، لأنه عطف على الناصب، الذي هو "ترى" فكأن "الواو" أيضاً ناصبة، والفصل بين الناصب ومنصوبه، ليس كالفصل بين الجار ومجروره، وإذا جاء بين لجار ومجروره، كان بين الناصب ومنصوبه أسهل. ويحتمل في الآية، أن يكون "يعقوب" في موضع نصب، بفعل مضمر، دل عليه قوله: (فبشرناها بإسحق) ، والمعنى: آتيناها يعقوب، فإذا كان هذا، لم يكن فيه فصل. وقد جاء في الشعر، الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه، فمن ذلك قول لبيد: فصلقنا في مرادٍ صلقةً ... وصداءٍ ألحقتهمْ باالثَّللْ ففصل "بصلقة" بين "مراد" وصداء، وفصل" بصداء" بين "صلقة" وصفتها، وقال الآخر: ولقدْ نهيتكَ أنْ تكلِّفَ نائباً ... منْ دونه فوتٌ إليكَ ومطلبُ ففصل "بإليك" بين"فوت ومطلب". قال أبو الفتح، عثمان بن جني: "وإذا جاز الفصل بين المفردين، كان بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الجملتين أجود، لاستقلال كل واحد منهما بنفسها، وحاجة المفرد إلى غيره". وقبل البيت: الأرضُ حمَّالةٌ لما حملَ الل ... له فما إن يردّ ما حملا والهاء في"تراها" راجعة إلى الأرض، فاعلمه. وأنشد أبو علي في الباب: (27) الحافظو عورةَ العشيرةِ لا ... يأتيهم منْ ورائنا وكفُ هذا البيت لقيس بن الخطيم، ويقال: لعمرو بن امرؤ القيس بن ثعلبة الخزرجي. الشاهد فيه حذف النون من "الحافظين" تخفيفاً، لطول الاسم، ونصب ما بعده، على تقدير: ثبات النون، والخفض جيد، وكلاهما عربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ومما حذفت فيه النون تخفيفاً، بطول الاسم بالصلة، قول غياث بن غوث: أبني كليبٍ إنَّ عمَّي اللَّذا ... قتلا الملوكَ وفككا الأغلالا وقال الأشهب بن رميلة: إنَّ الذي حانتْ بفلجٍ دماؤهمْ ... همُ القومُ كلُ القومِ يا أمَّ خالد أراد: الذين، فحذف النون. لغة البيت العورة هنا: المكان الذي يخاف منه العدو. والعورة: كل أمر يستحيا منه، والعورة: الخلل في الثغر ونحوه، وقد يوصف به منكوراً، فيكون للواحد، والاثنين، والجميع، بلفظ واحد وفي التنزيل: (إن بيتنا عورة) فأفرد الوصف، والموصوف جمع. والعورة أيضاً: كل ممكن للستر، والعورة: الساعة التي هي قمن من ظهور العورة (فيها) وهي ثلاث ساعات، ساعة قبل طلوع الفجر، وساعة عند نصف النهار، وساعة بعد العشاء الآخر. وفي التنزيل (ثلاث عورات لكم) أمر الله تعالى الولدان، والخدم ألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يدخلوا في هذه الساعات، إلا بتسليم منهم، واستئذان. والعشيرة: القبيلة، وقيل: عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون. والجمع: عشائر. قال أبو علي: قال أبو الحسن: ولم يجمع جمع سلامة، لم يقولوا: عشيرات. وقرأ أبو بكر، عن عاصم في السبع (وعشيراتكم) في سورة براءة وهو مما يرد قول أبي الحسن. والوكف: الإثم، وقيل: العيب، ويروى: "نطف": وهو الذنب، وقيل: النطف: اللطخ بالعيب. والنطف: اللؤلؤ الصافي. معنى البيت وصف بأنهم يحفظون عورة عشرتهم، إذا انهزموا، وبحمونها من عدوهم. وقبل البيت: أبلعْ بني جحجبى وقومهم ... خطمةَ أنَّا وراءهم أنفُ وأنَّنا دونَ ما يسومهم الأع ... داءُ منْ ضيمِ خطَّةٍ نكفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وبعده: إنَّ سميراً أبتْ عشيرته ... أن يغرموا فوق حق ما يطفُ نحنُ بما عندنا وأنتَ بما ... عندك راضٍ والرَّأيُ مختلفُ وأنشد أبو علي في باب المصادر التي أعملت عمل الفعل. (28) فولا رجاءُ النَّصرِ منكَ ورهبةٌ ... عقابكَ قدْ صاروا لنا كالمواردِ قائل هذا البيت مجهول. الشاهد فيه إعمال المصدر منوناً فيما بعده، وهو قوله: "ورهبة عقابك" على معنى: وأن نرهب عقابك، ومثله قول الآخر: أخذتُ بسجلهم فنفختُ فيه ... محافظةً لهنَّ أخا الذِّمامِ وقول الآخر: بضربٍ بالسَّيوفِ رؤوسَ قومٍ ... أزلنا هامهنَّ عنِ المقيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لغة البيت العقاب: مصدر عاقبته بذنبه معاقبة، وعقاباً، إذا أخذته به، والاسم: العقوبة. معنى البيت يقول: لولا رجاؤنا نصرك، إيانا عليهم، ولولا رهبتنا لعابك، إن انتصفنا منهم بأيدينا، لأذللناهم، ووطئناهم كما توطأ الموارد، وهي الطرق إلى المياه، وخصها لأنها أعم الطرق. وأنشد أبو علي في الباب: (29) أمنْ رسمِ دارٍ مربعٌ مصيفُ ... لعينيكَ منْ ماءِ الشؤونِ وكيفُ هذا البيت للحطيئة، واسمه جرول، ويكنى أبا ملكية. الشاهد فيه إضافة المصدر، الذي هو"رسم" إلى المفعول ومعه الفاعل، وتقديره: أمن أجل أن رسم داراً مربع ومصيف. لغة البيت الرسم هنا: بقية الأثر، والرسم: الركية، تحفرها، ثم تدعها، فتندفن من قبل أن تستنبطها، وجمعها: الرسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 والمربع: زمن الربيع، والمصيف: المنزل في الصيف والمصيف: زمن الصيف. ويحتمل أن يكون المصدر من صاف، يصيف، والمربع أيضاً: الموضع الذي يرتبع فيه. والشؤون هنا: عروق الدمع. والشؤون أيضاً: تمائم في الجمجمة، واحدها: شأن. والشؤون أيضاً: الأمور، واحدها: شأن. قال: أخو خمسينَ مجتمع أشدِّي ... ونجَّذني مداورة الشؤون وقوله"وكيف" أي: سائل، يقال: وكف المطر والدمع والبيت، وكوفاً، ووكيفاً، ووكافاً، وأوكف أيضاً. وبعده: تذكَّرتُ فيها أهلها فتبادرتْ ... دموعٌ وأصحابي عليَّ وقوفُ رشاشٌ كغربيْ هاجريٍّ كلاهما ... له داجنٌ بالكرَّتينِ عليفُ يمدح بهذه القصيدة سعيد بن العاصي، لما ولي الكوفة، وفي مدحه يقول: إليكَ سعيدَ الخيرِ مهامهاً ... يقابلني آلٌ بها وتنوفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأنشد أبو علي في الباب: (30) قدْ كنتُ داينتُ بها حسَّانا مخافةَ الإفلاسِ واللَّيانا يحسنُ بيع الأصل والقيانا هي لزياد العنبري، ورويت لرؤبة. الشاهد فيه نصب "الليانا" حملاً على موضع "الأصل" لأن المصدر إذا أضيف إلى المفعول، جاز في المعطوف الحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى، والتقدير فيه: داينت لأجل أن خفت الإفلاس والليانا، والتقدير في الثاني: يحسن أن يبيع الأصل والقيانا. ويجوز أن ينتصب "الليانا" على وجهين غير الأول. ويجوز أن ينتصب على تقدير: ومخافة الليان، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن ينتصب على تقدير: ولليان، فلما أسقط الخافض انتصب بالفعل، فيكون مفعولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لغة البيت داينت: بعت بالدين هنا، ودان الرجل ديناً: أخذ بالدين. ودان أيضاً: كثر دينه، قال: قالتْ أمامهُ ما لجسمكَ شاحباً ... وأراكَ ذا همٍّ ولستَ بدائنِ ودنته: أقرضته، وأيضاً: استقرضت منه، وأدان الرجل: عامل بالدائن. وقال أبو ذؤيب: أدانَ وأنبأهُ الأولونَ ... بأنّ المدان مليُ وفي والليان: مصدر لويته بالدين ليا، وليانا، إذا مطلته، وهذا مثال قليل في المصادر، لم يأت إلا في هذا، وفي قولهم: شنئته، شنآناً فيمن اسكن النون. والقيان: جمع قينة، وهي الأمة مغنية، وقيل: القينة: المغنية خاصة، وقيل: القينة من النساء: البيضاء الوضيئة، والقينة أيضاً: فقرة بين الوركين. وأنشد أبو علي في الباب: (31) حتَّى تهجَّرَ في الَّرواحِ وهاجهُ ... طلبُ المعقِّبِ حقَّه المظلومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 هذا البيت للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر، وكنيته أبو عقيل. الشاهد فيه وصف "المعقب" على الموضع، بقوله: "المظلوم" لما كان "المعقب" في المعنى فاعلاً، ومثله قول بعض الهذليين. السَّالكُ الثُّغرةَ اليقظان كالئها ... مشيَ الهلوكِ عليهِ الخيعلُ الفضلُ فا "لفضل" صفة "للهلوك" على الموضع، لأن "الهلوك" فاعل. لغة البيت تهجر: دخل في الهاجرة وهو نصف النهار. والرواح: من لدن زوال الشمس إلى الليل. والمعقب: الذي يتبع عقب الإنسان في حق، وهو الذي يرجع في حقه بعدما تركه. معنى البيت يصف حماراً وأتانا تقدمها إلى الماء، شبه به ناقته. وقبل البيت: لولا تسلِّيكَ اللَّبانةَ حرةٌ ... حرجٌ كأحناءِ الغبيطِ عقيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 حرفٌ أَضرَّ بها السّفارُ كأنها ... بعدَ الكلالِ مسدَّمٌ محجومُ أو مسحلٌ شنجٌ عضادةَ سمحجٍ ... بسراتها ندب له وكلومُ جونٌ بصارةَ أقفرتْ لمرادهِ ... وخلالهُ السُّوبانُ فالبرعومُ وتصيّفا بعدَ الرَّبيعِ وأحنقا ... وعلاهما موقودهُ المسمومُ منْ كلِّ أبطحَ يخفيان غميرهُ ... أو يرتعانِ فبارضٌ وجميمُ حتَّى إذا انجردَ النَّسيلُ كأنَّهُ ... زغبٌ يطيرُ وكرسفٌ مجلومُ ظلَّتْ تخالجهُ، وظلَّ يحوطها ... طوراً ويربأُ حولها ويحومُ يوفي ويرتقبُ النَّحادَ كأنَّهُ ... ذو إربةٍ كلَّ المرامِ يرومُ حتَّى تهجَّرَ في الرَّواح وهاجهُ ... طلبُ المعقّبِ حقَّهُ المظلومُ الإعراب نصب "طلب المعقب"، على المصدر المشبه بهن أي: يطلب الماء طلباً، مثل طلب المعقب حقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ويجوز أن ينتصب على المفعول له. أي: وهاجها لطلب الماء. ومن رفع جعله فاعلاً "لهاجه"على الاتساع والتشبيه، أي: وهاجه طلب الماء، كطلب المعقب، والنصب الوجه. ويجوز عند أبي علي، أن يرتفع "المظلوم" بقوله "حقه"، جعله فعلاً ماضياً، والضمير فيه، مفعول. وقيل: "المظلوم"بدل من الضمير في المعقب. ويروى: "وهاجها" أي، وهاج العير الأتان، ويروي: "وهاجه" أي: هاج العير طلب الماء. وأنشد أبو علي في الباب: (31) ضعيفُ النِّكاية أعداءهُ ... يخالُ الفرارَ يراخي الأجل قائل هذا البيت مجهول، وذكر أنه مصنوع. الشاهد فيه إعمال المصدر، وفيه الألف واللام، وهو قوله: "النكاية" نصب به"أعداءه" لمنع الألف واللام من الإضافة، ومعاقبتهما التنوين، ومثله قول الآخر: ولا تحسبنَّ القتلَ محضاً شريتهُ ... نزاراً ولا أنَّ النفوس استقرتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أي: ولا تحسبن القتل نزاراً محضاً شريته، ففيه التقديم والتأخير، ولا يفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي، وهو المفعول الثاني، "لتحسبن" ويحتمل أن ينتصب قوله: "نزاراً" بفعل مضمر يدل عليه "القتل"، أي قتلت نزاراً، ولا شاهد فيه على هذا. لغة البيت النكاية: الإيقاع بالعدو، ويقال: نكاه، ينكيه، نكاية. والأعداء: جمع عدو، الذي هو ضد الصديق، ويقع للواحد، والاثنين، والجميع، والأنثى والذكر، بلفظ واحد، وفي التنزيل: (فإنهم عدو لي) . قال سيبويه: عدو وصف، ولكنه ضارع الاسم، وقد يثنى ويجمع قال سيبويه: "ولم يكسر على "فُعُلٍ" وإن كان كصبور، كراهية الاعتلال والإخلال. ولم يكسر على "فِعْلانٍ" كراهية الكسر قبل الواو، لأن الساكن ليس بحاجز حصين". والأعادي: جمع الجمع، والعِدى، والعُدى: اسمان للجمع. وقالو: في جمع عدوة: عدايا، ولم يسمع في الشعر. والضعيف: خلاف القوي، ويقال: ضعف ضعفاً، وضَعَفَ، الفتح عن اللحياني، فهو ضعيف، والجمع: ضعفاء، وضعفى، وضعاف، وضعفة وضعافى، قال: ترى الشيوخَ الضعافى حولَ جفنتهِ ... وتحتهمْ منْ جحاني دردقٍ شرعهْ ونسوة: ضعيفات، وضعائف، وضعاف، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لقدْ زادَ الحياةَ إليّ حبّاً ... بناتيَ إنهَّنَّ من الضِّعافِ ويخال: يظن، خيلاً، وخيلاناً، وهو"فَعِلُ يَفْعَلُ". والتراخي: التأخير. معنى البيت يهجو رجلاً ويصفه بالضعف، عن نكاية أعدائه، وأنه يلجأ إلى الفرار ويظنه يؤخر أجله. الإعراب من النحويين من ينكر إعمال المصدر وفيه الألف واللام، لخروجه عن شبه الفعل، فينتصب ما بعده بإضمار مصدر منكور منون، ويقدره ضعيف النكاية، نكاية إعداءه، وهذا يلزمه مع التنوبن المصدر، لأن الفعل لا ينون، فقد خرج المصدر عن شبهه بالتنوين، فينبغي على هذا المذهب ألا يضعف عمله. قال أبو علي: "إنما ضعف عمله، لأنه عرف تعريفاً لا ينوي به الانفصال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ولم يتصل باسم يقوم مقام الفاعل، كاتصال المصدر المضاف، فقد باين الفعل، ألا ترى أن المصدر المعرف بالإضافة، قد ينوي بإضافته الانفصال، كما ينوي باسم الفاعل في نحو: هذا ضارب زيد غداً، فصار المصدر المضاف إليه شبيهاً ونظيراً يحمل عليه، ولا نظر لمصدر عرف بالألف واللام، يحمل عليه في شبهه، ويرد إليه" وأنشد أبو علي في الباب: (33) لقدْ علمتْ أولي المغيرةِ أنَّني ... لحقتُ، فلمْ أنكلْ عن الضَّربِ مسمعا هذا البيت للمرار الأسدي، ونسبه الجرمي إلى مالك بن زغبة الباهلي. الشاهد فيه نصب"مسمع" بالضرب كالبيت الذي قبله. ويجوز أن ينتصب "بلحقت" على إعمال الأول، ويكون التقدير: لحقت مسمعاً، فلم أنكل عن الضرب إياه، لكنه حذفه، لأن المصادر يحذفها الفاعل والمفعول، ولا يجوز الحذف في الأفعال. والسيرافي أجاز حذف مثل هذا من الأفعال، ول يجز أبو علي في رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 من روى "ككرت" أن يكون "مسمعاً" نصباً "بكررت" بإسقاط حرف الجر، لوجود المندوحة دونه، ولفقدان الضرورة الداعية إليه. لغة البيت المغيرة: الخيل المغيرة، يقال: أغارت الخيل على العدو، إغارة بمعنى: أسرعت. معنى البيت يقول: لقد علمت أولى الخيل، أنني تقدمت، حتى لحقت، فلم أجبن عن الضرب مسمعاً، وهذا هو مسمع بن مالك الشيباني، سيد ربيعة بالعراق. وبعد البيت: وإنِّي لأعدي الخيلَ تعثرُ بالقنا ... حفاظاً على المولى الحريز ليمنعا ونحنُ جلبنا الخيلَ منْ سروِ حميرٍ ... إلى أنْ وطئنا أرضَ حميرَ نزَّعا وأنشد أبو علي في الباب: (34) كأنَّهُ واضحُ الأقربِ في لقحٍ ... أسمى بهنَّ وعزَّته الأناصيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 هذا البيت للأخطل، واسمه غياث بن غوث، ويكنى أبا مالك. الشاهد فيه قوله "وعزته" أراد: وعزت عليه، فحذف حرف الجر، فوصل الفعل، فنصب، ومثله قوله تعالى: (لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم) وقول الشاعر: تحنُ فتبدي ما بها من صبابةِ ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني أي، لقضى علي، وهو كثير. ويجوز أن يكون معنى"عزته" غلبته، كقول زهير: وعزَّته يداه وكاهله فعلى هذا لا شاهد له في البيت. لغة البيت واضح الأقراب: حمار أبيض الأخصار. واللقح: جمع لقوح، وهي الحلوب، واللقح: جمع لقحة ككسرة وكسر وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 والأناصيل: جمع أنصل، وأنصل: جمع نصال، فهو جمع الجمع، وأدخل الياء ضرورة. وقيل: هي جمع أنصول، وهو شلوك البهمى، والبهمى للواحد والجميع. وأسمى: أتى السماوة، وهي سماوة كلب، وهو ماء بالبادية. معنى البيت وصف بعيراًن فقال: كأنه في نشاطه، وقوته، حمار واضح الأقراب غلبه رعي السقا، لأنه كالنصل، يوجع أنفه، ومشافره. وقال: أسمى، كما يقال: أمنى الرجل، إذا أتى مني، وأنجد وأغار، إذا أتى نجداً والغور. قال الأعشى: نبيٌّ يرى ما لا ترونَ وذكرهُ ... (أغار لعمري) في البلادِ وأنجدا وكما يقال: أجلس الرجل، إذا أتى الجلس، وهو ما ارتفع عن الغور، قال الشاعر: إذا ما جلسنا لا تزالُ ترومنا ... سليمٌ لدى أبياتنا وهوازنُ وقال آخر: إذا أمُّ سرياحٍ غدتْ في ظعائنٍ ... جوالسَ نجداً كادت العينُ تدمعُ وقيل: إنه يصف ناقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقيل البيت ما يدل عليه: فسلَّها بأمونٍ اللَّيلِ ناجيةٍ ... فيها هبابٌ إذا كلَّ المراسيلُ قنواءَ نضاخةِ الذفرى مفرَّجةٍ ... مرفقها عن ضلوعِ الزّورِ مفتولُ تسمو كأنَّ شراراً بينَ أذرعها ... منْ ناسفِ المروِ منضوحٌ ومنجولُ كأنَّه واضح ......... البيت وأنشد أبو علي في باب الأسماء التي سميت بها الأفعال. (35) أعيَّاش قدْ ذاقَ القيونُ مرارتي ... وأوقدتْ ناري فادنُ دونكَ فاصطلي هذا البيت لجرير يهجو الفرزدق، وعياش بن الزبرقان، وهو ابن عمة الفرزدق. الشاهد فيه قوله: "دونك" وهي من الأسماء التي سميت بها الأفعال وموضع هذه الأسماء في الكلام الأمر والنهي، وهي على أربعة أضرب: مفردة، ومضافة، وحروف جر، ومعرفة بالألف والام. فما كان منها معنى فعل متعد، فهو يتعدى، وما كان منها في معنى ما لا يتعدى فهو غير متعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فالضرب الأول: المفرد ينقسم قسمين: متعد، وغير متعد. فالمتعدي: نحو"هلم"زيداً، اسم ائت زيداً. وقال الخليل: هي مركبة، وأصلها عنده: "ها" للتنبيه، ثم قال: "لم" أي: لم بناء، ثم ذكر كثر استعمالها، فحذفت الألف تخفيفاً، و"اللام" بعدها، وإن كانت متحركة، فإنها في حكم السكون، ألا ترى أن الأصل، وأقوى اللغتين، وهي الحجازية، إنما تقول: "إلمم"، فلما كانت "لام" "هلم" في تقدير السكون، حفت ألف "ها" كما تحذف لالتقاء الساكنين، فصارت "هلم". وقال الفراء: أصلها "هل" زجر وحث، ودخلت عليها "أم"، كأنها كانت هل أم، أي: اعجل وأقصد. وأنكر أبو علي الفارسي ذلك وقال: لا مدخل هنا للاستفهام. قال أبو الفتح: هذا لا يلزم الفراء، لأنه لم يدع أن "هل" ها هنا حرف استفهام وإنما هي عنده زجر وهي التي في قوله: ولقدْ يسمعُ قولي حيَّ هلْ قال الفراء: فألزمت: حذف الهمزة في "أم"، للتخفيف، فقيل: (هلم) . فالحجازيون يدعونها على حالة واحدة، للواحد والاثنين، والجماعة، قال الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 (والقائلين لإخوانهم هل إلينا) . وقال الراجز: يا أيُّها النَّاس ألا هلمَّه وبنو تميم يقولون: هلم لواحد، وللاثنين هلما، وللجميع هلموا، وللمؤنث هلمي، وللنساء هلممن. ومنها "رويدك" زيداً، اسم لأمهل، وأرود، والكاف لا موضع لها من الإعراب، إنما هي حرف خطاب ورويد زيداً، قال: رويدَ عليّاً جدُّ ما ثديُ أمهم ... إلينا ولكن بغضهم متماينُ ومنها "حيهل" اسم للاستدعاء وتستعمل متعدية، وغير متعدية، مثل"هلم" تقول: حيهل الثريد، بمعنى إئت الثريد، وبمعنى: تعال، فلا تعدية، ويستعمل"هل" بغير "حي" قال النابغة الجعدي: ألا حيَّيا ليلى وقولا لها هلا وتستعمل "حي" بغير "هل" في الأذان، وتعدى "بعلى"، كقولهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وبعضهم يقول: حي هلا الصلاة. ومثلها "تراكها ومناعها" بمعنى أتركها، ومنعها قال الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 تركها منْ إبلٍ تراكها وقال: مناعها منْ إبلٍ مناعها والقسم الثاني: الذي لا يتعدى، نحو: "صه صهْ" اسم: اسكت و"صه صه": اسم: اكفف، و"إيه" وأخواتها. الضرب الثاني: وهي الأسماء المضافة، وهي أيضاً تنقسم قسمين: متعدية، وغير متعدية. فأما متعدية: فنحو: "دونك" زيداً، اسم لخذه، و"عندك" زيداً، و"حذرك" زيداً، اسم لا تقرب زيداً، فهي نهي، وكذلك، "حذارك" زيداً. وأما ما لا يتعدى: فنحو: "مكانك" اسم لا ثبت. قال: مكانكِ تحمدى أو تستريحى و"بعدك" زيداً، اسم تأخر، فهذا أمر، و"فرطك" زيداً، اسم تقدم، و"أمامك" و"وراءك". الضرب الثالث: ما جاء مع حرف الجر، نحو"عليك" زيداً، اسم خذه، و"إليك": اسم تنح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الضرب الرابع: نحو: ما عرف بالألف واللام، تحو: "النجاءك" اسم أنج. وإنما بنيت هذه الأسماء، لتضمنها معنى لام الأمر. ألا ترى أن "صه" بمعنى: اسكت، وأن أصل: اسكت: لتسكت كما أن أصل قم: لتقم. فلما تضمنت هذه معنى لام الأمر شابهت الحرف، فبنيت. واعلم أنه لا يجوز أن تقول "صه" فتسلم، واكفف فتستريح، وذلك أنك إذا جئت بالفاء، فإنما تنصب، لتصورك في الأول معنى المصدر، وإنما يصح لك ذلك، باستدلالك عليهن بلفظ فعله، ألا ترى أنك لو قلت: زرني فأكرمك، فإنك إنما تنصبه، لأنك إنما تصورت فيه معنى، لتكن منك زيارة، فإكرام مني، فزرني دل على الزيارة، لأه من لفظه. فدل الفعل على مصدره. وليس كذلك "صه"، لأنه ليس من الفعل في قبيل ولا دبير، وإنما هو صوت واقع موقع حروف الفعل. فلما لم تكن "صه" فعلاً ولا من لفظه، قبح أن تستنبط منه معنى المصدر. فإن قيل: فقد تقول: أين بيتك فأزورك؟ فتعطف بالفعل المنصوب، وليس قبله فعل، ولا مصدر. قيل هذا محمول على معناه، لأن معنى: أين بيتك؟ أخبرني، أي: ليكن منك تعريف فزيارة مني. فإن قيل: فهلا جاز: صه فتسلم لأنه محمول على معناه، أي: ليكن منك سكوت فاستراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قيل: يفسد هذا من قبل أن "صه" لفظ، قد انصرف إليه عن لفظ الفعل، الذي هو "اسكت"، وترك، ورفض من أجله، فلو ذهبت تعاوده، أو تتصور مصدره، لكانت تلك معاودة له، ورجوعاً إليه، بعد الإبعاد عنه، والتحامي للفظه. فإن قيل: فما الفائدة في تسمية هذه الأفعال، بهذ الأسماء؟ فالجواب عن ذلك، من ثلاثة أوجه: أحدها: الاتساع في اللغة، ألا تراك لو احتجت في قافية إلى قولك: قدنا إلى الشَّام جيادَ المصرين لأمكنك أن تجعل إحدى قوافيها "دهدرين"، ولو جعلت هناك ما هذا اسمه، لفسد، وهذا واضح. والثاني: للمبالغة وذلك أنك في المبالغة، لا بد أن تترك موضعاً لموضع، إما لفظاً إلى لفظ، وإما جنساً إلى جنس. فاللفظ "عراض"، فهذا قد تركت إليه لفظ "عريض"، فعراض أبلغ إذ من عريض، وكذلك، رجل حسان، ووضاء أبلغ إذن من حسن، ووضئ، فإذا أريد بالفعل المبالغة في معناه، اخرج عن لفظه، ومعتاد حاله، من التصرف، فمنعه، وذلك نعم وبئس، وفعل التعجب. والثالث: ما في ذلك من الاختصار، وذلك أنك تقول: للواحد صه، وللاثنين صه، وللجماعة صه، وللمؤنث صه، ولو أردت المثال نفسه، لوجب فيه، التثنية، والجمع، والتأنيث. فلما اجتمع في تسمية هذه الأفعال ما ذكرنا، من الاتساع، والاختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والمبالغة، عدلوا إليها، وأذكر في البيت الذي يلي هذا، الأسماء التي سميت بها الأفعال في الخبر إن شاء الله. معنى البيت قوله"قد ذاق القيون مرارتي" أي: شدة كلامي، وفظاعة هجائي، وقوة عارضتي، والقيون: رهط الفرزدق ألا ترى إل قول جرير أيضاً: تصفُ السُّيوفَ وغيركم يعصى بها ... يا بن القيونِ وذاكَ فعلُ الصَّقل ويحتمل أن يريد: بالقيون مهاجيه، ويدل عليه قوله: ولمَّا اتَّقى القينُ العراقيُّ بإستهِ ... فرغتُ إلى القينِ المقيَّدِ في الحجلِ يعني البعيث والفرزدقن، حين قيد نفسه، وحلف ألا يزول منه، أو يحفظ القرآن، وقصته مع عياش بن الزبر مشهورة. وقوله: "وأوقدت ناري"، أي: تهيأت للهجاء والقول، فاستعارها لغة في وصف كلامه. ثم قال: "فادن" فأمره بالدنو، ثم قال: "دونك" أي: خذه من قرب، فأمره بالتناول. وقيل: دونك "تأكيد لقوله: "فادن" أو بدل منه، ثم قال: "فاصطلي" أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ثالث بمباشرة النار، التي هي الهجاء، والياء التي في قوله: "فاصطلي" ياء الإطلاق التي تلحق القوافي، لأن لام الفعل قد سقطت للجزم. قال أبو عبيدة: لما بلغ عياش بن الزبرقان قول جرير هذا: إني إذن لمقرور. وعياش هذا، هو ابن عمة الفرزدق، وأمه هنيدة بنت صعصعة وتسمى"ذات الخمار" لقولها: من جاء من نساء العرب بأربعة، يحل لها تضع خمارها عندهم كأربعتي فلها صرمتي، أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع وزوجي الزبرقان. وهذا البيت من قصيدة أولها: أمنْ عهد ذي عهدٍ تفيضُ مدامعي ... كأنَّ قذى العينينِ حبُّ قرنفلِ منِ البيضِ لمْ تظعنْ بفيدَ، ولمْ تطأْ ... على الأرض إلا نيرَ مرطٍ مرجَّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وأنشد أبو علي في الباب: (36) فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهله ... وهيهات خلُّ بالعقيق نواصله هذا البيت لجرير، يهجو الفرزدق، ويمدح عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. الشاهد فيه "هيهات" وهو اسم لبعد، وهو أحد الأسماء التي يسمى بها الفعل في الخبر. وفيه لغات، هيهاةَ، هيهاةً، هيهاتِ، هيهاتٍ، أيهاتَ، أيهاتاً، أيهاتِ، أيهاتٍ، أيهاتَ، أيهى. فمن فتح كتبها بالهاء، لأنها واحدة، لأنها واحدة، كأرطأة، وعلقاة. ومن كسر كتبها بالتاء، لأنها جماعة"هيهات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ومن نون، اعتقد تنكيرها، وتصور معنى المصدر النكرة، كأنه قال: بعداً بعداً، ومن لم ينون، اعتقد تعريفها، وتصور معنى المصدر المعرفة، كأنه قال: البعد، فجعل التنوين دليل التنكير، وعدمه دليل التعريف. و"هيهاة" من ذوات الأربعة المضعفة من الياء، من باب حاحيت، وصيصية، وأصلها بوزن "القلقلة" و"الحقحقة"، فانقلبت الياء ألفاً، لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فصارت "هيهاة"، "كالسلقاة"، و"الجعباة"، وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف "سلقاة"، و"جعباة"، زائدة وياء "هيهية" أصلاً، فلما جمعت، كان قياسها على قولهم: "أرطبات" "وعلقيات" أن "يقولوا فيها هيهات، إلا أنهم حذفوا هذه الألف، لالتقاء الساكنين، لما كانت في آخر اسم مبني، كما حذفوها في ذان، واللتان، وتان، ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية، واللفات في أواخر المتمكنة، على هذا حذفوها في أولات، وذوات، لتخالف ياء "حصيات" "ونويات". والاسم بغدها يرتفع علة حد ارتفاع الفاعل بفعله، قال: هيهاتَ منزلنا بنعفِ سويقةٍ ... كانتْ مباركةً على الأيامِ وقال: هيهاتَ ناسُ منْ أناسِ ديارهم ... دفاقٌ ودارُ الآخرينَ الأوائنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقال آخر: هيهاتَ منْ منخرقٍ هيهاؤه وهذا مثل قولك: بعد بعده، وذلك أنه بنى من هذه الكلمة، "فعلالاً" فجاء به مجيء "القلقال، والزلزال". والألف في "هيهات" غير الألف في "هيهاؤه" وهي في "هيهات" لام الفعل الثانية، كقاف "الحقحقة" الثانية، وهي في "ههاؤه" ألف "الفعلال" الزائدة. ومن الأسماء التي سمي بها الفعل في الخبر، "أوتاه" وهو اسم أتألم. وفيها لغات: أوتاه، أوَّه، أوِّه، أَوَّه، قال: فأُوَّه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومنْ بعدِ أرضٍ بيننا وسماءِ والصنعة في تصرفها طويلة. ومنها أيضاً: "أف" وهي اسم التضجر. فيها لغات، أُفٍّ، أُفٌّ، أُفًّا، أفًّ، أفٌّ، أفَّا ممالاً، أُفْ خفيفة، والحركة في جميعها لالتقاء الساكنين، فمن كسر فعلى أصل الباب، ومن ضم فللاتباع، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فتح فللتخفيف، ومن لم ينون أراد التعريف، ومن نون أراد التنكير، فمعنى التعريف، التضجر، ومعنى التنكير: تضجراً، ومن أمال بناه على "فعلى"، وجاءت ألف التأنيث مع البناء، كما جاءت تاؤه معه، في ذية ولية، نعم، وقد جاءت ألفه أيضاً في قوله: هنَّا وهنَّا ومن هنَّا لهنَّ بنا ... ذاتَ الشّمائلِ والإيمانِ هينومُ أي: من هذا الموضع وهذا. ومنها قولهم: همهام، وهو اسم فني وفيها لغات: همهامِ، حمحام، محماح، بحباح، قال: أولمتَ يا خنُّوتُ شرَّ إيلامْ في يومِ نحسٍ، ذي عجاجٍ مطلامْ ما كانَ إلا كاصطفاقِ الأقدامْ حتَّى أتيناهم فقالوا همهامْ ومنها "دهدرين"، وهو اسم بطل، ةمن أمثالهم "دهدرين سعد القين" وهذه التثنية، لا يراد بها ما يشفع الواحد، وإنما الغرض فيه التوكيد، والتكرير لذلك المعنى، كقولك: بطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وكما قال الخليل في "لبيك" وسعديك: إن معناها: كلما كنت في أمر، فدعوتني إليك، أجبتك، وساعدتك عليه، وكذلك قوله: إذا شقَّ بردٌ شقَّ بالبردِ مثلهُ ... دواليكَ حتَّى ليسَ للبردِ لابسُ أي: مداولة بعد مداولة، على دولتين ثنتين، وكذلك قولهم: "دهدرين" أي: بطل بطلاً بعد بطل. ومنها "لبى" اسم أجبتك، ومنها "ويك" اسم أتعجب. وذهب الكسائي إلى أن "ويك" محذوفة من "ويلك" قال: ويكَ عنترَ قدِّمِ والكاف للخطاب عار من الاسمية، وأما قوله تعالى: (ويكأنَّ الله يبسط الرزق) . فذهب سيبويه، والخليل إلى أنه "وي" ثم قال كأن الله يبسط الرزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وذهب الأخفش إلى أنها ويك، كأنه قال عنده: أعجب لأن الله يبسط الرزق. ومن أبيات الكتاب: وي كأنْ منْ يكن لهُ نشبٌ يح ... بب ومن يفتقر يعش عيشَ ضرِّ ومنها سرعان: اسم سرع، ومن كلامهم "سرعان ذي إهالة". وأصل هذا: أن رجلاً، كان يحمق، اشترى شاة عجفاء، يسيل رغامها هزالاً، فظن أنه ودك، فقال: "سرعان ذي إهالة"، فدي فاعل، وإهالة تمييز. وأما أوائل الخيل فسرعان بفتح الراء، ويقال فيه: سرعان، وسُرعان، بفتح السين، وكسرها، وضمها، وسَرعان الناس، وسرعانهم: أوائلهم المستبقون إلى الأمر. قال أبو العباس: السرعان إذا كان وصفاً في الناس، قيل فيه: سرعان، وسَرعان، بفتح الراء، وسكونها، وإذا كان في غير الناس، ففتح الراء أفصح. ومنها "شتان" اسم شتت، مبني على الفتح، يجري مجرى شتّ في عمله. فيقال: شتان زيد وعمرو، فيرتفع الاسم به، كما يرتفع بالفعل الذي وضع موضعه، قال الطرماح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 شتَّ شملُ الحيِّ بعدَ التئام ويقال: شتّان ما زيد وعمرو، قال الأعشى: شتّانَ ما يومي على كورها ... ويومِ حيّانَ أخي جابرِ فأما قول الآخر: لشتّانَ ما بينَ اليزيدين في النّدى ... يزيدِ سليمٍ، والأغرِّ بن حاتمِ فليس بحجةٍ، لأن قائله مولد. وفيها "وشكان، وأشكان" اسم وشك، فأما وشك، فأما أشك، ففعل ماض، وليس باسم، وإنما كان أشك، فنقلت حركة عينه، كما قالوا: في حَسن، حُسن. قال: لا يمنعُ النّاسُ منّي ما أردتُ وما ... أعطيهمُ ما أرادوا حسنَ ذا أدبا ومنها "بطآن" اسم بطوء. ومنها حس: اسم أتوجع. ومنها "إلي" اسم أتنحى. ومنها أولى لك، هو اسم لدنوت من الهلكة، قال الأصمعي في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فأولى لنفسيَ أولى لها قال: أولى لها: قد دنت من الهلكة. وحكى أبو زيد، "هاه" الآن، و "اولاه" الآن، وهذا يدل على أنه اسم لا فعل، كما يظن، وهاه: اسم قاربت، وهي نحو أولى لك. وإنما بنيت هذه الأسماء، التي سمي بها الفعل في الخبر، حملاً على بناء الأسماء المسمى بها الفعل، في الأمر والنهي، ألا ترى أن الموضع في ذلك لها، لأن الأمر والنهي بالأفعال لا غير، والخبر قد يكون بالأسماء من غير اعتراض فعل فيه، نحو: أخوك زيد، فلما كان الموضع في ذلك، إنما هو لأفعال الأمر والنهي، وكانا لا يكونان إلا بحرفيهما، "اللام" و"لا" حمل ما سمي به الفعل في الخبر، على ما سمي به الأمر والنهي، كما حمل هذا الحسن الوجه، على الضارب. لغة البيت العقيق: واد بالحجاز، كأنه عق أي: شق، غلبت الصفة عليه، غلبة الاسم، ولزمته الألف واللام، لأنه جعل الشيء بعينه، على ما ذهب إليه الخليل في الأسماء الأعلام، التي أصلها الصفة، كالحارث والعباس. والعقيقان: بلدان في بلاد بني عامر، من ناحية اليمن. فإذا رأيت هذه اللفظة مثناة، فإنما يعنى بها ذانك البلدان. وإذا رأيتها مفردة، فقد يكون أن يعنى بها العقيق، الذي هو واد بالحجاز، وأن يعنى بها أحد هذين البلدين، لأن هذا قد يفرد "كأبانين" قال امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 كأنَّ أباناً في أفانينِ ودقه وإن كانت التثنية في مثل هذا أكثر من الإفراد، أعني فيما تقع عليه التثنية من أسماء المواضع، لتساويهما في النبات، والخصب والقحط، وأنه لا يشار إلى أحدهما دون الآخر، ولهذا ثبت فيه التعريف، في حال تثنيتهما ولم يجعل "كزيدين" فقالوا: هذان أبانان. والخل: الصديق، يقال: خاللت الرجل خلة، وخلالاً فهو لي خل، وخلة والجمع: خلان. معنى البيت ظاهر بين وهو من قصيدة أولها: ألم ترَ أنَّ الجهلَ أقصرَ باطله ... وأمسى خلاءً قد تجلّت مخايله أجنُ الهوى أم طائرُ البين شفّني ... بوادٍ به تنعابه ومحاجله لعلّك محزونٌ لعرفانِ منزلٍ ... محيل بوادي القريتين منازله الإعراب قال أبو علي في "الحلبيات" في الكلمة الأولى، فيمن أعمل الثاني ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 العقيق، وأضمره قبل الذكر، ومن أعمل الأول، كان في الثانية ذكر من الفاعل ومن اعتقد التركيب فيهما، "فالعقيق" مرتفع بما يفيد من مجموعهما، والجملة التي هي "بالعقيق" في موضع الصفة لقوله: "خل"، والباء ظرفية. ويحتمل أن تكون الجملة، في موضع الحال من الضمير في قوله: تواصله أو في موضع الصفة "لخل" ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الظرف. والعامل فيما ما في "هيهات" من معنى الفعل. وأنشد أبو علي في الباب: (37) ما إنْ يمسُّ الأرضَ إلاَّ منكبٌ ... منهُ وحرفُ السَّاقِ طيَّ المحملِ هذا البيت لأبي كبير الهذلي، واسمه عامر بن الحليس. الشاهد فيه نصب "طي المحمل" على المصدر، وليس قبله فعل، وإنما دل عليه سياق الكلام لأنه لما قال: "ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق"، ذل على أنه نابي الجنب عن الأرض، فكأنه قال: طوي طياً مثل طي المحمل، فحذف المثل وأقام الطي مقامه في الإعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 معنى البيت يقول: هو مجدول الخلق، مطوي البطن، كطي المحمل، وهو حمالة السيف، فمتى اضطجع، جافى بطنه عن الأرض، فلا ينالها منه إلا منكبه، وحرف ساقه. وبعد البيت: فإذا رميتَ بهِ الفجاجَ رأيته ... يهوي مخارمها هويَّ الجدلِ وإذا نظرتَ إلى أسرَّةِ وجههِ ... برقتْ كبرقِ العارضِ المتهلّلِ وأنشد أبو علي في باب المفعول به: (38) ديارُ التي كادت ونحنُ على منَّى ... تحلُّ بنا، لولا نجاءُ الرَّكائبِ هذا البيت لقيس بن الخطيم الأنصاري. الشاهد فيه قوله: "تحل بنا" بمعنى: تحلنا، لن الباء معاقبة "للهمزة"، ولأن ما نقل "بالهمزة"، بمعنى ما نقل بالباء، فلا فرق بين قولك: أذهبت زيداً، وذهبت به وأزللته، وزللت به، قال امرؤ القيس: كميتٍ يزلُّ اللَّبدَ عنْ حالِ متنهِ ... كما زلَّتِ الصَّفواءُ بالمتنزَّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 معناه: كما أزلت الصفواء المتنزل، والصفواء: الصخرة الملساء، ومثله قول أبي زبيد الطائي: كأنَّ أثوابَ نقَّادٍ قدرنَ لهُ ... يعلو بخملتها كهباءَ هدَّابا بمعنى: يعلى خملتها، ونصب "كهباء" على الحال من الضمير في "خملتها" العائد على الثياب، أنه قال: تعلو الخملة الثياب، أهب هدابها، يصف أسداً. لغة البيت "منى" معروف سمي بما يمنى فيه من الدم، أي: يقدر، يقال: منى الله الشيء منياً، قدره. والمنى: القدر، والمنية منه، وأمنى الحاج: نزلوا "بمنى". ويقال: حل من إحرامه حلا، واحل: خرج منه، ذكر ذلك أبو زيد، وقال زهير: وكمْ بالقنانِ منْ محلَّ ومحرمِ ويقال: حل بالمكان، وحل المكان حلولاً: نزل به، والمستقبل منه: يحل بضم الحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ورواية أبي علي الفارسي في الكتاب تحل بنا، من حل يحل، ومعناه: تحلنا أي: تجعلنا حلالاً غير محرمين بالحج. ورواه بعضهم: "تحل بنا" بضم الحاء، من حل بالمكان يحل. والمعنى كادت أن تنزلنا عليها، يقال: أحللت الرجل: أنزلته ونزلت به. ومن الناس من منع هذه الرواية، وأباها، وقال: هو خلاف المعنى الذي قصده. ونجاء الركائب: سرعتها، والركائب: ما تركب من الإبل، واحدتها: ركوبة، وقيل: الركائب: جمع ركاب. ومعنى البيت أنهم لما رأوها بمنى، أرادوا النزول عليها، والحلول بالموضع الذي رأوها فيه، للاستمتاع برؤيتها وحديثها، فتحلهم من إحرامهم، فمنع من ذلك سرعة ركائبها، أو ركائبهم. وهذه عمرة، أخت عبد اله بن رواحة، أم النعمان بن بشير، وكانت امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 حسان بن ثابت، شبب بها قيس، لأن حسان شبب بأخت قيس، وأول شعر قيس: أتعرفُ رسماً كأطرادِ المذاهبِ ... لعمرةَ وحشاً، غيرَ موقفِ راكبِ تبدَّتْ لنا كالشمسِ يوم غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها، وصننَّتْ بحاجبِ ولمْ أرها إلاَّ ثلاثاً على منىً ... وعهدي بها في الحيَّ ذاتَ ذوائبِ ديار الَّتي كادتْ ونحنُ على منىً ... تحلُّ بما لولا نجاءُ الرَّكائب ويروى: "فتلك التي كادت". ومثلكِ قدْ أحبيتُ ليستْ بكنَّةِ ... ولاَ جارةٍ، ولاَ حليلةِ صاحبِ الإعراب قوله: "ديار التي": روى رفعاً ونصباً، أما الرفع: فعلى تقدير مبتدأ، كأنه لما قال: أتعرف رسماً؟ قال: هو رسم ديار التي، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وأما المصب: فكأنه قال: أتعرف رسم ديار التي كادت؟ فأبدله من قوله: "رسماً"، ثم حذف الرسم المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ويجوز أن تنصب "ديار" بمعنى أعني، ولا يجوز أن تنصب "ديار" على البدل من قوله: "رسماً"، لأن "الديار" أكثر من الرسم، فاعلمه. وقد كان أبو العباس المبرد، يذهب إلى أن: ذهبت بزيد، غير معنى أذهبت زيداً. قال: وذلك أن قولك: أذهبت زيداً، معناه: أزلته، ويجوز أن تكون أنت باقياً بمكانك، لم تبرح. وإذا قلت: ذهبت به، فمعناه: ذهبت معه". وأنكر عليه هذا القول، والصحيح أن معناهما سواء، لأن الله تعالى قال: (لذهب بسمعهم وأبصارهم) ، والله عز وجل غير ذاهب، و"الصفواء" في بيت امرئ القيس، غير زالةٍ. وللمحتج عن أبي العباس أن يقول في الآية: إن الله تعالى قد وصف نفسه في مواضع من كتابه بالمجيء والإتيان، وهو أعلم بحقيقة ذلك، فقال: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) وقال: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وهذا الاحتجاج عن المبرد، ليس بقوي، قال النابغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 كأنَّ رجلي وقدْ زالَ النَّهارُ بنا ... يومَ الجليلِ على مستأنسٍ وحدِ معناه: أزالهم من مكان كانوا فيه، إلى مكان صاروا إليه، وقيل: معناه: غابت الشمس، وذهب النَّهارُ، وهمْ ما زالوا وبيت قيس بن الخطيم، يرد ما ذهب إليه أبو العباس. وأنشد أبو علي في باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين. (39) قدْ أوبيتْ كلَّ ماءٍ فهيَ ضاويةٌ ... مهما تصبْ أفقاً منْ بارق تشمِ هذا البيت لساعدة بن حؤبة الهذلي. الشاهد فيه قوله: قد أوبيت كل ماء"، عدى "أبي" إلى مفعولين لما نقله بالهمزة، فالمفعول الأول مضمر في الفعل، والثاني: "كل ماء" أي قد جعلت تأباه، كما تقول: زيدٌ أضربَ عمراً، أي: جعل يضربه، ومثله قوله: متقاربٌ أنسابهمُ وأعزَّةٌ ... بوبى بمثلهمُ الظَّلامُ ويرهبُ جمع: ظلامةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لغة البيت أبى يأبى إلباء، وإباية: بمعنى: كره، وجاء على "فعل" يفعل شاذاً، إذ لا يكون هذا المثال، إلا فينا عينه، أو لامه حرف حلق. وقد جاء أيضاً على هذا المثال قلى يقلى، وقد قيل: يقلي، وجاء أيضاً جبى يجبى، وجاء يجبي، شبهوه: يقرأ يقرأ، وقيل: بل جاء على أصله، لأن الألف من حروف الحلق. ويروى طاوية، وضاربة، وصاوية. فطاوية: من الطوى، وهو الجوع، وخمص البطن، قال الكسائي: رجل طيان إذا لم يأكل شيئاً، وقد طوي يطوى طوى، وإذا تعهد ذلك قيل: طوى يطوي، قال عنترة: ولقدْ أبيتُ على الطَّوى وأظلُّهُ ... حتى أنالَ بهِ كريمَ المأكلِ وضاوية: من الضوى، وهو الهزال، والضوى أيضاً: ضعف الخلق وصغره، يقال: غلام ضاوي، والعرب تقول: "القرائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أضوى، والغرائب أنجب" وينشد: فتى لمْ تلدهُ بنتُ عمَّ قريبةٌ ... فيضوى وقدْ يضوى نجيبُ القرائبِ وأضوى القوم، إذا ولدوا المهازيل، ويقال: "اغتربوا لا تضووا". والضوى أيضا: جمع ضواة، وهي السلعة قال ذو الرمة: قذيفةُ شيطانٍ رجيمٍ رمى بها ... فصارتْ ضواةً في لهازمِ ضرزمِ وصاوية: يابسة من العطش، وصويت النخلة: يبست، تصوى صوى، وقد صوي النخل، ولا يقال: صوت النخلة، كذا قال ابن الأنباري. وقال الأحمر: فإذا أيبست النخلة، قيل: صوت تصوي، فهي صاوية. قال الأصمعي: أصل التصوية، أن تترك الناقة من الحلب، حتى يجف لبنها، ثم صار كل شيء مودع، مصوى. والبارق: السحاب الذي فيه البرق من أفق السماء، والبارق أيضاً: البرق نفسه، وتشمه: تقدر أين موقعه. معنى البيت يصف حميراً قد جهدها العطش، فيبست أجوافها، وهي لا تقدم على ماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الأنهار والعيون، فزعاً من الصائد، فهي تشم البرق، وترتقب نزول المطر، لترده. وقبل البيت: ظلَّتْ صوافنَ بالأرزانِ ضاويةً ... في ماحقٍ منْ نهارِ الصَّيفِ محتدمِ قدْ أوييتْ كلَّ ماءٍ ...... البيت حتَّى شآها كليلٌ موهناً عملٌ ... باتت طراباً، وباتَ اللَّيلَ لمْ ينمِ الإعراب هذا البيت من المقلوب، والتقدير: مهما تصب، بارقاً من أفق، وتأوله قوم تأويلاً، يسلم فيه من القلب، وهو أن ينتصب "أفقاً" على الظرف، و"من" زائدة في قوله: "من بارق" والتقدير: مهما تصب في الأفق بارقاً تشم، فإن قيل: فإن "من" لا تزاد في الواجب. فالجواب أن الشرط ليس بواجب محض، فالزيادة فيه: غير ممتنعة، وروى الجمحي: مهما يصبْ بارقٌ آفاقها تشمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وأنشد أبو علي في باب المفعول فيه: (40) تناذرها الرَّاقونَ منْ سوءِ سمَّها ... تطلقَّه حيناً وحيناً تراجعُ هذا البيت للنابغة الذبياني. الشهد فيه قوله: "حيناً" والحين: وقت غير محدود، وغاية من الزمان، قال الله تعالى: (ولكم في الأرض، مستقر ومتاع إلى حين) . قيل: غاية من الزمان، وقيل: فناء الآجال، وقيل: يوم القيامة. وقال أبو علي، يقع على ستة أشهر، ويقع على أربعين عاماً. وقيل: يقع على عامٍ، وشاهده قوله تعالى: (تؤتي كلها كل حين) . وقيل: كل غدوة، وكل عشية، وقيل: كل وقت. وقيل: في قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) أربعون سنة، لأن آدم عليه السلام لم ينفخ فيه الروح بعد خلقه من طين إلا بعد أربعين سنة. وجمعه: أحيان، وأحايين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ويقال فلان: يأكل الحينة، والحينة، أي: يأكل الوجبة مرة واحدة في اليوم: والحينة: وقت حلب الناقة. وحينئذ: تبعد الآن. وفي بيت النابغة دليل على أنه يقع على القليل من الزمان، لأنه قال: "تطلقه حيناً وحيناً تراجع". لأن حال السليم كذا، تارة يأخذه الوجع، وتارة يتركه، يؤكد ذلك رواية من روى "طوراً، وطوراً"، والطور: التارة، ومنه "الناس أطواراً" أي: على حالات شتى. ومعنى البيت أنه وصف حية. وقبله ما يدل عليه: فبتُّ كأنّي ساورتني ضيئلةٌ ... من الرقشِ في أنيابها السُّمُ ناقعُ يسهّدُ منْ ليلِ التَّمامِ سليمها ... لحلي النَّساءِ في يديهِ قعاقعُ ومعنى تناذرها، انذر بعضهم بعضاً، ليجتمعوا عليها، لنكارتها، وشرها، وسوء سمها. وأنشد أبو علي في باب الظروف من المكان. (41) لدنٌ بهزَّ الكفِ يعسلُ متنهُ ... فيهِ كما عسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 هذا البيت لساعدة بن جؤبة الهذلي. الشاهد فيه وصول الفعل الذي هو "عسل" إلى "الطريق" اتساعاً، وتشبيهاً بالمكان المبهم، لأن الطريق مكان، والطريق: اسم خاص للموضع المستطرق وكان ينبغي أن يقول: كما عسل في الطريق الثعلب. لغة البيت اللدان: اللين، وقد لدن لدونة، ومعناه: الناعم، اللين، والمتثني وإذا تثنى الرمح، كان أصلب له، وآمن من الكسر، وفيه قال الطائي: لانتْ مهزَّتهُ فعزَّ وإنَّما ... يشتدُّ بأسُ الرُّمحِ حينَ يلينُ ويروى "لذ" ومعناه: لذليذ، ولدن بمعنى: عند. ويعسل: يضطرب في هزه، "كما عسل الثعلب"، أي: اضطرب في عدوه وأسرع. قال ابن دريد: شكا عمرو بن معد يكرب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، المعص وهو التواء مفصل الرجل. فقال له: "كذب عليه العسل"، أي: المشيَّ السريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والعسل والعسلان واحد قال: عسلانُ الذَّئبِ أمسى قارباً ... بردَ اللَّيلُ عليهِ فنسلْ قوله: "كذب عليك العسل" معناه: عليك به، وهي كلمة يغرى بها في المعنى، فمن الناس من يرفع بها، وهم مضر، ومنهم من ينصب وهم اليمن. ويروى قول عمر، رضي الله عنه، "كذب عليك الحج" على لغته ومنهم من ينصبه على ما ذكرته. وقيل: معناه: وجب، قال عنترة. كذبَ العتيقُ وماءُ شنَّ باردٌ ... إنْ كنتِ سائلتي غبوقا فاذهبي وقال ابن الإعرابي: كان الأصل في قولهم: "كذب عليكم الحج". أن رجلاً قال: لا حج. فقال آخر: كذب، ثم قال: "عليكم الحج" فاستعملته العرب في موضع وجب. ومعنى البيت أنه وصف رمحاً لين الهز، فشبه اضطرابه في نفسه، بعسلان الثعلب في سيره. وقبله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 منْ كلَّ أظمى عائرٍ لا شانهُ ... قصرٌ ولا راشَ الكعوبَ معلَّبُ خرقٌ من الخطَّيَّ أغمضَ حدُّهُ ... مثل الشَّهابِ رفعتهُ يتهلَّبُ مَّا يترُّصُ في الثَّقافِ يزينه ... أخذى كخافيةِ الغرباِ محرَّبُ وأنشد أبو علي في الباب. (42) فلأبغينكمُ قناً وعوارضا ... ولأقبلنَّ الخيلَ لابةَ ضرغدِ هذا البيت لطفيل الغنوي، ويروى لعامر بن الطفيل. الشاهد فيه فلأبغينكم "قناً وعوارضاً" نصب بإسقاط حرف الجر، وهما من المكنة المختصة، اتساعاً، وتشبيهاً بالمكان المبهم، وكذلك: "ولأقبلن الخيل لابة ضرغد" لغة البيت قناً وعوارض: مكانان في بني وضرغد: في ناحية غطفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقيل: قناً: اسم جبلٍ يكتب بالألف، لأنه يقال في تثنيته: قنوان. أنشد الأصمعي: كأنَّها وقدْ بدا عوارضُ واللَّيلُ بينَ قنوينِ رابضُ بكفَّة الرَّملِ قطاً نواهضُ وكذا حكى ابن الأنباري. وقال غيره: "قنوين" موضع يقال: صدنا بقنوين، وصدنا وحش قنوين. وكذا فسر في هذه الأبيات، وهي للشماخ وهو الصحيح. وقال ابن القوطية: لا اعرف "قناً" في المكنة، وإنما هو: قباً بالباء. واللابة: الحرة: وهي أرض ذات حجارة سود وجمعها: لابٌ، ولوبٌ. ومعنى البيت أنه يخاطب قوماً، يتوعدهم يقول: لأطلبنكم حيث كنتم، وحيث حللتم من هذه المواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وبعد البيت: والخيلُ تردي بالمكاةِ كأنَّها ... حدأٌ تتابعَ في الطريق الأقصدِ في ناشئٍ من عامرٍ ومجرَّبٍ ... ماضٍ إذا انفلتَ العنانُ من اليدِ فلأثأرنَّ بمالكٍ وبمالكٍ ... وأخي المروراةِ الذي لمْ يسندِ وقتيل مرَّةَ أثأرنَّ فإنَّه ... فرعٌ وإنَّ أخاهمُ لمْ يقصدِ وأنشد أبو علي في الباب. (43) كانَ منَّا بحيثُ يعكى الإزارُ الشاهد في قوله "بحيث يعكى"، يريد قرب المنزلة، ومعنى يعكى: يشد، ويلوى، ويقعد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يقال: عكاه عكواً: شده ويقال عكى بإزاره عكياً: أغلظ معقده، وعكى بإزاره عكياً: اغلظ معقده، وعكى الضب بذنبه: لواه. يقال فيه: "فعل يفعل" من ذوات الياء، و"فعل يفعل" من ذوات الواو. قال أبو علي: وفسر أبو عمر الجومي الإزار هاهنا: المرأة. فكأنه يريد أن قربه منه قرب المرأة، وإنما يعكي المرء إزاره على جسمه، فالشاعر على هذا، إنما يريد أن قربه منه، قرب الثوب من جسمه. وأنشد أبو علي في الباب. (44) كانا مكانَ الثَّوبِ منْ حقويّهْ هذا الشطر لأبي جندبٍ الهذلي. الشاهد فيه ما أراداه من قرب المنزلة والحقو: الخصر. لغة البيت الحقو: الكشح، وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والجمع: أحق، وأحقاء، والحقو أيضا: الإزار من كل ناحية. يقال: اخذ فلان بحقوي فلان. قال جميل: قناةٌ من المرَّانِ ما فوقَ حقوها ... وما تحتهُ منها نقاً يتهيَّلُ وألحقو أيضا: داء يأخذ في البطن، يقال: حقي الرجل يحقى حقى شديداً، فهو محقو، إذا أصابه ذلك. وقيل يقال: حقي الرجل يحقى حقى، إذا اشتكى حقوه، وهذا واضح في الاشتقاق، فاعلمه. سبب هذا الرجز أن أبا جندب فيما زعموا، كان اشتكى شكوى شديدة، وكان له جار من خزاعة، يقال له: حاطم بن هاجر، فوقعت به بنو لحيان، فقتلوه، قبل استبلال أبي جندب من وجعه، واستاقوا ماله، وقتلوا امرأته. فلما أفاق، قدم مكة، ثم جاء يسعى، حتى استلم الركن، وقد شق ثوبه، وكشف عن أسته، ثم طاف بالكعبة، فعرف من رآه، أنه أتى بشر، ثم صاح، وطفق يقول: إنَّي امرؤ أبكي على جاريَّهْ أبكي على الكعبيَّ والكعبيَّهْ ولوْ هلكتُ بكيا عليَّهْ كانا مكانَ الثَّوبِ منْ حقويَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 جمع هذا الرجز بين الياء المفتوح ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها، في قوله: "الكعبية" مع "جارية" و"عليه"، و"حقويه"، وإنما جاز ذلك من قبل أن الياء الولى في "الكعبية" ليست ردفاً، من حيث كانت مدغمة وإذا أدغمت الياء والواو خرجتا عن أن تكونا ردفاً، وجاز معهما غيرهما، وإنما كان ذلك من قبل أن أصل الردف، إنما هو للألف، ثم ألحقت الياء والواو فيه بها، ما دامتا على وصفها، أو قريبتين من وصفها. فأما كونهما على وصفها، فإن يكونا ساكنين، تابعين لما قبلهما، نحو: ياء "سعيد"، واو "عمود". وأما كونهما قريبتين منها، فأن يسكنا، ويفتح ما قبل كل واحد منهما، وذلك نحو "ثوب وبيت". فأما إذا أدغمتا، أو تحركتا، فإنهما قد فارقتا المد، فلا يجوز الإرداف بهما، وقد جاء ذلك مجموعاً في شعر واحد، قال: أتتكَ عير تحملُ المشيَّا ماءً من الطّثرةِ أحوذيَّا يعجبُ ذا القباضةِ الوحيَّا أنْ يرفعَ المئزرَ عنهُ شيَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 إلا إذا كان ما قبل المدغم مكسوراً، فلام يستهلك الإدغام جميع مده، ألا ترى أنه لا يجوز مع "الكعبية"، الفدية، ولا الفتية، بل يجوز معها، إذا انفتح ما قبلها، نحو لياً، وطياً، نحيا وظبيا، وذلك لما انضم إلى الإدغام انفتاح ما قبلها زال المد. وأما امتناع من امتنع من الجمع بين لياً وظبياً، فليس ذلك شيء يرجع إلى حرف اللين، إنما هو، لأنه لا يجمع بين المد وغيره في الروي. وأنشد أبو علي في الباب. (45) ألاَ أبلغْ أبا حفصٍ رسولاً ... فدىً لكَ منْ أخي ثقةٍ إزاري استشهد بهذا البيت، على أن "الإزار" في البيت قبله: المرأة، كما هو في هذا البيت. ذكر ابن قتيبة، في شرح حديث عمر، رضي الله عنه، أنه قدم عليه رجل من بعض الفروج، فنثر كنانته بين يده، فإذا فيها صحيفة، فيها أبيات، وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ألاَ أبلغْ أبا حفصٍ رسولاً ... فدى لكَ منْ أخي ثقةٍ إزاري قلائصنا هداكَ الله إنَّا ... شغلنا عنكم زمنَ الحصارِ قلائصُ منْ بني سعدِ بنْ بكرٍ ... وأسلمَ أو جهينةَ أو غفارِ فما قلصٌ يبتنَ معقَّلاتٍ ... قفا سلعِ بمختلف النجارِ يعقَّلهنَ جعدٌ شيظميٌّ ... وبئسَ معقَّلُ الذَّودِ الظؤارِ يعقَّلهنّ جعدة منْ سليمٍ ... معيداً يبتغي سقطَ العذاري قال: فقال عمر، رضي الله عنه، أدعو لي جعدة، فدعي له، فناجاه طويلاً، ثم أمر به، فضرب مئة معقولاً، ونهاه أن يدخل على امرأة مغيبةٍ. قوله: قلائصنا: كناية عن النساء، ومعقلات، مغيبات، ويعقلهن معيداً: أي: يروم غرتهن طمعاً في الضراب، كما تعقل الناقة لذلك. الإعراب "الرسول" هنا: بمعنى الرسالة، وهو مفعول ثانٍ، وإذا كان بمعنى الرسالة، لم يثن، ولم يجمع لأنه مصدر، وقوله تعالى: (إنا رسولا ربك) أي: ذوا رسالة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ألاَ منْ مبلغُ الكعبيّ عنَّي ... رسولاً أصلها عندي ثبيتُ يريد: رسالة. ويجمع إذا كان اسماً على "رسلٍ" قال الله تعالى: (إنا رسل ربك) وقد جاء على "أرسلٍ" قال الهذلي: وجليلة الأنسابِ ليسَ كمثلها ... ممَّنْ تمنَّعُ قدْ أتتها أرسلي وكان قياسه: "رسلي". وهذا البيت يحتج به على تأنيث المذكر، ووجه الدلالة منه، أنه جمع رسولاً الذي هو مذكر، على "أفعلٍ"، و"أفعلٌ" في الجمع مما يختص بالمؤنث، نحو قولهم: عناق وأعنقٌ، واتانٌ واتنٌ، وعقابٌ، وأعقبٌ، وإنما سوغ ذلك له، إرادته "بالأرسلِ": النساء، فكسره على المعنى، وقال آخر: لوْ كانِ في قلبي كغورِ قلامةٍ ... فضلاً لغيركِ قدْ أتتها أرسلي وقد كسر جناح على اجنح، وقياسه أجنحة، قال عمر بن لجإ: يذرينَ هاماً واجنحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ذهب به إلى معنى الذراع، لأنه بمعناه فكسره تكسيره، يقال: ذراع: واذرع والعرب تحمل الكلمة على الأخرى، إذا كانت في معناها، قالوا: نمرٌ، ونمرٌ فكسروا "فعلاً"، تكسير "فعلٍ" لما كان في معناه، لن نمراً في معنى أنمر. وقوله: "فدى لك من أخي ثقةٍ" مبتدأ، و"إزاري" خبره. ويجوز أن يرتفع "فدى" بالابتداء، و"إزاري"، فاعل يسد مسد الخبر. و"فدى": إذا كسر أوله يمد ويقصر، قال: فدى لبني ذهلِ بنِ شيبانَ ناقتي وقال آخر: مهلاً فداءٌ لكَ يا فضالةْ أجرَّهُ الرُّمحَ ولاَ تهاله وإذا فتح أوله، لم يكن إلا مقصوراً، فاعلمه. ويجوز "فداء" بكسر الهمزة والمد والتنوين، وإنما جاز لك ذلك لأنها كثرت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الاستعمال، ووقعت موقع فعل الدعاء، فبنيت، ودخلها التنوين مع البناء، كما دخل "إيه" وما أشبهها فرقاً بين المعرفة والنكرة. وأنشد أبو علي في الباب. (46) تروَّحي أجدرَ أنْ تقيلي ... غداً يجنبي باردٍ ظليلِ هذان الشطران لأبي النجم العجلي. اختلاف في موضع الشاهد فيه: فقيل: هو في قوله: "تروحي أجدر، أي، وقتاً أجدر، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه، وهو مفعول على السعة. وقيل: موضع الشاهد، "أن تقيلي فيه"، ثم حذف حرف الجر، فصار "تقيليه"، والتقدير: "تروحي في وقت، أجدر أن تقيليه"، فصار مثل قول الآخر: ربَّ يومٍ قمتهُ بمنصلِ أي: "قمت فيه"، ثم حذف "الهاء"، فصار "تقيلي". وقيل: تقديره: "تروحي مكاناً أجدر"، أي: ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل، الذي هو "ائتي"، لدلالة" تروحي" عليه، فصار "تروحي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه"، ثم حذف الموصوف، الذي هو "مكاناً"، فصار تقديره "أجدر بأن تقيلي فيه"، ثم حذف حرف الجر، فصار أجدر "أن تقيليه"، ثم حذف الضمير المنصوب، فصار أجدر "أن تقيلي"، ففيه خمسة أعمال: حذف الفعل الناصب، وحذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الموصوف، وحذف "الباء"، وحذف "في"، وحذف الضمير، وهناك وجه، وهو أن تقديره: "إئتي مكاناً اجدر أن تقيلي فيه من غيره"، كما تقول: مررت برجل أحسن منه، وأنت أكرم علي من غيرك. وتحقيق موضع الشاهد قوله: "أن تقيليه"، أي، أن تقيلي ذلك المكان، كما قال الآخر: طبَّاخِ ساعاتِ الكرى وقد اتسع في هذه الظروف، فجاءت مسندة إليها الأفعال، التي وقعت فيها مجيء الفاعل، كقوله تعالى: والنهار مبصراً و (بل مكر الليل) فأضاف المكر إليهما، وإنما يمكر فيهما، والنهار يبصر فيه، وقال: فأظلمَ يومي، بعدَ ما كانَ مبصراً ... وفاضتْ دموعي ما ونينُ بأضرعا وقال جرير: وما ليلَ المطيَّ بنائمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقال رؤبة: ونامَ ليلي وتجلَّى همَّي وقالوا: يوم ضاربٌ، أي: يضرب فيه كثيراً. وقد جاءت منتصبة نصب المفعول به، كقوله: ويوماً شهدناهُ سليماً وعامراً وقوله: في ساعةٍ يحبها الطَّعامُ وقد جاءت مسنداً إليها الفعل، إسناده إلى ما لم يسم فاعله، فقالوا: رب يوم مصامٍ فيه، وساعةٍ مضروبةٍ، على حد قولهم: صمت يوماً وضربت ساعة، قال: حملتْ بهِ في ليلةٍ مزؤودةً وقيل: لا شاهد لأبي علي في هذين الشطرين، ليس فيهما ما يشبه ما استشهد به عليه، وهو قوله تعالى: (بل مكر الليل والنهار) ، فأضاف المكر إليهما، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 تقدم. وقيل: إنما يليق الاستشهاد به على قوله: (انتهوا خيراً لكم) و (أمنوا خيراً لكم) ، على رأي صاحب الكتاب، لأن "خيراً" ينتصب عنده بفعل محذوف، صار هذا الظاهر بدلاً منه، لنه لما قال: "انتهوا" فغنما يريد أن يخرجه من أمر، ويدخله في آخر، ويقويه، أنه إذا أمره بالانتهاء، فقد أمره بترك شيء، وتارك شيء آتٍ ضده، فكأنه أمره أن يكف عن الشر والباطل، ويأتي الخير والحق، فقول أبي النجم: "تروحي أجدر" يشبه قوله تعالى: (انتهوا خيراً لكم) ، لأنه لما قال: "تروحي"، فكأنه قال: ائتي مكاناً أجدر. وقال الكسائي في قوله تعالى: (انتهوا خيراً لكم) ، أنه منتصب على تقدير: يكن الانتهاء خير لكم. وينتصب عند الفراء، على انه صفة لمصدر مقدرٍ، كأنه قال: انتهوا انتهاء خيراً لكم. معنى البيت يخاطب ناقته، والرواح: من وقت الزوال إلى الليل، ومعنى: أجدرَ، وأحقَّ، وحقيقٌ، وقمنٌ، وقمنٌ، سواءٌ. وأراد: بجنبي جبلٍ باردٍ ظليلٍ، أو مكانٍ. وأنشد أبو علي في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 (47) ربَّ ابن عمَّ لسليمى مشمعلْ طبَّاخِ ساعاتِ الكرى زادَ الكسلْ هذان الشطران للشماخ. و الشاهد فيه "طباخ ساعات الكرى" أضاف "طباخٍ" إلى "الساعات" على تشبيه الظرف من الزمان بالمفعول به، لا لأن "الساعات" ظرف، ولو أراد بها الظرف لم تجز الإضافة إليها، وهي على أصلها من الظرفية، لأنه يقدر معها حرف الجر، وهو "في" التي معناها: الوعاء، والإضافة إلى الحرف غير جائزة، وإنما يضاف إلى الأسماء. لغة البيت المشمعل: الجاد في المر السريع، والمشمعلة: الناقة الخفيفة، واشمعلت الإبل: تفرقت، وأسرعت، وشمعلة اليهود: قراءتهم. والكرى: النوم، يقال: كري يكرى كرى، وكري: دقت ساقه. والكسل: الفاتر الواني، ضد المشمعل، وفعله: كسل يكسل كسلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 معنى البيت وصفه بالنشاط والتجلد، يقول: إنه إذا كسل أصحابه عن طبخ زادهم، وقت نزولهم، وغلبة الكرى عليهم، قام مقامهم في ذلك، وتشمر لخدمة أصحابه، وتاب منابهم. والعرب تفخر بمثل هذا، ألا ترى على قول هذا الآخر: وإنَّي لعبدُ الضّّيفِ ما دامَ نازلاً ... وما شيمةٌ لي غيرها تشبهُ العبدا وقال بعضهم: إنما يريد أن حديثه، وحسن أدبه، يقوم مقام زادهم، كما قال الآخر: صادفَ زاداً وحديثاً ما اشتهلا إنَّ الحديثَ جانبٌ من القرى ومن هذا الرجز: أروع في السَّفرِ وفي الحيِّ غزلْ وبعده: أحوسَ في الظَّلماءِ بالرَّمحِ الخطلْ يحمدهُ القومُ وتلحاهُ الإبلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الإعراب صحة الإنشاد، بنصب "الزاد" تنصبه على وجهين: الأول: أن ينصب بفعل مضمر، دل عليه "طباخ" تقديره: يطبخ زاد الكسل". والثاني: أن يكون مفعولاً أول، و"الساعات" مفعول ثانٍ، كما تقول: هذا معطي درهم زيداً، ومثله بيت الكتاب. ترى الثَّور فيها مدخلَ الظلَّ رأسهُ ويروى: "زاد الكسل"، بخفض "الزاد"، جعل "الساعات" ظرفاً خالصاً، وفصل بها بين المضاف والمضاف إليه، أعني "طباخ"، و"زاد الكسل"، كما قال أبو حية النميري: كما خطَّ الكتابُ بكفَّ يوماً ... يهوديًّ يقاربُ أوْ يزيلُ وقال عمرو بن قمئة اليشكري: لمَّا رأتْ ساتيدما استعبرتْ ... للَّه درُّ اليومَ منْ لامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقال الآخر: فرشني بخيرس، لا أكوننْ ومدحتي ... كناحتِ يوماً صخرةٍ بعسيلِ وقال ذو الرمة، ففصل بالمجرور. كأنَّ أصواتَ منْ إيغالهنَّ بنا ... أواخرِ الميسِ أصواتُ الفراريجِ ومثل هذا قول الآخر: هما أخواَ في الحربِ منْ لاَ أخالهُ ... إذا خافَ يوماً نبوةً فدعاهما وأنشد أبو علي في الباب. (48) فغدتْ كلاَ الفرجينِ تحسبُ أنَّهُ ... مولى المخافةِ خلفها وأمامها هذا البيت لبيد بن ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الشاهد فيه استعمال "خلفها وأمامها" اسماً، اتساعاً ومجازاً، والمستعمل فيهما الظرف. لغة البيت غدا، يغدو غدواً، قصد الشيء بالصباح، وغدا يفعل كذا: فعله بالصباح. والفرج: مثل الثغر، وثناه، لأنه أراد ما تخاف منه، خلفها وأمامها، ومولى المخافة: مستقرها وموضعها والأولى بها، كما قال الله تعالى: (مأواكم النار هي مولاكم) وأي: مستقركم الولي بكم. معنى البيت يصف بقرة وحشية، فقدت ولدها، فغدت خائفة حذرة، لأنها أحست بصائد، فتحسب أن كلا طريقيها، من خلفها وأمامها، ممكن له أن يعترها منه، وهذا البيت من قصيدته المشهورة عنه. عفتِ الدَّيارُ محلَّها فمقامها ... بمنى تأبَّدَ غولها فرجامها الإعراب في "غدت": ضمير الوحشية، وقد جرى ذكرها، "وكلا الفرجين": موضعه رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بالابتداء، و"كلا" وما بعده إلى آخر البيت، في موضع الحال، وكان الكلام: فغدت تحسب أن كلا الفرجين مولى المخافة، فقدم "كلا" قبل "أن" وأضمره في "أن" وهو اسم واحد في معنى التثنية فحمل ضميره على لفظه. "ومولى المخافة": خبر "أن" ومعناه: موضع المخافة. "وخلفها وأمامها": بدل من خبر "أن" الذي هو "مولى المخافة" وهو رأي أبي علي، قال: "وإن كان على لفظ الإفراد، فإنه في المعنى لاثنين"، ويجوز أن يكون بدلاً من "كلا" ويجوز أن يكون "خلفها وأمامها"، خبر ابتداء مضمر ولا يجوز نصب "كلا" على الظرف، لأنه مخصوص، وهو قول أبي علي الفارسي في "التعاليق". وأنشد أبو علي في الباب. (49) صددتِ الكأسَ عنَّا أمَّ عمرو ... وكانَ الكأسُ مجراها اليمينا وقع هذا البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي، في قصدته المشهورة: ألا هبَّي بصحنكِ فاصبحينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وذكر أبو الفرج الأصبهاني، أنه لعمرو بن عدي بن أخت جذيمة الأبرش. الشاهد فيه قوله: "اليمينا"، يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون ظرفاً فمن رفع "مجراها" بالابتداء، كان "اليمين" ظرفاً في موضع "الخبر"، كما تقول: "زيد أمامك، أو عندك". وإن جعلت "مجراها" بدلاً من "الكأس"، جاز أن تنصب "اليمين" على وجهين: أحدهما: أن يكون "المجريى" هو "اليمين" اتساعاً، فيكون "اليمين" خبر "كان"، أو يكون التقدير: "وكان الكأس مجراها ذات اليمين"، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والثاني: أن ينتصب على الظرف فيكون في موضع نصب، بأنه خبر "لكان" و"الكأس" مؤنثة: قال الله تعالى: (بكأسٍ منْ معينٍ، بيضاءَ) ومجراها: جريها أو تصرفها. وأم عمرو: جارية لمالك وعقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 زعموا ان "رقاش" أخت "جذيمة" تزوجها عدي، في خبر طويل، فولدت له غلاماً، فسمته عمراً، وربته حتى ترعرع، وألبسته ثياباً، ثم أزارته خاله، فأعجب به، وسوده، وأكرمه وحباه، وقربه. ثم إن الجن استطارعه فيما زعموا، فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه، فلم يسمع له خبراً. فأقبل رجلان، يقال لأحدهما: مالك، وللآخر عقيل، ابنا فالج، وهما يريدان الملك جذيمة بهدية، فنزلا على ماء، ومعهما قينة يقال لها: أم عمرو فنصبت لهما قدراً، وأصلحت لهما طعاماً، فبينا يأكلان، إذا أقبل رجل أشعث أغبر، قد طالت أظفاره، وساءت حاله، حتى جلس مزجر الكلب، فمد يده، فناولته شيئاً، فأكله، ثم مد يده، فقالت "إن يعط العبد كراعاً يبتغ ذراعاً"، فأرسلتها مثلاً، ثم ناولت صاحبها، من شرابها، وأوكت زقها، فقال عمرو بن عدي هذا الشعر: صددتِ الكأسَ عنَّا أمَّ عمرو ... وكانَ الكأسُ مجراها اليمينا وما شرُّ الثَّلاثةِ أم عمرو ... بصاحبكِ الَّذي لا تصحبينا فقال له الرجلان: من أنت.؟ فقال: إنْ تنكراني أو تنكرا حسبي ... فأنا عمروٌ وعديٌّ أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فقاما إليه، ولثماه، وغسلا رأسه، وقلما أظفاره، وقصرا من لمته وألبساه من طرائف ثيابهما، وقالا: ما كنا لنهدي للملك هدية، أنفس عنده من ابن أخته. فخرجا به حتى وصلا إلى الملك، فشراه به، فصرفه إلى أمه، فألبسته من ثياب الملوك، وجعلت في عنقه طوقاً، كانت تلبسه إياه، وهو صغير، وأمرته بالدخول على خاله، فلما رآه، قال: "شب عمرو عن الطوق" فأرسلها مثلاً. وقال للرجلين اللذين قدما به: احتكما، فلكما حكمكما. فقالا: منادمتك، ما بقيت وبقينا. فقال: ذلك لكما. فهما ندمانا جذيمة، وهما اللذان عنى الشاعر: ألمْ تعلمني أنْ قدْ تفرَّقَ قبلنا ... خيلاً صفاءٍ مالكٌ وعقلُ وأنشد أبو علي في الباب. (50) كأنَّ مجرَّ الرَّامسات ذيولها ... عليهِ حصيرٌ نمقتهُ الصَّوانعُ هذا البيت للنابغة الذبياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الشاهد فيه "كان موضع مجر"، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو مصدر مضاف إلى "الرامسات" وهي فاعلة في المعنى. و"ذيولها": منتصبة بالمصدر الذي هو "مجرٌ"، و"حصيرٌ": خبر "كأنَّ" ولا يجوز أن ينتصب المصدر بكان، و"حصير" خبره، من طريق أن "مجر" عرض، و"الحصير" جوهر، والجوهر لا يكون خبراً عن العرض. فإذا أردت به ما تقدم، من تقدير: "الموضع"، والموضع جوهر، استقام تشبيه الجوهر بالجوهر، وانتصاب "الذيول" بالمصدر. ويجوز أن تجعل "مجر" ظرفاً، وتنصب "الذيول" بفعل مضمر، فيكون التقدير: كأن مجر الرامسات جرت ذيولها عليه حصير. لغة البيت الرامسات: الرياح التي تحمل التراب، فترمس به الآثار، أي: تدفنها والرمس: التراب، ورمس القبر: ما حشي فيه، يقال: أرمسناه بالتراب، والرمس: القبر نفسه، والرمس أيضاً: الصوت الخفي. ويروى، قضيم، والقضيم هاهنا: الحصير المنسوج، والقضيم أيضاً: جمع قضيمة، وهي الصحيفة البيضاء، والقضيم: الفضة والقضيم: اسم ما قضمت الدابة. ومعنى "نمقته" زينته، والصوانع: جمع صانعة، على القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 معنى البيت ظاهر: شبه آثار الديار، بنقش على مبناة، وكانوا ينقشون النطع بالقضيم، وهي الصحف البيض تقطع وتنقش بها الأدم، تلزق عليه وتخرز، كما تنقش على المساور، وكانوا يتخذون المبناة، كالخذر للعروس، والقبة والبناء واحد، واللطيمة: سوق يباع فيها الطيب، عن أبي عمرو. وأنشد أبو علي في الباب. (51) وظلَّتْ بملقى وأحفٍ جرعَ المعى ... قياماً تفالى مصلخمَّا أميرها هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه كالشاهد في الذي قبله، أراد: بموضع "ملقى"، ثم حذف موضع، وأقام المصدر مقامه، ومثلهما قول أبي خراش الهذلي: وإنَّكَ لوْ أبصرتَ مصرعَ خالدٍ ... بجنبِ السَّتارِ بينَ أظلمَ فالحزمِ فهو على حذف مضاف، التقدير: مكان أو موضع مصرع خالد، ألا ترى أن "المصرع" مصدر، والمصدر لا يجوز أن يرى وإنما يرى مكان الفعل لا الفعل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ويؤكد ذلك أنه قال: "بجنب الستار" فعلق به المجرور، كما قال الآخر: تمَّتْ نعيمةُ إلاَّ في ملاحتها ... فالحسنُ منها بحيثُ الشَّمسُ والقمرُ لغة البيت واحف: موضع بعينه، والجرع أرض ذات حزونة، تشاكل الرمل، وقيل: الجرع: الرملة السهلة، وقيل: الدعص لا ينبت. وجمعه: أجراع وجراعٌ، وهو أيضاً الجرعة، وجمعها جراع. وهو أيضاً: الجرعة، وجمعها جرعٌ، وهو أيضاً الجرعاء، وجمعها جرعاوات. والمعى موضع من الرمل معروف، والمعي: كل موضع بالحضيض. وقال أبو حنيفة: المعى: سهل بين صلبين، قال ذو الرمة: بصلبِ المعى أو برقةِ الثَّورِ لمْ يدع ... لها جدَّةً مرُّ الصَّبا والجنائبِ وقيل: المعى: مسيل الماء في الانحدار. وتفالى: يفلي بعضها بعضاً، وهو حك بعضها بعضاً، فجعله فلياً، تجوزاً. والمصلخم: العظيم في نفسه، المستكبر لا يحركها، ولا ينظر إليها، وقيل: المصلخم: الساكن لا يتحرك. معنى البيت يصف حماراً وأتناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وبعد البيت: فما زالَ فوقَ الأكومِ الفردِ واقفاً ... عليهنَّ حتَّى فارقَ الأرضَ نورها وراحتْ لإدلاجٍ عليها ملاءةٌ ... صهابيةٌ منْ كلَّ نقعٍ يثيرها فما أفجرتْ حتَّى أهبَّ بسدفةٍ ... علاجيمَ عينِ أبنيْ صباح نثيرها الإعراب أضاف المصدر: الذي هو "ملقى" غلى الفاعل، الذي هو "واحف" و"جرع المعى" مفعول، أي: بموضع لقي "واحفٌ جرع المعي"، أو واجهه. ونصف "قياما" على خبر "ظلت" وعلق به "بملقى"، و"تفالى": في موضع نصب نعت "لقياماً"، ومثله "مصلخما". ويروى بفتح الميم وضمها من ملقى. وروى أبو علي هذا البيت، "فظل" على التذكير، وقال "قياما" على المعنى، وكان ينبغي أن يقول "قائماً" لكن حمل على المعنى، لأن القطيع مفرد مذكر في اللفظ. وأنشد أبو علي في باب المفعول معه. (52) فأليتُ لا أنفكُّ أحدو قصيدةً ... تكونُ وإيَّاها بها مثلاً بعدي هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الشاهد فيه قوله: "تكون وإياها" نصب على المفعول معه. لغة البيت معنى آليت: حلفت، إيلاء وألية، ومعنى لا أنفك: لا أنفصلُ ولا أنزل، وأحدوا: أغني وأنشد، ومن رواه بالذل المعجمة فمعناه: أصنع وأحكم ألفاظها، وأتقن معانيها، من قولك: حذوت النعل، إذا سويتها على مثال واحد. معنى البيت أن أبا ذؤيب خاطب ابن عم له اسمه خالد بن زهير، وكان أو ذؤيب قد بعثه إلى أم عمرو امرأة كان أبو ذؤيب يحبها، وهي التي يشبب بها فأرادت خالد بن زهير على نفسه، فطاوعها، وكان أبو ذؤيب أخذها (من) عويمر بن مالك، فلما بلغ أبا ذؤيب فعل ابن عمه خالد بن زيهر، قال شعره الذي فيه: خليل الَّذي دلَّى لغيَّ خليلتي ... جهاراً فكلاَّ قدْ أصابَ عرورها فشانكها، إنَّي أمينٌ وإنَّني ... إذا ما تحالى مثلها لاَ أطورها فأجابه خالد بن زيهر، فقال شعره الذي فيه: فلاَ تجزعنْ منْ سيرةٍ أنتَ سرتها ... وأوَّلُ راضٍ سيرةً منْ يسيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ثم أرسلت أم عمرو إلى أبي ذؤيب تترضاه، فقال: تريدينَ كيما تجمعيني وخالداً ... وهلْ يجمعُ السَّيفانِ ويحكِ في غمدِ أخالدُ ما راعيتَ منْ ذي قرابةٍ ... فتحفظني بالغيب، أو بعضِ ما تبدي دعاكَ إليها مقلتاها وجيدها ... فملتَ كما مالَ المحبُّ على عمدِ وكنتُ كرقراقِ السَّرابِ، إذا جرى ... لقومٍ وقدْ باتَ المطيَّ بهم يخدي فأليتُ لاَ أنفكُّ أحدو قصيدةً ... تكونُ وإيَّاها بها مثلاً بعدي الإعراب اعلم أن المفعول معه، لم يخلص أن يكون فاعلاً، ولا مفعولاً، على الحقيقة، ولذلك جيء معه بحرف الشركة، المتضمن معنى "مع" دون عمله، وذلك أنه يتابع الفاعل على فعله، ويصاحبه فيه، فهو لا كالشريك، فجيء معه بحرف الشركة. ولما لم يصح أن يكون "فاعلاً"، إذ ليس له داعية غلى الفعل من قبل نفسه، صار "كالمفعول"، إذا هو محمول على أمر ليس من عند نفسه، ولم تكن له صفة مطلقة، على صفتين مختلفتين، إذا لم تكن معناه في إحدى الجهتين. وخص الواو، دون غيرها، لأنها الأصل في باب الشركة، مع اقتضائها الاجتماع في زمن الفعل، في أغلب أحوالها، دون سائر أخواتها. وذهب أبو الحسن على أن انتصاب المفعول معه، انتصاب الظرف، لما وقعت الواو موقع "مع" إذا قلت: "قمت مع زيد"، "ومع" منتصبة على الظرف، وأقمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الواو مقامها، انتصب "زيد" بعدها على معنى انتصاب "مع". قال أبو الفتح: فيكون منصوباً على هذا القول بنفس الفعل، دون واسطة، كما انتصب "مع" بنفس الفعل دون واسطة. وهذا خلاف ما عليه الجماعة، من أن العامل فيه، الفعل بتوسط "الواو"، و"الواو غير خارجة عن معنى العطف، وعطف ما بعدها على ما قبلها جائز فيه، وبهذا المعنى افترقت من حروف الجر، في أنه لم تعمل الجر بتوسطها، كعمل الحروف الجارة الجر، لتوسطها بين الفعل والاسم. و"إياها": يعني المرأة، والضمير في "بها" ضمير القصيدة، ونصب "مثلاً"، لأنه خبر "كان" وقع موقع التثنية، كما قال الله تعالى: (وجعلنا ابن مريم، وأمه آية) . ويقع "المثل" للجمع، لاقتضائه معنى الكثرة. و"إياها": عند الخليل، اسم مضمر، يضاف إلى ما بعده، للبيان، لا للتعريف، وحكى عن العرب: "إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وإيا الشواب"، وهو عند أبي العباس، محمد بن زيد: اسم مبهم، يضاف للتخصيص، لا للتعريف. وقال الزجاج: هو اسم مظهر، خص به المضمرات، فيضاف إلى سائرها، وللكوفيين ثلاثة أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الأول: أن إياك وإياه، وأخواتها بكمالها اسم مضمر. الثاني: أن "إيا" اسم مضمر، يكنى به عن المنصوب، زيدت عليه هذه الحروف علامات، يعرف بها الغائب والمتكلم والمخاطب. الثالث: أن "الكاف" وما حل محلها، ضمائر لم يقم بأنفسها، إذا لا تنفرد ولا تكون إلا متصلة بالأفعال، فجعلت لها "إيا" عماداً. وأنشد أبو علي في الباب. (53) ياليتَ زوجكِ قدْ غدا ... متقلَّدَّا سيفاً ورمحاً هذا البيت لعبد اله بن الزبعري. الشاهد فيه قوله "ورمحاً"، إذا لا يجوز هنا عطف "الرمح" على "السيف"، لما كان "الرمح" لا يتقلد، ومثله قول علقمة: تراهُ كأنَّ الله يجدعُ أنفهُ ... وعينيهِ إنْ مولاهُ ثابَ لهُ وفرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أراد: يفقأ عينيه، وقال آخر: تسمعُ للأجوافِ منها صردا وفي اليدينِ جسأةً وبددا أي: وتتبينُ في اليدين، وقال آخر: إذا ما الغانياتُ برزنَ يوماً ... وزججنَ الحواجبَ والعيونا أي: وكحلن العيونا، ومثله كثير. وفيه دليل على أن العامل في المعطوف غير العامل في المعطوف عليه، ألا ترى انه لا بد له، أن ينصبه بغير العامل الأول، إذ لا يقال: تقلدت الرمح، ولا جدعت العين. وإذا ثبت هذا في المختلفين، كان حكماً مرجوعاً إليه في المتفقين، وكان أبو علي، يرى أن العامل في المعطوف، هو العامل في المعطوف عليه. وأنشد أبو علي في باب المفعول له. (54) يركبُ كلَّ عاقرٍ جمهورِ مخافةً وزعلَ المحبورِ والهولَ منْ تهوُّلِ القبورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 هذه الأشطار للعجاج. الشاهد فيه نصب "مخافة، وزعل، والهول" على "المفعول له"، والتقدير: "للمخافة وللزعل وللهول"، فحذف الجار، ووصل "الفعل" فنصب. ولا يجوز مثل هذا: حتى يكون المصدر من معنى الفعل المذكور قبله، فيضارع المصدر المؤكد لفعله، كقولك: "تخوفت بركوبي كل عاقرٍ تخوفاً، وكذا ما بعده، وقال الآخر: وأغفرُ عوراءَ الكريمِ ادخارهُ ... وأعرضُ عنْ شتمِ اللئيمِ تكرُّما والتقدير: أدخرتك لمغفرتي ذنبك أدخاراً، وتكرمت عن شتمك بصفحي تكرماً، وكذلك قصدتك ابتغاء الخير، تقديره: ابتغيت ما عندك بقصدي لكم ابتغاء فإن كان لغير الأول لم يجز حذف حرف الجر، لأنه لا يشبه المصدر المؤكد لفعله، كقولك: قصدت لرغبة زيد في ذلك، لأن الراغب غير القاصد، فلا يجوز حذف حرف الجر هنا، فتقول: قصدتك رغبة زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وسيبويه يجوز كون "المفعول له" معرفة، ونكرة. وزعم بعضهم أن "المفعول له" لا يكون إلا نكرة، كالحال والتمييز، ومما يجيء فيه، "المفعول له"، معرفة ونكرة، غير ما تقدم، قوله: لكِ الخيرُ إنْ أزمعتِ صرمي وأصبحتْ ... قوى الحبلِ بتراً جدَّها الصُّرمَ حاذفُ فنصب "الصرم" على المفعول له، وهو معرفة، ومثله: لمَّا رأى نعمانَ حلَّ بكرفيء ... عكرِ كما لبجَ النُّزولَ الأركبُ فنصب "النزول" على "المفعول له" وهو معرفة. لغة البيت العاقر من الرمل: ما لا ينبت، والجمهور: الرمل الكثير المتراكم، والمحبور: المسرور، والزعل: النشاط. المعنى يصف ثوراً وحشياًن، خائفاً صائداً، أو سبعاً، يركب لقوته كل عاقر، وأكثر فزعه من "الهبور" لأنها مكمن الصائد و"الهبور": جمع هبر، وهو المطمئن من الأرض، ويقال: هبير، وجمعها هبر، و"الهول": الفزع ويروى "الهبور". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقبل البيت: عاليتُ أنساعي وجلبَ كوري على سراةِ رائحٍ ممطورِ من الدّبيلِ ناشطاً للكورِ وأنشد أبو علي في باب التمييز. (55) أتهجرُ ليلى للفراقِ حبيبها ... وما كان نفساً بالفراقِ تطيبُ الشاهد فيه تقديم التمييز على الفعل، وهو "تطيبُ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وهذا على مذهب المازني، والمبرد، لن قياسه عندهما قياس الحال. فيجيزان "عرقاً تصببت" و"نفساً طبت"، و"شحماً نفقأت" واحتجا على ذلك، بأن قالا: "العامل" في التمييز شيئان: أحدهما: اسم جامد، والآخر: فعل متصرف. فالاسم الجامد، نحو عشرين درهماً، وأفضل منك أباً. وهذا الضرب لا يجوز تقديم التمييز فيه على الاسم الميز. والضرب الثاني: وهو ما كان العامل فيه، فعلاً متصرفاً، وذلك "نفقأت شحماً" قالا: هذان الضربان في التمييز، يشبهان الحال، وذلك أن العامل في الحال على ضربين. عامل متصرف. وشيء في معنى فعل غير متصرف. فما كان فعلاً متصرفاً، فإن التقديم فيه والتأخير سائغ، كقولك قام زيد ضاحكاً، و"ضاحكاً قام زيد". وما كان العامل فيه معنى فعل، لم يجز تقديم الحال عليه، وذلك قولك "هذا زيدٌ قائماً"، و"خلفك زيدٌ قائماً"، لا يجوز "قائماً هذا زيد" ولا قائماً خلفك زيدٌ، واحتجا أيضاً ببيت المخبل. وسيبويه لا يجيز أن يتقدم "التمييز"، وإن كان العامل فعلاً، لأنه منقول عن "الفاعل، والفاعل لا يتقدم على فعله، وذلك أن قولك: "تفقأت شحماً، معناه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 تفقأ شحمي، "وتصببت عرقاً"، تصبب عرقي، و (اشتعلَ الرَّأسُ شيباً) اشتعل شيب الرأس. فنقل الفعل عن الثاني إلى الأول فارتفع الأول بالفعل المنقول إليه، وصار فاعلاً في اللفظ، فمنع الفعل أن يعمل في فاعله على الحقيقة، لأنه لا يرتفع به أكثر من وأحد وتوابعه، وانتصب المنقول عنه الفعل، والإضافة لا تصح فيه فلم يبق إلا النصب فنصب. وقال أبو علي في "التذكرة": إنما لم يجز تقديم التمييز، لأنه مفسر ومرتبة المفسر أن يقع بعد المفسر. وأيضاً فقد أشبه "عشرين درهماً". وأما "الحال" فهي مفعول فيها، كالظرف، فجاز فيها من التقديم ما جاز فيه. وقال بعضهم: إن "نفساً" في البيت، ينتصب بإضمار "أعني". وعلى هذا لا شاهد للمازني فيه. فكيف والرواية الصحيحة: وما كان نفسي بالفراق تطيب "فالنفس" على هذه الرواية رفع "بكان"، و"تطيب" جملة في موضع خبر "كان"، وعلى رواية المازني، اسم "كان" مضمر فيها، عائد على "الحبيب" و"يطيب" في موضع خبر "كان". و"نفساً" تمييز. ومعنى البيت مفهوم. وأنشد أبو علي في باب الاستثناء المنقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 (56) وقفتُ فيها أصيلاناً أسائلها ... عيَّتْ جواباً، وما بالرَّبعِ منْ أحدِ إلاَّ الأواريَّ لأياً ما أبيِّنها ... والنُّؤيَ كالحوضِ بالمظلومةِ الجلدِ هذان البيتان للنابغة الذبياني. الشاهد فيه ما نصب "الأواري" في النفي، وهو الوجه الجيد، لأن "الأواري" من غير جنس الأحدين، فالبدل فيه ضعيف. لغة البيت "أصيلان": تصغير أصل، وأصل جمع أصيل، والأصيل: العشي. وإنما صغره؛ ليدل على قصر الوقت. وقوله: "عيت جواباً": بمعنى عجزت، يقال: عي بالأمر عياً، وعيي وتعايا، واستعيا، هذه عن الزجاج، وهو عي، وعيي، وعيان. قال سيبويه: جمع العيي، أعيياء، وأعياء، التصحيح من جهة أنه ليس على وزن الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والإعلال، لاستثقال اجتماع الياءين. وقد أعياه الأمر، وأعيا، إذا كل. والربع: منزل القوم، وكأنه سمي بذلك، لإقامتهم فيه زمن الربيع. والأواري: محابس الخيل، ومرابطها، واحدها آري، وتقديره: "فاعول"، وهو من تأريت بالمكان، إذا أقمت به. والنؤي: حاجز من تراب، حول الخباء، لئلا يدخل الخباء السيل. والمظلومة: الأرض التي لم تمطر، فجاءها السيل، فملأها. والجلد: الأرض الصلبة. معنى البيتين وصف أنه مر بالديار عشياً قصيراً، فوقف فيها، وسألها عن أهلها، توجعاً منه، وتذكراً، وأنه لشدة حزنه، وتوجعه، لم يمنعه ضيق الوقت، وقصره من الوقوف بالدار، والسؤال عن أهلها، ووصف أنها خالية من الأنيس، فليس بها إلا مرابط الخيل، ومحابسها، لأنها درست فخفي أثرها، فلا يتبينها إلا بعد بطءٍ، وليس بها أيضاً إلا النؤي، وشبهه بالحوض لاستدارته. الإعراب "أسائلها": في موضع الحال، من ضمير المتكلم. "وجواباً" نصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً بإسقاط حرف الجر. ويجوز رفع "الأواري" و"النؤي" على البدل من موضع أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 "ولأياً": مصدر في موضع الحال، و"ما" زائدة. وأنشد أبو علي في باب الضرب الثاني من التمييز. (57) يا جارتا ما أنتِ جارهْ صدره: بانتْ لتحزننا عفارهْ هذا البيت للأعشى "ميمون بن قيس"، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه جواز دخول "من" على قوله "جاره"، فهو في موضع نصب على التمييز، أو نصب على الحال، على ما أجازه من الوجهين. الإعراب قوله: "يا جارتا": هو منادى مضاف، أبدل من كسرة التاء فتحة، فانقلبت الياء ألفاً. وقوله: "ما أنت": "ما" مبتدأ، و"أنت" خبره، وفيه معنى التعظيم، وهو العامل في التمييز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ومثله قول الهذلي: لعمري لأنتَ البيتُ أكرمَ أهلهُ ... وأقعدُ في أفيائهِ بالأصائلِ فقوله: "أكرم أهله" جملة في موضع الحال، والعامل في هذه الحال، ما في قوله: "لأنت البيت" من معنى التعظيم، كما كان في بيت الأعشى. وأما الكوفيون، فيجعلون هذا ونظائره، لا موضع له من الإعراب؛ لأنهم يعتقدون في مثل هذه الجملة، أنها صلة للألف واللام، تقديرها عندهم. لأنتَ البيتُ الَّذي أنا أكرمُ أهلهُ. ولا يجيز البصريون أن يوصل الألف واللام إلا إذا كانتا داخلتين على اسم الفاعل، كالضارب، والقائم، أو على اسم المفعول، كالمضروب، والمقتول. و"جارة" تمييز، كأنه قال: ما أحسنك جارة، أو ما أنبلك جارة، مثل قولهم: لله دره فارساً، وسبحان الله رجلاً، قال امرؤ القيس: فيا لكَ منْ ليلٍ كأنَّ نجومهُ ... بكلِّ مغارِ الفتلِ شدَّ بيذبلِ والتقدير: يا لك ليلاً. ويروى "ما كنت جاره" ومعناه كمعنى الأول، وتقديره: أي جارة كنت. وبعد البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ترضيكَ منْ دلٍّ ومنْ ... حسنٍ مخالطهُ غرارهْ بيضاءُ ضحوتها وصف ... راءُ العشيَّةِ كالعرارهْ وأنشد أبو علي في الباب. (58) يا سيِّداً ما أنتَ منْ سيِّدٍ ... موطَّأِ الأكنافِ رحبِ الذِّراعْ هذا البيت للسفاح بن بكير اليربوعي، واسمه معدان، ونسب لرجل من قريع. الشاهد فيه قوله: "ما أنت من سيد" على أن موضعه تمييز يدل على ذلك، دخول "من" عليه، كما قالوا: لله دره من فارس، قالوا: لله دره فارساً. "وما أنت" هنا تعجب أيضاً، مبتدأ وخبر. المعنى يرثي يحيى بن شداد، وكان قتل مع مصعب بن الزبير، بالكوفة. يقول: أكنافه يتمكن فيها من لجأ إليه، غير موذى، ولا ناب به موضعه، من قولهم: دابة وطيئ، ذلول، لا تحرك راكبها، ومنه فراش وطيئ، إذا كان وثيراً، لا يؤذي جنب النائم عليه. ومعنى رحب: متسع الخلق، على المثل، والرحب: الواسع. ومنه قولهم: "ضاق به ذرعاً"، أي قلت طاقته عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وأول الشعر: صلَّى على يحيى وأشياعهِ ... ربٌّ كريمٌ وشفيعٌ مطاعْ أمُّ عبيدِ اللهِ ملهوفةٌ ... ما نومها بعدكَ إلاَّ رواعْ يا سيِّداً ما أنتَ منْ سيِّدٍ ... موطَّأِ الأكنافِ رحبِ الذِّراعْ قوَّالِ معروفٍ وفعَّالهِ ... عقَّارِ مثنى أمَّهاتِ الرِّباعْ والمالئِ الشِّيزى لأضيافهِ ... كأنَّها أعضادُ حوضٍ بقاعْ يعدو فلا تكذبُ شدَّاتهُ ... كما عدا الليثُ بوادي السِّباعْ وأنشد أبو علي في باب "كم". (59) تؤمُّ سناناً وكمْ دونهُ ... منَ الأرضِ محدوباً غارها هذا البيت لزهير بن أبي سلمى، وينسب للأعشى. الشاهد فيه فصله بين "كم" وبين المجرور بها، فانتصب على التمييز، لقبح الفصل بين الجار وبين المجرور وقد جاء مثله، قال: كمْ بجودٍ مقرفٍ نالَ العلى ... وكريمٍ بخلهُ قدْ وضعهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ويجوز في قوله: "محدودبا" ما جاز في "مقرف". لغة البيت أم: قصد، أم الشيء والطريق أما قصده. وأم القوم: تقدم أمامهم، وأم الرجل إمامة، صار إماماً، وأم الرجل مأمومةً: شجه شجة تبلغ أم الدماغ. وسنان هذا الممدوح، هو سنان بن حارثة. والغار: ما انخفض من الأرض، وغور كل شيء، قعره. وجعل الغائر محدودباً، لما يتصل به من الأكام، ومتون الأرض. ومعنى البيت ظاهر. الإعراب "كم" هاهنا خبرية، مرفوعة بالابتداء، و"غارها": بمعنى غائرها، وقال: غار، كما قيل في السائر: سار، وفي الشائك: شاك، وفي الهائر: هار، قال الله تعالى: (جرفٌ هارٍ) . وقال أبو ذؤيب: وسوُّدِ ماءُ المردِ فاها فلونهُ ... كلونِ النَّؤورِ وهي أدماءُ سارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أراد: سائرها، وأنشد سيبويه: بادتْ وغيَّرَ آيهنَّ معَ البلى ... إلاَّ رواكدَ جمرهنَّ هباءُ ومشجَّجٌ أمَّا سوادُ قذالهِ ... فبدا وغيَّرَ سارهُ المعزاءُ أراد: سائره. وأبو العباس محمد بن يزيد، يأخذه من السؤر، وهو البقية. وأنكر أبو علي ذلك عليه. من طريق المعنى، واللفظ. وقال: أما المعنى: فلأن السؤر هو البقية، والبقية دون ما سواها من الشق الآخر، كاثنين من عشرة، وواحد من أربعة ونحو ذلك. أما أن تكون البقية أكثر مما مضى فلا، كما أن السؤر الذي هو البقية في الإناء ونحوه دون ما خرج عنه، وقد قال: "سواد قذاله"، وفي بيت أبي ذؤيب، "وسود ماء المرد فاها". وجعل ما ليس بفيها آدم، وما ليس بسواد قذاله، من جميع الجملة سائراً، وكذلك أيضاً بيت والكتاب. ترى الثَّورَ فيها مدخلَ الظِّلِّ رأسهُ ... وسائره بادٍ إلى الشَّمسِ أجمعُ فجعل ما عدا رأسه، وهو أضعافه، سائراً، ولو كان من "السؤر" الذي هو البقية، لتدافع المعنيان، فهذا فساد المعنى. وأما فساد اللفظ؛ فلأن عين "فاعل"، إنما تحذف متى كانت مبدلة عن حرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لين نحو: "هائر"، لأنه بدل من "واو"، تهور، و"ياء" تهير، وكذلك "شائك" لأنه بدل من "واو" الشوكة، وكذلك "لائث" لأنها بدل من واو لوث، فكذلك حذفت في شاك، ولاث، وهار، وإنما كان كذلك، لأنها اعتلت بالقلب، فلما اعتلت بالقلب، اعتلت أيضاً بالحذف. كما أن فاء "اتقى"، لما اعتلت بالقلب، اعتلت أيضاً بالحذف في قولهم: تقاه يتقيه. وليس كذلك همزة سائل وثائر من الثأر، لأنها كما لم تعل بالقلب، لم تعل بالحذف. وأنشد أبو علي في الباب. (60) على أنَّني بعدَ ما قدْ مضى ... ثلاثونَ للهجرِ حولاً كميلا يذكِّرنيكِ حنينُ العجولِ ... ونوحُ الحمامةِ تدعو هديلا هذان البيتان لعباس بن مرداس. الشاهد فيه ما فصله بين "الثلاثين" وبين "الحول"، بالمجرور ضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وهو في "كم" يجوز جوازاً حسناً، لأنه صار عوضاً من تمكنها، لأنها لا تكون إلا مقدمة، ولا يجوز تأخيرها، لا تقول: رأيت كم رجلاً، وإنما تقول: كم رأيت رجلاً. والعداد ليست كذلك، لأنها لا تمتنع من التقديم والتأخير، لأنها لم تتضمن معنى يجب لها به التقديم، مثل ما تضمنت "كم" من معنى الاستفهام، فعملت في التمييز، كما يجب متصلاً بها، فالفصل بينها وبين مميزها قبيح على هذا. لغة البيت الهجر: المصارمة والقطع، يقال: هجر صاحبه هجراً وهجراناً، ومنه هجرة المهاجرين، لأنهم هجروا قبائلهم وعشائرهم. والحول: السنة. يقال: حال الحول حولاً، وحؤولاً، والحول أيضاً: الحيلة. والحول: ما دار بالشيء، يقال هم حولك وحواليك. والكميل والكمل والكامل: واحد، ويجمع كميلاً على كمال، بكسر الكاف، وقد يكون "كمالاً" جمع كامل، وهما لغتان، أعني كميلاً وكاملاً، وأما "كمال"، بفتح الكاف، فهو مصدر. ويروى بيت للبيد على وجهين: لوردٍ تقلصُ الغيطانُ عنهُ ... يبذُّ مفازةَ الخمس الكمالِ هذا على من روى "الخمس" بفتح "الخاء" وأما من كسر "الخاء"، فيقول: "الكمال" بفتح الكاف لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 والعجول: الواله من النساء، والإبل، قيل لها ذلك؛ لعجلتها في جيئها وذهابها جزعاً، والجمع: عجل وعجائل، ومعاجيل. والعجول: المنية، لأنها تعجل من نزلت به عن إدراك أجله، قال المرار: ونرجو أنْ تخطَّاكَ المنايا ... ونخشى أنْ تعجِّلكَ العجولُ والعجول: تمر يعجن بسويق، فيتعجل أكله، والعجول: ما استعجل به قبل الغداء، كاللهنة. والهديل: يحتمل هنا أن يكون صوت الحمامة، فيكون مصدراً، والعامل فيه "تدعو" وتقديره: تهدل هديلاً. ويحتمل أن يكون فرخ الحمامة، الذي تزعم الأعراب أن جارحاً صاده، في سفينة نوح، فالحمام تبكي عليه، قال طرفة: فلا أعرفنِّي إنْ نشدتُّكَ ذمَّتي ... كداعي هديلٍ لا يجابُ، ولا يملّْ فالهديل هنا: الفرخ؛ لأن الحمام تدعوه، نائحة عليه، فلا هو يجيبها، ولا هي تمل دعاءه. وأنشد أبو علي في الباب. (61) وكائنْ بالأباطحِ منْ صديقٍ ... يراني لوْ أصبتُ هوَ المصابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 هذا البيت لجرير، من قصيدة يمدح بها الحجاج بن يوسف. الشاهد فيه "وكائن بالأباطح" ومعنى "كائن"معنى "كم"، ومثله: وكائنْ رددنا عنكمُ منْ مدجَّجٍ ... يجيءُ أمامَ الحيِّ يردي مقنَّعا لغة البيت بهذه اللغة قرأ عبد الله بن كثير المكي، في قوله: (وكائنْ منْ نبيٍّ قتلَ معهُ) و (كائنْ منْ قريةٍ) . والقراءة الكثيرة، "وكأين" بالتشديد، وهمزة مفتوحة قبلها. وفيها لغات: "كائن" على وزن فاعل، من المنقوص، على وزن نأي، وداع و"كيءٍ" على وزن كيع، و"كأيٍ" على وزن كعي، "وكإٍ" على وزن كع. والأصل في ذلك كله، "كأي" وهي "أي" دخلت عليها كاف التشبيه، فحدث لها من بعد معنى "كم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثم كثر استعمالها، فتلعبت بها العرب كأشياء يكثر تصرفها فيها، لكثرة نطقها بها. فقدمت الياء المشددة على الهمزة، فصارت "كيأ" على وزن كيع، ثم حذفت الياء المتحركة، تشبيهاً لها بسيد وميت، فصارت "كيءٍ" بوزن كيع، ثم قلبت الياء ألفاً، وإن كانت ساكنة، كما قلبت في "ييأس"، فصار ياءس، فصارت "كاء" بوزن كاع. وذهب يونس في "كائن" انه فاعل من الكون. وهذا يبعد، لأنه لو كان كذلك، لوجب إعرابه، إذ لا مانع له من الإعراب. وأما "كأي" بوزن كعي، فهو مقلوب "كيءٍ" الذي هو أصل "كاءٍ" وجاز قلبه لأمرين. أحدهما كثرة التلعب بهذه الكلمة. والآخر؛ أنه مراجعة الأصل. ألا ترى أن أصل الكلمة "كأي" فالهمزة إذن قبل الياء. وأما "كإ" بوزن كع، فمحذوفة من "كإ" وجاز حذف الألف لكثرة الاستعمال كما قال الراجز: أصبحَ قلبي صردا لا يشتهي أنْ يردا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 إلاَّ عراداً عردا وصلِّياناً بردا يريد: عارداً، وباردا، ألا ترى إلى قول أبي النجم: كأنَّ في الفرشِ القتادَ العاردا وكما قالوا: "أم والله، لقد كان كذا" يريد: أما والله، فحذف "الألف". فإن قلت: فما مثال هذه الكلمة من الفعل؟. قلت: مثال "كأين" كفعل؛ وذلك أن الكاف زائدة. ومثال "أي" فعل كطي وري، مصدر طويت ورويت، وأصل "أي"، أوي؛ لأنها فعل من أويت، ووجه التقائهما أن "أيا" أين وقعت، فهي بعض من كل، وهذا هو معنى "أويت"؛ وذلك أن معنى أويت إلى الشيء: تساندت إليه، قال أبو النجم. يأوي إلى ملطٍ لهُ وكلكلِ أي: يتساند هذا البعير إلى ملاطه، وكلكله، ونحوه قول طفيل الغنوي: وآلتْ إلى أجوازها وتقلقلتْ ... قلائدُ في أعناقها لمْ تقضَّبِ فمعنى آلت: رجعت، والآوي إلى الشيء معتصم به، وراجع إليه، وهذا طريق الاشتقاق. وأما القياس: فكذلك أيضاً؛ وذلك أن باب طويت، وأويت، وشويت مما عينه واو ولامه ياء، هو أكثر من باب حييت، وعييت، مما عينه ولامه ياءان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولو نسبت إلى "أي"، لقلت: أووي، كما أنك لو نسبت إلى طي، ولي لقلت: طووي، ولووي. وأما "كاء" فوزنه: كاف، وأصله "كيَّأٍ" وزنه كعلف، فحذفت الياء الثانية، وهي لام الفعل، كما حذفت الثانية من ميت، فبقي "كيءٍ" ووزنه كعف، وقلبت الياء ألفاً، وقلبها ألفاً لا يخرجها عن أن تكون عيناً، ألا ترى أن وزن "قام" في الأصل "فعل"؛ لأنه قوم، ومثال قام في اللفظ "فعل"، فالألف عين، كما كانت الواو التي الألف بدل منها عيناً. وأما مثال "كأي" فإنه كيع؛ لأن الهمزة التي هي فاء، عادت إلى مكانها من التقدم. وأما "كإ" فوزنه كف، والعين واللام محذوفتان. فإن قيل: لم حذفت "الياء" من "كيٍ"، وهلا رددت "الواو" على مذهبك؛ لأنه قد زالت الياء التي قلبت لها العين قبلها ياء، فقدرته: "كوءٍ". قيل: لما تلعب بالكلمة، تنوسي أصلها، فصارت الياء كأنها أصل في الحروف. ودعانا إلى اعتمادها هذا، وإن لم تظهر الياء في اللفظ، أن الألف أبدلت منها، الياء الساكنة ألفاً، أضعاف قبلها من الواو الساكنة. ألا تراهم كيف قالوا: حاحيت، وعاعيت، وهاهيت، وأصلها: حيحيت، وعيعيت، وهيهيت، فقلبت الياء ألفاً. وقلبوها مكسوراً ما قبلها ألفاً أيضاً فقالوا في الحيرة: حاري، كما قالوا في المفتوح: طائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 معنى البيت يقول: كثير من الأوداء والأخلاء والأصحاب والأحباب بالأباطح ممن يفديني بنفسه، إن ألم بي أمر، أو عراني حادث من الدهر، ويرى مصابي مصاباً عظيماً. وبعد البيت: ومسرورٍ بأوبتنا إليهِ ... وآخرَ لا يحبُّ ليَ الإيابا الإعراب "يرى" هاهنا علمية، و"هو": هنا في موضع رفع، بدل من الضمير الذي في "يراني"، ولا يكون فصلا؛ لأن "هو" الغائب، والمفعول الأول في "يراني" للمتكلم. والفصل إنما يكون الأول في المعنى، كقوله تعالى: (إنْ ترنِ أنا أقلُّ منكَ مالاً وولداً) . ألا ترى أن "أنا" هو المفعول الأول المعبر عنه "بني". ويجوز أن يكون التقدير: يرى مصابي، وما نزل بي المصاب، فيجوز على هذا التقدير: أن يكون "هو" فصلاً، وكذا في رواية من رواه "يراه" أي: يرى نفسه أو "تراه" لو أصبت. هذا قول أبي علي في "شرح الأبيات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وأراد المصاب العظيم، فحذف الصفة لما فهم المعنى، كما قال الله تعالى: (فلا نقيمُ لهمْ يومَ القيامةِ وزناً) . "أي" نافعاً؛ لأنه بين في الآية الأخرى، أن أعمالهم توزن، وذلك قوله: (ومنْ خفَّتْ موازينه) الآية. وعلى نحو من هذا أجاز النحويون: سير بزيد سير، بالرفع أي: سير واحد لا سيران، ولولا ذلك لم يجز رفع المصدر، لأنه غير محدد، ولا منعوت ولا معرف، ولا يقوم المصدر مقام الفاعل إلا بأحد هذه الشروط. وأنشد أبو علي في باب النداء. (62) يبكيكَ ناءٍ بعيدُ الدَّارِ مغتربٌ ... يا للكهولِ وللشُّبَّانِ للعجبِ هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي، وينسب إلى أبي زبيد الطائي، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه كسر لام "وللشبان" وهو معطوف على قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 "يا للكهول" فدل على أن الأولى مثلها، و"اللام" في "يا للكهول" مفتوحة لدخولها على مدعو، "وللشبان" معطوف عليه، إذا بالعطف زال اللبس، ودل أنها دخلت على مدعو، فكسرت استمراراً على كسرها مع الظاهر، واستصحابا في حالها، وهي في "يا للعجب" مكسورة؛ لأنها في مدعو إليه، وأصل هذه "اللام" الفتح، ألا تراها مع المضمر كذلك، حيث لا يتبين الإعراب، وكسرت في الظاهر، لئلا تلتبس بلام الابتداء. فإن قيل: فلم فتحت مع المدعو، وكسرت مع المدعو إليه؟. فالجواب: للفرق بينهما. فإن قيل: لو عكس لوقع الفرق، فلم خصت لام المدعو بالفرق؟. فالجواب: أن المدعو منادى واقع المضمر، و"اللام" مع المضمر مفتوحة، فكان المدعو أولى بالفتح، لهذه العلة. ووجه آخر: إنما كانت الأولى أولى بالفتح من الثانية، من قبل أن المدعو له لم يخرج عن منهاج ما تدخله "اللام" المكسورة، لأنك إذا قلت: يا "للعدو"، فمعناه: أدعوكم للعدو، فهي على أصلها. والمنادى المدعو، في دخول "اللام" عليه، خارج عن القياس؛ لأن المنادى لا يحتاج إلى "لام"، فكان تغيير لامه أولى؛ لأن دخولها في غير موضعها، هو معنى حادث أوجب الفصل، فليس فتحها بالفتح الذي يجب في أصل "اللام"، إنما هو تغيير بعد لزوم الكسرة، والدليل على ذلك أنك إذا عطفت عليه، رددته إلى الكسر، وذلك أن الكسر قد صار كالأصل له، بعد الفتح. وينبغي أن يكتب "يا لقومي"، و"يا للكهول". و"يا لبكر"، و"يا لله"، وما كان مثله مما فيه "لام الاستغاثة" موصولا كما ترى؛ وذلك أن هذه "لام الجر" في نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قولك: المال لزيد، ولعمرو، كما قدمت، فكما أن تلك موصولة بلا خلاف، فكان ينبغي أن تكون هذه موصولة بما جرته، لا فرق. فأما من ظن أن قولهم: يا لبكر، ويا للمسلمين أنه "يا آل ذا". فتارك لصواب اللفظ، وصحة المعنى. أما اللفظ؛ فلأنه خلاف همزة "آل"، التي هي فاؤه، وألفه التي هي مكان عينه حذفا من غير أن يأتي عليه بدليل، أو يظهر له وقت استعمال. وأما المعنى، فإن قوله: "يا لله"، إنما معناه: يا الله بالدعاء إليه سبحانه، ولا يراد به يا "أهل الله"، وكذلك "يا للمسلمين"، إنما معناه: يا ألله بالدعاء إليه سبحانه، ولا يراد به يا "أهل الله"، وكذلك "يا مسلمين"، إنما معناه: يا مسلمون، وكذلك "يا للعجب"، إنما يدعو نفس العجب، فيقول: هذا من أولائك وليس يريد يا أهل العجب، ولا يا أهل المسلمين، وهذا لاحق بالضرورة. فإن قيل: ليس الغرض هنا عبارة عن "الأهل"، وإنما "الآل": الشخص هنا: فكأنه إذا قال: "يا لبكر، فكأنه قال: يا شخص بكر احضر. فالجواب أن قولهم: "يا الله"، يرفع هذا، وأيضاً لو كان هذا أصلا عندهم لجاز، بل وجب أن يخرج في بعض الأحوال، أو في أكثرها؛ ليدل على الغرض وينفي الظنة والشبهة. وهذا لم يسمع في نظم، ولا نثر، فوجب اطراحه، وترك اعتقاده ويكفي من هذا قولهم: "يا لزيد ولعمرو"، "ويا للكهول وللشبان"، فالعطف باللام الجارة دليل على أن "اللام الأولى"مثلها. والنائي: البعيد، والمغترب: الغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 معنى البيت يقول: إذا مات غريب بكاه الغرباء الذين هم مثله، بدار الغربة وإذا نعي إلى أهله سروا بموته، فتعجب من هذا، ودعا ليتعجب منه. وأنشد أبو علي في الباب. (63) إذا اللِّقاحُ غدتْ ملقى أصرَّتها ... ولا كريمَ منَ الولدانِ مصبوحُ وردَّ جازرهمْ حرفاً مصرَّمةً ... في الرأسِ منها وفي الأصلابِ تلميحُ هذان البيتان لرجل من النبيت، والنبيت: حبي من الأنصار، واسمه، عمرو بن مالك بن الأوس. وقيل: هما لأبي ذؤيب الهذلي، ولم أرهما في شعره. الشاهد في البيت الأول، وهو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 "مصبوح" إن شئت جعلته خبراً "للا" النافية، لأنها وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ، وإن شئت جعلته نعتاً لاسم "لا" محمولاً على الموضع ويكون الخبر محذوفا، لعلم السامع، تقديره: "موجود"، والمجرور الذي هو "من الولدان" في موضع الصفة لاسم "لا" متعلق بأجنبي، كأنه قال: ولا كريم ثابت من الولدان مصبوح. لغة البيت اللقاح: جمع لقحة، وهي الناقة الحلوب، وكذلك اللقوح، وجمعها لقح. ويقال: ناقة لقوح، ولا يقال: ناقة لقحة. والأصرة: جمع صرار، كحمار وأحمرة، وهي خرقة تشد على أخلاف الناقة؛ لئلا يرضع الفصيل. ويقال لها أيضاً: الشمال. ومعنى مصبوح: مسقى صبوحا؛ وهو شرب الغداة، قال: متى تأتني أصبحكَ كأسا رويَّةً ... وإن كنتَ عنها ذا غنىً فاغنَ وازددِ والحرف: هاهنا الناقة الضامر الهزيل، ويقال: الصلبة القوية. ومصرمة: مقطوعة اللبن، لعدم الرعي، والمصرمة أيضاً: المقطوعة الأخلاف. والأصلاب: جمع صلب بما يليه، وهو الظهر، كما قال امرؤ القيس: يطيرُ الغلامَ الخفَّ عن صهواتهِ ... ويلوي بأثوابِ العنيفِ المثقَّلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والتلميح: بياض في سواد. معنى البيت يقول: هم في جدب، فاللبن عندهم متعذر، لا يسقاه الكريم من الولدان، فضلاً عن غيره، لعدمه عندهم. وجازرهم يرد عليهم من المرعى ما ينحرون للضيف، إذ لا لبن عندهم. واللقاح لا أصرة على أخلافها، إذ لا لبن فيها يتقى عليه أن يرضعه الفصيل. ووقع هذا البيت في كتاب سيبويه، وفي نسخ من "الإيضاح". وردَّ جازرهمْ حرفا مصرَّمةً ... ولا كريمَ منَ الولدانِ مصبوحُ والصحيح ما وقع هنا، وقبل البيتين: هلاَّ سألتِ النَّبيتيِّين ما حسبي ... عندَ الشِّتاءِ إذا ما هبَّتِ الرِّيحُ وأنشد أبو علي في الباب. (64) لا أبَ وابناً مثلَ مروانَ وابنهِ ... إذا هو بالمجدِ ارتدى وتأزَّرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 هذا البيت للكميت بن معروف، وينسب للكميت الأسدي. الشاهد فيه قوله "وابناً" حمله على لفظ "لا أب" ونونه؛ لأن المعطوف لا يجعل هو وما قبله بمنزلة اسم واحد، لأنهما مع حرف العطف، ثلاثة أشياء، والثلاثة لا تجعل اسما واحدا، فلا بد من كون المعطوف معربا. معنى البيت أنه مدح بهذا الشعر مروان بن الحكم، وابنه عبد الملك، وجعلهما لشهرتهما، لابسي المجد، مرتديين به، ومؤتزرين. الإعراب يجوز حذف همزة "لا أب" فتقول: "لا ب لك"، حكاه أبو زيد، وأنشد أبو علي الفارسي، على تخفيفه، قول أبي الأسود الدؤلي: يا با المغيرةِ ربَّ أمرٍ معضلٍ ... فرَّجتهُ بالنُّكرِ منَّا والدَّها وقال آخر: ولستُ بمضطرٍّ ولا ذي ضراعةٍ ... فخفِّضْ عليكَ القولَ يا با المثلَّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقال آخر: يا با خصيلةَ لنْ يميتكَ بعدها ... يا با خصيلةَ غيرُ شيبِ قذالِ وجاز حذفها لكثرة استعمالهم لها. وقول: "مثل مروان" يجوز رفعه على خبر "لا" وما بني معه، ويجوز نصبه على النعت "لابن". ولو رفعته لتجعله نعتاً على الموضع كان قبيحاً. و"مثل" صفة لهما، ولا تكون صفة لأحدهما، ألا ترى أنه قد أضيف إلى "مروان" وعطف "ابناً" عليه، والعطف بالواو نظير التثنية، وكما أن "مثلهم" في قوله تعالى: "إنَّكمْ إذا مثلهم) . خبر عن جميع الأسماء، حيث كان مضافا إلى ضمير الأسماء، وكذلك يكون "مثل" وصفا للاسمين معا. ورفع "هو" بفعل مضمر، دل عليه ما بعده، على حد قوله تعالى: (إذا السَّماءُ انشقَّتْ) . وإنما قال: "إذا هو" ولم يقل هما، لأنه أخبر عن أحدهما، وهو يريدهما ويعنيهما، اختصارا واكتفاءٍ بعلم السامع. والعرب تفعل ذلك كثيراً، تخرج من الإخبار عن اثنين، إلى الإخبار عن واحد، وذلك أن كل شيئين إذا اصطحبا، وقام كل واحد منهما مقام صاحبه، وجرى على أحدهما ما يجري على الآخر، فإنها تفرد الإخبار عنه، وهي تريدهما معا، قال الله تعالى: (فلا يخرجنَّكما منَ الجنَّةِ فتشقى) . وقال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 كأنَّ في العينينِ حبَّ قرنفلٍ ... أوْ ستبلاً كحلتْ بهِ فانهلَّتِ فقال: كحلت وانهلت، وكان حقه أن يقول: كحلتا وانهلتا. وقال الفرزدق: ولو رضيتْ يدايَ بها وضنَّتْ ... لكانَ عليَّ للقدرِ الخيارُ ووجه الكلام "ضنتا"، ومثله كثير. والعامل في "إذا" معنى المماثلة، جعلت "مثل" خبرا، أو صفة. ويجوز أن يكون العامل في "إذا" خبر "لا" إذا أضمرته، وجعلت "مثل" صفة. وأنشد أبو علي في الباب. (65) هذا لعمركمُ الصَّغارُ بعينهِ ... لا أمَّ لي إنْ كانَ ذاكَ ولا أبُ هذا البيت نسبه سيبويه لرجل من مذحجٍ، ونسبه الجاحظ في "كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 النخل والزرع" له، لرجل من كنانة، ووقع في "ديوان شعر ابن حمر الباهلي" وذكر عبد الدائم بن مرزوق القيرواني في كتابه "حلى العلى"، أنه لرجل من عبد مناة، وذكر ابن الأعراب ي، أنه قيل قبل الإسلام بخمس مئة عام، وقال أبو رياش: أنه لهمام بن مرة أخي جساس بن مرة، قاتل كليب. وقال الأصبهاني: هو لضمرة بن ضمرة. والصحيح أنه لعمرو بن الحارث بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة (و) هو الأحمر. وذكر المفضل الضبي أنه لبعض ولد طيء، وكان يفضل جندباً أحد ولد ولده، عليهم فقال (أحدهم) لآخر منهم، يسمى عمراً: "يا عمرو خبرني" الأبيات. الشاهد في البيت عطف "ولا أب" على موضع الاسم المنفي مع "لا". معنى البيت لهذا للشاعر خبر؛ وذلك أنه كان باراً بوالديه، وكان له أخ يعقهما وكان اسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 جندباً، وكانا يؤثران العاق عليه، فمتى كان مهم دعي له، وترك العاق، ومتى كان نفع وفائدة دعي العاق وترك البار، يبين هذا قوله: يا ضمرَ خبِّرني، ولست بكاذبٍ ... وأخوكَ نافعكَ الَّذي لا يكذبُ هلْ في القضيَّةِ أنْ إذا استغنيتمُ ... وأمنتمُ فأنا البعيدُ الأجنبُ وإذا الشَّدائدُ بالشَّدائدِ مرَّةً ... أشجتكمُ فأنا الحبيبُ الأقربُ ولما لكمْ أنفُ البلادِ ورعيها ... ولنا الثَّمادُ ورعيهنَّ الأجدبُ وإذا تكونَ كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاسُ الحيسُ يدعى جندبُ هذا وجدِّكمُ الصَّغارُ بعينهِ ... لا أمَّ لي إنْ كانَ ذاكَ ولا أبُ عجبا لتلكَ قضيَّةً وإقامتي ... فيكمُ على تلكِ القضيَّةِ أعجبُ والحيس: خلط الأقط بالتمر. ومثل هذا المعنى قول: عطية بن عمرو العنبري، من أصحاب المهلب: يدعى رجالٌ للعطاءِ وإنَّما ... يدعى عطيَّةُ للطِّعانِ الأجردِ ومثله قول جرير: لجده الخطفى، وقسم ماله على إخوته، وقصر بجرير، فسأله أن يلحقه بهم، فلم يفعل فقال. فأنتَ أبي ما لمْ تكنْ ليَ حاجةٌ ... وإنْ عرضتْ فإنَّني لا أباليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الإعراب قوله: "وجدكم" اعترض بالقسم بين المبتدأ وخبره، وهو كثير في القرآن، وفصيح في الشعر، وهو جار عندهم مجرى التوكيد. فمنه قوله تعالى: (فَلا أُقسِمُ بِمَواقِعِ النُّجومِ، وإنَّهُ لَقَسمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيْمٌ) . فهذه الآية فيها اعتراضان: أحدهما: قوله: "وإنه لقسم" اعترض به بين القسم الذي هو: "فلا أقسم" وبين جوابه الذي هو: "إنه لقرآن". والثاني: اعترض بقوله: "تعلمون" بين الصفة والموصوف، الذي هو "قسم عظيم" ومن ذلك قول الشاعر: ألا هلْ أتاها والحوادثُ جمَّةٌ ... بأنَّ امرأَ القيسِ بنَ تملكَ بيقرا فقوله: "والحوادث جمة" اعتراض بين الفعل وفاعله، ومن ذلك قول الشاعر: وقدْ أدركتني والحوادثُ جمَّةٌ ... أسنَّةُ قومٍ لا ضعافٍ ولا عزلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقال آخر: ذاكَ الَّذي وأبيكَ يعرفُ مالكٌ ... والحقُّ يدفعُ ترُّهاتِ الباطلِ وقوله: "وأبيك" اعتراض بين الموصول وصلته وقال عبد الله بن الحر: تعلَّمْ ولوْ كاتمتهُ الناسَ أنَّني ... عليكَ ولمْ أظلمْ بذلكَ عاتبُ فقوله: "ولو كاتمته الناس"، اعتراض بين الفعل ومفعوله، وقوله: ولم أظلم بذلك، اعتراض بين اسم "أن" وخبرها، وهو كثير. وهذا الاعتراض، لا موضع له من الإعراب، ولا يعمل فيه شيء من الكلام المعترض به بين بعضه وبعض. وأنشد أبو علي في باب النكرة المضافة. (66) أبالموتِ الَّذي لا بدَّ أنَّي ... ملاقٍ لا أباكِ تخوِّفيني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 هذا البيت لعنترة بن شداد العبسي، في رواية ابن السكيت، ونسب لأبي حية النميري. الشاهد فيه قوله "لا أباك" حذف "اللام" من قولهم: "لا أبا لك وهذه "اللام" تلحق بين المضاف والمضاف إليه، تبييناً لمعنى الإضافة وتوكيداً، نحو "لا أبا لك"، و"لا أبا لزيد"، "الأب": منصوب "بلا"، و"اللام" مقحمة، غير معتد بها، من جهة ثبات الألف في "أب"، وهي معتد بها من جهة أنها هيأت الاسم، لتعمل "لا" فيه؛ إذ لا تعمل إلا في نكرة. فإذا اضطر الشاعر حذفها، لأنها زائدة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الآخر: وقدْ ماتَ شمَّاخٌ وماتَ مزرِّدٌ ... وأيُّ كريم لا أباكَ يخلَّدُ وقال آخر في إقحامها: ألقِ الصَّفيحةَ لا أبا لكَ إنَّني ... أخشى عليكَ منَ الحباءِ النَّقرسِ وقال عنترة: فاقنيْ حياءكِ لا أبا لكِ واعلميْ ... أنَّي امرؤٌ سأموتُ إنْ لمْ أقتلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وقال آخر: فلوْ كنتَ مولى العزِّ أوْ في ظلالهِ ... ظلمتَ ولكنْ لا يديْ لكَ بالظُّلمِ ومثله في توكيد الإضافة قول النابغة الذبياني: يا بؤسَ للجهلِ ضرَّارا لأقوامِ ومثله قول سعد بن مالك: يا بؤسَ للحربِ الَّتي ... وضعتْ أراهطَ فاستراحوا الإعراب وأراد: تخوفينني، فحذف النون الثانية، لأنها زائدة على الياء، التي هي وحدها الاسم، والأولى علامة رفع الفعل، وهي أيضاً المحذوفة، من قول الآخر: تراهُ كالثَّغامِ يعلُّ مسكاً ... يسوءُ الفالياتِ إذا فليني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ومثله قوله تعالى: (أَتَحاجُّونِي) و (فَبِمَ تُبَشِّرُونِ) و (تُشَاقُّونِ) فيمن قرأ بنون واحدة وأما قول الفضل بن العباس: كلٌّ لهُ نيَّةٌ في بغضِ صاحبهِ ... بنعمةِ اللهِ نقليكمْ وتقلونا فيحتمل أمرين: أحدهما: أنه حذف النون الأخيرة، لإقامة الوزن، لأنها اسم، وليست زائدة على الألف، كما كانت النون الثانية، في "تخوفيني" و"أتحاجوني"، زائدة على الياء، وهي اسم، فحذف النون من "تخوفيني"، "وفليني"أسهل من حذفها في قوله: "تقلونا، وتضربونا". وقد أجاز أبو علي الفارسي، في قوله تعالى: (إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) أن يكون حذف النون الثالثة المزيدة، في "إننا" وهذا كما تراه عجيباً في معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الثاني: أراد، "بنعمة الله أن نقليكم وتقلونا"، فعطف "تقلونا" وحذف النون التي هي علامة الرفع، وحذف "أن" كما قال طرفة: ألا أيُّهذا الزَّاجري أحضرَ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللَّذَّاتِ هلْ أنتَ مخلدي بنصب "أحضر" أعمل "أن" وحذفها، وأراد: "نقليكم" فأسكن "الياء" في موضع النصب. قال أبو العباس: إنه من أحسن الضرورات، أعني إسكان "الياء" في موضع النصب، تشبيهاً لها بالألف. ويحتمل أن يكون لما حذف "أن" رفع الفعل على قولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" فيكون المعنى: بنعمة الله تقالينا وتهاجرنا. وعلق قوله: "أبا لموت" هذا المجرور، بقوله: "تخوفيني"، ويجوز أن تجعل "الباء" زائدة، و"الموت"، في موضع المفعول الثاني، وحذف المفعول من "ملاق"، تقديره: ملاق إياه، أو ملاقيه. وأنشد أبو علي في باب الأسماء المجرورة. (67) ربَّ هرقتهُ ذلكَ اليو ... م وأسرى منْ معشرٍ أقتالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 هذا البيت للأعشى ميمون بن قيس. الشاهد فيه حذف صفة معمول "رب"، لدلالة الكلام عليه، وهو قوله: "وأسرى من معشر". فهذا المجرور، لا يصح أن يكون من صلة "أسرى"؛ لأن و"أسرى" معطوف على "رب" وهي لا بد لها من صفة، فكذلك ما عطف عليها، ويدل على ذلك، أنه أتى بنوعين. فقال: "رب رفد هرقته، ورب أسرى أخذتهم من معشر أقتال"، ومثله قول امرئ القيس: ألا ربَّ قدْ لهوتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنَّها خطُّ تمثالِ ويروى "وساعة". فعطف "وليلة"، ولم يصفها، فمن روى "ساعة"، لما كانت تشارك اليوم في الصفة، جاز أن يحذف صفتها من اللفظ، وهي مرادة في المعنى، ومثل هذا قولهم: زيد ضربته، وعمرو، تريد: وعمرو ضربته فاكتفوا بالجملة الأولى، فكأنها ملفوظ بها. وليس "الرفد، والأسرى"، كذلك؛ لأن صفة "الرفد" لا توافق صفة "الأسرى"، فأن تخليت وحملت على المعنى، فقلت: إن إراقة الرفد إتلاف، وأسر الأسرى إهانة وإتلاف، فتكون على هذا الصفتان من جنس واحد، مثل "زيد ضربته وعمرو"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فتكون قد استغنيت بالصفة الأولى عن الثانية، فيكون الجار على هذا متعلقاً "بأسرى"، فتدبره. لغة البيت الرفد: القدح. يقال بفتح الراء وكسرها، وقال الأصمعي: الرفد بكسر الراء، القدح وبفتحها، مصر رفدتك رفداً. وقال أبو عبيدة: الرفد: بفتح الراء: القدح، وبكسرها المصدر، واختلفا في هذا البيت، فرواه الأصمعي بالكسر، ورواه أبو عبيدة بالفتح. وعدل القول بينهما، أن الرفد بفتح الراء المصدر، وبكسر الراء الاسم. فأما القدح، فيقال فيه: رفد، ورفد، بكسر الراء وفتحها. ويروى: أهرقته. بالألف. والأقتال: أهل الترات، واحدهم قتل. وواحد أسرى: أسير، لأنه في تأويل مفعول، كجريح وجرحى، وهو قياسه، ويجمع أسارى، وقرئ به. وجاء به أبو العلاء في قوله: وما سلبتنا العزَّ قطُّ قبيلةٌ ... ولا باتَ منَّا فيهمُ أسراءُ وهو من الجموع النادرة؛ لأن "فعيلاً" إنما يجمع على "فعلاء" إذا كان في تأويل "فاعل" نحو: كريم وكرماء، ومجاز قولهم في جمعه "أسراء" أنهم يقولون: استأسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الرجل، فيجعلونه فاعلاً، بمطاوعته بأسره، ويقولون فيما لم يسم فاعله، أسر الرجل فيخبرون عنه، كما يخبرون عن الفاعل، فكما جاز أن يعرب كإعراب الفاعل، كذلك جاز أن يجمع كجمعه. معنى البيت مدح بهذا البيت، الأسود بن المنذر، أخا النعمان بن المنذر وكان غزا أسداً وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعماء وسباء، وأسرى من بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة، والأعشى غائب، فلما قدم أنشده، وسأله أن يهب له الأسرى، ويحملهم، ففعل. يقول: رب رجل كانت له إبل، فسلبتها، فذهب ما كان يحلب منها في الرفد، ورب رجال أسرهم، فتحكمت فيهم. وبعد البيت: وشيوخٍ حربى بشطَّيْ أريكٍ ... ونساءِ كأنَّهنَّ السَّعالي وشريكينِ في كثيرٍ منَ الما ... لِ فكانا محالفيْ إقلالِ الإعراب في "رب" أربع لغات، "رب" مشددة، و"رب" مخففة. قال أبو كبير الهذلي: أزهيرُ إنْ يشبِ القذالُ فإنَّه ... ربَ هيضلٍ لجبٍ لففتُ بهيضلِ وفي الكتاب العزيز: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذينَ كفروا) قرئ بتخفيفها، وتشديدها، و"رب" ساكنة الباء مخففة، و"ربت" بتاء التأنيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والعامل في "رب" الفعل الذي تعلقت به، وأكثر ما يأتي محذوفاً أبدا، وكان من حق "رب"، أن تكون بعد الفعل، موصلة له إلى المجرور، كسائر حروف الجر، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بزيد، وذهبت إلى عمرو، أوصلت المرور إلى زيد "بالباء"، والذهاب إلى عمرو "بإلى"، والباء وإلى بعد الفعل، فكان يلزم أن تكون "رب" كذلك. ولكنها لما كنت في أصل وضعها للتقليل، وكانت لا تعمل إلا في نكرة، صارت مقابلة "لكم"، إذ كانت خبرا، فجعل لها صدر الكلام. قال سيبويه: إذا قلتك رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل "برب" فالعامل عنده في "رب" هو قولك: "يقول ذاك". وقد خولف فيه. وقيل: هذا لا معنى له، لأن اتصال الصفة بالموصوف يغني عن الإضافة. فإن قيل: هي مختصة بمعنى التقليل فقط، أم تكون للتقليل والتكثير؟ فالجواب: أنها للتقليل خاصة، وبه قال جلة النحويين، وكبراء البصريين، وأنها ضد "كم". كالخليل، وسيبويه، وعيسى بن عمر، ويونس وأبي زيد الأنصاري، وأبي عمرو بن العلاء، وأبي الحسن الأخفش، وسعيد بن مسعدة، وأبي عثمان المازني، وأبي عمر الجرمي، وأبي العباس المبرد، وأبي بكر بن السراج، وأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وأبي الحسن الرماني، وأبي الفتح ابن جني، وأبي سعيد السيرافي. وكذلك جلة الكوفيين، كالكسائي، والفراء، ومعاذ الهراء، وابن سعدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهشام ولا مخالف لهؤلاء، إلا صاحب "كتاب العين" فإنه صرح أنها للتكثير، ولم يذكر أنها تجيء للتقليل. وذكر الفارسي في كتاب "الحروف" أنها تكون تقليلاً وتكثيراً، وقال أبو الحجاج يوسف بن سليمان الأعلم رحمه الله: رب للتقليل خاصة، إلا أن التقليل، تقل ذاته ووجوده مرة، ويقل وجوده مرة وإن كثرت ذات وعظمت، كقول المفتخر من العرب. رب غارة أغرت على بني فلان، ورب ناقة كوماء نحرت، وما أشبهه. فالمعنى: إن الغارة وإن تناهت في عظم ذاتها، وكثرة عمومها، فهي قليلة المثل، ومعدومة النظير، وكذلك الناقة، وإن كثرت وعظمت، فهي من غيره غريبة الوجود، قليلة. فهذا معنى "رب" في الكلام، وعلى هذا لتأويل، وقعت في الافتخار، وقد توهم بعض النحويين، أنها للتكثير، الذي هو ضد التقليل المعلوم فيها، فأخرجها إلى "كم" وليست كذلك؛ أنها حرف خفض، وقد لزمت أول الكلام، كما لزمه حرف النفي، لأن التقليل قد ينفى به، كما ينفى "بما" النافية، في قولهم: قل من يقول ذلك. فلو كانت للتكثير، كما كانت "كم"، وهي حرف جر، لم يصدر بها، كما صدر "بكم"، لأنها حرف، والحرف لا يبتدأ به. وقال أبو محمد عبد الله بن السيد رحمه الله: "اعلم أن "رب" و"كم" بنيا على التناقض، في أصل وضع "رب" للتقليل، وأصل وضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 "كم" للتكثير، هذه حقيقة وضعهما". ثم يعرض لهما المجاز للمبالغة، وغيرها من الأغراض، فتقع كل واحدة منهما موقع صاحبتها، مع حفظهما لأصل وضعهما، وهذه سبيل المجاز، لأنه عارض يعرض للشيء، فيستعار في غير موضعه، ولا يبطل ذلك حقيقته التي وضع عليها. ومثال ذلك المدح والذم، فإنهما وضعا على التناقض في أصل وضعهما، ثم يعرض لهما المجاز، فيستعمل الذم مكان المدح، كقول القائل أخزاه الله ما أشعره، ولعنه الله ما أفصحه. ويستعمل المدح مكان الذم، فيقال للأحمق: "يا عاقل" وللجاهل: يا عالم، وللبخيل: يا جواد، على سبيل الهزء، قال تعالى حكاية عن قوم شعيب، أنهم قالوا له: (إنَّكَ لأنتَ الحليمُ الرَّشيدُ) . وكذلك التذكير والتأنيث، نقيضان في أصل وضعهما ثم يلحقهما المجاز، فيقع كل واحد منهما موقع صاحبه، مع حفظه لأصله الذي وضع عليه. فيقولن للرجل: علامة، نسابة، ويرون أنه أبلغ من قولهم: علام ونساب. ويقولن للمرأة: طاهر، وعاقر، ويرون ذلك أبلغ من التأنيث، لو جاؤا به هنا. ووجه المبالغة عندهم في هذا، أن النقيضين إنما بينهما حد يفصل بعضهما من بعض. فإذا زاد أحدهما على حده، انعكس إلى ضده؛ لأنه لا مذهب له يذهب إليه، إذ لا واسطة بينهما، ولهذا قال: وشرُّ الشَّدائدِ ما يضحكُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وقال أبو العلاء: وقدْ تدمعُ العينانِ منْ شدَّةِ الضَّحكِ وعلى هذا السبيل من المجاز، يضعون النفي موضع الإيجاب، والإيجاب موضع النفي، ويخرجون الواجب بصورة الممكن، والممكن بصورة الواجب، وغير ذلك من المجازات التي تكثر إن ذكرناها. فكما أن وقوع بعض هذه الأشياء موقع بعض، لا يبطل أصل وضعها، فكذلك وقوع "رب" موضع "كم" و"كم" موضع "رب" لا يبطل أصل وضعهما، على ما نذكره إن شاء الله. فمن المواضع التي وقعت فيها "رب" للتقليل والتخصيص، على حقيقة وضعها، قول العرب إذا مدحوا الرجل: رب رجلاً، وهو شبيه بقولهم: لله دره رجلاً. وهذه مسألة: قد اتفق عليها" الكوفيون والبصريون، ونص عليها سيبويه في "كتابه". وهذا تقليل محض، لا يتوهم فيه كثرة؛ لأن الرجل لا يمدح بكثرة النظراء، والأشباه، وإنما يمدح بقلة النظير أو عدمه بالجملة، ولذلك قالوا في التعجب: إنه ما خفي سببه، وخرج عن نظائره. وإنما يريدون بقولهم: "ربه رجلاً" أنه قليل غريب في الرجال، فكأنهم قالوا: ما أقله في الرجال، وما أشده فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ويدل على ذلك تصريحهم في المدح بلفظ القلة، في قولهم: "قلَّ منْ يقولُ هذا، وقل من يعلم ذلك إلا زيد"، ونحو ذلك. وقال أبو زيد الأنصاري: "بيد" بمعنى: غير، وربما كانت بمعنى: من أجل. وقال أبو العباس في كتابه "الكامل": وكانت الخنساء، ليلى الأخيلية مباينتين في أشعارهما لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والله تعالى يقول: (أوْ منْ يُنْشَأُ في الحِلْيَةِ، وهوَ في الخِصَامِ غَيْرُ مُبينٍ) . وسيبويه رحمه الله إذا تكلم في الشواذ في "كتابه"، فمن عادته في كثير منها، أن يقول: "ربَّ شيءٍ هكذا"، يريد، أنه قليل نادر، كقوله في باب "ما" وقد أنشد قول الفرزدق: إذْ همْ قريشٌ وإذْ ما مثلهمْ بشرُ "وهذا لا يكاد يعرف، كما أن (لاتَ حينَ مناصٍ) كذلك. ورب شيءٍ هكذا وهو كقول بعضهم: (هذه) ملحفة جديدة في القلة" مثل هذا في كتابه كثير. ومما جاءت فيه "رب" بمعنى القلة، قول العرب: ربما جار الأمير، وربما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 سفه الحليم، أي أن هذا قد يكون، وإن كان الأكثر غيره، كما قال قيس ين زهير: أظنُّ الحلمَ جرَّ عليَّ قومي ... وقدْ يستجهلُ الرَّجلُ الحليمُ وقال سالم بن وابصة: لا تعتددْ بصديقٍ أنتَ ممحضهُ ... وخفهُ خوفكَ منْ ذي الغدرِ والملقِ إنَّ الزُّلالَ، وإنْ أنجاكَ منْ غصصٍ ... دأبا فربَّتما أرداكَ بالشَّرقِ وقال الأعشى باهلة: لا يبطرنْ ذا مقةٍ أحبابه ... فربَّما أردى الفتى لعابهُ وقال حاتم الطائي: إنِّي لأعطي سائلي ولربَّما ... أكلَّفُ ما لا يستطاعَ فأكلفُ وقال زهير: وأبيضَ فيَّاضٍ يداهُ غمامةٌ ... على معتفيهِ ما تغبُّ فواضلهْ وهذا خصوص لا وجه للتكثير، إنما أراد بالأبيض، حصن بن حذيفة ولم يرد جماعة كثيرة، هذه صفتهم، ألا تراه يقول بعد ذلك: حذيفةُ ينميهِ وبدرٌ كلاهما ... إلى باذخٍ يعلو على منْ يطاولهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقال أبو طالب: يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأبيضَ يستسقى الغمامُ بوجههِ ... ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ وقال زهير أيضاً في تلك القصيدة بعينها: وأهلِ خباءٍ صالحٍ ذاتُ بينهمْ ... قدْ احتربوا في عاجلٍ أنا آجلهْ وإنما أراد: ما هاج بين حيه وحيها من الحرب، بسبب هذه القصة، ولم يرد: أخبية كثيرة، وقال صخر بن الشريد، أخو الخنساء: وذي إخوةٍ قطَّعتُ أقرانَ بينهمْ ... كما تركوني واحداً لا أخاليا يريد "بذي إخوة" هنا: دريد بن حرملة المري، وهو الذي كان قتل أخاه معاوية فلما قتله بأخيه، قال هذا الشعر. وقوله: كما تركوني واحدا لا أخاليا يبطل توهم معنى الكثرة هاهنا، لأن الذين تركوه بلا أخ، إنما كانوا بني حرملة، ولم يكن له أخ قتل غير معاوية وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقال بعض شعراء غسان: يصف وقعة كانت بينهم وبين مذحج، في موضع يعرف بالبلقاء. ويومٍ على البلقاءِ لمْ يكُ مثلهُ ... على الأرضِ يومٌ في بعيدٍ ولا داني وقال ابن مخلاة الحمار في يوم مرج راهط: ويومٍ ترى الرَّاياتِ فيهِ كأنَّها ... حوائمُ طيرٍ مستديرٌ وواقعُ فهؤلاء، إنما وصفوا أياماً مخصوصة بأعيانها. ومن ذلك ما أنشده النحويون: ونارٍ قدْ حضأتُ بعيدَ وهنٍ ... بدارٍ ما أريدُ بها مقاما وهذا الشعر مشهور، ولا معنى فيه للكثرة، لأنه وصف قصة، جرت له مع الجن مرة واحدة. ونحن نذكر أبياتاً كثيرة، من أشعار المحدثين، نبين في جميعها، أن "رب" للتقليل، كثر استعمالهم لها، فلم ينكرها أحد من العلماء عليهم، فصارت لذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كأنها حجة، فمن ذلك قول أبي تمام: عسى وطنٌ بهمْ ولعلَّما ... وأنْ تعقبَ الأيَّامُ فيهمْ فربَّما يريد: فربما أعقبته في بعض الأحيان. وقال أبو الطيب المتنبي: ربَّما تحسنُ الصَّنيعَ ليالي ... هِ ولكنْ تكدِّرُ الإحسانا وقال: ولربَّما أطرَ القناةَ بفارسٍ ... وثنى فقوَّمها بآخرَ منهمُ وقال: ويومٍ كليلِ العاشقينَ كمنتهُ ... أراقبُ فيهِ الشَّمسَ أيَّانَ تغربُ وقال يهجو كافوراً: وأسودَ أمَّا القلبُ منه فضيِّقٌ ... نخيبٌ وأمَّا بطنهُ فرحيبُ وقال: علينا لكَ الإسعادُ، إنْ كانَ نافعا ... بشقِّ قلوبٍ، لا بشقِّ جيوبِ فربَّ كئيبٍ ليسَ تندى جفونهُ ... وربَّ كثيرِ الدَّمعِ غير كئيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وقد أوضح ما أراده من التقليل هاهنا في موضع آخر، فأخرجه بغير لفظ "رب"، وهو قوله: وفي الأحبابِ مختصٌّ بوجدٍ ... وآخرُ يدَّعي معه اشتراكا ومن أشعر المحدثين: الحرُّ طلقٌ ضاحكٌ ولربَّما ... تلقاهُ وهوَ العابسُ المتجهِّمُ وقال آخر: احذرْ عدوَّكَ مرةً ... واحذرْ صديقكَ ألفَ مرَّهْ فلربَّما انقلبَ الصَّدي ... قُ فكانَ أعلمَ بالمضرَّهْ وقال عدي بن زيد العبادي، وقد أغفلنا ذكره في الشعراء المتقدمين: يا لبينى أوقدي النَّارا ... إنَّ منْ تهوينَ قدْ جارا ربَّ نارٍ بتُّ أرمقها ... تقضمُ الهنديَّ والغارا عندها ظبيٌ يؤرِّثها ... عاقدٌ في الجيدِ تقصارا فبين من هذا الشعر، إنما أراد "لبنى" وحدها، وقد أوضح ذلك المعري بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ليستْ كنارِ عديٍّ، نارُ عاديةٍ ... باتتْ تشبُّ على أيدي مصاليتا وما لبينى وإنْ عزَّتْ بربَّتها ... لكنْ غذتها رجالُ الهندِ تربيتا ومما تأتي فيه "رب" للتقليل والتخصيص إتيانا مطردا، ويرى ذلك من تأمله، التي تأتي في اللغز، والأشياء التي يصف فيها الشعراء أشياء مخصوصة بأعيانها، فإنهم كثيراً ما يستعملون في أوائلها، "رب" مصرحا بها، أو الواو التي تنوب مناب "رب" كقول ذي الرمة: وجاريةٍ ليستْ من الأنسِ تشتهى ... ولا الجنِّ قدْ لاعبتها ومعي ذهني فأدخلتُ فيها قيدَ شبرٍ موفَّرٍ ... فصاحتْ ولا واللهِ ما وجدتْ تزني فلمَّا دنتْ إهراقةُ الماءِ أنصتتْ ... لأعزلهُ عنها وفي النَّفسِ أنْ أثني وكقول الآخر: ربَّ نهرٍ رأيتُ في جوفِ خرجٍ ... يترامى بموجهِ الزَّخَّارِ ونهارٍ رأيتُ منتصفَ اللَّي_لِ وليلٍ رأيتُ وسطَ النَّهارِ وثلاثينَ ألفَ شيخٍ قعوداً ... فوقَ غصنٍ ما ينثني لانكسارِ يعني بالخرج: الوادي الذي لا منفذ له، وبالنهار: فرخ الحبارى. وبالليل: فرخ الكروان. وبالشيخ: الرذاذ الصغير من المطر. فهذه المواضع، "رب" فيها للتقليل، وهي كثيرة جدا، وإنما تخيرت منها أوضحها، وهذه حقيقة "رب"، وموضوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأما المواضع التي فيها "رب" بمعنى التكثير، على طريق المجاز، فهي المواضع التي يذهب بها لمعنى الافتخار، والمباهاة، كقول القائل: رب عالم لقيت، ورب يوم سرور شهدت، لأن الافتخار، لا يكون إلا بما كثر من الأمور في الغالب من أحواله، وقد يكون لقاء الرجل الواحد، أذهب إلى الفخر من لقاء الجماعة، ولكن الأول هو الأكثر، فمن ذلك قول امرئ القيس: ألا ربَّ يومٍ منهنَّ صالحٍ ... ولاسيَّما يومٍ بدارةِ جلجلِ وقوله: فإنْ أمسِ مكروباً فيا ربَّ بهمةٍ ... كشفتُ إذا ما اسودَّ وجهُ الجبانِ وإنْ أمسِ مكروباً فيا ربَّ قينةٍ ... منعَّمةٍ أعملتها بكرانِ وقوله: وخرقٍ بعيدٍ قدْ قطعتُ نياطهُ ... على ذاتِ لوثٍ سهوةِ المشيِ مذعانِ وقوله: ومجرٍ كغلاَّنِ الأنيعمِ بالغٍ ... ديارَ العدوِّ ذي زهاءٍ وأركانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فهذه مواضع لا يليق فيها إلا التكثير. وكذلك قول أبي كبير الهذلي: أزهيرُ إنْ يشبِ القذالُ فإنَّهُ ... ربَ هيضلٍ لجبٍ لففتُ بهيضلِ وكذلك قول أبي عطاء السندي، يرثي عمر بن هبيرة الفزاري: فإنْ تمسِ مهجورَ الفناءِ فربَّما ... أقامَ بهِ بعدَ الوفودِ وفودُ وهذا النوع كثير في الشعر جداً، والفرق بين هذا الباب، والباب الأول، أن الأول حقيقة "رب" وهذا الباب مجاز، يعرض لها، كما يعرض للمدح أن يخرج مخرج الذم، والذم أن يخرج مخرج المدح، والتذكير أن يخرج مخرج التأنيث، والتأنيث أن يخرج مخرج التذكير، كما ذكرنا أولاً. ومن الفرق بينهما، أن "كم" يصلح استعمالها في هذا الباب مكان "رب" ولا يصلح ذلك في الباب الأول؛ ولذلك نجد المعنى الواحد، في هذا الباب، يأتي بلفظ التقليل مرة بلفظ التكثير مرة، كقول رجل من بني فقعس، أنشده أبو تمام في "الحماسة": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وذوي ضبابٍ مظهرينَ عداوةً ... قرحى القلوبِ معاودي الأفنادِ ناسيتهمْ بغضاءهمْ وتركتهمْ ... وهمُ إذا ذكرَ الصَّديقُ أعادي كيما أعدَّهمُ لأبعدَ منهمُ ... ولقدْ يجادُ إلى ذوي الأحقادِ وقال ربيعة بن مقروم الضبي في هذا المعنى، أنشده أبو تمام أيضاً: وكمْ منْ حاملٍ لي ضبَّ ضغنٍ ... بعيدٍ قلبهُ حلوِ اللَّسانِ ولوْ أنَّي أشاءُ نقمتُ منهُ ... بشغبٍ أوْ لسانٍ تيَّحانِ ولكنِّي وصلتُ الحبلَ منهَ ... مواصلةً بحبلِ أبي بيانِ فغرض الشاعر في هذا المعنى واحد. وقد أخرجه أحدهما بلفظ التقليل، وأخرجه الآخر بلفظ التكثير. فدل ذلك على أن "كم" و"رب" يتعاقبان على المعنى الواحد في هذا الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ربما جمعهما الشاعر في شعر واحد، كقول عمارة بن عقيل: فإنْ تكنِ الأيَّامُ شيَّبنَ مفرقي ... وأكثرنَ أشجاني وفلَّلنَ منْ غربي فيا ربَّ يومٍ شربتُ بمشربٍ ... شفيتُ بهِ عنِّي الصَّدى باردٍ عذبِ وكمْ ليلةٍ قدْ بتُّها غيرَ آثمٍ ... بشاجيةِ الحجلينِ منعمةِ القلبِ ألا تراه قد أراد، تكثير أيامه ولياليه، فأخرج بعض ذلك بلفظ "رب" وبعضه بلفظ "كم" ورأى الأمرين سواء. فإن قال قائل: إذا كانت "رب" في أصل وضعها، وحقيقتها للتقليل، نقيضة "كم". فما الوجه في استعمالهم إياها في مواضع التكثير، التي لا تليق إلا "بكم"؟. فالجواب أن ذلك لأغراض يقصدونها، فمنها أن المفتخر يزعم أن الشيء الذي يكثر وجوده منه، يقل من غيره، وذلك أبلغ في الامتداح والفخر، من أن يكثر من غيره، ككثرته منه. فاستعيرت لفظة التقليل في موضع التكثير، إشعاراً بهذا المعنى. كما استعيرت ألفاظ الذم في موضع المدح، فقيل: أخزاه الله ما أفصحه! ولعنه الله ما أشعره!، إشعارا بأن الممدوح، قد حصل قي رتبة من يشتم حسدا له على فضله؛ لأن الفاضل هو الذي يحسد، ويوقع في عرضه، والناقص لا يلتفت إليه، وقد صرح الشاعر بهذا في قوله: ولا خلوتَ الدَّهرَ منْ حاسدٍ ... فإنَّما الفاضلُ منْ يحسدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ولذلك قال بعض العرب: "السيد من إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر عبناه". وكذلك تستعار ألفاظ المدح، في موضع الذم، فيكون ذلك أشد على المذموم، من لفظ الذم بعينه، لأن في ذلك مع الذم نوعا من الهزء، كقولهم للأحمق: يا عاقل، وللجاهل: يا عالم، وقد ذكرت ذلك فيما تقدم، فكذلك إذا استعيرت لفظة التقليل، مكان التكثير، كان أبلغ في المدح والفخر، لأنه يصير المعنى، ما ذكرناه من أن الشيء الذي يكثر منه، يقل من غيره، فيكون أبلغ من لفظ التكثير المحض، لو وقع هاهنا. وكذلك يستعيرون "كم" في موضع التقليل، على وجه الهزء، فيقولون: كم بطل قتل زيد، وكم ضيف قرى، وهو لم يقتل بطلاً قط، ولم يقر ضيفاً، فيكون أبلغ من قولهم: هو جبان، وهو بخيل. ويدل على هذا أن غرضهم في ذكر "رب" في هذا الموضع أنهم قد صرحوا به في مواضع كثيرة من أشعارهم. كقول سالم بن وابصة: وموقفِ مثلِ حدِّ السَّيفِ قمتُ بهِ ... أحمي الذِّمارَ وترميني بهِ الحدقُ فما زلقتُ ولا أتلهتُ فاحشةً ... إذا الرِّجالُ على أمثالها زلقُ ألا تراه يفتخر بأن هذا الموضع، يكثر منه، مع قلة وجوده من غيره، ومثله: يا ربَّ ليلةِ هولٍ قدْ سريتُ بها ... إذا تضجَّعَ عنها العاجزُ الوكلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وكذلك قول العجاج: ومهمهٍ هالكِ منْ تعرَّجا هائلةٍ أهوالهُ منْ أدلجا ونظير هذا أن له نسبتين مختلفتين، نسبة كثرة إلى المفتخر، ونسبة قلة إلى من يعجز عنه، فيأتي تارة على نسبة الكثرة، بلفظ "كم"، وعلى نسبة القلة بلفظ "رب": أنهم إذا سموا رجلا بالعباس، والحارث، والحسن، ونحو ذلك من الصفات، فربما أقروا فيها "الألف واللام"، مراعاة للفظ الصفة التي انتقلت عنها، وربما حذفوا، "الألف واللام"، مراعاة للفظ العلم الذي صارت إليه. فتكون لها نسبتان مختلفان، تأتي بإحداهما تارة، وبالأخرى تارة. ونظير اجتماع الكثرة والقلة في هذا الباب، لغرض من الأغراض، اجتماع اليقين والشك نحو: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. وهذا كلاف ظريف على ظاهره، لأن الذي يدعي العلم، لا يستفهم، والذي يستفهم لا يدعي العلم؛ وإنما تأويله، أني قد علمت حقيقة ما تستفهم عنه غيري. فهذا وجه من وجوه التقليل في هذه الأشياء. وقد يدخلها معنى التقليل على وجه آخر، وهو أن القائل قد يقول: رب عالم قد لقيت، وهو قد لقي كثيراً من العلماء، ولكن يقلل من لقيه تواضعاً، ويكون أبلغ من التكثير، لأن الإنسان إذا حقر نفسه تواضعاً، ثم امتحن، فوجد أعظم مما يقول، جل قدره، وإذا عظم نفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وأنزلها فوق منزلتها، ثم امتحن، فوجد دون ذلك، هان على من كان يعظمه. فهذا وجه آخر من التقليل، الذي يستعمل في هذه المسائل التي معانيها معاني الكثرة. وقد يدخلها التقليل على معنى ثالث، وهو قول الرجل لصاحبه: لا تعادني، فربما ندمت. وهذا موضع ينبغي أن تكثر فيه الندامة، وليس بموضع تقليل، وإنما تأويله أن الندامة على هذا لو كانت قليلة، لوجب أن يتجنب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة، فصار لفظ التقليل هنا، أبلغ من التصريح بلفظ التكثير، وعلى هذا تأول النحويون قول الله تعالى: (ربَّما يودُّ الَّذينَ كفروا، لو كانوا مسلمينَ) وعلى هذا أيضاً يتأول قول امرئ القيس: ألا ربَّ يومٍ لكَ منهنَّ صالحٍ وقول أبي كبير: ربْ هيضلٍ لففتُ بهيضلِ إن استعارة لفظ التقليل هنا، إشارة إلى أن قليل هذا، فيه فخر بفاعله، فكيف كثيره؟ وأما قول أبي عطاء السندي: فإنْ تمسِ مهجورَ الفناءِ فربَّما ... أقامَ بهِ بعدَ الوفودِ وفودُ فقد يتأول على نحو هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ويحتمل أن يريد أن مدة حياته التي كثرت عليه فيها الوفود، كانت قليلة. فعلى نحو هذا التأويل، تأويل النحويون الذين أصلوا: أن "رب" للتقليل هذه الأشياء التي ظاهرها التكثير، ومن قال: إنها في هذه المواضع للتكثير، تلقى الكلام على ظاهره، ولم يدقق الكلام فيها التدقيق، ولم يقسمها إلى الحقيقة والمجاز". وأنشد أبو علي في الباب. (68) ربَّما أوفيتُ في علمٍ ... ترفعنْ ثوبي شمالاتُ هذا البيت لجذيمة الأبرش، وهو جذيمة بن فهر بن غانم بن عدنان، أصله من الأزد، وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأول من حذا النعال، ورفع له الشمع، وكان ملكاً وشاعراً، وكان يقال له: الأبرش، والوضاح، لبرص كان به، وكان يعظم أن يسمى بذلك، فجعل مكانه الأبرش، وهو خال عمرو بن معد يكرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الشاهد فيه دخول "ما" على "رب"، فكفتها عن العمل، ووطأت الموضع لوقوع الجمل بعدها، من المبتدأ، والخبر، والفعل والفاعل، وتقع بعدها المعارف والنكرات، كما قال أبو دؤاد: ربَّما الجاملُ المؤبَّلُ فيهمْ ... وعناجيجُ بينهنَّ المهارُ ومن العرب من يجعل "ما" فيها، مؤكدة غير كافة لها عن العمل، فيقول: ربما رجل لقيته، كما قال عدي بن الرعلاء: ربَّما ضربةٍ بسيفٍ صقيلٍ ... بينَ بصرى وطعنةٍ نجلاءِ ويروى بيت أبي دؤاد بالخفض. لغة البيت أوفيت: صعدت، والعلم: الجبل، وجمعه أعلام، وعلام. قال: قدْ جبتُ عرضَ فلاتها بطمرَّةٍ ... واللَّيلُ فوقَ علامه متقوِّضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 قال كراع: ونظيره: جبل وأجبال وجبال، وجمل وأجمال وجمال، وقلم وأقلام وقلام. والعلم أيضاً: الفصل يكون بين الأرضين. والعلم أيضاً: شيء ينصب في الفلوات، تهتدي به الضالة، والعلم: الراية، وقيل: هو الذي يعقد على الرمح. والعلم أيضاً والعلمة: الشق في الشفة العليا، وصاحبها أعلم، وكل بعير أعلم خلقة. والعلم أيضاً: رسم الثوب، ورقمه، وقد أعلمه. والشمالات: جمع الشمال من الرياح. معنى البيت وصف أنه يحفظ في رأس الجبل أصحابه، إذا خافوا من عدو، فيكون طليعة لهم. وهذا مما تفخر به العرب، لأنه دال على شهامة النفس. وخص الشمالات، لأنها تهب بشدة في أكثر أحوالها، وجعلها ترفع أثوابه، لإشرافه في المرقبة التي يربأ فيها لأصحابه. وبعد البيت: في شبابٍ أنا رابئهمْ ... همْ لدى العورةِ صمَّاتُ ليتَ شعري ما أطافَ بهمْ ... نحنُ أدلجنا وهمْ باتوا ثمَّ أبنا غانمينَ وكمْ ... منْ أناسٍ قبلنا ماتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الإعراب قال الفارسي: إذا كانت "رب" تأتي لما مضى، وجب أن تكون "ربما" كذلك أيضاً، تدخل على الماضي، وقد يقع المضارع بعدها، على تأويل الحكاية، قال الله تعالى: (ربما يودُّ الَّذينَ كفروا) . فهذه حكاية حال، كقوله تعالى: (فوجدَ فيها رجلينِ يقتتلانِ، هذا منْ شيعتهِ، وهذا منْ عدوِّهِ) وكقوله: (وكلبهمْ باسطٌ ذراعيهِ بالوصيدِ) . وليس على إضمار "كان" كما ذهب إليه بعضهم، أي: كان هذا من شيعته، وأما قول الآخر: ربَّما تكرهُ النُّفوسُ منَ الأم ... رِ لهُ فرجةٌ كحلِّ العقالِ فإن "ما" هاهنا اسم، وليست حرفاً، بدليل أنه قد عاد إليها ضمير، وهو الهاء من قوله: "له فرجة" والحرف لا يصح عود الضمير إليه. وذكر أبو علي الفارسي، أن "رب" هاهنا، في بيت جذيمة للتكثير، ويدل عليه قوله في بيت الآخر: ربَّاءُ شمَّاءُ لا يأوي لقلَّتها ... إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ و"فعال" لا يكون إلا للتكثير، وكذلك قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وإنَّا لممَّا نضربُ الكبشَ ضربةً ... على رأسهِ تلقي اللِّسانَ منَ الفمِ وأدخل النون في "ترفعن"، وهو واجب، ضرورة. وقال بعضهم: إنما ادخل النون في "ترفعن" من طريق أن "رب" للتقليل، والتقليل نفي الكثير، فلذلك حسن دخول النون الخفيفة هنا. ورأيت بخط عبد الدائم بن مرزوق القيرواني، في كتابه "حلى العلى" قال: "أهل اليمن يجعلون "لم" صلة، ومضر يجعلون "ما" صلة لا غير، وقال فيما قرأناه على أبي يعقوب النجيرمي: ربَّما أوفيتُ في علمٍ ... ترفعُ لمْ ثوبي شمالاتُ وبعضهم ينشد: ترفعُ ما ثوبي شمالاتُ على لغة مضر وقد أنشده بعضهم "ترفعن" هكذا وجدت هذا القول بخطه. وهذا البيت من "شطر المديد" من العروض الثالثة، من ضربها الثاني. وتقطيعه: فاعلاتنْ فاعلنْ فعلنْ ... فاعلاتنْ فاعلنْ فعلنْ والقصيدة كلها على التقطيع من هذا العروض، وهذا الضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وعلى ما أنشده عبد الدائم، لا يتزن بوجه، ولا على حال، لأن فيه حركة زائدة، فتأتي على قوله، القسم الثاني من "شطر السريع" فعجبت من هذا. وأنشد أبو علي في الباب. (69) وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ هذا الرجز لرؤبة بن العجاج الشاهد فيه قوله "وقاتم" هو مجرور بإضمار "رب" بعد الواو، وهذا مذهب سيبويه. وخالفه في ذلك أبو العباس المبرد وقال: أن "رب" حذفت، وجعلت الواو عوضاً منها، فجرت على تأويل "رب"، كما كانت عوضاً من "باء" القسم. واستدل على ذلك بهذا الشطر، وقال: لأن الواو للعطف، وواو العطف لا تكون إلا بعد كلام، يعطف عليه فدل هذا على أنها بدل من "رب". والذي قاله المحتج لسيبويه: قد وجدنا الخفض بعد الفاء، وبعد بل كثيراً، ولا يدعي أحد أن يقول: إن الفاء وبل تبدلان من "رب". وقد جاءت الواو أيضاً في أول القصائد كثيراً، فمما فيه الخفض، بعد الفاء قول امرئ القيس: فمثلكِ حبلى قدْ طرقتُ ومرضعاً وقال آخر: فإنْ أهلكْ فذي حنقٍ لظاهُ ... عليَّ يكادُ يلتهبُ التهابا وقال آخر: فحورٍ قدْ لهوتُ بهنَّ عينٍ ... نواعمَ في المروطِ وفي الرَّياطِ ومما جاء الخفض فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 بعد "بل" قول الراجز: بلْ بلدٍ ملءِ الفجاجِ قتمهْ والتقدير: فرب مثلك حبلى، و: فرب ذي حنق، و: فرب حور قد لهوت، و: بل رب بلد. وإذا صح هذا، وثبت في الفاء، وبل، كانت الواو محمولة على حكمهما. ومما جاءت الواو فيه في أول القصيدة، قول ساعدة بن جؤية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وما ضربٌ بيضاءُ يسقي دبوبها ... دفاقُ فعروانُ الكراثِ فضيمها وهذا أول الشعر، ومثله قول أبي خراش: ولا واللهِ لا أنسى زهيراً ... ولوْ كثرَ المرازي والفقودُ فأتى بالواو في أول القصيدة، وقال أيضاً: وسدَّتْ عليهِ دولجاً ثمَّ يمَّمتْ ... بني فالجٍ باللَّيثِ أهلَ الحرائمِ فأتى بالواو في أول القصيدة، وقال صخر الغي: وما إنْ صوتُ نائحةٍ بليلٍ ... بسبللَ لا تنامُ معَ الهجودِ وقال أبو جندب: ولا واللهِ أقربُ بطنَ ضيمٍ ... ولا الوترينِ ما نطقَ الحمامُ وقال معقل بن خويلد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فإنِّي وعمراً والخزاعيَّ طارقاً ... كنعجةِ عادٍ حتفها تتحفَّرُ وقال عمرو بن جنادة: فلا واللهِ لا أكسو غلاماً ... دعا لحيانَ يوماً ما حييتُ فمجيء الفاء والواو، في أول القصائد للعطف، مجردين من حرف "رب"، يؤكد مذهب سيبويه، في أنها في قوله: "وقائم الأعماق"، ونجوه، إنما هي للعطف، وليست بدلاً، ولا عوضاً من "رب". ولو كانت عوضاً من "رب"، لدخل عليها حرف العطف، كما يدخل على واو القسم. ونظير واو العطف في أول القصائد، قولهم في بعض الرسائل: أما بعد، فذكرهم "بعد" يدل على أنها جاءت بعد كلامٍ. اللغة القاتم: المتغير، وقيل: الذي عليه قتمه، وهو غباره. والأعماق: النواحي القاصية، وعمق كل شيء: قعره، ومنتهاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والخاوي: الذي لا شيء فيه. والمخترق: الواسع من الفلاة. ومعنى الشطر ظاهر. وبعده: مشتبهِ الأعلامِ لمَّاعِ الخفقْ يكلُّ وفدُ الرِّيحِ منْ حيثُ انخرقْ شأزٍ بمنْ عوَّهُ جدبِ المنطلقْ ناءٍ منَ التَّصبيحِ نأيِ المغتبقْ تبدو لنا أعلامه بعدَ الغرقْ يقال: لما أنشد رؤبة بن العجاج، أبا مسلم الخراساني، واسمه عبد الرحمن بن مشكم، هذه الأرجوزة، "قاتم الأعماق"، وبلغ إلى قوله: ترمي الجلاميدَ بجلمودٍ مدقْ قال له: قاتلك الله! لشد ما استصلبت الحافر. ثم قال: أنا ذلك الجلمود، فلما فرغ من إنشادها، دفع إليه منديلا فيه مال، وقال له: "إنك أتيتنا، والأموال مشفوهة، وإن لك إلينا العودة، وإن علينا لمعولاً، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الدهر أطرق، مستتب، فلا تحل بيننا وبينك الأسدة". قال: فأخذته، ووالله ما رأيت أعجمياً أفصح منه، وما ظننت أن أحداً يعرف هذا الكلام، غيري، وغير أبي. قوله: والأموال مشفوهة: أي: كثير طالبوها. وقوله: والدهر أطرق: مستعار من قولهم: بعير أطرق، إذا كان به استرخاء في عصب يديه، يعني أنه يمشي على مهل لما به، وهو مع ذلك مستتب مستمر. والأسدة: جمع سداد من عوز، والسداد بالفتح: القصد، وإصابة الصواب في الأمور. وحكى أبو بكر الصولي: أن المأمون رفع اليزيدي، من التعليم إلى المنادمة، فشرب يوماً عنده. فقال المأمون في بعض كلامه: "سداد من عوز". فقال اليزيدي: أخطأت يا أمير المؤمنين: فقال له المأمون: من أين قلت؟! قال: لأن الشاعر يقول: أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثغرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وإنما يقال: السداد في الدين. فقال له المأمون: مقبول منك يا أبا محمد! فلما انصرف إلى منزله، وأفاق من نبيذه، تذكر ما كان منه، فتندم، فكتب إلى المأمون: أنا المذنبُ الخطَّاءُ والعذرُ واسعٌ ... ولوْ لمْ يكنْ ذنبٌ لما عرفَ العفوُ سكرتُ فأبدتْ منِّي الكأسُ بعضَ ما ... كرهتُ، وما إنْ يستوي السُّكرُ والصَّحوُ ولاسيَّما إذْ كنتُ عندَ خليفةٍ ... وفي مجلسٍ لا يستقيمُ بهِ اللَّغوُ فإن تعفُ عنِّي يلفَ خطويَ واسعاَ ... وإنْ لا يكنْ عفوٌ فقدْ قصرَ الخطرُ فوقع المأمون تحت الرقعة، "النبيذ بساط يدرج، فاطو حديث النبيذ في بساطه". ويقال: إن هذه الكلمة لم تعرف قبل أن ينطق بها المأمون. وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى في مدح مغنية، يقال لها: الخياطة، فقال: أحسنتْ في غنائها الخيَّاطهْ ... وأصابتْ منَ الفؤادِ نياطهْ إنَّما مجلسُ النَّبيذِ بساطٌ ... فإذا ما انقضى طوينا بساطهْ وذكر الحاتمي حكاية المأمون مع النضر بن شميل، أكتبها من "حلية المحاضرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وأنشد أبو علي في الباب. (70) رأى برقاً فأوضعَ فوقً بكرٍ ... فلا بكِ ما أسالَ ولا أغاما هذا البيت لعمرو ذي السلائق، وهو عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن يربوع بن زيد مناة بن تميم. الشاهد فيه قوله "فلا لك"، لأن "الباء" أصل في حروف القسم، لأنها من حروف الجر، و"الواو" بدل منها، وهي تدخل على الظاهر والمضمر، فتقول: وزيد لأفعلن، فإذا كنيت عنه، رددت "الباء" فقلت: به لأفعلن، ومثله: ألا نادتْ أمامةُ باحتمالِ ... لتحزنني فلا بكِ ما أبالي والدليل على أن "الباء" أصل في القسم، أمران: أحدهما: أن "الباء" موصلة القسم إلى المقسم به، في قولك: أحلف بالله، كما توصل المرور إلى الممرور به، في قولك: مررت بزيد. ولا تقول: "وه"، فرجوعك في الإضمار إلى "الباء" دليل على أنها أصل، إذ الإضمار يرد الشيء إلى أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وإنما أبدلت "الواو" من "الباء" لأمرين: أحدهما: مضارعتها إياها لفظاً. والثاني: مضارعتها إياها معنى. أما مضارعتها إياها لفظاً، فلأن "الباء" من الشفة، كما أن "الواو" كذلك. وأما مضارعتها إياها معنى، فلأن "الباء" للإلصاق، و"الواو" للاجتماع؛ وإذا لاصق الشيء الشيء، فقد اجتمع معه. اللغة قوله: "فأوضع"، يقال: وضع في سيره، وأوضع، إذا أسرع. ويقال: هو دون الشد، وقيل: هو فوق الخبب، وقيل: هو أهون من سير الدواب والإبل. قال ابن مقبل: فاستعاره للسراب: وقدْ علمتَ إذا لاذَ الظِّباءُ وقدْ ... ظلَّ السَّرابُ على حزَّانه يضعُ ومنه قول الحجاج، فيما خاطب به أهل العراق: "وإنكم طالما أوضعتم في الفتنة"، ومنه قوله تعالى: (ولأوضعوا خلالكمْ) . ويقال أيضاً: أوضع بين القوم: أفسد. والبكر: الفتي من الإبل، وقوله: "ما أسال ولا أغام" أي: لم يأت بسيل ولا غيم. معنى البيت يذكر أن صاحب هذا الشعر تزوج السعلاة، والسعلاة فيما يذكر، الغول، وقيل: ساحرة الجن، يقال: سعلاة، وسعلى، وسعلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وتدعي العرب أنهم ينكحونها، فزعموا أن عمراً صاحب هذا الشعر، تزوج السعلاة. فقال له أهلها: إنك ستجدها خير امرأة، ما لم تر برقاً، كأنهم حذروه من حنينها إلى وطنها، إذا رأت البرق. فكان عمرو بن يربوع، إذا لاح البرق، سترها عنه، وولدت له عسلاً، وضمضماً. فغفل ليلة، ولاح البرق، فغدت على بكر له، وقالت: أمسكْ بنيكَ عمرٌو إنِّي آبقُ ... برقٌ على أرضِ السَّعالي آلقُ وسارت عنه، فلم يرها أبدا. فقال شعرا: جعل السعلاة فيه كالحبيب المذكر، وفيه هذا البيت: رأى برقا فأوضعَ فوقَ بكرٍ ...... البيت وأول هذا الشعر: ألا للهِ ضيفكِ يا أماما قال أبو زيد: ولا يعرف لهذا المصراع ثان. قال عبد الدائم بن مرزوق: وأتمه غيره فقال: وحيَّا حيَّهُ أنَّى أقاما وسماها ضيفاً؛ استقلالاً لمقامها معه. وبنوه منها يقال لهم: بنو السعلاة. قال بعض الرجاز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 يا قبحَ اللهُ بني السِّعلاةِ عمرو بنَ يربوعٍ شرارَ النَّاتِ ليسوا بأخيارٍ ولا أكياتِ أراد: الناس، وأكياس، فأبدل السين تاء، كما قالوا: "ست في سدس" وفي طست: طس، وإذا صغرت، رددت إلى الأصل، فقلت: سديسة، وكذلك تقول في طست: طسيسة. وأنشد أبو علي في باب حتى. (71) سريتُ بهمْ حتَّى تكلَّ مطيُّهمْ ... وحتَّى الجيادُ ما يقدنَ بأرسانِ هذا البيت لامرئ القيس، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه أن "حتى" هنا ليست عاطفة، لدخول حرف العطف عليها، لأن حروف العطف، لا يدخل بعضها على بعض، لأن ذلك يوجب خروج أحدهما عن معنى العطف. فلا يجوز "جاءني زيد وثم عمرو"؛ لأنه لا يخلو أن تكون إحداهما، هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 العاطفة، فأيتهما ثبت لها الحكم، استغني بها عن الأخرى. اللغة السرى: سير الليل، وفيه لغتان، "سرى" و"أسرى". قال النابغة: أسرتْ عليهِ منَ الجوزاءِ ساريةٌ فقوله: "سارية" هو من "سرى"، وقرئ باللغتين، (أن اسر) و (أن أسر) . وقوله: "تكل مطيهم" يعني: تعي إبلهم. والمطي: جمع مطية. وكانوا يركبون الإبل، ويقودون الخيل إلى وقت الحاجة لها. ويروى: "حتى تكل غزيهم"، وهو اسم واحد يؤدي عن الجمع؛ لأن "فعيلاً" ليس مما يكسر عليه الواحد إلا على طريق الشذوذ، نحو العبيد، والكليب، ولا يكاد يقع مع قلته إلا في جمع "فعل"، لكثرة دوره في الكلام. والجياد: الخيل، واحدها جواد، ويقال: رجل جواد، وقوم جود. وقوله: "ما يقدن بأرسان"؛ لإفراط الإعياء. ويروى: حتى تكل جيادهم وحتى المصلى. ويروى: "مطوت بهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وأنشد أبو علي في باب ما يستعمل مرة حرف جر، ومرة غير حرف جر. (72) غدتْ منْ عليهِ بعدما تمَّ ظمؤها ... تصلُّ وعنْ قيضٍ بزيزاءِ مجهلِ هذا البيت لمزاحم العقيلي. الشاهد فيه كون "على" اسماً، بدليل دخول حرف الجر عليه. اللغة الظمء: ما بين الشرب والشرب، وهو مدة الصبر عن الماء. ويروى: "خمسها" وهو ورود الماء في كل خمسة أيام. ومعنى تصل: تصوت أحشاؤها من اليبس والعطش، والصليل: صوت الشيء اليابس. يقال: جاءت الإبل تصوت عطشاً، وقيل: تصوت في طيرانها. والقيض: قشر البيض الأعلى، وإنما أراد قشر البيضة التي خرج منها الفرخ. والبيداء: القفر الذي يبيد من سلكه. والجهل: الذي ليس فيه علم يهتدى به. والزيزاء: ما غلظ من الأرض وارتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 معنى البيت وصف قطاة قامت عن فراخها حين احتاجت إلى ورد الماء، فعطشت، فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها. الإعراب الهاء في "عليه" عائدة على الفرخ، أي: غدت من فوق الفرخ. وقيل معناه: من عند الفرخ. وقيل معناه: أقامت مع الفرخ حتى احتاجت إلى ورد الماء فعطشت، فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها. و"ما" مصدرية، ويحتمل أن تكون مهيئة هيأت وقوع الفعل بعدها. و"تصل" في موضع الحال. و"عن قيض" حال أخرى. وتقدير الكلام: غدت صالة، وقائمة عن قيض. ومن روى: "ببيداء" جعل "مجهلاً" صفة للبيداء. ومن روى: "بزيزاء مجهل" خفض بالإضافة. ولا يجوز غير ذلك عند البصريين، لأن همزة "بزيزاء" للإلحاق، تلحق بنحو "حملاق"، وسرداح. وزعم الكوفيون أن همزتها للتأنيث، واحتجوا بقوله تعالى: (وشجرةً تخرجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 منْ طورِ سيناءَ) في قراءة من كسر السين، "فمجهل" على قولهم: صفة "للزيزاء". ولا يجيز البصريون ذلك، لأن ألف "فعلاء"، لا تكون إلا للإلحاق، وإنما تكون الهمزة للتأنيث في "فعلاء" المفتوحة بالفاء. ولا حجة للكوفيين في قوله تعالى: (منْ طورِ سيناءَ) ، لأن "فعلاء" غير مصروف، لأنه اسم بقعة علم، فلم ينصرف لذلك. وهنا سؤال، يقال: لم قال غدت؟ والقطاة إنما تطلب الماء ليلاً، لا غدوة. فالجواب: أنه لم يرد الغدو، وإنما ضربه مثلاً للتعجيل. والعرب تقول: بكر إلي العشية، ولا يكون هناك بكور، قال الشاعر: بكرتْ تلومكَ بعدَ وهنِ في النَّدى ... بسلٌ عليكِ ملامتي وعتابي وبعد البيت: غدوّاً طوى يومينِ عنها انطلاقها ... كميلينِ منْ سيرِ القطا غير مؤتلِ وأنشد أبو علي في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 (73) غدتْ عليهِ كلُّ ريحٍ سيهوجْ منْ عنْ يمينِ الخطِّ أوْ سماهيجْ هذا الرجز لرجل من بني سعد. الشاهد فيه استعماله "عن" اسماً، بدليل دخول من عليها، ومثله قول الآخر. فقلتُ اجعلي ضوءَ الفراقدِ كلِّها ... يميناَ ومهوى النَّجمِ منْ عنْ شمالكِ وقال القطامي: فقلتُ للرَّكبِ لمَّا أنْ علا بهمُ ... منْ عنْ يمينِ الحبيَّا نظرةٌ قبلُ اللغة السيهوج والسيهج: الريح التي تسحق كل شيء، والسهج: السحق. يقال: سهجت المرأة طيبها، إذا سحقته. أهمله الخليل، وذكره صاحب "البارع". ويقال: ريح سيهوك وسيهك، والسهك: السحق أيضاً. وسهكت المرأة طيبها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 سحقته. والخط: موضع بالبحرين، وكذلك سماهيك. معنى البيت وصف ربعاً دارساً. وقبلهما: يا دارَ سلمى بينَ داراتِ العوجْ غدتْ عليها كلُّ ريح سيهوجْ هوجاءَ جاءتْ منْ بلادِ يأجوجْ وقوله: "من عن يمين الخط"، جملة في موضع الصفة "لسيهوج"، تقديره: هابة. وأنشد أبو علي في الباب. (74) أتنتهونَ ولنْ ذوي شططٍ ... كالطَّعنِ يذهبُ فيهِ الزَّيتُ والفتلُ هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. الشاهد فيه استعمال "الكاف" اسماً، من قوله: "كالطعن" "فالكاف" في موضع اسم مرفوع، فكأنه قال: ولن ينهى ذوي شطط مثل الطعن" فرفعه بفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المعنى يقول: لن ينهى الظالم عن ظلمه، إلا الطعن الجائف الذي تغيب الفتل فيه، ويفنى الزيت، أي الجرح الذي لا يداوى. ويروى: "هل تنتهون ولا ينهى". وهذا البيت من قصيدته التي أولها: ودِّعْ هريرةَ إنَّ الرَّكبَ مرتحلُ ... وهلْ تطيقُ وداعاً أيُّها الرَّجلُ وبعد البيت: إنِّي لعمرُ الَّذي حطَّتْ مناسمها ... تخدي وسيقَ إليها الباقرُ الغيلُ لئنْ قتلتمْ عميداً لمْ يكنْ صدداً ... لنقتلنْ مثلهُ منكمْ فنمتثلُ الإعراب فإن قيل: فهل يجوز أم يكون "الكاف" في البيت حرف جر فتكون صفة قامت مقام الموصوف، تقديره: ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن، فيكون الفاعل محذوفاً، وهو"شيء" وتكون "الكاف" حرف جر، صفة لشيء الفاعل، لأن النكرات توصف بالجمل، نحو: "جائني رجل من أهل البصرة" و"قدم غلام لمحمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فالجواب: أن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، على كل حال قبيح. وهو في بعض الأماكن أقبح منه في بعض. وهو مع الفاعل أشد قبحاً منه مع المفعول، لأن الفاعل لا يكون إلا اسماً صريحاً، والمفعول ليس كذلك. قد يكون اسماً صريحاً، وغير صريح، ألا ترى إلى قولهم: ظننت زيداً يقوم، وحسبت أخاك يضرب زيداً، قال النابغة: فألفيتهُ يوماً يبيرُ عدوَّهُ ... وبحرَ عطاءٍ يستخفُّ المعابرا والصفة في كلام العرب على ضربين: إما للتخليص والتخصيص، وإما للمدح والثناء. وكلاهما من مقامات الإسهاب والإطناب، لا من مظان الإيجاز والاختصار. وإذا كان ذلك كذلك لم يلق الحذف به، ولا تخفيف اللفظ منه. هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من الإلباس وضد البيان، ألا ترى أنك إذا قلت: "مررت بطويل" لم يستبن من ظاهر هذا اللفظ الممرور به، إنسان دون رمح أو ثوب، أو نحو ذلك. وإذا كان كذلك كان حذف الموصوف إنما هو متى قام الدليل عليه، أو شهدت الحال به. وكلما استبهم الموصوف كان حذفه غير لائق بالحديث. ومما يؤكد عندك ضعف حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه، وذلك أن تكون الصفة جملة، نحو قولك: "مررت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 برجل قائم أبوه" و"لقيت غلاماً وجهه حسن". ألا تراك لو قلت: "مررت بقائم أبوه، ولقيت وجهه حسن" لم يحسن. فأما قوله: واللهِ ما زيدٌ بنامَ صاحبهْ ولا مخالطِ اللِّيانِ جانبهْ فقد قيل فيه: إن "نام صاحبه"اسم رجل، وإذا كان كذلك جرى مجرى قوله: بني شابَ قرناها تصرُّ وتحلبُ وأما قوله: مالكَ عندي غيرُ سهمٍ وحجرْ وغيرُ كبداءَ شديدةِ الوترْ جادتْ بكفَّيْ منْ أرمى البشرْ أي: بكفي رجل، أو إنسان كان من أرمى البشر، فقد روي: جادتْ بكفَّيْ كانَ منْ أرمى البشرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 بفتح ميم "من" أي بكفي من هو أرمى البشر، و"كان" على هذا زائدة. ولو لم تكن فيه هذه الرواية، لما جاز القياس عليه، لشذوذ عما عليه عقد هذا الموضع. ألا تراك لا تقول: "مررت بوجهه حسن" ولا"نظرت إلى غلامه سعيد". وكذلك إن كانت الصفة جملة، لم يجز أن تقع فاعلة، ولا مقامة مقام الفاعل. ألا تراك لا تجيز، قام وجهه حسن، ولا ضرب قام غلامه. وكذلك إن كانت الصفة حرف جر، أو ظرفاً، لا يستعمل استعمال الأسماء لو قلت: جاءني من الكرام، أي: رجل من الكرام، وحضرني سواك، أي: الناس سواك، لم يحسن؛ لأن الفاعل لا يحذف. فإن قيل: إن خبر "كأن" يجري مجرى الفاعل، وقد قال النابغة: كأنَّكَ منْ جمالِ بني أقيشٍ ... يقعقعُ خلفَ رجليهِ بشنِّ أراد: كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف الذي هو "جمل" وأقام صفته مقامه. فهلا جعلت بيت الأعشى مثله؟ فالجواب: أن بينهما فرقاً، من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أحدهما: أن خبر "كأن" وأخواتها مشبه بالفاعل في ارتفاعه، وليس بفاعل في الحقيقة، ولا مذهب فاعل، ألا ترى أنك تقول: "كأن زيداً يصلي"، "وكأن أخاك يتبع زيداً". فكون خبرها "فعلاً" يدل على أنه لا يبلغ قوة الفاعل في الاسمية؟، لأن الفاعل لا يكون إلا اسماً محضا، وأيضاً فإن "كأن" تدخل على المبتدأ وخبره، وخبر المبتدأ لا يلزم أن يكون اسماً صريحاً، بل يكون مفردا وجملة. والوجه الثاني: أن بيت النابغة اضطر فيه إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وبيت الأعشى لم يضطر فيه إلى ذلك، إذ الدلالة البينة قد قامت على استعمال "الكاف" اسماً، في نحو قول الآخر: وزعتُ بكالهراوةِ أعوجيٍّ ... إذا ونتِ الرِّكابُ جرى وثابا ومثله قول الآخر: قليلُ غرارِ العينِ حتَّى تقلَّصوا ... على كالقطا الجونيِّ أفزعهُ الزَّجرُ ومثله قول ذي الرمة: أبيتُ على ميٍّ كئيباً وبعلها=على كالنَّقا منْ عالجِ الرَّملِ يبتطحْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وقال آخر: على كالخنيفِ السَّحقِ يدعو به الصَّدى وهذا نحوه، يشهد بكون "الكاف" اسماً، فلا تترك الظاهر، وتنزل عن الشائع المطرد، إلى ضرورة واستقباح، إلا إلى أمر تدعو إليه الضرورة، ولا ضرورة هنا. فنحن على ما يجب من لزوم الظاهر، والمخالف معتقد ما لا يعضده قياس، ولا يؤيده سماع. وقوله: "أتنتهون" معناه الأمر، ولفظه لفظ الاستخبار، وتقديره: انتهوا، ومثله قوله تعالى: (وجعلنا بعضكمْ لبعضٍ فتنةً، أتصبرونَ) . معناه: اصبروا، ومثله (والمطلَّقاتُ يتربَّصنَ) أي: ليتربصن. وأنشد أبو علي في باب القسم. (75) تاللهِ يبقى على الأيَّامِ مبتقلٌ ... جونُ السَّراةِ رباعٌ سنُّهُ غردُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 هذا البيت، لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه قوله "تالله يبقى" أراد: لا يبقى، فحذف "لا" للدلالة عليها، إذ لو كان إيجاباً، لم يكن بد من اللام والنون فيه، مثل: والله لأضربن. اللغة المبتقل: الذي يأكل البقل. وجون السراة: أسود الظهر، والجون من الأضداد، وقوله: "رباع" أي: في سنه. "غرد": مصوت. المعنى يقول: تالله لا يبقى على الأيام مخلوق، ولا هذا الحمار الذي هذه صفته. الإعراب "التاء" في القسم، لا تدخل إلا على اسم الله تعالى. قال أبو الفتح: إنما كان ذلك كذلك، لأن "التاء" بدل من بدل وفرع من فرع فاختصت بأشرف الأسماء، وأشهرها، وهو اسم الله تعالى؛ لأنها بدل من "الواو"، و"الواو" بدل من "الباء". ونظير "التاء" في القسم في اختصاصها بالأشرف "آل"، هو مختص بالأشرف. يقال: آل الملك، وآل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء القراء "آل الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ولا يقال: آل الحداد، ولا آل البيطار؛ لأن هذه "الألف" بدل من بدل، وفرع من فرع. هي بدل من همزة، والهمزة بدل من "هاء" أصله: أهل، ثم أأل، ثم آل". وبعد البيت: في عانةٍ بجنوبِ السِّيِّ مشربها ... غورٌ، ومصدرها عنْ مائها نجدُ يقضي لبانتهُ باللَّيلِ ثمَّ إذا ... أضحى تيمَّمَ حزماً حولهُ جردُ وأنشد أبو علي في باب الإضافة التي ليست بمحضة. (76) حتَّى إذا ما انجلى عنْ وجههِ فلقٌ ... هاديهِ في أخرياتِ اللَّيلِ منتصبُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه جمع "أخرى" على "أخريات"، يريد "أخرى" التي هي ضد "الأولى"، لأنه يريد بقايا الليل، مذكرة "أول" و"آخر" وهو وجه الجمع فيه. وأما "أخرى" التي هي مؤنث "آخر" على "أفعل"، فتجمع على "أخر"، ولم تنصرف في النكرة، لأنها معدولة، كما لم ينصرف "آخر" مذكرها، قال الله تعالى: (وأخرُ متشابهاتٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 اللغة انجلى: انكشف، الفلق: الصبح، لأنه ينفلق عن ضوء بعد سواء. وهاديه: أوله، وقيل: أول بياضه وقوله: "منتصب" يعني هادي الصبح منتصب في آخر الليل، عند السحر الأول. المعنى وصف ثوراً، يقول: إذا انكشف عن وجهه، يعني وجه الثور، وبعده ما يفسره: أغباشَ ليلٍ تمامٍ كانَ طارقهُ ... تطخطخُ الغيمِ حتَّى مالهُ جوبُ غدا كأنَّ بهِ جنَّاً تذاءبهُ ... منْ كلِّ أقطارهِ يخشى ويرتقبُ الإعراب "هاديه" رفع بالابتداء، و"منتصب" خبره، و"في أخريات" متعلق "بمنتصب"، والجملة من المبتدأ وخبره، في موضع الصفة "لفلق"، وجواب "إذا" في قوله: غدا كأنَّ بهِ جنَّا ........ البيت وأنشد أبو علي في الباب. (77) وقرَّبَ جانبَ الغربيِّ يأدو ... مدبَّ السَّيلِ واجتنبَ الشَّعارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 هذا البيت للراعي النميري، واسمه "عبيد". الشاهد فيه قوله: "جانب الغربي"، يريد: جانب المكان الغربي، فحذف الموصوف الذي هو "المكان" وأقام الصفة مقامه، وهو قبيح، لإقامة الصفة مقام الموصوف، وهو كلام مزال عن جهته، وكان حده أن يقول: "بالجانب الغربي"، إلى الصفة، وكذلك صلاة الأولى، ومسجد الجامع، وكان حده: الصلاة الأولى، والمسجد الجامع. فمن أضاف فجواز إضافته على إرادة: هذه صلاة الساعة الأولى، وهذا مسجد الوقت الجامع. فلا بد من هذا التقدير، لئلا يضاف الشيء إلى نفسه، وهو مستحيل، ألا ترى أنه لا يجوز: هذا زيد العاقل، والعاقل هو "زيد" على الإضافة. اللغة التقريب: ضرب من السير، أي: وقرب في جانب الغربي، ومعنى يأدو: يخفي شخصه في مدب السيل، يختل بذلك صائده يقال: أدا يأدوا أدواً، إذا ختل، قال الشاعر: أدوتُ لهُ لآخذهُ ... وهيهاتَ الفتى حذرا وفي المثل: "الذئب يأدو للغزالِ". والشعار: الشجر الملتف، والشعار أيضاً: ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 كان من شجر، في لين ووطاء من الأرض تحله الناس، يستدفئون به في الشتاء، ويستظلون به في القيظ، والمشعر أيضاً: الشعار، وهو مثل: المشجر، قال ذو الرمة: يصف ثورا وحشياً: يلوحَ إذا أفضى ويخفى بريقه ... إذا ما أجنَّتهُ غيوبُ المشاعرِ يعني ما تغيبه. قال أبو حنيفة: وإن جعلت المشعر: الموضع الذي به كثرة الشجر، لم يمتنع، كالمبقل، والمحش، والشعراء: كثرة الشجر، والشعراء: الأرض ذات الشجر. وقال أبو حنيفة: الشعراء: الروضة يغم رأسها الشجر، وجمعها: "شعر". يحافظون على الصفة في ذلك، ولو حافظوا على الاسم، لقالوا: "شعراوات"، أو "شعار"، والشعراء: النبات والشجر على التشبيه بالشعر. المعنى وصف ثورا وحشياً، أو حمارا، يقول: اجتنب الشجر، مخافة أن يرمى منها، ولزم مدرج السيل، وقرب في جانب الغربي. الإعراب موضع "يأدو" من الإعراب، موضع الحال من الضمير في قوله "وقرب". ونصب "مدب السيل" على الظرف، ويحتمل أن يكون "مفعولاً بإسقاط حرف الجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وذكر أبو علي في أثناء كلامه في عطف البيان: قول رؤبة: (78) يا نصرُ نصرٌ نصرا شاهداً على الرفع الصحيح، لأن عطف البيان ليس كالصفة، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النعت يكون بالصفات، "وعطف البيان يكون بالأسماء الجامدة. والثاني: أن النعت يكون بالمعارف والنكرات، وعطف البيان لا يكون إلا بالمعارف. والثالث: أن النعت يكون بما هو للمنعوت، وبما هو بسببه، وعطف البيان، هو المعطف عليه بعينه. والفرق بين البدل وعطف البيان من أربعة أوجه: أحدها: أن البدل قد يكون هو المبدل منه بعينه، وقد يكون اسما مصاحبا له، وقد يكون حدثا من أحداثه، وعطف البيان هو المعطوف عليه أبدا. والثاني: أن البدل يكون بالمعارف والنكرات، وعطف البيان لا يكون إلا بالأسماء المعرف الظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 والثالث: أن البدل تقدر معه إعادة العامل، فكأنه من جملة أخرى، وعطف البيان لا يقدر فيه ذلك، بل هو في هذا الوجه كالنعت. الرابع: أن البدل يجيء ومنه ما يراد به الغلط، وعطف البيان لا غلط فيه. ويروى. يا نصرُ نصراً نصراً يعطفهما على الموضع، ويجوز رفعهما جميعاً على اللفظ، في غير هذا الشعر. ويجوز نصب الأول على الموضع، ورفع الثاني على اللفظ، ويجوز نصبهما جميعاً على المصدر، كأنه قال: "يا نصر انصرني نصراً نصراً"، وكرر للتوكيد. وروي عن أبي عبيدة: يا نصرُ نضراً نضراً بالضاد معجمة، وهو حاجب نصر بن سيار، وكان حجبه، فقال: "يا نصر نضراً نضراً" أي: حاجبك، يغري به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وقبله: إنِّي وأسطارٍ سطرنَ سطراً لقائلٌ يا نصرُ نصرٌ نصرا وأنشد أبو علي في باب حروف العطف. (79) وكانَ سيَّانَ ألاَّ يسرحوا نعماً ... أوْ يسرحوهُ بها واغبرَّتِ السُّوحُ هذا البيت لرجل من النبيت، حي من الأنصار، وقيل: لأبي ذؤيب الهذلي، ولم أجده في شعره، كما وقع في كتاب"الإيضاح"، وإنما وقع في "ديوان شعر أبي ذؤيب": وقالَ ماشيُّهمْ سيَّانِ سيركمُ ... أوْ أنْ تقيموا بها واغبرَّتِ السُّوحُ وكانَ مثلينِ ألاَّ يسرحوا نعماً ... حيثُ استرادتْ مواشيهمْ وتستريحُ الشاهد فيه وضع "أو" موضع "الواو"؛ لأن وجه الكلام: سيان زيد وعمرو، ومثله قول الآخر: فسيَّانِ حربٌ أوْ تبوءَ بمثلهِ ... وقدْ يقبلُ الضَّيمَ الذَّليلُ المسيَّرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 اللغة سيان: تثنية "سي" ومعناه: مستو بمعنى مثل. والنعم: الإبل والشاء، يذكر ويؤنث، والنعم بإسكان العين لغة فيه عن ثعلب، وأنشد: وأشطانُ النَّعامِ مركَّزاتٌ ... وحومُ النَّعمِ والحلقُ الحلولُ والجمع: أنعام، وجمع الجمع أناعيم. وقال ابن الأعرابي: النعم: الإبل خاصة، والأنعام: الإبل والبقر والغنم. والسرح: أن تخرج الإبل للمرعى. والسوح: جمع ساحة، واغبرت: لا نبات فيها، قال ذو الرمة: نهوضٌ بأخراها إذا ما انتحى لها ... منَ الأرضِ نهَّاضُ الحزابيِّ أغبرُ المعنى يقول: سيان السرح، وتركه، لأن الأرض جدبة قحطة، لا رعي فيها. الإعراب كان الوجه أن يقول: "ويسرحوه بها" إلا أنه لما كان "أو" للإباحة، يسوغ فيها الجمع بين الشيئين، إذا قلت: جالس الحسن، أو ابن سيرين، مستقيم لك أن تجالسهما، وتعلم نحواً أو فقهاً، يستقيم لك أن تتعلمهما، تأنس بذلك، فأوقعها موقعها، وأحلها محلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وإن كانت "أو"، إنما هي في أصل وضعها، لأحد الشيئين. وإنما جاز ذلك فيها في هذا الموضع لا لشيء يرجع إلى نفس "أو" (بل) بقرينة انضمت إليها من جهة المعنى، وذلك أنه قد عرف، أنه ربما رغب في مجالسة الحسن؛ لما لمجالسته في ذلك من الحظ، وهذه الحالة موجودة في مجالسة ابن سيرين، فعلم من فحوى القول أنه قد أبيح له مجالسة ابن سيرين أيضاً كأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى "أو" في هذا الموضع قد جرت مجرى "الواو" بقرينة، تدرج من ذلك إلى غيره، فأجراها مجرى "الواو" في موضع عار من القرينة التي سوغت استعمال "أو" موضع الواو. وسيان مرفوع "بكان" و"ألا يسرحوا" في موضع الفاعل به، يسد مسد خبر "كان". وإنما جاز أن يكون "اسم كان" وهو نكرة، لما فيه من معنى التسوية ويحتمل أن يكون في "كان" ضمير الأمر والشأن، ويرفع "ألا يسرحوه" بالابتداء، و"سيان" خبره، والجملة خبر كان، والتقدير: وكان الأمر السرح وتركه سيان، ومثله قوله تعالى: (أوْ لمْ تكنْ لهمْ آيةٌ أنْ يعلمهُ علماءُ بني إسرائيل) . فالتأنيث في "تكن" للقصة، و"أن يعلمه" مبتدأ، و"آية" خبر المبتدأ، والجملة خبر "كان". ومن رواه: وكان سيين أو مثليين، نصب "بكان"، و"ألا يسرحوه" رفع بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وأنشد أبو علي في الباب. (80) أطربا وأنتَ قنَّسريُّ هذا الشطر للعجاج الشاهد فيه قوله "أطربا" لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الإثبات؛ يوبخه على طربه وهو شيخ. اللغة الطرب: خفة تصيب الرجل عند السرور، وعند الجزع، وهو هنا الجزع. القنسري: الشيخ الكبير المسن، وإنما هو "قنسر"، فزاد "الياء" لتوكيد معنى الصفة، وليست للنسب. قال طفيل الغنوي: وعارضتها رهوا على متتابعٍ ... شديدِ القصيرى خارجيٍّ محنَّبِ مثله قول العجاج أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 غضفٌ طواها الأمسِ كلاَّبيُّ أراد: كلابا، وله أيضاً: والدَّهرُ بالإنسانِ دوَّاريُّ ومثله: كأنَّ حدَّاءً قراقريَّا أي حاد قراقر، وهو مثل قولهم: خطيب مصقع، وشاعر مرقع. ومثله لرؤبة: منْ عضلاتِ الضَّيغميِّ الأجبهِ أي: الضغيم، وهو كثير. الإعراب نصب "طربا" على المصدر، كأنه قال: أتطرب طربا. و"أنت قنسري" جملة من مبتدأ وخبر، في موضع الحال. وقبله: بكيتُ والمحتزنُ البكيُّ وإنَّما يأتي الصِّبا الصَّبيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وأنشد أبو علي في باب الأفعال المنصوبة. (81) للبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني ... أحبُّ إليَّ منْ لبسِ الشُّفوفِ هذا البيت لميسون بنت بحدل بن أنيف الكلبية، وهي امرأة معاوية بن أبي سفيان، وهي أم يزيد ابنه. الشاهد فيه نصب "وتقر" بإضمار "أن" ليعطف على "اللبس"؛ لأن "اللبس" اسم و"تقر" فعل، فلما لم يمكنه عطف الفعل على الاسم، أضمر "أن" ونصب بها الفعل، وجعلها وما بعدها اسماً، وعطف حينئذ اسماً على اسم. فكأنه قال: لأن ألبس عباءة، وأن تقر عيني أحب إلي، وجعل الخبر عنهما واحداً، وهو "أحب"، ويروى: للبسُ عباءةٍ وتقرُّ عيني برفع الفعل جعل "الواو" للحال. وتقدير الكلام لأن ألبس العباءة قارة عيني أحب إلى. ويروى بفتح القاف وكسرها. اللغة العباءة: جبة الصوف. والشفوف: ثياب رقاق، تصف البدن. واحدها: شف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المعنى تقول: صفاء العيش، ولبس العباءة، أحب إلي من نكد العيش، وسخنة العين، ولباس الثياب الرقاق. وبعده: وبيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ ... أحبُّ إليَّ منْ قصرٍ منيفِ وأصواتُ الضِّباعِ بكلِّ قفرٍ ... أحبُّ إليَّ منْ ضربِ الدُّفوفِ وأنشد أبو علي في الباب. (82) سأتركُ منزلي لبني تميمٍ ... وألحقُ بالحجازِ فأستريحا هذا البيت للمغيرة بن حبناء. الشاهد فيه نصب "فأستريحا" بإضمار "أن" ضرورة، وهو خبر واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ويروى: "لأستريحا" ولا شاهد فيه على هذه الرواية، ومعنى البيت مفهوم، ومثله للأعشى: وثمَّتَ لا تجزونني عندَ ذاكمُ ... ولكنْ سيجزيني الإلهُ فيعقبا ومثله لطرفة: لنا هضبةٌ لا ينزلُ الذُّلُ وسطها ... ويأوي إليها المستجيرُ فيعصما وأنشد أبو علي في الباب. (83) لا تنهَ عنْ خلقٍ وتأتيَ مثلهُ ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ هذا البيت، للمتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع، من شعراء الإسلام. وهو من أهل الكوفة، كان في عصر معاوية، وابنه يزيد، ومدحهما، ونسب إلى الأخطل، ويروى لأبي الأسود الدؤلي. وللمتوكل نسبه أبو الفرج الأصبهاني، وذكر أنه اجتمع مع الأخطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بالكوفة. فقال له المتوكل: أنشدنا يا أبا مالك. فوالله لا تنشدني قصيدة إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها، من شعري. قال: ومن أنت؟. قال: أنا المتوكل. قال: ويحك! أنشدني من شعرك، فأنشده: للغانياتِ بذي المجازِ رسومُ ... فببطنِ مكَّةَ عهدهنَّ قديمُ فبمنحر البدنِ المقلَّدِ منْ منًى ... حللٌ تلوحُ كأنَّهنَّ نجومُ حتى انتهى إلى قوله: لا تنهَ عنْ خلقٍ وتأتيَ مثلهُ ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ فقال له الأخطل: ويحك يا متوكل! لو صب الخمر في جوفك، كنت أشعر الناس. ورأيت لمن يرويه، للأخطل، أو لأبي الأسود: وإذا جريتَ معَ السَّفيهِ كما جرى ... فكلاكما في جريهِ مذمومُ وإذا عتبتَ على السَّفيهِ ولمتهُ ... في مثلِ ما تأتي فأنتَ ملومُ الشاهد فيه نصب "تأتي" بإضمار "أن"؛ لأنه أراد: لا تجمع بين النهي والإتيان، والمعنى: لا يكن منك، أن تنهى وتأتي، ولو جزم لفسد المعنى، لقطعه ألا ينهى البتة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 شيءٍ، ولا يأته، وإنما يريد: إذا نهيت عن شيء فلا تأته، فإن ذلك عار عليك. قال الأصمعي: لم أسمع هذا البيت، من أحد من العرب، إلا مرفوعاً، يريد: بإثبات "الياء" ساكنة. وهذا لا يجوز إلا مع الحال، أي: لا تنه عن خلق وحالك إتيانه، أي وأنت تأتي مثله، وأتى أبو العلاء المعري بمثله فقال: إذا فعلَ الفتى ما عنهُ ينهى ... فمنْ جهتينِ لا جهةِ أساءَ الإعراب قوله: "عار" هو خبر مبتدأ، كأنه قال: هذا عار عليك، و"عليك" في موضع الصفة "لعار"، أي: عار واقع عليك، و"عظيم" صفة له. والعامل في "إذا فعلت" المبتدأ الذي هو (هذا) ، ويجوز أن يعمل فيه قوله: "عليك" أي يقع عليك وقت فعلك إياه. وانشد أبو علي في الباب. (84) وكنتُ إذا غمزتُ قناةَ قومٍ ... كسرتُ كعوبها أوْ تستقيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 هذا البيت لزياد الأعجم، وهو زياد بن سليمان، مولى عبد القيس، أحد بني عامر بن الحارث. وقيل: زياد بن جابر بن عمرو، مولى عبد القيس. وكان ينزل "اصطخر"، فغلبت العجمة على لسانه، فقيل له: الأعجم، ويكنى أبا أمامة. الشاهد فيه نصب "تستقيم"، على معنى إلا أن تستقيم. الغمز: العصر باليد، أتى به على جهة المثل. يقول: إذا اشتد عل جانب قوم، رمت صلاحهم، حتى يستقيم أمرهم. ووقع هذا البيت، في هذا "الكتاب"، وفي "كتاب سيبويه"، بنصب "تستقيم" ورأيته في شعر زياد الأعجم، مرفوع القوافي، يهجو المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة. وحبناء لقب غلب على أبيه، واسمه حبين بن عمرو، وهو شاعر إسلامي. وبعده: فستُ بسابقي هرباً ولمَّا ... تمرُّ على نواجذكَ القدومُ فحاولْ كيفَ تنجو منْ وقاعي ... فإنَّكَ بعدَ ثالثةٍ رميمُ سراتكمُ الكلابُ البقعُ فيكمْ ... للؤمكمُ وليسَ لكمْ كريمُ وقدْ قدمتْ عبودتكمْ ودمتمْ ... على الفحشاءِ والطَّبعِ اللَّئيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وأنشد أبو علي في الباب. (85) وحتَّى الجيادُ ما يقدنَ بأرسانِ وقد تقدم القول على شاهده، والكلام عليه، فأغنى عن إعادته، وهذا آخر الأبيات من الجزء الأول. وأنشد أبو علي في الباب الأول من الجزء الثاني. (86) فاليومَ أشربْ غيرَ مستحقبٍ ... إثماً منَ اللهِ ولا واغلِ هذا البيت لامرئ القيس، استشهد أبو علي بصدره. الشاهد فيه إسكان آخر الفعل، وهو "الباء" من "أشرب" في حال الرفع مع الوصل، شبه المنفصل من كلمتين بالمتصل من كلمة واحدة، نحو "عضد" وشبهه، لأنه بنى من "الراء والباء، والغين" من الكلمة الأخرى، مثل "ربغ" ثم أسكن الباء، ومثله قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 إذا اعوججنَ قلتُ صاحبْ قوِّمِ بالدَّوِّ أمثالَ السَّفينِ العوَّمِ وسيأتي في الكتاب نظائره في مواضعها إن شاء الله. ويروى "فاشرب" على الأمر، ويروى "فاليوم أسقى" ولا شاهد فيه على هذا. اللغة المستحقب: المكتسب، وأصل الإستحقاب: حمل الشيء في الحقيبة. والواغل: الداخل على القوم، وهم يشربون، ولم يدع. المعنى قال هذا حين قتل أبوه، ونذر ألا يشرب الخمر، حتى يثأر به، فلما أدرك ثأره، حلت بزعمه، فلا يأثم في شربها، إذ قد وفى بنذره. وأنشد أبو علي في باب الساكنين إذا التقيا، ولم يكن الحرفان الساكنان مثلين. (87) عجبتُ لمولودٍ، وليسَ لهُ أبٌ ... وذي ولدٍ لمْ يلدهُ أبوانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 هذا لبيت لرجل من أسد السراة. الشاهد فيه قوله "لم يلده"، فخفف "اللام" فأسكن، فقال "لم يلده"، ثم أسكن "الدال" للجازم فالتقى ساكنان، فحرك "الدال" لالتقاء الساكنين، وحركها بحركة أقرب المتحركات إليه، ومثله قول الآخر: وقيل في قول العجاج: بسبحلِ الدَّفَّينِ عيسجورِ أنه أراد: "بسبحل" فأسكن الباء، وحرك الحاء، وغير حركة السين. والمولود الذي ليس له أب، "عيسى" صلى الله عليه وسلم، والوالد الذي ليس له أبوان، "آدم" صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة، وفيها ألغاز، ومنها قوله في القمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وذي شامةٍ سوداءَ في حرِّ وجههِ ... مجلَّلةٍ لا تنجلي لزمانِ ويكملُ في تسعٍ وخمسٍ شبابه ... ويهرمُ في سبعٍ معاً وثمانِ وأنشد أبو علي في الباب. (88) قالتْ سليمى اشترْلنا سويقا هذا الشطر للعذافري الكندي. الشاهد فيه إسكان الراء من "اشترلنا"، لأن "ترل" من الكلمة "كعلم" فأجرى الكلمتين مجرى الكلمة الواحدة، فسكن ضرورة، كما يقولون: في ظرف، وفي "كبِد" كبْد، ومثله قول الآخر: فاحذرْ ولا تكترْ كريّاً أعوجا وبعده: وهاتِ برَّ البخسِ أوْ دقيقا واعجلْ بشحمٍ يتَّخذُ خرديقا واشترْ فعجِّلْ خادماً لبيقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 والبخس: أرض تنبت بلا سقي، والخرديق: مرقة الشحم بالتابل. وأنشد أيضاً العجاج. (89) فباتَ منتصباً وما تكردسا الشاهد فيه إسكان قوله: "منتصباً" تخفيفاً، ومثله في "كتف" كتف قال: وما كلُّ مبتاعٍ ولوْ سلفَ صفقهُ ... يراجعُ ما قدْ فاتهُ بردادِ وقال الأخطل: إذا غابَ عنَّا غابَ عنَّا فراتنا ... وإنْ شهدَ أجرى فضلهُ وجداولهْ وقال الآخر: رحتِ وفي رجليكِ ما فيهما ... وقدْ بدا هنكِ منَ المئزرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأنشد البغداديون: رجلانِ منْ ضبَّةَ أخبرانا ... أنَّا رأينا رجلاً عريانا وقال أبو النجم: لوْ عصرَ منهُ المسكُ والبانُ انعصرْ وحكى صاحب "الكتاب": أراك منتفخاً. وقرأ أبو عمرو: (رسلنا) ، و (سبلنا) ، و (يأمرهمْ) و (يشعركمْ) أسكن تخفيفاً؛ لتوالي الحركات. وصف ثوراً وحشياً، يقول: بات هذا الثور منتصباً، أي قائماً لنشاطه وقوته، وما تكردس أي وما انطرح، قال امرؤ القيس: وضجعته مثل الأسير المكردس ويروى "وبات منتصاً" من المنصة، و المعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وبعده: إذا أحسَّ نبأةً توجَّسا وأنشد أبو علي في الباب. (90) أنا ابنُ ماويَّةَ إذْ جدَّ النَّقرْ هذا الرجز لعبد الله بن ماوية الطائي، أو لبعض السعديين، من سعد تميم. الشاهد فيه إلقاء حركة الراء على القاف للوقف، لئلا يجمع بين ساكنين، وليس الأول حرف مد، ولا حرف لين. ومما جاء من ذلك في الشعر، وليس الأول حرف مد، ولا حرف لين، قوله: أرخينَ أذيالَ الحقى وارتعنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 مشيَ حيِّياتٍ كأنْ لمْ يفزعنْ إنْ يمنعَ اليومَ نساءٌ تمنعنْ قال الأخفش: أخبرني بعض من أثق به، أنه سمع: أنا جريرٌ كنيتي أبو عمرْو أجبناً وغيرةً تحتَ السِّترْ قال: وقد سمعت من العرب: أنا ابنُ ماويَّةَ إذْ جدَّ النَّقرْ قال أبو الفتح ابن جني: "لهذا ضرب من القياس؛ وذلك أن الساكن الأول، وإن لم يكن مداً، فإنه ضارع بسكونه المدة، فكما أن حرف اللين. إذا تحرك، جرى مجرى الصحيح فصح في نحو: "عوض وحول". ألا تراهما لم تقلب الحركة فيهما كما قلبت في "ريح" و"ديمة" لسكونها، وكذلك ما أعل للكسرة قبله، نحو "ميعاد" و"ميقات"، أو الضمة قبله، نحو: "موقن" و"موسر"، إذا تحرك صح، فقالوا: "مواعيد" و"مواقيت" و"مياسر" و"مياقن". فكما جرى المد مجرى الصحيح، لحركته، كذلك يجري الحرف الصحيح مجرى حرف اللين، لسكونه. أو لا ترى إلى ما يعرض للصحيح إذا سكن، من الإدغام، والقلب. نحو: من رأيت؛ ومن لقيت، وعمبر، وامرأة شمباء. فإذا تحرك، صح، فقالوا: الشنب، والعنب، وأنا رأيت، وأنا لقيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وكذلك تجري العين من "ارتعن"، والميم من "أبي عمرو" والقاف من "النقر" فاعلمه. اللغة النقر: هو النقر بالخيل، والنقر أيضاً: ضرب الشيء بالمنقار، والنقر أيضاً: إلزاق طرف اللسان بالحنك، ثم يصوت به، يسكن به الفرس، عند احتمائه، وشدة حركته. قال امرؤ القيس: أسكِّتهُ بالنَّقرِ لمَّا علوته ويروى "أخفضه". وأنشدنا ثابت، في "كتاب الدلائل": إذ جد النفر، بالفاء. يريد: النفر، وهو أشبه بالمعنى. وسيبويه رواه، بالقاف. المعنى يقول أنا الشجاع البطل، إذا احتمت الخيل، واشتد الحرب. الإعراب العامل في الظرف، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد، أنا مثل ابن ماوية في هذا لوقت. فيعمل في الظرف على هذا التقدير معنى التشبيه، أي: أنا أشبه ابن ماوية إذ جد النقر، هذا إن كان القائل غير ابن ماوية. والثاني: أن يكون قد عرف منه الغناء والنجدة، فكأنه قال: أنا المغني، أو أنا النجد إذ جد النقر. ومثله قول الآخر: أنا أبو المنهالِ بعضَ الأحيانْ وهذا هو الانتزاع من الاسم العلم، معنى الوصف والفعلية، ومثله قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أنا أبو برزةَ إذْ جدَّ الوهلْ أي: أنا المغني عند اشتداد الأمر، قريب منه قول الآخر: أنا أبوها حينَ تستبقي أبا أي: أنا صاحبها وكافلها وقت حاجتها إلى ذلك، ومثله، وأحسن منه صنعة: لا ذعرتُ السَّوامَ في فلقِ الصُّب ... حِ مغيراً ولا دعيتُ يزيدا أي: لا دعيت الفاضل المغني، وليس يتمدح بأن اسمه "يزيد"، وإنما تمدح بما عرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 من فضله، وغنائه، ومثل هذا الانتزاع قول الآخر: إنَّ الذِّئابَ قدْ اخضرَّتْ براثنها ... والنَّاسُ كلُّهمُ بكرٌ إذا شبعوا أي: الناس إذا شبعوا تعادوا؛ لأن بكراً كذلك تفعل. ونحو منه قول الآخر: وإن لم يكن المعول عليه علماً: ما أمُّكَ اجتاحتِ المنايا ... كلُّ فؤادٍ عليكَ أمُّ أي: كل فؤاد عليك حزين، وكئيب، إذ كانت الأم هكذا غالب أمرها، ولاسيما مع المصيبة، وعند نزول الشدة. وقد مر به الطائي الكبير، فأحسن فيه، واستوفى معناه، فقال: فلا تحسبا هنداً لها الغدرُ وحدها ... سجيَّةُ هندٍ كلُّ غانيةٍ هندُ فكأنه قال: كل غانية غادرة أو قاطعة، أو غير ذلك. وقد جاء في كتاب الله تعالى: (وهوَ اللهُ في السَّمواتِ) . قال أبو علي: العامل في المجرور، ما في اسم الله تعالى، من معنى الإلاهية، ينتزع منه معنى المعبود، أو الموجود. أو نحو ذلك، ومثله قوله تعالى: (إنَّها لظى، نزَّاعةً للشَّوى) ، في قراءة من نصب على الحال، والعامل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الحال ما في "لظى" من معنى التلظي، لأن "لظى" اسم علم، ومثله: مررت برجل خز تكته، ومررت برجل صوف قميصه، أي: خشن ومررت بقاع عرفج كله. أي: جاف، أو خشن. وعلى هذا مذهب صاحب الكتاب، في ترك صرف "أحمر" إذا سمي به ثم نكرة. وأنشد أبو علي في الباب. (91) شربَ النَّبيذِ واصطفاقاً بالرَّجلْ هذا الرجز، لبعض بني أسد. الشاهد فيه إلقاء حركة اللام على الجيم للوقف. وقبله: علَّمنا أخوالنا بنو عجلْ أراد: "عجل" فنقل كما تقدم، ومثله قول الآخر: أرتنيَ حجلاً على ساقها ... فهشَّ الفؤادُ لذاكَ الحجلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقال آخر: محنَّبُ الرِّجلينِ محبوكُ الإطلْ أراد: "الإطل" ثم وقف، فنقل الحركة، ويجوز أن يكون "الإطل"، لغة مضافة إلى "إبل"، وقد روي قول امرئ القيس: لهُ إطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ على "فعل". اللغة "الاصطفاق بالرجل": افتعال من التصفيق. ويروى: "اعتقالاً"، وهو أن يصرعه الشغزبية، وهي عقلة للمصارع، وذلك أن يدخل رجله، على رجله فيصرعه. وأنشد أبو علي في باب الكلم التي يلفظ بها. (92) أأنْ رأتْ رجلاً أعشى أضرَّ بهِ ... ريبُ المنونِ ودهرٌ منفدٌ خبلُ البيت للأعشى ميمون بن قيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 استشهد أبو علي بصدره، على أن العرب لم تخفف الهمزة. إذا كانت أول كلمة يبتدأ بها؛ لأن في تخفيفها تقريباً من الساكن، وإذا كانوا لم يبتدئوا بالساكن، فكذلك لم يبتدئوا بما قرب منه، هذا مع كون الهمزة مخففة بزنة المحققة؛ ولولا ذلك لانكسر البيت. اللغة العشى: ضعف البصر، وريب الدهر: نوائبه. والمنون: المنية، تذكر وتؤنث، وخبل: ملتو على أهله. وأنشد أبو علي في باب أحكام الحروف التي يوقف عليها. (93) مثلّ الحريقِ وافقَ القصبَّا هذا الرجز لربيعة بن أبي صبح، ويروى لرؤبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الشاهد فيه تشديد "القصبا" في الوصل ضرورة، حملاً على الوقف، وإنما يشدد في الوقف، إشعاراً بأنه محرك في الوصل، ولو قال: "القصب"، ووقف على "الباء"، لم تكن فيه ضرورة، ولكنه لما وصل القافية "بالألف"، خرجت "الباء" عن حكم الوقف؛ لأن الوقف على الألف لا عليها. ومثله: لقدْ خشيتُ أنْ أرى جدبَّا في عامنا ذا بعدما أخصبَّا وقال آخر: ضخم يحب الخلق الأضخما وكلاهما لرؤبة بن العجاج. ومن روى: "الإضخم" بكسر الهمزة، و"الضخم" بكسر الضاد، فلا ضرورة فيه، على هذه الرواية، لأن "إفعلاَّ" و"فعلاَّ" في الكلام كثير، نحو "إرزب" و"خدب"، وإنما الضرورة في فتح الهمزة، لأن "أفعل" ليس بموجود في الأسماء. ويتصل بالأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 إن الدبا فوق المتون دبا وهبت الريح بمور هبا يترك ما أبقى الدبا سبسبا كأنه السيل إذا اسلحبا أو كالحريق وافق القصبا والتبن والحلفاء والتهبا حتى ترى البويزل الإرزبَّا من عدم المرعى قد اقرعبا وأنشد أبو علي في الباب. (94) ببازلٍ وجناءَ أوْ عيهلِّ هذا الرجز لمنظور بن مرثد. الشاهد فيه تشديد "عيهل"، في الوصل ضرورة، كما تقدم في الذي قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقيل: إنما شدد ضرورة لتمام البناء؛ لأنه لو قال: "أو عيهل" بالتخفيف، لكان من كامل السريع، وقبله ما يدل على أنه من أشطار السريع. فلهذه الضرورة، أجرى الوصل، مجرى الوقف، فشدد. قال أبو الفتح: "إثبات الياء في "عيهل" وأشباهه، مع التضعيف طريف، وذلك أن التثقيل من أمارة الوقف، وإثبات الياء من أمارة الإطلاق، فهذا ظاهره الجمع بين الضدين، فهو إذاً بين منزلتين. وسبب جواز الجمع بينهما، أن كل واحد منهما، قد كان جائزاً على انفراده، فإذا جمع بينهما، فإنه على كل حال، لم يأت إلا بما من عادته، أن يأتي منفرداً، وليس على تحقيق النظر جمعاً بين الضدين، كالسواد والبياض، والحركة والسكون، فيستحيل اجتماعهما، فتضادهما إذاً إنما هو في الصناعة لا في الطبيعة والطريقة منقادة، والتأمل يوضحها، ويمكنك منها. ومثله قول الآخر: يا مرحباهُ بحمار ناجيهْ ... إذا أتى قرَّبته للسانيهْ وقال آخر: يا مرحباهُ بحمارِ عفرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فثبات الهاء في "مرحباه"، ليس على حد الوقف، ولا على حد الوصل أما الوقف فيؤذن، بأنها ساكنة، وأما الوصل فيؤذن بحذفها أصلاً، فثباتها في الوصل، متحركة، منزلة بين منزلتين، ولهذا نظائر في كلامهم، ومثله بيت الكتاب. لهُ زجلٌ كأنَّهُ صوتُ حادٍ ... إذا طلبَ الوسيقةَ أوْ زميرُ فحذف الواو من "كأنه"، لا على حد الوقف، ولا على حد الوصل. أما الوقف فيقضي بالسكون. وأما الوصل، فيقضي بالمطل، وتمكين الواو، "كأنهو". فقوله إذن "كأنه" منزلة بين الوصل والوقف. ومما له منزلة بين منزلتين، ما كانت فيه الألف واللام، والإضافة، نحو الرجل والغلام وغلامك، وصاحب الرجل. فهذه الأسماء كلها وما كان نحوها، لا منصرفة، ولا غير منصرفة، وذلك أنها ليست بمنونة، فتكون منصرفة، ولا مما يجوز للتنوين حلوله للصرف. فإذا لم يوجد فيه، كان عدمه منه، أمارة بكونه غير منصرف، كأحمر وعمر، وإبراهيم، وغير ذلك. وكذلك التثنية، والجمع على حدها، نحو الزيدين، والعمرين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 والمحمدون، ليس شيء من ذلك منصرفاً، ولا غير منصرف، معرفة كان أو نكرة من حيث كانت هذه الأسماء، مما ينون مثلها. فإذا لم يوجد فيها التنوين، كان ذهابه عنها أمارة لترك صرفها. ومن ذلك، كسر ما قبل "ياء المتكلم" في نحو غلامي، وصاحبي، فهذه الحركات، لا إعراب، ولا بناء. أما كونها غير إعراب؛ فلأن الاسم يكون مرفوعا، ومنصوبا، وهي فيه نحو: هذا غلامي، ورأيت غلامي، ومررت بغلامي. وليس بين الرفع، والجر، والنصب، في هذا نسبة، ولا مقارنة. وأما كونها غير بناء، فلأن الكلمة معربة متمكنة، فليست الحركة، في آخره ببناء. ألا ترى أن غلامي في التمكن، واستحقاق الإعراب، كغلامك، وغلامهم، وغلامنا. فإن قلت: فما الكسرة في نحو: مررت بغلامي أهي إعراب، أم هي من جنس الكسرة، في الرفع والنصب؟!. قيل: هي من جنس ما قبلها، وليست إعراباً. ألا ترى أنها ثابتة، في الرفع، والنصب. فعلمت بذلك، أن الكسرة يكره الحرف عليها، فيكون في الحالات ملازماً لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فكما لا يشك أن الكسرة في الرفع والنصب ليست بإعراب، فكذلك يجب أن يحكم عليها في باب الجر، إلا أن لفظ هذه الحركة، في حال الجر، وإن لم تكن إعراباً، لفظها لو كانت إعراباً. كما أن الكسرة من صاد "صنو"، غير الكسرة في "صنوان" حكماً وإن كانت إياها لفظاً. ومثل هذا لو استقصي كثير. اللغة البازل: المسنة، والوجناء: ذات الوجنة الضخمة، وهي أيضاً: الغليظة الشديدة، والعيهل، والعيهلة والعيهول، والعيهال: الناقة السريعة. وقيل: العيهلة والعيهل: النجيبة الشديدة، وقيل: العيهل: الذكر خاصة، والعيهلة: الأنثى، وقيل: العيهلة: الطويلة، وقيل الشديدة، وامرأة عيهل، وعيهلة: لا تستقر نزقاً. وقبله: منْ ليَ منْ هجرانِ ليلى منْ لَّي والحبلُ منْ حبالها المنحلِّ تعرَّضتْ لي بمكانٍ علِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 تعرُّضَ المهرةِ في الطِّولِّ تعرُّضاً لمْ يألُ عنْ قتلٍ لي فسلِّ مجدَ الهائمِ المعتلِّ ببازلٍ وجناءَ أوْ عيهلِّ كأنَّ مهواها على الكلكلِّ موقعُ كفَّيْ راهب يصلِّي ترى مرادَ نسعهِ المدخلِّ بين رحى الحيزوم والمرجلِّ مثلَ الزحاليف بنعفِ التَّلِّ وأنشد أبو علي في باب الوقف على الاسم المعتل. (95) خالي عويفٌ وأبو علجِّ هو لأعرابي. الشاهد فيه إبدال "الجيم" من "الياء" في "عليٍّ"؛ لأن الياء خفيفة، وتزداد خفاء بالسكون للوقف، فأبدلوا منها "الجيم" لأنها من مخرجها، وهي أبين منها، وتمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المطعمان اللحم بالعشجَّ يريد: العشي. ولاغداةِ فلقَ البرنجَّ يريد: البرني، وهو ضربٌ من التمر. يقلعُ بالودَّ وبالصيصجّّ يريد: بالصَّيصي: القرن. قال أبو عمرو بن العلاء: قلت لرجل من بني حنظلة، ممن أنت؟ فقال: فقيمج. فقلت: من أيهم؟ فقال: مرج. يريد فقيمي: ومري، وأنشد لهيمان، بن قحافة السعدي. يطيرُ عنها الوبرَ الصهابجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يريد: الصهابي، من الصهبة. قال يعقوب: بعض العرب، إذا شدد "الياء" جعلها "جيماً"، وأنشد ابن الإعرابي: كأنَّ في أذنابهنَّ الشُّولِ ... من عبسِ الصَّيفِ قرونَ الإجّضلِ يريد: الإيَّل وأنشد الفراء: لا همَّ إن كنتّ قبلتَ حجَّتجْ فلاَ يزال شاحجٌ يأتيك بجْ أقمرُ نهاّضاتٌ ينزَّي فروتجْ يريد: حجتي ويأتيك بي، وينزي فروتي، ويروى: "فلا يزال شامخ" يعني بعيراً مستكبراً. وأنشد أبو علي في الباب. (96) ولأنتَ تفري ما خلفتَ وبع ... ضُ القومِ يخلقُ ثمَّ لا يفرِْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 هذا البيت لزهير بي أبي سلمى، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه حذف "الياء" من قوله: "يفري"، على رأي من أسكن الراء ولم يطلق القافية للترنم. وإثبات "الياء" هو الأقيس والكثير، لنه "فعل" لا يدخله "التنوين" فيعاقب "ياءه" فيحذف ذلك في الوقف، كقاض، وغاز، وشبهه، وكذلك "يغزو"، ولو كان في قافية لكنت حذافاً "الواو" إن شئت. وهذه اللامات لا تحذف في الكلام، وتحذف في القوافي، والفواصل، فتقرأ: (والليل إذا يسر) ، وكذلك (ما كنا نبغ) ، إذا وقفت. وإما "يخشى، ويرضى) ، ونحوهما، مما "لامه ألف"، فإنه لا يحذف منهن "الألف"، لن هذه "الألف"، بمنزلة "ألف النصب" إلا على رأي من حذفها في الكلام، في قولك، رأيت زيد، ولقيت خالد، وهي لغة ضعيفة. ألا ترى انه لا يجوز لك أن تقول: فبتنا تصدُّ الوحشُ عنَّا كأنَّنا ... قتيلانِ لم يعلمْ لنا الناسُ مصرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فتحذف "الألف"، قال رؤبة: داينتُ أروى والديونُ تقضى فمطلتْ بعضاً، وأدَّتْ بعضا فكما لا تحذف "ألف" بعضٍ، كذلك لا تحذف ألف تقضى. واعلم أن "واو" يغزو، أو "ياء" "يقضي"، إذا كانت واحدة منهما، "حرف روي"، لم تحذف، لأنها ليست بوصل حينئذ، وزهي "حرف روي"، كما أن "القاف" في قوله: وقاتنمِ الأعماق خاوي المخترقْ "حزف روى"، فكما لا يجوز حذف "القاف"، لا تحذف واحدة منهما، وهذا هو القياس، فإما إذا جائتا، بعد "حرف الروي"، فحكمهما حكم ما يزاد للترنم. قال سيبويه: "وقد دعاهم حذف ياء" "يقضي" إلى أن حذف ناس كثير، من قيس وأسد، الواو، اللتين هما علامة المضمر، ولم يكثر حذف واحدة منهما، كما كثر حذف ياء "يقضي"، لأنهما تجيئان لمعني في الأسماء وليستا حرفين، فهما بمنزلة "الهاء" في قوله: يا عجبَّا للدَّهرِ شتَّى طرائقهْ قال: وسمعت من العرب، من يروي هذا الشعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 لا يبعدُ الله جيرانا تركهمُ ... لم أدرِ بعد غداة البينِ ما صنعْ يريد: صنعوا، وقال آخر: لو ساوفتنا بسوفٍ منْ تحَّيتها ... سوفَ العيوفِ، لراحَ الرَّكبُ قدْ قنعْ يريد: قنعوا، وقال عنترة بن شداد العبسي: يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلَّمْ ... وعمي صباحاً دارَ عبلةَ وأسلمْ يريد: تكلمي واسلمي. وأما "الهاء" فلا تحذف، من قولك "شتى طرائقه"، وما أشبهه، لن "الهاء" ليست من حروف المد واللين، قال وأنشد الخليل: خليليَّ طيرا بالتَّفرُّقِ أوقعا فلم تحذف "الألف" كما لم تحذف من "يقضى" و"بعضا". وإنما جاء الحذف في "الياء والواو"، إذا كانتا ضميرين فقط، ولم يجئ في "الألف"، ولم يجز، لما تقدم ذكره. وأعلم أن العرب إذا ترنمت في الإنشاد، ألحقت الألف والواو والياء، فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ينون، ولا ينون، لأنهم أرادوا مد الصوت. فأما إذا لم يترنموا، فالوقف على ثلاثة اوجه: الأول: أما أهل الحجاز، فيدعون هذه القوافي، ما نون منها وما لم ينون على حالها في الترنم، ليفرقوا بينها وبين الكلام فيقولون: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بسقطِ اللَّوى بينَ الدَّخولِ فحوملِ ويقولون في النصب: جزعتُ ولم أجزع منَ البينِ مجزعا ... وعزَّنتُ قلباً بالكواعبِ مولعا ويقولون في الرفع: هريرةَ ودَّعها وإنْ لامَ لائمو هذا فيما ينون. فأما ما لا ينون في الكلام، فقد بلغوا فعلوا به، كفعلهم بقول جرير، في الرفع: متى كان الخيامُ بذي طلوحٍ ... سقيتِ الغيثَ أيَّتها الخيامُ وقال في الجر: هيهاتَ منزلنا بنعف سويقةٍ ... كانت مباركةً على الأيَّامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وقال في النصب: أقلَّي اللَّومَ عاذلَ والعتابا ... وقولي إنْ أصبتُ لقدْ أصابا الثاني: ناس كثير من تميم، يبدلون مكان المد النون فيما ينون، ولا ينون، لما لم يريدوا الترنم يقولون: يا أبتا علَّكَ أو عساكنْ و: يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعِ الذُّرفنْ منْ طللٍ كالأتحميَّ أنهجنْ وكذاك الجر والرفع، والمكسور المبني، والمفتوح المبيني، والمضموم المبني في جميع هذا، كالمجرور والمرفوع والمنصوب. الثالث: إجراء القوافي مجراها، لو كانت في الكلام، ولم تكن قوافي شعر. أقلَّي اللَّومَ عاذلَ والعتابْ وقال الأخطل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أسألْ بمصقلةَ البكريَّ ما فعلْ قد زارني حفصٌ فحرَّكْ حفصا يثبتون الألف التي هي بدل من التنوين، في النصب، كما يفعلون في الكلام. وقد مر الكلام في الياءات والواوات، التي هن لامات، إذا كان ما قبلها حرف الروي، وانه يفعل بها ما يفعل بالياء والواو اللتين ألحقتا في المد في القوافي، والأصل والزائد للإطلاق، والترنم سواء في هذا، من أثبت الزائد، أثبت الأصل، ومن ذلك إنشادهم لزهير: وبعضُ القومِ يخلقُ ثمَّ لا يفرِ وقد مر الكلام عليه. اللغة معني "يفري": يقطع، يقال: "فرى الأديم"، إذا قطعه على جهة الإصلاح والتقدير، ويقال فراه: إذا خرزه، وفرى الأرض: قطعها، وفرى الرجل فرية: كذب، وفرى فريا: جاء بالعجب، قال الله تعالى: (لَقَدْ جِئتِ شَيْئاً فّرِيَّا) . وأفرى الشيئ: قطعه على جهة الإفساد، وأفرى الشيئ: شقه، وأفرى الذئب البطن كذلك، وافرى بالسيف: قطع، وأفرى الرجل: سبه، وأفرى الجرح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وقد قيل: إن "فرى" و"أفرى" بمعنى واحد. وقال بعض اللغويين: ليس بصحيح، قول من زعم، ان الفري القطع على جهة الإصلاح، والإفراء القطع على جهة الإفساد، وقد جاء فرى على جهة الإفساد، قال: فرى نائباتُ الدَّهرِ بيني وبينها ... وصرفُ اللَّيالي مثلَ ما فريَ البردُ ومعنى خلقت: قدرت، يقال: خلقت الأديم، إذا قدرته لتقطعه، ومعنى البيت: مدح بهذا الشعر، هرم بن سنان، المري، بالحزم وجودة التدبير، حسن الرأي، ومضاء الأمر، وتنفيذ العزم، وضرب الفري والخلق مثلاً لتدبير الأمر، وإمضائه. وبعد البيت: ولأنتَ أشجعُ منْ أسامةَ حينَ تت ... تجهُ الأبطالُ من ليثٍ أبي أجرِ وردٍ عراضِ السَّاعدين حدي ... دِ النَّاب بينَ ضراغمٍ غثرِ يصطادُ أحدانَ الرَّجالِ فما ... تنفكُّ أجريهِ على ذخرِ والسَّترُ دونَ الفاحشات وما ... يلقاكَ دونَ الخيرِ من سترِ يقول: بينه وبين الفاحشات، ستر من الحياء وتقى الله، وليس بينه وبين الخير حجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أنشد هذا البيت، قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنشد أبو علي في باب الوقف على الألف التي تكون في أواخر الأسماء: (97) على ما قام يشتمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري، ويروى تمرغ في دمال، و"دمان"، والصحيح فيه "رماد". الشاهد فيه إثبات "الألف" في "ما" الاستفهامية في الدرج، وجه الكلام حذفها، لأن حرف الجر قد صار معها كالشيء الواحد، فحذفوا الألف تخفيفاً، وجاء في الكتاب العزيز: (عمَّ يتسآءلونَ) و (فيمَ أنتَ منْ ذكرها) و (لمَ تحرمَ ما أحلَّ الله لك) و (لم أذنتَ لهم) و (ممَّ خلقَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولم يقرأ بالألف وصلا وقفا، ولا رسم بالألف، ويحتمل أن يكون حذفها صنعة ثم أشبع الفتحة، لصحة الوزن كقول عنترة: ينباع منْ ذفرى غضوبٍ جسرةٍ وقول أوسٍ: ولنعمَ مأوى المستضيف إذا دعا ... والخيلُ خارجةٌ منَ القسطالِ أراد: القسطل، فأشبع الحركة التي هي الفتحة، وقول الآخر: ومنْ ذمَّ الرَّجالِ بمنتزاحِ وقول الآخر: وإنَّني حيثما يثني الهوى بصري ... منْ حيثما سلكوا أدنو فأنظورُ وقال آخر: عيطاء جمَّاء العظامِ عطبولْ كأنَّ في أنيابها القرنفولْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 يريد: فأنظر، والقرنفل، فإذا كان كذلك، وجب أن تكتب "على ما" بالألف، لأنه أراد: "علام" فأشبع الفتحة، على ما تقدم. معنى البيت جعل شاتمه كالخنزير، تأكيداً للؤمه، إذ الخنزير سيء المنظر، والمخبر، لأكله العذرات، والأقذار، وغيرها، وكثيراً ما يتلطخ بالطين والحمأ. وقوله: "على ما قام"، القيام: هنا النهوض بالسب والشتم، وإدامته، ومنه قوله تعالى: (ما دُمْتَ عليهِ قائماً) وأراد: علام يشتمني، وزاد "قام" توكيداً، كما قال الآخر: فإنْ كنتَ سيدنا سدتنا ... وإنْ كنتَ للخالِ فاذهبْ فخلْ أراد: إن كنت للخال فخل، فزاد "فاذهب" توكيداً، كما تقول: أخذ يتحدث وجعل يقول: وكذلك قام يشتمني، وقعد يتهكم، وعليه بيت الكتاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فاليوم قرَّبتَ تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بكَ والأيامِ من عجبِ والمعنى وما بك والأيام، وزاد "فاذهب" توكيداً للكلام، وتمكيناً له. وقبل البيت: فإنْ تصلحْ فإنَّكَ عابديٌّ ... وصلحُ العابديَّ إلى فسادِ وإنْ تفسدْ، فإنْ ألفيتَ إلاَّ ... بعيدا ما علمتُ من السَّدادِ وتلقاهُ على ما كانَ فيهِ ... من الهفواتِ أو نوكِ الفؤادِ مبينَ الغيَّ لا يعيى عليهِ ... ويعيى بعدُ عن سبلِ الرَّشادِ ويروى: ففيمَ تقول يشتمني لئيمٌ وأنشد أبو علي في باب الوقف على أسماء المتمكنة. (98) فكيفَ أنا وانتحالي القوا ... فيَ بعدَ المشيبِ كفى ذاكَ عاراَ هذا البيت، للأعشى، ميمون بن قيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الشاهد فيه إثبات الألف في قوله: "أنا" في حال الوصل ضرورة، تشبيها بالوقف، لأن الاسم منه "الهمزة والنون"، وجيء بالألف، لبيان الحركة في الوقف، فإذا وصلت حذفت، ومثله قول الآخر: أنا سيفُ العشيرةِ فاعرفوني ... حميداً قد تذرَّيتُ السَّناما ويروى: فما أنا أم ما انتحال القوافي وروي: فكيف يكونُ انتحالي القوافي ولا شاهد في البيت على هذا. اللغة الانتحال، هو الادعاء، ويقال: نحلتك الشيء إذا نسبته إليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 واختلف الناس في القافية. فقال بعضهم: القافية آخر كلمة في البيت، وهذا مذهب الأخفش، قال: وإنما سميت قافية، لأنها تقفو الكلام. وبعضهم جعل القافية، في كلمتين، قال الأخفش: سألت أعرابياً.. وقد أنشد: بناتُ وطاءٍ على خدَّ اللَّيلْ أين القافية؟ فقال: "خذ الليل". وقال قومٌ: إن القافية هي النصف الأخير من البيت. وقال آخرون: القافية، البيت بكماله. وقوم من العرب يجعلون القوافي، القصائد، ويحتجون بقول الشاعر: نبَّئتُ قافيةً قيلتْ تناشدها ... قومٌ سأتركُ في أعراضهم ندبا فهذا يعني القصيدة، وبيت الأعشى هذا: فكيف أنا وانتحالي القوافيَ أراد: القصائد، لأنه لا يصف نفسه بانتحالي الروي. وأما الخليل فإنه كان يرى أن القافية هي ما بين آخر حرف [من] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 البيت إلى أول ساكن يليه، من قلبه، مع المتحرك الذي قبل الساكن، وهو في مثل قوله: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ فالحرف الأخير الذي هو حرف الروي، وهو "اللام"، و"النون" هو الحرف الساكن، فالحرف الذي قبله، هو "الميم" فكان القافية على مذهب الخليل، هي "من الميم إلى اللام". وقوله: عفتِ الدَّيارُ محلُّها فمقامها فالقافية عنده من "القاف" لأن حرف الروي "الميم". المعنى يقول: كيف أنتحل الشعر وأدعيه، مع شيبي، وكبر سني. وكان سبب قول الأعشى هذه القصيدة أن النعمان بن المنذر اتهمه بانتحال الشعر، فحسبه في بيت يمتحنه، فقال هذه القصيدة: وأولها: أأزمعت من (آل) ليلى ابتكارا ... وشطَّتْ على ذي الهوى أن تزارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وبعد البيت: وقيَّدني الشَّعرُ في بيتهِ ... كما قيَّدَ الآسراتُ الحمارا إذا الأرضُ وارتكَ أعلامها ... فكفَّ الرَّواعدُ عنها القطارا وأنشد أبو علي في الباب. (99) ببازلِ وجناءَ أو عيهلَّ لمنظور بن مرثد الأسدي. الشاهد فيه تشديد "اللام" وقد وصل القافية "بالياء"، فصار تشديداً في الوصل، تشبيها بالوقف، وقد تقدم القول عليه. وأنشد أبو علي في الباب. (100) ومن شانئٍ كاسفٍ وجههُ ... إذا ما انتسبتُ له أنكرنْ هذا البيت، للأعشى، ميمون بن قيس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الشاهد فيه حذف "الياء" في الوقف، من قوله: "أنكرن"، لما أسكن "النون"، ولم يطلق القافية. وإثبات "الياء"أقيس وأكثر، لنه "فعل" لا يدخله التنوين، فيعاقب ياءه في الوصل، فيحذف ذلك في الوقف، كقاض، وداع، وغاز، وما أشبه ذلك، ومثله في القصيدة بعينها: وهلْ يمنعنَّي ارتيادي البلاَ ... دَ منْ حذرِ الموتِ أنْ يأتينْ ومثله قراءة من قرأ، (ومن اتبعن) (أكرمن) و (أهانن) . اللغة الشانئ: المبغض والكاسف الوجه: المتغير اللون. قال عدي بن الرعلاء: إنَّما الميتُ منْ يعيشُ كئيبا ... كاسفا وجههُ قليلَ الرَّجاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 المعنى كم من مبغض لي، متغير وجهه من أجلي، إذا حللت به وتضيقته، عبس في وجهي وأنكرني وهو عارف بي. وقبل البيت وهو يذكر ناقته: تيمم قيساً وكمْ دونه ... منَ الأرضِ من مهمهٍ ذي شزنْ ومن شانئٍ كاسفٍ وجههُ ... إذا ما انتسبتُ له انكرنْ من آجنٍ أولجتهُ الجنو ... بُ دمنةَ أعطافيهِ فاندفنْ وجارٍ أجاورهُ إذ شتو ... تُ غيرَ أمينٍ ولا مؤتمنْ ولكنَّ ربَّي كفى غربتي ... بحمدِ الإله فقدْ بلغَّنْ يريد: بلغني، فحذف "الياء". مدح بهذه القصيدة، قيس بن معد يكرب، أبا الأشعث، وهي أول كلمة مدحه بها، وألها: لعمركَ ما طولُ هذا الزَّمنْ ... على المرءِ إلاَّ عناءٌ معنْ وهي تسعون بيتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وأنشد أبو علي في الباب. (101) فقدتهُ فأتتْ تطلبه ... فإذا هيْ بعظامٍ ودما الشاهد فيه إسكان "الياء" من "هي" ضرورة، لأن هذه "الياء" يلزمها الحركة، وليست كياء "عليه" وإليه، لأن هذه لا يلزمها الحركة، فيجوز حذفها، للاستغناء بالكسرة عنها. الإعراب "إذا" هذه للمفاجأة، و"هي" مرفوعة بالابتداء و"بعظام" خبرها، والتقدير: إذا هي مارة بعظام ودما. وفي "هي" أربع لغات، هِيَ، هِيْ، هِ، هِيَّ. ودماً في موضع جر، عطفاً على قوله: "بعظام"، وهو اسم مقصور، قال الحصين بن الحمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فلسنا على الأعقابِ تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطرُ الدَّما على معنى يسيل الدم. ويحتمل أن يكون "الدمى" هنا مصدراً، على قولهم: دمي يدمى دمي، كما تقول: ردي يردي ردى، فيكون قد أوقع الحدث موقع الذات. وتأويله على حذف المضاف، كأنه قال فإذا هي بعظام، وذي دم. وهذه "الألف لامه"، كقولك: يقوم الفتى، وهي منقلبة عن "ياء" قال الشاعر: فلو أنَّا على حجرٍ ذبحنا ... جرى الدَّميانِ بالخبرِ اليقينِ وعن "واو" في قول من قال: "دموان" في التثنية. ووزنه عند سيبويه "فعل"، وعند غيره "فعل" بفتح العين. وليس في قوله: "جرى الدميان"، دلالة عند سيبويه، على أنه "فعل" محرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 العين، وذلك أن الحركة عنده، إذا حدثت لحذف حرف، ثم رد المحذوف، لم تفارق الساكن الذي جرت عليه، قبل دخولها عليه، ويشهد لذلك قول الآخر: يديانِ بيضاوانِ عندَ محلَّمٍ ... قدْ يمنعانكَ أن تضامَ وتضهدا هذا مع إجمالهم أن يدا "فعل"، من غير خلاف بين الفريقين. وأنشد أبو علي في الباب. (102) دار لسعدي إذ من هواكا الشاهد فيه قوله: "إذ هـ" أراد: "إذ هي"، فسكن "الياء" ضرورة، تشبيهاً "بعليهي" و"لديهي" ثم حذفها بعد السكون ضرورة أخرى، تشبيها بعليه ولديه. وقال أبو العباس: محمد بن يزيد: في إنشاد سيبويه، هذا الشطر: إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة لن الحرف الواحد لا يكون ساكناً متحركاً في حال. وقال أبو الفتح: قول المبرد عندنا خطأ، وذلك أن الذي قال: "إذ هـ? من هواكا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 هو الذي يقول: "هي قامت" في الوصل، فيسكن "الياء" وهي لغة معروفة. فإذا حذفها في الوصل اضطراراً، واحتاج إلى الوقف، ردها حينئذ فقال: "هي" فصار الحرف المبدوء به غير الحرف الموقوف عليه. فلم يجب منم هذا أن يكون ساكناً متحركاً في حال، وإنما كان قوله: "إذ هـ"، على لغة من أسكن "الياء" لا لغة من حركها، من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال، والإعلال أسبق إلى السواكن، لضعفها منه إلى المتحركات لقوتها، وعلى هذا قبح قول الآخر: لمْ يكُ الحقُّ سوى أنْ هاجه ... رسمُ دارٍ قدْ تعفَّتْ بالسَّررْ غيَّرَ الجدَّةَ منْ عرفانهِ ... خرقُ الريحِ وطوفانُ المطرْ فعلى قول أبي الفتح: ليس في "إذ هـ من هواك" سوى ضرورة واحدة وهي حذف "الياء" على لغة من قال: "هي" في سعة الكلام. المعنى وصف داراً، خلت من "سعدي"، هذه المرأة، وبعد عهده بها، وذكر أنها كانت لها داراً ومستقراً، إذ كانت مقيمة فيها. وأنشد أبو علي في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 (103) فبيناه يشري رحلهُ قال قائل ... لمنْ جعلٌ رخوُ الملاطِ نجيبُ هذا البيت، للعجز بن عبد الله بن كعب السلولي، ويكني أبا الفرزدق، وأب الفيل، وهو شاعر من شعراء الدولة الأموية. الشاهد فيه قوله: "فبيناه"، أراد: "هو" فسكن ضرورة، ثم حذف "الواو" للضرورة، والتشبيه للضمير المنفصل بالضمير المتصل في "عصاه" و"فتاه" فأدخل ضرورة على ضرورة. وهذا إنما هو اللغة الفاشية، التي هي "هو". وأما على لغة من قال: "هو"، فيسكن الواو وصلا ووقفاً، فضرورة واحدة. اللغة الملاط: ما ولي العضد من الجنب، ويقال للعضدين: ابنا ملاط، وإذا كان البعير رخو الملاط، كان أشد لتجافي عضديه عن كركرته وأبعد له من أن يصيبه ناكت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أو ماسح أو حاز أو ضب، وهذه كلها أعراض وآفات تلحقه، إذ حك بعضديه كركرته. ومعنى يشري: يبيح، وهو من الأضداد. المعنى يصف بعيراً ضل عن صاحبه، فيئس منه، وجعل يبيع رحله، فبيناه كذلك، غذ سمع منادياً، يبشر به، وغنما وصف ما ورد عليه من السرور بعد الحزن والأسف. الإعراب في "هو" أربع لغات، هُوَ، هُوْ، هُ، هُوَّ، قال أبو خراش: تخطَّاهُ الحتوفُ فهوَّ جونٌ ... كنازُ اللَّحمِ فائلهُ رديدُ وقال آخر: وإنَّ لسياني شهدهٌ يشتفى بها ... وهوَّ على منْ صبَّهُ الله علقمُ وقال آخر: ولكَّنما هوْ لامرئٍ ذي حفيظةٍ ... إذا صال لم ترعدْ إليهٍِ خصائلهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وقال آخر: وألحقه بالقولِ حتَّاهُ لاحقهْ ومثله بيت الكتاب: بيناهُ في دارِ صدقٍ قد أقامَ بها ... حيناً يعلَّلنا وما نعلَّلهُ و"بينا"من حروف الابتداء، وأراد "بين هو يشري"، فوزاد الألف إشباعاً إلا أنه أمر خص به المصدر غالباً، فلا يضاف إلا إليه ويقال: المال بينازيد وعمرو، قال الهذلي: بينا تعانقه الكماةَ وروغهِ ... يوما أتيحَ له جريءٌ سلفعُ فإن قلت: قد قال: "بيناه بشري رحله"، وقال آخر: فبينا نحنُ نرقبهُ أتانا ... معلّقَ وفضةٍ وزنادَ راع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وقال آخر: بيننا نسوسُ النَّاسَ والأمرُ أمرنا ... إذا نحنُ فيهم سوقةٌ نتنصَّفُ فالجواب: أن تقدير ما أنشدت: بينا أوقات نحن نرقيه، وبينا أوقات نحن نسوس الناس. وجاز أن يضاف إلى الظرف من الزمان، لمشابهته المصدر. ولا يجوز على هذا: ست بينا أمامك، ووراءك، لأن ظرف المكان جثة، فلا يشبه المصدر، ولا نسبة بينه وبينه. ومن زعم أن "بينا" محذوفة من "بينما"، احتاج إلى رمحي يصدقه والعامل في الظرف الذي هو "بينا": قال قائل. وأنشد أبو علي في باب الزيادة التي تلحق من، إذا كنت مستفهماً عن نكرة. (104) عجبتُ والدهرُ كثيرٌ عجبهْ من عنزيَّ سبَّني لمْ أضربهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الشاهد فيه نقل حركة "الهاء" إلى "الباء" من قوله: "أضربه"، ليكون أبين في الوقف، لأن مجيئها ساكنة بعد ساكنة أخفى لها. اللغة العجب: إنكار ما يرد عليك، لقلة اعتياده، ويقال فيه: العجب، وجمعه إعجاب، قال: يا عجباً للدهر ذي الأعجاب. ويقال: عجب، وتعجب، واستعجب، والاسم: العجيبة، والأعجوبة، والتعاجيب: العجائب لا واحد لها. [وأعجبه الأمر] حمله على العجب منه، وأمر عجيب، وعجب وعجاب. وعجبٌ عاجبٌ وعجيبٌ عجابٌ، على المبالغة، وأمر عجيب معجب. وعنزي منسوب إلى عنزة، وهي قبيلة من ربيعة بن نزار، وهمم عنزة بن أسد بن ربيعة. وأنشد أبو علي في باب تخفيف الهمزة. (105) أبلغْ أبا دختنوسَ مألكةً ... غيرَ الّذي قدْ يقالُ ملكذبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 هذا البيت، خوطب به لقيط بن زرارة، ودختنوس بنت لقيط، ولها يقول أبوها عند موته: يا ليتَ شعري عنكِ دختنوسُ إذا أتاها الخبرُ المرموسُ أتحلقُ القرونَ أم تميسُ لا بلْ تميسُ إنَّها عروسُ وفي "دختنوس" أربع لغات: بالشين، وبالسين، ويختنوس، وتختنوس بالسين. الشاهد فيه قوله "ملكذب"، وهو يريد: من الكذب، فحذف النون من "من"، لسكون لام المعرفة وسكونها، ولم يحركها لالتقاء الساكنين، ومثله، قول أبي صخر الهذلي: كأنَّهما ملآن لمْ يتغيَّرا ... وقدْ مرَّ للَّدارين منْ بعدنا عصرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الإعراب "مألكة" مفعلة، وأصلها ملئكة، فقلب، يدل على ذلك قوله: ألكني إليها عمركَ الله يا فتى ... بأيةِ ما جاءتْ إلينا تهاديا وقال آخر ألكني إلى قومي السَّلامَ رسالةً ... بآيةِ ما كانوا ضعافا ولا عزلا وقال النابغة ألكني إلى النَّعمان حيثُ لقيتهُ ... فأهدى لهُ الله الغيوثَ البواكرا وأصل "ألكني" الئكني، وتقديره: "أفعلني" ثم ألزمت الهمزة التخفيف، كما ألزمته في "ملك" إلا في الشاذ كقوله: فلستُ فنسيَّ ولكنْ لملاكٍ ... تنزَّلَ منْ جوَّ السَّماءِ يصوبُ وعلى هذا ينبغي أن ينساق تصريف هذه المكلمة، فيحكم بأن فاءها لام، وعينها همزة، وأن لامها "كاف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ألا ترى أن الفعل، وهو "ألكني" على هذا الترتيب تصرف. فإذا كان كذلك وجب أن تكون "مألكة" مقلوباً، وأن الألوك، من قول لبيد: وغلامٍ أرسلتهُ أمُّهُ ... بألوكٍ فبذلنا ما سألْ وزنها "عفول" وأصلها لو جاءت عليه "لؤوك" كعلوك" وقد قالوا "ملئكة" فعلى هذا الأصل "مفعلة". وقال بعضهم: هو مشتق من "ألك" الفرس لجامه، إذا أداره في فيه، سميت بذلك، لأن المرسل يرددها في فيه، ويناجي بها نفسه، لئلا ينساها. وقال بعضهم: إن "ملكاً" وزنه "فعل" وهو من الملك، والهمزة زائدة. ومن قال: "ملاك"، فوزنه على هذا "فعال"، كما قالوا: شاملٌ، وشمالٌ. فيكون وزن "مالكةٍ" "فاعلة"، وهذا لا يعرج عليه، لضعفه. وأنشد أبو علي في باب تثنية ما كان آخره همزة من الأسماء. (106) كلا يومي أمامةَ يومُ صدَّ ... وإن لم تأتنا إلاّ لملاما هذا البيت لجرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الشاهد فيه كون "كلا" اسماً مفرداً، دالاً على التثنية، بدليل قوله: "يوم صد"، ولم يقل يوماً صد، والخلاف فيه بين الفريقين. فأما ما يشهد للبصريين، فالسماع والقياس. أما السماع: فقول الله تعالى: (كلتا الجنتين آتتْ أكّلَها) ، ولم يقل: آتتا أكلهما. وبيت جرير هذا، وبيت الشماخ: "كلا يومي طوالة" ومثله كثير. وأما القياس: فطريقان. أحدهما: إضافتهما إلى ضمير الاثنين، لن الشيء لا يضاف إلى مثله، لا يقال: قام الرجلان أثناهما، ولا مررت بهما اثنيهما، ولا مررت بزيد واحدة. فأما مررت بهم ثلاثتهم، فليس هم من "ثلاثتهم" مختص بالثلاثة، كما أن "هما" مختص باثنين، فلم يكن في قولهم: مررت بهم ثلاثتهم إضافة الشيء إلى مثله كما كان في اثنيهما كذلك. ولمّا كان ذلك كذلك، أتوا بلفظة مفردة، دالة على التثنية كدلالة "كل" على الجمع، وأضافوا المفرد إلى التثنية، كما تقول: جاءني أحدهما، ورأيت أفضلهما، وتقول: أيهما زيد، ولذلك قالوا: مررت به وحده، فأضافوا المصدر إلى الضمير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 لأنه غيره، لما استحال عندهم مررت به واحده، من إضافة الشيء إلى مثله. الطريق الثاني: من القياس، هو أن الحرف المنقلب منه قد أبذل منه "التاء" في قولهم: "كلتا" وهذا دليل على أن المبدل لام الكلمة لا حرف التثنية، لنن حرف التثنية لم يبدل منه "تاء"، في شيء من كلامهم. وقد جاءت "اللام" مبدلة في "أخت وبنت وهنت" أصلها "أخوة"، وبنوة وهنوة"، ووزنها "فعلة"، فنقلوها إلى "فعل" و"فعلٍ"، وألحقوها "التاء" المبدلة من لامها، فصارت بوزن "قفل، وحلس"، وليست هذه "التاء" في هذه الأسماء بعلامة تأنيث والدليل على ذلك أنك لو سميت بها رجلا، لصرفت، ولو كانت للتأنيث لم تصرف. وهو قول سيبويه في "باب ما لا يتصرف"، ومثلها سيبويه، بما اعتل لامه، فقال: هي بمنزلة "شروى" وذهب إلى إنها "فعلى" بمنزلة "الذكرى". وأما الجرمي: فذهب إلى أنها "فعتل"، وان "التاء" فيها زائدة علم تأنيثها، ويشهد بفساد هذا القول أشياء: أحدها: أن "التاء" لا تكون علامة لتأنيث الواحد، إلا وما قبلها مفتوح، نحو: طلحة، وقائمة، وذاهبة، أو يكون قبلها "ألف" نحو: ألف سعلاة وعزهاة. الثاني: أنن علامة التأنيث لا تكون وسطاً أبداً، إنما تكون آخراً لا محالة. الثالث: أن "فعتلا" لا يوجد في الكلام أصلاً، فيحمل هذا عليه. واحتج الكوفيون أيضاً، على أن "كلا" اسم مثنى بالسماع والقياس. أما السماع فقول أبي ذؤيب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 أقبَّا الكشوحِ أبيضانِ كلاهما ... كعاليةِ الخطَّيَّ واري الأزاندِ على تقدير: كلهما أبيضان. وهذا البيت لا دليل فيه لهم، لأن "كلا" تحتمل أوجها. أحدها: أن تكون تأكيداً لما في "أبيضان" من الضمير، وتكون "كعالية الخطي" وصفا "لأبيضين"، أو لأقبا الكشوح. ويجوز أن يكون كلاهما "فاعلا بأبيضان"، كما قال الآخر: ولا يشعرُ الرمحُ الأصمُّ كعوبه ... بثروةِ رهطِ الأبلجِ المتظلَّمِ إلا أنه ثنى "أبيضان" فجاء به، على حد قولك: قاما أخواك، ومنه قول الفرزدق: كلاهما حينَ جدَّ الجريُ بينهما ... قدْ أقلعا وكلاَ أنفيهما رابي فقال: قد أقلعا، ولم يقل قد أقلع، وهذه ضرورة اضطرته إلى هذا، ألا ترى كيف أتى بخبر الثانية مفرداً، فقال: "كلا أنفيهما رابي". ومثله ما أنشده الشيباني في "نوادره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 كلا جانبيهِ يعسلان كلاهما ... كما اهتزَّ خوطُ السَّبسبِ المتتابعِ فيحتمل أن يكون "كلاهما" فاعلا "بيعسلان"، على حد، قاما أخواك، ويحتمل غير هذا، ومنه ما أنشده الأصمعي: أنعتُ عنزي صبيةٍ كلتاهما ... كأنَّ عرقَ سدرةٍ لوناهما فكلتاهما عنده مرفوع بابتداء، و"هما" من "لوناهما"، عائد عليه، ويحتمل أن يعود على "العنزين"، ومنه قول سيبويه "كلاهما وتمراً"، تقديره عندهم: كلاهما لك ثابتان، وأزيدك تمراً. ويحتمل أن يقدر الكلام، كلاهما لك ثابت، وأزيدك تمراً. وأما القياس: فهو انقلابها "ياء" مع الضمير في النصب والجر، إذا قلت: رأيت الرجلين كليهما، ومررت بهما كليهما، كما تقلب ألف التثنية "ياء"، إذا قلت: جاءني الرجلان ثم تقول: رأيت الرجلين، ومررت بالرجلين. وهذا دليل فيه على إنها تثنية، لأن ألف "على وإلى ولدي"، تنقلب "ياء" مع الضمير، وليس واحد منها مثنى. وإنما انقلبت "ياء" للزومها الإضافة، ومشابهتها" على وإلى، في أنها مفتقرة إلى ما بعدها. وأما لامها "فواوٌ" وهو مثل قولهم: حجبى، لقولهم في المؤنث: "كلتى" ووزنها "فعلى"، والتاء فيها مبدلة من "لام الفعل" لتأكيد التأنيث، وقد قدمت القول فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وقال قوم: لامها "ياء" واستدلوا بأنها سمعت ممالة. وهذا لا يعرج عليه، لشذوذه. و"كلا" من غير لفظ "كل"، لأن "كلا" من الثلاثي المعتل اللام، من باب، رضا، وعدى. و"كل" من الثنائي الصحيح الذي ضوعف لامه من عينه، من باب: حل، وقل. ولما كانت "كلا" لتوكيد الاثنين، و"كل" لتوكيد الجمع والتثنية ضرب من الجمع، ومقاربة له، تقارب لفظها، ولهذا ظن أنهما من أصل واحد،. وتكتب "كلا" و"كلتا" إذا وليا حرفاً رافعاً "بالألف"، فتكتب: أتاني كلا الرجلين، واتاني كلتا المرأتين. وإن وليا ناصباً أو جاراً، كتبا "بالياء" فتكتب: رأيت كلى الرجلين، ورأيت كلتى المرأتين، ومررت بكلى الرجلين، وبكلتى المرأتين، "بالياء" كما ترى. هذا هو المستحسن، فرق بينهما في الخط مع المكنى، فقالوا: رأيت الرجلين كليهما، ومررت بهما كليهما، ورأيت المرأتين كلتيهما، ومررت بهما كلتيهما. "فلفظوا بالياء" وقالوا: جاءني الرجلان كلاهما، والمرأتان كلتاهما، فلفظوا بهما في الرفع "بالألف". وهذا البيت في قصيدة هجا بها هريم بن أبي طحمة المجاشعي وهلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ابن المازني، أولها: ألا حيَّ المنازلَ والخياما ... وسكنا طالَ منها ما أقاما أحيَّيها وما بي غير أنَّي ... أريد لأحدثَ العهدَ القدامىَ منازلَ قد خلتَ منْ ساكنيها ... عفتْ إلاَّ الدَّعائمَ والثماما وبعد البيت: فأمَّا يومُ آتيها فأنَّي ... كأنَّ المزنَ يمطرني رهاما فإنَّك يا أمام وربَّ موسى ... أحبُّ إليّ من صلَّى وصاما متى ما تنجلِ الغمرات تعلمْ ... هريمٌ وابنَ أحوزَ ما ألاما وأنشد أبو علي في باب الجمع الذي على حد التثنية. (107) تهدَّدنا وتوعدنا رويدَّا ... متى كنَّا لأمَّكَ مقتوينا هذا البيت، لعمرو بن كلثوم التغلبي، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه قوله: "مقتوينا" صحح "الواو" فيه، وكان حقه أن يقول "مقتين" كالأعلين"، وهو من القتو، وهو الخدمة والمراعاة، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 تبدَّلْ خليلاً بي كشكلكَ شكلهُ ... فإني خليلٌ صالحٌ بكَ مقتوي وقال آخر: إنَّي أمرؤٌ من بني جذيمةَ لا ... أحسنُ قتوَ الملوكِ والحفدا وواحده في القياس: "مقتى"، وهو "مفعل" من القتو، وإنما صححت هذه الواو، لما بني على الجمع، إذا لا واحد له، كما صححت "واو" "مذراوان" لما بني على التثنية فجرى مجرى "عنفوان"، إذ لا واحد له. ولو انه بناه على الجمع، لوجب أن يقول: "مقتين"، كما يجمع "مغزى" اسم رجل "مغزين". قال سيبويه: إن شئت قلت: جاءوا به على الأصل، كما قالوا: "مقاتوة"، حدثنا بذلك أبو الخطاب. يريد: إن شئت، قلت: صحت "واوه" في جمع السلامة، كما صحت في التكسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقيل: إنما صحت "الواو" لتكون أمارة" لدلالة النسب، كما صحت "الواو" في عور، لتكون أمارة على اعور، لأن واحده "مقتوي"، منسوب إلى "مقتى" "مفعل" من القتو. وكان قياسه إذا جمع أن يقول: "مقتويون"، كما نقول: بصري، ويصريون، وكوفي وكوفيون، وشبهه. إلا أنه جعل علم الجمع، معاقباً لباءي النسب، فصحت "الياء" لبنية النسب، كما يصح مع النسب، ولولا ذلك لحذف "الواو" لالتقاء الساكنين، وأن يقولوا "مقتون"، كما قال تعالى: (وأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ) و (إِنَّهم عندنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ) . اللغة الإيعاد والوعيد: في الشر، وقال ابن الأعراب ي: أوعدته خيراً، وهو نادر، وانشد: يبسطني مرَّةً ويوعدني ... فضلاً طريفاً إلى أياديهِ وقال الفراء يقال: وعدته خيراً، ووعدته شراً، بإسقاط الألف، فإذا أسقطوا الخير والشر، قالوا في الخير: وعدته وعداً وعدة، وفي الشر أوعدته إيعاداً. المعنى إنه يهزأ به ويستخف، ويروى "تهددنا وأوعدنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الإعراب "رويدا" نصب على المصدر، أي: أرود إرواداً، غير انه حقره تحقير الترخيم، بحذف زيادتيه. وهذا يرد على الفراء في قوله: "إنه لا يحقر الاسم تحقير الترخيم، إلا في الأسماء الأعلام، نحو قولهم في أسود، سويد، وفي أزهر: زهيرٌ" ولا يدفع أن يكون ذلك في الأعلام أقيس منه في الأجناس، من حيث كانت العلمية فيه دلالة على المحذوف المراد منه. فأما ألا يجوز إلا في الأعلام فلا ألا ترى إلى قولهم في تحقير أكمت وكمتاء: كميت، ويقال في تحقير السُّكَّيْتُ سُكَيْتٌ، ويقال: "لقيته صكَّة عميٍّ" يجوز أن يكون "عميٌّ" هذا تصغير "أعمى" أي لقيته في صكة شديدة، يعني شدة الحر. فكأنهم إنما حقروا هذه، إرادة لما في نفوسهم من السكون والرفق فكان التحقير أليق بذلك، وأذهب به فيما اعتزموه وأوردوه. ورويد: تتصرف إلى أربعة اوجه: الوجه الأول: أن يكون اسماً للفعل، لأنه وقع موقع فعل الأمر، وهو مبني فوجب أن يبنى. الوجه الثاني: أن يكون صفة فيعرب، لأنه لم يقع موقع مبني، فيستحق البناء، كقولك: ساروا سيراً رويداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الوجه الثالث: أن يكون حالاً، وذلك إذا حذفت الموصوف، فتقول: ساروا رويداً، أي: مرودين، قال الله تعالى: (أمْهلْهُمْ رويدا) ، "فرويداً" منصوب على الحال، وهو الأليق والحسن. الوجه الرابع: أن يكون مصدراً، وهو على قسمين: القسم الأول: أن يكون مفرا، نحو قولك: رويدا يا زيد، ورويدا عمرا يا زيد، وشبهه. القسم الثاني: أن يكون مضافاً، نحو قولك، رويد زيد، بمنزلة قولك: ضرب زيد، قال تعالى: (فَضَرْبَ الرقابِ) . وبعد البيت فإنَّ قناتنا يا عمروُ أعيتْ ... على الأعداءِ قبلكَ أنْ تلينا إذا عضَّ الثَّقافُ بها اشمأوَّتْ ... وولَّتهمْ عشوزنةً زبونا فهلْ حدَّثتَ في جشم بنِ بكرٍ ... بنقصٍ في خطوبِ الأولينا والقصيدة مشهورة، ولها حكاية، والخبر في ذلك، أن عمرو بن هند قال لندمائه: هل تعرفون أحداُ تأنف أمه من خدمة [أمي] . فقالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم، لن أباها مهلهل، وعمها كليب، وبعلها كلثوم، أفرس العرب، وابنها عمرو، سيد قومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فأستزار عمرو بن هند عمرو بن كلثوم، وسأله أن يزير أمه. فأقبل عمرو من الجزيرة في جماعة من تغلب، وضرب عمرو بن هند رواقه بين الحيرة والفرات، واحضر وجوه أهل مملكته، ودخلت ليلى على هند وهي عمة أمرئ القيس. وكان عمرو بن هند، أمر أمه أن تنحي الخدم، وتستخدم ليلى. فقالت هند لليلي: ناوليني ذلك الطبق يا ليلى. فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فألحت عليها. فصاحت ليلى: واذلاه! يا لتغلب. فسمعها ولدها، فوثب إلى سيف لعمرو بن هند، معلق بالرواق وليس هناك غيره، فضرب به رأس ابن هند، فقتلوه واستلبوا ما في الرواق. وحكى أبو عبيدة، وغيره، قال: لما تزوج مهلهل هنداً، بنت نعج بن عتبة، ولدت له ليلى. فقال لهند: أقتليها، يعني الواد، فغيبتها عنه، فلما نام، هتف به هاتف يقول: كمْ منْ فتىً مؤمَّلِ ... في بطنِ بنتِ مهلهلِ فاستيقظ فبال: أين بنتي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 قالت: قتلتها. قال: كلا وإله ربيعة، وكان اول من حلف بها، ثم رباها فتزوجها كلثوم، فلما حملت بعمرو، آتاه آتٍ في المنام فقال: يا لكِ ليلى من ولدْ يقدمُ إقدامَ الأسدْ أقولُ قولاً لا فند فولدت عمراً، وأتاها ذلك الآتي فقال: إنَّي زعيمٌ لكِ أمَّ عمرو بماجدِ الجدَّ كريمِ النَّجرِ يسودهم في خمسةٍ وعشرِ فساد ابن خمس عشرة سنة، ومات وله مئة وخمسون سنة. وأنشد أبو علي في الباب. (108) أخالدَ قدْ علقتكِ بعدَ هندٍ ... فشَّيبني الخوالدُ والهنودُ هذا البيت لجرير. الشاهد فيه تكسير خالدة وهند، وهما من الأسماء العلام والأكثر في كلام العرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 تسليم الأعلام من المذكر والمؤنث، كما أنشد رؤبة بن العجاج: أنا ابنُ سعدٍ أكرمُ السَّعدينا ومثل بيت جرير هذا، بيت طرفة بن العبد: رأيتُ سعودا منْ شعوبٍ كثيرةٍ ... فلمْ أر سعدا مثلَ سعدِ بن مالكِ ومثله قول الفرزدق: وشيَّدَ لي زرارةُ باذخاتٍ ... وعمرو الخير إنْ ذكرَ العمورُ ومثله قول الآخر: ألا أبلغِ الأقياسَ، قيسَ بن نوفلٍ ... وقيسَ بن أهبانٍ، وقيس بن خالدِ ومثله أيضاً قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 رأيتُ الصَّدع منْ كعبٍ وكانوا ... من الشَّنانِ قدْ صاروا كعابا اللغة علقتك: أحببتمك، ويقال: علق المرأة علقا، وعلقها علاقة وعلقا، وتعقها، وتعلق بها، وعلقها، وعلق بها، وهو الحب اللازم للقلب. وقال اللحياني: العلق: الهوى يكون للرجل في المرأة، وإنه لذو علق في فلانة، كذا عداه بفي، وقالوا في المثل: "نظرة من ذي علق" أي: من ذي حب قد علق بمن يهواه قلبه، قال كثير: ولقدْ أردتُّ الصَّبرَ عنك فعاقني ... علقٌ بقلبي من هواكِ قديمُ وقال اللحياني عن الكسائي، لها في قلبي علق حب، وعلاقة حب، وعلاقة حب. قال: ولم يعرف الأصمعي علق حب، ولا علاقة حب، إنما عرف علاقة حب بالفتح. وبعد البيت: فلاَ بخلٌ فيوئسَ منكِ بخلٌ ... ولا جودٌ فينعَ منكِ جودُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 شكونا ما علمتِ فما أويتم ... وباعدنا فما نفعَ الصُّدودُ هجا بهذه القصيدة عمرو بن لجأ التيمي، وهي مشهورة. وأنشد أبو علي في الباب. (109) نضَّرَ الله أعظمَّا دفنوها ... بسجستانَ طلحةَ الطَّلحاتِ هذا البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. الشاهد فيه قوله: "طلحة الطلحات" جمع "طلحة" بالألف والتاء، جمعا مسلما، لأن كل اسم في آخره "هاء" التأنيث، لا يجمع بالواو والنون لئلا يجمع في اسم واحد، علامتان متضادتان، علامة التأنيث وهي "الهاء" وعلامة التذكير، وهي "الواو" وإنما تدخل "تاء" التأنيث على اسم فيه ألف، نحو: حبليات وخنفساوات، ولا تدخل هذه التاء على "الهاء" إلا أن تحذف "الهاء". ولما كانت "تاء" الجمع تدخل على "الألف" ولا تحذف، أشبهت ما ليس للتأنيث ولم تصر بمنزلة "الهاء" ولم تدخل الواو والنون فيما فيه "الهاء" إلا فيما تكلموا به، تقول في "سنة" إذا سميت به رحلاً: سنون، وسنوات. وأجازه أبو الحسن في: ثبة، و: قلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وتأول بعض من قرأ: "كتاب الإيضاح"، أن أبا علي، لا يجيز في طلحة إلا "طلحات" مسلماً، ولا يجيزه مكسراً. وهذا تأول فاسد، ولا خلاف في تكسيره على "طلاح" كما تكسر أسماء الأجناس. والذي ذهب إليه أبو علي، غنما عنى به الرد على الفراء، لأنه أجاز في "طلحة" "طلحون" اسم رجل، كما تقول في جمع ما فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة: قالوا في جمع "زكريا" ممدوداً، زكرياؤن، وفي "زكريا" مقصوراً، زكريون، وحبلى، حلبون. وقال أبو علي: إن سميت رجلاً بشاة، لم يجز جمعه "بالواو والنون" من حيث لم يجز "الطلحون" ولم يجز جمعه "بالتاء" لأن هذا الاسم قبل النقل لم يجمع بها، فكذلك بعد النقل، من حيث كان فيها جميعاً اسما واحداً، ومن حيث أيضاً لم تجز الإضافة إليه، لبقائه على حرفين، أحدهما حرف مد ولين. فأما "شية" فجمعه "بالتاء"، لأن "شية" لما ألقى عليها حركة المحذوف، كان المحذوف في تقدير الثبات، كما كان "ضو" كذلك، و"شية" أجدر من "ضو" لأن الفاء أحق من اللام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 مسألة: لم يجمع بين تأنيثين في "مسلمة" وشبهه، لا يجوز أن تقول: مسلمتات". ويجوز أن يجمع بين تأنيثين في "حبلى" فتقول: "حبليات" والفرق بينهما، أن "التاء" في مسلمة، للفرق بين المذكر والمؤنث، فإذا جمع، لم تجعل بينهما فرقين، والثاني يغني عن الأول. وحبلى، التأنيث لا يفارق الكلمة، إذ ليس له مذكر، فإذا جمعت انقلبت ألف التأنيث ياء، وبقيت دالة على التأنيث، وأدخلت علامة أخرى للجمع. اللغة يقال: نضر الله وجهه مخففاً، ومثقلاً علىىالتكثير، وفي الحديث: "نضر الله امرأً، سمع مقالتي" رويناه مخففاً، ومثقلاً. ويقال: نضر وجهه نضرة، ونضارة، وأنضره الله: نعمه. والأعظم والعظام: ما عليه اللحم من قضب الحيوان، ويجمع أيضاً عظامه، "الهاء" للتأنيث، كفحالة، قال الراجز: ثمَّ أكلتُ اللَّحمَ والعظامهْ وقيل: العظامة: واحد العظام، والعظم أيضاً: مصدر عظمه، إذا ضرب عظامه، والعظم أيضاً: مصدر عظمت الكلب، إذا أطعمته عظماً، ويقال: أعظمته أيضاً. وعظم وضاحٍ: لعبة، يطرحون بالليل قطعة عظم، فمن أصابه فقد غلب أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فيقولون: عظيمَ وضَّاحٍ ضحنَّ اللَّيلةْ لا تضحنَّ بعدها من ليله والعظم والعظم: معظم الشيء، وعظمه اللسشان، ما عظم منه وغلظ وعظمه الذراع كذلك. وقال اللحياني: العظمة من الذراع، ما يلي المرفق الذي فيه العضلة، قال: والساعدان نصفان، فنصف عظمة، ونصف أسلة، والعظمة: ما يلي المرفق وفيه العضلة، والأسلة: ما يلي الكف. والطلح: شجر أم غيلان، وهو في العرق الموز. وجمع طلحة: طلحات، بفتح اللام، لأن "فعلة" تجمع جمع السلامة، بفتح الثاني، نحو: جفنة وجفنات، قال حسان: لنا الجفناتُ الغرَّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ دما فإن كانت صفة: سكنت الثاني، نحو عبلة وخدلة، والعلبة: الضخمة والخدلة: الممتلئة الساق المستديرته، وجمعه: عبلات، وخدلات، وإنما فتح الاسم، وأسكنت الصفة، للفرق بينهما، وكانت الصفة أولى بالإسكان، لثقلها. الإعراب يروى: "طلحة الطلحات" بالرفع والنصب والجر، فمن رفع، فإنه قطع مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 قبله، فكأنه قال: هي أعظم طلحة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ومن نصب، فعلى البدل من قوله: "أعظماً"، كأنه قال: نضر الله أعظم طلحة فحذف المضاف أيضاً، وأقام المضاف إليه مقامه. ومن جر حذف المضاف، ولم يقم المضاف إليه مقامه، وجعل "أعظماً" وإن كانت محذوفة في اللفظ، بمنزلتها مثبتة فيه، مثل قولهم "رأيت التيمي تيم عدي" لما ذكره، دل ذكره إياه، على "صاحب" فأضمره للدلالة عليه، فكأنه قال رأيت صاحب تيم عدي، وقد قرئ (تريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة) بجر "التاء" من الآخرة، على تقدير والله يريد عمل الآخرة، فحذف المضاف، ولم يقم المضاف إليه مقامه. وهذا ذكره ابن جني، في كتابه "المحتسب" ومثل ذلك قول أبي داود: أكلَّ امرئٍ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقَّدُ باللَّيلِ ناراَ فكأنه قال: وكل نار، فحذف "كلا" وجعلها كأنها مثبتة لفظاً، ومثله قول الراعي: يا نعمها ليلةً حتَّى تخوَّنها ... داعٍ دعافي فروعِ الصُّبحِ شحَّاجِ أراد: دعاء شحاج، فحذف لفظاً، وهو يريده معنى. وبعد البيت: كان لا يحجبُ الصّديقَ ولا يع ... تلُّ بالبخلِ طيَّبَ العذراتِ جمع عذرة، وهي أفنية الدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وطلحة الطلحات هذا، هو طلحة بن عبيد اله، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من العشرة رضى الله عنهم، وكان يدعى طلحة الطلحات، وطلحة الخير، وطلحة الجود. قال حسان بن ثابت: يهجو مسافع بن فياض بن عياض التيمي، من تيم مرة بن كعب بن لؤي، رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه: لولاَ الرَّسولُ فإنَّي لستُ عاصيهُ ... حتَّى يغييني في الرَّمسِ ملحودي وصاحبُ الغارِ إنّي سوف أحفظهُ ... وطلحةُ بن عبيد الله ذو الجودِ لقد رميتُ بها شنعاء واضحةً ... يظلُّ منها صحيحُ القومِ كالمودي وإنما نسبة إلى الجود، لأنه أجود قريش، وذكر عنه أنه باع ضيعة بخمسة عشر ألف درهم، فقسمها في الأطباق، وفي بعض الأحاديث أنه منعه الخروج إلى المسجد، أن لفق له بين ثوبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وأنشد أبو علي في باب النسب. (110) أكلَّ أمرئٍ تحسبينَ امرأً ... ونارٍ توقَّدُ باللَّيلِ نارا هذا البيت لعدي بن زيد، ويقال: لأبي دؤاد واسمه حارثة بن الحجاج الإيادي. الشاهد فيه قوله: "ونار" أراد، "وكل نار" فحذف، لما جرى ذكر "كل"، مع تقديم المجرور وحصول الرتبة قي آخر الكلام، واتصال المجرور بحرف العطف لفظاً ومعنى. ولو كان التركيب: أتحسبين امرأً كل امرئٍ، ونار توقد بالليل ناراً، لم يجز حتى تظهر كلا، لأنك إن أعطيت الكلام حقه من الاستواء، لزمك تأخير "النار" المجرورة بكل المقدرة، كما أخرت "كلا" الأولى، قال الأعلم: العرب تجيز، في الدار زيد والحجرة عمرو، وإن في الدار زيداً والحجرة عمراً، وليس بقائم زيد، ولا خارج عمرو. ولا تجيز، زيد في الدار والحجرة عمرو، ولا إن زيداً في الدار، والحجرة عمراً، وليس زيداً بقائمٍ ولا خارجٍ عمرو. والفرق بين الكلامين: انك إذا قلت: في الدار زيد والحجرة عمرو جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 آخر الكلام وأوله على الاستواء من تقديم الخبرين على المخبر عنهما، فاحتمل الكلام الحذف من الثاني، لدلالة الأول على المحذوف ولاتصال المحذوف بحرف العطف، القائم، مقامه في الاتصال بالمجرور، ولم يبق في الكلام إزالة شيء عن موضعه، لوقوع الرتبة فيه، وحصولها. فإذا قلت: زيد في الدار والحجرة عمرو، لم يجز: لأن خبر الأول وقع مؤخراً، فيجب في خبر الآخر أن يقع للاستواء، فإذا أخرته، فقلت: زيد في الدار وعمرو الحجرة، بطل الحذف مع التفريق بين المجرور وحرف العطف. فكما لم يجز حذفه في التأخير، لم يجز مع التقديم، وكذلك القول في: إن في الدار زيداً والحجرة عمراً، وليس بقائم زيدٌ ولا خارجٍ عمرو. لأن هذا كله جار على الرتبة، فجاز فيه الحذف على ما تقدم. فإن أخرت الخبرين، في المسألتين، بطل فيهما ما بطل في الأول قال الأعور الشني: هوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بكفَّ الإلهِ مقاديرها فليسَ بآتيكَ منهيُّها ... ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها وقال النابغة الجعدي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وننكر يومَ الرَّوعِ ألونَ خيلنا ... منَ الطَّعنِ حتَّى نحسبَ الجونَ أشقرا فليسَ بمعروفٍ لنا أنْ نردَّها ... صحاحاً ولا مستنكر أنْ تعقَّرا وفي الكتاب العزيز: (إنَّ في السَّمواتِ والأرْضِ لآياتٍ للمؤمنين) ، وبعده (واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ وما أنْزلَ الله منَ السَّماءِ منْ رِزْقٍ فأحْيا بهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وتَصْرِيفِ الرَّياحِ، آياتٌ) ، بالرفع على موضع "إن"، والنصب على المنصوب بها، وقد حذف الجار من الخبر. فهذا كله بمنزلة قولك: ليس بقائم زيد، ولا خارج عمرو، قال الله تعالى: (للذينَ أَحْسَنُوا الحُسْنى وزيادةٌ) وبعده (والَّذينَ كَسَبُوا السَّيَّئاتِ جَزَاءُ سيئةٍ بِمِثْلها) ، والتقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فحذف من الآخر حرف الجر، لذكره في الأول، كما تقدم. فهذا نظير قولك: لزيد عقل، وعمرو أدب، تريد: ولعمرو أدب وكذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب: "ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أراد: "ولا كل بيضاء" فحذف "كل" من الآخر، كما حذف حرف الجر مما تقدم. ولا يلتفت إلى تأويل النحويين، فيما ذكرنا من العطف على عاملين، ولا غيره. اللغة امرؤٌ: فيه لغات، فاللغة المشهورة، إذا لم يكن فيه الألف ولا لام، أن يقال: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، ومررت بامرئ، فتتبع حركة الراء، حركة الإعراب، فإذا كانت فيه الألف واللام قلت: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء. لغة ثانية: أن تقول: هذا مرءٌ، ورأيت امرأً، ومررت بمرءٍ. لغة ثانية: أن تقول: هذا امرأٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرإٍ، فتكون الراء مفتوحة على كل حال، وتجري الإعراب على الهمزة. وحكى الفراء: هذا المرء، ورأيت المرأَ، ومررت بالمرءِ، فيتبع حركة الميم، حركة الهمزة، وتكون الراء ساكنة. وقوله: "توقد" أراد: تتوقد، فحذف إحدى التاءين استثقالاً. ذهب سيبويه إلى أنها الأول، وذهب الكوفيون إلى أنها الثانية ومعنى البيت ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وأول الشعراء: ودارٍ يقولُ لها الرائدُو ... نَ ويلمّ دارِ الحذاقيَّ دارا وأنشد أبو علي في باب النسب إلى الجمع. (111) ونابغةُ الجعديُّ بالرَّملِ بيتهُ ... عليهِ ترابٌ منْ صفيح موضَّعِ الشاهد فيه وضع "نابغة"، وهو اسم علم، يقصد به الصفة فتلزمه الألف واللام، نحو الحارث والعباس، والضحاك، وإنما قصد به قصد، العلامة المختصة، نحو: زيد وعمرو، ونحوهما من الأعلام. والفرق بين الأسماء المنقولة عن الصفات، كالحارث والعباس ونحوهما وبين الأسماء الموضوعة للاختصاص، أن هذا النوع من الأعلام، أشد اختصاصاً بمسماه، من العباس ونحوه، لأن هذه الأسماء إنما وضعت في أصل وضعها على الاشتراك، لتكون لكل من عبس وضحك وحرث، ثم نقلت عن موضوعها، واختص بها قوم بأعيانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأما زيد وعمرو ونحوهما، فغنما وضعت في أصل وضعها، على ان تكون خاصة بمسمياتها، ولم توضع لتكون مشتركة لهم ولغيرهم. فما وضع للاختصاص، في أصل وضعه، أعرف مما وضع على العموم ثم عرض له الخصوص، فإن قال قائل: كيف زعمتم أن الأسماء الأعلام وضعت للخصوص، ونحن نجد من الاشتراك فيها، مثل ما نجد في النكرات؟! ألا ترى أنا نجد مئة رجل كلهم يسمى بزيد أو عمرو أو بخالد أو بغيرها من الأسماء العلام. فالجواب: عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الأعلام وضعت في أصل وضعها على الخصوص ثم يعرض لها العموم، والنكرة وضعت في أصل وضعها، على العموم ثم عرض لها الخصوص. ألا ترى أن قولنا: رجل، إنما وضع عاماً لهذا النوع، ثم يعرض فيه عهد، فيتعرف به عند بعض السامعين، فيقول له: جاءني الرجل، فلا يذهب وهمك إلا إلى واحد بعينه، كما أن الخصوص العارض للاسم العلم، في بعض أحواله، لا يخرجه عن أن يكون خاصاً في أصل وضعه. والجواب الثاني: أن العلم، إن أشكل على بعض السامعين، فلم يعرفه، حتى يوصف له، فليس ذلك بموجب، أن يشكل على غيره، ممن قد عرفه. وليس كذلك النكرة، لأنها مجهولة عند كل من يسمعها، ما لم يكن فيها عهد، أو إضافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ونابغة هذا، هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة، يكنى أبا ليلى، صاحب رسول اله صلى اله عليه وسلم، وروى عنه، ومدحه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض ما استحسنه من شعره، وهو قوله: ولا خيرَ في حلمٍ إذا لمْ تكنْ لهُ ... بوادرُ تحمي صفوهُ أنْ يكدَّرا فقال له: "لا يفضضِ الله فاك"، فعاش مائتي سنة، وعشرين سنة، لم تنفض له ثنية، عاش ثلاثة قرون، والقرن ثمانون سنة وقال في ذلك: صحبتُ أناساً فأفنيتهم ... وأفنيت بعدَ أناسٍ أناسا وتحنف في الجاهلية، وهجر اللأوثان والأزلام، وكان يصوم ويستغفر وهو القائل: الحمدُ لله لا شريكَ لهُ ... منْ لمْ يقلها فنفسه ظلما وكان يهاجي ليلى الأخيلية، وكان سبب تهاجيهما، أن الجعدي قال يذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 يومي رحرحان: وهو يهاجي سوار بن أوفى بن سبرة، ويفخر عليه بأيام بني جعدة: هلاَّ سألتَ بيوميْ رحرحانَ وقدْ ... ظنَّنْ هوزانُ أنَّ العزَّ قدْ حالا تلكَ المكارمُ لا قعبانِ منْ لبنٍ ... شيئاً بماءٍ، فعادا بعد أبوالاَ في أبيات، فقالت ليلى: ما كنتُ لو قاذفتَ جلَّ عشيرتي ... لأذكرَ وطبيْ حازرٍ قدْ تمثَّلا تريد: قد تجببا في أبيات، فلما أتى النابغة أبيات ليلى قال: ألا حيَّيا ليلى وقولا لها: هلا ... فقدْ ركبتْ امرأً أغرَّ محجَّلاَ بريذينةٌ بلَّ البرذينُ ثفرها ... وقدْ شربتْ منْ آخر اللَّيلِ إيَّلا فأجابته ليلى فقالت: أنابغَ لم تنبغْ ولمْ تكُ أوَّلا ... وكنتَ صنَّيا بينَ صدَّينِ مجهلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 أعيرتني داءً بأمَّكَ مثلهُ ... وأيُّ جوادٍ لا يقالُ لهُ: هلاَ قوله: "هلا" زجر للخيل، وإنما أراد به النابغة: زخر الحجر إذا لم تقر للفحل. قوله: "وقد شربت" يعني البراذين في آخر الصيف. "إيلا"، يعني لبن الإيل، ويقال، من شرب ألبانها أغتلم. معنى البيت وصف هذا الشاعر موت النابغة الجعدي، ودفنه في الرمل، والبيت هنا، كناية عن الرمل، والصفيح: الحجارة العريضة، والموضع: المنضد بعضه على بعض، يقال: وضع الباني الحجر، والخابط القطن: جعله كذلك، ويروى: عليه ترابٌ منْ صفيحٍ وجندلِ وأنشد أبو علي في باب العدد. (112) فضمَّ قواصيَ الأعداءِ منهمْ ... فقدْ رجعوا كحيًّ واحدينا هذا البيت للكميت بن زيد بن الأخنس الأسدي، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه أنَّه جمع "واحداً" الصفة على "واحدين"، لأنه بمعنى منفردين، فيجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 مذكره، بالواو والنون في ارفع، والياء والنون في النصب، وبالألف والتاء في المؤنث. ولو أراد به، "واحداً" الموضوع للعدد، لم تجز تثنيته ولا جمعه، وستراه في البيت الذي بعده. وهذا يدل على أن "وحده" مصدر، لنه يقال: للواحد والاثنين والجميع، على هذا اللفظ، ويجيء منه اسم الفاعل، وذلك واحد للمذكر، وواحدة للمؤنث. اللغة قوله "رجعوا": انصرفوا، يقال رجع يرجع رجعاً ورجوعاً ورجعاناً ورجعى، ومرجعاً، ومرجعة، وفي التنزيل (إلى رّبَّكِ الرُّجْعَى) ، وفيه (إلّى الله مّرْجِعُكُمْ جَميعاً) ، أي رجوعكم، حكاه سيبويه، فيما جاء من المصادر التي من "فعل يفعل" بالكسر، ولا يجوز أن يكون اسم المكان، لنه قد تعدى بإلى، وانتصب عنه الحال، واسم المكان لا يتعدى، ولا ينصب حالاً، ويتعدى رجع، يقال: رجعته أرجعه رجعاً، ويقال: أرجعته. وحكى أبو زيد، عن الضبيين، أنهم قرؤا (إلاَّ يرجعُ إليهم قولاً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الإعراب الكاف في قوله: "كحي" في موضع الحال، وواحدينا، صفة له، وهو القبيلة من العرب وجمعه أحياء. وأول الشعر: ألا حيَّيتِ عنَّا يا مدينا ... وهلْ بأسٌ بقولِ مسلَّمينا وأنشد أبو علي في الباب: (113) أمَّا النَّهارُ فأحدانُ الرَّجالِ لهُ ... صيدٌ ومجترئٌ بالليلِ همَّاسُ هذا البيت، لمالك بن خويلد الخناعي، وقيل: لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه استعمال "أحد"، استعمال الأسماء، فكسره على "فعلان" كحاجز، وحجزان، وصاحب وصحبان. وأصله: "وحدان"، فقلبت واوه، لضمتها، همزة، على "أجوه" و"أقتت". فإن قيل: فلعل الهمزة في "أحدان" هي همزة أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 قيل لا: بل همزة حدثت في الجمع، يدل على ذلك من روي بيت العنبري: قومٌ إذا الشَّرُّ أبدي ناجذيه لهمْ ... طاروا إليهِ زرافاتٍ ووحدانا بالواو. "إلا أن سر هذا الموضع، أن تعلم أن الهمزة في "أحد" من قول الله تعالى: (قل هو الله أحد) ، وقوله: أحد وعشرون، واحد عشر، ونحوه. أبدلت من واو "وحد"، ونظيره "أناة"، هو من الونى، وهو الإعياء، قال أبو حية. رمتهُ أناةٌ منْ ربيعةِ عامرٍ ... نؤومَ الضُّحى في مأتمٍ أيَّ مأتمٍ ومنه أبلت الطعام وهو من الشيء الوبيل الوخيم. وليست كذلك الهمزة من "أحد"، في قولنا: ما جاءني من أحد، هذه الهمزة اصل غير بدل من واو، ولا غيرها، وينبغي أن يكون "حدانا" في البيت، جمع واحد، مكسر، كما جمع مسلما، في قوله: "رجعوا كحي واحدينا" أي منفردين. فأما "واحد" إذا أردت به العدد، فإنه لا يثنى ولا يجمع، وذلك قد استغنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 عن تثنيته من لفظه، بقولهم: اثنان، وعن جمعه بقولهم، ثلاثة وأربعة، ونحو ذلك. كما استغنوا بستة عن ثلاثتين، وبعشرة عن خمستين ونحو ذلك. وأما قولهم: "آحاد" فجار جمعه، لأنه "كأحدان" ألا ترى أنه لا يراد به تكسير العدد، وإنما معناه، منفردين، وفي قولهم: آحاد، دون أوحاد، دلالة على انه جمع "أحد" المهموز، لا جمع "وحد" لأنه لو كان تكسيره قبل البدل لوجب فيه أن يكون "أحاداً" كورل وأورال، ووشل وأوشال، لكنه لما قلب في الواحد، فقالوا: أحداً، أقروا القلب بحاله في التكسير. فأما "أحد" الذي معناه كمعنى، كتيع وأرم وعريب، فإنه لا يكسر، لفساد معنى التكسير عليه. ألا ترى أنه لا يكون الشيء جنساً لنوع من الأنواع، حتى يكون مستغرباً لجميع آحاده، فإذا لم يقبل الجنس زيادة أقل نوع من أنواعه عليه، لاستغنائه عن جمعها، حتى لا يمكن الوهم لتصور شيء منها خارجاً عنه، أو ممتازاً إلى جهة من الجهات دونه، كانت تثنيته التي هي أقل من جمعه، ممتنعة من الجواز عليه، فكيف جمعته أياً كان من جموعه. فاعرف ذلك من حال الجنس، فإنه يسرو عنك ثوب الحيرة وينصفك بإذن الله منه. ولا يجوز في "آحاده" أن يكون تكسير "واحدٍ" كصاحب وأصحاب وشاهد وأشهاد، لنه كان قياسه على هذا، "أوحاداً"، كما قالوا: "وادٍ وأوداءٍ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 اللغة الصريمة: بيت الأسد، والهجاس: المفكر في نفسه، ويروى "هماس" من الهمس، وهو الصوت الخفي، ومجترئ: جريء شجاع. المعنى وصف أسداً، ويروى "ومستمع بالليل" ويروى: "يحمي الصريمة أحدان الرجال" الإعراب نصب "أحدان بيحمي"، والصريمة بإسقاط حرف الجر، وقوله: 4له صيد"، ابتداء وخبر، في موضع الصفة للأسد، و"مجترئ" مقوع مما قبله، وتقديره: هو مجترئ بالليل، ويروى "أحدان الرجال له" بالرفع، وارتفاعه بالابتداء، "وله صيد" جلة في موضع الخبر، ويحتمل أن يرتفع "صيد"، على خبر المبتدأ و"له" تبين، ويحتمل أن يرتفع "صيد" بأنه فاعل بالظرف، وهو الأوجه. ومن روى "النهار" فنصبه على الظرف، وقد تقدم ما قبل البيت وبعده في أول الأبيات. وأنشد أبو علي في الباب. (114) تفقَّأُ فوقهُ القلعُ السَّواري ... وجنَّ الخازِ بازِ بهِ حنونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 هذا البيت لعمرو بن أحمر بن العمرد الباهلي. الشاهد فيه "الخاز باز" وهو مركب من اسمين، مضاف ومضاف إليه فأشبه في اللفظ "باب دارٍ" فعرف الأول منهما، لما جعلهما لمسمى واحد، كثلاثة عشر ونحوه. وفيه لغة ثانية، وهي الخرناز، ويقال أيضاً: الخرباز على مثال كرياس، عن سيبويه، قال الشاعر: ورمتْ لهازمها منَ الخزبازِ ويقال: خازباز: بفتح الزاءين، كخمسة عشر، وخاز باز، بكسرهما. قال سيبويه: كجير وغاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قال أبو سعيد: كسر كل واحد منهما، لالتقاء الساكنين. وخازباز: بفتح الزاي الألى، وضم الثانية، وهو معرب الآخر أيضاً. وخازباز، بضم الأول، والإضافة إلى الثاني، كما يقال: حضرموت، وهما معربان وخاز باء: مثل قاصعاء. اللغة تفقأ: تشقق فوقه القلع، وهو السحاب كالجبال واحدتها قلعة. وقيل: القلعة من السحاب التي تأخ جنب السماء، وقيل: هي سحابة ضخمة، والجمع من ذلك: قلع. والسواري: جمع سارية، وهي التي تمطر ليلاً. والخازباز: قال السيرافي في "شرح أبيات الإصلاح": هو النبات. وقال غيره: الخازباز: الذباب. المعنى وصف موضعا كثير النبات وألاه الغيث، وقوله: وجنَّ الخازبازِ بهِ جنونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وغناؤه، وترجيع صوته، كما قال عنترة: فترى الذُّبابَ بها يغنَّي وحده ... هزجا كفعلِ الشَّارب المترنَّمِ غردا يحكُّ ذراعهُ بذراعهِ ... فعلَ المكبذَ على الزنادِ الأجذمِ وإن كان أراد النبات، فجنونه: طوله، وسرعة نباته، كما يقال: نخلة مجنونة، إذا فاتت اليد، وروضة مجنونة لم ترع. وقبل البيت: يظلُّ يحفُّهنَّ بقفقفيهِ ... ويلحفهنّ هفَّافا ثخينا بهجل من قسا ذفر الخزامى ... تهادى الجربياءُ بهِ الحنينا تفقَّأ فوقهُ القلعُ السَّواري ... وجنَّ الخازبازِ به جنونا وصف ظليما يرقد على بيضه، والهاء في قوله: "فوقه" تعود على المحل، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 المطئن من الأرض والروض، في المواضع المطئنات، لنن الماء يجتمع فيه. وأنشد أبو علي في الباب. (115) وهل يرجعُ التَّسليمَ أو يكشفُ العمى ... ثلاثُ الأثافي والرُّسومُ البلاقعُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه إضافة "ثلاث" إلى "الأثافي" والأول نكرة، والثاني معرفة، بالألف واللام، على حد الإضافة في العربية، وهذا وجه لا خلاف في جوازه. والكوفيون: يجيزون: "الثلاث الأثافي" و"الثلاثة الأثواب" فيدخلون الألف واللام، على المضاف والمضاف إليه ويشبهونه بالحسن الوجه، لأن الوجه وإن كان مجروراً في اللفظ، فهو في التقدير مرفوع، لأنه هو الذي حسن. وليس المعدود مع العدد كذلك، والدليل على فساده، أنهم لا يجيزون ذلك في أجزاء الدرهم، لا يجيزون: الربع الدرهم، على الإضافة، والثلث الدرهم: وأما الثلاثة أثواب، والخمسة دراهم، فلا تجوز عند الفريقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 اللغة التسليم: مصدر سلم تسليماً، والعمى: ذهاب نظر القلب، وهو محمول على ذهاب نظر العين، والفعل كالفعل، والصفة كالصفة، يقال: عمي عمى، وتعمى في معنى عمي، قال: صرفتَ ولمْ تصرفْ إواناً وبادرتْ ... نهاكَ دموع العينِ حتَّى تعمَّتِ وهو أعمى وعم، والأثنى عمياء وعمية، وقيل أيضاً: عمية، وهو على حد فخذ، في فخذ، خففوا ميم عمية، حكاه سيبويه، وأعماه وعماه، صيره أعمى، قال ساعدة بن جؤية: وعمَّى عليهِ الموتُ يأتي طريقه ... سنانٌ كعسراءِ العقابِ ومنهبُ يعني بالسينان "الموت" فهو إذن بدل منه، ويروى. وعمَّى عليهِ الموتث بابيْ طريقه إلا أنه لا يبنى معه، "ما أفعله"، وهو افعل من كذا، لما كان عاهة والأثافي: جمع أثفية، وتقديرها: "أفعولة" و"أفاعل"، فهمزتها زائدة، ويقال على هذا: أثفيت القدر، أفعلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وقيل: إن همزة "أثية" أصلية، وتقديرها: "فعلية" وفعالى، وتقول على هذا: ثفيت القدر، "فعلت، وسمع منهم: جاء يثفه، فعلى هذا فاؤها "واو"، لنه يوثقه في التقدير، "فأثفية" وثفية، ثم أدبلت الواو همزة، على حد أققت، وأوجه، وشبهه. والأثافي: حجران يوضعان إلى أصل الجبلا، ثم توضع عليها القدر فالجبل ثالثة الأثافي، ولذلك يقولون: "رماه الله بثالثة الأثافي". والبلاقع: القفار، واحدها بلقع، وفي الحديث: "اليمين الكاذبة تذر الديار بلاقع" أي: قفراً خاليةً، لا شيء فيها. والرسوم: الآثار واحدها رسم. معنى البيت يصف أنه مر على منزل محبوبته، وقد أقوى من أهله، فسلم عليه، فلم يرجع إليه سلاماً، فسأل سؤال متجاهل متوجع، ولم يجهل أن رد السلام محال من القفر البلقع، وأنه لا يكشف عمى، ولا يؤنس من حيرة، وقبله: أمنزلتيْ ميَّ سلامٌ عليكما ... هل الأزمنُ الَّلائي مضين رواجعُ وهل يرجع التسليم ....... البيت توهَّمتها يوما فقلتُ لصاحبي ... وليسَ بها إلاَّ الظَّباءُ الخواضعُ قف العيسَ ننظرْ نظرةً في ديارها ... وهل ذاكَ منْ داءِ الصَّبابةِ نافعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الإعراب التسليم: مفعول ليرجع، "والعمى" مفعول ليكشف و"الأثافي" والمعطوف عليها فاعلة "بيكشف" على إعمال الثاني. وأنشد أبو علي في الباب. (116) ما زالَ مذْ عقدتْ يداهُ إزاراهُ ... فسما فأدركَ خمسةَ الأشبارِ هذا البيت لفرزدق: الشاهد فيه "خمسة الأشبار" إضافة "الخمسة" وهي نكرة، إلى "الأشبار" وهي معرفة "بالألف واللام، فاكتسبت منها التعريف. معنى البيت مدح بهذا البيت، يزيد، بن المهلب بن أبي صفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 يقول: ما زال مذ قدر على عقد إزاره، فعلا حتى أدرك خمسة الأشبار يقتحم الحروب، ويلج المضايق لشجاعته ونجدته. ويحتمل الإزار هنا مغيين. أحدهما: أن يريد الإزار نفسه، يدل عليه رزاية من روى هذا البيت: ما زالَ مذْ شدَّ الإزارَ بكفَّهِ ... فدنا فقاربَ خمسةَ الأشبارِ ويحتمل أنه يريد: ما زال من صغره، تعرف فيه النجابة، وتلوح عليه مخائل السيادة، حتى كمل وتم، ويقال للرجل الكامل الفضل، الذي بلغ الغاية في المجد، فلان أدرك خمسة الأشبار، فهو كلام جار على المثل. ويحتمل خمسة الأشبار، انه يريد بها، منتهى حد الصغر، يقال: غلام خماسي، وهو القدر الذي يقدر فيهعلى عقد إزاره. وقيل: إنها كناية عن السيف، فإن السيوف الموصوفة بالكمال، طولها خمسة أشبار. وقيل: هي كناية عن خلال المجد، وهي خمس: العفة والعقل، والشجاعة والكرم والوفاء، فهذه فضائل الأمجاد. يقول: لم يزل مذ شب، أميراً فاضلاً كاملاً، وكان الفرزدق هجا المهلب فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وكائن للمهلَّب منْ نسيب ... ترى بلبانه أثرَ الزّيارِ نجارك لمْ يقدْ فرسا ولكنْ ... يقودُ السَّاجَ بالمسدِ المغارِ عميَّ بالَّتنائفِ دونَ نضحي ... دليلُ اللَّيلِ في اللُّججِ الغمارِ وما لله تسجدُ أوْ تصلَّي ... ولكنْ تسجدونَ لكلَّ نارِ فلما ولي سليمان بن عبد الملك، يزيد بن المهلب على خراسان والعراق، خاف الفرزدق بني المهلب، فقال يمدحهم: فلأمدحنَّ بني المهلَّبِ مدحةً ... غرَّاءَ قاهرةً عن الأشعارِ مثلَ النُّجومِ أمامها ووراءها ... يجلو العمى ويضيءُ ليلَ السَّاري ورثوا الطَّعان عن المهلَّبِ والقرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهارِ كان المهلَّبُ للعراقِ وقايةً ... وجنى الرَّبيعِ ومعقلَ الفرَّارِ وإذا الرجال رأوا يزيدَ رأيتهم ... خضعَ الرَّقابِ نواكسَ الأبصارِ ما زالَ مذْ عقدتْ يداهُ إزارهُ ... فسما فأدركَ خمسة الأشبارِ يدني خوافق من خوافقَ تلتقي ... في ظلَّ معتركِ العجاجِ مثارِ وأنشد أبو علي في باب من العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 (117) فكانَ مجنَّي دونَ منْ كنتُ أتَّقى ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانِ ومعصرُ هذا البيت لعمر بن عبد الله بي أبي ربيعة المخزومي، يكنى أبا الخطاب. الشاهد فيه حذف تاء التأنيث، من قوله: "ثلاث شخوص"، والشخص مذكر يجب معه إثبات تاء التأنيث، لكنه لما عنى بالشخوص النساء، حمل على المعنى فحذف، كأنه قال: ثلاث نسوة، ومثله في الحمل على المعنى كثير. قال الشاعر وإنْ كلاباً هذه عشرُ أبطنٍ ... وأنتَ بريءٌ من قبائلها العشرِ وقال القتال الكلابي: قبائلنا سبعٌ وأنتم ثلاثةٌ ... وللسَّبعُ خيرٌ منْ ثلاثٍ وأكثرُ وقال الحطيئة: ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذودٍ ... لقدْ جارَ الزَّمانُ على عيالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقال آخر: تبرَّأ من دمَّ القتيلِ وثوبهِ ... وقد علقتْ دمَّ القتيلِ إزارها أنث الإزار، على معنى الملاءة، وقال رويشد بن كثير الطائي: يا أيَّها الرَّاكب المزجي مطَّيتهُ ... سائلْ بني أسدٍ ما هذهِ الصَّوتُ وقال آخر: أتهجرُ بيتاً بالحجازِ تلفعتْ ... بهِ الخوفُ والعداءُ أمْ أنتَ زائرهْ وقال الهذلي: لو كانَ في قلبي كقدرِ قلامةٍ ... حبّاً لغيرك قدْ أتاها أرسلي كسر رسولاً على أرسل، وهو من تكسير المؤنث، كأتان واتن، وعناق وأعنق، وعقاب وأعقب، لما كان الرسول هنا يراد به المرأة، لأنها في غالب المر، ممن تستخدم في هذا الباب، وكذلك ما جاء عنهم من، جناح، واجنح، قالوا: ذهب به إلى التأنيث الريشة. وحكى عن أبي عمرو بن العلاء، أنه سمع رجلاً من أهل اليمن يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 "فلان لغوب، جاءته كتابي فأحتقرها". فقلت له: أتقول: جاءته كتابي!. قال: نعم، أليست صحيفة! قلت: فما اللغوب؟ قال: الأحمق. اللغة المجن: الترس، سمي بذلك، لنه يجن صاحبة أي: يستره، وأصل هذه اللفظة، حيث وجدت، السترة، كالجنين والجنة والجنن، والجان والجنان والجنة. وشبهه، ويروى "فكان بصيري" بالياء، وهو الدرع، ويقال البصيرة، ويروى: "نصيري" بالنون، يريد الكاعبين والمعصر، من النصرة. وزعم بعضهم أن رواية النون تصحيف، وذلك غفلة. والكاعب: التي كعب نهدها، وأول ذلك: التفليك، ثم النهود، ثم التكعيب، وجمع الكاعب، كواعب، وكعاب، ويقال: كعبت وكعبت تكعب، وتكعب وتكعب، الأخيرة عن ثعلب، كعوباً وكعابةً. وجارية كعاب، ومكعب، وكعب الثدي يكعب، وكعب: نهد، وثدي، مكعب ومكعب، الأخيرة نادرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 والمعصر: التي بلغت عصر شبابها، وأدركت، وقيل: هي التي راهقت العشرين، وقيل: حين تدخل في الحيض، وقيل: هي التي تحبس في البيت ساعة تطمث، وقيل: هي التي ولدت، الأخيرة أزدية، والجمع: معاصر ومعاصير، وقد عصرت واعتصرت. المعنى يقول: استترت بثلاث نسوة، عن أعين الرقباء، واستظهرت في التخلص بهن منهم. ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة، إلى المدينة، اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام، ومعه مجن قبيح، فقال له: يا أخل الشام، مجن عمر بن أبي ربيعة خير من مجنك، يريد قوله: فكان مجني ..... البيت. وقبله: فلمَّا تقضَّى اللَّيليُ إلاَّ أقلَّهُ ... وكادتْ توالي نجمعهِ تتغوَّرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أشارتْ بأنَّ الحيَّ قدْ حانَ منهمُ ... هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزورُ فما راعني إلاَّ منادٍ برحلةٍ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصَّبحِ أشقرُ فلما رأتْ منْ قدْ تنوَّرَ منهمُ ... وأيقاظهم قالتْ: أشرْ كيف تأمرُ فقلتُ: أباديهمْ فإمَّا أفوتهم ... وإمَّا ينالُ السَّيفَ ثأراً فيثارُ فقالت: أتحقيقاً لما قالَ كاشحٌ ... علينا وتصديقاً لما كانَ يؤثرُ فإنْ كان ما لابدَّ منهُ فغيرهُ ... منَ الأمر أدنى للخفاءِ وأسترُ أقصُّ على أختيَّ بدءَ حديثنا ... وما لي منْ أنْ تعلما متأخّرُ لعلَّهما أنْ تبغيا لكَ مخرجاً ... وأنْ ترحبا سرباً بما كنت أحصرُ فقامتْ كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... منَ الحزنِ تذري دمعةً تتحدَّرُ فقالت: لأختيها أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمرُ للأمرِ يقدرُ فأقبلتا فأرتاعتا ثمَّ قالتا ... أقلَّي عليكِ اللَّومَ فالخطبُ أيسرُ يقومُ فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرُّنا يفشو، ولا هوَ يبصرُ فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر فلما أجزنا ساحة الحيَّ قلنَ لي: ... ألمْ تتَّق الأعداءَ واللَّيل مقمرُ وقلنَ أهذا دأبكَ الدَّهرَ كلَّهُ ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكَّرُ ويروى أن ابن الأزرق، أتى ابن عباس يوماً، فجعل يسأله، حتى أمله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فجعل ابن عباس يظهر الضجر، فطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس. فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك؟ فأنشده القصيدة كلها. أمن آلِ نعمٍ غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فمهجَّرُ وهي ثمانون بيتاً، حتى أتمها. فقال له ابن الأزرق، لله أنت يا بن عباس! أتضرب إليك أكباد الإبل، نسألك عن الدين، فتعرض، ويأتيك غلام من قريش، فينشدك سفهاً، فتسمعه. فقال: تالله ما سمعت سفهاً. فقال ابن الأزرق: أما أنشدك: رأتْ رجلاً أما إذا الشَّمسُ عارضتْ ... فيجزي وأمَّا بالعشيَّ فيخسرُ فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: فيضحي وأمَّا بالعشيَّ فيحصرُ فقال له ابن الرزق: أو تحفظ هذا الذي قال؟! فقال له ابن عباس: والله ما سمعته إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال: فأرددها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فأنشده إياها كلها، وهي ثمانون بيتاً. وأنشد أبو علي في الباب. (118) ربَّاءُ شمَّاءَ لا يأوي لقلَّتها ... إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ هذا البيت، للمتنخل الهذلي، واسمه مالك بن عويمر، ويكنى أبا أثيلة. الشاهد فيه قوله: "رباء شماء" فذكر، ولو حمله على العين أو على الطلية لقال: رباءة كما قالوا: هو طلية أصحابه، "فرباء" على هذا "فعال"، وهو الرجل الحافظ لأصحابه على ربوة، يقال: ارتبأ وربأ، فرباء، كثير أرتباء، لنجدته وشجاعته، كما قال أبو المثلم: ربَّاءُ مرقبةٍ قوَّالُ مخطبةٍ ... دفَّاعُ معطبةٍ قطَّاعُ أقرانِ اللغة الربيئة: عين القوم، الذي هو يربأ لهم، والمربأ: مكان الربيئة، والشماء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الكدية المرتفعة، الطويلة، يقال: جبل أشم: أي طويل الرأس، وقلة كل شيء: أعلاه، والأوب: النحل، والسبل: المطر. الإعراب رباء: صفة لما قبله، وشماء: في موضع خفض، بإضافة رباء إليها وهي لا تنصرف، وقوله: "لا يأوي لقلتها" وما يتصل به، في موضع الصفة لشماء. وهذا الشاعر يرثي ابنه. وقبل البيت: أقولُ لمَّا أتاني النَّاعيانِ بهِ ... لا يبعدِ الرّمحُ ذو النَّصلينِ والرَّجلُ رمحٌ لنا كان لم يفللْ تنوءُ بهِ ... توقى به الحربُ والعزَّاء والجللُ وأنشد أبو علي في الباب. (119) قد صرَّح السَّيرُ عنْ كتمانَ وابتذلتْ ... وقعُ المحاجنِ بالمهريةِ الذُّقنِ هذا البيت لابن مقبل. الشاهد فيه قوله: "وابتذلت وقع المحاجن" أنث "الوقع"، وهو مصدر، لما إضافة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 "المحاجن"، وهي مؤنثة تأنيث الجماعة، ومثله قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أنث "المثل" لما إضافة إلى ضمير الحسنة. وقال أبو العباس المبرد: هو على حذف موصوف، ولإقامة الصفة مقامه، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، وقرئ (تلتقطه بعض السيارة) ، ومن ذلك قولهم: "ذهبت بعض أصابعه) ، ومن أبيات "الكتاب": إذا بعضُ السَّنينَ تعرَّقتنا ... كفى الأيتامَ فقدَ أبي اليتيمِ أنث البعض، لما إضافة إلى السنين، ومنها: طولُ اللَّيالي أسرعتْ في نقضي أخذنَ بعضي وتركنَ بعضي فأنث الطول، لما إضافة إلى الليالي، ومنها: مشينَ كما اهتزَّتْ رماحٌ تسفَّهتْ ... أعاليها مرُّ الرَّياحِ النواسمِ أنث "المر" وهو مصدر، لما إضافة إلى الرياح، ومنها: وتشرقُ بالقولِ الذي قد أذعتهُ ... كما شرقتْ صدرُ القناةِ منَ الدَّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فأنث الصدر لما إضافة إلى القناة، وقال لبيد: فمضى وقدَّمها وكانت عادةً ... منه إذا هي عرَّدتْ إقدامها أنث الإقدام لما إضافة إلى مؤنث، ومثله كثير. اللغة صرح: خلص وبدا، وكتمان: موضع بضم الكاف، أنشد اللحياني: ومنْ لذوي الأعيارِ والقهرِ كلَّهِ ... وكتمانَ أيها ما أشدَّ وأبعدا يقال: أيها، وأيهاتٍ، وأيهانِ، وهيهات: بمعنى واحد. وقيل: كتمان: وادٍ بنجران. والمحاجن: جمع مجن، وهو عصا فيها عقافة، يتناول بها الشجر. والمهرية: إبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان، حي من العرب، جيد الإبل. والذقن جمع ذقون، وهي الناقة التي تدني ذقنها من الأرض، تستعين بذلك في سيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقيل: إن هذا البيت من المقلوب، والتقدير: وابتذلت المهربة بوقع المحاجن، ومن المقلوب، قول كثير، يصف إبلا: وهنَّ مناخاتٍ يجلَّلنَ زينةً ... كما أقتانَ بالنَّبتِ العهادُ المجوَّدُ أقتان: أزدان بألوان الزهر، والمتقين: المتزين، والمجود: المروي. ومن المقلوب أيضاً قول الشماخ: منهُ نجلت ولمْ يوشبْ بهِ نسبي ... ليَّا كما عصبَ العلباءُ بالعودِ ومن المقلوب قول القطاعي: فلمَّا أنْ جرى سمنٌ عليها ... كما بطَّنتَ بالفدنِ السَّياعا يعني كما بطنت الفدن بالطين، ومنه في الكلام العزيز: (فاختلط به نبات الأرض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قال أبو علي الفارسي: (خلق الإنسان من عجل) ، (وقد بلغني الكبر) . وبعد البيت: واستقبلوا واديا ضمَّ الأراكُ به ... بيضَ الهداهدِ ضمَّ الميتِ في الجننِ ما زلت أرمقهم في الآلِ مرتفقا ... حتَّى تقطَّعَ منْ أقرانهم قرني وأنشد أبو علي في باب المقصور والمدود. (120) لعمرُ أبي عمرو لقدْ ساقهُ المنى ... إلى جدثٍ يوزي له بالأهاضبِ هذا البيت لصخر الغي بن عبد الله، أحد بني عمرو بن الحارث، يرثي أخاه، ومات من نهش حية، ويروى لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه قوله: "المنى" وهو مقصور سماعاً وقياساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 اللغة المنى: القدر، وهو من ذوات الياء، ويقال: مناك الله بما يسرك، أي: قدر الله لك ما يسرك، وقال الآخر: ولا تقولنْ لشيءٍ سوفَ أفعلهُ ... حتى تبَّينَ ما يمني لكَ الماني أراد: ما يقدر لك القادر، وقال آخر: منتْ لكَ ترقيني المنايا ... أحادَ أحادَ في الشَّهرِ الحلالِ ويقال: داري بمنى دارك، أي: بحذائها، ويكتب بالياء، ويقال أيضاً: هو مني بمنى ميل، أي: بقدر ميل، وأما الذي يوزن به، فهو من ذوات الواو، ويقال في تثنيته: منوان، قال: وقدْ أعددتُ للغرماءِ عندي ... عصاً في رأسها منوا حديدِ وبنو تميم يقولون: هذا "من" بتشديد النون، ومنان، وأمنانٌ كثيرة. والجدث: القبر وفيه لغتان، جدثٌ وجذفٌ. ومعنى: يوزى له: ينصب له، أي: ساقه القدر إلى القبر، ولام "يوزى" ياء، لأنه حكي أنهم يقولون: أوزى بظهره إلى الحائط، إذا أسنده إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 فإذا ثبت أن "الفاء" "واو" واللام حرف علة، فهي ياء لا محالة. وحكى الهجري: هو يستازي إلى كذا، وهذا يدل على الهمز، ولو كان غير مهموز، لقال: يستوزي، إلا على أن يتأول على لغة من قال: يلجل في يوجلُ. وقيل: معناه يحاذي له أي يجعل إزاءها، وهو مهموز على هذا وفي "العين" أزيت إلى الشيء، آزي أزياً: انضممت إليه، والأهاضب: جمع هضبة، وهي الجبل المفترش بالأرض، وليس بالطويل. والعمر والعمر والعمر: الحياة والبقاء، والعمر أيضاً: ما بين الأسنان من اللحم، وكل مستطيل بين سنين عمر، والعمر: البطء يقال: جاء فلان عمرا، أي: بطيئا، كذا ثبت في نسخ "الغريب المصنف". والعمر: الشنف، وقد جاء به العمري، قال: وعمرُ هندٍ كأنَّ الله صوَّرهُ ... عمرو بنُ هندِ يسومُ النَّاسَ تعنيتا والعمر والعمر: نخل السكر، عن أبي حنيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 والعمران: طرفا الكمين، وفي الحديث: "لا بأسَ أن يصلي الرجل على عمريه"، التفسير عن ابن عرفة، حكاه الهروي. والعمران: عمرو بن جابر، وبدر بن عمرو. وبعد البيت: بحيَّةِ قفرٍ في وجارٍ مقيمةٍ ... تنمَّى بها سوقُ المنى والجوالبِ لأخي لا أخا لي بعدهُ سبقتْ به ... منُّيتهُ جمعَ الرُّقى والطَّبائبِ وأنشد أبو علي في الباب: (121) ومحترشٍ ضبَّ العداوةِ منهمُ ... بحلوِ الخلا حرشَ الضَّبابِ الخوادعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 هذا البيت لكثير عزة. الشهد فيه قوله: "الخلا" وهو اسم مقصور، من ذوات الواو، يكتب بالألف، ومعناه: الكلام الحسن. اللغة المحترش: الذي يهيج الضب في جحره، فإذا خرج قريباً هدم عليه بقيته، هذا أصله، يقال: احترشت الضبب: صدته، واستعار للعداوة ضبا، وهي دويبة، تكنى أبا الحسل. والضب أيضاً: الغل والحقد، فيحتمل، أن يريد به ذلك. والضباب جمع ضب. والخوادع: المقيمات في جحرها، لئلا تحترش، يقال: خدع الضب، يخدع خدعاً، وانخدع، إذا استروح ريح الإنسان، فدخل في جحره، وكذلك الظبي في كناسه، والضبع في وجارها، وهو في الضب أكثر. وقال أبو علي، قال أبو زيد: وقالوا: "إنك أخدع من ضب حرشته" والمخدع: الخزانة. قال سيبويه: لم يأت "مفعلٌ" اسماً إلا للمخدع، وما سواه صفة، وحكي أن المخدع والمخدع: لغة في المخدع، حكى الفتح، أو سليمان الغنوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 واختلف في الفتح والكسر، أو شنبل والعتابي، ففتح أحدهما، وكسر الآخر. وبيت الأخطل: صبهاءُ قد كلفتْ منْ طولِ ما حبستْ ... في مخدعٍ بينَ جنَّاتِ وأنهارِ يروى بالوجوه الثلاثة: وحكى ابن قتيبة: مخدع، ومخدع، بالضم والكسر. وخدع الشيء خدعا: فسد: وخدع الريق خدعا: نقص، وإذا نقص خثر، وإذا خثر: أنتن، قال سويد: أبيضُ اللَّونِ لذيدٌ طعمهُ ... طّيبُ الرُّيقِ إذا الرَّيقُ خدع وخدع الرجلُ: أعطى ثم امسك، وخدع الزمان خدعا، قل مطره، وخدع الرجل: قل ماله، وخدع فلان، تخلق بغير خلقه، وخدعت العين: لم تنم، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 أرقتُ فلمْ تخدع بعينَّي نعسةٌ ... ومنْ يلق ما لأقيتُ لا بدَّ يأرقِ وخدعت عين الرجل: غارت، وخدعت السوق: كسدت، وكل كاسد: خادع. وفي الحديث: "إن قبل الدجال سنين خداعة" فيرون أن معناها ناقصة الزكاة. وقيل: قلية المطر، من قولهم: خدع الزمان: قل مطره، وانشد أبو علي: واصبحَ الدَّهرُ ذو العلاَّتِ قدْ خدعا وهذا التفسير أقرب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: "سنين خداعة"، يريد: التي يقل فيها الغيث، ويعم المحل، وقد مر أن الخلا هو الكلام الحسن، يقال منه خلوت الرجل خلواً: خدعته، والخلى الرطب من الكلا، وهو من ذوات الياء، قال الشاعر: وبعضُ بيوتِ الشَّعرِ حكمٌ وبعضه ... خلىً لفَّهُ في ظلمةِ اللَّيلِ حاطبهْ واحدته: خلاة، قال: إليكم لا تكونُ لكمْ خلاةٌ ... ولا نكعَ النُّقاوى إذْ احالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وقال الأعشى: وحوليَ بكرٌ وأشياعها ... ولستُ خلاةً لمنْ أوعدنْ وقال الأصمعي: الخلى مقصور: النبت الرقيق كله، ما دام رطباً، ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ذكر مكة "لا يختى خلاها"، أي: لا يقطع. وقال الأصمعي: الخلى: الرطب من النبات كله، وهو الأخضر. وقال يعقوب بن السكيت: الخلى: الرطب، وهو جمع خلاة، ويقال: خليت بعيري، أخليه، إذا أطعمته الخلى، وخليت الحشيش، وأختليته: قطعه. والمخلي: المنجل، لنه يخلى به الخلى، أي: يقطه به، ومنه سميت المخلاة، لأنه يجعل فيها الخلى. المعنى أنه يستل ضغائنهم، ويزيل حقائدهم، ولا يعجل عليهم، فيصطادهم بحسن كلامه، وعذوبة ألفاظه، كما تصطاد الضباب، ونصب "ضب العداوة" بمحترش، والمعنى: خفي العداوة، ولاصق العداوة، ويخرج من إضافة الشيء إلى نفسه. ونصب "حرش الضباب"، على المصدر المشبه به، على حذف الزيادة ولو قال: أحترش، لأتى على اللفظ. وقيل البيت ما يدل على معناه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وإنَّي لمستانٍ ومنتظرٌ بهم ... على هفواتٍ منهمُ وتتابعِ وبعضُ الموالي يتَّقى زيغُ رأيهِ ... كما يتَّقى رأسُ الأفاعي الطَّوالعِ وروى: روس الأفاعي، أبدل الهمزة واواً. وأنشد أبو علي في الباب. (122) يقولُ الَّذي أمسى إلى الحزنِ أهلهُ ... بأيَّ الحشا، صارَ الخليطُ المباينُ هذا البيت لمعطل الهذلي. الشاهد فيه قوله: "الحشا" هو اسم مقصور، ومعناه: طرف الأرض، أو الناحية، ويقال: هو في حشا قومه، أي في ناحيتهم، والحشا أيضاً: موضع بعينه، قال أبو جندب الهذلي: بغيتهمُ ما بينَ حدَّاءَ والحشا ... وأوردتهم ماءَ الأثيلِ فعاصما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وحشى البطن: مقصور، يكتب بالياء، وبالألف، لأنهم يقولون في تثنيته: حشوان وحشيان، انشد أبو العباس عن ابن الأعرابي: لها أسهمٌ لا قاصراتٌ عن الحشى ... ولا شاخصاتٌ عنْ فؤادي طوالعُ وقال الفراء: يكتب بالياء والألف، لنهم يقولون: حشيت الظبي السهم، وحشوته. وقال غيره: حشأته، بالهمز، بسهمٍ: رميته به، مكانه أصاب حشاه، فهمز، والأصل غير مهموز، قال الشاعر: ولقد حشأتكَ مشقصاً ... أوساً أويسُ من الهبالهْ وهذه الهمزة مبدلة، بمنزلة قولهم سبا، في قولهم: "تفرقوا أيادي سبا" قال: فيا لكِ منْ دارٍ تحمَّلَ أهلها ... أيادي سبا بعدي وطالَ احتمالها والحشى أيضاَ: الربو، يكتب بالياء، يقال: حشي الرجل "يحشى حشى، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 حشيان، وحش، وامرأة حشيانة، وحشية، قال الشاعر: فنهنهت أولى القوم عنَّي بضربةٍ ... تنفَّسَ منها كلُّ حشيانَ مجحرُ وحشى: لغة في حاشى، وأرض حشاة: قلية الخير. ويروى: أمسى إلى الحزن أهله، وهو موضع بعينه. والحرز أيضاً: المعقل، والمصاد والملجأ، والحزن: ما غلظ من الأرض. ويقال: الحزم بالميم، قال: سوالكَ نقباً بين حزميْ شعبعب والخليط: المخالط، يقاع للواحد وللجمع، والمباين: المفارق. وبعد البيت: سؤالُ الغنيَّ عنْ أخيه كأنَّهُ ... بذكرتهِ وسنانُ أوْ متواسنُ وأنشد أبو علي في الباب. (123) وقد أرسلوا فراطهمْ فتأثَّلوا ... قليباً سفاها كالإماءِ القواعدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه "سفاها"، وهو اسم مقصور من ذوات الياء، وهو تراب البئر والقبر، وقال آخر: وحال السَّفى بيني وبينكَ والعدى ... ورهنُ السَّفى غمرُ النقيبة ماجدُ والسفى أيضاً: ما سفت الريح مقصور، يقال: سفت الريح نسفي سفى، والسفى أيضاً: شوك البهمي، واحدتها: سفاة، قال أوس بن حجر يصف بري قوسٍ. على فخذيه منْ برايةِ عودها ... شبيهُ سفى البهمي إذا ما تفتلا المعنى يقول: كأني بقومي إذا أنا مت، أرسلوا فراطهم، وهم المتقدمون إلى الماء، ليصلحوا الدلاء والأرشية، وهم في هذا البيت الذين يحفرون قبره، ومعنى تأثلوا: أخذوا في حفر القليب، والمتأثل: الحافر للقليب، وأصله التعظيم، يقال: أثل الله ملكه: أي، عظمه. وتصريفه، اثل يأثل أثولاً، إذا تأثل. والقليب: البئر وسفاها: ترابها، وجعل تراب هذا القبر كالإماء القواعد وإنما شبه أكداس التراب، بالإماء، لأن الأمة تقعد مستوفزة للعمل، والحرة تقعد متربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والقواعد: جمع قاعدة، والقواعد من النساء اللائي قعدن عن المخيض والولد، واللاتي قعدن عنة الأزواج، والقواعد أيضاً: أساطين البناء. وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضة. وقبل البيت: أعاذلَ أبقى للملامةِ حظَّها ... إذا راحَ عنَّي بالجلَّةِ عائدي وقالوا تركناهُ تزلزلُ نفسهُ ... وقدْ أسندوني أوْ كذا غيرَ ساندي وقام بناتي بالنَّعالِ حوسراً ... فالصقنَ وقعَ السَّبتِ تحتَ القلائدِ يودُّونَ لوْ يفدونني بنفوسهم ... ومثلُ الأواقي، والقيانِ النَّواهدِ وقد أرسلوا فرَّاطهم ...... البيت قضوا ما قضوا منْ رمَّها ثمَّ أقبلوا ... إليَّ بطاءَ المشيِ غبرَ السَّواعدِ يقولون لمَّا حشَّتِ البئرُ أوردوا ... وليس بها أدنى وقافٍ لواردِ فكنتُ ذنوبَ البئرِ لمَّا تبسَّلتْ ... وسربلتُ أكفاني ووسَّدتُ ساعدي هنالكَ، لا إتلاف ماليَ ضرَّني ... ولا وارثي إنْ ثمَّرَ المالَ حامدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وأنشد أبو علي في الباب. (124) لا تحرزُ المرءَ أحجاءُ البلادِ ولاَ ... تبنى لهُ في السمواتِ السَّلاليمُ هذا البيت لابن مقبل. الشاهد فيه "أحجاء"، وهو جمع حجا، وهو الملجأ والمهرب، وقيل: هو الجانب، أنشد أحمد بن يحيى: كأيمِ الحجا إنْ تمكنِ الأيمَ شدَّةٌ ... على قرنهِ تفصلهُ فضلاً هو الفصلُ وهو اسم مقصور، ولامه واو، يكتب بالألف، وهو من قولهم: حجاه يحجون، إذا أخفاه. ويقولون: فلان لا يحجوا سراً: أي: لا يكتمه، والسقاء لا يحجو الماء، أي: لا يحسبه، والراعي لا يحجو ماشيته: أي لا يحبس ماشيته عن المرعى. وهكذا الملجأ، يحجو من فر إليه، وحجي في معنى: خليق، يقال: إنه لحجي أن يفعل ذلك، وحجٍ، وحجا. فمن قال: حجاً، لم يثن ولم يجمع، ولم يؤنث، لأنه مصدر، ومن قال: حجي، وحجٍ، ثنى وجمع وأنث، قال ذو الرمة: فو الله ما أدري أجولانُ عبرةٍ ... تجودُ بها العينانِ أحجى أمِ الصَّبرُ وبعضهم يهمز حجئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 والحجا: العقل، يكتب بالألف، قال: فإنْ لجَّ في هجري صفحتُ تكرُّماً ... لعلَّ الحجا بعدَ العزوبِ يثوبُ والحجا: الستر أيضاً، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من بات فوق بيت، ليس عليه حجا، فقد برئت منه الذمة"، وبه سمي العقل حجا، لنه: يحجو الإنسان عن الولوج فيما لا ينبغي. ويقال: حرز الشيء، وحررته أحرزته أحرزه، حرازة وحرزاً، فهو حريز، وأحرزته: حصنته، والحرز: الملجأ. والمعنى إن كثير التوقي وعظيم الحرز لا يدفع عن الإنسان ما كتب عليه، ولو اختار من الأرض أمنع معقل، أو صعد إلى السماء بسلم. وواحد السلاليم: سلم، وهو ما يرتقى به، يذكر ويؤنث. وزاد الياء ضرورة لما أشبع الكسرة. وقبل البيت: ما أطيبَ العيشَ لوْ أنَّ الفتى حجرٌ ... تنبو الحوادثُ عنهُ وهوَ ملمومُ وبعده: لا يفعُ المرءَ أنصارٌ ورابيةٌ ... تأبى الهوانَ إذا عدَّ الجراثيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وأنشد أبو علي في الباب. (125) أقلَّبُ طرفي في الفوارسِ لا أرى ... حزاقاً وعيني كالحجاةِ من القطرِ هذا البيت للخرنق، ترثي أخاها حازوقاً، وقيل: لامرأةٍ ترثي ابنها، وفي هذا الشعر، تقول الخرنق: فإنْ يقتلِ الحازوقُ وابنُ مطرَّفٍ ... فإنَّا قتلنا حوشباً وأبا الجسرِ الشاهد في البيت قولها: "الحجاة"، وجمعها حجوات، وهي نفاخات تعلو الماء إذا قطر فيه المطر، والحجاة أيضاً: القطرة من الماء، والحجاة أيضاً: الغدير. والمعنى أن عينها قد فسدت من كثرة البكاء وسيلان دموعها لفرط حزنها عليه. الإعراب "حزاق" مغير من خزوق، أو حازق، لما لم يستقم لها وزن الشعر، والشعراء تغير الأسماء الأعلام كثيراً، وتحذفها لإقامة الوزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ومثله قول أبي صخر الهذلي: فخفيف منَّى أقوى خلافَ قطينهِ ... فمكَّةُ وحشا منْ جميلةَ فالحجرُ أراد: جملاً، فحذف، ومثله: أبوك عطاءٌ ألأمُ النَّاسِ كلَّهم يريد: عطية، وقال آخر: وسائلةٍ بثعلبةَ بن سيرٍ ... وقدْ علقتْ بثعلبةَ العلوقُ يريد: سياراً، وقال آخر: منْ نسجِ داودَ أبي سلاَّمِ يريد: أبي سليمان، وكذلك قال النابغة: وكلُّ صموتٍ نثلةٍ تبَّعيَّةٍ ... ونسجِ سليمٍ كلَّ قضَّاءَ ذائلِ أراد: سليمان، فحذف الألف والنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فإن قيل: فهلا حمل "سليم"، على تحقير الترخيم، كزهير من أزهر، وسويد من أسود، دون أن سكون من تحريف الضرورة؟ قيل: يمنع من تحقير "سليمان"، انه محقر من سلمان، وإذا كان محقراً، لم يجز تحقيره، كما لا يحقر، كليب، وجعيفر، وشبهه، وإذا كان كذلك، كان تحريفاً، لا ترخيماً، وقال دريد بن الصمة: أخناسَ قدْ هامَ الفؤادُ بكمْ ... وأصابهُ نبلٌ من الحبَّ والمعنى تقول: عيني كالحجاة الكائنة من القطر، لحزني وجزعي، إذا لم أر حزاقاً. الإعراب يحتمل قولها "من القطر"، أن يكون في موضع المفعول له، إذا جعلنا "من القطر" كناية عن دموعها. ويحتمل أن يكون في موضع الحال، وعيني كالحجاة كائنة من القطر، إذا جعلناها من المطر، ويحتمل أن يكون تفسيراً للحجاة. وأنشد أبو علي في الباب. (126) رأتْ فتنةً باعوا الإله نفوسهمْ ... بجنَّاتِ عدنٍ عندهُ ونعيمِ هذا البيت، لقطري بن الفجاءة، ويكنى أبا نعامة، من رؤوس الخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الشاهد فيه قوله: "باعوا"، والبيع: ضد الشراء، والبيع: الشراء أيضاً، هو من الأضداد. وهو مما يتعدى إلى مفعولين، الثاني بحرف جر، تقول: بعت الشيء منه. وبعته الشيء، كما تقول: اخترته من الرجال، واخترته الرجال، واستغفرت الله من ذنبي، وذنبي، قال: إذا الثُّريَّا طلعتْ عشاءَ فبعْ لراعي غنمٍ كساءَ أي: اشتر قال طرفه: ويأتيك بالأخبارِ منْ لمْ تبعْ لهُ ... بتاتاً ...... اللغة قوله: "جنات عدن": الجنات: جمع جنة، وقد تجمع جنات على جنان. والعدن: الإقامة والخلود، يقال: عدن بالمكان، يعدن، ويعدن، عدنا، وعدونا، إذا أقام فيه، وكذلك الإبل عدنت تعدن وتعدن عدنا وعدونا، إذا أقامت في المرعي، وخص بعضهم به الإقامة في المحض، وناقة عادن بغير "هاء". وعدن: موضع باليمن، يقال له: عدن أبين، رجلٍ من حمير، أقام به، وعدن الأرض، إذا زبلها، يعدن عدناً. والنعيم، والنعمى، والنعماء، والنعمة: كله الخفض والدعة والمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقوله تعالى: (ومن يبدل نعمة الله) ، يعني هنا: حجج الله الدالة على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: (ولتسئلن يومئذ عن النعيم) ، أي: عن كل ما استمتعتم به في الدنيا. وجمع النعمة: نعم وأنعم، كشدة وأشد، حكاه سيبوبه. قال النابغة: فلنْ أذكرَ النُّعمانَ إلا بصالحٍ ... فإنَّ لهُ عندي يديَّا وأنعما وقوله: (وأما بنعمة ربك فحدث) قال ثعلب: أذكر الإسلام. وقوله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) ، معناه: يعرفون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق، ثم ينكرون ذلك. والنعمة: المسرة، وتصريف الفعل منه: نعم ينعم، ونعم ينعم، ويقال: نزلوا منزلاً ينعمهم وينعمهم، بمعنى واحد عن ثعلب، أي: يقر أعينهم، ويحمدونه وزاد اللحياني: ينعمهم عيناً. وتقول: نعم، ونعمَ عين، ونعمةَ عينٍ، ونعمةَ عينٍ، ونعمى عينٍ، ونعامَ عينٍ، ونِعامَ عينٍ، ونعيمَ عينٍ، ونعامىَ عينٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 قال سيبويه: نصبوا ذلك كله، على إضمار الفعل المتروك إظهاره، وأول الشعر: لعمركَ إنَّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيشِ ما لمْ ألقَ أمَّ حكيمِ وقبل البيت: فلوْ شهدتنا يومَ ذاكَ وخيلنا ... تبيحُ منَ الكفَّارِ كلَّ حريمِ وأنشد أبو علي في الباب. (127) كأنَّ نسوعَ رحلي حينَ ضمَّتْ ... حوالبُ غرزاً ومعى جياعا هذا البيت لقطامي، واسمه عمير بن شييم بن عمرو، من بني تغلب، لقب القطامي لقوله: يصكُّهنَّ جانباً فجانبا صكَّ القطاميَّ القطا القواربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وكان نصرانياً، وهو شاعر إسلامي، يكنى أبا سعيد، وهو أول من لقب صريع الغواني، لقوله يعني نفسه: لمستهلكٍ قدْ كادَ منْ شدَّةِ الهوى ... يموتُ ومنْ طولِ العداتِ الكواذبِ صريعُ غوانٍ راقهنَّ ورقنهُ ... لدنْ شبَّ حتَّى شابَ سودُ الذَّوائبِ الشاهد فيه قوله: "معي جياعا"، وضع "معي" موضع الأمعاء، لما وصفه بالجمع، حملا على المعنى ، وهو اسم مقصور، لامه "ياء" وهو من أعفاج البطن، مذكر وحكى فيه التأنيث من لا يوثق به. وهو واحد، أقامه مقام الجمع، مثل قوله تعالى: (ثم يخرجكم طفلاً) . اللغة المعي، أيضاً: معي الفارة، ضرب من رديء التمر، والمعي: كل مذنب بالحضيض، يناصي مذنباً بالسند. وقال أبو حنيفة: المعي: سهل بين صلبين، قال: بصلبِ المعي أو برقةِ الثَّورِ لمْ يدعْ ... لها جدَّةً، جولُ الصَّبا والجنائبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وقد استوفيت تصرف المعي، فيما تقدم. والنسع: سير يضفر علىهيئة النعال، تشد به الرحال، والجمع: نسوع وأنساع ونسع، والنسع أيضاً: من أسماء الريح الشمال، قال المتنخل: قدْ حالَ بينَ دريسيهِ مؤوبةٌ ... نسعٌ لها بعضاهِ الأرضِ تهزيزُ والنسع أيضاً: بلد: وقيل: جبل أسود، بين الصفراء وينبع، قال كثير: فقلتُ وأسررتُ النَّدامةَ ليتني ... وكنتُ امرأً أغتشُّ كلَّ عذولِ سلكتُ سبيلَ الرائحاتِ عشيَّةً ... مخارمَ نسعٍ أو سلكنَ سبيلي والحوالب: الخواصر، والحوالب أيضاً: عروق الضرع التي بدر منها اللبن. والحالبان: عرقان عن يمين السرة، وشمالها. والعرز: النوق القليلات الألبان، واحدها: عارز، يقال: غرزت غرازاً، فهي غارز، قل لبنها، وغرزتها، إذا تركتها ولم تحلبها. وجياع: جمع جائع، يقال: جاع يجوع جوعاً، فهو جائع، وجوعان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 والجمع: جوعى وجياع، وجوع وجيع، قال: بادرتُ طبختها لرهطٍ جوَّعِ شبهوا باب "جيع" باب عصي، فقلبه بعضهم، وقد أجاعه، وجوعه قال: مجوَّع البطنِ كلابيَّ الخلقْ والمجاعة والمجوعة: عام الجوع. وقالوا: إن للعلم إضاعة، وهجنةً وآفة ونكدا واستجاعة، فإضاعته: وضعه في غير أهله، وهجنته: إضاعته، وآفته: نسيانه، ونكدة: كذب فيه، واستجاعته: ألا يشبع منه. وجاع إلى لقائه: اشتهاه: كعطش على المثل: وفي الدعاء: جوعاً له ونوعاً، إتباع، وجائع نائع إتباع، والجوع: إقفار الحي، وربيعة الجوع: حي من بني تميم. المعنى وصف قلوصاً استحبها، وأحسن القيام عليها، وهي التي عنى بقوله: فلمَّا أنْ جرى سمنٌ عليها ... كما بطَّنتَ بالفدنِ السَّياعا أمرتُ بها الرَّجالَ ليأخذوها ... ونحنُ نظنُّ أنْ لنْ تستطاعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وبعد البيت الذي هو: كأن نسرع رحلي ........ على وحشيَّةٍ خرجتْ خلوجاً ... وكانض لها طلىَّ طفلٌ فضاعا فكرَّتْ عندَ فيقتها إليهِ ... فألفتْ عندَ مربضهِ السَّباعا وعطف قوله: "ومعى" على "حوالب"، وخبر "كأن" في البيت الذي يليه: "على وحشية". وأنشد أبو علي في الباب. (128) يبيَّنهم ذو اللُّبَّ حتَّى يراهمُ ... بسيماهم بيضاً لحاهمْ وأصلعا هذا البيت، للأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن نهشل، وكان أعمى، ولذلك قال: ومنَ الحوادثِ لاَ أبالكَ أنَّني ... ضربتْ عليَّ الأرضُ بالأسدادِ لا اهتدي فيها لموضعِ تلعةٍ ... بينَ العراقِ وبينَ أرضِ مرادِ الشاهد فيه قوله: "وأصلعا"، وكان وجه الكلام، و"صلعا"، لأنه معطوب على قوله: "بيضا"، إلا أنه وضع الواحد موضع الجمع، اكتفاء بعلم السامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 اللغة الصلع: ذهاب الشعر من مقدم الرأس، ويقال فيه: صلع الرجل يصلع صلعاً، وهو أصلع، والجميع: صلعٌ، ويقال: امرأة صلعاء، وأنكرها بعضهم، وقال: إنما يقال: قرعاء وزعراء، والصلعة. والصلعة: موضع الصلع، وقول الآخر: يلوح في حافاتِ قتلاهُ الصَّلعْ معناه: يتجنب الأوغاد، ولا يقتل إلا الأشراف، وذوي الأسنان، لأن أكثر الأشراف وذوي الأسنان صلع، كقول الآخر: فقلتُ لها لا تنكريني فقلَّما ... يسودُ الفتى حتَّى يشيبَ ويصلعا فالصلع ممدوح، وكذلك النزع، والجله والجلى، والغمم مذموم يتشاءم به، قال هدبة بن خشرم. فلا تنكحي إنْ فرَّقَ الدَّهرُ بيننا ... أغمَّ القفا والوجهِ ليسَ بأنزعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقال الحارث بن ظالم: فما قومي بثعلبةَ بنِ سعدٍ ... ولا بفزارةَ الشَّعرِ الرقابا وصفهم بالغمم، وهو كثرة شعر القفا، ومقدم الوجه. ومعنى "بيبهم ذو اللب": يستبينهم ذو العقل ويتبينهم، يقال: بينته، وتبينته، واستبنته، وأبنته، كله بمعنى: استوضحته، ويقال: استبان الشيء، وتبين وبان وبين، قال الراعي: أشاقتكَ آياتٌ أبانَ قديمها ... كما بيَّنتْ كافٌ تلوحُ وميمها أبان بمعنى: تبين، وبينت بمعنى: تبينت. والسيمى: العلامة، وعينها واو، وانقلبت للكسرة، ويقال فيها: السيمياء، والسيماء، قال: غلامٌ رماهُ الله بالحسنِ يافعاً ... له سيمياءُ لا تشقُّ على البصرْ وقوله: "لحاهم"، جمع لحية، قال الشاعر: لعمركَ ما الفتيانُ أنْ تنبتَ اللَّحى ... ولكنَّما الفتيانُ كلُّ فتى ندِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وربما قالت العرب: لحى بضم اللام، ونظيره: حلية وحلى، ولا يقاس على الضم في هذين الحرفين، لأنهما من ذوات الياء، وكتابتهما بالياء. وقبل البيت: أجدَّ الشَّبابُ قد مضى فتسرَّعا ... وبانَ كما بانَ الخليطُ فودَّعا وما كانَ مذموماً لدينا ثناؤهُ ... وصحبتهُ ما لفَّنا خلطٌ معا فبانَ وحلَّ الشَّيبُ فيرسمِ دارهِ ... كما خفَّ فرخٌ ناهضٌ فترفَّعا فأصبحَ أخداني كأنَّ عليهمُ ... ملاءَ العراقِ والثَّغامَ المنزَّعا ندب الشباب، وتوجع لورود الشيب عليه، وعلى أترابه. وأنشد أبو علي في الباب. (129) عجبتُ لها أنَّي يكونُ غناؤها ... فصيحاً ولم تغفر بمنطقتها فما هذا البيت لحميد بن ثور الهلالي. الشاهد فيه قوله: "غناؤها"، وهو من الصوت، ممدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 والعرب تختلف في صوت الحمام، فكان بعضهم يجعله غناء، وكان بعضهم يجعله نياحاً. وتعم أنها تنوح على الهديل، وهو فرخ زعموا أنه هلك، في زمن نوح عليه السلام. قالوا: فليس من حمامة غلا وهي تبكي عليه، ولذلك قال الآخر: يذكَّرنيكَ حنينَ العجولِ ... ونوحُ الحمامةِ تدعوا هديلا فجعل صوتها نوحاً على الهديل، وقال بعض الأعراب: ألا قاتلَ الله الحمامة غدوةً ... على الأيكِ ماذا هجيتْ حينَ غنَّتِ فجعل صوتها غناء، وجمع أبو العلاء المعري بين المغنيين، فقال: أبكتْ تلكمُ الحمامةُ أمْ غنَّتْ على فرعِ غصنها الميَّادِ اللغة قد ذكرت العجب، وتصرفه فيما تقدم، وأني: بمعنى كيف. ولم تغفر: لم تفتح فاها، يقال: فغر فاه، وفغر فوه. وقبل البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 إذا شئتُ غنَّتني بأجزاعِ بيشةٍ ... أو النَّخلِ منْ تثليثَ أو منْ ينمنما وبعد البيت: ولم أرَ محزونا لهْ مثلُ صوتها ... أحرَّ وأورى للفؤادِ وأكلما ولم أرَ مثلي شاقهُ صوتُ مثلها ... ولا عربيَّا شاقهُ صوتُ أعجما محلاَّة طوقٍ لمْ تكنْ منْ تميمةٍ ... ولا ضربِ صوَّاغٍ بكفَّيهِ درهما وأنشد أبو علي في الباب. (130) في كلَّ ممسى لها مقطرةٌ ... فيها كباءٌ معدٌّ وحميمْ هذا البيت للمرقش الأصغر، واسمه ربيعة بن سفيان، وهو عم طرفة بن العبد. والمرقش الأكبر، عمه أيضاً، واسمه عمرو بن حرملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الشاهد فيه قوله: "كباء"، ممدود، وهو العود الذي يتبخر به، يقال منه: كب ثوبك، أي: بخره، وكبيت ثوبي تكبيةً، وتكبى: تبخر. وإذا قصرت، فهي الكناسة، والتراب الكابي الذي لا يستقر على الأرض من ذوات الواو، يكتب بالألف. اللغة "في كل ممسى": يريد وقت الإمساء، والمقطرة: المبخرة، وهي المجمرة. والحميم: الماء البارد على ما قال ابن قتيبة، وقيل: الماء الحار. وقال أبو العباس المبرد في "كتاب الاشتقاق": الحميم في الأصل الماء الحار، وهو يكون لما يحب، ولما يكره، على مقدار مبلغة، كقوله تعالى: (إلا حميماً وغساقا) . ذلك المتنهي، الذي هو العذاب الأليم، نعوذ بالله منه. ومنه قول الآخر: كأنَّ الحميمَ على متنها ... إذا اغترفتهُ بأطساسها جمانٌ يجولُ على فضَّةٍ ... جلتها حدائدُ دوَّاسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 يعني امرأة، وجمال بدنها، ومن هذا سمي الحمام، ومن هذا أخذت الحمى. ومن ذلك قولهم للعرق: حميم، يقال استحم الفرس: إذا عرق، قال الشاعر: يباري النحوص ومسحلها ... وعفويهما قبلَ أنْ يستحمْ يعني فرساً: يقول: قبل أن يعرق، وأنشد التوزي في صفة فرس: كأنَّهُ في الجالِ وهوَ سامِ مشتملٌ جاء منَ الحمَّامِ ويقال لمن دخل الحمام: طاب حميمك، أي: عرقك، والحميم أيضاً: القريب. وهو أيضاً الصديق. قال المرقش هذا البيت في جارية لفاطمة بنت المنذر. وبعد البيت: لا تصطلي النَّار بالنَّارِ ولاَ ... توقظُ للزَّادِ بلهاءُ نؤومْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الإعراب قوله: "فيها كباء معد": جملة في موضع الصفة "لمقطرة"، وحميم: معطوف على مقطرة. وأنشد أبو علي في الباب. (131) لها بشرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي لاهراءٌ ولا نزرُ هذا البيت، لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "هراءٌ" وهو اسم ممدود، وهو الكلام غير المصيب، يقال: أهرأ الرجل في منطقه، وهرأ يهرأ هرأ. وقيل: الهراء: الكلام الكثير، وهذا البيت، يقضي به، لأنه قالبه بنزرٍ". اللغة البشر هنا: جمع بشرة، يقال: "فلان مؤدمٌ مبشرٌ" فظاهر جلد الإنسان من رأسه، وسائر جسده: البشرة. والرخيم: اللين السهل، يقال رخمت الجارية رخامة، فهي رخيمة الصوت: إذا لن منطقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والحوشي: الأطراف، وأصل الحاشية: جانب الثوب الذي لا هدب فيه، وحواشي الإبل: صغارها، وكذلك حشوها وحاشيتها. والمعنى أنه وصف امرأة بلين البشرة، وبحسن الكلام، واختصار أطرافه، وهو ضد الهذر والإكثار، وذاهب في سبيل التخفيف والاختصار، لأن الخفر والاستحياء، يقل معه الكلام، وتحذف معه أحناء المقال، كما قال الآخر: كانَّ لها في الأرضِ نسياً تقصُّه ... على أمَّها وإنْ تخاطبكَ تبلت أي: تقطع كلامها رويداً. وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى، حتى صار الدال عليه، كالدال على المشاهد غير المشكوك فيه، ألا ترى إلى قوله: وحديثها كالغيثِ يسمعهُ ... راعي سنينَ تتابعتْ جدبا يعني: حنين السحاب وسجره، وهذا لا يكون عن نبرة واحدة، ولا رزمة مختلسة، إنما يكون مع البدء فيه والرجع، وتثني الحنين على صفحات السمع، ومما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 قيل في حسن الحديث: وحديثها السَّحرُ الحلالُ لوَ أنَّهُ ... لمْ يجنِ قتلَ المسلمِ المتحرَّزِ إنْ طالَ يمللْ وإنْ هيَ أوجزتْ ... ودّ المحدَّثُ أنَّها لمْ توجزِ شركُ العقولِ ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئنَّ وعقلة المستوفزِ ولأبي العلاء المعري: ردَّي كلامكِ ما أمللتِ مستمعاً ... ومنْ يملُّ من الأنفاسِ ترديدا أخذه بعضهم فقال: لا يملُّ الحديثُ منها معاداً ... كأنتشاق الهواءِ ليسَ يملُّ وبعد البيت: وعينانِ قالَ الله كونا فكانتا ... فعولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ وتبسمُ لمعَ البرقِ عنْ متوضَّحٍ ... كلونِ الأقاحي شاف ألوانهُ القطرُ وأنشد أبو علي في الباب. (132) أجدُّوا نجاءً غيبتهمْ عشيَّةً ... خمائلُ من ذات المشي وهجولُ وكنتُ صحيحَ القلبِ حتى أصابني ... منَ اللاَّمعاتِ المبرقاتِ حبولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 هذان البيتان للأخطل، واسمه غباث بن غوث، ويكنى أبا مالك. الشاهد فيهما قوله: "المشى"، اسم بنت مقصور، من ذوات الياء، وهو يشبه الجزر، وأراد بذات المشي، وهو موضع عينه. ويروى: "من البارقات المخلفات حبول". ويروى: "من الملمعات المبرقات". ويروي أبو عمرو: خبول: بالخاء معجبة، ورواه الأصمعي: بالحاء غير معجمة، جمع: حبل، وهي الداهية، وأنشد. عجبتُ من الخودِ الكريمِ نجارها ... ترارئُ بالعينينِ للرَّجلِ الحبلِ اللغة جدَّ وأجدَّ: والخمائل: جمع خميلة، وهي أرض بين الرمل، طيبة النبات. والهجول: جمع هجلٍ، وهو المطمئن من الأرض. ويقال: لمعت المرأة بثوبها، وبسوارها: أشارت، وألمعت أيضاً، وأبرقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 بوجهها: أبرزته، وكذلك ما أبزته من جشدها على عمد، وتبرق أيضاً بأسنانها، قال عدي بن زيد العبادي: عنْ مبرقاتٍ بالبرينِ وتب ... دو بالأكفَّ اللاَّمعاتِ سورْ وفسر أبو علي في "كتابه": الحبول، والخبول. ومعنى البيتين ظاهر. وبعدهما: من المائلاتِ الغيدِ وهنا وإنَّها ... على صرمهِ أو وصلهِ لغفولُ وكنَّ على أحيانهنَّ يصدنني ... وهنَّ منايا للرَّجالِ وغولُ وإن امرأ لا ينتهي عنْ غوايةٍ ... إذا ما اشتهتها نفسه لجهولُ وأول القصيدة: محا رسمَ دارٍ بالصَّريمةِ مسبلٌ ... نضوحٌ وريحٌ تعتريهِ جفولُ فغَّيرَ آياتِ الحبيبِ معَ البلى ... بوارحُ تطوي تربها وسيولُ ديارٌ لأروى والرَّباب ومن يكنْ ... لهُ عندَ أروى والرَّبابِ تبولُ يبتْ وهوَ مشحوذٌ عليهِ، ولا يرى ... إلى بيضتيْ وكرِ الأنوقِ سبيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الإعراب يحتمل قوله: "نجاء"، ثلاثة اوجه من الإعراب. الأول: أن يكون حالاً من الضمير، في قوله: "أجدوا" على أن يوقع "نجاء"، موقع ناجين، أو على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والتقدير: أجدوا ذوي نجاء. والثاني: أن ينتصب على المصدر، بتقدير: أجدوا إجداد نجاء، فحذف واوقع نجاء، موقع الإجداد. والثالث: أن يكون مفعولاً، بإسقاط حرف الجر، والتقدير: أجدوا في نجاء. وقوله: "غيبتهم عشية خمائل" جملة في موضع الحال، وحذف واو الحال، اكتفاء بالضمير العائد من الجملة، كقوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية، إلا لها منذرون) ، وفي الآية الأخرى: (إلا ولها كتابٌ معلوم) . فإذا وقعت جملة في موضع الحال، فإن كان فيها ضمير فجائز إثبات الواو وحذفها، وإن وقعت خالية من الضمير، لم يكن بد من إثبات الواو، فاعلم. وأورد أبو علي في "كتابه" في باب المذكر والمؤنث أثناء كلامه. يعصرنَ السَّليطَ أقاربهْ وهو من عجز بيت للفرزدق، وهو قوله: (133) ولكنْ ديافيٌّ أبوه وأمُّهُ ... بحوران يعصرنَ السَّليطَ أقاربهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الشاهد فيه "يعصرن" فأتى بضمير الأقارب في الفعل "وهو مقدم"، على لغة من قال: "أكلوني البراغيث" فثنى الضمير في الفعل وجمعه مقدماً، ليدل أنه لاثنين، أو لجماعة، كما تلحقه علامة التأنيث، دلالة على أنه لمؤنث. والشائع في كلامهم إفراده، لن ما بعده من الاثنين، والجماعة يفني عن تثنيته وجمعه. وأما تأنيثه فلازم، لن الاسم المؤنث قد يقع لمذكر. ويحتمل وجهين غير هذا: الوجه الأول: وهو أن يكون "يعصرن"، خبر مقدم، كأنه قال: أقاربه يعصرن السليط، فقدم للضرورة. والثاني: أن يكون "أقاربه" بدلاً من الضمير في "يعصرن". والمعنى أنه هجا بهذا الشعر عمرو بن عفراء، فجعله من أهل القرى المعتملين لإقامة عيشهم، ونفاه مما عليه العرب من الانتجاع. ودياف: قرية بالشام. والسليط: دهن السمسم، وهو هنا الزيت خاصة، لأن الشام كثير الزيتون، وحوران: من مدن الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وأنث الأقارب، لأنه أراد الجماعات. وكان سبب هجوه إياه، انه مدح عمرو بن مسلم الباهلي، فأمر له بثلاث مئة درهم، وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقاً له، فلامه. فقال: تعطي الفرزدق ثلاث مئة درهم، وإنما كان يكفي أن تعطيه عشرين درهماً. فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجوه: نهيتُ ابن عفرا أنْ يعفَّرَ أمَّهُ ... كعفرِ السَّلا إذْ جرَّرتهُ ثعالبهْ إنَّ امرأً يغتابني لمْ اطأْ لهُ ... حريماً ولا تنمهاهُ عنَّي أقاربهْ كحتطبٍ ليلاً أساودَ هضبةٍ ... أتاهُ بها في ظلمةِ اللَّيلِ حاطبهْ ألمَّا استوى ناباي وأبيضَّ مسحلي ... وأطرقَ إطراق الكرى منْ أحاربهْ ستعلمُ يا عمرو بنَ عفرا منْ الَّذي ... يلامُ إذا ما الأمرُ غبَّتْ عواقبهْ فلو كنتَ ضبَّيّاً صفحتُ ولوْ جرتْ ... على قدمي حيَّاتهُ وعقاربهْ ولكنْ ديافيٌّ أبوهُ وأمُّهُ ... بحورانَ بعصرنَ السَّليطَ أقاربهْ الإعراب ديافي: خبر المبتدأ المضمر، والتقدير: ولكن أنت ديافي، لما تقدم ذكره، وأبوه: مبتدأ ثان، وأمه: معطوف عليه، والخبر: في المجرور الذي هو "بحوران"، و"يعصرن السليط أقاربه"، جملة في موضع الصفة لديافي، ويجوز رفع "ديافي"، على أنه خبر المبتدأ، و"أبوه": مبتدأ، وأمه: مبتدأ ثان، وخبرها محذوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ويجوز ارتفاع "أبوه"، ويرتفع قوله: و"أمه" بالابتداء وخبرها محذوف، أي: وأمه كذلك. وأنشد أبو علي في الباب. (134) لقدْ ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوءٍ ... على بابِ آستها صلبٌ وشامُ هذا البيت لجرير، يهجو الأخطل، نحقيراً له، وكان نصرانياً. الشاهد فيه إسقاط علامة المؤنث الحقيقي ضرورة، وحسنه الفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول، فقام ذلك الفصل مقام علامة التأنيث، ومثله قول الآخر: إنَّ امرأً غرَّهُ منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدكِ في الدُّنيا لمغرورُ لما فصلَ بين الفاعلِ وفعله، حذف علامة التأنيث، وإن كان تأنيثه حقيقياً. وأما بيت الجران: ألاَ لا يغرَّنَّ امرأً نوفليَّةٌ ... على الرأسِ بعدي أو ترائبُ وضذَحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فليست النوفلية امرأة، وإنما هي مشطة تعرف بالنوفلية، فتذكر الفعل معها احسن. وكان وجه الكلام "ولدته"، و"غرته"، وهذا فيمن يعقل عزيز، وفيما لا يعقل كثير وستأتي فيه أبيات. وقوله: صلب وشام: جمع صليب، وجمع شامةٍ، ويقال شامةٌ، ومشيومٌ، ومشيمٌ، وأشيمُ، وقد شئمَ، وألفه منقلبة عن ياء، وقيل: لا فعل له. وقبل البيت: على آست التَّغلبية إذْ تحنَّى ... صليبهمُ وفي حرها جذامُ أهانَ الله جلدةَ حاجبيها ... وما وارى منَ القذرِ اللَّثامُ وأنشد أبو علي في الباب: (135) فلاَ مزنةٌ ودقتْ ودقها ... ولا أرضَ أبقلَ إبقالها هذا البيت، لعامر بن حوين الطائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الشاهد فيه حذف علامة التأنيث مع التأخير ضرورة، كما حذفها مع التقديم، في المؤنث غير الحقيق، من قوله: "أبقلت"، لما كان الأرض في المعنى : المكان، فحمل على المعنى، فكأنه قال: ولا مكان أبقل إبقالها. قال أبو علي: "حذف علامة التأنيث في التقديم، أحسن من حذفها مع التأخير، لأن الاسم إذا تقدم، فينبغي أن يكون العائد عليه من وفقه، في التذكير أو التأنيث، كما كان وفقه في التثنية والجمع، فكما أنه لو ثنى أو جمع الاسم مقدماً، عاد الذكر على ذلك الحد، كذلك إذا ذكر أو أنث، وليس كذلك إذا تقدم الفعل، لأنه لم يسند إليه شيء، فقد أن يخالف لأنه يصلح أن يسند إلى أشياء كثيرة، فليس يلزم لذلك أن يكون وفقاً لشيء. ألا ترى أنهم قالوا: ما جاء إلا هند، فحملوا على المعنى، على أنه ما جاء أحد، وإن كان اللفظ غير ذلك، ولو قال: ما زيد إلا يجئني، لم يحتمل لتقدم زيد، أن يكون الفاعل ليجيء إلا واحداً في اللفظ والمعنى. قال: فلهذا كان "ولا أرض أبقل إبقالها"، أقبح من قوله: أبقل الأرض، وقال غيره: إنما قبح ذلك، لاتصال الفاعل المضمر بفعله، وكونه كالجزء منه حتى لا يمكن الفصل بينهما، بما سدَّ مسدَّ علامة التأنيث. وروى النحاس، عن أبي حاتم "أرض أبقلتِ أبقالها"، بتخفيف الهمزة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 كما قال ذو الرمة: منَ ألَ موسى ترى الناس حوله وقال عبد الله بنم ثعلبة الحنفي: وما إنْ يزال رسمُ دارٍ قدَ أخلقتْ ... وعهدٌ لميتٍ بالفناءِ جديدُ ولا شاهد في البيت على هذه الرواية. المرنة: واحد المرن، وهي السحاب، والودق: المطر. ويقال: أبقل المكان، فهو باقلٌ، وهو من المطرد سماعاً لا قياساً، وقد ذكرته فيما تقدم، وقد قيل: مبقل على القياس. وقال أبو دؤاد لابنه: ما أعاشك بعدي؟!. فقال: أعاشني بعدكَ وادٍ مبقلٌ ... آكلُ منْ حوذانهِ وأنسلُ فأخرجه على القياس. ويقال أيضاً: بقل المكانُ، بقلاً وبقولاً، وليس بكثرة أبقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 والبقل أصله ما نبت عن بزرة، عن أبي حنيفة. والجنبة: كل ما نبت في أرومةٍ يهلك فرعها. المعنى وصف أرضاً مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث، فقال: لا مزنة ودقت مثل ودقها، ولا أرض مثل إبقالها. الإعراب مزنة: مبتدأ، الجملة بعدها في موضع الصفة، والخبر: مقدر في مكان أو زمان، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الخبر، وإن كانت نكرة، لأن الكلام منفي والغرض العموم. وكذلك "ولا أرض أبقل"، إلا أنه أعمل "لا" هنا، ونصب "ودقها" و"إبقالها" على المصدر المشبه به. وأنشد أبو علي في الباب. (136) أرمي عليها وهيَ فرعٌ أجمعُ وهيَ ثلاثُ أذرعٍ وأصبعُ هذا الرجز ينسب لحميد الأرقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الشاهد فيه قوله: "أجمع" وكان وجه الكلام "جمعاء" لكن حمله على المعنى إذ القوس عود، وهو، تأكيد للضمير الذي في "فرعٍ، وإن لم يكن جارياً على الفعل، فإنه بمعنى الجاري، كما قالوا: مررت بقاعٍ عرفجٍ كله، أي: خشن، وبقومٍ عربٍ أجمعون، فيكون "فرعٌ" بمعنى: قويًّ أو شديد، وما أشبه ذلك من التقدير. ولا يكون تأكيداً "لفرعٍ" لأن "فرعاً" نكرة، والنكرة لا تؤكد عند البصريين، والكوفيون يؤكدونها، واحتجوا بقول الشاعر: يا ليتني كنتُ صبيَّا مرضعاً ... تحملني الذَّلفاءُ حولاً أجمعا ويحتمل أن يكون "أجمع" هاهنا، بمعنى جميع ومجتمع، فيكون نعتاً "للفرعِ". اللغة قوله: "أرمي عليها"، وضع "على" "موضع عن"، والعرب تتصرف في هذا، فتقول: رميت عنها، ورميت عليها، فتدخل بعض هذه الحروف على بعض، لتقاربها في التأدية عن المعنى، قال طفيل: رمتْ عن قسيَّ الماسخيَّ رجالهم ... بأحسنَ ما يبتاعُ منْ نبلِ يثربِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وقال آخر، وهو مثل الأول: أرمي على شريانةٍ قذَّافِ تلحقُ ريشَ النَّيلِ بالأجوافِ وفرع كل شيء: أعلاه، والجمع: فروع، ولا تكسر على غير ذلك. وقوسٌ فرعٌ: عملت من رأس القضيب. وقال أبو حنيف: الفرع من خير القسي، وقوس فرع وفرعة، قال أوس: على ضالةٍ فرعٍ كأنَّ نذيرها ... إذا لم تخفَّضهُ عن الوحشِ أفكلُ والذراع: ما بين المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، أنثى ولذلك قال: "ثلاث أذرعٍ، ولم يقل: ثلاثة، وقد يذكر. قال سيبويه: "سألت الخليل عن الذراع: فقال: الذراع كثر في تسميتهم به المذكر، وتمكن في المذكر، فصار من أسمائه خاصة عندهم، ومع هذا فإنهم يصفون به المذكر، فيقولون: هذا ثوب ذراعٌ". ولهذا إذا سمي رجلٌ بذارعٍ، صرف في المعرفة والنكرة، لأنه مذكرٌ سمي به المذكر. ولم يعرف الأصمعي، التذكير في الذراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 والجمع: أذرع، قال سيبويه: كسروه على هذا البناء، حين كان مؤنثاً، يعني أن "فعالاً، وفعالاً وفعالاً" من المؤنث، حكمه أن يكسر على "أفعل"، ولم يكسروا "ذراعاً" على غير "أفعل"، كما فعلوا ذلك في الأكف". والإصبع: فيه ثمان لغاتٍ، إصبعٌ أَصبعٌ أُصبعٌ إِصبِع أُصبِعٌ أُصبُعٌ إِصبُع أصبوعٌ، وهي مؤنثة في كل ذلك، حكى ذلك اللحياني عن يونس. ويروى: وهيَ ثلاثُ أذرعٍ والإصبعُ وذلك أنهم كانوا إذا قطعوا العود، ليتخذ منه القوس، زادوا على ثلاثة الأذرع إصبعا، احتياطا لاختلاف أذرع الناس في الطول والقصر، فصارت الإصبع معهودة عندهم، متعارفة لديهم، كتعارف الأذرع الثلاث فلهذا أدخل عليه الألف واللام التي للعهد. الإعراب أجمع: من الألفاظ الدالة على الإحاطة، وليست بصفة، ولكن يعم به ما قبله من الأسماء، ويجري على إعرابه. ولذلك قال النحويون صفة، والدليل على أنه ليس بصفة، قولهم: "أجمعون". فلو كان صفة، لم يسلم جمعه، ولكان مكسراً. والأنثى: "جمعاء"، وكلاهما معرفة، ولا تنكر عند سيبويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وأما ثعلب، فحكى فيها التعريف والتنكير جميعاً. تقول: أعجبني القصر اجمع وأجمع، الرفع على التوكيد، والنصب على الحال، والجميع: معدول عن جمعاوات، أو جماعي. ولا يكون معدولاً عن جمع، لأن اجمع ليس بوصف، فيكون كحمراء وحمر. وقال بعض النحويين: إن جمع وكتع، معدولة عن جمع وكتع، لأن باب "أفعل وفعلاء" في الجمع، أن يكون على "فعل" ساكنة العين، نحو: أحمر وحمراء وحمر، وأشهب وشهباء وشهب، فكان حق جمعاء وكتعاء وأجمع وأكتع، أن يكون جمعه على "فعل" نحو جمع وكتع، ساكنة العين، على قياس حمر وشهب، فعدلا عن "فعل" إلى "فعل" وهذا قول من يعتقد أنها صفات. قال أبو علي الفارسي: باب أجمع وجمعاء، وأكتع وكتعاء وما يتبع ذلك من بقيته، غنما هو اتفاق، وتوارد في اللغة ، على غير ما كان في وزنه منها، لأن باب "أفعل وفعلاء" إنما هو للصفات، وجميعها يجيء على هذا الموضع نكرات، نحو أحمر وحمر، وأصفر وصفر، وهذه ونحوها صفات نكرات. وأجمع، وأكتع، وجمعاء وكتعاء، أسماء معارف، وليست بصفات وإنما ذلك اتفاق بين هذه الكلم المؤكد بها، وبعدهما: وهيَ إذا أنبضتَ فيها تسجعُ ترنُّمَ النَّحل أبى لا يهجعُ وأنشد أبو علي في الباب. (137) إذْ هيَ أحوىَ منَ الرَّبعيَّ حاجبها ... والعينُ بالإثمدِ الحاريَّ مكحولُ هذا البيت لطفيل الغنوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الشاهد فيه تذكير "مكحول"، وهو خبر عن "العين" والعين مؤنثة، حمل العين على الطرف، أو الجفن، وهذا مذهب سيبويه. وحمله غيره، على انه خبر عن الحاجب، والتقدير عنده: حاجبها مكحول بالإثمد، والعين كذلك، فلا تكون فيه ضرورة. وحمله سيبويه على العين لقرب جوارها منه، فيرتفع "الحاجب" عند سيبويه "بأحوى"، والتقدير: إذ هي مثل الظبي، أحوى حاجبه. وعلى مذهب غيره، يرتفع بالابتداء، و"بالإثمد"، يتعلق على هذا القول "بمكحول". اللغة الربعي: ما نتج في الربيع، نسب على غير قياس، وربعي الشباب: أوله، أنشد ثعلب: جزعتُ ولمْ أجزعْ منَ البينِ مجزعا ... وقدْ مرَّ ربعيَّ الشَّبابِ فودَّعا وقيل: ربعي كل شيء: أوله، والسبط الربعي: نخلة تدرك في آخر القيظ. قال أبو حنيفة: سمي ربعياً، لأن آخر القيظ، وقت الوسمي. والحاري: منسوب إلى الحيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 المعنى وصف امرأة، فجعلها بمنزلة ظبي أحوى، وهو الذي في ظهره، وجنبتي أنفه خطوط سود، والحوة: السواد. وبعد البيت: يرعى منابتَ وسميَّ أطاعَ له ... بالجزعِ حيثُ عصى أصحابه الفيلُ موضع بقرب مكة. وأنشد أبو علي في الباب. (138) وكنَّا ورثناهُ على عهدِ تبَّعٍ ... طويلاً سواريهِ شديداً دعائمهْ هذا البيت للفرزدق. الشاهد فيه حذف الهاء من "طويلة وشديدة" ضرورة، حمل السواري والدعائم، على البناء المحكم، فتأنيثها غير حقيقي، فلذلك حسن حذف الهاء. اللغة الدعائم: واحدها دعامة، وهو ما يدعم به البناء، إذا مال، والدعم: القوة، والدعامتان: خشبتا البكرة، قال: لما رأيتُ أنَّهُ لا قامهْ وأنَّني ساقٍ على السّامهْ نزعتُ نزعاً زعزعَ الدَّعامهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ودعامة العشيرة: سيدها على المثل. وتبع: ملك العرب في أول الزمان، وقوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع) . قال الزجاج: "جاء في التفسير، أن تبعا، كان مؤمنا، وأن قومه كانوا كافرين، وحكي أنه نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير، هذا قبر رضوى وحبى، ابنتي تبع، كانتا لا تشركان بالله شيئاً". وتبع أيضاً كل من ملك من ملوك اليمن، وقال النعمان بن بشير في قصيدته التي يفخر بها ما يؤيد هذا: لنا منْ بني قحطانَ سبعونَ تبَّعاً ... أطاعتْ لهمْ بالخرجِ منها الأعاجمُ المعنى وصف رجلاً بالمجد القديم، وأنه ثابت على مرور الدهر، وذكر السواري، والدعائم، استعارة، وكأنه قال: ورثنا رجلاً قديم المجد، طويل السواري، شديد الدعائم، ويعني بذلك بيت عزه وسنا شرفه. الإعراب نصب "شديد وطويلا" على الحال، من الضمير المنصوب في "ورثناه" وكذلك المجرور أيضاً في موضع الحال، كأنه قال: قديماً مجده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 و"ورث" مما يتعدى إلى مفعول واحد، وفي هذا البيت دليل عليه. وفي الكتاب العزيز: (يرثني ويرث من ىل يعقوب) ، وفيه: (وورث سليمان داود) ، وأما قول القلاخ: مضى وورثناهُ دلاصَ مفاضةٍ ... وأبيضَ هنديّاً طويلاً حمائلهْ فيجوز أن يكون: ورثنا منه، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل. ويجوز أن تكون: "دلاص مفاضة"، وما بعده، بدلاً من الهاء وكذلك قول الآخر: ورثتهمْ فتسلّوا عنك إذ ورثوا ... وما ورثتكَ غيرَ الهمَّ والحزنِ يجوز فيه، ما جاز في الذي قبله، وكذلك بيت "الكتاب". ورثتُ أبي أخلاقهُ عاجلَ القرى ... وعبطَ المهاري كومها وشنونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 يجوز أن تكون "أخلاقه": بدلا على ما مضى، وأما "عاجل القرى" فهو بدل من أخلاقه. فإن قيل: "إن عاجل القرى" جوهر، و"أخلاقه" عرض، وهما جنسان. قيل: قد تقدم قبله ذكر الأب، وهو جوهر، والبدل في كثير من المواضع في حكم الحاضر غير المحذوف، يجوز أن يكون "عاجل" هنا مصدراً، كالباطل والفاتح، وكأنه على هذا، قال: تعجيله القرى، ويؤكد هذا عطفه عليه المصدر، وهو قوله: "وعبط المهارى" وقبله: وما زالَ باني العزَّ فينا وبيته ... وفي النَّاسِ باني بينِ عزَّ وهادمهْ وأنشد أبو علي في الباب. (139) وما زلتُ محمولاً عليَّ ضغينةٌ ... ومضطلعَ الأضغانِ مذْ أنا يافعُ هذا البيت للكميت بن معروف، جد الكميت بن زيد بن معروف بن الكميت ابن ثعلبة الأسدي. قال ابن سلام: ثلاثتهم شعراء، والأوسط أشعرهم، والأصغر أكثرهم شعراً، وقيل: إن هذا البيت لرجلٍ من سلول. الشاهد فيه حذف هاء التأنيث من قوله: محمولاً"، لحمله أياه على الضغن، إذ معناهما واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 اللغة الضغينة: العداوة والحقد، والمضطلعُ: القائم بالشيء، الحامل له، من قولهم: اضطلع بالحمل والأمر: احتملته أضلاعه. فيقول: إنه يحمل العداوة، ولا يضره ذلك. واليافع: الغلام الشاب، يقال: يافع ويفعة وأفعة، ويفع، وكذلك الجميع والمؤنث، وربما كسر على الأيفاع، وقد أيفع فهو يافع، على غير قياس. قال كراع: ونظيره أبقل المكان وهو باقل: كثر بقله، وأورق النبت فهو وارق، كثر ورقه، وأورس وهو وارس، وأقرب الرجل وهو قارب: إذا قربت إبله من الماء، وهي ليلة القرب. وقد ذكرت فيما تقدم طرفاً منه. المعنى يقول: إنه بعيد الهمة، عزيز النفس، لا يزال محسداً، فهو يحتمل الضغائن، ويضطلع بالأضغان، ولا يضر ذلك. الإعراب ضغينة: مفعول لم يسم فاعله، والأضغان: مفعول بإسقاط حرف الجر. ومن هذه القصيدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أقولُ لندمانيَّ والحزن بيننا ... وغبرُ الأعالي منْ خفافٍ فوارعُ أنارٌ بدتْ بينَ المسنَّاةِ والحمى ... لعينكَ أمْ برقٌ منَ اللَّيلِ لامعُ فإنْ يكُ برقاً فهوُ مخيلةٍ ... لها ريَّقٌ لن يخلفَ الشَّيمَ رائعُ وإنْ تكُ نارٌ فهيَ نارٌ تشبُّها ... قلوصٌ وتزهاها الرَّياحُ الزَّعازعُ وأنشد أبو علي في الباب. (140) فإمَّا تريني ولي لمَّةٌ ... فإنَّ الحوادث أودى بها هذا البيت للأعشى. الشاهد فيه حذف تاء التأنيث، من قوله: "أودت" ضرورة، وحسن ذلك حمله الحوادث، على الحدثان، لما كان مؤنثاً غير حقيقي، وأكد ذلك كون القافية مردفة بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وروى سيبويه: فأمَّا ترى لمَّتي بدَّلتْ وروى أبو عبيدة: فإنْ تعهديني ولي لمَّةٌ اللغة اللمة: الشعر الملم بالمنكب، ومعنى أودى: ذهب بحسنها وجمالها، ومن رجوعها من السواد إلى البياض، والحوادث: جمع حادث أو حادثة. المعنى مدح بهذا الشعر، يزيد بن عبد المدان. وقبله: ألمْ تنةَ نفسكَ عمَّا بها ... بلى عادها بعضُ أطرابها لجارتنا إذ رأتْ لمَّتي ... تقولُ لكّ الويلُ أنَّي بها فإمَّا تريني ولي لمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أودى بها وقبلك ساعيتُ في ربربٍ ... إذا نامَ سامرُ رقَّابها وأنشد أبو علي في الباب: (141) وحمَّالُ المئينَ إذا ألمَّتْ ... بنا الحدثانُ والأنفُ النَّصورُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الشاهد فيه قوله: "الحدثان" أنثه، لما عنى به الحوادث، كما ذكر في البيت الذي قبله الحوادث، بمعنى: الحدثان. وروى بعضهم هذا البيت: "والأنف الغضوب"، وذلك غلط، لأن قبله: ألاَ ذهبَ المحامي والمجيرُ ... ومدرهنا الكميَّ إذا يغيرُ اللغة المحامي: المدافع، يقال: حميت الشيء حماية، وحمى ومحمية، وحامى يحامي محاماة. والمجير: الذي يجير من تعلق به، وركن إليه، ويدفع عنه. والمدره: رأس القوم الذي يصولون به، وقد دره لقومه يدره درهاً. والكمي: الشجاع وقد تقدم الكلام عليه. ويغير: يسرع في الإغارة على العدو، ويحمل عنا ما ينوبنا في الديات، وغيرها، متى نزل بنا حادث من الدهر. والأنف: المتنزه عن الأشياء التي يتنزه عنها، والأنف أيضاً: العجول في أمره، والأنف: الغضوب. وتصرفه: أنف يأنف أنفة، والنصورُ: فعولٌ. المعنى يرثي رجلاً، ويصفه أنه كان يحمي ما يحق عليه أن يميه، ويدافع عنه، يقال: حميت الشيء حماية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الإعراب واحد المئين: مائة، اصلها مئية، وزنها "فعلة"، ذهبت اللام، وهي ياء، لقولهم: مأيت القوم، وأمأيتهم: أي: صيرتهم مئة بنفسي. وأنشد الفراء: فقلتُ والمرُ تخطيهِ منيَّتهُ ... أدنى عطَّيتهِ أيَّايَ مئياتُ فجاءت بالجمع على الواحد، "فعلة وفعلات" وقد جاء جمعها على فعول على التأويل، قال مزرد: أتيتُ بني عمَّي فكان عطاؤهمْ ... ثلاثَ مئي منها قسيٌّ وزائفُ فقال: مئي، وأصلها مؤوي، على وزن "فعول" كحلي وعصي، ثم كسرت الفاء، كما كسرت في قسي وعصي، أو كسرت لأجل حرف الحلق، كما قالوا: سعيد وشعير ثم خففت للضرورة. قال أبو علي الفارسي، ولا يكون ميء هنا إلا "فع"، ولا يكون "فعلاً" على قول سيبويه، لأنه لم يجئ على ذلك عنده إلا إبلٌ، وأما قول الآخر: وحاتمُ الطَّائيُّ وهَّابُ المئيْ فجاء مرخماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 قال أبو علي الفارسي: الكسرة في "مئين"، هي الكسرة في "مئة"، فالنون فيها عوض من لام الكلمة، فوزنها على هذا "فعين"، فالنون إذن مفتوحة على هذا، وما قبلها علامة الإعراب، إذ هي على مثال الجموع المسلمة في مذكر من يعقل. ويجوز أن يكون الإعراب في النون، لما كانت عوضاً من لام الكلمة. ومن رأى أن وزنها "فعيل" كالعبيد والكليب فكسر الفاء، كما كسرت في قسي وشبهه، فلا يكون الإعراب إلا في النون، لأنها أصلية. ومن رأى أنها أصلها "مئيين" على وزن "فعلين" كغسلين، وحذف الياء لكثرة الاستعمال، والنون كأنها عوض منها، فالإعراب أيضاً في النون، "فالمئين" من قوله: وحمال المئين تحتمل وجهين من الإعراب. الأول: أن يكون خفضاً على الإضافة مع نصب النون، والياء علامة الخفض. والثاني: أن يكون مفعولاً، والإعراب في النون، وحذف التنوين من حمال، لالتقاء الساكنين على حد قوله: (أحدُ، الله) و (سابقُ النهار) . ولا ذكرَ الله إلاَّ قليلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وعلى خفض النون، لا يكون إلا مخفوضاً، على الإضافة. والجملة من قوله: "إذا ألمت" في موضع الحال، والعامل فيها "حمال" أي: يحملها كائناً في هذه الحال، والنف: معطوف على "حمال". وأنشد أبو علي في باب أسماء المؤنث. (142) وقدْ علوتُ قتودَ الرَّحلِ يسعفني ... يومٌ قديديمةَ الجوزاءِ مسمومُ هذا البيت لعلقمة بن عبدة التميمي. الشاهد فيه لحاق هاء التأنيث، "قدام" على طريق الشذوذ، لأن ما كان من أسماء المؤنث على أربعة أحرف، لا تلحقه علامة التأنيث، لأن الحرف الرابع يقوم مقامها. ألا تراهم قالوا: في تحقير عقرب: عقيرب، وفي عقاب: عقيب، وفي زينب: زيينب، وإنما جاء منبهة على الأصل، كما جاء القود منبهة على الأصل، ليعلم أن أصل دارٍ وبابٍ الحركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وكما جاء القصوى، وكان حقه القصيا، ليعلم أن أصل الدنيا، والعليا، الواو ومثله الأخر: قديديمةُ التجريبِ والحلم أنَّني=أرى غفلاتِ العيشِ قبلَ التَّجاربِ هذا قول أبي علي. وقال غيره: إنما لحقت علامة التأنيث، في تصغير هذين الاسمين، قدام ووراء، من أجل أن كل مؤنث يبين تأنيثه بفعله، أو الإشارة إليه، أو غير ذلك، وليس لقدام ولا وراء، فعل ولا إشارة إليهما، فلو لم تلحقهما الهاء في التصغير، لم يعلم أنهما مؤنثتان. وقيل: إنما جاءتا باء التأنيث، من طرق أنها ظروف، والظروف كلها أسماء مذكرة، فلو تركت العلامة في تصغيرها، لدى ذلك إلى الالتباس، وقد جاء تذكير قدام، في قول الشاعر: أنتَ امرؤٌ قدَّامَ أبياتهِ ... منْ سوءِ ما يكسبُ كلبٌ عقورْ لا زائلٌ عنهُ فإنْ زاره ... زورٌ ألمُّوا بكَ بئسَ المزورْ اللغة قتود الرحل: أداته، واحده: قتد، ويجمع أيضاً أقتاد، والرحل: مركب البعير، ويجمع على رحالٍ، وأرحلٍ. ويسعفني: يحرقني ويلفحني، فيغير بشرتي، ومنه قول البدوية لعمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 عبد الوهاب الرياحي: "ائتني في غداة قرةٍ، وأنا أتسفع بالنار". والجوزاء: برج من بروج السماء، والشمس تحل فيه عند إقبال شدة الحر. ومسموم: ذو سمومٍ، وهي الريح الحارة، ونبت مسموم: إذا أصابته السموم، ويقال: اسم يومنا، وسمَّ، وسمَّ، ويوم مسمومٌ. والريح الحارة: هي السموم والحرور، وفي الكتاب العزيز: (ووقانا عذاب السموم) . ويروى هذا البيت: وقدْ علوتُ قتودَ الرَّحلِ يسعفني ... يومٌ تجيءُ بهِ الجوزاءُ مسمومُ المعنى وصف جلده على السفر، وقوته عليه. وبعد البيت: حامٍ كأنَّ أوارَ النَّارِ شاملهُ ... دونَ الثَّيابِ ورأسُ المرءِ معمومِ وقدْ أقودُ أمامَ الحيَّ سهلبةً ... يهدي بها نسبٌ في الحيَّ معلومُ لا في شظاها ولا أرساغها عنتٌ ... ولا السَّنابكُ أفناهنَّ تقليمُ سلاَّءة كعصا النَّهديَّ غلَّ بها ... ذو فيئةٍ من نوى قرَّانَ معجومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وأنشد أبو علي في باب لحاق علامة التأنيث الأسماء. (143) في سعيِ دنيا طالَ ما قدْ مدَّتِ هذا الرجز للعجاج. استعمل "الدنيا" بغير ألف ولام، تشبيهاً بالأسماء التي ليست صفات، نحو بشري ورجعى، لن دنيا من الفعلى، التي مذكرها الأفعل، لأنها مؤنث الأدنى. قال أبو الفتح: الدنيا والعليا، وما أشبههما، مما عليه حكم الأسماء. وأبدلوا اللام التي هي "واو" ياء في "فعلى" كما أبدلوها، وهي "ياء" واواً، في "فعلى"، لضرب من التعادل، في الشروى والفتوى، وشبهه، إذ كثرت غلبة الياء على الواو، في أكثر المواضع. وخصوا اللام، لكونها طرفاً، فهي أقبل للتغيير. والأسماء أحمل للتغيير، لخفتها من الصفات لثقلها. اللغة السعي: الكسب، وكل عمل من خير أو شر: سعي، وفي التنزيل: (لتجزى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 كل نفس بما تسعى) ، وقوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي) : أدرك معه العمل. قال الزجاج: يقال: إنه كان قد بلغ في ذلك الوقت، ثلاث عشرة سنة. والسعي أيضاً: عدو دون الشد، والسعي أيضاً: القصد، وبذلك فسر أيضاً قوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) ، وليس من السعي الذي هو العدو. وقرأ ابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله) ، وقال: لو كانت (فاسعوا) لسعيت، حتى يسقط ردائي. وتصريفه سعى يسعى. وقبله: يومَ ترى النَّفوسُ ما أعدَّتِ منْ نزلٍ إذا الأمورُ غبَّتِ منْ سعي دنيا طالَ ما قدْ مدَّتِ حتى انقضى قضارها وأدَّتِ إلى الإلهِ خلقهُ إذ طمَّتِ غاشيةُ النَّاسِ الَّتي تغَّشتِ يومَ يرى المرتابُ أنْ قدْ حقَّت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وأنشد أبو علي في الباب. (144) يا ليتها كانتْ لأهلي إبلاَ أو هزلتْ في جدبِ عامٍ أوَّلا هذا الرجز لا أعرف قائله، ووقع في "الكتاب" ولم يسم قائله، ونسبه بعض من قرأت عليه، لأبي النجم العجلي. الشاهد فيه قوله: "عام أولا"، وذلك أنه ترك صرف "أول"، لاحتماله أن يكون صفة، تلزمها "من"، فيكون التقدير، أول من عامك، كما تقول: هذا أحسن من هذا. ويحتمل أن يكون منصوباً على الظرف، تقديره: في أول عامك، أي: قبل عامك، ونظير هذا، قول الله تعال: (والركب أسفل منكم) ، كما تقول: الركب أمامك، ومثله قول الآخر: أتعرفُ أمْ لا رسمَ دارٍ معطَّلا ... منَ العامِ يمحاه ومنْ عامٍ أوَّلاَ وفي هذا البيت دلالة على وقوع "من" موقع "مذ" ومثله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 منَ الصُّبحِ حتَّى تغربَ الشَّمسُ لا ترى ... منَ القومِ إلاَّ خارجياً مسوَّما أي: مذ الصبح، ومثله قول الآخر: منْ غدوةٍ حتَّى كانَّ الشَّمسا بالأفقِ الغربيَّ يكسى ورسا اللغة الهزال: ضد السمن، يقال منه: هزلت الدابة، وأهزل الدابة، وأهزل الرجل، إذا هزلت دابته. والجدب: ضد الخصب، يقال منه: جدب المكان، جدوبة، وجدبا، وجدب أيضاً: إذا صار جدبا. المعنى وصف إبلا في نهاية من الحسن، والجودة، قد ذهب بها وغنمت، يتمنى أن تصير لأهله، أو يتوالى عليها الهزال والبؤس، حتى يقل أسف أربابها، ولا يسر بها غانمها. الإعراب "أول": عند سيبويه: اسم لم ينطق له بفعل، وفاؤه وعينه واوان، فلو قالوا فيه: فعل يفعل، لكان فيه شيئان يتدافعان، لن "فعل" الذي فاؤه "واو" يجيء "يفعل" منه مكسوراً نحو: وعد يعد. وما عينه "واوٌ" فمضارعه "يفعل"، نحو: قال يقول: فكان يجب أن تكون العين، من "فعل" "يفعل" مضمومة مكسورة في حال، وهو محال، مع ما ينضاف إليه من ثقل الواوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 وإذا لم يأت مثال "وعوت" مع أن باب سلس، وقلق، أكثر من باب ددنٍ، وكوكب، فإن لا يجوز اجتماع الواوين فاء وعيناً أجدر. وإذا رفضوا الفعل فيه في الصحيح، فرفضهم له في المعتل أولى. وقال الكوفيون: هو "أفعل" من وأل، إذا لجا، وخفف بالبدل والإدغام، وهو آل يؤول، فأصله أأول، ثم قلبت الهمزة واواً، وأدغمت فهو على "أفعل". وقال أبو علي الفارسي: لو كان كذلك، لجاز فيه التحقيق، كما جاز في سوءة، لن هذا النحو لم يأت ملزماً البدل. ولو كان من "وأل" لجاز تصحيح الفاء من "وولى" وألا تقلب همزة، لأن العين إذا كانت همزة، فخففت، لم تلزم الواو، فصار مثل: ووري، وفي إلزامهم الفاء البدل، دليل على أنها "واو" أبدلت، كما أبدلت في "وقتك الأواقي". وأنشد أبو علي في الباب. (145) ولستَ بالأكثر منهم حصى ... وإنَّما العزَّةُ للكاثرِ هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيسٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 استشهد به على أن "من" ليست للمفاضلة، نحو: هذا أحسن منك، وأفضل من عمرو، وإنما هي كالتي في قولنا: أنت من الناس حر، أي: أنت فيهم حر، وهذا الفرس من الخيل كريم. فكأنه قال: لست من بينهم بالكثير حصى، أو لست فيهم، ولو كانت "من" التي تصحب "أفعل"، لكان التعريف بالألف واللام، في قوله: "الأكثر" منقوضاً بقوله: "من"، لأن ألف واللام للتعريف، و"من" تدخل للتخصيص، فلو جمع بينهما لكان تناقضاً. ووجه آخر: وهو أن قوله: "الأكثر"، دل على أكثر، فكأنه قال: ولست بالأكثر، أكثر منهم حصى منم قبيلتك، لأي: فيهم من هو أكثر منك. كما تقول: زيد ليس بالفاضل من بني تميم، أي، من أفضلهم، كأنه قال: هو من أراذلهم. وقد أجاز أبو علي، وغيره: أن تتعلق "من" بقوله: ولست، كأنه قال: ولست منهم بالأكثر حصى، وهو وجه حسن. اللغة الحصى في هذا الموضع: العدد والكثرة، والحصى أيضاً: جمع حصاة، كنوى ونواة، والحصاة أيضاً: العقل، وهي "فعلة" من أحصيت، لأنه به تحصى الأشياء، يقال: "ما له حصاة ولا أصاة"، قال طرفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وإنَّ لسانَ المرءِ ما لم تكنْ لهُ ... حصاةٌ على عوراتهِ لدليلُ وجمعها: حصى، قال كثير: بحقَّكَ إنْ تنطقْ تقلْ غيرَ مهجرٍ ... صوابا وغنْ تخففْ حصى القومِ ترزنِ وكلاهما من الحصى، الحجارة الصغار. ألا ترى أنه يراد، بالحصاة التي هي العقل: الرزانة، وبالحصى الذي هو عدد: الكثرة. والكاثر بمعنى: الأكثر والكثير. المعنى قال الأعشى هذا الشعر: في المنافرة التي كانت بين علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، وبين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر ابن كلاب. وتنافراً إلى هرمك بن سنان بن عمرو الفزاري، في خبر طويل مشهور، ولما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قام هرم للتفصيل بينهما، قال: إنكما يا بني جعفر، قد تحاكمتما عندي، وأنتما كركبتي البعير الآدم الفحل، تقعان على الأرض معاً، وليس منكما أحد، إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم، فتفرق الناس، ولم يفصل واحداً منهما على صاحبه، وكره أن يجلب بذلك شراً على الحيين، وهما أبناء عم. وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: يا هرم، أي الرجلين كنت مفضلاً، لو فعلت؟! قال: لو قلت ذلك اليوم، يا أمير المؤمنين، عادت جذعة، ولبغت سفعات هجر. فقال عمر رضي الله عنه: نعم مستودع السر أنت! وهجا بهذا الشعر، علقمة بن علاثة، ومدح عامر بن الطفيل. وقبله: حكَّمتموني فقضى بينكمْ ... أبلجُ مثلث القمرِ الزَّاهرِ لا يأخذ الرُّشوةَ في حكمهُ ... ولا يبالي غبنَ الخاسرِ يا عجبَ الدَّهرِ متى سوَّيا ... كم ضاحكٍ منْ ذا ومنْ ساخرِ ولستَ بالأكثرِ منهم حصى ... وإنَّما العزَّةُ للكاثرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وأنشد أبو علي في الباب. (146) فإنَّا رأينا العرضَ أحوجَ ساعةً ... إلى الصَّونِ منْ بردٍ يمانٍ مسهَّمِ هذا البيت لأوس بن حجر. الشاهد فيه تعلق الظرف، بقوله: "أحوج"، أورده، تقوية للبيت الذي قبله، بيت الأعشى، ودليلاً عليه. ويريد: أبو علي بتعلق الظرف "بأفعل" وتعلق "من" في البيت الذي قبله، بما دل عليه أكثر من معنى الكثرة، وبما دل عليه "أحوج"، لأنهما وإن ضعفا عن قوة شبه الفعل، فليس هما بأضعف من المعنى الذي يعمل في الظرف، وليس لفظ الفعل موجوداً فيه، كما في "أفعل"، مع أنه قد أشبه الفعل من أوجه. وقال أبو علي في "التذكرة": "ساعة" منتصبة بأحوج"! لا "بوجدنا"، لأنه لو كان منتصباً "بوجدنا"، لكان قد فصل بين "أحوج" وبين ما هو من صلته، يعني: "إلى الصون من ريط" بما ليس من صلته، يعني "ساعة". وقال أبو الفتح: كان ينبغي أن يقول: أشد احتياجاً، لأنه من "احتاج" لكنه حذف الزيادة للضرورة، وبناه على الأصل، ونظائره كثيرة. وأما قوله: "ساعة": فيريد: ساعة الضب، فاستغنى عن إضافته لدلالة المعنى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 اللغة عرض الرجل: حسبه، وقيل: نفسه، وقيل خليقته المحمودة، وقيل: ما يمدح به الإنسان ويذم قال حسان: فإنَّ أبي ووالدهُ وعرضي ... لعرضِ محمَّدٍ منكم وقاءُ والجميع: أعراض، ويقال: عرض عرضه، يعرضه، واعتراضه: إذا انتقصه وشمته، أو ساواه في الحسب، انشد ابن الأعرابي: وقوماً آخرينَ تعرَّضوا لي ... ولا اجني من النَّاسِ اعتراضا أي: لا أجتني منهم شتماً، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه"، عقوبته: حبسه، وعرضه: شكايته، حكاه ابن الأعرابي، وفسره بهذا. والعرض أيضاً: ماء عرق الإنسان وغيره، والعرض: الرائحة ما كانت وجمعها: أعراض. والجمع من الطرفاء، والأثل والنخل، يقال له: عرض ولا يكون في غيرهن. والعرض: جو البلد وناحيته من الأرض، والعرض: الوادي، وقيل: جانبه، وقيل: عرض كل شيء: جانبه، والعرض: واد باليمامة. قال المتلمس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فهذا أوانُ العرضِ جنَّ ذبابهُ ... زنابيرهُ والأزرقُ المتلمَّسُ وقيل: كل واد: عرض، وجمع ذلك أعراض، لا يجاوزه. ويقال: صان العرض والثوب، صوناً وصياناً: وقاهما ما يعيبهما وصان الفرس جريه: أبقى منه، وصان الفرس أيضاً: إذا حفي، وقيل: إذا ظلع والبرد: كساء يلتحف به، والبرد أيضاً: واحد من برود العصب، ويروى: "من ريطٍ"، والريط: جمع ريطة، وهي كل ملاءة لم تكن لفقين، وهي كل ثوبٍ رقيقٍ لينٍ. ويمان: منسوب غلى اليمن، على غير قياس، والقياس: يمني. والمسهم: المخطط، كالسهام، ويروى: "وجدنا" مكان "رأينا"، وهذه الرؤية علمية. المعنى يقول: إن عرض الرجل أولى بالوقاية والصيانة، من الثوب النفيس الغالي، المخطط الموشى المزين. وقبل هذا البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 ومستعجبٍ ممَّا يرى منْ أناتنا ... ولوْ زبنتهُ الحربُ لمْ يتزمزمِ فإنَّا رأينا العرضَ ........ البيت أرى حربَ أقومٍ تدقُّ وحربنا ... تجلّ فتعرورى بنا كلَّ معظمِ ترى الأرضَ منَّا بالفضاءِ مريضةً ... معضَّلةً منَّا بجمعٍ عرمومِ لنا مرجمٌ ننفي بهِ عنْ بلادنا ... وكلُّ تميمٍ يرجمونَ بمرجمِ وأنشد أبو علي في باب "فعلى" التي لا تكون مؤنث "أفعل" وما أشبهها مما يختص ببناء التأنيث، ولا تكون ألفها إلا له. (147) وإلاَّ النَّعامَ وحفَّانهُ ... وطغيا مع اللَّهقِ النَّاشطِ هذا البيت لأسامة بن الحارث الهذلي. الشاهد فيه قوله: "وطغيا"، وهو مما جاء من الأسماء على "فعلى" وهو الصغير من بقر الوحش. فثعلب وأبو عمرو، يحكيانه: بفتح أوله، والأصمعي يحكيه: بضم أوله. وبالفتح مصدر طغت البقرة تطغى: إذا صاحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 وهذا لبيت، الرواية المشهورة فيه، بضم الطاء. قال الأصمعي: لم أسمع طغياً إلا في هذا البيت، قال: وهو "فعلى" بالضم. وأعلم أن في "طغيا" هذه، إذا كانت "فعلى" نظراً، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون اسماً أو صفة. فإن كانت اسماً، كان قياسها "طغوى، كما قالوا في مصدره: طغى طغوى كالعدوى والدعوى، وذلك أن "فعلى" إذا كانت اسماً وكانت لامها ياء، فإنها مما تقلب واواً، وذلك نحو: الشروى والتقوى، فمن هاهنا أشكل "طغياً". ووجه جوازها، انه يجوز أن تكون خرجت على أصلها، كخروج "القصوى" على أصلها. ويجوز وجه آخر، وهو أن مقصورة من طغياء وعمياء، كما أن قولهم: "مسولا"، ينبغي أن تكون مقصورة من "مسولاء" "فعولاء" "كبروكاء" ألا ترى أن صاحب "الكتاب"، قد حظر "فعولى" مقصورة. ووجه آخر: وهو أن تكون "فعللا"، من "طغوت"، وقلبت اللام الثانية ألفاً، لوقوعها طرفاً، في موضع حركة، مفتوحاً ما قبلها، إلا أنه لم يصرفه، لأنه جعل ذلك علماً للقطيعة والفرقة، فاجتمع التأنيث والتعريف. اللغة واحد النعام: نعامة، تكون للذكر والأنثى، ويجمع أيضاً على نعاماتٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 ونعائم، وقد يقع النعام على الواحد، قال: ولَّى النَّعامُ بني صفوانَ زورأةً ... لمَّا رأى أسداً في الغابِ قدْ وثبا والنعام أيضاً بغير هاء: الذكر منها، والنعامة أيضاً: الخشبة المتعرضة تعلق منها البكرة، والنعامتان: المنارتان اللتان عليهما الخشبة المتعرضة. وقال اللحياني: النعامتان: الخشبتان اللتان على زرنوقي البئر، الواحد نعامة، وقيل أيضاً: النعامة: خشبة تجعل على فم البئر، والنعامة: كل بناء كالظلمة، أو علم يهتدى به، وقيل: كل بنماء على الجبل كالظلمة والعلم والجمع: نعام، قال أبو ذويب: بهنَّ نعامٌ بناها الرَّجا ... لُ تحسبُ أرامهنَّ الصُّروحا والنعامة: الجلة التي تغطي الدماغ، والنعامة من الفرس: دماغه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 والنعامة: باطن القدم، والنعامة: الطريق، والنعامة: جماعة القوم. وشالت نعامتهم: ولوا، وقيل: تحولوا عن دارهم، وقيل: قل خيرهم وولت أمورهم. قال ذو الأصبع: أزرى بنا أنَّنا شالتْ نعامتنا ... فخالني دنهُ بلْ خلتهُ دوني والنعامة: الظلمة، والنعامة: الجهل، ويقال: سكنت نعامته، قال المرار الفقعسي: ولوْ أنَّي حدوتُ بها أرفأنَّتْ ... نعامتهُ وأبغضَ ما أقولُ وابن النعامة: الطريق، وقيل: عرق في الرجل، وقيل: صدر القوم قال عنترة: فيكونُ مركبكِ القعودَ ورحله ... وابنُ النَّعامةِ عندَ ذلكَ مركبي فسر بذلك، وقيل: ابن النعامة: فرسه، وقيل: رجلاه. والحفان: صغار النعام، والحفان أيضاً: صغار الإبل، والحفان أيضاً: الخدم. واللهق: الأبيض من بقر الوحش. والناشط: ثور ينشط، فهو يسير من بلد إلى بلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 المعنى وصف فلاة ليس فيها إلا النعام وبقر الوحش. الإعراب وإلا النعام: معطوف على مستثنى منقطع متوهم، كأنه قال: ما في هذه المفازة أحد إلا الجنادب وإلا النعام، ويروى: ورأل النعام. وهذه الرواية أبين في الإعراب، وهو معطوف على قوله: "تصيح جنادبه" وزعم قوم أن رواية "وإلا النعام" تصحيف. وقبل هذا البيت: تصيحُ جندابهُ ركَّدا ... صياحَ المساميرِ في الواسطِ فهنَّ على كلَّ مستوفزٍ ... وقوعَ الدَّجاجِ على الحائطِ وإلاَّ النَّعامَ وحفَّانهُ ... وطغيا معَ بالهميغِ الذَّاعطِ من المربعينَ ومنْ آزل ... إذا جنَّهُ الليلُ كالنَّاحطِ عصاكَ الأقاربُ في أمرهم ... فزايلْ بامركَ أوْ خالطِ ولا تسقطنَّ سقوطَ النَّوا ... ةِ في كفَّ مرتضخٍ لاقطِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وأنشد أبو علي في باب ما جاء على أربعة أحرف، مما كان أخره ألفاً من الأبنية المشتركة للتأنيث وغيره. (148) فحطَّ في علقى وفي مكورِ ويروى: يستنّ في علقى وفي مكورِ هذا البيت من الرجز، للعجاج. وأنشده سيبويه للعجاج، وقال: "ولم ينوبه رؤبة"، كقول أبي علي. الشاهد فيه قوله: "علقى" لما أتى غير منون، دل على أن ألفها للتأنيث، ولو كانت للإلحاق لنونها. وقال سيبويه: "قالوا: علقاة وأرطاةٌ، لأنهما ليستا ألفي تأنيث". وقال أبو الفتح: الألف في "علقى" ليست للتأنيث لمجيء هاء التأنيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 بعدها، وإنما هي للإلحاق ببناء "جعفر وسلهب"، فإذا نزعوا الهاء عن علقاة، قالوا: علقى، فمن نون، جعلها للإلحاق، ومن لم ينون جعلها للتأنيث، ولها نظائر، وقالوا: بهمى وبهماة، وشكاعى وشكاعاة ونقاوى ونقاواة، وسماني وسماناة، وباقلى وباقلاة، ومثل ذلك من الممدود طرفاء وطرفاءة، وقصباء وقصباءة، وحلفاء وحلفاءة، وباقلاء وباقلاءةٌ. فمن قال: طرفاء: فالهمزة عنده للتأنيث، ومن قال طرفاءة: فالتاء عنده للتأنيث وأما الهمزة فزيادة لغير التأنيث. قال أبو الفتح: "أقوى القولين عندي فيها: أن تكون همزة مرتجلة، غير منقلبة، لأنها إذا كانت في هذا المثال، فإنها عن ألف التأنيث لا غير، نحو: صحراء. وقد يجوز أن تكون منقلبة عن حرف علة، لغير الإلحاق، فتكون في الانقلاب في الإلحاق، كألف علباء، وحرباء. وأبو عثمان، ذهب إلى أنها زيادة لغير الإلحاق، كألف "قبعثرى" و"ضبغطرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 ويجوز أن تكون للإلحاق "بجخدب"، على قياس قول أبي الحسن، إلا أنه إلحاق اختص مع التأنيث، إلا أن أحداً لا ينون بهمى. يحكى أن أبا عبيدة، قال في بعض كلامه: أرأيتم كأصحاب التصريف؟! يقولون: غن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث، وقد قال العجاج: يستنُّ في علقى وفي مكورِ فلم يصرف، وهم مع هذا، يقولن: علقاة. فبلغ ذلك أبا عثمان، فقال: إن أبا عبيدة من أين له أن يعرف مثل هذا؟! يريد: ما قدمت ذكره من اختلاف التقديرين في حالتين مختلفتين وله نظائر في العبرية، مثل: لا أبا لك، وأشباهه. اللغة العلقى: شجر تدوم خضرته في القيظ، وله أفنان طوال، رقاق، وورق لطاف، ويجمع على: علاق وعلقيات. والمكور: شجر أيضاً، واحدها مكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 المعنى وصف ثوراً وحشياً. ويروى: يستنُّ في علقى وفي مكورِ وبعده: بينَ تواري الشَّمسِ والذُّرورِ وأنشد أبو علي في الباب. (149) أما تنفكُّ تركبني بلومى ... لهجتَ بهِ كما لهجَ الفصيلُ هذا البيت، لأبي الغول الطهوي، أنشده أبو زيد في نوادره. الشاهد فيه قوله: "لومى" وهو مصدر يراد به اللوم. وكل "فعلى" اسم، مصدر أو غير مصدر لا يتكلم به إلا بالواو، كان من ذوات الياء أو من ذوات الواو، نحو: العدوى، والدعوى، والرعوى، والفتوى، وما شذ من هذا الباب، إلا "سعيا" وهو اسم موضع. وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 والثاني: أن يكون خرج منبهة على الأصل. و"فعلى" إذا كانت اسماً لا يتكلم بها إلا بالياء، سواء كانت من ذوات الياء أو ذوات الواو، نحو الدنيا، والعليا. وشذ من هذا الباب أيضاً "القصوى"، خرج منبهة على الأصل، وإنما أبدل في "فعلى" من الواو ياء، كما أبدل في "فعلى" من الياء واواً، ليتكافآ في التغيير، هذا قول سيبويه، وقد جاءت اللوماء ممدودة، قال: ألمْ ترَ أهلي يا مغيرَ كأنَّما ... يفيئونَ بالَّوماءِ فيكَ الغنائما اللغة يقال: لهج الرجل بكذا، وألهج به: أولع، واللهجة: طرف اللسان، ويقال: جرس الكلام، والفصيل يلهج أمه: إذا رضعها، فهو لهوج ولهج قال: إذا المرضعُ العوجاءُ باتَ يعزَّها ... على ضرعها ذوْ تومتينِ لهوجُ وأتى المعري بجمعه، فقال: الرَّكبُ إثركَ آجمونَ لزادهم ... واللُّهجُ صادفةٌ عن الأخلافِ وألهج الرجل: لهجت فصاله بالرضاع، قال الشماخ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ترى بسفا البهمى أخلَّة ملهجِ وبعد البيت: أتنسى لا هداكَ الله سلمى ... وعهدُ شبابها الحسنُ الجميلُ كأنَّ وقدْ أتى حولٌ جديدٌ ... أثافيها حماماتٌ مثولُ وأنشد أبو علي في الباب. (150) تريحُ نقادها جشمُ بنُ بكرٍ ... وما نطقوا بأنجيةِ الخصومِ الشاهد فيه قوله: "بأنجية"، جمع "نجوى"، وهو مصدر جمع، لما اختلفت أنواعه. ورد هذا القول على أبي علي. وقال الراد: لا يجوز أن تكون "أنجية" جمع "نجوى"، كما قال، لأن "فعلى" لا تجمع على "أفعلة" وإنما أنجية في البيت جمع نجي، ونجي: مصدر جاء على "فعيلٍ"، بمنزلة الصهيل والنهيق، قال الراعي: طاوعتهُ بعدما طال النَّجيُّ بنا ... وظنَّ أنَّي عليهِ غيرُ منعاجِ وقال النحاس في قوله: "المجي": واحد يؤدي عن الجمع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وجمعه: "أنجية"، ويكون النجي أيضاً: بمعنى الناجي كما يقال: جليس: بمعنى الجالس. والنجوى أيضاً: السر، قال الله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) . وفعله نجاه ينجوه نجواً ونجوى: سارة. اللغة تريح: تردها في الرواح. والنقاد: جمع نقد، وهي صغار الغنم، والنقاد: راعيها. والخصوم: جمع خصم، ويقع الخصم للواحد المذكر والمؤنث، والاثنين والجميع. وأنشد أبو علي في باب ما جاء على فعلى. (151) لها أذنٌ حشرٌ وذفرى أسيلةٌ ... وخدٌّ كمرأةِ الغريبةِ أسجحُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "وذفرى"، فلم ينونها، جعل ألفها للتأنيث، ولم يجعلها للإلحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وقد جاءت منونة، ألحقت بدرهم وهجرع، وهو قليل. اللغة يقال: أذن حشرة وحشر، وهي الصغيرة الطيفة، وقيل: الرقيقة الطرف. قيل: أذن حشر، لما سميت بالمصدر، كأنها حشرات حشراً، أي: لطفت، يقال حشرت السنان وغيره حشراً، إذا حددته، ورققته، ولها المعنى أفرد في الجميع، ولم يؤنث في الواحد. ومن جمعه بالتاء، فقال حشرات، فعلى الواحد المؤنث بالتاء. ويستحب في الناقة والبعير، أن يكون حشر الأذن. والذفرى: عظم شاخص خلف الأذن، والذفرى أيضاً: القفا والجمع: ذفارى، والذفرى أيضاً: يقلة. والأسيلة: الملساء المستوية. والسجح في الخد: لينه، وخد أسجح: سهل طويل قليل اللحم، وقد سجح سجحاً وسجاحة، وخلق سجيح، ومنه: "ملكت فأسجح"، وهو قول عائشة لعلي، رضي الله عنهما يوم الجمل يوم الجمل، ومعناه: أرفق وسهل، والمرأة: ما تراءيت فيه، يقال تراءيت في المرأة، إذا نظرت فيها، وجاء في الحديث: (لا يتمراى احدكم في الماء) أي: لا ينظر وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وهذا المثال عزيز، لم يجئ منه فيما رأيت من "كتاب" سيبويه: إلا: تمدرع، وتمسكن. المعنى وصف ناقته، وجعل خدها، لملاسته ولينه، كمرآة الغريبة وخص الغريبة، لأن مرآتها مجلوة، إذ ليس لها من يتولى شأنها. وقبل البيت: إذا ماتَ الرَّحلِ أحييتُ روحه ... بذكراكِ والعيسُ المراسيلُ جنَّحُ إذا أرفضَّ أطرافُ السياطِ وهلَّلتْ ... حزومُ المطايا عذَّبتهنَّ صيدحُ وأنشد أبو علي في الباب: (152) أرحمْ أصيبيتي الَّذين كأنَّهمْ ... حجلى تدرَّجُ في الشذَربَّةِ وقَّعُ هذا البيت لعبد الله بن الحجاج الثعلبي، ويكنى أبا الأقرع. الشاهد فيه قوله: "حجلى" جمع حجل، وهو الذكر من القبح، والأنثى: حجلة و"فعلى" في الجمع عزيز الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 اللغة الشربة: موضع بعينه، والشربة: حفرة في أصل النخلة. وتدرج: تفعل، من درج يدرج درجاً ودرجاناً: إذا مشى مشياً ضعيفاً. ووقع: جمع وقع، يقال: وقع الطير يقع وقوعاً، والاسم الوقعة، إذا نزل عن طيرانه، فهو واقع، ووقيعة الطائر وموقعته: موضع وقوعه. معنى البيت ظاهرٌ. وذكر أن عبد اله بن الحجاج الثعلبي، كان من أشد الناس على عبد الملك بن مروان، في طاعة ابن الزبير مع القيسية. فلما قتل عبد الله بن الزبير، أرسل عبد الملك في طلب عبد الله بن الحجاج، فلم يظفر به، فلما خاف عبد الله بن الحجاج أن يظفر به، لأقبل به، فدخل على عبد الملك في اليوم الذي يطعم فيه أصحابه، فمثل بين يديه، فقال: منعَ الفرارَ فجئتُ نحوك هارباً ... جيشٌ يجرُّ ومقنبٌ يتلمَّعُ فقال له عبد الملك: أي الخبائب أنت؟ قال: أرحمْ أصيبيتي الذينَ كأنَّهمْ ... حجلى تدرَّجُ بالشَّربَّةِ وقَّعُ قال: أجاع الله بطونهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 قال: مالٌ لهمْ فيما نظنُّ جمعته ... يومَ اقليبِ فحيزَ عنهم اجمعُ قال: احسبه، كان كسب سوء. قال: أدنو لترحمني وتقبلَ توبتي ... وأراكَ تدفعني، فأينَ المدفعُ قال: النار. قال: ضاقتْ ثيابُ الملبسينَ ونفعهم ... عنَّي فألبسني فثوبكَ أوسعُ قال: فنزع مطرفاً كان عليه، فطرحه عليه، ثم قال له: كل. قال: فلما وضع يده في الطعام، قال: أمنت ورب الكعبة. قال: كن من شئت، إلا عبد الله بن الحجاج. قال: فأنا عبد الله بن حجاج. قال: أولى لك. الإعراب أصيبية: تصغير صبية، أصلها: أصبية، لأن الواحد: صبي، مثل جريب وأجربةٍ، وقفيز وأقفزة، ويصغر أيضاً: صبية على لفظه. وأنشدوا: صبيةٌ على الدَّخان رمكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ووقع: من صفة حجلى، وبالشربة، متعلق به. وأنشد أبو علي في الباب. (153) يا أمةً وجدتَ مالاً للا أحدٍ ... إلا لظربى تفاست بينَ احجارِ هذا البيت للقتال الكلابي، واسمه عبيد بن المضرحي. الشاهد فيه قوله: "لظربى"، وهو "فعلى" جمع، ولم يجئ "فعلى" جمعاً إلا "حجلى" الذي تقدم، و"ظربى" هذا. اللغة المال: يؤنث ويذكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المال خضرة حلوة، ونعم العون هو لصاحبه"، فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اللغتين، وأنشد أبو زيد في التأنيث: المالُ تزري بأقوامٍ دوي حسبٍ ... وقدْ يسوَّدُ غيرَ السَّيَّدِ المالُ وقال آخر في التأنيث: والمالُ لا تصلحها فاعلمن ... إلا بإفسادك دنيا ودينْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 والظربى: جمع ظربان، وهو دويبة على خلقة الكلب، منتن الريح، والجمع: ظرابي، وظرابين، وظربى وظرباء: أسمان للجمع. ويحكى أنه يفسو بين النعم، فتفرق، ولا يجتمع بعضها مع بعض ويقال في المثل، للمتقاطعين بعد مودة: ة "فسا بينهم ظربان" ونعته: أصلم الأذنين، طويل الخرطوم، أسود الظهر، أبيض البطن، خبيث الرائحة، يفسو في ثوب صائده، فلا تزول منه الرائحة، وإن بلي. المعنى هجا امرأة يقال لها: عليلة، وجعلها أمة، ولم تكن أمة، وإنما جدتها كانت أمة، ألا ترى كيف جعل أخويها عبدين، في هذا الشعر، جهماً وأويساً، فقال: يا أختَ جهمٍ وذاكَ العبدُ صاحبهُ ... وبنتَ شمَّاءَ هلْ خبَّرتِ أخباري يا بنتَ حيَّاكةٍ تسعى بمحلبها ... وتحسنُ الصَّرَّ في إبلِ ابنِ عمَّارِ ويروى في أكثر نسخ "الإيضاح": يا أمَّةً وجدتْ مالاً والأمة: جماعة الخلق. والمعنى أخذتم كال من ليس لقدره ارتفاع، ولا لجانبه امتناع، وقوله: للا أحدِ: أي: لغير من يفقع عليه هذا الوصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وإنما سمي القتال، لأنه كان يزور امرأة من رهطه، وقال له أخوها يوماً: لئن وجدتك عندها بعد اليوم لأقتلنك، فجاء بعد أيام، فوجده عندها، فأخذ السيف، وخرج القتال هارباً، وأخوها يتبعه، والقتال يناشده الله، ويذكره بحق الرحم، وهو يأبى إلا اتباعه، والقتال لا سلاح معه، فمر ببعض البيوت فوجد رمحاً مركوزاً، فأخذه، وانصرف إليه، وقتله، وتنادى الناس فخرجوا من البيوت وراءه وهو هارب، فمر ببنت ابن عم له، يقال لها: زينب، وهي نخضب بالحناء. فقال لها: أدخليني وراء الستر واعطيني قناعك. ففعلت، وتقنع وجعل يختصب بالحناء، فبلغ القوم إلى بيت زينب، فانقطع لهم عنده الأثر. فقالوا له، وهم يظنون أنه زينب: أين هذا الخبيث؟ فأخفى وجهه وأشار بيده، هكذا نهض، فساروا على ذلك الطريق، فلما غابوا، خرج عن الخباء، واخذ طريقاً آخر، حتى أتى عماية، وهو جبل عظيم فيه كهوف كثيرة، فإذا دخل فيها الرجل لم يعلم له موضع، فتحصن فيه. فاعلم مروان بن الحكم بذلك، فوجه إليه يومئذ، فأبى من الإقبال إليه، وقال في ذلك: أرسلَ مروانٌ إليَّ رسالةً ... لآتيهِ إنَّي إذنْ لمضلَّلُ وفي ساحةِ العنقاءِ أوْ في عمايةٍ ... أوِ الأدمى منْ رهبةِ الموتِ موئلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فمنْ مبلغٌ فتيانَ قومي أنَّني ... تسميتُ لمَّا شبَّتِ الحربُ زينبا وأرخيتُ جلبابي على نبتِ لحيتي ... وأبديت للنَّاسِ البنانَ المخضَّبا فلم يزل مقيماً بها، حتى عفا عنه أولياء المقتول، فخرج. فبهذه القصيدة سمي القتال. وأنشد أبو علي في باب ألف التأنيث التي تلحق قبلها ألف، فتنقلب الآخرة منهما همزة، لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة. (154) إليهِ تلجأُ الهضَّاءُ طرَّا ... فليس بقائلِ هجراً لجادِ هذا البيت لأبي دؤاد واسمه جارية بن الحجاج. الشاهد فيه قوله: "الهضاء"، وهو من الأسماء التي آخرها ألف التأنيث، فانقلبت همزة، وهو "فعلاء" ومعناه: الجماعة من الناس. اللغة يلجأ: يعوذ، وفعله لجا ولجئ يلجأ، والتجأ، وألجأه إلى الشيء: اضطره، وألجأه: عصمه، والملجأ: المعاد وجمعه: الجاءٌ. وطراً: بمعنى جميع، ولا يستعمل إلا حالاً. والهجر: القبيح من الكلام، وقد اهجر ف ي منطقه إهجاراً، وهجر هجراً: إذا هذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 والجادي: طالب الجدا، يقال منه: جدوت الرجل جدواً وجداً، إذا سألته، وإذا أعطيته، قال: جدوتُ أناساً موسرينَ فما جدوا ... ألاَ الله فأجدوه إذا كنتَ جاديا والجدا: الفضل والنفع، وهو مأخوذ من الجدا، وهو: المطر العام النافع، ويثنى بالواو، ويقال: أصابنا مطر، كان على الأرض جدا. وهو اسم مقصور، فإذا أردت المصدر، قلت: فلان كثير الجداء ممدود. كما تقول: كثير الغناء عنك، هذا هو المصدر. فإن أردت الاسم الذي هو خلاف الفقر، قلت: الغنى بكسر أوله، وبالقصر، قال خفاف بن ندية، يمدح أبا بكر الصديق، رضي الله عنه: ليسَ لشيءٍ غيرُ تقوى جداءْ ... وكلُّ شيءٍ عمرهُ للفناءْ إنَّ أبا بكرٍ هوَ الغيثُ إنْ ... لمْ تشملِ الأرضَ سحابٌ بماءْ تاللهِ لا يدركُ أيَّامهُ ... ذو طرَّةٍ حافٍ ولا ذو جداءْ من يسعَ كي يدركَ أيَّامهُ ... يجتهدِ الشَّدَّ بأرضٍ فضاءْ ونصب "طراً" على المصدر، في موضع الحال. وأنشد أبو علي في الباب: (155) ألاَ يا بنتُ بالعلياءِ بيتُ ... ولولاَ حبُّ أهلكَ ما أتيتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 هذا البيت لعمرو بن قنعاس، ويروى لهانئ المرادي، ويروى: لتأبط شراً، وهو ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي. ووقع في "أخبار الصعاليك" وعجزه: أأمَّكَ إن رشدتُ وإنْ غويتُ الشاهد فيه قوله: "بالعلياء"، وهو اسم لا صفة، ولو كان صفة لصحت الواو، كما صحت في الخذواء والقنواء، ونحو ذلك. وقال الخليل رحمة الله: إنما قالوا: "العلياء"، لأنه لا ذكر لها، أرادوا: أن يفرقوا بين ما له ذكر، وما ذكر له. قال الفراء: ليس هذا بشيء، لأنه قد جاءت أشياء كثيرة على "فعلاء" ولا ذكر لها، منها: الحلواء واللأواء. والقول في العلياء عند الفراء: أنهم بنوها على "عليت"، ولم يبنوها على "علوت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 اللغة العلياء في البيت: موضع بعينه، والعلياء أيضاً: رأس الجبل، وقيل: العلياء: كل ما علا من الشيء. قال زهير: تبصَّرْ خليلي هل ترى من ظعائنٍ ... تحمَّلنَ بالعلياءِ منْ فوقِ جرثمِ وقال النابغة: يا دارِ ميَّةَ بالعلياءِ فالسَّندِ والعلياء أيضاً: من أسماء السماء، وليس بصفة. الإعراب قوله: "يا بيت بالعلياء بيت" الأول منادى مفرد مضموم. وبيت الثاني: مرفوع بالابتداء، وبالعلياء، وبالعلياء: في موضع خبره. وقدره سيبويه: لي بالعلياء بيت، ولم يجعل قوله: بالعلياء صفة للمنادى، ولو كان صفة لنصب "بيتاً" كما قال الآخر: لعلَّكَ يا تيسا نزى في مريرةٍ ... معذَّبُ ليلى أن تراني أزورها ومثله قول الطرماح: يا دارُ أقوتْ بعدَ أصرامها ... عاماً وما يغنيكَ منْ عامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 قال سيبويه: "إنما ترك التنوين، لأنه لم يجعل، أقوت من صفة الدار، ولكنه قال: يا دار، ثم أقبل بعد يحدث عن شانها، فكأنه لما قال يا دار: أقبل على إنسان، فقال: أقوت، وتغيرت، فكأنه لما ناداها، قال إنها قد أقوت يا فلان. وإنما أردت بهذا أن تعلم أن أقوت ليس بصفة، ومثل ذلك قول الحوص: يا دارُ حسَّرها البلى تحسيرا ... وسفتْ عليها الرَّيح بعدكَ كورا وأنشد أبو علي في الباب. (156) يكلُّ وفدُ الرَّيحِ منْ حيثُ انخرقْ هذا الرجز لرؤبة بن العجاج، وقبله: وقاتمِ الأعماقِ خاوي المخترقْ مشتبهِ الأعلامِ لمَّاعِ الخفقْ الشاهد فيه قوله: "يكل وفد الريح" استعار الكلال للريح. اللغة الكلال: الإعياء، ولذلك سمي مرفأ السفن: المكلاء، ومنه الكلاء، كلاء البصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 والمعنى أن هذا الموضع يدفع الريح عن السفن، فكأن الريح تكل فيه، عن عملها. يقال في تصريف فعله: كل يكل كلالاً: أعيا، وكل السيف كلا، وكلة، وكل الرجل كلولاً: إذا كان كلا، والكل: يكون للواحد والاثنين والجميع، وقد يجمع على كلولٍ. والوفد: جمع الوافد، وهو ما تقدم وسبق من الطير، ويجمع على وفود قال: فإنْ تمسِ مهجورَ الفناءِ فربَّما ... أقامَ بهِ بعدَ الوفودِ وفودُ وتصريف فعله: وفد يفد وفادة ووفداً. وانخرق: اتسع والقاتم: المسود، والقتام: الغبار. والأعماق: أطراف المفازة، ونواحي الأرض. والمخترق: حيث تنخرق الريح، والخريق: الريح الباردة. وانخرقت: اشتدت، والخرق والخرقاء: المفازة البعيدة. والأعلام: الجبال الطوال. وأنشد أبو علي في الباب. (157) وأربدُ فارسُ الهيجا إذا ما ... تقعَّرتِ المشاجرُ بالفئامِ هذا البيت لبيد بن ربيعة العامري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الشاهد فيه قصر "الهجيا"، ويجوز في "الهجيا" أن تكون على لغة من مد، فكأنه قال: فارس الهيجاء إذا، فلما التقت الهمزتان، حذف الأولى تخفيفاً، على قراءة من قرأ: (على البغا إن أردن) . ولا يجوز أن يكون على تسهيل الأولى، لأن المسهلة في حكم المحققة، فكما أن تحقيق الهمزة هاهنا يكسر البيت، فكذلك التسهيل، وإنما هو على حذف الهمزة البتة. اللغة الهيجا والهيجاء: الحرب، ومعنى تقعرت: انقلبت، فانصرعت، وذلك في شدة القتال، وعند الانهزام، وكل ما تقعر وانقعر، فقد انجعف من أصله. والمشاجر: الهوادج، تقعرت: تساقطت من الخوف، والمشاجر: جمع مشجر، وهي أرض تنبت الشجر، استعارها لموضع الحرب: لكثرة الرماح. والفئام: وطاء الهودج، والجميع: فؤوم، والفئام أيضاً: الجماعة من الناس، وغيرهم قال النابغة الذبياني: وإنَّ القومَ نصرهمُ جميعاً ... فئامٌ مجلبونَ إلى فئامِ وفيه لغتان: الهمز وتركه. معنى البيت يرثي أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر، وكان أخا لبيد لأمه، وكان قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وفد مع عامر بن الطفيل، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليغتراه، فلما قدما عليه، جلس عامر بين يديه، وقام أربد من خلفه، ليشغله أحدهما حتى يضربه الآخر، فقال عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلم على أن لي الوبر، ولك المدر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الوحي جاء بغير ما تريد"، فلما أطال الجلوس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ما منعك أن تفعل ما أمرتك؟! قال: ما هممت به، إلا رأيتك بيني وبينه. فدعا عليهما رسول الله صلى الله وآله وسلم، فأما أربد فأخذته صاعقة، وأما عامر، فأخذته الغدة، فلجأ إلى بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول: "أغدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية". يقول في البيت إنه يمنع يوم الروع الظعائن، ويضارب دونهن، إذا استحثت الإبل للنحاء، فتسقط الهوادج بأوطيتها، لاشتغال الحداة بأنفسهم عنها، وقلة شدهم إياها، وقلة استمساك النساء بها. والشعر: ألاَ ذهبَ المحافظُ والمحامي ... ومانعُ ضيمها يومَ الخصامِ وأيقنتُ التَّفرُّقَ يومَ قالوا ... نقسَّمُ مالَ أربدَ بالسَّهامِ تطيرُ عدائدُ الشراكِ شفعاً ... ووتراً والزعامةُ للغلامِ فوَّدع بالسَّلامِ أبا حريزٍ ... وقلَّ وداعُ أربدَ بالسَّلامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وكنتَ أمامنا ولنا نظاماً ... وكان الجزع يحفظُ بالنَّظامِ وأربدُ فارسُ الهيجا إذا ما ... تقعَّرتِ المشاجرُ بالفئامِ وأنشد أبو علي في الباب. (158) إذا كانتِ الهيجاءُ وانشقَّتِ العصا ... فحسبكَ والضَّحَّاكُ سيفٌ مهنَّدُ الشاهد فيه مدُّ الهيجاء. اللغة الهيجاء: الحرب، ومعنى انشقت العصا: تفرق بين الحيين. والعصا: جماعة الإسلام، يقال: إذا خالف الرجل الإجماع "فقد شق العصا". قال جرير: ألاَ بكرتْ سلمى فجدَّ بكورها ... وشقَّ العصا بعدَ اجتماعٍ أميرها وأنشد الأصمعي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وإذا رأيتَ المرءَ يشعبُ أمرهُ ... شعبَ العصا ويلجُّ في العصيانِ يقول: إذا رأيته يفارق الجماعة، ويفرق أمره، ويلج في الخطأ، فدعه. ومن ذلك قول ابن الأشيم، لأبي السليل: "إياك وقتيل العصا". معناه: إياك أن تكون قاتلاً أو مقتولاً، في شق عصا المسلمين، ومن ذلك قول ذي الرمة: بتفريقِ طيَّاتٍ يباشرنَ قلبهُ ... وشقَّ العصا من عاجلِ البينِ قادحُ والعصا: أنثى، قال الله تعالى: (هي عصاي أتوكأ عليها) . والجميع: أعصٍ وأعصاءٌ وعصيٌّ، وعصيٌّ. وأنكر سيبويه أعصاء، قال: جعلوا "أعصيا" بدلاً منه. وعصاه عصا: أخذه أخذ العصا، وضرب به ضربه بها، قال جرير: تصفُ السُّيوفَ وغيركمُ يعصي بها ... يا بنَ القيونِ وذاكَ فعلُ الصَّيقلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وقالوا عصوته بالعصا، وعصيته بالسيف والعصا، وعصيت بهما عليه عصاً. ويقال: "ألقى المسافر عصاه"، إذا بلغ موضعه وأقام به، لأنه إذا بلغ ذلك ألقى عصاه، فخيم أو أقام، ويضرب مثلاً لكل من وافقه شيء فأقام عليه، قال معقر بن حمار: فألقيتْ عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى ... كما قرَّ عيناً بالإيابِ المسافرُ وقال آخر: فألقيتْ عصا التَّسيارِ عنها وخَّيمت ... بأرجاءِ عذبِ الماءِ بيضٍ محافرهُ وقال زهير: فلمَّا وردنَ الماءَ زرقاً جمامهُ ... وضعنَ عصيَّ الحاضرِ المتخيَّمِ والعصا: اسم فرس عوف بن الأحوص، وقيل: فرس قصير بن سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 اللخمي، وقيل: كانت لجذيمة الأبرش، ولبني تغلب أيضاً، فرس يقال لها: العصا، فارسها الأخنس بن شهاب. ومن أمثالهم: "يا ضل ما تجري به العصا"، والضل: المضال، يقال: فلان ضل بن ضل، إذا كان متمكناً في الضلة. الإعراب قوله: إذا كانت: بمعنى الوقوع، والهيجاء: رفع بكانت. وقوله: فحسبك: بمعنى كافيك، وهو في موضع رفع بالابتداء. وسيف: فاعل يسد مسد الخبر. ويروى: والضحاك: بالرفع والنصب والخفض. فالرفع: معطوف على المضمر المرفوع، في "حسبك" على تقدير: أنت والضحاك. والنصب: معطوف على الكاف. والخفض: جائز، وفيه قبح، وقبحه أنك لا تعطف ظاهراً على مضمر مجرور، فلو وقع في موضع الكاف اسم ظاهر، كقولك: حسب زيد وأخيه درهمان، قبح الرفع والنصب فاعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وأنشد أبو علي في الباب. (159) باتوا يعشون القطيعاء جارهم ... وعندهم البرني في جلل دسم أنشده أبو زيد في نوادره استشهد أبو علي في صدره. و الشاهد فيه قوله القطيعاء ممدود، وهو يجوز أن يكون تصغير قطعاء، كما تقول: حمراء وحميراء. اللغة والقطيعاء: ضرب من التمر رديء يقال له: الشهريز، ويقال: الشهريز. بضم الشين عن الأصمعي، ويقال: السهريز بالسين غير معجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ويقال: عشاه وعشّاه، مخففاً ومثقلاً، وأعشاه بالألف، إذا أطعمه العشاء. ومن قال عشاه مخففاً: قال في المضارع: يغشوه عشواً وعشياً، إذا أطعمه العشاء، الأخيرة نادرة، وأنشد: قصرنا عليهِ بالمقيظِ لقاحنَا ... فعيَّلنهُ من بين عشيٍ وتقبيلِ وقال أبو ذؤيب في أعشاه: أعشيته من بعد ما راث عشية ... بسهم كسير التابرية لهوق وقال آخر في عشاه يعشيه: بات يعشيها بعضب باتر والعشي: ما يتعشى به، وأصله الواو. وقال كثير يصف سحاباً: خفيٌّ تعشَّى في البحارِ ودونه ... من اللجِّ خضرٌ مظلماتٌ وسدَّفُ أراد أن السحاب تعشى من ماء البحر، جعله كالعشاء له، وقال أحيحة بن الجلاح، يصف النخل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 تعشَّى أسافلها بالجبو ... بِ وتأتي حلوبتها منْ علُ يعني أنها تشرب الماء من أسفل، ويأتي حملها من فوقها، ووضع الحلوبة موضع المحلوب. والبرني: ضرب من التمر طيب. والجلل: جمع جلة، وهو وعاء من خوص. ودسم: جمع دسماء، كالحمراء وحمر، وهي المشدودة بالدسام يقال: دسمت القارورة، وغيرها آدسمها دسماً: شددتها. معنى البيت يقول: يخصون أنفسهم بأجود الأقوات، وأضيفهم بأدنى ما معهم. وبعد لبيت ما يدل عليه. فم أطعمونا الأوتكى منْ سماحةٍ ... ولا منعونا البرَّ إلاّ منَ اللُّؤمِ ويروى: ولا منعوا البرنيَّ إلاّ منَ اللؤمِ ويروى: وعندهمُ البرنيُّ في جللٍ ثجلِ ولا منعونا البرَّ إلاَّ منَ البخلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 وأنشد أبو علي في الباب. (160) أفينا تسوم الساهرية بعدما ... بدالك من شهر المليساء كوكب الشاهد فيه قوله: المليساء، وهو فعيلاء يجوز أن يكون تصغير فعلاء اللغة المليساء: الشهر الذي تنقطع فيه الميرة، والمليساء: نصف النهار. ووقع في البارع مليساء المتن، حيث استوى. قال أبو حنيفة: شهر المليساء: بين الصفرية والشتاء. والصفرية: تولى الحر، وإقبال لشتاء، عن ابن زياد. والساهرية: الطيب. معنى البيت يقول: أتعرض علينا في وقت لا ميرة فيه بيع الطيب؟ !. فأنكر عليه أن يكون في مثل ذلك الزمان، يعرض عليهم العطر، وليس بزمان تعطر. وهذا البيت، أنشده أبو حنيفة في كتاب "النبات" وأنشد بعده: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 فإنْ كنتَ قيناً فاعترفْ بنسيئةٍ ... وإن تكُ عطَّاراً فأنتَ المخيبُ وأنشد أبو علي في الباب. (161) وكأنَّ برقعَ والملائكُ حولها ... سدرٌ تواكلهُ القوائمُ أجردُ هذا البيت لأمية بن أبي الصلت. الشاهد فيه "أجرد" وصف السدر، وهو بحر، بالجرد، وهو: الآملاس، لأنه قد يكون كذلك، ما لم يتموج، ويقال: أرض جرداء، إذا لم تنبت، ورجل أجرد: لا شع عليه. اللغة برقع: من أسماء السماء، ومن أسمائها: الجرباء، قيل لها ذلك، من أجل كواكبها، تشبيهاً بما يثور من جلد الجرباء، ومن أسمائها، الخلقاء، سميت بذلك، لملوستها عند فقد الكواكب منها بضوء النهار، فهي بالليل جرباء شبيهاً بما ذكرنا لنجومها، وبالنهار خلقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ومن أسمائها أيضاً: الخضراء، للونها، كما يقال للأرض: الغبراء، للونها ومن أسمائها: الرقيع والأرقع، سميت بذلك، لأنها مرقوعة بالنجوم، ويقال: كل واحدة من السماوات رقيع للأخرى. والجمع: أرقعة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لسعد بن معاذ: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". على التذكير، ذهب إلى معنى السقف. والسماء تذكر وتؤنث، قال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) فأنث وقال: (السماء منفطر به) ، فذكر، وقيل: هذا محمول على النسب، والمراد به: ذات انفطار. والتأنيث هو المشهور والأغلب عليها. قال الزجاج: فمن ذكر، قال في جمعها: أسمية، مثل: غطاء وأغطية، ووطاء وأوطية. ومن أنثها، قال في جمعها: سمي، لأن "فعالاً" من المؤنث يجمع على: "فعول وأفعل"، قالوا: عناق وأعنق وعنوق. وقد تلحق الهاء في السماء مع المدة، يقال: سماءة. وسدر: البحر ولم يسمع به إلا في قول أمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 وتواكل القوم مواكلة: اتكل بعضهم على بعض. ورجل وكلة وتكلة: عاجز كثير الاتكال على غيره. وقوائم الدابة: أربعها، وقد يستعار ذلك للإنسان. واحدها: قائمة، وقال أراد بالقوائم: الملائكة. المعنى شبه السماء بالبحر في حال سكونه، لا في حال اضطرابه، وذهب بالسماء مذهب السيف، فقال حوله، ويروى "حولها" على تأنيث السماء، وروى ثعلب هذا البيت: وكأنَّ برقعَ والملائكُ تحتها ... سدرٌ تواكلهُ قوائمُ أربعُ وفسره فقال: سدر: رجل يدور، وقوائم أربع: هم الملائكة، لا يدري كيف خلقهم، وشبه الملائكة في خوفها الله تعالى بهذا الرجل السدر. فعلى هذا شبه السماء بإنسان سادر، لفلكه الدائر، فإنه من دورانه يسدر، ويتحير، وإنما اشترط قوائم أربعاً، لأنها أكثر تداولاً من اثنتين، وإنما قال: "تحتها"، ولم يقل فوقها، إشعاراً بخضوعهم، وخشوعهم لله تعالى وكان أمية قد تسمع الأخبار، وتتبع الآثار، وباحث الرهبان والأحبار، حتى علم من الأمور الشرعية كثيراً مما كانت تجهله العرب في الجاهلية، وكان ممن سمع أن نبياً يبعثه الله، ينسخ به الملل، ويختم به الرسل، وقد آن زمانه. فلما بعث الله تعالى خير الرسل، ونخبة العرب والعجم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حسده فجحده، وفيه أنزل الله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذلك رجل آمن بلسانه، وكفر بقلبه" ولأمية أخبار كثيرة. الإعراب يروى: "الملائك" بالرفع والنصب. فالرفع: على الابتداء، والخبر: "حولها" والجملة اعتراض بيت اسم "كأن" وخبرها. وسدر: خبر "كأن". والنصب: عطف على "برقع". شبه السماء والملائكة بالبحر. الملاك والملائكة: لغتان. والتاء في الملائكة، على حد القشاعمة والصياقلة، لتأنيث الجمع وقد تقدم القول، في اشتقاق "ملك" ووزنه، بما أغنى عن إعادته. ويروى: "تواكله القوائم" بنصب اللام على المضي، وتواكله بض اللام على الاستقبال. وهذه الجملة في موضع الصفة "لسدر" على حد قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وأنشد أبو علي في الباب. (162) ودوية مثل السماء اعتسفتها ... وقد صبغ الليل الحصى بسواد هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "ودوية مثل السماء"، يريد: أن هذه الدوية ملساء مستوية كالسماء، وفيه إشارة إلى تسميتهم السماء بالجرداء لآملاسها، والجرباء: لأجل كوكبها، وقد يوصف الشيء في حالتين، بصفتين مختلفتين. اللغة الدو والدوية: القفر، قيل لها ذلك، لأنها يسع فيها دوي، والذي يسمع فيها دوي الريح، وتقصف الرمال. ومعنى اعتسفتها: ركبتها على غير هداية، يقال: اعتسفت الأمر: ركبته من غير تدبير، يقال: عسفه يعسفه عسفاً، وتعسفه وآعتسفه، وأنشد ابن الأعرابي: وعسفت معاطنا لم تدثر وقال ذو الرمة: وردتُ اعتسافاً والثريَّا كأنَّها ... على قمَّةِ الرأسِ ابنُ ماءٍ محلِّقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وعسف فلان فلاناً: ظلمه، وعسف السلطان الرعيةن يعسف، واعتسف وتعسف: ظلم. المعنى يقول: قطع هذه الفلاة على غير هداية صبراً وتجلداً، وجعلها كالسماء في اتساعها وجردها، لأنها أرض جرداء جدبة، ومعنى: "صبغ الليل الحصى بسواد" ألبسه ظلمته، فصار له كالصبغ، وهذا بديع في الاستعارة. ومن هذه القصيدة: كأنَّ ديارَ الحيِّ بالرُّزق خلقةٌ ... من الأرضِ أم مكتوبةٌ بمدادِ إذا قلتُ تعفو لاحَ منها مهيجٌ ... علىَّ الهوى من طارفٍ وتلادِ وما أنا من دارٍ لميٍّ عرفتها ... بجلدِ ولا عيني بها بجمادِ أصابتكَ ميٌّ بعدَ جرعاءِ مالكٍ ... بوالجةٍ من غلَّةٍ وكبادِ إذا قلتُ بعدَ الشَّحطِ يا ميُّ نلتقي ... عدتني بكرهٍ أنْ رآكِ عوادِ وأنشد أبو علي في الباب. (163) ودوٍّ ككفِّ المشتري غيرَ أنَّهُ ... بساطٌ لأخماسِ المراسيلِ واسعُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "ودو ككف المشتري"، أراد: أنه خال لا شيء فيه، وهو المستوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 من الأرض، وخص كف المشتري، لأنها من النقد كالفقر الذي لا نبات به، ولا خمر، يعني إذا بسط كفه، فصفق براحته على راحة البائع، إذا اشترى منه علقاً. اللغة البساط: الأرض الواسعة البعيدة، بسر الباء وفتحها. وواسع: نفيض ضيق، يقال: وسعه يسعه ويسعه سعة، ويسع على مثال يفعل قليلة بكسر العين، وإنما فتحها حرف الحلق، ولو كانت "يفعل" لثبتت الواو، وصحت كما صحت في "يوجل" ويوحل. ويقال: شيء وسيع وأسيع: بمعنى واسع، ويقال: اتسع كوسع يتسع. وسمع الكسائي: الطريق ياتسع، أراد: يوتسع، فأبدلوا الواو ألفاً طلباً للخفة، كما قالوا: يا جل، واستوسع الشيء: وجده واسعاً، و: جعل بين السماء والأرض سعة. والسعة: الغنى، يقال: وسع عليه يسع سعة، ووسع كلاهما: رفة. وقوله: لأخماس أي: لسير الأخماس، وهو جمع خمس، والخمس ورد الماء في ليوم الخامس، وقيل: ورد الماء في اليوم الرابع. وهو قول أبي العباس الأحول، اعتد بأول الظمء. واعتد الأول بأول الري. يقال: ناقة رسلة، سلسة المشي، وناقة مرسال: كثيرة شعر الساقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وقبل البيت: فلمَّا تلاحقنا ولا مثلَ ما بنا ... منَ الوجدِ لا تنفضُّ منهُ الأضالعُ تخلَّلنَ أبوابَ الخدورِ بأعينٍ ... غرابيبَ والألوانُ بيضٌ نواصعُ وخالسنَ تباسماً إلينا كأنَّما ... تصيبُ به حبَّ القلوبِ القوارع ودوِّ ككفِّ المشتري غيرَ أنَّهُ ... بساطٌ لأخماسِ المراسيلِ واسعُ وأنشد أبو علي في الباب. (164) بل جوز تيهاء كظهر الحجفت هذا البيت لأبي النجم، الفضل بن قدامة العجلي، وعجل من بني بكر بن وائل. الشاهد فيه قوله: "كظهر الحجفت"، يريد: املاسها وأنها نبات فيها، ولا بنيان ولا جبل. اللغة جوز كل شيء: وسطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 والتيهاء: القفر، وهذه لياء منقلبة عن واو، كأنها تتوه من سلكها، أي تحيره، يقال: تاه توهاً، وفلاة أتاويه، كأنها جمع توه أوتواه. والحجفة: الترس، وأقرها تاء في الوقف على الأصل. وسيأتي القول عليها في وضعه إن شاء الله. وأنشد أبو علي في الباب. (165) ظهراهما مثل ظهور الترسين هذا البيت لهميان بن قحافة. الشاهد فيه "ظهراهما مثل ظهور الترسين" يريد: الاستواء والانبساط. وأنهما لا نبات بهما ولا خمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 اللغة المهمة: القفر. والقذف: البعيد. والمرت: الأرض التي لا تنبت، أو الأرض التي لا نبات فيها. والجمع: مروت وأمرات، وثناها إشعاراً لطولها واتساعها. الإعراب قوله: "مثل ظهور الترسين"، كل شيئين من شيئين، فتثنيتهما جمع، وهو الفصيح، قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) وتقول: ضربت رؤوس الزيدين ويجوز، ضربت رأسي الزيدين، وعليه بيت الفرزدق: بما في فؤادينا من الهمِّ والأسى ... فيبرأَ منهاضُ الفؤادِ المشعَّفُ ومنه قول عتبى بنت مالك: ولم نلق رحلينا ببيداءَ بلقعٍ ... ولمْ جوزَ الليلِ حيثُ يميلُ وقول الهذلي: فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ وقول الآخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 إذا كادَ قلبانا بنا يردانِ ويجوز ضربت رأس الزيدين، قال الشاعر: كأنَّه وجهُ تركيَّينِ قدْ غضبا ... مستهدفٌ لطعانٍ غيرَ تذبيبِ ومثله قول عمرو بن معد يكرب: طعنتُ جوادَ ابني دريدٍ كليهما ... وما أخذتني بالختونةِ عزَّتي وأنشد أبو علي من الباب. (166) أتركتَ أسعدَ للرِّماحِ دريئةً ... هبلتك أمُّكَ أيَّ جردٍ ترقعُ هذا البيت، نسبه أبو عبيد البكري لتأبط شراً، وينسب لسعدي بن الشمردل ابن شريك اليربوعي، وقيل هو للحهنية، وهو الصحيح. أنشده أبو زيد في "نوادره" واستشهد أبو علي بعجزه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 الشاهد فيه قوله: "أي جرد" وهو الثوب الخلق. اللغة قال أبو علي الفارسي، وأبو عبيد البكري، في هذا البيت: الحرد، بالحاء، وقال: من نادر ما قيل في الحرد، إنه الثقب، قاله الشيباني: في باب الحاء، والمعروف في الثوب والخلق: جرد بالجيم. والدرئية: حلقة يتعلم عليها الطعن، بالهمز من درأت، إذا: دفعت، لأن الرمح إذا خرقها، درأ كل جانب منها، فنفذ بينهما، قال قطري: فلقدْ أراني للرَّماحِ دريئةً ... منْ عنْ يميني مرَّةً وأمامي وقال عمرو بن معديكرب: ظللتُ كأنِّي للرِّماح دريئةٌ ... أقاتلُ عنْ أحسابِ جرم وفرَّتِ والدرية غير مهموزة: بعير يجعله الرامي بينه وبين الصيد، يستتر به، حتى يمكنه فيرميه، وهو من دريت، إذا اختلت، ومنه داريت فلاناً، إذا: =لاينته. وهبلته أمه: ثكلته أي فقدته، وهو في معنى الدعاء عليه. ورجل مهبل، إذا قيل له: هبلتك أمك، والمهبل: موضع الولد من الرحم، والمهبل: الآست. والمهبل أيضاً: الكثير اللحم. وقوله: ترقع، يقال: رقع الأديم والثوب، يرقعه رقعاً، ورقعه: ألحم خرقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وكل ما سددت من خلة، فقد رقعته ورقعته، قال ابن أبي ربيعة: وكن إذا أبصرنني أو أسمعني ... خرجن فرقعن الكوى بالمحاجر والعرب تقول: خطيب مصقع، أي يذهب في كل صقع من الكلام. وشارع مرقع، أي: يصل الكلام فيرقع بعضه ببعض. والرقعة: ما رقع به وجمعها: رقع ورقاع. والرقيع اسم السماء، وقد تقدم. وأنشد أبو علي في الباب. (167) ذريني وعلمي بالبلاد وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا هذا البيت لحسان بن ثابت، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه قوله: "بأخيل"، وهو "أفعل" نكرة، وليس له "فعلاء" ولم يصرفه، تشبيهاً "بأفعل" الذب له "فعلاء" نحو: أحمر. اللغة الأخيل: طائر أخضر، ويقال: هو الشقراق بكسر الشين، وجمعه: الأخايل. والعرب تتشاءم به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 وحكى أبو عبد الله حمزة بن حسن الأصبهاني، في "أمثاله" قال: "أشأم من الأخيل"، وهو الشقراق، وذلك أنه لا يقع على ظهر بعير دبر، إلا زل ظهره، وقال الفرزدق يخاطب ناقته: إذا قطنا بلغتنيه ابن مدرك ... فلقيت من طير العراقيب أخيلا ذنابى حسام أو جناحي مقطع ... ظهور المطايا يترك الصلب أخزلا ويروى: من طير الأشائم أخيلا ويقال: أشأم من طير العراقيب، وهو طير الشؤم عند العرب، وكل طائر يتطير به للإبل، فهو عرقوب، لأنه يعرقبها. وحكى الهمداني: أن الأخيل هو ابن حيدان الحميري. كان من أشراف حمير، ووجوهها، وفيه جرى المثل: "أشأم من الأخيل". وقيل: الأخيل، هو معاوية بن عبادة بن قيس بن عيلان، وإليه تنسب ليلى الأخيلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 وقيل: هي ليلى بنت عبد الله الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية وهو الأخيل، وإليه تنسب. المعنى يقول: اتركيني وطبيعتي، وعلمي بالبلاد، ما أنا كالأخيل الذي أتشاءم به. والصواب كسرها، لأنه يخاطب المرأة، ودل على ذلك صدر البيت. وأنشد أبو علي في باب ما أنث من الأسماء بالتاء، التي تبدل منها في الوقف الهاء في أكثر من اللغات. (168) بل جوز تيهاء كظهر الحجفت لأبي النجم، وقد تقدم. الشاهد فيه وقوفه على التاء، مراعاة للأصل، لأن الهاء الموقوف عليها تاء في الأصل. ألا تراهم لم يؤنثوا بالهاء شيئاً. والوقف من مواضيع التغيير، والوصل تجري فيه الأشياء على أصولها. ألا ترى أن من قال: هذا بكر، ومررت ببكر، فنقل الضمة والكسرة إلى الكاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 في الوقف، فإنه إذا وصل أجرى الأمر على حقيقته، فكان وجه الكلام، أن يقول: "الحجفة"، مثل فاطمة وضاربه، ولكنه أجرى الوقف مجرى الوصل، أنشد قطرب: الله نجاك بكفي مسلمت من بعدما وبعدما وبعدمت صارت نفوس القوم عند الغلصمت وكادت الحرة تدعى بالأمت وحكى عنهم: هذا طلحت والسلام عليك والرحمت. وقد قلبوا هذا الأمر فأجروا الوصل مجرى الوقف، من ذلك ما حكى سيبويه، من قولهم في العدد ثلاثة ربعه، وقالوا في الوصل: سبسبا وكلكلا، ومن أبيات الكتاب: ضخم يحب الخلق الأضخما ولما رأينا علم التأنيث في الوصل تاء نحو: قائمتان وقائمتكم، وفي الوقف هاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 نحو: قائمه وضاربه، لنا أن الهاء في الوقف بدل من التاء في الوصل، وأما قول الشاعر: العاطفونة حين ما من عاطف ... والمسبغون يداً إذا ما أنعموا ففيه قولان: أحدهما: أنه أراد: أن يجريه في الوصل على حد ما يكون عليه في الوقف، وذلك أنه يقال في الوقف: هؤلاء مسلمونه وضاربونه، فيلحق الهاء لبيان حركة النون، كما أنشدوا: أهكذا يا طيبَ تفعلونهْ ... أعللاً ونحنُ منهلونهْ فصار القدير: العاطفونه، ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث، فلما احتاج لإقامة الوزن إلى حركة الهاء قبلها تاء، كما تقول في الوقف: هذا طلحه، فإذا وصلت، صارت الهاء تاء، فقلت: هذا طلحتنا. فعلى هذا قالوا: العاطفونة، ويؤنس بهذا القول، وما أنشدوه من قوله: منْ بعدما وبعدما وبعدمتْ أراد: بعدما، فأبدل الألف في التقدير هاء، فقال: مه، كما قال الآخر: قد أوردتْ منْ أمكنهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 من ها هنا ومنْ هنهْ إنْ لمْ أروِّها فمهْ يريد: ومن هنا، فأبدل الألف في الوقف هاء، وقال: من هنه، فأما قوله "فمه" فالهاء فيه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد، فما أي 'ن لم أرو هذه الإبل، من ها هنا ومن هنا فما أصنع. منكراً على نفسه ألا يرويها. فحذف الفعل الناصب "لما" التي للاستفهام. والوجه الثاني: "إن لم أروها فمه" أي: فكف عني، فصار التقدير على هذا: من بعدما وبعدمه، ثم إنه أبدل الهاء تاء في الوقف، لموافقة بقية القوافي لتي تليها ولا تختلف، وشجعه على ذلك شبه الهاء المقدرة في قوله: وبعدمه بهاء التأنيث في طلحه وحمزه، ولما كانوا يقولون في بعض المواضع: هذه طلحت وهذه حمزت قال هو أيضاً: "وبعدمت" فأبدل الهاء المبدلة من الألف تشبيهاً لفظياً، كما قال: يحدو ثمانيَ مولعاً بلقاحها ... حتَّى هممنَ بزيغةِ الإرتاجِ فلم يصرف "ثمانياً" تشبيهاً بجواري لفظاً. قال سيبويه: "وليس شيء يضطرون إليه، وإلا هم يحاولون به وجهاً" وإذا جاز أن تشبه هاء "من بعدمه" بتاء التأنيث، حتى يقال فيها: "وبعدمت" جاز أن تشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 هاء "العاطفونه" التي هي لبيان حركة النون، بهاء التأنيث، وفتحت التاء، كما فتحت في آخر ربت وثمت وكيت وذيت. وقال قوم: إنما هي "العاطفون" مثل: القائمون والقاعدون، ثم إنه زاد التاء كما قال الأخر: نوِّلي قبلَ نأيِ دارٍ، جمانا ... وصليهِ كما زعمتِ تلانا أراد: الأن، وهذا الوجه أشد انكشافاً من الأول. وقال أبو زيد: "سمعت من يقول: حسبك تلان، فيزيد التاء" قال: إذا اغتزلتْ منْ بقامِ الفريرِ ... فيا حسنَ شملتها شملتا فيه: أنه شبه هاء التأنيث في "شملة" بالتاء الأصلية، نحو بيت وصوت، فألحق في الوقف ألفاً، كما تقول: رأيت بيتاً، "فشملتا" على هذا منصوبة على التمييز كما تقول: يا حسن وجهك وجهاً، أي: من وجه. وأنشد أبو علي في الباب. (169) لقدْ ولدَ الأخيطلَ أمُّ سوءٍ ... على بابِ استها صلبٌ وشامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 هذا البيت لجرير، يهجو الأخطل. استشهد أبو علي بصدره، على حذف علامة التأنيث، من قوله "ولد" ووجه الكلام "ولدت" لكنه على الضرورة، وإنما يحسن مثل هذا فيما لا يعقل، لأن تأنيثه غير حقيقي، وقد تقدم هذا البيت، وصلته، والكلام عليه بما أغنى عن إعادته. وأنشد أبو علي في الباب. (170) قرنبى يحكُّ قفا مقرفٍ ... لئيمٍ مآثرهُ قعددِ هذا البيت للفرزدق، يهجو عيطة بن الخطفى، والد جرير. الشاهد فيه ، قوله "لئيم مآثره"، ولم بقل "لئيمة"، حذف علامة التأنيث من اسم الفاعل، كما تحذف من الفعل في قولهم، قال النساء، (وجاءهم البينات) ، وشبهه، ولو جاء في الكلام "لئيمة" لكان جيداً، وأما إذا تقدم المؤنث فيقبح تذكير فعله في الكلام، لا يحسن: الريح هب، ولا الشمال سكن، إلا في ضرورة الشعر، كما قال: ولا أرض أبقل إبقالها حمل الأرض على المكان، وله نظائر قد ذكرناها قبل. اللغة المقرف: من كان أبوه غير كريم، وكانت أمه كريمة، واللئيم: الذي جمع الشح ومهانة النفس، ودناءة الآباء. والمآثر: واحدها مأثرة، وهي المكرمة، يأثرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 قوم عن قوم. والقعد والقعدد: الجبان القاعد عن الحرب والمكارم. والقعدد: الخامل. والقعدد والقعدد: هو أقرب القرابة إلى الميت. وقال سيبويه: قعدد: ملحق بجعشم، ولذلك ظهر في المثلان. وقال اللحياني: رجل ذو قعدد، إذا كان قريباً من القبيلة، يقال: هو أقعدهم، أي أقربهم إلى الجد الأكبر. وأطرفهم وأفسلهم، أي: أبعدهم من الجد الأكبر. والقرنبى: الجعل، وقيل: دويبة تشبهه، وقيل: هو خنفس أرقط، طويل القوائم، وجمعه: جعلان، وماء جعل، فيه الجعلان، ومجعل أيضاً، وأرض مجعلة: كثيرة العجلان، ورجل جعل: أسود دميم، مشبه بالجعل، وقيل: هو اللجوج، لأن الجعل يوصف باللجاجة، يقال: رجل جعل. وجعل الإنسان: رقيبه، وفي المثل: "سدك بامرئ جعله". يضرب للرجل يريد الخلا، لطلب حاجة، فيلزمه أخر يمنعه، من ذكرها أو عملها. وقال أبو زيد: إنما يضرب هذا مثلاً للنذل يصحب مثله، قال: إذا أتيتُ سليمى شبَّ لي جعلٌ ... إن الشقيَّ الَّذي يصلي بهِ الجعلُ وكل ذلك على التمثيل بالجعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 المعنى قوله: يحك قفا مقرف، أراد بالمقرف: نفسه، لأنه إذا حك قفاه فقد حك قفا مقرف، ومثل للأعشى، يمدح سلامة ذا فائش الحميري: يا خيرَ من يركبُ المطيَّ ولا ... يشربُ كأساً بكفِّ منْ بخلا لأنه إنما شرب بكفه، وهو غير بخيل، فلم يشرب بكف من بخل. وهذا البيت قصيدة أولها: غشيت المنازل من مهدد ... كوحي الزبور بذي الغرقد وفي هذا الشعر: ألمْ ترَ أنَّا بني دارمٍ ... زرارةُ منَّا أبو معبدِ ومنَّا الَّذي منعَ الوائدا ... تِ وأحيى الوئيدَ لمْ يوءدِ ألسنا بأصحابِ يوم النسا ... رِ وأصحابِ ألويةِ المربدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 ألسنا الَّذين تميمٌ بهمْ ... تسامى وتفخرُ في المشهدِ وناجيةُ الخيرِ والأقرعانِ ... وقبرٌ بكاظمة الموردِ إذا ما أتى قبرهُ عائدٌ ... أناخَ على القبرِ بالأسعدِ أتطلبُ مجدَ بني دارمٍ ... عطيةُ كالجعلِ الأسودِ ومجدُ بني دارمٍ دونهُ ... مكانُ السِّماكينِ والفرقدِ وأنشد أبو علي في الباب. (171) فلاقى ابن أثنى يبتغي مثل ما ابتغى ... من القوم مسقي السمام حدائده هذا البيت لمضرس الأسدي. الشاهد فيه "مسقي السمام"، حذف الهاء من "مسقية"، كما تقدم في البيت الذي قبله، ولأن الحدائد تأنيثها غير حقيقي. اللغة السمام: جمع سم، مثل كلب وكلاب. والحدائد: جمع حديدة، أراد بها نصال سهامه. المعنى وصف لصاً لاقى لصاً مثله، يريد كل واحد منهما ما يريد الأخر، وقوله "ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أثنى"فيه معنى التعظيم له، والتفخيم لأمره، كما يقال: ابن الرجل، والمراد بالحدائد: ما يدفع به عدوه. وبمسقي السمام: أن الكليم بها غير سليم. الإعراب يروى: مسقي السمام، رفعاً ونصباً. فمن رفعه جعله فاعلاً، ومن نصب جعله نعتاً "لابن أنثى" أو بدلاً منه. وأنشد أبو علي في الباب. (172) وكنَّا ورثناهُ على عهدِ تُبَّعٍ ... طويلاً سواريهِ شديداً دعائمهْ هذا البيت للفرزدق. الشاهد فيه حذف الهاء من "طويلة وشديدة" والقول فيه كالقول في الذي قبله. اللغة العهد: الزمان. والعهد: الالتفاء. والعهد: العرفان. يقال: عهد الشيء عهداً: عرفه، ويقال: عهدي في مكان كذا، وفي حال كذا. والعهد: المنزل المعهود به الشيء، سمي بالمصدر، قال ذو الرمة: هلْ تعرفُ العهدَ المحيلَ ارسمهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 والعهد: أول المطر الموسمي. والعهد والعهدة والعهدة: مطر يدرك آخر بل أوله، وقيل: هو كل مطر بعد مطر، وقيل: هي المطرة تكون أولاً لما يأتي بعدها، وجمعها: عهاد، وعهود، قال: أراقتْ نجومُ الصَّيفِ فيها سجالها ... عهاداً لنجمِ المربعِ المتقدِّمِ والعهد: الوصية، قال الله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) يعني الوصية والأمر، والعهد: التقدم إلى المرء في الشيء. والعهد: الذي يكتب للولاة، وهو مشتق منه، والجمع: عهود إليه عهداً، والعهد الموثق، والجمع كالجمع. والعهد: الحفاظ ورعاية الخدمة. وفي الحديث: "حسن العهد من الإيمان". والعهد: الأمان قال الله في كتابه العزيز: (لا ينال عهدي الظالمين) . وفيه: (فأتموا إليهم عهدهم) . وعاهد الذمي: أعطاه عهداً، فإذا أسلم سقط ذلك الاسم. المعنى وصف مجده بالقدم، والثبات على مرور الدهر، واستعار له سواري ودعائم، وجعله كالبناء المحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وتبع: ملك العرب في أول الزمان، وسمع أن تبعاً عمل الدروع، وقيل: أمر بعملها، ولم يصنع بيده، لأنه كان أعظم شأناً من أن يصنع بيده. والتبع والتبُّع جميعاً: الظل، لأنه يتبع الشمس، قالت الجهينية: يردُ المياهَ حضيرةً ونفيضةً ... وردَ القطاةِ إذا اسمألَّ التبعُ وفلان تبع نساء، إذا جد في طلبهن، حكاها "كراع" في "المنجد". وقد ذكرت ما في هذا البيت فيما تقدم. وأنشد أبو علي في الباب. (173) عهدي بها في الحيِّ قدْ سربلتْ ... بيضاءَ مثلَ المهرةِ الضامرِ هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. الشاهد فيه قوله: "المهرة الضامر"، ولم يقل الضامرة، لأنه جاء على النسب، أي ذات ضمور. وليس عند البصريين فاعل بمعنى مفعول. والكوفيون يرون ذلك، ويقولون: فاعل بمعنى مفعول كثير، كقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 (من ماء دافق) ، يعني مدفوق، و (لا عاصم اليوم من أمر الله) أي: لا معصوم. والبصريون، يقدرون: ذو دفق، وذو عصمة. وأما قولهم: طالق وطامث. فالبصريون يحملونه على النسب كالأول والكوفيون يقولون: ترك تأنيثه، إذ لا مشاركة للمذكر فيه. وقولهم: ناقة ضامر، وجمل ضامر، وناقة بازل وجمل بازل، وكثير من شبهه، يكسر عليهم قولهم. اللغة سربلت: كسيت، والسربال: القميص والدرع وكل ما لبس فهو سربال. والبياض معروف، وفعله: أبيض وابياض، ويقال: باضني فبضته، أي: كنت أشد منه بياضاً، وأباضت المرأة: ولدت اليبض، والأبيضان: اللبن والماء قال: ولكنما يمضي لي الحول كاملاً ... ومالي إلا الأبيضين شراب والضمر: الهزال، ولحاق البطن، والضامر البطن: اللاحق الجسم. الإعراب "عهدي" مرتفع بالابتداء، "وقد سربلت" جملة في موضع الحال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 الضمير المجرور، وهذه الحال سادة مسد الخبز، أي: عهدي بها مسربلة على حد قولك: أكلك التفاحة نضيجة، ومثله قول الآخر: عهدي بها الحيَّ الجميعَ وفيهمُ ... قبلُ التفرُّقِ ميسرٌ وندامُ فعهدي: مرتفع بالابتداء "وفيهم قبل التفرق ميسر وندام"جملة في موضع الحال، سادة مسد الخبز. ولا تكون الحال في المبتدأ، إلا إذا كان المبتدأ مصدراً، أو اسماً مضافاً إلى المصدر. "فعهدي": مصدر مضاف إلى الفاعل، وهو ضمير المتكلم. وإنما جاز أن تنوب الحال مناب خبر المبتدأ، لأن المصدر ينوب عن الفعل والفاعل، فإذا قلت: جلوسك متكئاً، فقد ناب جلوسك، عن قولك: جلست، وكذلك "عهدي" عن عهدت، ولا يجوز رفع "متكئ" مع قولك جلوسك، لأن الخبز إنما يرتفع، إذا كان هو الأول، كقولك: جلوسك حسن، ألا ترى أن الجلوس ليس بالمتكئ، والجلوس هو الحسن. وانتصب "بيضاء": على الحال من الضمير في "سربلت"، ويحتمل أن تكونا حالين من الضمير والمجرور، تقديره: مسربلة بيضاء، وهما خبر بعد خبر. ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون "قد سربلت" في موضع الحال، كما تقدم، والعامل فيه "عهدي" نفسه، غير أن خبره محذوف. ووجه ثالث: أن يكون العامل فيه، "عهدي" أيضاً، غير أنه لا يقدر له خبر، لاستغناء الكلام به، ومشابهة المصدر بعمله الفعل، كما لا يخبر عن الفعل نفسه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 فكذلك لا يخبر عما ضارعه، وفي هذا الجواب الثالث شدة، عليك أن تسأل عنه فيقال: إذا كان مبتدأ اقتضى الخبر. والجواب أن يقال، إنهم قالوا: أقائم أخواك؟ فابتدؤه ولم يخبروا عنه. فإن قلت: إن الفاعل سد مسد الخبر، فناب مرفوع عن مرفوع، وقد سربلت، ليس مرفوعاً، فينوب عن الخبر. قلنا: لم ينب "أخواك" في قولك: "أقائم أخواك" عن خبر المبتدأ، من حيث كان مرفوعاً، وإنما ناب عنه، لأن الفائدة صحت به، وجنيت منه، كما تجنى من خبر المبتدأ، فلما كانا كذلك، تساويا في حذف خبر المبتدأ. أولا تعلم أنهم قد قالوا: لعمرك لأقومن، فحذفوا خبر المبتدأ، ولم ينب عنه مرفوع، ولا منصوب ولا مجرور، وإنما ناب عنه جواب القسم، وهو جملة غير ذات موضع أصلاً. فقد علمت بهذا أن الفاعل لم ينب عن خبر المبتدأ من حيث كان مرفوعاً، وإنما ناب عنه، لاستقلال الكلام به، ومصيره إلى معنى: "أقام أخواك"؟ كما أن معنى قولهم: عهدي به ذا مال، راجع إلى معنى عهدته ذا مال. فإن قيل: وأنت أيضاً، إذا قدرت له خبراً محذوفاً، قد أعلمته عمل الفعل، وقد أعملته عمل الفعل، وقد أخبرت مع ذلك عنه. أولا تراك تقول: ضربي زيد أبي حسن، وشتمي عمراً قبيح، فتخبر عن المصدر، وقد أعلمته. قيل: مثل هذا يجوز، وإن كان غيره أقوى منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 وبعد البيت: قدْ نهدَ الثديُ على نحرها ... في مشرقٍ ذي صبح نائرِ لوْ أسندتْ ميتاً إلى نحرها ... عاشَ ولمْ ينقلْ إلى قابرِ حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رأوا ... ي عجباً للميتِ النَّاشرِ وأنشد أبو علي في الباب. (174) وقدْ تخذتْ رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفاً كأفحوصِ القطاةِ المطرِّقِ هذا البيت للممزق العبدي. الشاهد فيه "القطاة المطرق" أي: ذات تطريق، فحمله على النسب، كما تقدم، في البيت الذي قبله. اللغة تخذت: تعلت، حذفت فاء الفعل من الاتخاذ، فاستغنى بذلك عن ألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 الوصل، وقل تعالى: (لو شئت لتخذت عليه أجراً) . هو: افتعلت، من قوله: "وقد تخذت رجلي"، وليس من لفظ الأخذ في شيء. على أن أبا إسحاق، قد ذهب إلى أن "اتخذت" من لفظ الأخذ، كما هو من معناه. وأنكر ذلك أبو علي، والقول ما قاله في الإنكار، على أنه قد أنشد علي بن سليمان قول قعنب: ما بالُ قومٍ صديقٍ ثمَّ ليسَ لهمْ ... دينٌ وليسَ لهمْ عهدٌ إذا اتَّمنوا وأنشد ابن الأعرابي: في دارهِ تقسمُ الأزوادُ بينهمُ ... كأنَّما أهلنا منها الَّذي اتَّهلا معناه: أهلنا مثل أهله عنده، فهذا "افتعل" من الأهل، وقد أجراه مجرى ذوات الواو، كاتعد واتزن وذلك أنه لما قال: ايهل وايتمن، أشبه "افتعل" من الواو، في لغة أهل الحجاز، وهو قولهم: ايتعد ايتزن، فلما صروا إلى لفظه شابه ذو الهمزة ذوات الواو، فأدغم تشبيهاً به، لأن الموضع في الإدغام للواو. ومثل "تخذت رجلي" قول صخر الهذلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 تجهنا غاديينِ فسايلتني ... بواحدها وأسألُ عنْ تليدي تجهنا: أي، اتجهنا، فحذف فاء "افتعل" من الوجه، واستغنى بذلك عن همزة الوصل، وبقي تجهنا: تعلنا، ومثله: تقيت أتقى، وزنه: تعلت اتعل، وأنشد أبو زيد: قصرتُ له القبيلةَ إذْ تجهنا ... وما ضاقتْ بشدَّتها ذراعي وحكى أبو علي، عن أبي زيد، تجه يتجه، فالتاء على هذه أصل، ومثاله: فعل يفتعل. والغرز للرحل، مثل الركاب للسرج. وقوله نسيفا، أراد: موضعاً نسيفا، ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، والنسيف: الموضع الذي انتتف شعره. والقطاة: طائر معروف، وجمعها: قطاً، والقطو: مشيها، وقطا القطا: صوت، وطرقت القطاة، فهي مطرق: كان خروح بيضها، جاء بها الشاعر على النسب، كما تقدم، ولو جاء بها على الفعل، لقال: مطرقة، والطرق أيضاً: معالجة الولادة، وطرقت الحامل، فهي مطرق، إذا خرج نصف الولد. المعنى وصف ملازمته ركوب ناقته، حتى آثرت رجله في جنبها أثراً مثل أفحوص القطاة، وهو المرضع الذي تفرخ فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 وأنشد أبو علي في الباب. (175) ترتج ألياه ارتجاج الوطب الشاهد فيه، قوله "الياه" في التثنية، ومن حق تاء التأنيث إذا تزامنت إذا لزمت في الواحد أن تلزم في التثنية، قال أبو علي: قالوا: أليان وخصيان، فإذا أفردوا: آلية، وخصية، فيحتمل أن يكون هذا على من قال في الواحد: ألي، ومن قال: ألية، قال في التثنية: أليتان، هذا قول أبي العباس. اللغة : ألي الرجل: إذا عظمت أليتاه، ورجل آلى، مثل أعمى، وامرأة عجزاء، وهذا كلام العرب. وأجاز أبو عبيدة: امرأة ألياء. ويقال: كبش أليان. وشاة أليانة وألياء. وقوله: ترتج ألياه: ترتج لعظمها ورخاوتها ارتجاج الوطب، والوطب: زق اللبن وارتجاجه: اضطرابه، وهو مثل قول الآخر: فأمَّا الصدورُ لا صدورَ لجعفرٍ ... ولكنَّ أعجازاً شديداً ضريرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 يقول: قوتهم، في إعجازهم، وليست في صدورهم، فهم يلقون منها مشقة. وقبل هذا البيت: كأنَّما عطيَّة بنُ كعب ظعينةٌ واقفةٌ في ركبِ والظغينة: المرأة، سميت بذلك، لأنها يظعن بها، وقد كان يجب أن يقال: ظغين، بغير هاء، لأنها في تأويل مظغون بها، و"فعيل" إذا كان صفة للمؤنث، في تأويل "مفعول" كان بغير هاء، نحو: امرأة قتيل وجريح، ولكنها جرت مجرى الأسماء، حين صارت جارية على غير موصوف، كالذبيحة والنطيحة. جعله، كمرأة واقفة في ركب، لأنها تتبخر، إذا كانت كذلك وتعظم عجيزتها ليرى حسنها، ألا ترى إلى قول الآخر: تخطِّط حاجبها بالمدادِ ... وتربطُ في عجزها مرفقهْ وأنشد أبو علي في الباب. (176) كأنَّ خصييهِ من التدلدلِ ... ظرفُ عجوزٍ فيهِ ثنتا حنظلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 هذا الرجز لجندل بن المثنى الطهوي: الشاهد فيه ، قوله: "خصييه" كالبيت الذي قبله، قال الأخر: كأنَّ خصييهِ إذا تدلدلا ... أثفيَّتانِ تحملانِ مرجلا وقال آخر: لستُ أبالي أنْ أكونَ محمقه ... إذا رأيتُ خصيةً معلَّقه وقد جاء "خصي" في الواحد، بلا هاء، وهو قليل، قال: ألمْ يلهِ خصيُ الطَّابخيِّ وأيرهُ ... بني جاشعٍ عنَّا رؤوسَ الثَّعالبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 وقال أبو العباس: من قل "خصية": قال في التثنية: خصيتان، ومن قال خصي: قال في التثنية: خصيان. وقوله: "فيه ثنتا حنظل" أخرج التثنية على أصلها، وذلك أمكنك فيها انتظام العدد، وبيان النوع، غنيت بقليل اللفظ عن كثيره، أي غنيت عن اثنا رجال، برجلين، إذا قولك: رجلان، لفظهما يدل على المقدار والنوع، فأغنى ذلك اللفظ عن ذكر المقدار الذي يضاف إلى النوع، فثوب يدل على الواحد، من جنسه، وامرأتان، يدل على اثنتين من هذا الجنس، فاستغني بذلك عن قولهم: واحد أثواب، وثنتا نسوة. وأما ثلاثة فصاعداً، فليس فيه لفظ يدل على النوع والمقدار جميعاً. ويريد بقوله: "كأن خصييه، بما عليهما من الصفن، أو كأن ما عليهما منه سحق جراب فيه ثنتا حنظل، فحذف اختصاراً واكتفاء بعلم السامع. وأنشد أبو علي في باب دخول التاء، للفرق على اسمين غير وصفين، في التأنيث الحقيقي، الذي لأنثاه ذكر. (177) المرءُ يبليهِ بلاءَ السربالْ ... مرُّ اللَّيالي وانتقالُ الأحوالْ هذا البيت للعجاج، وهما شطر السريع من العروض الثانية، وبعدهما: إنْ لمْ تعقهُ عائقاتُ الأجالْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 استشهد أبو علي بالبيت الأول. الشاهد فيه استعمال "المرء" بالألف واللام، وهي اللغة المشهورة، وإذا لم تدخل الألف واللام، قلت: هذا امروء، ورأيت بامرئ، فتتبع حركة الراء، حركة الإعراب. وفيه لغة ثالثة، وهي أن تقول: هذا مرء، ومررت بمرء ورأيت ورأيت أمرأً. ولغة رابعة: وهي أن تقول: هذا امرأ، ورأيت امرأً، ومررت بامرإ، فتكون الراء مفتوحة، ويجري الإعراب على الهمزة، قال الشاعر: بنيْ امرأٌ والشامُ بيني وبينهُ ... أتتني ببشرى بردهُ ورسائله فأسكن الميم، وفتح الراء، وضم الهمزة. وقال محمد بن الجهم: عن الفراء، قال: أنشدني أبو ثروان: أنتَ امرأٌ منْ خيارِ النَّاسِ كلِّهمُ ... تعطي الجزيلَ وتعطي الحمدَ بالثَّمنِ قال: وبعض قيس يقولون: الامرأ الصالح، والامرأة الصالحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وحكى الفراء أيضاً: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء، يتبع حركة الميم، حركة الهمزة، تكون الراء ساكنة. اللغة يقال: بلي الثوب بلى، وبلاء: إذا أخلق، وأبليته أنا، والبلاء أيضاً: الاختبار. أنشد أبو علي في الباب. (178) فإن الغدر في الأقوام عار ... وإن المرء يجزأ بالكراع هذا البيت لبشر بن أبي خازم، وقيل: لجارية بن مر الطائي، ويكنى أبا حنبل، وهو الصحيح. وأنشده أبو عبيدة: "بأن الغدر". الشاهد فيه ثبات الألف واللام في "المرء" وقد تقدم القول فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 اللغة الغدر: ضد الوفاء بالعهد، يقال: غدره، وغدر به، يغدر. ورجل غادر وغدار وغدير وغدور. وكذلك الأثنى بغير هاء. وفي النداء: ياغدر، وفي المؤنث: يا غدار. والعار: كل شيء لزم عيب، وألفه منقلبة عن ياء، يدل على جمعه، على أعيار، قال: ونبذت شر بني تميم منصباً ... دنس المروءة ثابت الأعيار ويقال: جزأت بالشيء، أجزأ جزأ: اكتفيت به. وأجزأ الشيء: كفى. والكراع: مؤنث، هو من الدواب ما دون الكعب، ومن الإنسان ما دون الركبة. وقال الليحاني: هو مما يذكر ويؤنث "ولم يعرف الأصمعي التذكير فيه. وقال مرة أخرى: هو مذكر لا غير. وقال سيبويه: "أما كراع، فإن الوجه فيه ترك الصرف، ومن العرب من يصرفه، يشبهه بذراع، وهو أخبث الوجهين". يعني أن الوجه، إذا سمي به إلا يصرف، لأنه مؤنث سمي به مذكر. والجمع: أكرع، وأكارع جمع الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وأما سيبويه [فإنه جعله] مما كسر على ما لا يكسر مثله، فراراً من جمع الجمع. وقد يكسر على كرعان. والكراع من الغنم والبقر، بمنزله الوظيف من اليل والإبل والبغال والحمير. وكراعاً الجندب: رجلاه، وكراع الأرض: ناحيتها. الكراع: كل أنف سال فتقدم، من جبل أو حرة. وكراع كل شيء: طرفه. والجمع في هذا كله: كرعان، وأكارع. الكراع: اسم لجمع البخيل والسلاح. والكراع والكرع: ماء السماء. وقيل: هو الذي تخوضه الماشية بأكارعها. وكل خائض ماءٍ: كارع. وكراع النعيم: موضع. ابن كراع: من فرسان العرب، ومن شعرائهم، وكراع: اسم أمه. وقال سيبويه: "هو من القسم الذي يقع فيه النسب (إلى الثاني) ، لأن تعرفه، إنما هو كابن الزبير وشبهه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 المعنى يقول: الغدر لا يرضى به الأحرار، لأنه عار على آتيه، وأن المرء يجزأ بأدون الأشياء صيانة لعرضه. وقبل البيت ما يدل عليه، وهو قوله: لقد أتيت أغدر في جذاع ... وإن منيت أمات الرباع جداع: السنة الردئة. وأمات: مختص بما لا يعقل. والجداع أيضاً: الموت. ويروى: "في جداع". والرباع: أولاد الإبل التي نتجت في الربيع وأبو حنبل هذا الشاعر هو الذي وفي لامرئ القيس بن حجر، وهو الذي يقول فيه امرؤ القيس: أحللتُ رحلي في بني ثعلْ ... إن الكرامَ للكريمِ محلّْ فوجدتُ خيرَ الناسِ كلهمُ ... نفساً أوفاهمْ أبا حنبلْ أصدقهمْ قولاً وأبعدهمْ ... شراً وأوانَ بخلْ وأنشد أبوعلي في الباب. (179) يظلُّ مقاليتُ النِّساءِ يطانهُ ... يقلنَ ألا يلقى على المرءِ مئزرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 وهذا البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي. الشاهد فيه كالشاهد في البيت الذي قبله، وهو قوله: "المرء"، بالألف واللام. وقد جاء في كتاب الله تعالى منه مواضيع، من ذلك قوله سبحانه "بي المرء وزوجه". و (يفر المرء من أخيه) و (ينظر المرء ما قدمت يداه) وهي اللغة الفصيحة الكثيرة، وقد تقدم القول فيها. المقاليت: جمع مقلات، على مثال "مفعال" وهي التي لا يعيش لها ولد. والقلت: الهلاك، ومنه الحديث: "إن المسافر ومتاعه على قلت، إلا ما وقى الله". ومعنى يطأنه: يمشين عليه، لأنهم يقولون: إن المقلات إذا وطئت الميت لم يمت. وقوله: "ألا يلقى على المرء مئزر" معنى: هلا ستر، وألا: للتحضيض. وأنشد أبو علي في الباب. (180) باتت على إرم عذوبا ... كأنها شيخة رقوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 هذا البيت لعبيد بن الأبرص الأسدي. استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه قوله: "شيخة"في المؤنث، شيخ للمذكر. فدخلت تاء التأنيث، فرقاً بين المذكر والمؤنث، وقال آخر: وتضحكُ منِّي شيخةٌ عبشميةٌ ... كأن لمْ ترى قبلي أسيراً يمانيا المعنى وصف عقاباً، في موضع مرتفع كالمنار، وهو: الإرم، شبهها بشيخة رقوب، وهي التي لا ولد لها. وقيل التي ترقب بعلها ليموت فترثه. والرقوب من الإبل: اليت لا تدنو إلى الحوض من الزحام، سميت بذلك، لأنها ترقب الإبل، فإذا شربت، شربت بعد ذلك، وذلك من ترمكها. والعذوب والعاذب: الذي بينه وبين السماء ستر، قال النابغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 الجعدي، يصف ثوراً: فباتَ عذوبا للسماءِ كأنَّهُ ... سهيلٌ إذا ما أفردتهُ الكواكبُ وفرس عذوب، والجمع: عذب: لم يأكل من شدة العطش. وقال ثعلب: العذوب من الدواب: الذي يرفع رأسه فلا يأكل ولا يشرب. وكلا المعينين يصح في البيت. وقبل البيت: فذاكَ عصرٌ وقدْ تراني ... تحملني نهدةٌ سرحوبُ مضبرٌ خلقها تضبيرا ... ينشقُّ عن وجهها السَّبيبُ وعبيد بن الأبرص، من المعرين، عاش ثلاث مئة سنة وخمسين سنة قتله المنذر ابن ماء السماء اللخمي. وخبره: أن المنذر كان ينادمه رجلان من بني أسد. أحدهما: عمرو مسعود، والآخر: خالد بن المضلل، فأغضباه يوماً في المنطق. فأمر أن يحفر لكل واحد نهما حفرة بظهر الحنيرة، ويدفنا فيها حيين، فعل ذلك بهما، فلما أصبح سأل عنهما، فأخبر بهلاكهما، فتندم، ثم ركب حتى نظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 إليهما، فأمر ببناء الغريين عليهما، وجعل نفسه يومين في السنة، يجلس فيهما عند الغريين، سمى أحدهما يوم النعيم، والأخر يوم بؤس. فأول ما يطلع عليه يوم نعيمه، يعطيه مئة من الإبل. وأول ما يطلع عليه، يوم بؤسه، يعطيه رأس ظربان أسود، ثم يأمر فيه فيذبح، ويطلى بدمه الغريين، فلبث على ذلك برهة، ثم إن عبيدة بن الأبرص، كان أول من أشرف عليه، في يوم بؤسه. فقال: هلا كان المذبح لغيرك، يا عبيد!. فقال: "أتتك بحائن رجلاه" فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر: أو أجل قد بلغ أناه. ثم قال له: أنشدني، فقد كان شعرك يعجبني. فقال عبيد: "حال الجريض دون القريض"، فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر: قد أمللتني، فأرحني قبل أن آمر بك. فقال عبيد: "من عزبر" فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر: أنشدني من قولك. أقفرَ منْ أهلهِ ملحوبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 فقال: أقفرَ منْ أهلهِ عبيدُ ... فليسَ يبديَ ولا يعيدُ فقال له المنذر: أنه لا بد من الموت. ولو عن لي النعمان يعني: في يوم بؤسي لذبحته، فاختر لنفسك قتلة. فقال: اسقني الخمر، وافصدني في أكحلي. ففعل وطلى بدمه الغريين، ولم يزل المنذر كذلك، حتى مر به رجل من طيئ، يقال له: حنظلة بن أبي عفر. فقال له: أبيت اللعن، إني والله أتيتك زائراً، ولأهلي من خيرك مائراً، فلا تكن ميرتهم قتلي. فقال: لابد من ذلك، فسلني حاجة قبله، أقضها لك. فقال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي، وأحكم من أمرهم ما أريد، ثم أصير إليك. فتنفذ في حكمك. فقال: ومن يكفل بك حتى تعود؟! فنظر في وجوه جلسائه، فعرف شريك بن عمرو، أبا الحوفزان بن شريك الشيباني، فقال أبيات أولها: يا شريكٌ بنَ عمرو ... ما من الموتِ محالهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 يا شريكٌ بنَ عمروٍ ... يا أخا منْ لا أخا لهْ فوثب شريك، فقال: أبيت اللعن، يدي بيده، ودمي بدمه، إن لم يعد إلى اجله، فأطلقه المنذر. فلما كان للعام القابل، جلس في مجلسه، ينتظر حنظلة أن يأتيه، فأبطأ، فأمر بشريك، فقرب فقرب ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم، فتأملوه، فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفناً، متحنطاً، نادته تندبه، وقد قامت نادبة شريك أيضاً. فقال له: ما الذي حملك على أن عرضت بنفسك لسفك دمك؟!. فقال له: أبيت اللعن، لئلا يقال: مات الكرام، وذهب الكرم. ثم أقبل على حنظلة، فقال له: ما الذي حملك على الرجوع، وقد علمت أنك، إنما ترجع إلى الموت؟!. فقال: لئلا يقال ذهب الوفاء وأهله. فأطلقهما وأحسن إليهما، وأبطل سنته الذميمة اللئيمة. والغزي: كل بناء حسن، والغزي: كل صنم طلي بدم، والغزي: صبغ أحمر. وأنشد أبو علي في الباب. (181) ومركضةٌ صريحيٌّ أبوها ... تهانُ لها الغلامةُ والغلامُ الشاهد فيه "الغلامة والغلام" دخلت تاء التأنيث، فرقاً بين المذكر والمؤنث، كما تقدم في الذي قبله، ومثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 فلم أرَ عاماً كانَ أكثرَ هالكاً ... ووجهَ غلامٍ يشتري وغلامهْ ويروى: "مركضة" بضم الميم، وكسر الكاف، ومعناه: الذي يركض ولدها في بطنها. ويروى: "ومركضة" بكسر الميم، وفتح الكاف ومعناه: الشريعة، كأنه جعلها آلة للسير. وصريحي: شريف، والياء في "صريحي" دخلت لتأكيد الصفة، لا للنسب وقد تقدم القول فيه. وأنشد أبو علي في الباب: (182) خرَّقوا جيبَ فتانهمُ ... لم يبالوا حرمةَ الرّجلهْ الشاهد فيه كالشاهد في الذي قبله، وهو قوله: "الرجلة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 والجيب هنا، زعموا: كناية عن الفرج. والبال: الخاطر، ما باليت به: ما صرفت إليه خاطراً. والحرمة: ما لايحل انتهاكه. وقبل البيت: كلُّ جارٍ ظلَّ مغتبطاً ... غيرَ جيراني بني جبلهْ وأنشد أبو علي في الباب. (183) بريذينةٌ بلَّ البراذينُ ثفرها ... وقدْ شربتْ منْ آخرِ الصّيفِ إيّلا هذا البيت، للنابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله، ويكنى ابا ليلى، يهجو ليلى الأخيلية. الشاهد فيه قوله: "بريذينة"؛ لأنهم يقولون: برذونة وبرذون وهو مثل ما تقدم. المعنى وقوله: "وقد شربت من آخر الصيف" يريد: البراذين، ويحتمل أن يريد البريذينة. والثفر للسبعة، وهو حياؤها، فاستعارة للمرأة، وقد استعاره الأخطل للبقرة، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 جزى الله فيها الأعورينِ ملامةً ... وعبدةَ ثفرَ الثّورةِ المتضاجمِ ويريد: ملاء إيل، ثم حذف المضاف، واقام المضاف إليه مقامه. وتزعم العرب، أن كل من شرب من الماء الذي شربت منه الإيل، اشتهى الجماع. وقيل: الإيل: هو الماء الكثير الذي يكون في آخر الصيف، تبول فيه الأروى، فتشرب منه الماشية. وقيل: أراد: لبن إيل، ويقال: كل من شرب ألبانها، اغتلم. وفيه لغة أخرى، أيل بضم الهمزة، سمي بذلك؛ لأنه يؤول إلى الجبال، يتحصن فيها. وقال قطرب: "الإبل من اللبن: الذي قد أخذ في الخثورة، وتغير طعمه عن طيب الحليب، وأنشد بيت النابغة هذا، استشهاداً به عليه. وقال الخليل: آل الشيء يؤول أولاً: إذا خثر. وجمع آيل: إيل كصائم وصيم. وقد يجمع الشيء على لفظه، ولا ينظر إلى أصله. فمن تأول انه أراد: خاثر اللبن، فغنما هو على هذا التفسير أيل بضم الهمزة ونقله قطرب: إيل بكسرها. وكان سبب تهاجيهما، أن النابغة الجعدي قال يذكر يوم رحرحان، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 يهاجي سوار بن أوفى بن سبرة ويفخر عليه، بأيام بني جعدة. هلاَّ سألتَ بيوميْ رحرحانِ وقدْ ... ظنّتْ هوازنُ أنَّ العزَّ قدْ حالا تلكَ المكارمُ لا قعبان منْ لبنٍ ... شيباً بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا في أبيات، فأجابته ليلى، فكان ذلك سبب تهاجيهما، فقال النابغة: ألا حيّيا ليلى وقولاَ لها هلا ... فقدْ ركبتْ أمراً أغرَّ محجّلاَ يتهكم بها، وأراد: أعز محجلاً في الفضيحة والاستقباح، في كلمة، وفيها: بريذينةٌ بلَّ البراذينُ ثغرها ... وقدْ أنكحتْ شرَّ الأخائلِ أخيلا وقدْ أكلتْ بقلاً وخيماً نباته ... وقدْ شربتْ منْ آخرِ الصّيفِ إيّلا فأجابته ليلى: أنابغَ لمْ تنبغْ ولمْ تكُ أوّلاً ... وكنتَ صنيَّاً بينَ صدّينِ مجهلاً أعيّرتني داءً بأمِّكَ مثلهُ ... وأيُّ جوادٍ لا يقالُ لهُ: هلا هلا: زجر للخيل، وأراد به النابغة زجر الحجر، إذا لم تقر للفحل. وفيه ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 لغات، هَلاَ، هَلاً، هَلْ، قال طفيل الغنوي: وقيلَ: أقدمي وأقدمْ وأخّرٍ وأخرى ... وهلْ وهلا وأضرحْ وفقادعها هبي وتجيء في موضع زجر، قال الشاعر: وتزجرهنَّ بينَ هلاً وهابِ وتجيء توقيراً في بموضع الإسكان، قال الجعدي: فظننّا أنّه غالبه ... فزجرناهْ بهابٍ وبهلْ ويحتمل أن يريد به: الزجر والإبعاد. وأنشد أبو علي في باب دخول التاء الاسم فرقاً بين الواحد والجمع منه. (184) دانٍ مسفٌّ فويقَ الأرضِ هيدبه ... يكادُ يدفعهُ منْ قامَ بالرّاحِ هذا البيت لأوس بن حجر. الشاهد فيه قوله: "دان مسف"، أراد السحاب، فذكر حملا على الجنس، كما قال سبحانه: (ينشئ السحاب الثقال) . وقال تعالى: (يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه) فذكر على معنى الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 اللغة الداني: القريب. والمسف أيضاً: القريب من الأرض. يقال أسف الرجل إلى مداق الأمور: تتبعها وطلبها. وأسف النظر: أحده. وفي حديث الشعبي: "أنه كره أن يسف الرجل النظر إلى أمه وأخته وابنته" وأسف الفحل: صوب رأسه ليعض. وأسف الطائر: طار فويق الأرض. وأسففت الجرح الدواء: أشعبته به، وأسففت الوشم نوراً، قال لبيد: أوْ رجعُ واشمةٍ تؤورها ... كففاً تعرّضَ فوقهنَّ وشامها كففاً جمع كفة، وهي دارة الوشم على اليد. وهيدب السحاب: إذا رأيته منصباً، كأنه خيوط متصلة، وهيدب الدمع. ولبد أهدب، إذا طال زئبرة، والهيدب: العيي من الرجال، الثقيل. وقوله: "يكاد يدفعه" أي يرده ويكفه. والراح: جمع راحة، وهي اليد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وبعد البيت: كأنَّ ريّقهُ لمّا علاَ شطباً ... أقرابُ أبلقَ ينفي الخيَّلَ رمَّاحِ ينزع جلدَ الحصى أجشُّ متبركٌ ... كأنَّهُ فاحصٌ أوْ لاعبٌ داحِ فمنْ بنجوتهِ كمنْ بعقوتهِ ... والمستكنَّ كمنْ يمشي بقرواحِ كأنَّ فيهِ عشاراً جلَّةً شرفاً ... شعثاً لهاميمَ قدْ همّتْ بإرشاحِ هدلاً مشافرها بحّاً حاجرها ... تزجي مرابعها في صحصحٍ ضاحي وأنشد أبو علي في الباب. (185) وكأنّها هيَ بعدَ غبِّ كلالها ... أوْ أسفعُ الخدّينِ شاةُ إرانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 هذا البيت للبيد بن ربيعة. الشاهد فيه قوله: "شاة إران"، أوقع الشاة على الذكر، والذليل عليه أنه أبدل "شاة إران" من "أسفع الخدين"، وهو ثور وحشي، والمؤنث لا يبدل من المذكر. اللغة غبّ الأمر: بعده، والغب: ورد يوم، وظمء يوم، مغبته: عاقبته وآخره. وكل يكل كلاً: إذا أعيا، وأكله السير، وأكل القوم كلت إبلهم. والسفع والسفعة: السواد والشحوب. وقيل: السواد المشرب حمرةً، والذكر أسفع، والأنثى سفعاء. والشاة تكون من المعز والضأن، والظباء، والبقر والنعام، وحمر الوحش، ويقع هذا الاسم على الذكر والأنثى منها. والإران: النشاط، وقيل: إران، موضع تنسب إليه البقر، كما قالوا: "أسود خفية" وجن عبقر، والإران أيضاً: سرير الموتى، وقيل: كناس الوحش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 المعنى وصف ناقته بالقوة والسرعة، والنشاط، وعظم الخلق. قبل البيت: فصددتُ عنْ أطلالهنَّ بجسرةٍ ... عيرانةٍ كالعقرِ ذي البنيانِ كسفينةِ الهنديِّ طابقَ درءها ... بسقائفٍ مشبوحةٍ ودهانِ أراد بالهنديِّ: بحر الهند، وهو من البحور البعيدة الأقطار، في فائنها عالية البنيان، متقنة الصنعة. والطبق: غطاء كل شيء. والدرء: الدفع، وهو أيضاً الميل والأعوجاج. والسقف: لوح السفينة. الإعراب شبهها بعد الكلال بها نفسها في حال نشاطها، وأول سيرها، فالضمير الذي هو "هي" راجع عليها، وهو خبر "كأن" وأظهره، إذ كانت "كأن" حرفاً، لا يستتر فيها ضمير الرفع، كما يستكن في الفعل، لقوة الفعل، وضعف الحرف. ويحتمل الضمير أن يرجع إلى السفينة التي ذكرها قبل البيت، لأنه شبّه الناقة بها في كمال خلقها وشدتها. وقوله؟: "أو أسفع" عطف على الضمير الذي هو "هي"، و "شاة إران" بدل منه. و "أو" تحتمل التخيير والإباحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ومثل قوله: "كأنها هي" قوله تعالى: (وقيل أهكذا عرشك، قالت كأنه هو) . وذكر أبو علي عقب بيت لبيد: "أذاكَ أمْ خاضبٌ". تقوية لما أورده، وهو من صدر بيت لذي الرمة، وهو قوله: (186) أذاكَ أمْ خاضبٌ بالسِّيِّ مرتعه ... أبو ثلاثينَ أمسى وهو منقلبُ يريد: أذاك الثور يشبه ناقتي، أم نعامة خاضب، قد أكل الربيع، فأحمرت ساقاه، وأطراف رقه. فحمل التشبيه عليها، كما قال امرؤ القيس: هما نعجتانِ منْ نعاجِ تبالةٍ ... لدى جؤذرينِ أو كبعضِ دمى هكرْ لم يرد بقوله: "أوْ كبعضِ دمى هكرْ" أن ينتقض أحد الشبهين، ويثبت الآخر، وإنما يريد أنك إن شبهتهما "بالنعاج" فأنت مصيب، وإن شبهتهما "بالدمى" فأنت مصيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 اللغة: السي: المستوي من الأرض، والسي: موضع بعينه. والرتع: الأكل والشرب رغداً، يقال: رتع يرتع رتوعاً، والاسم: الرتعة والرتعة، وفي حديث الغضبان مع الحجاج، أنه قال له: سمنت يا غضبان. فقال: "الخفض والدعة، والقيد والرتعة، وقلة التعتعة؟، ومن يكن ضيف الأمير يسمن". ورتعت الماشية: أكلت ما شاءت، وذهبت وجاءت، وذهبت في المرعى نهاراً، وماشية رتع ورتوع، ورواتع ورتاع. ومن أعاجيب النعام أن الصيف إذا دخل وابتدأ البسر في الحمرة، ابتدأ لون وظيفيه بالحمرة، فلا يزالان يتلونان، ويزدادان حمرةً، إلى أن تنتهي حمرة البسر، ولذلك قيل للظليم: خاضب، وللنعام: خواضب. فأما الخاضب من بقر الوحش فليس كذلك، إلا لخضرة الأظلاف، من وطء البقول والرطب. وقوله: "أبو ثلاثين": أي أبو ثلاثين فرخاً. والنعامة تبيض ثلاثين بيضة. وقوله: "أمسى وهو منقلب": أي منصرف إلى فرخه. ويقال: إنه لا يخرج فرخ النعام من البيض، إلا في شهرين، فأكثر، كما قال عمرو بن أحمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 كوديعةِ الهجهاجِ بوأها ... ببراقِ عاذي البيضِ والثَّجرِ لهدجدجٍ جربٍ مساعرهُ ... قد عادها شهراً إلى شهرِ قال، لأن الظليم والهقلة يجمعان البيض، قبل أن يحضناه شهراً، ثم يحضناه شهراً آخر، فذلك قوله: "شهر إلى شهر"، شهر جمعها، وشهر حضنها. قال: وهي مع عظم بيضها، تكثر عدد البيض، تضع بيضها طولاً، حتى لو مدَّ عليها خيط المطمر لما وجد لشيء منها خروج عن الآخر، ثم تعطي لكل بيضةٍ نصيبها من الحضن، إذ كان بدنها لا يشتمل على عدد بيضها في الطول، إلا أن تعطي كل شيء منها قسطه. فأما عدد البيض، فقد بينها ذو الرمة، في قوله: "أبو الثلاثين". وفي وضعها لها طولاً، على غرار واحد وخيط وسطر، بينه ابن أحمر بوقله: وضعنَ وكلُّهنَّ على غرارٍ ... هجانُ اللَّونِ قدْ وسقتْ جنينا وقال آخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 على غرارِ كمدادِ المطمرِ وهو خيط البناء الذي يسوى به وضع الحيطان على الأساس، ويقال له: المداد أيضاً. الإعراب: ارتفع "مربعه" بالابتداء، و "بالسي" خبره، و "أبو ثلاثين" صفة للخاضب. وقوله: "وهو منقلب" جملة في موضع الحال، أو في موضع خبر "أمسى". وأنشد أبو علي في الباب. (187) إذا رأيتَ بوادٍ حيَّةً ذكراً ... فاذهبْ ودعني أمارسْ حيَّة الوادي هذا البيت لعبيد بن الأبرص، وقيل: لأعشى طرود، وقيل: لحارثة بن بدر الغداني. الشاهد فيه "حية ذكر". وقال جرير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 إنَّ الفرذدقَ قدْ سالَ الفراتُ بهِ ... وعضَّهُ حيَّةٌ منْ قومهٍ ذكرُ وقال أيضاً: إنَّ الحفافيثَ كانتْ يا بني لجاءٍ ... يسبطنَ حيثُ يصولُ الحيَّةُ الذَّكرُ وقال رؤبة: الحيَّةِ الأصيدِ منْ طولِ الأرقْ فوصفهُ "بالأصيد" وهو مذكر، كما تقول: الرجل الأصيد، ولو جعله مؤنثاً، لقال: "كالحية الصيداء" لأنه مؤنث "أفعل فعلاء" كأحمر وحمراء. ويقال أيضاً للذكر: الحيوت. قال الراجز: ويهلكُ الحيَّةَ والحيُّوتا وقيل في تسميتها حية، قولان: أحدهما: أنها طويلة العمر، فهي تحيا، وبذلك توصف. وزعم المتكلمون في خواص الحيوان، أن الحية لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت لعارض يعرض لها. والقول الثاني: إنها سميت حية، لأنها تتحوى، أي: تنعطف، وتلتوي، من قولهم: حويت الشيء، إذا عطفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 وأنشد أبو علي في الباب. (188) كأنَّ مزاحفَ الحيَّاتِ فيهِ ... قبيلَ الصُّبحِ آثارُ السَّياطِ البيت للمنتخل الهذلي، واسمه مالك بن عويمر. الشاهد فيه جمع "حية" على "حيات"، وإن كان ذكراً، فجمع المذكر، كجمع المؤنث، بلا خلاف. اللغة مزاجفها: مواضع مشيها، يقال: زحف إلى الشيء يزحف: إذا نهض، والصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي، والبعير يزحف: إذا أعيا فجر فرسنه، وهو زاحف. وقبله: وماءٍ قدْ وزدتُّ أميمَ طامٍ ... على أرجائهِ زجلُ الغطاطِ قليلٌ وردهُ إلاَّ سباعاً ... يخطنَ المشيَ كالنَّبلِ المراطِ فبتُّ أنهنهُ السِّرحانَ عنهُ ... كلانا واردٌ حرَّانَ ساطي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 كأنَّ وغى الخموشِ بجانبيهِ ... وغى ركبٍ أميمَ ذوي هياطِ الزجل: الصوت. والغطاط: طير مثل القطا، واحدها غطاطة. وأرجاؤه: نواحيه. والطاكي: المرتفع. ويخطن: من الوخط، وهو سرعة تقديم اليد. والمراط: السهام التي يمرط ريشها. والسرحان: الذئب. وحران: عطشان. وساط: من السطوة. والوغى: الصوت. والخموش: البعوض. وهياط: مازعة. وأنشد أبو علي في الباب. (189) حتَّى إذا أسكوهمْ في قتائدةٍ ... شلاًّ كما تطردُ الجمَّالةُ الشُّردا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 هذا البيت لعبد مناف بن ربعي الهذلي. الشاهد فيه قوله: "الجمالة"، وهو جمع جمَّال، كما يقال: بقّال وبقالة وحمارة، فالتاء دخلت للفرق بين الواحد والجمع. المعنى وصف قوماً هزموا، حتى إذا أدخلوا في قتائدة، قال ذلك الأصمعي. وجعل المنهزمين كالشُّرد، واحدهم شريد، كطريق وطرق، وقديم وقدم، وإذا كانوا شرداً، فكيف بهم، إذا طردوا؟! ذلك أشد لنفارها، فلذلك خصَّ الشرد بالذكر من غيرها. والشل: الطرد. الإعراب في جواب "إذا" ثلاثة أقوال: الأول: أن جوابها محذوف، وله نظائر في التنزيل، وأشعار العرب، لأن في حذف الجواب من هذا الموضع، وشبهه ضرباً من المبالغة، وكأنه قال: إذا أسلكوهم في قتائدة، بلغوا أملهم، وأدركوا ما أحبوا، ونحو ذلك. الثاني: أن الجواب في قوله: "شلا" وغني بذكر المصدر عن ذكر الفعل، لدلالته عليه. وهذا قول ضعيف، لأن "الشل" إنما يكون قبل إدخالهم في قتائدة، وهذا الرأي يوجب أن يكون بعد ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 والثالث: قول أبي عبيدة: وهو أن "إذا" زائدة، فلذلك لم يأتِ لها بجواب، والتقدير: حتى أسلكوهم. وهو أيضاً قول ضعيف، لأن "إذا" اسم، والأسماء تبعد زيادتها. فقوله، "شلا" على من جعله جواباً، لا موضع له من الإعراب، إنما هو مصدر محض، أكد فعله المضمر الذي هو الجواب. وعلى القولين الباقيين، هو مصدر له موضع من الإعراب، لأنه في تقدير الحال، ولك في هذه الحال وجهان: إن شئت جعلتها من الضمير الفاعل، كأنه قال: شالين. وإن شئت جعلتها من الضمير المفعول، كأنه قال: مشلولين. والأقيس كونها حالاً من الضمير الفاعل، لقوله "كما تطرد الجمالة" فشبه الشل، بشل الجمالة الإبل الشرد، وهم الطاردون، وإذا كان حالاً من الضمير المفعول، وجب أن تقول كما تطرد الإبل الشرد. وهو مع ذلك جائزاً، لأن العرب قد توقع التشبيه على شيء، والمراد غيره. والكاف في قوله: "كما" في موضع الصفة للشل، كأنه قال: "شلا مثل شل الجمالة". وقبل البيت: والطَّعنُ شغشغةٌ والضَّربُ هيقعةٌ ... ضربَ المعوِّلِ تحتَ الدِّيمةِ العضدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وللقسيِّ أزاميلٌ وغمغمةٌ ... حسَّ الجنوبِ تسوقُ الماءَ والبردا الشغشغة حكاية أصوات الطعن في الأجواف والأكفال. والهيقعة: حكاية أصوات السيوف. والمعول: الذي بنى من الشجر عالة تظله من المطر، فهو يقطع الشجر. والعضد: ما قطع من الشجر، فإذا أردت المصدر، قلت عضد، بسكون الضاد. والأزاميل والغماغم: الأصوات المختلطة. وأنشد أبو علي في الباب. (190) أراهُ أهلَ ذلكَ حينَ يسعى ... رعاءُ النَّاسِ في طلبِ الحلوبِ هذا البيت، لعنترة بن شداد العبسي. الشاهد فيه، قوله "طلب الحلوب" جمعاً. الواحد حلوبة. قال أبو علي: "ومما يدل على ذلك، أن الرعاء لا يسعون في طلب الحلوب الواحدة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وقال أبو عبيدة: يقال الحلوبة، للواحد وللجماعة، ولا يقال: الحلوب إلا للجماعة. وقال السكري، في قول أسماء بن الحارث: وقالوا: نصفُ مالكَ إنْ رضينا ... وما أمسى لأهلكَ منْ حلوبِ قال: الحولب: الناقة التي يتخذها الراعي لنفسه، وهي كثيرة اللبن. وقال أبو العباس المبرد: يقال، شاة حلوب، إذا كانت تحلب ورجل حلوب، إذا كان يحلب الشاة، قال: وهو من الأضداد، ومثله طريق ركوب، إذا كان يركب، ورجل ركوب للدواب، وناقة رغوث، إذا كانت ترضع، وفصيل رغوث، إذا كان يرضع. فجعل أبو العباس، الحلوب واحدة. والراعي: حافظ الماشية، وهو صفة غالبة، غلبت الاسم، والجمع: رعاة ورعاء ورعيان. كسروة تكسير الأسماء، كحاجز زحجزان، لأنها صفة غالبة وليس في الكلام اسم فاعل، يعتور عليه "فعلة وفعال" إلا هذا، وقولهم: آس وأساة وأساء. فأما قول ثعلبة بن عبيد العدوي، في صفة نخل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 تبيتُ رعاها لا تخافُ نزاعها ... وإنْ لم تقيَّدْ بالقيودِ وبالأبضِ فإن أبا حنيفة ذهب إلى أن "رعى" جمع رعاة، لأن رعاة، وإن كان جمعاً فإنَّ لفظه لفظ الواحد، كمهاة ومهىً، إلا أن مهاة واحد، وهو ماء الفحل في رحم الناقة. ورعاة: جمع. وأنشد أبو علي في الباب. (191) دويَّةٌ ودجى ليلٍ كأنَّهما ... يمٌّ تراطن في أفدانها الرُّومُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه دول الألف واللام في "الروم"، لأن روم ومجوس ويهود، يستعمل على وجهين. مصروفة وغير مصروفة. فإذا لم تصرف فأسماء لأهل هذه الملل، فلات تصرف للتأنيث والتعريف وإذا صرفت جعلت جمع رومي، ثم عرّف الجمع بالألف واللام، مثل عربي وعرب، وتركي وترك، ونبطي ونبط، وخزري وخزر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 ألا ترى أنه لولا ذلك، لم يسغ دخول الألف واللام عليه، لأنه معرفة أجريت مجرى القبيلة، ولم تجعل كالحي، فعلى هذا الحد، دخلت عليه الألف واللام. ونتكلم على الألف واللام، من سبعة أوجه: الأول: هل هما كلتاهما معرفتان؟ أو اللام وحدها. الثاني: هل ألفها ألف قطع؟ أو ألف وصل. الثالث: لم جعلوا حرفاً واحداً يفيد التعريف؟! الرابع: لمً جعلوا حرف التعريف ساكناً؟ ولم يكن متحركاً؟ الخامس: لمَ خصّوا اللام دون غيرها؟ السادس: لم جعلوا حرف التعريف أول الكلام؟ ولم يكن آخراً؟ السابع: كم مواقعها في كلام العرب؟ الوجه الأول: هل الهمزة واللام، هما المعرفتان؟ أو اللام وحدها. هب الخليل: إلى أنهما المعرفتان معاً، وحكي عنه أنه كان يسميها "أل" كقد، وأنه لم يكن يقول: الألف واللام، كما لا يقول: القاف والدال، ويستدل على ذلك بتقطيع "أل" في أنصاف الأبيات من قول عبيد: يا خليليَّ أربعا واستخبرا ال ... منزلَ الدَّارسَ عنْ أهلِ الحلالْ مثلَ سحقِ البردِ عفَّى بعدكَ ال ... قطرُ مغناهُ وتأويبُ الشَّمالْ ولقدْ يغنى بها جيرانك ال ... ممسكو منكَ بأسبابِ الوصالْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 ثمَّ أودى ودُّهم إذ أزمعوا ال ... بينَ والأيامُ حالٌ بعد حالْ نحن قدنا من أهايب الملا ال ... خيلَ في الأرسانِ أمثالَ الشَّعالْ شزَّباً يعسفنَ منْ مجهولةِ ال ... أرضِ وعثاً منْ سهولٍ أوْ رمالْ ثمَّ عجناهنَّ خوصاً كالقطا ال ... قارباتِ الماءَ منْ أينِ الكلالْ وهي قطعة مشهورة، أبياتها سبعة عشر بيتاً، يطرد جميعها على هذا القطع. فلو كانت اللام وحدها للتعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها، لاسيما واللام ساكنة والساكن لا ينوى به الانفصال. ومما يقويه قول الآخر: عجِّلْ لنا هذا وألحقنا بذا آل ... بالشَّحمِ إنَّا قدْ مللناهُ بجلْ فإفرادهُ "أل"، وإعادته إياها، في القسم الثاني، دليل على قوة اعتقاده لقطعها، فصار قطعهم "أل"، وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة "قد" وهو يريد الفعل، وذلك نحو قوله: أفدَ التَّرحُّلُ غيرَ أنَّ ركابنا ... لمَّا تزلْ برحالنا وكأنْ قدِ ألا ترى أنَّ التقديرَ فيه: وكأن قد زالت، فقطع "قد" من الفعل، كقطع "أل" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 من الاسم، وعلى هذا قالوا في التذكير: قام أل، إذا نويت بعده كلاماً، أي: الحارث والعباس. وذهب غير الخليل ظغلى ظان اللام وحدها هي حرف التعريف ظن وظان الهمزة ظغنما دخلت عليهاظن ليتوصلوا إلى النطق بها بالهمزة قبلها، لما لم يكن الابتداء بها. وكان حكمها أن تكون ساكنة، لأنها حرف جاء لمعنى، ولاحظ لها في الإعراب، وهي في أول الحرف، كالهاء التي لبيان الحركة والألف في أواخر الحرف، في وا زيداه، وا عمراه، وا أمير المؤنيناه. فكما أن تلك ساكنة، فكذلك كان ينبغي أن تكون الهمزة ساكنة، لكن لما اجتمع ساكنان، هي والحرف الساكن بعدها، حركت لالتقاء الساكنين. فإن قيل: لم اختيرت الهمزة، ليقع الابتداء بها دون غيرها من سائر الحروف، نحو الجيم، وغيرها؟! فالجواب: أنهم أرادوا حرفاً يثبتونه في الابتداء، ويحذفونه في الوصل، للاستغناء عنه بما قبله، فلما اعتزموا على حرف، يمكن طرحه وحذفه، مع الغنى عنه، جعلوه الهمزة، لن العادة فيها، في أكثر الأحوال حذفها للتخفيف، وهي مع ذلك أصل، فكيف بها إذا كانت زائدة. ألا ترى أنهم حذفوها، في نحو: خذ وكل ومر، وويلمه، وقال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وكان حاملكم منَّا ورافدكمْ ... وحاملُ المينَ بعدَ المينَ والألفِ أراد: المئين، فحذف الهمزة، وقالوا: جا يجي وسأ يسو، بلا همز، وقالوا: ذن لا أفعل، فحذفوا همزة "إذن"، وله نظائر، ولو أنهم أرادوا في مكانها غيرها، لما أمكن حذفه، لأنه لم يحذف غيرها من الحروف، كما حذفت هي، فكانت الهمزة أولى وأحرى من سائر الحروف. ووجه آخر إن شئت، قلت: إنما أرادوا الهمزة ها هنا، لكثرة زيادتها أولاً، نحو: أيدعٍ وأبلمٍ وإصبعٍ، ولم تكثر زيادة غير الهمزة أولاً، كزيادتها أولاً فاعرفه. فإن قيل: فلم فتحت لالتقاء الساكنين، وحركة همزة الوصل في الأسماء والأفعال كسرة أو ضمة؟! فالجواب: أن اللام حرف، فجعلوا حركة الهمزة فتحة، لتخالف حركتها في الأسماء حركتها في الأفعال، فاعرفه. ومن الدليل على كونها وحدها حرف التعريف، وأن الهمزة دخلت لسكونها، إيصالهم حرف الجر، إلى ما بعد حرف التعريف، وذلك نحو: قولهم: عجبت من الرجل، ومررت بالغلام، فنفوذ الجر بحرفه، إلى ما بعد حرف التعريف يدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 على أن حرف التعريف غير فاصل عندهم بين الجار والمجرور، وإنما كان كذلك، لنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه، وإنما كان ذلك كذلك، لأنه على حرف واحد، ولاسيما ساكن. ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين "كقد" و "هل"، لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور، لأن "قد" و "هل" كلمتان ثابتتان قائمتان بأنفسهما. ألا ترى أنهم أنكروا على الكسائي وغيره، قراءته: (ثم ليقطع) بسكون اللام، و (ثم ليقضوا) ، لأن "ثم" قائمة بنفسها، وليست كواو العطف وفائه، لأن تينك ضعيفتان، متصلتان بما بعدهما، فلطفتا عن نية فصلهما وقيامهما بأنفسهما، وكذلك لو كان حرف التعريف، في نية الانفصال لما كان يجوز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف. وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرّفه. وإنما كان ذلك كذلك لقلته وضعفه عن قيامه بنفسه، لو كان حرفين، لما لحقته هذه العلة، ولا جاز تجاوز حرف الجر له إلى ما بعده. ودليل آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف بما دخل عليه، وهو أنه قد حدث بدخوله معنى لم يكن قبل دخوله وهو معنى التعريف فصار المعرّف كأنه غير ذلك المنكور. ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرجل، وغلام والغلام، قافيتين في شعر واحد من غير استكراه، ولا اعتقاد إيطاء، فهذا يدلك على أن حرف التعريف، كأنه مبني مع ما عرفه، كما أن "ياء" التحقير مبنية مع ما حقرته، وكما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 أن "ألف التكسير" مبنية على ما كسرته، فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجليكم قافيتين وبين درهمكم ودراهمكم، كذلك جاز أيضاً، أن يجمع بين رجل والرجل، لأن النكرة شيء سوى المعرفة، كما أن المكبر غير المصغر، وكما أن الواحد غير الجمع. ويزيدك تأنيساً بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين، لأن التنوين دليل التنكير، كما أن هذا الحرف دليل التعريف، فكما أن التنوين في آخر الاسم حرف واحد، فكذلك حرف التعريف من أوله، ينبغي أن يكون حرفاً واحداً. الوجه الثاني: هل الهمزة التي مع لام التعريف، همزة قطع، أو وصل؟ اختلف في ذلك، فذهب قوم إلى أنهما همزة قطع، واستدلوا على ذلك بانفصالهما، مما تدخلان عليه. فتقول في التذكر: إلى حارث، إذا نويت بعد قولك "أل" كلاماً، فجرى مجرى قولك في التذكر: "قدي" أي، قد انقطع، أو قد قام، أو قد استخرج، أو نحو ذلك، فصارت الهمزة، كالقاف من "قد"، والباء من "بل"، إلا أنه لما كثر في كلامهم، واستعمالهم، عرف موضعه، فحذفت همزته، كما حذفوا "لم يكُ، ولا أدرِ، ولم أبلْ". واستدلوا أيضاً، على أنهما همزة قطع بثباتها حيث تحذف همزات الوصل، وذلك نحو قول الله تعالى: (الله أذن لكم) و (آلذكرين حرم أم الانثيين) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ونحو قولهم في القسم: أفألله، ولا ها ألله، ولم نرَ همزة وصلٍ تثبت في نحو هذا. فهذا كله يؤكد أن همزة "أل" ليست بهمزة وصل، وأنها مع اللام، "كقد" و "هل"، ونحوهما. وذهب الجمهور إلى أنها همزة وصل، لسقوطها في درج الكلام كسائر همزات الوصلأ. وما قدمته من أن "اللام" وحدها، هي المعرِّفة، يؤكد أنها همزة وصل. وأما ما يحتج به من الوقوف عليها عند التذكر فإن ذلك لا يدل على أنه في نية الانفصال منه، لأن لقائل أن يقول: إنه حرف واحد، ولكن الهمزة، لما دخلت على اللام، فكثر اللفظ بها، أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ، لا من جهة المعنى، ما كان من الحروف على حرفين، نحو: "هل" و "بل" و "من" و "قد". فجاز وصلهما في بعض المواضيع. وهذه النسبة اللفظية موجودة في كثير من كلامهم، ألا ترى أن "أحمد" وبابه مما ضارع الفعل لفظاً، فمنع ما يختص بالأسماء، وهو التنوين والجر. وكذلك كل ما استروحوا إليه، من مد (الله أذن لكم) . ومما أوردوه، الانفصال عنه قريب المأخذ إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث: لمَ جعلوا حرفاً واحداً، يفيد التعريف؟ قد تقدم من القول ما هو جواب له، وهو أنهم لما أرادوا خلطه بما بعده، ومزجه به لما حدث فيه من انتقال المعنى، جعلوه على حرف واحد، ليضعف عن انفصاله مما بعده، فيعلم بذلك أنهم قد اعتزموا على خلطه به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 الجوجه الرابع: لم جعلوا حرف التعريف ساكاً، ولم يكن متحركاً؟ فالجواب: ان تسكينه أشد وأبلغ في إضعافهم إياه، وإعلامهم أن حاجتهم في اتصاله بالمعرف، لن الساكن أضعف من المتحرك، وأشد حاجة وافتقاراً إلى ما يتصل به. الوجه الخامس: لمَ خصّوا اللام دون غيرها؟ فالجواب: أنهم أرادوا إدغام حرف التعريف فيما بعده، لأن الحرف المدغم، أضعف من الحرف الساكن غير المدغم، ليكون إدغامه دليلاً على شدة اتصاله، وأقوى منه عليه لو كان ساكناً غير مدغم، فلما آثروا إدغامه فيما بعده، لما ذكرناه، اعتبروا حروف المعجم، فلم يجدوا فيها حرفاً أشد مشاركةً في أكثر الحروف من اللام، فعدولوا إليها، لأنها تجاور أكثر حروف الفم، التي هي معظم الحروف، ليصلوا بذلك إلى الإدغام، المترجم عما اعتزموه، من شدة اتصال حرف التعريف، بما عرفه، ولو جاؤوا بغير اللام، لما أمكنهم ذلك. وإنما تدغم في ثلاثة عشر حرفاً، وهي التاء والثاء، والدال والذال، والراء والزاي، والطاء والظاء، والصاد والضاد، والنون والسين والشين. ومما يدل على إيثارهم إدغام لام التعريف، لما قصدوه من الإبانة عن غرضهم، انك لا تجد لام التعريف مع واحد من هذه الحروف الثلاثة عشر إلا مدغماً في جميع اللغات، ولا يحوز إظهارها ولا إخفاؤها معهن، ما دامت للتعريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 وإنك قد تجد اللام إذا كانت ساكنة، وهي لغير التعريف مظهرة، غير مدغمة. الوجه السادس: لمَ جعلوا حرف التعريف أولاً، ولم يكن آخراً؟ عن ذلك جوابان: أحدهما: وهو القوي، أنهم إنما خصّوا لام التعريف بأول الاسم دون آخره، من قبل أنهم صانوه وشحوا عليه، لحاجتهم إليه، فجعلوه في موضع، لا يحذف فيه حرف صحيح البتة. واللام حرف صحيح، وذلك الموضع هو أول الكلمة، ولما كان آخر الكلمة ضعيفاً قابلاً للتغيير في الوقف وغيره، وقد تحذف فيه أيضاً، أنفس الكلم، نحو قولهم في الترخيم: يا حارِ، ويا منصِ، وغير ذلك، كرهوا أن يجعلوا اللام في آخر الاسم، فيتطرق عليها الحذف في بعض الأحوال، مع حاجتهم إليها، وشدة عنايتهم بها، فحصّنوها، واحتاطوا عليها، بأن قدموها في أول الاسم، لتبعد عن الحذف والاعتلال. والجواب الثاني: أنه حرف زائد لمعنى، وحروف المعاني في غالب الأمر، إنما مواقعها أوائل الكلام، لاسيما وهي لام، فأجريت مجرى لام الابتداء، ولام الإضافة، ولام الأمر ولام القسم، وغير ذلك؟ ن فقدمت كما قدمن. الوجه السابع: كم مواقعها في الكلام؟ وعلى كم قسم تتنوّع فيه؟ اعلم أن لام المعرفة تدخل على الأسماء على ضربين: أحدهما للتعريف، والآخر الزيادة، كما تزاد الحروف فلا تدل على المعاني، التي تدل عليها إذا لم تكن زائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 والتعريف الذي يحدث بها، على ضروب: منها أن تكون إشارة إلى معهود بينك وبين المخاطب، نحو الرجل والغلام، إذا أردت بهما غلاماً ورجلاً عرفتهما بعهدٍ كان بينكما، فتقول: قد أوفى الرجل والغلام الذي كنا في حديثه وذكره. ومنها إشارة لمن لم تره قط، ولا ذكرته، نحو قولك: يا أيها الرجل أقبل، وهذا تعريف لمن لم يتقدمه ذكر ولا عهد، وإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر، لا إلى غائب. ومنها تعريف الجنس، وهو إشارة إلى ما نفوس الناس كمن علمهم للجنس، فهذا الضرب وإن كان معرفةً كالأول، فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حساً، وهذا لم يعلمه كذلك وإنما يعلمه معقولاً، نحو قولك: الملك أفضل من الإنسان والعسل حلو، والخل حامض، وأهلك الناس الدينار والدرهم. فهذا التعريف لا يجوز أن يكون عن إحاطة بجميع الجنس، وعن مشاهدة لهن لأن ذلك متعذر غير متمكن، لأن لا يمكن احد أن يشاهد جميع الدراهم، ولا جميع الدنانير، ولا جميع العسل، ولا جميع الخل. وإنما معناه أن كل واحد من هذا الجنس المعروف بالعقول دون حاسة المشاهدة، أفضل من كل واحد من هذا الجنس الآخر، وأن كل جزء من العسل الشائع في الدنيا حلو، وكل جزء من الخل الذي لا يمكن مشاهدة جميعه حامض. والضرب الثاني: الزيادة، اعلم أن الأسماء الأعلام لا تدخل عليها الألف واللام، وذلك أن تعليقها على من تعلق عليه، وتخصيصه بها، يغني عن الألف واللام، وذلك نحوك التسمية بثور وشهاب وأسد، وكلب وزيد وزيادة وبشر وحمد. فأما نحو: الحارث والعباس والقاسم، والحسن والحسين، والفضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 والمهدي، فإنما دخلت الألف واللام فيها، على تنزيل أنها صفات جارية على موصوفين. وهذا يعني الخليل، بقوله: "جعلوه الشيء بعينه". فإن لم ينزل هذا التنزيل، لم يلحقوه الألف واللام، فقالوا: حارث وعباس وقاسم، وعل كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم، قال الفرزدق: فقعَّدهم أعراق حذلمَ بعدما ... رجا الهتمُ إدراكَ العلى والمكارمِ وقال: ثلاثُ مئينَ للملوكِ وفى بها ... ردائي وجلَّتْ عن وجوهِ الأهاتمِ فجعله مرةً بمنزلة أضحاة وأضاح، ومرة بمنزلة أحمر وحمر. وجمع الأعشى بين الأمرين في بيت واحد، وذلك قوله: أتاني وعيدُ الخوصِ منْ آل جعفرٍ ... فيا عبدَ عمروٍ لو نهيتَ الأحاوصا وأنشد الأصمعي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 أحوى من العوجِ وقاحُ الحافرِ "فالعوج": نسب إلى "أعوج" كما أن "الحوص" نسب إلى "أحوص"، فإذا حذفت ياءي النسب، جعلته بعد التسمية به، بمنزلته وهو صفة لم يسمَّ بها فكسِّر تكسير الصفات. وهذا يدل على صحة قول من لم يصرف "أحمر"، إذا نكَّره، بعد أن تمسي به، فإذا كسَّرته تكسير الاسم، نحو: الأفاكل والأرامل. قلت: الأحاوص، وعلى هذا القياس، تقول: الأعاوج، كما تقول: الأهاتم. ومن الصفات الغالبة التي تجري مجرى الحارث والقاسم، قولهم: النابغة، فالنابغة اسم له، يجري مجرى الأعلامن غلب عليه هذا الوصف؟ ن كما أن الحارث ونحوهن قد نزل تنزيل من له اسم علمن فغلب عليه هذا الوصف، فجرى هذا الوصف الغالب مجرى الاسم العلم، وسد مسده، حتى صار يعرف به، كما يعرف بالعلم، فلما سد مسده، وكفى منهن أجراه مجرى العلم، نحو جعفر وشبهه فقال: ونابغةُ الجعديُّ بالرَّملِ بيتهُ ومن ذلك قولهم في اسم اليوم: "الاثنان"، فلما جرى مجرى العلم، في نحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 جعفر وغيره استجيز حذف اللام منهن كما استجازوها من النابغة، وذلك ما حكاه سيبويه، من قولهم: "هذا يوم اثنين مباركاً فيه". وأما قولهم: "الغدوة والفينة"، فدخول لام التعريف فيهما على وجه آخر، وهو ان "غدوة وفينة" كانا معرفتين، كما تكون الأسماء التي للألقاب معارف، فأزيل هذا التعريف عنهما، كما أزيل التعريف عن الاسم الموضوع وضع الأعلام، وذلك في أحد تأويلي سيبويه في قولهم: "هذا ابن عرس مقبل"، لما أزيل هذا التعريف عنهما، عرفا بالألف واللام. فقرأ من قرأ: "بالغدوة"، وحكة أبو زيد: لقيته فينة، والفينة بعد الفينة. ومثل إزالة هذا الضرب من التعريف عن هذه الأسماء إزالتهم إياه في قولهم: أما البصرة فلا بصرة لك، وأما خراسان لك، وعلى هذا قوله: "ولا أمية في البلاد" "قضية ولا أبا حسن". ومثل هذا إزالتهم تعريف العلم من الأعلام المثناة والمجموعة نحو: الجعفران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 والقمران، فزال تعريف العلم عن الجعفرين كما زال تعريف العدل عن العمرين والقثمينن ولو لم يزل العدل لم يجز دخول لام المعرفة عليهن كما لم يجز دخولها قبل التثنية. ولا تدخل لام التعريف على المعدول. واستدل أبو عثمان على أن "الثلاثاء"، و "الأربعاء" غير معدولين بدخول الألف واللام عليهما، وقال: "المعدول لا تدخل عليه الألف واللام". وأما "أبانان" وعرفاتن فلم تدخل الألف واللام عليهما، لأن التسمية وقعت لالجمع والتثنية، كما وقعت بالمفردن فلم تدخل عليهما، كما لم تدخل على المعرفة. فأما الألف واللام في قوله تعالى: (قالوا الآن) . وفي الذي والتي، وتثنيتهما وجمعهما، ولام اللات والعزى، قال: أما والدِّماءِ الجارياتِ كأنَّها ... على قنَّةِ العزَّى، وبالنَّسرِ عندما فزائدة، وكذلك في "النسر" هي زائدة. وقال آخر: ولقد جنيتكَ أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتكَ عن بناتِ الأوبرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 فالألف واللام في "الأوبر" زائدتان، وقال آخرك يقول الجتلونَ عروسَ تيمٍ ... شوى أمِّ الحبينِ ورأسَ فيلِ فالألف واللام في "أم الحبين" زائدة، وله نظائر كثيرة. وأما الألف واللام في "اليسع"، فلا تخلو من أن تكون زائدة أو غير زائدة. فإن كانت غير زائدة فلا تخلو من أن تكون على حد الرجل إذا أردت المعهود، أو الجنس، نحو (إن الإنسان لفي خسر) أو على دخولها في العباس فلا يجوز أن تكون على واحد من ذلك. ولا يجوز أن تكون على حد دخولها في العباس، لأنه لو كان كذلك كان صفة، كما أن "العباس" كذلك، ولو كان كذلك لوجب أن يكون "فعلاً" ولو كان "فعلاً" لوجب أن يلزمه "الفاعل"، لو لزمه الفاعل لوجب أن يحكى من حيث إنه جملة، ولو كان كذلك، لم يجز لحاق اللام له، ألا ترى أن "اللام" لا تدخل على "الفعل". وليس بإشارة، كقولك: هذا الرجل، وإذا لم يجز شيء من ذلك، علم أنها زيادة. ومما جاءت اللام فيه زائدة، ما أنشده أبو عثمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 باعدَ أمَّ العمرو من أسيرها وأنشد أحمد بن يحيى: يا ليتَ أمَّ العمرو كانت صاحبي ومما جاءت فيه اللام زائدة قولهم: الخمسة العشر درهماً، فيما حكاه أبو الحسن، ألا ترى أنها اسم لواحد، ولا يجوز أن يتعرف اسم واحد بتعريفين، كما لا يجوز أن يتعرف بعض الاسم دون بعض، فإذا كان كذلك، علمت زيادة اللام في الخمسة عشر درهماً. وقيل: الألف واللام في كلام العرب لها أربعة مواضيع، وهي: تعريف الواحد بعهد، وتعريف الواحد بغير عهد، وتعريف الجنس. وزائدة. وهذه القسمة ترجع إلى الضربين اللذين قدمت تفسيرهما. وقال قوم: الألف واللام في كلام العرب لها ثمانية مواضع، وهي: للعهد، وللجنس، وللمدحة، وعقب الإضافة، وإثبات الصفة الغالبة، وتعريف العلمية، والإقحام، والإشارة. وقال بعض المتأخرين: تدخل في كلام العرب، لأحد عشر معنى: لتعريف العهد، ولتعريف الجنس، ولتعريف الحضور، وبمعنى الذي، وبمعنى الوصف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 والتفخيم كالحسن والحسين، وعوضاً من الضمير في "حسن الوجه"، وعوضاً من الهمزة في "الناس"، هي عوض من همزة "أناس"، وزائدة، ولإثبات الصفة الغالبة، كالنجم والدبران، والحارث والعباس، ولتعريف العلمية في "الله" تعالى، وللتعظيم والمدح. حكى سيبوية: "أنت الرجل كل الرجل". وصف مفازة، والدوية: المفازة، سميت بذلك للدوي الذي يسمع فيها، وهو دوي الريح، وتقاصف الرمالن وقيل: دوي الجن ويقال لها: داوية، بتشديد الياء، وداوية بتخفيفها، قال الشاعر: والخيلُ قد تجشمُ فرسانها ال ... وعثَ وقد تعتسفُ الداوية والدجا: ما ألبس من سواد الليل. واليم: البحر. شبه ظلمة الليل بالبحر وأمواجه. والتراطن من الصوت، ورطانة الأعاجم: كلامها. ويروى: كما تراطنُ في أندائها يعني في مجالسها، والنادي: المجلس، والندي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وقبل البيت: للجنِّ بالليل في أرجائها زجلٌ ... كما تناوحَ يوم الرِّيحِ عيثومِ هنَّا لهنَّ ومن هنَّا لهنَّ بنا ... ذاتُ الشمائلِ والإيمانِ هينومِ وأنشد أبو علي في الباب. (192) فرَّتْ يهودُ وأسلمتْ جيرانها ... صمِّي لما فعلتْ يهودُ صمامِ هذا البيت، للأسود بن يعفر النهشلي. الشاهد فيه قوله: "يهود"، لما كان اسماً للقبيلة لم يصرفه، لأن فيه العلمية والتأنيث، فلا يسوغ دخول الألف واللام عليه. ومثله قول الأنصاري: أولئك أولى من يهودَ بمدحةٍ ... إذا أنتَ يوماً لم تؤَّبِ وفي حديث القسامة، "تقسم يهود". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وأما اليهود بالألف واللام، فإنما هو هود. وصمام: اسم للداهية، معدول عن صامة، كما عدلت "حذام" عن حاذمة، و "رقاش" عن راقشة، سميت بذلك، لأنها إذا نزلت أصمت آذان الناس كما قال النابغة: وتلك التي تستكُّ منها المسامعُ وجاز أن يبنى من الفعل الرباعي "فعال"، وإنما حكمه أن يكون من الثلاثي، كما قالوا: "داركِ"، وهو من "أدرك" لأن الهمزة زائدة. والأجود أن تكون مشتقة من قولهم: صممت الشيء: إذا سددته، يقال: صمَّ الكوة بحجر، وصمَّ القارورة: إذا سد فمها، فتكون مبنية من فعل ثلاثي، وتؤدي معنى الصمم بعينه، لأن الصمم، إنما هو انسداد الأذن. وأما قوله: "صمِّي صمام" فإن "صمام" منادى مفرد، وصمي دعاء عليها بالصمم، ومعناه: أصمَّ الله سمعك يا داهية، كما تصمين الأسماع، وهو نحو قولهم: قتلتني قتلك الله، وأوجعتني أوجعك الله، وبه ذلك بما يدعى فيه على الشيء بمثل فعله الذي يفعله. وليست الداهية مما توصف بالصمم في الحقيقة، ولكن من شأن العرب، أن تسمي الجزاء باسم ما يجازى عليهن كقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكقول ابن كلثوم: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... فنجعلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وقد قال أهل المعاني، في وصفهم لها بالصمم قولين آخرين، غير ما تقدم. أحدهما: أن "صمام" هي الحية التي لا تجيب الراقي، ولا تصغي إلى رقاه، ثم استعير ذلك في كل داهية، قال الشاعر: وردوا ما لديكم منْ ركابي ... ولمَّا تأتكم صمِّي صمامِ وقال آخرون: إنما وصفت بالصمم، لأن الإنسان يصم عنها، فنسب الصمم إليها مجازاً، والمراد من يصمم من أجلها، كما قالوا: ليل نائم، وإنما ينام فيه. وأنشد أبو علي في الباب. (193) أحارَ ترى بريقاً هبَّ وهنا ... كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا صدر البيت لأمرؤ القيس، وعجزه للتوءم اليشكري. قال أبو عمرو بن العلاء: كان امرؤ القيس ينازع كل من أدعى الشعر، فنازعه التوءم اليشكري، وذكره أبو الحجاج الأعلم في "شرح الأشعار الستة"، وغيره. الشاهد فيه ، قوله "مجوس" لم يصرفه للعلمية والتأنيث، ولا يسوغ دخول لام التعريف، على الاسم العلم، وقد تقدم الكلام عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 المعنى وصف برقاً، يقول: هب وهنا، أي، لمع وبدأ بعد هدء من الليل، يقال: أتانا بعد وهن، أي بعد ما مضى منه حين. وقوله: "بريقاً" هو تصغير برق ف اللفظ، وأراد به التعظيم في المعنى، ويدل على إرادته التعظيم، قوله: "كنار مجوس"، لأنه أبلغ في وصف النار بقوله: "تستعر استعارا". وخص المجوس لأنهم عبدة النار، ونارهم أعظم نار، وأشدها استعاراً. وربما جاء الاسم مصغراً، وهم يريدون تعظيمه، كما قال: دوهية تصفر منها الأناملُ يعني الموت، وهو من أعظم الدواهي. وأنشد أبو علي في الباب. (194) والتَّيمُ الأمُ منْ يمشي والأمهمُ ... ذهلُ بن تيمٍ بنو السُّودِ المدانيسِ هذا البيت لجرير. الشاهد فيه، دخول الألف واللام، على "التيم"، ويحتمل أرين: أحدهما: أن تكون بمنزلة الحارث والعباس، وذلك أن "التيم" مصدر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 والمصادر قد أجريت مجرى أسماء الفاعلين، ألا ترى أنه قد وصف بأسماء الفاعلين، وجمع جمعها، نحو: نور ونوار، وسيل وسوائل، فلما كانت مثلها، أجروها مجراها، وعلى هذا قالوا: الفضل في اسم رجل، كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص. والثاني: أن يكون على تيمي وتيم، كزنجي وزنج، ويهودي ويهود، وفي التنزيل: (وقالت اليهود) جمع يهودي، ولذلك دخت الألف واللام وقد تقدم. المعنى: هجا عمرو بن لجا التيمي، وعرض بعدي بن الرقاع، ولم يصرح باسمه. وبعد البيت: تدعى لشرِّ أبٍ يا مرفقيْ جعلٍ ... في الصَّيفِ يدخلُ بيتاً غير مكنوسِ وأنشد أبو علي في الباب. (195) سلُّومُ لوْ أصبحتِ وسطَ الأعجمِ في الرُّومِ أو في التُّركِ أو في الدَّيلمِ إذاً لزرناكِ ولو لمْ نسلمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 هذا الرجز لأبي الأخزر الحمَّاني. الشاهد فيه قوله: " الأعجم"، على حد العجمي وأعجدم، ثم عرف بالألف واللام، كما تقول: في يهودي واليهود. وقيل: إن الأعجم هنا، بعنى العجم، ومثله قول الآخر: ممَّا تعتِّقه ملوكُ الأعجمِ يريد: العجم، وقال أبو النجم: وطالما وطالما وطالما غلبتُ عاداً وغلبتُ الأعجما يريد: العجم، فأفرد، لمقابلته بعادٍ، وعاد لفظ مفرد، وإن كان معناه الجمع. ويجوز أن يريد: الأعجمين، وإنما يريد، غلبت الناس كلهم، ومن الناس من يروي: إذا لزرناكِ ولو بسلَّمِ ولا وجه له، لأن السلم لا يستعمل في قطع المسافات البعيدة، وإنما يستعمل في صعود المواضع المرتفعة، ولو قال قائل لصاحبه: لو كنت ببغداد لنهضت إليك ولو بسلم لم يكن له معنى يعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وقد يستعمل السلم بمعنى السبب وليس له هاهنا وجه، لأنه كان يجب أن يقول ولو بغير سبب يوجب النهوض. والسلم: مذكر قال الفراء: كنت أحفظ بيتاً شاهداً على تأنيث السلم وأنسيته. قال أبو سعيد الغاضري: البيت الذي نسيه الفراء هو قول الشاعر: لنا سلَّمٌ في المجدِ لا يرتقونها ... وليسَ لهمْ في سورةِ المجدِ سلَّمُ وأنشد أبو علي في الباب. (196) بلْ بلدٍ ملءِ الفجاجِ قتمهْ لا يشترى كتانهُ وجهرمهْ هذا الرجز لرؤبة بن العجاج. ووجه الشاهد فيه، قوله "وجهرمه"، وقد بين أبو علي أنه يحتمل وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 أحدهما: أنه أتى على لفظ "جهرمي وجهرم" ثم عرف بالإضافة كما عرف ما تقدم بالألف واللام. والثاني: أن يقدر: لا يشترى كتانه، ووشي جهرمه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقال أبو حاتم والزيادي: الجهرم: البساط من الشعر. والجميع: جهارم. وقيل: جهرم: قرية من قرى بلاد فارس، تنسب الثياب الجهرمية. فعلى هذا القول، ليس فيه نسب، ولا هو على حذف المضاف. وبعده: يجتابُ ضحضاحُ السَّرابِ أكمهْ خارجةً أعناقهُ ولممهْ بعدَ ائترازٍ فيه أو تعمُّمهْ تهفو بإنسانِ البصرِ طسمهْ الإعراب يروى "بل بلد" بالخفض على إضمار "رب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 وملء: صفة له. وقتمه: مرتفع بملء. ويروى: "بل بلد" بالرفع على إضمار المبتدأ. وقتمه: مبتدأ. وملء الفجاج: خبره. وأنشد أبو علي في باب ما دخلته تاء التأنيث، وهو اسم مفرد، لا هو واحد من جنس كتمرة وتمر، ولا له مذكر، كمرأة ومرء، ولا هو بوصف. (197) وما ذكرٌ فإنْ يكبرْ فأثنى ... شديدُ الأزكِ ليسَ بذي ضروسِ أراد بالذكر: القراد، لأنه صغير يسمى قراداً، فإذا كبر، سمي حلمة، وهو لغز، وقد بينه أبو علي. ويجمع ضرس على أضراس، قال: وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراسِ ويجمع أيضاً على أضرس، قال: وقرعنَ نازكَ قرعةً بالأضرسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 وأنشد أبو علي في الباب. (198) إنِّي وجدتُ بني سلمى بمنزلةٍ ... مثل القراد على حاليه في النَّاسِ هذا البيت من أخبث الهجاء، يقول: إنهم يولودن ذكراناً، فإذا شبّوا صاروا إلى مثل حال الإناث. يريد: أن القراد صغيراً يسمى قراداً، وهو مذكر، فإذا كبر سمي حلمة، فصار له اسم المؤنث. وأنشد أبو علي في الباب. (199) وكنَّا إذا الجبَّارُ صغرَّ خدَّهُ ... ضربناهُ تحتَ الأنثيينِ على الكردِ هذا البيت للفرزدق. الشاهد فيه، قوله "فوق الأنثيين" أراد: الأذنين سماهما بالتأنيث اللاحق لهما، لفظاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 ولا حقيقة أنثى تحته، مثل ما تقدم، ومثله من تأنيث اللفظ، قول الآخر: وعنترة الفلحاء جاء ملاماً ... كأنه فنجٌ منْ عمايةَ أسودُ قال: الفلحاء، لما كان عنترة اسماً مؤنث اللفظ، ومثله كثير، ومنه قولهم، لبيضتي الإنسان: أنثيان. وهذا نحوه، مما يضعف التذكير، في مثل: حسن دارك، واضطرم نارك، وإن كان تأنيثاً غير حقيقي، ألا ترى أنه قد أطلق لفظ "أنثى" على ما لا حقيقة تأنيث فيه، اطلاقه على المرأة والجارية، ونحوه. كما لا يجوز: قام المرأة، كذلك يضعف حسن دارك. اللغة الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد حقاً. يقال: جبار بين الجبرية والجبرية، بكسر الجيم والباء أو بفتحهما، والجبار من الملوك: العاتي وقيل: كل عات: جبار وجبير. وقلب جبار: لا تدخله الرحمة. والجبار: المتسلط، وفي التنزيل: (وما أنت عليهم بجبار) وكله راجع إلى معنى التكبر. والتصعير: إمالة الخد عن النظر إلى الناس تهاوناً من كبر، كأنه معرض، يقال: قد صغر خده، وصاعره، وفي التنزيل: (ولا تصاعر خدك للناس) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 وأصعره كصعره، وربما كان الصعر خلقة في الإنسان. وقيل: هو ميل إلى أحد الشقين. وقيل: هو داء يأخذ البعير، في لو يعنقه ويميله. يقال منه: صعراً صعراً، وبعير أصعر، وجمعه: صعر، قال الشاعر: وترى لها دلاًّ إذا نطقتْ ... تركتْ بناتِ فؤادهِ صعرا وقال أبو دؤيب: فهنَّ صعرٌ إلى هدرِ الفنقِ ولمْ ... يجفرْ ولميسلهِ عنهنَّ إلقاحُ والكرد: أصل العنق، فارسي معرب. وأنشد أبو علي في الباب. (200) أوردَ حذّاً تسبقُ الأبصارا وكلَّ أنثى حملتْ أحجارا هذا الرجز للعجاج. الشاهد فيه، قوله "وكل أنثى"، وأردا الأنثى: المنجنيق، لأنها مؤنثة اللفظ، فأخبر عنها بالأنثى كما تقدم. اللغة يقال: منجنيق، ومنجنوق، وتسمى القذّاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 والحذ: جمع أحذ، وهو سهم خفيف، والأحذ من الخيل: الخفيف شعر الذنب. وصفها بالسرعة. وبين البيتين: تسبقُ بالموتِ القنا الحرارا تسرعُ دونَ الجننِ البشارا والمشرفيَّ والقنا الخكَّارا يقول هذه الأرجوزة العجاج، في الحجاج بن يوسف الثقفي. وهو الذي يعني بأورد، يريد: أورد الرماح والسيوف والسهام والمجانيق ديار أعدائه. وأنشد أبو علي في الباب. (201) بلْ ذاتُ كرومةٍ تكنفها ال ... أحجارُ مشهورةٌ مواسمها الشاهد فيه، قوله: "الأحجار"، كنى عن الرجال بالأحجار، لما كانوا يسمون بها، كصخر؟، وحجر، وجندل، فكنى عنهم بالأحجار، كما أنثت الأسماء التي تقدمت تأنيثاً لفظياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 الإعراب رفع "ذات أكرومة" على تقدير، بل هي ذات أكرومة، و "مشهورة" بالرفع والنصب، فمن رفع جعل "مواسمها" مبتدأ، و "مشهورة" خبره، والجملة في موضع الحال. ومن نصب فعلى الحال، ومواشمها: مرفوعة بمشهورة، ويروي: مراسمها. وصف كتيبة. وأنشد أبو علي في باب ما جاء من الجمع على مثال "مفاعل" فدخلته تاء التأنيث. (202) طافتْ به الفرسُ حتَّى بذَّ ناهضها ... عمٌّ لقحنَ لقاحاً غيرَ مبتسرِ هذا البيت لابن مقبل. الشاهد فيه، قوله "الفرس" وهو جمع "فارسي" على النسب، كيهودي واليهود، وقد تقدم أمثاله. اللغة وصف خلاً، يقول: قامت عليها الفرس، أي: خدمتها وأصلحتها، حتى بذَّ ناهضها، أي سبق وغلب، والناهض: الذي نهض قليلاً ولم يكمل. والعم: الطوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 من النخل والنبات، والرجال، واحده معميم، يقال: جارية عميمة، ونخلة عميمة، والجمع: عم. قال سيبويه: ألزموه التخفيف، إذ كانوا يخففون غير المعتل، ونظيره: بون، وكان يجب عمم، كسرير وسرر، لأنه لا يشبه الفعل. وجاء عن الحياني: نخلة عم، إما أن تكون"فعلاً" وهي أقل وإما أن تكون "فعلاً" أصلها عمم، فسكنت الميم وأدغمت، ونظيرها على هذا، ناقة علط، وقوس فرج. وهذا باب واسع. وقوله: "غير مبتسر"، ويقال: ابتسر التيس الشاة، إذا ضربها على غير شهوة، استعاره للنخلة، أي: لم يلقحها في غير وقتها. يقال: ألقح الفحل الناقة، ولقحت هي: حملت، وهيلاقه. وأنشد أبو علي في باب ما أنث من الأسماء من غير لحاق علامة من هذه العلامات الثلاث. (203) لمَّا تذكَّرتُ بالديرينِ أرَّقني ... صوتُ الدَّجاجِ وقرعٌ بالنَّواقيسِ هذا البيت لجرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 الشاهد فيه، قوله: "الدجاج" يعني به الديكة، يقال للديك: دجاجة، فإذا أرادوا الأنثى، قالوا: هذه، وكذلك هذه بقرة وهذا بقرة، وهذه بطة، وهذا بطة، وهذه حمامة، وهذا حمامة. وقال الأخطل: نازعتهمْ طيبَ الرِّاحِ الشَّمولَ وقدْ ... صاحَ الدَّجاجُ وحانتْ وقعةَ السَّاري اللغة قوله: "بالديرين"، وإنما هو دير واحد بالشام، يقال له دير الوليد، ثناه ضرورةً ومجازاً، لما يتصل به من مجاروه، كقول الفرزدق: عشيةَ سالَ المربدانِ كلاهما ... سحابةَ موتٍ بالسَّيوفِ الصَّوارمِ وإنما هو مربد واحد، فثناه. ومعنى أرقني: أذهنوني، والتأريق من أولا للل. وصوت الدجاج، من آخره، ومجازه أن يكون على حذف مضاف، تقديره: أرقني انتظار صوت الديكة، ولو كان على لفظه، لكان خطأً. ومثله قول الآخر: أقولُ لصاحبيَّ بأرضِ نجدٍ ... وجدَّ مسيرنا ودنا الطُّروقُ أراد: ودنا وقت الطروق، وهو آخر الليل، وقال آخر: وأهلكَ مهرَ أبيك الدَّوا ... ءُ ليسَ لهُ منْ طامٍ نصيبْ أراد: فقد الدواء، وهو الصنعة وحسن القيام على الدابة، كقول الآخر: وداويتها حتَّى شتتْ حبشيَّةً ... كأنَّ عليها سندساً وسدوسا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 وقال النابغة: لإني لا ألامُ على دخولٍ أراد: على ترك دخول. وقرع النواقيس: ضربها، وذلك سحراً. وقبل البيت: لوْ لمْ قتلنا جادتْ بمطرفٍ ... ممَّا يخالط حبَّ القلبِم نفوسِ قد كنتِ خدناً لنا يا هند فاعتبري ... ماذا يربيكِ منْ شيبي وتقويسي وأنشد أبو علي في الباب. (204) فالعيُ بعدهمُ كأنَّ حداقها ... سلمتْ بشوكٍ فهيَ عورٌ تدمعُ هذا البيت، لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه، قوله "فالعين"، أراد بها الجنس، والدليل على ذلك، قوله: "فهي عور"، و "العور" لا تكون للواحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وقال غير أبي علي: إنه جعل كل جزء من الحدقة أعور، وكل قطعة منها عوراء [وهذه ضرورة، وإنما آثر أبو ذؤيب هذا، لأنه لو قال: "فهي عوراً] تدمع" لقصر الممدود، فرأى ما عمل أسهل عليه وأخف. اللغة العور: ذهاب حسن أحد العينين، وقد عور عوراً، وعار يعار، وأعور، وهو أعور. وصحت العين، في "عور" لأنه في معنى ما لابد من صحته. والجمع: عور، وعوران. وعوران قيس خمسة شعراء عور. الأعور الشني، والشماخ، وتميم بن أبي بن مقبل، وابن أحمر، وحميد بن ثور الهلالي. وبنو الأعور قبيلة، سموا بذلك، لعور أبيهم، وقال جبلة: وبعتُ لها العينَ الصَّحيحةَ بالعورْ فإنه أراد: العوراء، فوضع المصدر موضع الصفة، ولو أراد: العور، الذي هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 الغرض، لقابل العين الصحيحة، وهيجه، بالعور، وهو عرض وهذا قبيح في الصنعة. وقد يجوز أن يريد: العين الصحيحة، بذات العور، فحذف. وكل هذا، ليقابل الجوهر بالجوهر، لأن مقابلة الشيء بنظيره أذهب في الصنع وأشرف في الموضع. قال سيبويه: "حدثنا بعض العرب، أن رجلاً من بني أسد، قال يوم جبلة، واستقبلته بعير أعور، فتطير، فقال: يا بني أسد، "أعور وذا ناب"، فاستعمل الأعور للبعير". ووجه نصبه، أنه لم يرد: أن يسترشدهم، ليخبروه عن عوره، وصحته، ولكنه نبههم، قال: أتستقبلون أعور وذا ناب، فالاستقبال في حال تنبيهه إياهم كان واقعاً، وأراد أن يثبت الأعور، ليحذروه. فأما قول سيبويه في تمثيل النصب: أتعورون، فليس من كلام العرب، ونظير ذلك قوله في "الأعيار" من قول الشاعر: أفي السِّلمِ أعياراً جفاءً وغلظةً ... وفي الحربِ أشباهُ الَّنساءِ العواركِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 أتعيرون، وكل ذلك إنما هو، ليصوغ الفعل مما لا يجري على الفعل، أو مما يقل جريه عليه. والأعور: الغراب، على التشاؤم به، لأن الأعور عندهم مشؤم. وقيل: لخلاف حاله، لأنهم يقولون: "أبصر من غراب". ويسمى عويراً، على تصغير الترخيم. وقوله، أنشده ثعلب: ومنهلٍ أعورَ إحدى العينينْ بصيرِ أخرى وأصمَّ الأذنينْ فسره فقال: معنى إحدى العينين، أي كان فيه بئران، فذهبت واحدة فذلك معنى قوله: "أعور إحدى العينين". وبقيت واحدة، فذلك معنى قوله: "بصير أخرى". وقوله: "أصم الأذنين" أي: ليس يسمع فيه صدى. وطريق أعور: لا علم في. وهو مثل. والأعور: الرديء منكل شيء. والأعور: الضعيف الجبان البليد الذي لا خير فيه، عن ابن الأعرابي، وأنشد للراعي: إذا هابَ جثمانهُ الأعورُ يعني بالجثمان: سواد الليل ومنتصفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 والأعور: السيء الدلالة، وقيل: الذي لا يدل ولا يندل. والحداق: جمع حدقة. وسملت: غرزت. وبعد البيت: حتَّى كأنَّي للحوادثِ مروةً ... بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تقرعُ وتجلُّدي للشَّامتين أريهمُ ... أنِّي لريبِ الدهرِ لا أتضعضعُ والنَّفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها ... وإذا تردُّ إلى قليلٍ تقنعُ وأنشد أبو علي في الباب. (205) لها عناجان وستُّ آذانْ هذا الشطر أنشده أبو زيد، في "نوادره" ولم يسم قائله، وقبله: لا دلو إلاَّ مثلَ دلو أهبانْ الشاهد فيه ، تأنيث الآذان، ولهذا قال: "وستُّ آذانْ"، لم يقل ستة، لأن علامة التأنيث تحذف في العدد، فيما بين الثلاثة إلى العشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 اللغة العناج: خيط أو سير، يشد في أسفل الدلو ثم يشد في عروته. وقيل: عناج الدلو، عرو في أسفل الغرب من باطن، يشد بوثاق إلى أعلى الكرب، فإذا انقطع الحبل، أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر. وكل ذلك إذا كانت الدلو خفيفة، وهو إذا كانت الدلو ثقيلة: حبل أو بطان، يشد تحتها، ثم يشد إلى العراقي فيكون عوناً للوذم. قال الحطيئة: قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهمُ ... شدُّوا العناجَ وشدُّوا فوقهُ الكربا وأنشد أبو علي في الباب. (206) أرى رجلاً منهمْ أسيفاً كأنَّما ... يضمُّ إلى كشحيهِ مفّاً مخضبا هذا البيت للأعشى. الشاهد فيه قوله: "كفّاً مخضباً"، وكان وجه الكلام "مخضبةً"، لأن الكف مؤنثة، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 يتخرج على وجهين: أحدهما: أنه حمل الكف على المعنى ، لأنه عضو، فيكون من تذكير المؤنث غير الحقيقي، وقد تقدم القول في مثله، وأوردت أبياتاً من تذكير المؤنث، وتأنيث المذكر. الثاني: أنه جعل "مخضباً" صفة لرجل. وقال أبو علي: يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في قوله: "يضم"، أو من الضمير المجرور في قوله: "كشحيه". اللغة الأسيف: الأسير. وهو من الأسف. وهو المبالغة في الحزن. والأسيف أيضاً: الأجير. والكشحان: الخصران. وصلته: وما عندهُ مجدٌ تليدٌ وما لهُ ... منَ الريحِ حظٌّ لا الجنوبُ ولا الصَّبا وأنشد أبو علي في الباب. (207) ولا أرضَ أبقلَ إبقالها صدره: فلا مزنةٌ ودقتْ ودقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 والبيت لعامر بن جوين الطائي. أتى به أبو علي، في أثناء كلامه تقوية لبيت الأعشى، أنه حمل"الكف" على العضو، كما حمل هذا الشاعر، "الأرض" على المكان، أو يكون على إسقاط علامة التأنيث من "فعل" متأخر، لاسم مؤنث متقدم. وأنشد أبو علي في الباب. (208) يا بثرُ يا بئرَبني عديِّ لأنزحنْ قعركِ بالدِّليِّ حتَّى تعودي أقطعَ الوليِّ الشاهد في هذه الأشطار: قوله: "حتى تعودي أقطع"، وكان حقه أن يوقل: قطعاء الولي، وإنما حمل على المعنى، أراد: قليباً أقطع، لأن التذكير في القليب أكثر. فحمل على معناه، كما حمل الآخر الأرض على المكان. اللغة قليب أقطع: ذهب ماؤه، أو قل. والاسم: القطعة. وفي الحديث: "كانت يهود قوماً لهم ثمار، لا تصيبها قطعة". أي: لا ينقطع الماء عنها. ورجل أقطع: مقطوع اليد. وجمعه: قطع وقطعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 والقطعة: موضع القطع من اليد. وقعر كشيء: أقصاه، وجمعه قعور، وبئر قعورة وقعور: بعيدة القعر. والدلي: جمع دلو، وتقديره: "فعول". ونزحت البئر: نقص ماؤها، ونزحتها: نقصت ماءها. وبئر نزوح: قليلة الماء. والولي: اسم واقع على أشياء منها: الصديق والصاحب، فكأن هذه البئر، إذا نفذ ماؤها عدم الاستقاء منها، فكأن أيديم، يتولى ذلك منها قد قطعت. فها معنى قوله: "أقطع الولي". وأنشد أبو علي في الباب. (209) فباتت ركابُ بأكوارها ... لدينا وخيلٌ بألبادها لقومِ فكانوا همُ المنفدينَ ... شرابهم قبل إنفادها هذان البيتان للأعشى. الشاهد فيهما "تأنيث الشراب"، حملاً على المعنى، لما لراد به: الخمر. وهو مثل ما تقدم يؤكد تذكير "الكف" في الشعر. اللغة الركاب: الإبل، وجمعها: ركب، وواحد الركاب: راحلة. والأكوار: جمع كور، هو الرحل، ويجمع أيضاً كيران. والألباد: جمع لبد، وهو السرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 المعنى وصف نزولهم على الخمار، وهم بركابهم وخيلهم، لم يزيلوا عنها رحالها، ولا سروجها، حتى أنفدوا شرابه، ولم تنفد عقولهم، وقيل: لم تنفد دارهمهم، لأنهم مياسير أغنياء. وقبلهما: دارهما كلُّها جيِّدٌ ... فلا تحبسنَّا بتنقادها فقامَ فصبَّ لنا قهوةً ... تسكِّننا بعد إرعادها كميتاً تكشفُ عنْ حمرةٍ ... إذا صرَّحتْ بعد إزبادها وأنشد أبو علي في الباب. (210) سقى العلمَ الفردَ الَّذي بجنوبهِ ... غزالانِ مكحولانِ مختضبانِ هذا البيت، أنشده أبو زيد في "نوادره"، لبعض الأعراب من بني جشم. وأنشد بعده: إذا أمنا التثيا بحيديْ تواصلٍ ... وعندَ طلوعِ الشَّمسِ يفترقانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 طلبتهما ختلاً فلم أستطعهما ... ورمياً فقاتاني وقدْ رمياني الشاهد فيه "مختضبان"، تقوية لما جاء في بيت الأعشى، أن يكون قوله: "مخضباً" نعتاً للرجل، لا للكف، فلا يكون في البيت ضرورة. يقال: رجل مخضب ومخضوب، إذا خضبت يده، كما تقول: رجل مقطوع، إذا قطعت يده. اللغة العلم: الجبل الطويل، وقال ابن الأعرابي: العمل: الجبل، ولم يخص الطويل. والجمع: أعلام وعلام، قال الشاعر: قد جبتُ عرضَ فلاتها بطمرَّةٍ ... والَّليلُ فوقَ علامهِ متقوِّضُ وقال كراع: "ونظيره: جبل وأجبال وجبال، وجمل وأجمال وجمال، وقلم وأقلام وقلام". واعتلم البرق: لمع في العلم. والعلم أيضاً: الفصل بين الأرضين. والعلم أيضاً: شيء ينصب في الفلوات، تهتدي به الضالة. ويقال: بين القوم أعلومة، كعلامة، عن أبي العميثل الأعرابي والجنوب: جمع جنب، كقلب وقلوب، وفلس وفلوس. وأنشد أبو علي في الباب. (211) عليها منْ قوادم َمضرحيَّ ... فتي السنِّ محنتكِ الضُّلوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 هذا البيت لعنترة بنشداد العبسي. الشاهد فيه الإخبار بالسن عمن لا سن له، والعرب قد اتسمت فيها، حتى صارت أمارة للهرم، والكبر، يقال: كبرت سني. اللغة المضرجب: النسر، وهو من الصقور: ما طال جناحاه، وهو الكريم فيها. والفتي: كالفتى، وهو الشاب. والسن من العمر أنثى، كالسن من الفم. والحنكة: السن والتجربة، وحنكته التجارب: هذبته، وأوان الظهور سن العقل. ويروى: "محتبك" بالباء، من حبك الناسخ الثوب: إذا أجاد نسجه، ومن الشيء المحبوك، وهو المجدول، أي: المحكم. يققال: جدل الفتل، إذا أحكم فتله. والضلوع والأضالع والأضلاع والأضلع، واحدها ضلع وضلع، وهي محنية الجنب مؤنثة. المعنى وصف سهاماً راشها من قوادم المضرجي، وهي من جناح الطائر الريش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 الكبار، وقيل: إنما وصف شعر ذنب ناقته بالصفو والسبوغ، وجعل المضرجي فتي السن، وإن كان لا سن له، مجازاً واتساعاً، كما وصفه بالاحتناك أو الإحتباك. وأنشد أبو علي في الباب. (212) وقدرٍ ككفَّ القردِ لا مستعيرها ... يعارُ ولا يأتها يتدسَّمِ هذا البيت، لتميم بن أبي (بن) مقبل. الشاهد فيه "تأنيث القدر"، لأنه قال: "لا مستعيرها"، فرد عليها ضمير المؤنث. المعنى هجا قوماً، فجعل قدرهم في الصغر ككف القرد، وجعلها لا تعار، ولا ينال من دسمها، تأكيداً للؤمهم. ويحتمل أن يكون قوله: "لا مستعيرها يعار"، أي لا مستعيرها يعارها، أي: لا مستعير يستعيرها فيعارها، لأنها لصغرها مأبية. فيكون كقول امرئ القيس: لا يفزعُ الأرنبَ أهوالها ... ولا ترى الذِّئبَ بها ينجحرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 أي: لا أرنب بها فيفزعها أهوالها، ولا ذئب فينجحر. ومثله قولهم: "هم في أمر لا ينادى وليده" أي، لا وليد فيه فينادى، وإنما الكفاة والنهضة، على بعض الأقوال فيه. ومثله قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) . الإعراب يروى: "يتدسّم" بالرفع والجزم. فمن رفع، جعله وهو مؤخر في نية التقديم، كأنه قال: ولا يتدسم من يأتها. مثل قول الآخر: وما ذاك أن كان ابن عميِّ ولا أخي ... ولكن متى ما أملكُ الضُّرَّ أنفعُ ومثله قول الآخر: يا أقرُ بن حابسٍ يا أقرعُ ... إنَّك إنْ يصرع أخوك تصرعُ وقول زهير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرامُ وإنما قبح مثل هذا، ولم يحسن إلا في الشعر من طريق أن "إن" عملت في الشرط فلا يحسن إلا أن يكون لها جواب ينجزم بما قبل، فهذا الذي يشاكلها إذا أعملت، وإنما يحسن إذا قلت: إن أتيتني آتيك، والتقدير: آتيك إن أتيتني، ولا يحسن آتيك إن تأتني إلا في الشعر كما تقدم. ووقع في نسخ "الإيضاح" مرفوعاً، والصحيح جزمه با بشر، الذي هو "من"، لأن سيبويه استشهد بهذا البيت على المجازاة "بمن"، مع دخول"لا" عليها، ولمتغير عملها، لأننا لغو فيه، كما تطون في مواضع كثيرة. وأنشد أبو علي في الباب. (213) شرحُ اليدينِ إذا ترفعتِ الضُّحى ... هدجَ الثفالِ بحملهِ المتثاقلِ الشاهد فيه تأنيث"الضحى"، وإن لم تكن فيه علامة التأنيث، استدل عليه بقوله: "ترفعت"، ويصغر بغير هاء التأنيث "ضحي". ولها أخوات، وهي: القوس والحرب والدرع والعرس. لم تختلف العرب في تصغيرها بغير هاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 اللغة السرح: الناقة السريعة الخفيفة. والسروج أيضاً. والضحو والضحوة: ارتفاع النهار. والضحى: فوق ذلك. والضحاء، إذا مدَّ النهار. والهدج والهدجان: مشي في ضعف. وقد يكون بارتعاش. وهدج الشيخ في مشيه يهدج هدجاً وهدجاناً، إذا قارب خطوه، وأسرع من غير إرادة. وهدج الظليم واستهدج. والثفال: الجمل المعيي البطيء. والمتثاقل: الثقيل. وصف ناقة. ونصب "هدجاً" على المصدر الشمبه به. وأنشد أبو علي في الباب. (214) وحربٌ عوانٌ بها ناخسٌ ... مرينُ برمحي فدرَّتْ عساسا هذا البيت، للنابغة الجعدي. الشاهد فيه تأنيث "الحرب" واستدل بقوله: "بها ناخس". فرد عليه ضير المؤنث. اللغة العوان من الحر: التي قوتل فيها مرة، وهو على المثل. ويقال: نخلة عوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 وهي الطويلة. وأما العوان من النساء: فالتي قد كان لها زوج، والجمع: عون، قال: نواعم بين أبكارٍ وعونٍ ... طوالُ مشكِّ أعقادِ الهوادي والعوان من البقر، وغيرها: النصف في سنها، وفي التنزيل: (عوان بين ذلك) . وقيل: العوان من البقر والخيل: التي نتجت بعد بطنها البكر. والداء الناجس والناخس: الذي لا يبرأ منه. كأنه ينخس ولا يبرأ. وقيل: هو جرب تحت ذنب البعير، ولذلك قيل له: ناخس. ومعنى "مرين برمحي": المري: ضربك الضرع، ليجتمع فيه الدر. والعساس، جمع عس وهو القدح الضخم، وقيل هو أكبر من الغمر، وهو إلى المعنى يقول هذه الحرب عوان، قد قوتل فيها مرة، وتركب من أجلها في النفوس إحن، فلما مريتها برمحي، أي هيجتها وأضرمتها، درت عساساً. وهذا مثل. الإعراب قوله: "درت عساساً" أي: درت در عساس فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيكون "عساساً" على هذا التقدير مفعولاً، أي: درت لبناً كثيراً، فينتصب " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 عساساً" على المصدر كما قال الأعشى: ألمْ تغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدا وكما قال الآخر: يردُّ الكتيبةَ نصفَ النَّهارْ وفيه غير هذا، وفيه نظر. وأنشد أبو علي في الباب. (215) ومكنُ الضَّبابِ طعاُ العريبِ ... ولا تشتهيهِ نفوسُ العجمْ هذا البيت، لأبي الهندي، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس. الشاهد فيه مجيء "العريب" مصغراً بغير علامة التأنيث، وتكبيرها مؤنث، قالوا: العرب العاربة، فالصفة دلت على تأنيث الموصوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وقد جاءت أسماء مؤنثة، لا يلحقها هاء التأنيث في التحقير، مثل القوس والعرس والحرب والذود والضحى. اللغة العرب والعرب: خلاف العجم، ويقال: عرب عاربة وعرباء. وهم الصرحاء ومتعربة ومستعربة: دخلاء. والعربي: منسوب إلى العرب، وإن لم يكن بدوياً. والأعرابي: البدوي. وهم الأعراب. والأعاريب: جمع الأعراب. والنسب إلى الأعراب: أعرابي. قال سيبويه: "إنما قيل في النسب إلى الأعراب: أعرابي، لأنه لا واحد له على هذا المعنى. ألا ترى أنك تقول: العرب، فلا يكون على هذا المعنى. فهذا يقويه". وعربي بين العروبة والعروبية، ومها من المصادر التي لا أفعال لها. والضباب: جمع ضب، وهي دويبة تكنى أبا حسل. ومكنه: بيضه. وقبله: أكلتُ الضِّبابَ فما عفتها ... وإنِّي لأشهى قديدَ الغنمْ ولحمُ الخريفِ حنيذاً وقدْ ... أتيتْ به فاتراً في الشِّيمْ وقدْ نلتُ منها كما نلتمُ ... فلمْ أرَ فيها كضبٍّ هرمْ وما في البيوض كبيضِ الدَّجاجِ ... وبيضُ الجرادِ شفاءُ القرمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 وأنشد أبو علي في الباب. (216) منْ لمْ يمتْ عبطةً يمتُ هرماً ... الموتُ كأسٌ والمرءُ ذائقها هذا البيت لأمية بن أبي الصلت. وذكر صاعد وغيره من أيمة الغة. أنه لرجل من الخوارج، قتله الحجاج. الشاهد فيه ، تأنيث "الكأس"، دل عليه قوله: "ذائقها". فردَّ إليها ضمير المؤنث، ومثله: ستشربُ كأساً مرَّةً تتركُ الفتى ... تليلاً لفيهِ للغرابينِ والخمْ وقال تعالى: (بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 اللغة يقال: مات فلان عبطةً: أي مات شاباً، واعتبطه الموت، وعبطه على المثل. ولحم عبط: طري بين العبطة. وعبط بنفسه في الحرب، وعبط نفسه عبطاً: ألقاها فيها غير مركه، وعبط الأرض يعبطها عبطاً، واعتبطها: حفر فيها موضعاً لم يحفر قبل. قال: ظلَّ في أعلى يفاعٍ جاذلاً ... يعبطُ الأرضَ اعتباطَ المحتفرْ وعبط الشيء يعبطه عبطاً: شقه صحيحاً. وعبط الشيء نفسه: انشق، قال القطامي: وظلَّتْ تعبطُ الأيدي كلوماً ... تمجُّ عروقها علقاً متاعا عبط الذبيحة يعبطها عبطاً: نحرها من غير علة ولا داء ولا كسر، وهي سمينة فتية. وناقة عبيطة معتبطة، وكذلك الشاة والبقرة، والجمع: عبط وعباط. أنشد سيبويه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 أبيتُ على معاريَ واضحاتٍ ... بهنَّ ملوِّبلإ كدمِ العباطِ وقبل البيت: ما رغبةُ النفسِ في الحياةٍِ وإن ... عاشتْ قليلباً فالموت لاحقها وأيقنتْ أنها تعودُ كما ... كان براها بالأمسِ خالقها يوشكُ منْ فرَّعنْ منيتهِ ... في بعضِ غراته يوافقها منْ لمْ يمتْ عبطةً يمتً هرماً ... الموتُ كأسٌ والمرءُ ذائقها وأنشد أبو علي في الباب. (217) ما أرجِّي بالعيشِ بعدَ نادمى ... قدْ أراهمْ سقوا بكأسِ حلاقِ هذا البيت لمهلهل بن ربيعة التغلبي، واسمع عدي. وقيل: امرؤ القيس. وقيل: مهلهل: لقب لُقب به لقوله: لمَّا توقَّلَ في الكراعِ هجينهمْ ... هلهلتُ أثأرُ مالكاً أو كاهلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 وقيل: إنما ذلك، لأنه أول من هلهل الشعر. أي: أرقه. الشاهد فيه إضافة "كأس" إلى "حلاق". وحلاق: اسم للمنية معدول عن حالقة، لأنها تجلق، أي تقشر. وفيه رد على الأصمعي، في منعه أن يقال للموت: كأس. لا فصل بين إضافة الكأس إلى حلاق، الذي هو المنية، وبين إضافته إلى الموت. اللغة وحلاق أيضاً: السنة المجدية، كأنها تقشر النبات. والندامى: جمع ندمان، كسكران وسكارى. وندام جمع نديم ككريم وكرام. ويروى: "بكأس خلاق" بخاء معجمة. و المعنى : بكأس نصيبهم من الموت. كقوله تعالى: (فاستمتعوا بخلاقهم) . أي بنصيبهم. الإعراب هذا المثال الذي يأتي على "فعال"، أي أربعة أضرب. الأول: أن يكون اسماً للفعل، نحو: نزال وتراك، بمعنى انزل واترك، فهما معدولان، عن المنازلة والمتاركة قال زهير: ولنعمَ حشوُ الدِّرعِ أنتَ إذا ... دعيتْ نزالٍ ولجَّ في الذُّعرِ وقال زيد الخيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 وقد علمتْ سلامةُ أن سيفي ... كريهٌ كلَّما دعيتْ نزالِ وقال آخر: حذارِ منْ أرماحنا حذارِ وقال آخر: نظارِ كيْ أركبهُ نظارِ الضرب الثاني: أن يكون صفة غالبة، تحل محل الاسم، نحو قولهم للضبع: جعار، وللمنية: حلاق، والدليل على أنها صفة مؤنثة، قول الآخر: لحقتْ حلاقِ بهمْ على أكسائهمْ ... ضربَ الرِّقابِ ولا يهمُّ المغنمُ والضرب الثالث: أن يجيء معدولاً عن المصدر، نحو جماد وحماد وفجار، قال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 جمادِ لها جمادِ ولا تقولي ... طوالَ الدهرِ ما ذكرتْ حمادِ بمعنى قولي لها: جموداً ولا تقولي لها: حمداً. وقال النابغة: إنَّا أقتسمنا خطَّتينا بيننا ... فحملتُ برةً واحتملتَ فجارِ والضرب الرباع: أن تسمي امرأة أو شيئاً باسم تصوغه على هذا المثال، نحو: رقاش وحذام وشبهه، فهذا مؤنث معدول عن راقشة وحاذمة. وأهل الحجاز يجرون هذا الضرب الرباع مجرى ما قبله من الضروب في البناء. قالوا: "اسقِ رقاشِ إنها سقَّايةٌ". وقال آخر: إذا قالتْ حذامِ فصدِّقوها ... فإنَّ القولَ ما قالتْ حذامِ وينشدون أيضاً: وأقفرَ منْ سلمى شراءِ فيذبلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وبنو تميم إذا أزالوه عن النعت فسموا به، صرفوه في النكرة، ولم يصرفه في المعرفة. وسيبويه يختار هذا القول الأخير، فيقول: هذه رقاش قد جاءت، وهذه غلاب قد جاءت، وهذه غلاب وغلاب أخرى. ولا خلاف في صرفه إذا كان نكرة، ولا في إعرابه، إذا كان معرفة. وصرفه في النكرة، إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل سميته "نزال" أو رقاش أو حلاق. فهذا بمنزلة رجل سميته بعناق وأتان، لأن التأنيث، قد ذهب عنه رأساً. المعنى يقول: ما أرجو من العيش بعد أصحاب وأخدان، قد أهلكهم الدهر، وأفناهم الموت. وأنشد أبو علي في الباب. (218) أما شربتَ بكأسٍ دارَ أوَّلها ... على الأناسِ فذاقوا جرعةَ الكأسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 هذا البيت لعمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وكان رأس القعد من الصفرية، وخطيبهم وشاعرهم، يرثي أبا بلال مرداس بن أدية، وهي جدته. وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة. الشاهد فيه "بكأس دار أولها"، يعني بالكأس: الموت. وهذا يقوي قول مهلهل، ويقوي الرد على الأصمعي، حيث أكر أن يقال للموت: كأس. اللغة يقال: جرع الماء، وجرعه يجرعه جرعاً، واجترعه وتجرعه: بلعه، والاسم: الجرعة والجرعة، وقيل: الجرعة: المرة والواحدة. والجرعة: ما اجترعت، وجرع الغيظ: كظم، على المثل. "وأفلت بجريعة الذقن" وجريعة الذقن، بغير حرف جر، أي: قرب الموت منه كقرب الجريعة من الذقن، وقيل معناه: أفلت جريضاً، قال مهلهل: ملنا على وائلٍ وأفلتنا ... يوماً عديٌّ جريعةَ الذَّقنِ وقوله: "على الأناس" أراد: الناس، فأخرجه على الأصل، كما قال الآخر: إنَّ المنايا يطَّلع ... نَ على الأناسِ الأمنينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وهو جمع إنسان، فإذا أدخلت عليه الألف واللام، قلتك الناس. فتكون لام التعريف معاقبة للهمزة التي هي فاء الفعل. والشعر: يا عينُ بكيٍ لمرداسٍ ومصرعهِ ... يا ربَّ مرادسٍ اجعلني كمرداسِ تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزلٍ موحشٍ من بعدِ إيناسِ أنكرتُ بعدكَ ما قدْ كنتُ أعرفه ... ما الناسُ بعدكَ يا مرداسُ بالنَّاسِ أما شربتَ بكأسٍ دارَ أوَّلها ... على الأناس فذاقوا جرعة الكأسِ فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاسِ وفيه يقول: لقدْ زادَ الحياةَ إليَّ بغضاً ... وحبَّاً للخروجِ أبو بلالِ أحاذرُ أنْ أموتَ على فراشي ... وأرجو الموتَ تحتَ ذرى العوالي فمنْ يكُ همُّهُ الدُّنيا فإنّي ... لها والله ربِّ البيت قالي وأنشد أبو علي في الباب. (219) فما تدومُ على وصلٍ تكونُ بهِ ... كما تلوَّنُ في أثوابها الغولُ هذا البيت لكعب بن زهير، من قصيدته التي أنشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أذكر بعضها إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 الشاهد فيه "تأنيث المفعول". المعنى وصف امرأة، تتلون عليه بخلقها، كما تتلون الغول. والغول: مما تذكرها العرب في أشعارها وأخبارها، ويقال إنها ما أؤتيت قط، وقال تأبط شراً، يتغزل في الغول: فأصبحنُ والغولُ لي جارةٌ ... فيا جارتا أنتِ ما أهولا ويقال: إن "العول" تتصور في صور، وتتغير على هيئات، فشبه كعب محبوبته بها لتولنها عليه. مدح بهذه القصيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك، أن أباه زهيراً رأى في منامه آتياً أتاه، فعرج به إلى السماء، قصَّ رؤياه على ولده، وقال: إني لا أشك أنه سيكون بعدي خبر من السماء، فإن حدث فسارعوا إليه، وخذوا به، وتمسكوا بعروته. فلما بعث سيد البشر، صلى الله عليه وسلم خرج إليه بجير بن زهير فأسبم ثم رجع إلى بلاد قومه. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بجير إلى المدينة، وشهد معه يوم الفتح، ويوم حنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 وذكر أن بجيراً وكعباً خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغا قرب مكة، قال كعب لبجير: ألقَ هذا الرجل، وأنا مقيم لك ها هنا، فأنظر ما يقول. فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمع منه وأسلم، وبلغ ذلك كعباً، فقال: ألا أبلغا عنّي بجيراً رسالةً ... على أيِّ شيءٍ ويبَ غيرك دلكا على خلقٍ لم تلفِ أماً ولا أباً ... عليهِ ولم يدركْ عليهِ أخاً لكا سقاك أبو بكرٍ بكأسٍ رويةٍ ... وأنهلكَ المأمور منها وعلَّكا فبلغت أبياته رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أجل، لم يلف عليه أباه ولا أمه، وقال لأصحابه: من لقي منكم كعب بن زهير، فليقتله. وكتب بجير إلى كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بقتلك، وما أراك ناجياً، وكتب إليه يأمره أن يسلم، ويقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل منه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأسقط ما كان قبل لك. فأسلم كعب، وأقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجده صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد، وتخطى الناس، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، الأمان. قال: ومن أنت. قال: كعب بن زهير. قال: أنت الذي تقول، كيف قال يا أبا بكر؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 فأنشده الصدّيق رضي الله عنه حتى بلغ إلى قوله: سقاكَ أبو بكرٍ ... البيت. فقال: إني مأمور، فصفح عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم قام فأنشده: بانتْ سعادُ فقلبي اليوم مبتولُ ... متيَّمٌ عندها بمْ يجزَ مكبولُ وما سعادُ غداةَ البينِ إذ برزتْ ... إلا أغنُّ غضيضُ الطَّرفِ مكحولُ هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً ... لا يشتكى قصرٌ منها ولا طولُ وفيها: إنَّ الرَّسولَ لسيفٌ يستضاءُ بهِ ... مهنَّدٌ منْ سيوفِ الله مسلولُ نبئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني ... والعفو عندَ رسولِ الله مأمولُ وهي طويلة مشهورة. الإعراب دخول اللام في "الغول" هن، وهو اسم علم، كدخولها في العباس، وأبي القاسم، وهذه اللام في الأعلام إنما بابها الصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 و"الغول" في الحقيقة ليست صفة، لكنها لما كانت إلى النكارة والدعارة، دخلت طريق الوصف من هذا الوجه. كما ألحق من منع من العرب "أفعى" الصرف، بالوصف من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ. ألا ترى أن معنى "الغول" عندهم: الخبث والنكارة، فجرت مجرى الخبيث والنكير. وأنشد أبو علي في الباب. (220) وما وجدُ أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ... وجدنّ مجرّاً من حوارٍ ومصرعا هذا البيت لمتمم بن نويرة: الشاهد فيه تأنيث "الظئر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 قال أبو علي: "الظئر من الناس، مؤنثة"، وجمعها: أظآر وظؤار وظؤور وظؤروة. وقوله: "ثلاث" بغير علامة التأنيث، يدل على أنها مؤنثة. اللغة الروائم: واحدها: رءوم، يقال: رأمت ترأم، فهي رائم. ومعنى رأمتهك شمّته، وذلك أن الناقة إذا ألقت سبقها، فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوار، وحشوه تبناً، ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها، فتجد كرباً. ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها: الغمامة، ثم تستل تلك الخرقة، من أنفها، فتجد روحاً، وترى ذلك البو تحتها، وهو جلد الحوار المحشو، فترأمه، فإذا درت عليه، قيل: ناقة درور. ويقال في هذا المعنى : ناقة ظؤور، فينتفع بلبنها، ويقال: ناقة رائم ورءوم، إذا كأنت ترأم ولدها أو بوها. فإن رأمته ولم تدر عليه فتلك العلوق، ولا خير عندها، وعلى ذلك قال الشاعر: أمْ كيفّ ينفعُ ما تعطي العلوقُ بهِ ... رئمانُ أنفٍ إذا ما ضنَّ باللَّبنِ والوجد: الحزن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 والحوار: ولد الناقة، ويقال له حين يسقط من أمه: سليل، قبل أن يعلم، أذكر هو أم أنثى؟ فإن كان ذكراً، فهو سقب. وأمه مسقب، وإن كانت انثى: فهي حائل، وأمها أم حائل، قال الهذلي: فتلكَ الَّتي لا يبرحُ القلبَ حبُّها ... ولا ذكرها ما أرزمتْ أمُّ حائلِ فإذا قوي، ومشى مع أمه، فهو راشح، والأم مرشح، فإذا حمل في سنامه شحماً، فهو مجد ومعكر، ثم هو ربع، وقيل: الربع: ما نتج في الربيع، وهو أول النتاج. والهبع: ما نتج في آخر النتاج، وهو حوار، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل، والفصال: الفطام والجمع: فِصلان وفُصلان. فإذا أتى عليه حول، فهو ابن مخاض، وإنما سمي ابن مخاض، لأن أمه لحقت بالمخاض، وهن الحوامل، وإن لم تكن حاملاً. فإذا استكمل السنة الثانية. ودخل في الثالثة، فهو ابن لبون، والأنثى بنت لبون، وإنما سمي ابن لبون، لأن أمه كانت من المخاض، في السنة الثانية، ثم وضعت في الثالثة، فصار لها لبن، فهي لبون، وهو ابن لبون. فإذا دخل في الرباعة، فهو حق، والأنثى حقة، لأنه قد استحق أن يحتمل عليه ويركب. فإذا دخل في الخامسة فهو جذع، والأنثى جذعة. فإذا دخل في السادسة فهو ثني، والأنثى ثنية. فإذا دخل في السابعة فهو رباع، والأنثى رباعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 فإذا دخل في الثامنة فهو سديس وسدس، والأنثى سديسة، وقيل: يقال: سدس: في الذكر والنثى. فإذا دخل في التاسعة، وبزل نابه، فهو بازل. فإذا دخل في العاشرة، فهو مخلف. ثم ليس له اسم بعد الإخلاف ولكن يقال: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين. والمجر: الموضع الذي جر الحوار فيه، وكذلك المصرع الذي صرع فيه. المعنى لم يرد أن ثلاث الروائم وجدن مجر حوار واحد، وإنما المعنى، أن كل واحدة من الروائم وجدت مجر حوارها ومصرعه، وهو مثل قول الأعشى: حتَّى يقول النَّاسُ ممَّا رأوا ... يا عجباً ببميِّتِ النَّاشئ المعنى حتى يقول كل واحد من الناس، ومثله قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم ثمانين جلدة) . أي: أجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وبعد البيت: يذكرنَ ذا البثِّ الحزينَ بشجوهِ ... إذا حنَّتِ الأولى سجعنّ لها معا بأوجعَ منِّي يومَ فارقتُ مالكاً ... ونادى به النَّاعي الرَّفيع فأسمعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وأنشد أبو علي في الباب. (221) يا ضبعاً أكلتْ آيارَ أحمرةٍ ... ففي البطونِ وقد راحتْ قراقيرُ هذا البيت أنشده أبو يد في "نوادره" لرجل من ضبة. الشاهد فيه "تأنيث الضبع"، استدل عليه بقوله: "أكلت"، وبقوله: "راحت". ويروى: "يا أضبعاً"، على الجمع، ولا اعتراض على هذه الرواية والأضبع: جمع ضبع، و"أفعل" مما يختص به المؤنث، فجمعها عليه لذلك. والقياس: أضباع، كعضد وأعضاد. وأنشده بعضهم: "يا ضبعاً" بضم الضاد، يريد به الجمع، وليس بصحيح، ووجهه كأنه، جمع "ضبعاً" على "ضباع" ثم جمع ضباعاً على ضبع. وقد زيف هذه الرواية أبو علي، قال: وظنه قوم "يا ضبعاً" على الجمع، لقوله: "ففي البكون"، والبطون للجمع لا للواحد. ولا يمتنع، لأجل قوله: "البطون" كقولهم لها "حضاجر"، لعظم بطنها، وانتفاخه، فجعل كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 جزء بطناً. وحضجر: واحد الحضاجر، قال الشاعر: حضجرٌ كأمِّ التوأمينِ تركأتْ ... على مرفقيها مستهلةً عاشرِ ومثله قول أمرئ القيس: يطير الغلام الخفَّ عن صهواتهِ وإنما للفرس صهوة واحدة، فجمعها بما يليها، ومثله قول قيس بن الخطيم: يهونُ عليَّ أن تردَّ جراحها ... عيونُ الأواسي إذ حمدتُّ بلاءها أراد: جراح الطعنة، فجعلها لاتساعها وعظمها جراحاً، فجمعها بما يليها، وله نظائر جمة. اللغة الضبع: ضرب من السباع مؤنثة. والذكر: ضبعان. والجمع: ضباعين. ويقال للذكر والأنثى، إذا اجتمعا: ضبعان، يغلبون المذكر، لخفته. وآيار: جمع أير، ويجمع: آير وأيور. والقرقرة في الجوف معروفة. وبعد البيت: هل غيرُ همزٍ ولمزٍ للصَّديقِ ولا ... بنكي عدوَّكمُ منكمْ أظافيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وأنشد أبو علي في الباب. (222) أبا خراشةَ أمَّا أنتَ ذا نفرٍ ... فإنَّ قومي لمْ تأكلهمُ الضَّبعُ هذا البيت للعباس بن مرداس السلمي، ويكنى أبا الهيثم. الشاهد فيه "كون الضبع" اسماً للسنة المجدية. اللغة قال ثعلب: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أكلتنا الضبع". والضبع أيضاً: الشر. وقال ابن الأعراب ي، قال العقيقية: "كان الرجل أذال خفنا شره، فتحول عنا، أوقدنا ناراً خلفه. قال: فقيل لها: ولمَ ذاك؟! قالت: لتتحول ضبعه معه"، تعني شره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 وضبع: اسم رجل، وهو والد الربيع بن ضبع الفزاري. وضبع: اسم مكان، قال: حوَّزها منْ عقبٍ إلى ضبعْ في ذنبانٍ ويبيسٍ منقفعْ والضبع: وسط العضد بلحمه، تكون للإنسان وغيره. وقيل: العضد كلها، وقيل: الإبط إلى نصف العضد من أعلاه. الإعراب قوله: "أما أنت ذا نفر" "أن" ها هنا مفعول من أجله، و "ما" زائدة، إلا أنها وإن كانت زائدة، فهي لازمة. والتقدير لأن كنت ذا نفر، ثم حذفت "كان"، وجعلت "ما" عوضاً منها. وأنت مرتفع ب"كان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 وذا نفر: خبر "كان". وهو مذهب سيبويه. وقال الأخفش: "أنت مرتفع" "بما"، لأن الفعل زالت عينه، وإلى هذا، ذهب أبو علي، يجعلان "ما" عوضاً من الفعل، فهي الرافعة والناصبة. وذهب سيبويه: إلى امتناع إظهار الفعل، مع "ما" لأنها عوض منه، والمبرد، يجيز إظهار الفعل معها. وحجة سيبويه: أنه لا يجمع بين العوض والمعوض منه. والذي ذهب إليه المبرد من الجمع ليس ينقض مذهب سيبويه، لأن سيبويه يجعل "ما" حينئذ مزيدة، لا عوضاً. ومعنى الكلام الشرك، ولذلك دخلت الفاء جواباً لأما. يقول: إن كنت ذا قوم، عزيز بهم لكثرتهم ووفرهم، فإن قومي لم تأكلهم السنون الشداد، بل هم موفورون، ذوو عدد، فأنا بهم عزيز. وأنشد أبو علي في الباب. (223) يأوي إليكم فلا منٌّ ولا جحدٌ ... منْ ساقهُ السَّنةُ الحصَّاءُ والذّيبُ هذا البيت لجرير بن الخطفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 الشاهد فيه على ما رآه أبو علي، أن "الذئب" هنا، الحويان المشهور، لأن الذئاب في السنين المجدية، تعدو وتفترس، وكذلك وقع في "شرح شعر جرير". اللغة المن: القطع، ومنه (أجر غير ممنون) أي: مقطوع. والجحد: قلة الخير. والحصاء: مأخوذ من خص الشعر، إذا حلقه، فهي المجدية القليلة النبات. وقيل: هي التي لا نبات بها. وجمع الذئب: أذؤب وذؤبان. المعنى مدح قوماً، فقال: ن أوى إليكم، أوى إلى الخير والصنع الجميل، والفضل الجزيل. الإعراب "لا" هنا بمعنى "ليس"، حذف خبرها، كما قال الآخر: فأنا ابن قيس لا براحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 واعترض بهذه الجملة بين الفعل والفاعل، أي: يأؤي إليكم من ساقه. وأنشد أبو علي في الباب. (224) قومٌ إذا صرَّحتْ كحلٌ بيوتهمُ ... مأوى الضَّريك ومأوى كلِّ قرضوبِ هذا البيت، لسلامة بن جندل بن عمرو بن الحارث. الشاهد فيه قوله: "كحل" وأنها من أسماء السنين المجدية، ولا تنصرف للمعلمية والتأنيث. ويجوز صرفها، على ما يجب في هذا الضرب من المؤنث العلم. وحكة أبو عبيدة وأبو حنيفة، فيها "الكحل" بالألف واللام، وكرهه بعضهم. اللغة يقال: كحلتهم السنة، أصابتهم، قال: لسنا كأقوامٍ إذا كحلتْ ... إحدى السّنينَ فجارهمْ تمرُ يقول: يأكلون جارهم، كما يؤكل التمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وقال أبو حنيفة: كحلت السنة تكحل كحلاً، إذا اشتدت. وكحلة من أسماء السماء. قال أبو علي: تأله قيس بن نشبة في الجاهلية، وكان منجّماً متفلسفاً، يخبر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث أتاه قيس، فقال له: يا محمد، ما كحلة؟ فقال: السماء. فقال: وما محلة؟ فقال: الأرض. فقال: أشهد إنك لرسول الله، فإنا وجدنا في بعض الكتب أنه لا يعرف هذا إلا نبي. وقد يقال للسماء: "الكحل" بالألف واللام. ومعنى صرحت كحل: خلصت وظهرت، ومنه قوله: كشفتْ لنا عنْ ساقها ... وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ وقال آخر: ولمَّا صرَّحَ الشَّرُّ ... وأمسى وهو عريانُ والضريك: السيء الحال. وقد ضرك ضراكة، والضريك أيضاً: النسر الذكر والقرضوب: الفقير الذي لا شيء عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 المعنى مدح قوماً بكثرة النوال والأفصال في السنين المجدبة، فبيوتهم مأوى الفقراء والضعفاء، وأهل الحاجة. وهذا البيت من قصيدته التي أولها: يا دارَ أسماءَ بالعلياءِ منْ إضمٍ ... إلى الدّكادكِ منْ قوّ فمعصوبِ كانتْ لا مرةً داراً فغيَّرها ... هوجُ الرياحِ بسافي التُّرب مجلوبِ زعموا أن جريراً والأخطل اجتمعا عند عبد الملك بن مروان، فتناشدا وتفاخرا، فأنشد الأخطل قول عمرو بن كلثوم: ألا هبّي بصحنكِ فأصبحينا وأنشد جرير شعر سلامة بن جندلك يا دارَ أسماءَ بالعلياءِ منْ إضمِ حتى انتهى إلى قوله: حتَّى تركنا وما تثنى ظعائننا ... يأخذنَ بين سوادِ الخطِّ فاللُّوبِ فقال عبد الملك: غلبك والله، يا أخطل! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 فقال: وكيف يا أمير المؤمنين؟ فقال: منع التميمي ظعائنه، ولم يمنع صاحبك حين يقول: يقتنّ جيادنا ويقلنُ لستمْ ... بعولتنا إذا لمْ تمنعونا الإعراب ارتفاع "بيوتهم" بالابتداء، و "مأوى الضريك" خبره. وأنشد أبو علي في الباب. (225) أبقى الزَّمانُ منكَ ناباً نهبلهْ ورحماً عند اللقاحِ مقفلهْ هذان البيتان، لصخر بن عمير التميمي. الشاهد فيه تأنيث "الناب" بغير علامة التأنيث. اللغة الناب: الناقة المسنة، سميت بذلك حين طال نابها، وهذا مما سمي فيه الكل بايم الجزء، ويصغر: "نييب" بغير هاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 والنهبلة: المسنة من النوق الهرمة. والنهبل: الشيخ المسن، قال الشاعر: مأوى الضَّياف ومأوى كا أرملةٍ ... يأوي إلى نهبلٍ كالنَّسرِ علفوفِ المعنى يخاطب امرأته، يقول: إنها لا تحمل، لكبرها، وضرب الناب واللقاح مثلاً. وأول هذا الرجز: تهزأُ مني أختُ آل طيسلهْ قالتْ أراهُ مبلطاً لا شيءَ لهْ وهزئتْ منْ ذاك أمُّ موألهْ قالتْ أراكَ دالفاً قدْ دنيَ لهْ مالكِ لا جنِّبتِ تبريحَ الولهْ مردودةً أو فاقداً أو مثكلهْ ألستِ أيامَ حضرنا الأعزلهْ وقبلُ إذْ نحنُ على الضُّلضلهْ وقبلها عامَ ارتبعنا الجعلهْ مثلَ الأتانِ نصفاً جنعدلهْ وأنا في ضرَّابِ قيلان القلهْ أبقى الزَّمانُ منكِ ناباً نهبلهْ ورحماً عند اللِّقاحِ مقفلهْ ومضغةً باللُّؤمِ سحّاً مبهلهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 أما تريني في الوقارِ والعلهْ قاربتُ أمشي القعولى والفنجلةْ وتارةً أنبثُ نبثاً نقثلهْ خزعلةَ الضعبانِ راح الهنبلهْ وهل علمتِ فحشاءَ جهلهْ ممغوثةً أعراضهم ممرطلهْ في كل ماءٍ آجنٍ وسملهْ كما تماثْ في الهناءِ الثَّملةْ عرضتُ من جفيلهم أنْ أجفلهْ وهل علمتِ يا قفيَّ التتفلهْ ومرسنَ العجلِ وساق الحجلهْ وغصنَ الضَّبِّ وليطَ الجعلهْ وكشَّة الأفعى ونفحَ الأصلهْ أنِّي أفيتُ المائةَ المؤبَّلهْ ثم أفيءُ مثلها مستقبلهْ ولم أضعْ ما ينبغي أن أفعلهْ وأفعلْ العارفَ قبلَ المسألهْ وهل أكبَّ البائكَ المحفَّلهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 وأمنحُ الميَّاحةَ السَّبحللهْ وأطعنُ السحساحةَ المشلشلهْ على غشاشِ دهشٍ وعجلهْ إذا أطاشُ الطَّعنُ أيدي البعلةْ وصيَّرَ الفيلُ الجبانُ وهلهْ أقصدتها فلم أجرها أنملهْ من حيثُ يمَّمتُ سواءَ المقتلهْ وأضرب الحدباءَ ذاتَ الرَّعلهْ تردُّ في نحرِ الطَّبيب فتلهْ وهل علمتِ بيتنا إلاَّ ولهْ شربةٌ من غيرنا وأكلهْ شرح طيسلة: اسم. والمبلط: الفقير، يقال: أبلط الرجل، فهو مبلط، إذا افتقر، وكأنه لصق بالبلاط، وهي: الأرض الملساء. ومؤله: اسم أيضاً. والدالف: الذي يقارب الخطو في مشيه، والشيخ يدلف دليفاً من الكبر. ودني له: أي قوربن خطاه من الكبر. والأعزلة: موضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 والضلضلة: الأرض الغليظة، تركبها حجارة، كذا روى البصريون عن الأصمعي، في هذا الرجز. وفي كتاب "الصفات" للأصمعي، على مثال "فعلله". وذكره أبو عبيد في باب "فعلله" وحكى عن الأصمعي: "الضلضلة": الأرض الغليظة، ثم ذكر في الباب "الخنثر": الشيء الخسيس من المتاع. والجعلة: أرض لبني عامر بن صعصعة. والجنعدلة: الغليظة الجافية. والقيلان: جمع قال: والقال والمقلاء: العود الذي تضرب به الفلة، والقلة: عود قدر شبر، محدد الطرفين يلعب به الصبيان. والنهبلة: الهرمة، يقال: قد خنشلت المرأة، ونهبلت، إذا أسنّت. والمبهلة: التي لا صرار عليها. وهذا مثل. والعلة: الجزع. والقعزلة: أن يمشي مشي الأحنف، وهو أن يتباعد الكعبان، وتقبل القدمان. والفنجلة: مقاربة الخطو. والنقثلة: أن ينبث التراب في مشيته، وهو مثل: "النعثلة". والخزعلة: الظلع، يقال: ناقة بها خزعال، وليس في الكلام "فعلال" غيره، إلا ما كان مضاعفاً، نحو الزلزال، والقلقال والقسقاس. وممغوثة: مدلوكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 وممرطلة: مبلولة. والآجن: المتغير اللون. والسمل: القليل من الماء. وتماث: تمرس. والثملة: بقية الهناء. والجفيل: الجمع. والتتفلة: الأنثى من أولاد الثعالب. والمرسن من الأنف: موضع الرسن. والغصن: التكسر والغضون: الكسور في الجلد. وليط كل شيء: قشره، والليط أيضاً: اللون. والكشة: والكشيش: صوت جبد الحية. والأصلة: حية عظيمة. والمؤبلة: المجتمعة، ويقال: التي حبست للقنية. والبائك: السمينة العظيمة السنام. والسيحللة: العظيمة، يقال: سقاء سبحل وسحبل، وسبحلل. والسحساحة: التي تسح، أي تصيب. والمشلشلة: المتداركة القطر. والغشاش: السرعة والعجلة. والبعل: التحير. والوهل: الفزع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 والأنملة والأنملة: لغتان: طرف الأصابع. قال أبو بكر بن دريد: أنملة أفصح. والخدباء: الضربة التي تهجم على الجوف، وأصل الخدب: الهوج. والرعلة: قطعة تبقى من اللحم معلقة. وأنشد أبو علي في الباب. (226) إذا الوحشُ ضمَّ الوحشَ في ظللاتها ... سواقطُ من حرٍّ وقد كان أظهرا هذا البيت، للنابغة الجعدي. الشاهد فيه تأنيث "الوحش" والدليل عليه، قوله: "في ظللاتها" فردَّ على الوحش، ضمير المؤنث. اللغة الوحش: ما لا يستأنس من دواب البر. والجمع: وحوش. وأرض موحشة: كثيرة الوحش. والظلة: ما يستتر به من الحر والبرد، والجمع: ظلل، وظلال. وظللات: جمع ظلة. ويجوز أن يكون جمع "ظلل"، و "ظلل" جمع ظليل، كجديد وجدد، فيكون جمع الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 وأظهر: صار في وقت الظهيرة، وهو منتصف النهار، وحينئذ يشتد الحر. المعنى وصف سيره، في الهاجرة، إذا استكن الوحش بكنسه، من حر الشمس، واحتدامها. الإعراب "الوحش" مرتفع، لأنه مفعول لم يسم فاعله، وتقديره: إذا ضم الوحش، ومثله قول ذي الرمة: إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغتهِ ... فقام بفأسٍ بين وصليكِ جازرُ وقوله: "ضم الوحش": كان حقه أن يقول: ضمه، ولكنه جعل الظاهر مكان الممر، وفيه قبح، إذا كان تكريره في جملة واحدة، لا يستغني بعضها عن بعض، ولا يكاد يجوز إلا في ضرورة، كقولك: زيد ضربن زيداً. فإن كانت إعادته، في جملتين حسن، كقولك: زيد شتمته، وزيد عبته، لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 قد يمكن أن يسكت على الجملة الأولى، ثم تستأنف الأخرى، بعد ذكر رجل غير زيد. فلو قيل: زيد ضربته، وهو أكرمته، لجاز أن يتوهم الضمير لغير زيد، فإذا أعيد مظهراً، زال التوهم. ومع إعادته مضمراً، في الجملة الواحدة، كقولك: زيد ضربته، لا يتوهم الضمير لغيره، لأنك لا تقول: زيد ضربت عمراً. والإظهار في البيت أحس منه في هذا، لأن الوحش اسم جنس، فإذا أعيد مظهراً. لم يتوهم أنه اسم لشيء آخر، كما يتوهم في "زيد" ونحوه، من الأسماء المشتركة، فلذلك كان الإظهار في مثل هذا أحسن، لأنه لا يشكل وذكر "أظهر" بعد أن أنّث الضمير، في قوله في "ظللاتها"، لأن الوحش اسم جنس يذكر ويؤنث. وأنشد أبو علي في الباب. (227) لحى الله أعلى تلعةٍ حفشتْ بهِ ... وقلتاً أقرَّتْ ماءَ قيسِ بنِ عاصمِ الشاهد فيه تأنيث "القلت"، وهي: نقرة في الجبل تمسك الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 اللغة معنى لحاه الله: لعنه، ويقال: لحيت الرجل، إذا لمته وعنفته، والتلعة: أرض مرتفعة عريضة، يتردد فيها السيل، ثم يدفع منها إلى شعبة أسفل منها. والتلعة: مجرى الماء من أعلى الوادي. والتعلة: ما انهبط من الأرض وقيل: التلعة مثل الرحبة. والجمع من كل ذلك: تلع وتلاع، قال: وكنَّا أناساً دائبينَ بغبطةٍ ... تسيلُ بنا تلعُ الملا وأبارقه وقال النابغة: فجنبا أريكٍ فالتلاعُ الدَّافعُ ومعنى حفشت به: جمعت، يقال: حفش المطر السيل، يحفشه حفشاً، إذا جمع الماء من كل جانب، وهم يحشفون عليك، أي: يجتمعون. المعنى هجا بني قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث، والحارث هو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 وقيس هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد تميم، فقال له عليه السلام: "هذا سيد أهل الوبر". وهو من عظماء العرب، وحكمائها وفرسانها، وإنما هجا بنيه، لأن رجلاً من قيس، خطب النوار بنت أعين المجاشعية، فرضيته، وجعلت للفرزدق، ابن عمها إمضاء الحكم عليها، وإنقاذ تزويجها لمن رضيه لها، فاستوثق منها، وأشهد عليها، ثم عقد نكاحها مع نفسه، خادعاً لها، فكرهنه ومانعته فلجأت إلى بني قيس بن عاصم. فهجاهم بهذا النسي، وجعل أعلى تلعة وقلتا مثلين، وإنما يريد: بالتلعة، صلب أبيه، وبالقلت بطن أمه. وقوله: "ماء قيس بن عاصم" فأضاف الماء إليه، وليس هو والداً ولا والدةً، بل هو مولود، فأضاف الماء الذي كان منه قيس بن عاصم إلى قيس، لأن قيساً كان من ذلك الماء، فأضاف كثيراً إلى قليل. وأنشد أبو علي في الباب. (228) وسقطِ كعينِ الديكِ عاورتُ صحبتي ... إياها وهيأنا لموضعها وكرا هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه تأنيث "السقط" وهي سقط النار، فهي نار في المعنى ، والنار مؤنثة، يقال فيها: سِقط وسَقط وسُقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 المعنى شبه ما يسقط من الزند بعين الديك. وعنى بقوله: "أباها": الزند الذكر، وهو الأعلى، والأسفل الأنثى، وهي زندة. ومعنى "عاورت": داولت، قال الهذلي: وإذا الكماةُ تعاوروا طعن الكلى ... ندرَ البكارةِ في الجزاءِ المضعفِ يقول: أمسكت لصاحبي وقتل، وأمسك لي وقتلت، فهذا الذي عنى من المعاورة. والعارية والعارة: ما تداولوه بينهم، وفد أعارهم الشيء، وأعاره منهم، وعاوره: طلب منه أن يعيره إياه. هذا للحياني. وحكى اللحياني: "أراد الدهر يستعيرني ثيابي" قال: يقوله الرجل إذا كبر وخشي الموت. ويروى: "لومقعها وكرا". والوكر: موضع الطائر، استعاره لما يسقط من الزند. وقيل الوكر: الخرفعة، وهي القطن يقع فيها السقط. وبعده: مشهرةٍ لا تمكنُ الفحلَ أمُّها ... إذا نحن لم نمسكْ بأطرافها قسرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 قد انتتجت من جانبٍ من جنوبها ... عوانا ومن جنبِ إلى جنبها بكرا فلما بدتْ كفنتها وهي طفلةٌ ... بطلساءَ لم تكمل ذراعاً ولا شبرا وقلتُ له أرفعها إليك فأحيها ... بروحك واقتته لها قتية قدرا وظاهر لها من يابس الشَّختِ واستعن ... عليها الصَّبا واجعل يديك لها سترا فلمّا جرتْ في الجزلِ جرياً كأنَّه ... سنا الفجر أحدثنا لخالقنا شكرا ولمَّا تنمَّتْ تأكلُ الرِّمَ لم تدعْ ... ذوابلَ مما يجمعونَ ولا خضرا أخوها أبوها والضَّوى لا يضيرها ... وساقُ أبيها أمُّها اعتقرتْ عقرا وأنشد أبو علي في الباب. (229) حنَّ إليها كحنينِ الطَّسِّ أنشده أبو زيد في "نوادره" وقبله: لو عرضتْ لأيبليِّ قسِّ أشعتَ في هيكلهِ مندسِّ الشاهد فيه تأنيث "الطلس"، وليس في هذا البيت ما يدل على تأنيثه، وإنما يعرف ذلك بالسماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 وروى أبو بكر بن الأنباري "الطست" مما يؤنث ويذكر، وأنشد في تأنيثه: رجعتُ إلى صدرٍ كطسَّةِ حنتمٍ ... إذا قرعتْ صفراً من الماء صلَّتِ وأنشد في تذكيره: وهامةٍ مثل طستِ العرس ملتمعٍ ... يكادُ يخطفُ من إشراقهِ البصرُ اللغة يقال: طست، وطست، وطس وطسة. والتاء في "طست" مبدلةٌ من "سين"، لموافقتها في الهمس، والزيادة، وتجاور المخرج، ومثله قول الآخر: يا قاتلَ الله بني السَّعلاتِ عمرو بن يربوعَ شرارِ الناتِ غير أعفَّاء ولا أكياتِ يريد: الناس، وأكياساً، فأبدل من "السين" تاءً. وقالوا: ختيت، في معنى خسيس. وجمعها طساس، والطساس أيضاً: الأظفار، قال مقاس بن عمرو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 عذَّبوني بعذابٍ ... قلعوا جوهر راسي ثم زادوني عذاباً ... نزعوا عنِّي طساسي بالمدى جزِّز لحمي ... وبأطرافِ المواسي وله خبر مع هشام بن عبد الملك ذكره أبو علي البغدادي في "أماليه". ويقال لها أيضاً: الأطساس، قال الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، يصف امرأة: كأنَّ الحميمَ على جسمها ... إذا اغترفتهُ بأطساسها جمانٌ يجول على فضةٍ ... جلتهُ حدائد دوَّاسها والقس والقس والقسيس: من رؤوس النصارى، ومصدره: القسوسة والقسيسة. والأيبلي: الراهب، قال الأعشى: وما أيبليٌّ على هيكلٍ ... بناه وصلَّب فيه وصارا معناه: عنل فيه صوراً، وهو من الأيبل. قال أبو عبيدة: أيبلي: صاحب أيبل، وهو عصا الناقوس. وقيل: الأيبل والأيبلي سواء. وقد جاء على "أيبلين" كالأشعرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 والأعجمين، وقال جاهلي: وما سبَّحَ الرُّهبانُ في كلِّ بيعةٍ ... أبيلَ الأبيلينَ المسيحَ بن مريما المعنى : وصف امرأةً، يقول: لو تبدت لراهبٍ متبتلٍ، منقطع عن الناس، في هيكله، لحن فيها، وترك ما هو عليه. وحنين الطس: صوتها إذا نقرت، على التشبيه، وكذلك صوت القوس، وأحنها صاحبها، وهذا مثل قول النابغة: لو أنَّها عرضت لأشمط راهبٍ ... عبد الإلهَ صرورةِ متعبدِ لرنا لرؤيتها وحسنِ حديثها ... ولخاله رشداً وإن لم يرشدِ وأنشد أبو علي في الباب. (230) أبتْ أجأٌ أنْ تسلمَ العامَ جارها ... فمنْ شاء فلينهضْ لها من مقاتلِ هذا البيت لامرئ القيس. الشاهد فيه تانيث "أجأ" أحد جبلي طييء، ويذكر ويؤنث، وهي ثلاثة أجبل: أجأ، وسلمى، والعرجاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 تزعم العرب أن "أجأ" اسم رجل، عشق "سلمى"، وجمعتهما "العرجاء" فهرب "أجأ" بسلمى، وذهبت معهما العرجاء، فتبعم بعل سلمى، فأدركهم، وقتلهم وصلب "أجأ" على أحد الأجبل، فسمي "أجأ"، وصلب "سلمى" على جبل، فسمي "سلمى"، وصلب "العرجاء" على الثالث، فسمي العرجاء. وكان امرؤ القيس، قد نزل به، على جارية بن مر الثعلي فأجاره. وأخبر عن "أجأ"، وهو يريد: أهلها، اساعاً ومجازاً. وبعده: تبيت لبوني بالقريَّةِ أمَّناً ... وأسرحها غبّاً بأكناف حائلِ بنو ثعبِ جيرانها وحماتها ... وتمنعُ من رماةٍ سعد ونائلِ تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوينَ المساءِ في رؤوس المجادلِ مكلَّلةً حمراءَ ذات أسرَّةٍ ... لها حبكٌ كأنَّها منْ وصائلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 وأنشد أبو علي في الباب. (231) ولمْ يقلبْ أرضها البيطارُ هذا الرجز لحميد الأرقط من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. الشاهد فيه تأنيث "أرض الدابة"، وهو مما يلي حوافرها. وبعضهم يجعل أرض الدابة، حوافرها، وأرض الإنسان: ركبتاه. والأرض: الرعدة. وقال عمر رضي الله عنه: "أبي أرض أم زلزلت الأرض؟ ". والأرض أيضاً: الزكام. والأرض: مصدر أرضت السوسة الخشبة أرضاً. وزعم بعض اللغويين أن أرض الدابة، يكتب بالظاء. والصحيح بالضاد، لأنه مشبه بالأرض التي توطأ، ويدل على ذلك قول الشاعر: وأحمر كالدِّيباجِ أمَّا يماؤهُ ... فريَّا وأمَّا أرضه فمحولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 المعنى وصف فرساً بالعتق، يقول: لم يحتج إلى بيطار يقلب قوائمه، لينظر هل بها علة. وذكر أبو العباس المبرد، أنه يروى: "ولم يقلم" بالميم، وقال: إن معناه: أن حوافره لا تتشعث، فتحتاج إلى أن تقلم، كما قال: لا في شظاها ولا أرساغها عنتٌ ... ولا السَّنابكُ أفناهنَّ تقليمُ وهذا التأويل فيه بعد، لأن تقليم الحافر، ليس من عمل البيطار. ويجوز أن تكون الميم بدلاً من الباء، كما ثال: ضربة لازم، ولازب. وقبله: لا رجحٌ فيها ولا اصطرارُ ولم يقلِّبْ أرضها البيطارُ ولا لحبليهِ بها حبارُ وأنشد أبو علي في الباب. (232) حاريةٌ قد صغرتْ من الكبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 هذا الرجز لرؤبة بن العجاج. الشاهد فيه تأنيث "الأفعى"، وهي الحارية، وإنما قيل لها: حارية، لأن جسمها قد حرى أي نقص وصغر من طول العمر، يقال: حرى الشيء حرياً، إذا نقص ويقال أيضاً حار الشيء حوراً، إذا نقص، ومنه الحديث في الاستعاذة "من الحور بعد الكور"، أي من النقصان بعد الزيادة، وحار الرجل من شيء إلى شيء: رجع، وفي التنزيل: (إنه ظن أن لن يحور) وقال لبيد: وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضوئهِ ... يحور رماداً بعدَ إذ هو ساطعُ وحار الشيء أيضاً عما كان عليه: رجع، وحار به غيره: صرفه. وقال عمرو بن كلثوم: تحورُ بذي اللَّبانةِ عن هواه ... إذا ما ذاقها حتى يلينا وحارت العمامة حوراً: انتقضت، وحار الرجل يحار حيرة: اضطرب. وحار أيضاً: هلك، ومنه قولهم: "حائر بائر" أي: هالك في دين أو دنيا، وأحار الجواب: رده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 وما أحاره، بالنفي أيضاً، قال ابن حلزة: لا أرى من عهدتُ فيها فأبكي ال ... يومَ دلهاً وما يحيرُ البكاءُ أي: ما يرد. ومعنى "صغرت من الكبر": أي رق جسمها، ونحفت من كبرها، وسء سمها، ويقال لأصغر الأفاعي جسماً: القصيرى، ويقال: قصيرى قبال. الإعراب "أفعى" لا تخلو أتكون اسماً أو وصفاً، فإن كانت اسماً صرفتها كما تصرف أرنباً وأفكلاً. وإن كانت صفة لم تصرفها، كما لا تصرف "أحمر". وهذا البيت وقع في بعض النسخ: "داهية حارية" وو من مجزوء الرجز. ووقع في بعض النسخ: حاريةٌ قد صغرت من الكبر وهو على هذا الإسناد من مشطوره. وأنشد أبو علي في الباب. (233) إذا رمى مجهولهُ بالأجننِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 هذا الشطر لرؤبة بن العجاج. ويروى لذي الرمة. الشاهد فيه جمعه "جنيناً" على "أجنن"، وكان حقه "أجنة"، لأن "أفعلاً" بابه المؤنث، نحو: عقاب وأعقب، وعناق وأعنق. وزعموا أن بعضهم قال: طحال وأطحل. المعنى : وصف إبلاً، وصواب الإنشاد: وإنْ رمتْ مجهولهُ بالأجننِ وخلطتْ كلَّ دلاثٍ علجنِ تخليطَ خرقاءِ اليدينِ خلبنِ والهاء في "مجهولهُ" تعود على القفر. والدلاث: السريع، واندلث: مضى على وجهه. والعلجن: الناقة الكناز اللحم، كأنَّ فيها بطأً من عظمها. والخرقاء: التي لا تحسن العمل. والخلبن: الخرقاء أيضاً في عملها، والنون في "الخلبن والعلجن" زائدة. ويروى: "بالأجبن" بالباء، جمع جبين، وهو مذكر، ويجمع أيضاً على أجبنة وجبن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 يعني إذا استقبلن مجهول هذا بوجوهنَّ. وأنشد أبو علي في الباب. (234) وتدفنُ منه الصالحاتُ وإن يسيء ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا هذا البيت للأعشى. الشاهد فيه "كبكب" اسم جبل مؤنث، ولذلك لم يصرفه للعلمية والتأنيث. وقبل البيت: سأوصي بصيراً إنْ دنوتُ من البلى ... وصاة امرئ قاسَ الأمورَ وجرَّبا بأنْ للا تبغِّي الودَّ من متباعدٍ ... ولا تنأ عن ذي بغضةٍ إنْ تقربا ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسحبا وتدفنُ منه الصالحاتُ ....... البيت. المعنى يقول: من اغترب عن قومه جرى عليه الظلم ويحتمله، لعدم من ينصره ويحميه، وإن أساء أظهرت سيآته وكشفت أفعاله، حتى تكون كالنار في رأس هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 الجبل، أو أشهر، ومثل هذا المعنى قول الخنساء: كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ وإن فعل فعلاً حسناً كتم وأخفي. الإعراب يروى "وتدفن" بالرفع والنصب. أما الرفع فعلى القطع. والنصب بإضمار "أن"، لأن جواب الشرط قبله، وإن كان خبراً، فإنه لا يقع إلا بوقوع الفعل الأول، فضارع غير الواجب، فجاز النصب. ويجوز فيه الجزم لولا الوزن، وهو نظير قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) . ويجوز فيه ثلاثة أوجه. وأنشد أبو علي في الباب. (235) ولا الرَّاحُ راحُ الشامِ جاءت سبيئةً ... لها غاية تهدي الكرامَ عقابها هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 الشاهد فيه "عقابها" وهي راية الخمار، وهي مؤنثة. اللغة وكذلك العقاب الطائر: مؤنثة، والجمع أعقب وأعقبة عن "كارع". وعقبان، وعقابين جمع الجمع. قال: عقابين يوم الدَّجنِ تعلو وتسفلُ وقال أبو حنيفة: من العقبان عقبان تسمى عقبان الخردان، ليست بسودٍ، ولكنها كهب. والعقاب: الحرب، عن "كراع". وأما العقاب التي هي الراية، فجمعها عقبان. والعقاب: فرس مرداس بن جعونة. والعقاب: صخرة ناتئة في البئر، وربما كانت من الطي، وربما قام عليها المستقي: أنثى، والجمع كالجمع. والعقاب: مرقى في عرض الجبل. والعقاب: خيط صغير يدخل في خرتى حلقتي القرط يشد به، وعقب القرط: شده به، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 كأنَّ خوقَ قرطها المعقوبِ ... على دباةٍ أو على يعسوبِ والراح: الخمر، وألفها منقلبة عن "واو". والسبيئة: المشتراة. والغاية أيضاً: راية الخمار هنان وحسن تكريره اختلاف اللفظين. المعنى قبل البيت، يصف امرأة: فأقسمُ ما إنْ بالةٌ لطميةٌ ... يفوحُ ببابِ الفارسيينَ بابها ولا الراحُ راحُ الشامِ جاءت سبيئةً ... لها غاية تهدي الكرام عقابها عقارٌ كماء النيء ليست بخمطةٍ ... ولا خلةٍ يكوى الشورب شهابها بأطييبَ منْ فيها إذا جئتُ طارقاً ... منَ اللَّيليِ والتفتَ عليَّ ثيابها وأنشد أبو علي في الباب. (236) حنَّت قلوصي أمسِ بالأردنِّ هذا البيت للعجاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 الشاهد فيه تأنيث "القلوص"، وهي الأنثى من الإبل والنعام، والجمع: قلاص وقلائص. والقلوص من الآبار: الكثيرة الماء. والأردن: نهر بالشام وعليه مدن، فكل من كان على جنبيه، فهو أردني. وقال أبو بكر بن الأنباري: والأردن: النعاس، ومنه قول الشاعر: قد غلبتني نعسةٌ أردنٌّ خبر: ذكر الهمذاني عن هشام بن محمد الكلبي، عن رجل من أهل الشام، قال احتاج الوليد لرصاص أيام بنى مسجد دمشق، فقيل له: إن بالأردن منارة فيها رصاص، فبعث إليها، فذهب رجل، ليضرب بمعوله، فأصاب رجلاً في سفط، وأصابه بمعوله، فسال دمه، فقيل: هذا طالوت. وأنشد أبو علي في الباب. (237) لكلِّ أناسٍ من معدٍّ عمارةٌ ... عروضٌ إليها يلجؤونَ وجانبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 هذا البيت للأخنس بن شهاب التغلبي. الشاهد فيه تأنيث "العروض"، التي هي الناحية. اللغة والعروض عروض الشعر مؤنثة أيضاً. وعروض الكلام: فحواه ومعناه. والعروض: الطريق في عرض الجبل وقيل: هو ما اعترض في مضيق منه. وقيل: هو الذي يعتلي منه. والجمع: عروض. والعروض من الإبلك التي لم ترض، أنشد ثعلب: وما زال سوطي في قرابي ومحجني ... وما زلتُ منه في عروضٍ أذودها والعمارة هنا: مصدر عمرت، وأراد بها: الناحية المعمورةن ولذلك قال: عروضن فأبدل منها. والعمارة: الحي العظيم، الذي لا يحتاج إلى أحد. والعمارة: بالفتح والكسر: أصغر من القبيلة. قال: ومعد، هو معد بن عدنان، أبو عرب الحجاز. المعنى يقول: نحن لا نقيم في ناحية من الأرض، يلجأ إليها ويعتصم بها، كما تفعل القبائل من معد، ولكنا نصحر وننتجع، لعزنا ومنعتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 وبعده: ونحن أناسٌ لا حجازَ بأرضنا ... مع الغيثِ ما نلقى ومنْ هو عازبُ ترى ربذاتِ الخيلِ حول بيوتنا ... معزى الحجاز أعوزتها الزَّرائبُ فيغبقنّ أحلاباً ويصبحن مثلها ... قهنَّ من التعداء قبٌّ شوازبُ فوارسها من تغلبَ ابنة وائلٍ ... حماةٌ كماةٌ ليس فيهم أشائبُ همُ يضربون الكبش يبرق وجههً ... على وجههِ من الدِّماءِ سبائبُ وإنْ قصرتْ أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى القومِ الّين نضاربُ الإعراب قال الأخفش علي بن سليمان: يروى "عمارة" في هذا البيت بالرفع والخفض. وقال عبد الدائم بن مرزوق: "قرأت على النجيرمي، "عمارة" بالخفض على البدل من "معدِّ". و"عروض" مرفوعة بالابتداء، والخبر "لكل أناس". وهذا المعنى أمدح فيما قصده الشاعر، لأن "العمارة" في هذه الرواية، وإن كانوا حياً عظيماً، فلابد لهم من "عروض" أي ناحية يلجؤون إليها، ونحن لسنا كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 وقرأته على غيره "عمارة" بالرفع، وهي في المعنى: العروض التي يلجأ إليها، ولكل وجه، والأول أعلى". وأنشد أبو علي في باب الأسماء التي تذكر وتؤنث. (238) اليدُّ سابحةٌ والرجلُ ضارحةٌ ... والعينُ قادحةٌ والمتنُ ملحوبُ هذا البيت نسبه الأصمعي في كتاب "خلق الإنسان" لرجل من آل النعمان بن بشير الأنصاري. وقيل: هو لإبراهيم بن بشير. ويروى: لامرئ القيس. ولامرئ القيس نسبه أبو عبيد البكري. الشاهد فيه تذكير "المتن" في قوله: "ملحوب". اللغة المتن: الظهر، يذكر ويؤنث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 ومعنى سابحة: تعوم في الماء، يقال: سبح سبحاً وسباحة، وسبح الفرس: مد يده في الجري. ضارحة: رامية، يقال: ضرحت الشيء ضرحاً، واضطرحته: رميته ناحية. والضروح من الخيل: النفوح برجله. والمضارح: فضول الثوب، سميت بذلك، لأنها تضرح أي تدفع بالأرجل. والضرح: الدفع بالرجل خاصة. وقادحة: غائرة، قال زهير: وغرَّتها كواهلها وكلَّتْ ... سنابكها وقدَّحتِ العيونُ وملحوب: مقطوع ما عليه من اللحم، أي ذهب لحمه، ويقال: لحب متن الفرسن إذا ملس في حدور. ولحب الطريق، إذا اتضح، يلحب لحوباً، ولحبه بالسياط: ضربه بها. وبعد البيت: والماء منهمرٌ والشدُّ منحدرٌ ... والقصبُ مطَّمرٌ واللَّونُ غريبُ وأنشد أبو علي في الباب. (239) ومتنان خظاتانِ ... كزحلوقٍ من الهضبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 هذا البيت لأبي داؤد الإيادي، يروى: لعقبة بن سابق. الشاهد فيه تأنيث "المتن"، وقد تقدم تذكيرهن وقال امرؤ القيس في تأنيثه: لها متنانِ خظاتا كما ... أكبَّ على ساعديهِ النَّمرْ وإنما ثنى "المتن"، لأنه جعل كل واحد، من جانبي المتن متنةً، قثنى وقلوه: "خظاتان"، يحتمل أن يريد "خظتا"، فيكون فعلاً ماضياً، ثم أشبع الفتحة، فحدثت ألف، كما قال عنترة: ينباعُ من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ... زيافةٍ مثل الفنيقِ المكرمِ أراد "ينبع". وقيل مثل هذا في قوله تعالى: (فما استكانوا لربهم) . على أنه أضعف الأوجه، لأن مثل هذا إنما يجيء في ضرورة الشعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 ويحتمل أن يريد: خظوتان، لأن الشاعر لما اضطر إلى إقامة الوزن، أعاد الفعل المعتل إلى اصله، وكان في الأصل: خظوتان، لأنه من خظا يخظو، إذا كثر وأكتنز. فقلبت الواو حينئذ ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار خظاتان. ويحتمل أن يكون امرؤ القيس حذف النون، كما حذفها الآخر في قوله: أبني كليبٍ إنَّ عميَّ اللَّذا ... قتلا الملوك وفكَّكا الأغلالا اللغة الزحلوق: موضع أملس تنزلق الصبيان منه، وفعله: الزحلقة. وقال ابن الأعرابي: الزحلوقة لعبة الصبيان، يجتمعون الصبيان فيأخذون خشبة، فيجعلونها على قوز من رمل، ثم يجلس على إحدى طرفيها جماعة، وعلى الأخرى جماعة. فأي جماعة كانت أثقل، شالت الأخرى، وعليه قول الآخر: لمنْ زحلوقةٌ زلُّ ... بها العينان تنسلُّ ينادي الآخر الألُّ ... ألا حلُّوا ألا حلُّوا والقول الأول أليق بمعنى البيت. والخطاة: المكتنزة اللحم، يقال: خظا يخظو، إذا اكتنز لحمه. والجمع: خظوات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 والهضب: جمع هضبة، وهي الصخرة الراسية الضخمة. ويجمع هضبات، والهضبة أيضاً: المطرة الدائمة. المعنى وصف فرساً. وقبله: وقد أغدو بطرفٍ هي ... كلِ ذي ميعةٍ سكبِ له ساقا ظليمٍ خا ... ضبٍ فوجء بالرُّعبِ وقصرى شنجِ الأنسا ... ء نباحٍ من الشَّعبِ ومتنانِ خظاتانِ ... كزحلوقٍ من الهضبِ وأنشد أبو علي في الباب. (240) فإنَّ السَّلمَ زائدةٌ نوالاً ... وإنَّ نوى المحارب لا تؤوبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 الشاهد فيه تأنيث "السلم"، دل عليه قوله: "زائدة"، وهو يؤنث ويذكر، وتفتح سينها وتكسر، ومعناه: الصلح. والسلم والسلا: الاستسلام. وأما الإسلام فالسلم بكسر السين لا غير. اللغة النال والنوال: العطاء، ونلته ونلت له، ونلت به أنوله نولاًن وأنلته إياه ونولته: أعطيتهن وما أصاب منه نيلاً ولا نيلةً ولا نولةً. والنوى: البعد. والنوى: الدار. والنوى: التحول من مكان إلى مكان. كلُّ ذلك أنثى. والأوب: الرجوع، آب إلى الشيء، يؤوب فهو آيب. ومعنى: نوى المحارب: هلاكه، وأخبر عن نواه، وحقيقة الإخبار عن نفسه، ومعنى ذلك: أن السلم مفيدة، والحرب مهلكة مبيدة. وأنشد أبو علي في الباب. (241) وأملس صولياً كنهيِ قرارةٍ ... أحسَّ بقاعٍ نفحَ ريحٍ فأجفلا هذا البيت لأوس بن حجر. الشاهد فيه تذكير "الدرع"، دل عليه قولخ: "أملس صولياً"، وهو من صفة الدرع، والدرع تذكر وتؤنث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 اللغة صول: رجل من العجم، وقيل: موضع تصنع فيه الدروع. والنهي: الغدير، والنهي والنهي: الموضع الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه. وقيل: هو الغدير، قال: ظلَّت بنهي البردانِ تغتسبْ=تشربُ منه نهلاتٍ وتعلْ والجمع: أنه وأنهاء نهي ونهاء، قال عدي بن الرقاع: كأنَّ بحافات النهاءِ المزارعا والنهاء: أصغر محابس المطر، وأصله من ذلك. والتنهاة والتنهية، حيث ينتهي الماء من الوادي. وهي أحد الأسماء التي جاءت على "تفعلة"، وإنما باب التفعلة أن يكون مصدراً. والقرارة: ما انخفض من الأرض. والقاع والقاعة: أرض سهلة مطمئنة لا حزونة فيها ولا ارتفاع ولا انهباط، تنفرج عنها الجبال، ولا حصى فيها ولا حجارة، ولا تنبت الشجر، وما حواليها أرفع منها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 وهو مصب المياه، وقيل: منقع الماء في حر الطين، وقيل: هو ما استوى من الأرض وصلب، ولم يكن فيه نبات. والجمع: أقواع وأقوع قيعان وقيعة. ولا نظير لهن إلا جار وجيرة. وذهب أبو عبيدة، إلى "القيعة" تكون للواحد. ويروى بفتح الخاء، والحاء. والأجفال: الانقشاع والانقلاع. وقبل البيت: وإني أمرؤٌ أعددتُ للحرب بعدما ... رأيتُ لها ناباً من الشَّرِّ أعضلا أصمَّ ردينياً كأنَّ كعوبه ... نوى القسبِ عراصا مزجاً منصَّلا عليه كمصباحِ العزيز يشبُّه ... لفصحٍ ويحشوه الذُّبال المفتَّلا وأملسَ صولياً كنهي قرارةٍ ... أحسَّ بقاع نفحَ ريحٍ فأجفلا كأنَّ قرون الوحش عند ارتفاعها ... وقد صادفتْ طلقاً من النَّجمِ أعزلا تردَّدَ فيه ضؤوها وشعاعها ... فأحسنْ وأزينْ لامرئ إنْ تسربلا وأنشد أبي علي في الباب. (242) ومفاضةٍ كالنهيِ تنسجه الصَّبا ... بيضاءَ كفَّتَ فضلها بمهنَّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 هذا البيت لزهير بن أبي سلمى، وإليه نسبه ابن دريد في "الزاهر". الشاهد في تأنيث "الدرع". اللغة المفاضة: هي الدرع الكاملة. والنهي: الغدير، وقد تقدم. والصبا: الريح الشرقية. ومعنى تنسجه: تضربه. وكفت: قبض، والأرض تكفت الأحياء والأموات. وكفت يكفت كفاتاَ وكفاتاً: إذا عاد في عوهن وفي الناس كفت شديد، أي موت، يقال: اللهم أكفته إليك، والكفت: المر السريع، ويقال: روق الكفيت، أي ما يضم به المعيشة، وقيل: وهو القوة على الجماع. والمهند: السيف. وأنشد أبو علي في الباب. (243) ندمتُ على لسانٍ كان منّي ... فليت بأنَّه في جوفِ عكمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 هذا البيت للحطيئة، واسمه جرول بن أوس العبسي. الشاهد فيه إرادته "باللسان" الكلام واللغة، يدل على ذلك "ندمت لأن الندم لا يقع على الأعيان". اللغة للسان: الجارحة مشهورة، تذكر وتؤنث، ولغة القرآن التذكير، لأنه جاء على "أفعله"، وإذا كان مؤنثاً جمع على "أفعل". والعكم هنا: باطن الجيب، أتى به على المثل، والعكم أيضاً: النمط تدخر فيه المرأة متاعها. والعكم: العدل، وجمعه كله: أعكام. والعكم: الكارة، وهي رزمة القصار، والجمع: عكوم. وقبله: فيا ندمي على سهم بن عوذٍ ... ندامةَ ما سفهتُ وضلَّ حلمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 ندمتُ ندامةَ الكسعي لما ... شريتُ رضا بني سهمٍ برغمي ندمت على لسانٍ كان مني ... فليت بأنَّه في جوف عكمِ هنا لكم تهدَّمتِ الركايا ... وضمَّنتِ الرَّجا فهوتَ بذمِ الإعراب يحتمل "بأنه" امرين. أحدهما: أن تكون "الباء" زائدة، وتكون "أن" مع الجار في موضع نصب، ويكون ما بعد "أن" قد سدَّ مسد خبر "ليت". كما أنها في ظننت أن زيداً قائم كذلك. والثاني: أن تكون "الباء" مرادة، ودخلت على امبتدأ، كما دخلت في قولهم: "بحسبك أن تفعل ذلك". ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء "بأن"، لمكان "الباء". ألا ترى أن "أن" قد وقعت بعد "لولا" في نحو: لولا أنك منطبق، ولم يجر ذلك في الامتناع مجرى "أنك منطلق"، لأن المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة معدوم مع "لولا". ويروى أيضاً: "فليت بيانه". حكاه يعقوب، وذكره أبو الفتح في "الخاطريات". ويروى أيضاً: "وددت بأنه". وأنشد أبو علي في الباب. (244) أمنَ المنونِ وريبهِ تتوجعُ ... والدَّهر ليس بمعتبٍ من يجوعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه أن "المنون" تذكر وتؤنث. فمن ذكر روى "وريبه" ومن أنث، رواه "وريبها". فمن ذكر، أراد: الموت والدهر، ومن أنث، أراد: الداهية. وذهب الأصمعي، إلى أن "المنون" واحد لا جمع له. وذهب الأخفش، إلى أنه جمع لا واحد له. ويمكن أن يريد الأخفش: أنه واحد في معنى الجمع، فهو معنى قول الأصمعي: إنه واحد، وهو أشبه. وإذا أمكن الجمع بين قوليهما، لم يحسن اعتقاد الخلاف بينهما. والتأنيث في قوله: "وريبها"، راجع إلى معنى الجنسية والكثرة، وذلك أن "الداهية" توصف بالعموم والكثرة الانتشار، يقوي ذلك قول الكميت. فإيَّاكم وداهيةً نآدى ... أظلتكم بعارضها المخيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 "فنادى": مثال من أمثلة الجمع، كصحارى وسكارى، وقد أجاره صفة على الداهية وهي في اللفظ واحدة، والمنون من أعظم الدواهي. وقوله: والدهر ليس بمعتبٍ أي: ليس بمراجع من يجزع منه. وريبه: ما يأتي به من الفجائع. وفي قوله: "ليس بمعتب"، سر من أسرار هذه اللغة طريف، يكاد يلحق بالأضداد، عند من يضعف قياسه. وأما عد من قوي نظره فليس ضداً، وذلك أن معنى "معتب"، هو لسلب المعنى لا إثباته. ومعنى هذا القول: أن أكثر اللغة، إنما تأتي لإثبات معنى أصل اللفظة، لا لنفيه وسلبه، وذلك نحو: ضربت زيداً، أي: أوصلت الضرب إليه وأوجدته، وكذلك أكرمته، أوصلت الكرامة إليه، وأحسنت إليه، وأسأت إليه، وقربته وبعدته، ونحو ذلك، أوجبت ذلك له، وأوجدته فيه. ثم إنه كما يأتي هذا ونحوه، للإثبات، فقد يأتي للسلب أيضاً، ومن ذلك قولهم: أعجمت الكتاب، أي أزلت عنه استعجامه، وسلبته إياه، وكذلك أشكيت الرجل، أزلت عنه ما يشكوه، قال: تمدُّ بالأعناق أو تلويها وتشتكي لو أننا نشكيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 أي: نزيل عنها ما تشكوه، ومنه الحديث المرفوع: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء، فلم يشكنا"، فقولهم: لم يشكنا، من باب السلب. وحكي أشكلت الكتاب، في معنى شكلته، أي: أزلت عنه إشكاله. وقال أبو علي في قوله تعالى (أكاد أخفيها) : هو من هذا الباب، ومعناه: أظهرها، وتلخيصه: أكاد أزيل عنها خفاءها، فلا محالة في ظهورها. فإذا ثبت ذلك، وما وقع الإيماء إليه، كان قوله: "ليس بمعتب من يجزع" أي: ليس بزائل عما يدعو إلى العتب عليه، والمعاتبة له. فقولهم إذن: عاتبني فأعتبته، هو في معنى السلب لهن كقولهم: شكا إليَّ فأشكيته، قال: فأعتبوا بالصَّيلمِ أي: لم تكن ثَم عتبى، إنما كانت داهية صيلم، كقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) أي: ليست هناك بشارة، إنما هنالك عذاب مؤلم. وكقولهم: عتابك السيف، وحديثك الصمم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 ولولا خوف الإطالة، وكراهيتها، لم اقتصر على هذا. وبعد هذا البيت، وهو أول القصيدة: قالت أميمةُ ما لجسمكَ شاحباً ... منذ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ أمَّا لجسمكَ لا يلائمُ مضجعاً ... إلاَّ أقضَّ عليكَ ذاك المضجعُ فأجبتها أمَّا لجسمي أنَّهُ ... أودى بنيَّ من البلاد فودَّعوا أودى بنيَّ وأعقبوني حسرةً ... بعد الرُّقاد وعبرةً ما تقلعُ وأنشد أبو علي في الباب. (245) متى يشتجرْ قومٌ تقل سرواتهم ... هم بيننا فهم رضاً وهم عدلُ هذا البيت، لزهير بن أبي سلمى. الشاهد فيه قوله: "فهم رضاً وهم عدل"، فأقرد في موضع الجمع، وكان وجهه: "فهم مرضييون، وهم عدول"، وإنما حسن ذلك، لأنهما مصدران، يقعان بلفظ الواحد، لأثنين وللجمع، والمذكر والمؤنث. وجعلهم هم العدل وهم الرضا، مبالغة في المدح، وتعظيماً وتشبيهاً للمعنى بالعين، وهو أولى من حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيكون التقدير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 فهم ذوو عدل، وذوو رضا، وقد قالوا: أبو حنيفة الفقه، وقال تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً) . وقالت الخنساء: ترتعُ ما رتعتْ حتَّى إذا ادّكرتْ ... فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ فجعلتهما إياهما مبالغة. وقال تعالى: (خلق الإنسان من عجل) ، وذلك لكثرة فعله إياه، واعتياده له، وهو أقوى معنى من أن يتأول، خلق العجل من الإنسان، لأنه أمر قد أطرد واتسع. فحمله على القلب، يبعد في الصنعة، ويصغر المعنى . وكأن هذا الموضع، لما خفي على بعضهم، قال في تأويله: "إن العجل لهو الطين". ولعمري إنه في اللغة ، كما ذكر عنه، إلا أنه في هذا الموضع، لا يراد به إلا نفس العجلة والسرعة، ألا ترى قوله تعالى عقبه: (سأريكم آياتي فلا تستعجلون) . ونظيره قوله تعالى: (وكان الإنسان عجولاً) . (وخلق الإنسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 ضعيفاً) لأنَّ العجلة ضرب من الضعف. المعنى يقول: إذا اختلف قوم في أمر، رضوا بحكمهم، لما عرف من عدلهم، وصحة حكمهم. ويشتجر: يخلتفُ. والسَّروات: جمع سراةٍ، والسَّراة جمع سري. وقولهم "هم بيننا" أي هم الحاكمون بيننا، كما يقول كما يقول القائل: الله بيني وبينك. وبعد البيت: همُ جدَّدُوا أحكامَ كلَّ مضلَّةٍ ... من العُقْم لا يُلْفَى لأمثالِها فَصْلُ بِعزمَةِ مأمورٍ مُطِيعٍ وآمِرٍ ... مُطَاعٍ فلا يُلْفَى لحَزمِهِمُ مِثلُ وأنشد أبو علي في الباب. (246) هل من حلومٍ لأقوام فتنذرهُم ... ماجرَّبَ الناسُ من عضَّي وتضرِيسي هذا البيت لجرير. الشاهد فيه قوله: "من حلومٍ "، جمعه، وهو مصدر، والمصدر لا يجمع، إلا أن تختلف أنواعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 اللغة الحلم: الأناة والعقل، يقال: حلم يحلم، ويجمع أيضاً على: أحلام قال: وأحلامُ عادٍ لا يخافُ جليسُهم ... وإن نَطَقَ العوراءَ غربُ لسانِ وينذرهم: يحذرهم ويخوفهم. والإنذار: المصدر. والنذير: الاسم وفي التنزيل: (كيف نذير) . والنذير أيضاً: المنذر. والجمع: نذير والعض هنا كناية عن الهجاء، وأصله الشد بالأسنان على الشيء. وكذلك عض اللحية. والعض أيضاً باللسان: هو أن يتناوله بما لا ينبغي والفعل منه عضضت أعض عضا وعضيضاً وعضاعضاً، وعضيته تميمية، ولم يسمع لها بمضارع على لغتهم. وعض الرجل بصاحبه عضا: لزمه ولزق به. وعض الثقاف بأنابيب الرمح عضا، وعض عليها: لزمها قال النابغة: عضَّ الثقافُ على صُمَّ الأنابيبِ والعظ بالظاء: الشدة في الحرب، وكذلك عظ الزمان. والتضريس أيضاً: الشد بالأضراس، وعليه وقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 وجَرَّحُوه بأنيابٍ وأضرَاسِ وقبل البيت: وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قرنٍ ... لم يَسْتَطع صَوْلَةَ البْزلِ القَنَاعيسِ قَد حَرَّبتْ عَرَكي في كَّل مُعْتَركٍ ... غُلْبُ الأُسودِ فما بالُ الضَّغَابِيسِ وأنشد أبو علي في باب الأسماء الثلاثية التي لا زيادة فيها. (247) بمَعْتَرَكِ الكُمَاةِ مُصَرَّعاتٍ ... يُدَفَنَّ البُعُولَةَ والبَنِينَا هذا البيت، للكميت بن زيد الأسدي. الشاهد فيه. دخول ناء التأنيث في "البعولة". قال سيبويه: "ألحقوا الهاء في البعولة، لتأكيد التأنيث". يعني تأنيث الجمع. وذكر أبو الفتح عثمان بن جني: أن فحولة وبعولة، وأمثاله، من "باب التراجع عند التناهي"، وذلك أن الشيء، إذا خرج عن حده، انعكس على ضده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 فمن ذلك قولهم: إن الإنسان إذا تناهى في الضحك بكى، وإذا تناهى في الغم ضحك، وإذا تناهى في العظة أهمل، وأبلغ من هذا قول أبي الطيب المتنبي: ولجُدْتَ حتى كِدْتَ تَبْخَلُ حائِلاً ... للمُنْتَهى ومن السرورِ بُكَاءُ والطريق في هذا ونحوه، معرفة مسلوكة، فهذا في غير صناعة الإعراب مطروق، وإذا كان مطروقاً، تأنست به في صناعة الإعراب. فمن ذلك قول إسحاق، في ذكر العلة التي امتنع لها، أن يقولوا: "مازال زيد إلا قائما". وتلك العلة نفي النفي، وإذا انتفى النفي، عاد إلى الإيجاب. وعلى هذا المساق، أن يكون قولهم: ظلمة وظلم، وسدرة وسدر، وقصعة وقصاع، وذلك أن الجمع يحدث للواحد تأنيثاً، نحو قولهم: هذا جمل وهذه جمال، وهذا رجل وهذه رجال قد أقبلت. وكذلك ذكر وذكارة، وعير وعيورة. فلما كانت ظلمة وقصعة وسدرة مؤنثات، وأردت تكسيرها، صرت كأنك أردت تأنيث المؤنث، فاستحال بك الأمر إلى التذكير، فقلت: ظلم وسدر وقصاع، فتراجعت للإيغال في التأنيث إلى لفظ التذكير. ومنه قولهم: ثلاثة رجال وثلاثة نسوة. فعكسوا الأمر على ما تراه، والأجل ذال قالوا: امرأة صابرة، وغادرة، فألحقوا علم التأنيث. فإذا بالغوا وتناهوا في ذلك، قالوا: صبور وغدور، وكذلك رجل ناكح، فإذا بالغوا، قالوا: نكحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 ونحو من ذلك اطراد التصرف، تحو: قام يقوم وقم، وما كان مثله، فإذا بالغوا وتناهوا، منعوه التصرف، فقالوا: نعم الرجل، وبئس الغلام، فلم يصرفوهما، وجعلوا ترك التصرف في الفعل، الذي هو أصله، وأخص الكلام به أمارة للأمر الحادث له، وأن حكماً من أحكام المبالغة، قد طرأ عليه، كما تركوا لذلك أيضاً تأنيثه دليلاً في نحو قولهم: نعم المرأة، وبئس الجارية. والكلام في هذا الباب طويل، والأمثلة فيه كثيرة، والزيادة على ما ذكرت لك تخرج عن المقصود، وفي هذا التنبيه كفاية. اللغة البعولة: أزواج النساء، ويجمع أيضاً على: بعال وبعول، ويقال للمرأة أيضاً: بعل وبعلة، قال: شَرُّ قرينٍ للكبير بَعْلُته ... تُوْلِغُ كلبا سؤرهُ أو تكفُته وتصريفه: بعل يبعل بعولة، وهو بعل، واستبعل كبعل، وتبعلت المرأة: أطاعت بعلها، وتبعلت له: تزينت، والتباعل والمباعلة والبعال: ملاعبة المرء أهله. وقيل: البعال: النكاح، ومنه الحديث في أيام التشريق "إنها أيام أكلٍ وشربٍ وبعالٍ" ويروى عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أتى يوم الجمعة قال: يا عائشة: "اليوم يوم تبعلٍ وقران" يعني بالقران: التزويج، وباعلت المرأة: اتخذت بعلاً. وباعل القوم قوماً آخرين، مباعلةً وبعالاً: تزوج بعضهم إلى بعضٍ، وبعل الشيء: ربه ومالكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 وبعل، والبعل جميعاً: صنم، سمي بذلك، لعبادتهم إياه، كأنه ربهم، وقوله تعالى: (أتدعون بعلاً) ، قيل معناه: أتدعون رباً وقيل: هو صنم. والبعل: الصنم معموماً به، عن الزجاجي. وقال كراع: البعل: صنم كان لقوم يونس عليه السلام. والبعل أيضاً: الأرض المرتفعة، قال سلامة بن جندل: إذا ما علونا ظهر بعلٍ عريضةٍ ... تخالُ عليها قَيْضَ بيضٍ مُفلَّقِِ أنثها على معنى الأرض. وقيل: البعل: كل شجر أو زرع لا يسقى. وقيل البعل: ما سقته السماء والبعل من النخل: ما شرب بعروقه من غير سقيٍ، ولا ماء سماءٍ. وقيل: هو ما اكتفى بماء السماء، وبه فسر ابن دريد، كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، لأكيدر بن عبد الملك، "لكم الضامنة من النخل، ولنا الضاحية متن البعل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 الضامنة: ما أطاف به سور المدينة. والضاحية: ما كان خارجاً. وأنشد: أقسمتُ لا يذهبُ عَنَّي بَعْلُها ... أو يَسْتَوِي جثْيُها وجَعلُها والبعل: ما أعطي على سقي النخل، قال الأنصاري: هنالك لا أُبَالي نَخْلَ بَعْلٍ ... ولا سَقْيٍ وإنْ عَظُمَ الإِتاءُ واستبعل الموضع والنخل: صار بعلاً. والبعل: الذكر من النخل. ويقال بأمره فهو بعل: بَرِمَ، فلم يدر كيف يصنع فيه. والبعل: الدهش عند الرَّوع. وبعل بعلاً: فرق ودهش. وامرأة بعلة: لا تحسن لبس الثياب. وباعلهُ: جالسه. وهو بعل على أهله، أي ثقيل. وبعل على الرجل: أبى عليه، وفي حديث الشورى: "فقال عمر: قوموا فتشاوروا، فمن بعل عليكم أمره، فاقتلوه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 التفسير للهروي في "الغريبين". والمعترك: موضع القتال. قال: النازلينَ بكلَّ مُعْتَركٍ وقال جرير: قَدْ جَرَّبَتْ عَرَكِي في كلَّ مُعْتَرَكٍ ... غُلْبُ الأسوِد فما بالُ الضَّغَابِيسِ والكماة: جمع كمي، وهو الشجاع، وقد تقدم القول عليه. ومصرعات: مطروحات. ويروى: يُدَفَنَّ البُعُوْلَةَ والأبِينا جمع"أب"جمع السلامة، وكذا أورده أبو عليّ في "المسائل الحلبيات". وأنشد أبو علي في الباب. (248) والعِيسُ يَنْغَضْنَ بكيرَاننا ... كأَنَّماى يَنْهَشُهُنَّ الكَلِيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 الشاهد فيه قوله: "الكليب" وهو اسم للجمع، لا يقاس عليه، ومثله: عبد وعبيد، وقد جاء في"فعل"، ضرس وضريس. اللغة: العيس: الإبل تضرب إلى الصفرة، عن ابن الأعرابي. وقال غيره: جمل أعيس، وناقة عيساء، وظبي أعيس: فيه أدمة وكذلك الثور قال: وعانَقَ الظَّلَّ الشَّبُوبُ الأَعْيَسُ وعيس: اسم المسيح صلى الله على نبينا وعليه وسلم. وقال سيبويه: عيس "فعلى" وليست ألفه للتأنيث، وإنما هو أعجمي، ولو كانت ألفه للتأنيث لم ينصرف في النكرة، وهو ينصرف فيها. قال: أخبرني بذلك من أثق به، يعني بصرفه في النكرة. ومعنى ينغضن: ينحركن، يقال نغض ينغض وينغض نغضاً، وأنغض ينغض غنغاضاً. وقيل معناها: كثرة الحركة والاضطراب، وسمي الظليم نغضاً، لكثرة حركته وخفه جريه، وأنشد ابن دريد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 والنَّغْضُ مِثْلُ الأجْرَبِ المُدجَّلِ فالنغض: الظليم. وتامدجل من قولهم: دجلت البعير، إذا طليته بالقطران وقد قال الله تعالى: (فسينغضون إليك رؤوسهم) . أي يحركونها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للنابغة الجعدي، حين مدحه: "لا ينغض الله فاك". فقيل: إنه عمر مئة سنة، مئة وعشرين، لم تنغض له سن، أي لم يتحرك. والأكوار: وهو الرحل، ويروى: بكيرانها، وهو جمع كور أيضاً. ويَنْهَشُهُنَّ: يَعَضُّهُنَّ. وأنشد أبو علي في الباب. (249) فلما فَقَدْتُ الصَّوْتَ منهم وأُطْفئَتْ ... مصابِيحُ شُبَّتْ بالعشاء وأنؤُرُ هذا البيت لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. الشاهد فيه قوله: "وأنؤُر"، جمع نار، وهو من جمعِ القلة. ونظيره: دار وأدؤر، ويجمع أيضاً في القيل على نيرةٍ. وأَمَّا جمعُه الكثير فُنُورٌ ونِيَرانٌ وهذا البيت من قصيدته المشهورة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 أَمِن آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فُمبكِرُ ... غَداةَ غدٍ أَمْ رائحٌ فمُهَجَّرُ وقد قدمت منها أبياتاً، في قوله: فكانَ مِجَنِّي دونَ من كنتُ أَتَّقِي وأنشد أبو علي في الباب. (250) شَهدتُ ودَعْوانا أُمَيَّةَ أَنَّنا ... بَنُو الحَرْبِ نَصْلَاها إِذَا شَبَّ وهذا البيت، لحاتم الطائي، ويكنى أبا سفانة، وقيل: أبا عديّ. الشاهد فيه قوله: "نورها" وهو جمع نار في الكثير، ونظيره دار ودُور. الإعراب يروى"إننا" بكسر الهمزة وفتحها. والكسر: رواية أبي حاتم عن الأصمعي، وهو اختيار أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش، حمل الدعوى على القول. والفتح رواية أبي زيد، راعى لفظ "دعوانا"والدعوى بمعنى الدعاء، حكاها سيبويه، في المصادر التي في آخرها ألف التأنيث، وأنشد لبشير بن النكث: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 ولَّتْ ودَعْواها شَدِيدٌ صَخْبُه ذكر على معنى الدعاء. قال سيبويه: "ومن كلامهم: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين". يقول: نحن بنو الحرب، ودعوانا أمية، من أجل أننا بنو الحرب، وعلى تقدير الكسر: وقولنا يا أمية، ثم استأنف، فقال: إننا بنو الحرب، ونظيره قول عنترة: يًدْعُونَ عَنْتَرُ والَّرماحُ كأَنَّها ... أشطانُ بئرٍ في لَبانِ الَأدهمِ المعنى يقولون يا عنتر، وقال الله تعالى: (يدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ من نَفْعِه) . فذهب أبو إسحاق، إلى أن يدعو، بمنزلة يقول، و"لَمَنْ" مرفوع بالابتداء ومعناه: يقول: لمن ضرة أقرب من نفعه إله معبود. قال سيبويه: كان عيس بن عمر، يقرأ: (فَدَعَا رَبَّه إنّي مغلوبٌ فاْنَتصِرْ) . أراد أن يحكي، كما قال: (والذين اتَّخُذُوا من دُوْنِه أَوْلِيَاءَ ما نَعْبُدُهم إِلاَّ لِقُرَّبُونَا إلى الله زُلْفَى) . كأنه قال والله علم: قالوا ما نعبدهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 وبعد البيت: عَرَاجِلَةٌ شُعْبُ الرؤوسُ كأَنَّهُم ... بنو الجِنّ لم تُطْبَخْ بِقدْرِ جزُورُها العراجلةُ: القطعة من الخيل وهي الرَّجَالةُ أيضاً. وأنشد أبو علي في الباب. (251) كأَنَّ متنَيهِ من النُّفِيَّ ... مواقعُ الطَيْرِ على الصُّفَّي هذا الشاعر، هو أبو نخيلة السعدي. الشاهد فيه جمعه "صفاً"على "صفيً" وهو"فُعُولٌ" في التقدير "صفوي"، سبقت الواو الياء بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وكسرت الفاء، لتصح الياء، وونظيره: قفاً وقفي، وعصا وعصي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 ويجوز كسر الصاد، من "صُفًّي"، والفاء من"قُفيّ" والعين من "عصي"، اتباعاً. وجمع أيضاً على "أفعال" قالوا: أصْفَاءٌ وأقفاءٌ وأعضاءٌ. المعنى وصف ماتحاً (يستقي ماء) ملحا وقع على ظهره نقط من ذلك الماء فابيضت فشبهها بمواقع الطير. والنفي: ما تطاير عن الرشاء، وعن معظم القطر، فشبه ما قطر على ظهره من الماء الملح ويبس (بذلك) ، ومثله: فما بَرِحَتْ سَجْوَاءُ حتَّى كأَنَّما ... بأشرافِ مَقْرَاها مواقعُ طائرِ سجواء: اسم ناقته. ومقراها: وأراد جانبيه. والمائح: الذي ينزل في البئر. والماتح: الذي يرفع الدلو. وقولهم في المثل: "المائح يرى است الماتح" وأنشد أبو علي في باب "فعل". كأَنَّ نُسُوعَ رَحلي حين ضُمَّتْ ... حوالبُ غُرَّزاً ومعىً جِياعَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 هذا البيت للقطامي. الشاهد فيه قوله: "معى"، وضعها موضع الأمعاء. والمعى واحد، فأقامه مقام الجمع، وهو من أعفاج البطن مذكر. ويقال في واحده أيضاً: "معي". وروى التأنيث فيه من لايثق به، ونظيره وضع الواحد موضع الجمع، قوله تعالى: (ثم يُخْرِجُكُم طِفْلاَ) . اللغة النسوع: جمع نسع، وهو سير يضفر على هيئة النعال، تشد به الرحال، ويجمع على أنساعٍ ونسعٍ. والقطعة منه: نِسْعَةٌ. والنسع أيضاً، من أسماء الشمال، وقيل: هي مسع، وإنما أبدلت الميم نوناً، زعم ذلك يعقوب وقال المتنخل: قد حالَ دونَ دَرِيْسَيه مؤوَّبَةٌ ... نِسْعٌ لها بعِضَاه الأرضِ تَهْزِيْزُ ونسع أيضاً بلد، وقيل: جبل أسود، الصفراء وينبع، قال كثير: فقلتُ وأسرْتُ النَّدَاَمة ليتَني ... وكنتُ امرأً أغَتشُّ كلَّ غذوالِ وسَلَكنَ سبيلَ الرائحانِ عشيةً ... مخارِمَ نِسْعٍ أو سلكنَ سَبِليِ والغُرَّزُ: القليلاتُ اللبن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 والضمير في "ضُمَّتْ"، يرجع إلى "النُسُوعِ" وصف ناقته. وأنشد أبو علي في الباب. (253) كأَنَّ وَحَى الصَّرْدَانِ في جَوْفِ ضَالةٍ ... تَلَهْجُمُ لَحْيَيْهِ إذا ما تَلَهْجَمَا هذا البيت، لحميد بن ثورٍ الهلاليّ. الشاهد فيه قوله: "الصّردان" جمع "صُرَدٍ" وهو طائر فوق العصفور. و"فعلان" من ابنية القلة. والصرد أيضاً: مسمار يكون في سنان الرمح والقناة، قال الراعي: منها صريعٌ وَضَاغَ فوق حربِته ... كما ضَغَا تحت حَدَّ العاملِ الصُّرَدُ والصرادن أيضاً: عرقان تحت اللسان، قال النابغة: له صُردَاَنِ مُنْطِلقَا اللسانِ اللغة وحى الصردان: صوتها. والجمع أوحاء. وقال يعقوب: وحى العقاب: صوت انقضاضها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 والوحى أيضاً: العجلة. وقد وحى يحي. والوحى: السيد ووحى يحي وحياً: كتب. ووحى أيضاً: لغة في أوحى. والضالُ: شجر. واللحيان: العظمان اللذان فيهما منابت الأسنان، من كل ذي لحيٍ. والتلهجم: الصريف والضرب والحركة. المعنى وصف بعيراً، يقول: كأن صريف لحييه، صوت صردان في ضالة وقبله: رَعَى السُّرَّةَ المِحَلالَ ما بين زابنٍ ... إلى الخورِ وسميَّ البُقُولِ المُدَيَّما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 فجِئنَ به غَْوجَ المِلاطَينِ لم يَبِنْ ... حِدَاجَ الرَّعاء ذا عَثَانِينَ مُسْنِما له ذِئَبٌ جُوْفٌ كأَنَّ حُدُوجَها ... خدودُ عناجِيجَ تَعالينَ صُيَّما كأَنَّ هزيزَ الريحِ بينَ فروجِه ... عوازفُ جِنًّ زُرْنَ حيَّا بِحَيْهَما فهاديتُها حتّى ارتقَتْ مرجَحِتَّةً ... تميلُ كما مال النَّقَا فَتَهَّيمَا فما دخلتْ في الخِدرِ حتَّى تنقضت ... مآسير أعلى قدَّه وتَحَطَّمَا أطاف به النسوان بين صَنِيعةٍ ... وبين التي جاءتْ لكما تَعَلَّمَا فزَيَّنهُ بالعِهْنِ حتّى لو أَنَّه ... يُقالُ له: هابٍ هَلُمَّ لأَقْدَمَا وأنشد أبو علي في الباب. (254) وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ بعيدةٍ ... تَعَاوى به ذُؤْبَانُه وثعالبُه هذا البيت، لذي الرُّمَّة. الشاهد فيه قوله: "ذؤبان" جمع "ذئب"، ونظيره، صرم وصرمان، وزق وزقان. وقالوا: صنو وصنوان، وقنو وقنوان. اللغة وقوله: "أَزور" يعني طريقاً فيه عوجٌ. ويَمْطُو: يَمْتدُّ. وذُؤٍْبانُه وثعالبه: تعوي من جَدْبِه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 وقبله: وأَعَيَسَ قد كَلَّفْتَهُ بعدَ شُقَّةٍ ... تَعَقَّدَ منها أَبْيَضَاهُ وحالبُه متى يُبْلي الدَّهرُ الذي يَرْجِعُ الفتى ... إلى بَدْئِه أو تَشْتَعِبْني شَوَاعبُه فَرُتَّ امرئٍ طاطٍ عن الحقَّ طامحٍ ... بعينيهِ مما عَوَّدَتْهُ أقارُبه ركبتُ به عَوْصَاءَ كلَّ كريهةٍ ... وزَوْرَاءَ حَّتى يعرفَ الضَّيْمَ جانِبُه وأَزْوَرَ يَمْطُو في بلادٍ عريضةٍ ... تَعَاوى بها ذُؤْبانُه وثَعَالبُه إلى كلَّ ديَّارٍ تعرَّفْنَ شخصَهُ ... من القَفْرِ حتَّى تَقَشَعِرَّ ذوائبُه وأنشد أبو علي في الباب. (255) وَلَّى وصُرَّعْنَ من حيثُ التَبَسْنَ به ... مُجَرَّحاتٍ بأجراحٍ ومقُتولُ هذا البيت، لعبدة بن الطبيب. الشاهد فيه قوله: "بأجراحٍ" جمع جرح، وهو شاذ، وإنما المستعمل، "جروح". قال أبو علي: يجوز على قول سيبويه، أن يكون جاء في الشعر، للضرورة. ولم يستعمل في الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 المعنى وصف ثوراً وكلاباً، يقول: ولى الثور، وصرعت الكلاب، فمنهن مجرحات، ومنهن مقتول. وروى أبو حاتم: "مخرجات بأجراح". وقال: التخريج: لونان، بياض وسواد، وغير ذلك من الألوان. وقال أبو الحسن الأخفش: ما أعلم أحداً روى"مخرجات". غير أبي حاتم. وبعد البيت: كأنَّه بَعْدَ مَا جَدَّ النَّجَاءُ بهِ ... سيفٌ جَلاَ مَتْنُه الأصنَاعُ مَصْقُولُ مستقبل الريح يهفو وهو متبرك ... لسانه عن شمال الشدق معدول ومنها قوله: لمَّا نَزَلنا رَفَعْنا ظلَّ أَرْديةٍ ... وفارَ باللحم للقوم المَرَاجِيلُ وَرْدٌ وأشقرُ لم يُهْنِئْه طابخُه ... ما غَيَّرَ الغَلْيُ منه فهو مأكولُ ثُمَّتَ قُمْنَا إلى جُرْدٍ مُسوَّمَةٍ ... أَعْرَافُهُنَّ لأيدينا مَنَادِيلُ وأنشد أبو علي في باب جمع ما لحقته تاء التأنيث، من الأبنية على ثلاثة أحرف. (256) أَبَتْ ذِكَرُ عَوَّدْنَ أحشاءَ قلبِه ... خُفُوقاً ورفْضَاتُ الهوى في المفاصلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 هذا البيت، لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "وَرَفْضَات" ساكنة الثاني، جمع "رفضةٍ" وكان وجه الكلام "رفضات" بتحريمك الثاني، لأنه اسمٌ، فخففه في الشعر، ضرورة. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أنه لما كان مصدراً، والمصدر يوصف به، راعى ذلك فيه، فسكنه، ومثله قول أبي صخر الهذلي: ولكنْ يُقِرُّ العينَ والنفسَ أَنْ ترى ... بعَقْدَته فَضْلاتِ زُرْقٍ رَوَاعِبِ فأسكن "فضلات"، وهو اسم، لا صفة، ضرورة. وقال آخر: ولكنَّ نَظْراتٍ بعينٍ مريضِةٍ ... أُلاَك اللَّواتي قد مَثَلْنَ بنا مَثْلاَ وقال آخر: فَرَاعَ ودَعْوَاتُ الحبيبِ تَرُوعُ وقال آخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 عَلَّ صروفَ الدهرِ أو دُوْلَاتِها يُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ من لَمَّاتِها فتستريحُ النفسُ من زَفْرَاتِها اللغة ذِكَرٌ: جمع ذكرةٍ. وخفق الفؤاد والبرق، والسيف والراية والريح، ونحوها، يخفق خفقاً وخفوقاً وخفقاتاً، وأخفق واختفق: اضطرب. ورفضات الهوى: ما تفرق في المفاضل. المعنى يقول: تفرق هوها في مفاصلي، فلا أستطيع السلو عنها. تأبى ذكرها، وتفرق هواها في مفاصلي. وقلبه: إِذا قُلْتُ وَدَّع وصلَ خَرْقاَءَ واجتنِتْ ... زيارَتها تُخْلقْ حبالُ الوسائلِ أبت ذِكَرٌ عَوَّدْنَ أحْشَاءَ قَلْبِهِ ... خُفُوقاً ورفضاتُ الهوى في المفاضلِ أَبَا الدَّهْرُ مِنْ خَرْقَاءَ إلاَّ كَمَا أَرَى ... حنينٌ وتَذْرَافُ الدموع الهَوَامِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 أفي كلّ عامٍ رائعُ القلبِ رَوْعَةً ... تَشَاءَى النوى بعد ائيلافِ الجَمَائِلِ وأنشد أبو علي في الباب. (257) لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما هذا البيت لحسان بن ثابت. الشاهد فيه وضع"الجفنات" وهي لما قل من العدد في الأصل، لجريانها في السلامة، مجرى التثنية موضع "الجفان" التي هي للتكثير، وكان أبو علي، يطعن على الحكاية المحفوظة. هنا، المنسوبة إلى النابغة، في قوله لحسان: "لقد قللت جفانك وأسيافك". وقال الله تعالى: (وهم في الغرفات آمنون) وغرف الجنة أكثر مما يظن، وقال تعالى: (هم درجات عند الله) ورتب الناس في علم الله تعالى أكثر من العشر لا محالة. وقال دريد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 كَميشُ الإزارِ خارجٌ نصفُ ساقهِ ... بَعيدٌ من الآفاتِ طلّاُع أَنجُدِ و"أنجد" "أفعل"، وهو من تكيسر القلة، والمراد به معنى الكثرة، ألا ترى أنه لا يريد "بأنجد" من الثلاثة إلى العشرة، وإنما من عادته، طلوع النجاد فهو يؤذن بالكثرة، كما قال العجاج: وقد أكون مرَّةً نَجَّادَا أطلعُ الفنجادَ والنّجَادَا وقال الآخر: وقد يَقْصُرُ القُلُّ الفتى دونَ هَمّه ... وقد كان لولا القُلُّ طَلَّاعَ أنجد فهذا "أفعل" يراد به "الفعال"، على مامضى. وليس قوله: "أنجداً"، وهو يريد الكثرة، وهو النَّجاد، وكلَّ واحد، من أقلام وأرسان وأقدام وأرجل، لم يكسر إلا تكسير القلة البتة. فكان مجيء كل واحد منها مراداً به معنى جمع الكثرة، أسهل من مثال القلة ملفوظا به، مرادا به معنى جمع الكثرة. فتأمله. وقد كثر مجيء لفظ جمع القلة، و المعنى به معنى الكثرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 اللغة الغر: البيض. يريد بياض الشحم. ويحتمل أن يريد بالغر: المشهورات. وهن يلمعن: يبرقن يقال: لمع الشيء يلمع لمعاً، ولموعاً، ولميعاً، وتلماعاً، كلُّه: برق. المعنى وصف قومه بالكرام والبأس، جفاننا معدة للأضياف، ومساكين الحَّي، وسيوفنا يقطرن دماً، لنجدتنا وكثرة حروبنا. خبر: زعموا أنَّ الفرزدق قدم المدينة، في إمارة أبان بن عثمان، فوجد بها كثير عزة. فاجتمعا ذات يوم، فبينا يتناشدان الأشعار، إذ طلع عليها غلام شخت، رقيق الأدمة، في ثوبين معصفرين. فقصد نحوهما، حتى انتهى إليهما، فلم يسلم، وقال: أيكما الفرزدق؟! فقال له كثير: هكذا تقول لسيد العرب، وشاعرها؟. فقال: لو كان كذلك، ما قلت له هذا. فقال له الفرزدق: ومن أنت، لا أم لك؟!.. فقال: رجل من الأنصار، ثم من بني النجار، ثم من بن بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، وتزعمه مضر. وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعراً، أنا أعرضه عليك، وأؤجلك فيه سنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 فإن قلت مثله فأنت أشعر كما قيل، وإلا فأنت منتحل كذاب. ثم أنشد قصيدته التي يقول فيها: وأبقى لنا مَرُّ الحروبِ ودَوْرُها ... سيوفاً وأَدْراعاً وجَمْعَاً عَرَمْرَما متى ما تَزُرْنَا من مَعَدَّ عِصَابَةٌ ... وغَسَّانَ نَمْنَعْ حوضَنَا أَنْ يُهَدَّمَا لنا حاضرٌ فَعْمٌ وبَادٍ كأنَّه ... شماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وتَكَرُّمَا وكلُّ فَتًى عَارِي الأشاجعِ لاَحَه ... قراعُ الكُمَاةِ يَرشَحُ المسكَ والدَّمَا ولدْنَا بِنَي العنقاءِ وابنيّ مُحَرَّقٍ ... فأكْرِمْ بنا خالاً وأكْرِمْ بِنا اْبَنمَا نُسَوَّدُ ذا المالِ القليلِ إذا بَدَتْ ... مروءَتُه فينا وإِنْ كَان مُعْدِمَا وإنَّا لنَقْري الضَّيْفَ إنْ جاءَ طارِقاً ... مت الشَّحْمِ ماأَمْسَى صحيحاً مسلَّما لنا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يلمَعْن بالضُّحى ... وأسيافُنَا يَقْطُرْنَ من نَجْدَةٍ دَمَا فلما انتهى إلى آخر القصيدة، قال له: قد أجلتك في جوابها سنة. فانصرف الفرزدق مغضياً يسحب رداءه، وأقبل على كثير وقال له: قاتل الله الأنصاري!، ما أفصح لهجته!، وأوضح حجته!. فلما كان من الغد، جلس في مجلسه، ثم قال: ما فعل الأنصاري؟!. فنلنا منه وشتمناه. فقال: الله! ما منيت بمثله، ولا سمعتُ بمثل شعره، فارقته وأتيت منزلي، فأقبلت أصوب وأصعد، في كل فن من الشعر، فكأني ما قلت شعراً قط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 حتى نادى منادي الفجر، رحلت ناقتي، وأخذت بزمامها حتى أتيت ذبابا جبلاً بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي. أخاكم أخاكم، يعني شيطانه. فجاش صدري كما يجيش المرجل. فعقلت ناقعي وتوسدت ذراعها، فما قمت حتى قلت مئة بيت، وثلاثة عشر بيتاً. فبينما هو ينشد، إذ طلع عليه الأنصاري، حتى انتهى إلينا، فسلم علينا ثم قال: إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك، ولكني أحببت أن أسالك، أي شيءٍ صنعت؟. فقال له: اجلس، وأنشده: عزفتَ بأعشاشٍ وما كِدتَ تَعزفُ ... وأَنكرْتَ من حَدْرَاءَ ما كُنْتَ تَعْرِفُ وَلَجَّ بك الهُجْرانُ حتَّى كأَنمَّا ... ترى الموتَ في البيتِ الذي كُنْتَ تأْلَفُ ومنها: ترى الناسَ ما سِرنا يسيرونَ خَلْفَنا ... وإنْ نحنُ أومانَا إلى الناسِ وقَّفُوا فقام الأنصاريُ كئيباً، فلما توارى، طلع أبوه أبو بكر بن حزم، في مشيخةٍ من الأنصار، فسَّلموا علينا، وقالوا: يا أبو فراس، قد عرفت حالنا ومكاننا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد بلغنا أن سفيهاً من سفهائناً تعرض (لك) فنسألك بحق الله ورسوله إلا ما حفظت فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن النابغة، كان يرد عكاظ، كل سنة، فتضرب له قبة من أدم، ويقيم بها إلى انقضاء الموسم، وتأتيه الشعراء عارضة عليه شعرها، مصيرة إليه، في التقديم والتأخير أمرها. فورد عليه في بعض الأعوام الأعشى ميمون بن قيس، فذهب في تفضيله كل مذهب، وقال له: قم فأنت أشعر العرب!. ثم تلاه حسان بن ثابت، فأنشده حتى بلغ قوله: "لنا الجفنات الغر" والبيت الذي يليه "ولدنا بني العنقاء". فقال له: ما أحسن ما قلت!، ولولا أن أبا بصير، أنشدني قبلك لقضيت لك. فقال له حسان: أنا أشعر منك، ومن أبي بصير. قال: كلا، انك لست تحسن أن تقول: فإنَّك كالليل الذي هو مُدركي ... وإن خلتُ أنَّ المنتأَى عنك واسعُ ثم قال لحسان: اعد علي بيتك، فلما أعادهما. قال: إنك قللت الجفان، وقلت: "الغُرّ" ولم تقل: البيض، فاجتزيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 بالوضح اليسير، وقلت: "يلمعن"، ولم تقل: يبرقن وقلت: بالضحى، وكان الدجى أغيا، وقلت: "أسيافنا"، ولم تقل: سيوفنا فقللتها حين الإقدام، كما قللت جفانك حين الإطعام. وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فخجل حسان وانصرف. وأنشد أبو علي في الباب. (258) أبعدكُنَّ الله من نياقِ إن لم تنجينَ من الوثاقِ هذا الرجز للقلاخ، وهو سعد بن حزن المنقري. الشاهد فيه قوله: "نياق"، وهو جمع ناقة، ونظيره من الصحيح رحبة ورحاب، ورقية ورقاب، وقالوا: نوق ونظيره، قارة وقور، وقالوا: أنيق، كما قالوا آكم. وقوله: "من نياق" في موضع التمييز. وبعدهما: بأربعٍ من كذبٍ سَّماقِ أنقذُ هداكَ الله من خناقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 وضعفةَ العاملِ للرُّستاقِ أقبلَ من يشربَ في الرفَّاقِ معاوداً للجوعِ والإملاقِ يغضبُ إن قال الغُرابُ غاقِ خناق وضعفة: رجلان، والسماقُ: الخالص وأنشد أبو علي في الباب. (259) يقومُ تاراتٍ ويمشي تيرا الشاهد فيه قوله: "تيرا" جمع تارة، مثل قوله، قامة وقيم، والقياس: تيلر بالألف، لأن تارة "فعلةٌ" في الأصل، كرحبة ورحاب، إلاّ أنَّ المعتل من "فعال" قد تحذف ألفه، كما قالوا: ضيعة وضيع، طلباً للتخفيف بالاعتلال. ومعنى"يقوم" يثبت قائماً غير ماشٍ. وينبغي أن تكون عين تارة، واواً، اشتقاقاً جميعاً. أما الاشتقاق: فإنه من معنى التور، والتور: الرسول، قال الشاعر: والتورُ فيما بيتتا معملٌ ... يرضى به المأتي والمرسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 واتقاؤهما أن الرسول من شأنه أن يذهب ويجيء، والتارة هكذا معناها. ألا ترى أنها تردد الشيء طوراً كذا طوراً كذا، كما أن الرسول مرة يرد وأخرى يصدر. ويؤكد عندك كون عينها أيضاً "واواً" قولهم في معناها: طوراً، وأطوار، والطاءُ أخت التاء، فكأنها لذلك حرف واحد. وقد ترى تعاقبها في قولهم: الترياق والطرياق، والطرنجبين وفي قول علقمة: وفي كلَّ حي قد خبطُّ بنعمةٍ ... فحقَّ لشأشٍ من نداك ذنوبُ وأنشد أبو علي، في باب الأسماء المفردة، الواقعة على الأجناس التي تخص آحادها منها بإلحاق الهاء لها. (260) يشبهن السَّفين وهنَّ بختٌ ... عظيماتُ الأباهرِ والمؤونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 هذا البيت للمثقب العبدي، واسمه عائذ بن محصن. الشاهد فيه قوله: "المؤون" جتمع "مأنة". اللغة السفين: جمع سفينة، ويجمع أيضاً: على سفن وسفائن. والبخت: الإبل الخراسانية، من بين عربية وفالح. والواحد: بختي. والأباهر: الجوانب، وقيل: الأوساط. والأبهران أيضاً: عرقان مكتنفا الصلب. وقيل: هما الأكحلان. والمؤون: الخواصر. والمأنة أيضاً: لحمة في أسفل الصدر. المعنى وصف إبلاً بما عليها، شبهها في السراب، بالسفن في البحر. يقال: شبهته كذا، وشبهته بكذا. وقال امرؤ القيس: فشَّهتهمْ في الآلِ لما نكمَّشُوا ... حدائقَ دومٍ أو سفيناً مقيَّرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 أفاطمَ قبلَ نأيك متَّعيني ... ومنعكِ ما سألتُ كأن تبيني ولا تعدِي مواعدَ كاذباتٍ ... نمرُّ بها رياحُ الصيف دوني فإني لو تخالفين شماليِ ... خلافكِ ما وصلتُ بها يميني إذا لقطعتُها ولقلتُ بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني لمن ظعن تطالع من صبيب ... فما خرجت من الوادي لحينِ وهنَّ كذالك يوم قطعنَ فلجاً ... كأن حدُوجهنَّ على سفينِ يشبهن السفينَ وهنَّ بختٌ ... عظيماتُ الأباهر والمؤون وهنَّ على الوثاثر راكباتٍ ... قواتلَ كلَّ أشجعَ مستكينِ رفعنَ محاسناً وخبأنَ أخرَى ... وثقَّبنَ الوصاوصَ للعيونِ وبهذا البيت، سمي المثقَّب. وأنشد أبو علي في الباب. (261) بتيهاء قفرٍ والمطُّي كأنَّها ... قطا الجونِ قد كانت فراخاً بيوضُها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 ذكر أن هذا البيت لذي الرمَّة. الشاهد فيه قوله: "بيوضها" جمع بيضة، كبيت وبيوت، وشيخٍ وشيوخٍ. اللغة أرض تيهاء، وبلد أيته، تتيه سالكها، أي، تتلفُه وتحيره. والقطا: من الطير، وهو جنسان: كدريَّ، وجوني. فالكدريُّ: غبر الألوان، رقش الظهور والبطون، صفر الحلوق، قصارُ الأذناب والجوني منها: سود البطون، سود بطون الأجنحة والقوادم، بيض الصدور، غبر الظهور، وفي عنق كل واحدة منها طوقان، أصفر وأسود. ويروى "قطا الحزن". والحزن: ما غلط من الأرض. الإعراب كانت هنا: بمعنى صارت. قال شمعلة بن أخضر بن هبيرة بن المنذز بن ضرار الضبي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 فجرّ على الألاءة لم يوسدَّ ... وقد كان الدَّماءُ له خمارا أي قد "صار". وبعضهم يحمله على القلب. وأنشد أبو علي في الباب. (262) عُلين بكديون وأشعرن كرة ... فهن إضاء صافيات الغلائل هذا البيت للنابغة الذبياني. الشاهد فيه قوله: "إضاء" جمع"أضاً" جمع "أضاة". والأضاء: الغدر. وصف دروعا، فجعلها كالغدر في صفائها. وقد تقدم هذا البيت، بما يغني عن إعادته. وأنشد أبو علي في الباب. (263) يا ليت شعري عن نفسي أزاهقةٌ ... نفسي ولم أفضِ ما فيها من الحاجِ الشاهد فيه قوله: "من الحاج" جمع حاجة، وتقديره "فعلة وفعل"، كما تقول: هامة وهام وساعة وساع، قال القطامي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 وكنا كالحريقِ أصابَ غابا ... فيخبُو ساعةً ويشبُّ ساعا وفي أدنى العدد: حاجات، وساعاتُ، وهامات. وقال أبو العباس المبرد: "فأما قولهم في "حاجة": حوائج فليس من كلام العرب، على كثرته على ألسنة المولدين، ولا قياس له. ويقال: في قلبي منك حوجاء، أي: حاجة، قال: من كانَ في قلبهِ حوجاءُ يطلبُها ... عندي فإني له رهنٌ بإصحارِ لو جمع على هذا الكان "حواجي" يا فتى، وأصله "حواجي"، ولكن في مثل هذا يخفف، كما تقول في صحراء: صحارٍ، وأصله صحاريُّ وقيل: كسرت حوجاء على حوائج، وكان أصله حواجي، ثم قلب. وحكى المطرز: حائجة وحوائج، فهذا على أصله الأعراب قوله: "ليت شعري" معناه: ليتني شعرت. قال سيبويه: قالوا ليت شعري فحذفوا التاء الإضافة، للكثرة. كما قالوا: "ذهب بعذرتها"، وهو أبو عذرها، فحذفوا التاء مع الأب خاصة ويقال: ليت شعري لفلان، وعن فلان، وليت شعري فلاناً ما صنع، حكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 ذلك اللحياني عن الكسائي، وأنشد: ليتَ شعري عن حماري ما صنع وأنشد أيضاً: ليتَ شعري مسافرَ بن أبي عم ... رٍو وليت يقولها المحزونُ ومعنى البيت ظاهر. وأنشد أبو علي في الباب. (264) ترى النعرات الخضر تحت لبانه ... أحادَ ومثنى أصعقتها صواهله هذا البيت لتميم بن مقبل. الشاهد فيه قوله: "النعرات" جمع "نعرة"، وهو الذباب الأزرق، ويدخل في أنوف الحمير، قال أمرؤ القيس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 كما يستدير الحمارُ النَّعر وهو الذي دخلت النعرة في أنفه، يقال: نعر نعراً، فهو نعر. والنعرة: داء يأخذ الإبل في رؤوسها، النعرات من أدنى العدد، وفي الكثرة، نعر. قال سيبويه: نعر من الجمع الذي لا يفارق واحده إلا بالهاء وأراه سمع من العرب النعر فحمله ذلك على أن تأول نعراً من الجمع الذي بيته وبين واحده الهاء. والنعرة والنعرة: الخيشوم. ونعر الرجل ينعر وينعر نعيراً ونعاراً: صاح وصوت بخيشومه. والنعير والنعار: الصياح في حرب أو شر. ورجل نعر: لا يستقر في مكان. والنعرة والنعر: ما أجنت حمر الوحش في أرحامها، قبل أن يتم خلقه. وقيل: إذا استحالت المضفة في الرحم، فهي نعرة. ونية نعور: بعيدة: واللبان: الصدر. ومعنى أصعقته صواهله: قتلته وصف فرساً. وأنشد أبو علي في الباب. (265) كأنها درةٌ منعَّمةٌ ... في نسوةٍ كن قلبها دررا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 هذا البيت للربيع بن ضبع الفزاري. الشاهد فيه قوله: "درر"، جمع درة، ونظيره برة وبر. والدر: اللؤلؤ العظيم. وقد تقدم. والشعر: أقفزَ من ميَّةَ الجريبُ إلى الزُّ ... جين إلا الظباء والبقرا كأنها درة منعمةٌ ..... البيت أصبح منّي الشبابُ مبتكرا ... إن ينأ عني فقد ثوى عصرا فارقنا قبلَ أنْ نُفَارقه ... لَمَّا قضي من جماعنا وطردا أصبت لا أحمل السلاحَ ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مرت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا هاأنذا آمل الحياة وقد ... أدرك سني ومولدي حجرا أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات طال ذا عمرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 وأنشد أبو علي في باب ما جاء من الأسماء المحذوفة، منها ما لا علامة فيه للتأنيث، ومنها ما فيه علامة له. (266) لحاكِ الله يا أستاهَ نيبٍ ... تنفر وهي حامضةُ رواءُ الشاهد فيه قوله: "أستاه"، رد اللاَّم المحذوفة، من الواحد في الجمع، وهي الهاء. والواحد: آست. والأصل ستة، "فعل"حذفت الهاء التي هي لام. ومن قال: سه: أصلها ستة، حذفت التاء التي هي العين. فإذا حقرت أو كسرت، رددت ما حذفت، فقلت في التحقير: ستيهة. وفي التكسير: أستاه، لأن التحقير والتكسير يردان الشيء إلى أصله. اللغة لحوت العود: قشرته، فمعنى لحاه الله: أي لعنه وأبعده والنيب: النوق المسان، وقد تقدم القول فيها. وتنفر: تفرق. ونفرت الدابة تنفر وتنفر نفاراً. وقال ابن الأعرابي: لا يقال نافرة. والحمض من البنات: كل نبات مالحٍ أو حامض. وحمضت الإبل تحمض حمضاً وحموضاً: أكلت الحمض. وأحمضها صاحبها. والحمض إذا أكلته الإبل سلحت. ورواء: جمع ريان ورياً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 المعنى هجا قوماً، فجعلهم في الدناءة، كأستاه النيب والنيب جمع ناب، وهي المسنة من الإبل، ومثله قول عنترة العبسي: تفاديتم أستاه نيبٍ تجمعتْ ... على رمةٍ من العظامِ تفاديَا ويروى: ألا تُوفُونَ يا أستاهَ نيبٍ وهي الرواية الصحيحة، وكذا أنشده يعقوبُ. وأنشد أبو علي في الباب. (267) فأمَّا واحاً فكفاك مثلي ... فمن ليدٍ تطاوحها الأيادي هذا البيت لرجل من بني عبد شمس، واسمه نقيع، وهو جاهلي قديم. الشاهد فيه قوله: "الأيادي" جمع يد، ويجمع أيضلً على"أيد" وتقديره، "أفعل" كأحق وأدل. وأجرى النعمة والجارحة سواء. وقال أبو عمرو الجرمي: سمعت أبا عبيدة يقول: سمعت أب عمرو يقول: إذا أرادوا المعروف، قالوا: له عندي أياد، فإذا أرادوا جمع اليد، قالوا: أيد. فذكرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 ذلك لأبي الخطاب الأخفش. فقال: ألم يسمع أبو عمرو قول عدي: ساءها ما تأملت في أيادي ... نا وأشناقها إلى الأعناق وروى أبو بكر بن السراج، عن أبي العباس، نحو هذا، وزاد قول أبي الخطاب: "إنها لقي علم الشيخ، يعني أبا عمرو ولكنه لم يحضره". وقد جمعوا أيضاً علي "يدي"، كما جمعوا كلباً على كليب، وأنشد أبو زيد: فلنْ أذكر النعمان إلا بصالحٍ ... فإن لهُ عندي يديّاً وأنعما قال أبو الفارسي: يد كلمة نادرة، ولا يعرف لها نظيراً، وذلك أن الفاء منه ياء، والعين دال، واللام أيضاً ياء، يدلك على ذلك قولهم: يديت إليه، فظهرت اللام الساقطة من "يد"في اشتقاق الفعل، كما ظهرت الواو المحذوفة، من "غد" في قوله تعالى: (وإذا غدوت من أهلك) . ومثال يد في الفعل "فعل"ساكنة العين، الدليل على ذلك أن الحركة زائدة ولا سبيل إلى الحكم بالزيادة، حتى تقوم عليها دلالة. فإن قيل: فهلا جعلت الدلالة على أن العين متحركة قول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 يديانِ بيضاوانِ عندَ محرَّقِ ... قدْ يمنايكَ أنْ تضَّامَ وتضهدا فحرك العين في التثنية: قيل: تحريك العين في التثنية، لا يدل على أن العين في الواحد أصلها الحركة، كما لم يدل في قول الشاعر: جرى الدَّميانِ بالخيرِ اليقينِ على أن أصل العين الحركة، وذلك أن اللام لما حذقت، فصارت العين حرف إعراب، وتعاقبت عليها حركاته، ثم ردت اللام، لم تسكن العين التي كانت جرت متحركة، إذ لو أسكنت كان الرد يصير كلا رد. ألا ترى أن الحركة قد كانت لزمته، فلو أسكنت من أجل رد اللام لصار الحرف بدلاً من الحركة، وبمنزلتها، فيصير كأنه لم يرد، وكان ذلك نقضاً للغرض الذي قصد من الرد. والحرف قد يقوم مقام الحركة في مواضع كثيرة. المعنى يقول: أنا أكفيك وحداً، وأما إذ كثرت الأيادي فلا أقدر عليها، ولا طاقة بها. ومعنى تطاوحها: تراميها. الإعراب نصب "واحداً" على المفعول الثاني "لكفى" والكاف: هو المفعول الأول، كما تقول: أما درهماً فأعطاك زيد، وليس نصبه على فعل مضمر. و"مثلي" فاعل"كفى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 وأنشد أبو علي في الباب. (268) فغظناهمُ حتى أتى لغيظ منهم ... قلوباً وأكباداً لهن ورئينا هذا البيت للأسود بن يعفر بن عبد الأسود بن جندل نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة. شاعر متقدم، من شعراء الجاهلية. الشاهد فيه قوله: "رئينا" جمع رئة، العضو المتنفس عن القلب. الإعراب هذه الزيادة التي في آخر في الجمع، عوض من لام الكلمة المحذوفة، وله نظائر: ثبون، وقلون، وعضون، وسنون، وعزون، ومنهم من لا يغير أول هذا النوع. والتغيير أقيس. وأنشد أبو علي في الباب. (269) نحن هبطنا بطن والغينا ... والخيل تعدو عصباً ثبينا الشاهد فيه قوله: "ثبينا"جمع ثبة، وهي الجماعة. ويجمع أيضاً ثبات. وقال أبو عبيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 في تفسير "ثبات": جماعات في تفرقة، وفي القرآن: (فانفروا ثبات أو أنفروا جميعاً) اللغة البطن: ما انخفض من الأرض، وجمعه القلة: أبطنة، وهو نادر. والكثير: بطنان. والبطنان وأيضاً: مسائل الماء. والغين: موضع بعينه. وتعدو: تسرع، والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال ما بين العشرة إلى الأربعين. وكل جماعة رجال أو خيل بفرسانها، أو جماعة طير وغيرها عصبة وعصابة. وبعدهما: بفاقراتٍ تحت فاقرينا نقارع السنينِ عن بنينا الغمراتِ ثم تنجلينا وأنشد أبو علي في الباب. (270) أرى ابن قد جفاني وملني ... على هنوات شأنها متتابع الشاهد فيه قوله: "هنوات" جمع "هنة"، فرد في الجمع المحذوف من الواحد، وهي "الواو" التي هي لام الكلمة من "هنة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 اللغة الهنوات: الخلال من الشر. ويروى: "متتابع" بالباء، و"متتابع" بالياء، والتتابع في الشر أخص، وهو كالتتابع في الخير. وقيل: التتابع في الشر، وعلى الشيء: التهافت فيه، والمتابعة عليه، والإسراع إليه. وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: "ما يحملكم على أن تتايعوا في الكذب، كما يتتابع الفراش في النار". ومنه قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن عليا أراد أمرأ، فتتايعت عليه الأمور" يعني في أمر يوم الجمل. وقال الآخر: وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتايعت جدبا ويروى: "تتابعت" بالباء وقال عنترة: وتتابع الرجل: رمى بنفسه في الأرض سريعاً. وتتايع الحيران: رمى بنفسه في الأمور من غير تثبيت. وتتابع الجمل في مشيه: إذا حرك ألواحه حتى تكاد تنفك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 والتيع: ما يسيل على وجه الأرض، من جمد ذائب، ونحوه: وشيء تائع: مائع، وتاع الماء يتيع تيعاً وتوعاً. الأخير نادرة. وتتيع أيضاً: كلاهما انبسط على وجه الأرض، وأتاع الرجل: قاء، قال القطامي: فظلَّت تعيط الأيدي كلوماً ... تمجُّ عروقها علقاً متاعا وتاع السنبل: يبس وبعضه وبعضه رطب. وأنشد أبو علي في الباب. (271) وقالت لي النفس أشعب الصدع واهتبل ... لإحدى الهنات المعضلات اهتبالها هذا البيت للكميت بن زيد الأسدي الشاهد فيه قوله: "الهنات"، جمع "هنة" ولم يرد الواو المحذوفة من"هنة" مراعاةً للفظ. اللغة الهنات: الخلال من الشر وقوله: "أشعب" أجمع وأصلح، ويكون بمعنى: فرق وأفسد، وهو من الأضداد، يقال: شعبه يشعبه شعباً، فانشعب، فانشعب، وشعبه فتعشب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 والصداع: الشق في الشيء الصلب، كالزجاجة والحائط، وغيرها، وجمعها صدوع. قال قيس بن ذريح: أيا كبداً طارتْ صدوعاً نوافذاً ... ويا حسرتا ماذا تغلغل للقلبِ ذهب فيه إلى أن كل جزء منها صار صدعاً. وأعضله الأمر: غلبه. وداء مضل وعضال: لا يبرأ، قالت ليلى: شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلامٌ إذ هزَّ القناة رماها ويعضل الداء الأطباء، وأعضلهم: غلبهم. وحلفة عضلة: شديدة غير ذات مثنوية، قال: إنيَّ حلفت حلفة عضالا وقال ابن الأعرابي: عضال هنا: داهية عجيبة، أي: إني حلفت يميناً داهية شديدة. وأنشد أبو علي في الباب. (272) يرى الرَّؤوان بالشفرات منا ... كنار أبي حباحب والظبينا هذا البيت للكميت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 الشاهد فيه قوله: "والظبينا" جمع "ظبة" والمشهور ظبات. قال أبو علي: ولعل سيبويه، جعل هذا مما جاء في الشعر دون غيره، للضرورة كما يمكن أن يتأول ذلك في "أجراح". اللغة الشفرات: جمع شفرة، ويجمع أيضاً على شفارٍ، وقال أبو حنيفة: شفرنا النصل: جانباه. وحبحبة النار: أتقادها، ونار الحباحب: ما اقتدح من شرار النار في الهواء، بتصادم حجرين. ويقال: هو ذباب يظهر بالليل، له شعاع كالسراج قال النابغة: وتوقد بالصُّفاح نار الحُباحبِ وقيل، أبو حباحب: رجل من محارب خصفة، وكان بخيلاً، فكان لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخت، لئلا ترى فيقصد. قال أبو حنيفة: نار حباحب وأبي حباحب: الشرر التي تسقط من الزناد، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 النابغة: ألا إنما نيرانُ قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثلنار الحباحب وقال أبو حنيفة: "لا يعرف حباحب ولا أبو حباحب، ولم نسمع فيه عن العرب شيئاً. ويزعم قوم أنه اليراع، فراشة إذا طارت في الليل. لم يشك من لم يعرفها، أنها شررة طارت عن نار". وأم حباحب: دويبة مثل الجندت، تطير، صفراء خضراء رقطاءُ برقط صغرة وخضرة. ويقولون لها، إذا رأوها: أخرجي بردي أبي حباحب، فتنشر جناحيها، وهما مزينان بأحمر وأصفر. المعنى وصف سيوفاً، يقول: يرى الراؤون النار تطير من شفراتها، وظباتها من شدة الضرب بها، كأنه نار أبي حباحب، ومثله قول بشار: كأن مثار النفع فوق رؤوسهم ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه الإعراب ترك الكميت صرف حباحب، لأنه جعله اسماً لمؤنث، ويجوز أن يكون، ترك صرفه ضرورة، كما قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 فما كان حصن ولا حابسٌ ... يفوقان مرداس في مجمعِ وقال: فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي ... عمرو فتنجح حاجتي أو تتلف وهذا رأي الكوفيين. وأما"ظبة" فيجمع: ظبات وظبون وظباً، واللام منها واو، بدليل ضم أولها، مع أن ما حذف منه لامه، وهي واو، أكثر مما حذقت لامه، وهي ياء، نحو أب أخٍ وغدٍ. ولا يجوز أن يكون المحذوف منها فاءً عيناً. وأما امتناع الفاء، فلأنها لم يطرد حذفها، إلا في مصادر بنات الواو، نحو عدة وزنه وجدة، ونحوه، وليست"ظبة" من هذا، وتلك المصادر أوائلها مكسورة. ولا تكون محذوفة العين، لأن ذلك لم يأت إلا في سه ومذ، وهما حرفان نادران. وأنشد أبو علي في الباب. (273) لا خمسَ إلاَّ جندالُ الإحرين ... والخمسُ قد يجشمكَ الأمرين الشاهد فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 قوله: "الإحرين" جمع حرة، فغير بإلحاق الهمزة، والكلمة صحيحة لم يلحقها حذف، ووجه ذلك أن "حرة"، لما كانت مضاعفة، والمضاعف قد يعتل، بالبدل والتخفيف في القوافي، فلما كان معرضاً للاعتدال، غير، وجمع بالواو والنون، والياء والنون، كما قالوا: امرؤ، فألحقوه همزة الوصل من حيث أدخلوها في "ابن"، لما كانت الهمزة معرضة للاعتدال، بالحذف وبالإبدال، ومن قال: مرء، راعى صحة الكلمة واستغنى ألف الوصل. ويجمع أيضاً على حرون وعلى حرار. المعنى هذا الشاعر سمع بأن رجلاً يعطي الوافد عليه خمس مئة، أو خمسة آلاف فقصده ووفد عليه، فضرب وصفح. فقال: الذي قام مقام الخمس مئة، أو خمسة آلاف، الضرب بجندل الإحرين. هذا على رواية من روى "خمس" بفتح الخاء. ومن روى "خمس" بكسر الخاء، فمعناه: الذي يقوم مقام الخمس، وهو الورد لخمسة أيام، الضرب بجندل الإحرين. ويجشمك: يكلفك، ويروى "يجشمنك" والصحيح أجشمك. والأمرين: الشر والأمر العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 وبعده: سيراً إلى البصرة من قنسرين ويروى أن معاوية بن أبي سفيان زاد أصحابه يوم صفين خمس مئة، خمس مئة، لمن أحسن الغناء، على عطائه المرتب له، فلما لقوا علياً رضوان الله عليه في أصحابه من المهاجرين والأنصار، وحصلوا مجدلين على تلك الحرار، قال أصحابُ علي: لا خمس إلا جندلُ الإِحرَّين أرادوا: "لا خمس مئة". حكاه الهروي. وأنشد أبو علي في الباب. (274) تلففه الأرواح السميُّ هو للعجاج. الشاهد فيه جمع"سماء" على "سمي"، ووزنه"فعول"، قلبت واوه ياء، وأدغمت في الياء بعدها، وكسر ما قبلها، لتثبت ياء بعد الكسرة، ونظيره من السالم عناق وعنوق وهو جمع غريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 وأراد بالسماء هاهنا: المطر، لا السماء التي تظلُّ الأرض، وقيل: أراد السحاب. والأرواح: جمع ريح، ويجمع أيضاً على رياح، قال: ولقد رأيتك بالقوادم مرةَّ ... وعليَّ من سدف العشي رياح وقياسها: "رواح"، لأنها من الروح. وقالوا في فلان أريحية، وقياسها: أروحية وحكي عن عمارة، أنه كسر"ريحاً" على"أرياح"، حتى نبه عليه، فعاد فقال: "أوراح". وأنشد أبو علي في الباب. (275) كنهور كان من أعقاب السمي هذا الشاعر، أبو نخيلة السعدي. الشاهد فيه جمع سماء على سمي، كما تقدم في الشاهد قبله. اللغة الكنهور: السحاب المتراكم بعضه على بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 والأعقاب: جمع عقب، وهو آخر الشيء، يريد أنه سحاب ثقيل بالماء، فأتى آخر السحاب، لثقله. وأنشد أبو علي في باب تكسير، ما كان على أربعة أحرف، ثالثة حرف مد لغير الإلحاق. (276) من فوقه أنسر سودٌ وأغربة ... وتحته أعنز كلف وأتياس هذا البيت، لمالك بن خويلد الخناعي، ثم الهذلي، وقيل لأبي ذؤيبٍ الهذلي. الشاهد فيه قوله: " أغربة" جمع غراب، ونظيره بغاث وأبغثة ويجمع أيضاً: غربان، قال ذو الرمة: تقوب عن غربان أوراكها الخطر ويجمع أيضاً على غرابين، قال الشاعر: ستشربُ كأساً مرةً تترك الفتى ... تليلاً لفيه للغرابين والرخم ونظيره عقابين، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 عقابين يوم الدجن تعلو وتسفل وقبله: يا ميُّ لا يعجز الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآسُ في رأس شاهقةٍ أنبوبها خصر ... دون السماءِ لها في الجو قرناس وأنشد أبو علي في الباب. (277) تستن أعداء قربان تسنمها ... غر الغمام ومرتجاته السود هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "قريان"، وهو جمع قريٌ. والقري: مسيل الماء إلى الروضة، ويجمع أيضاً أقرية، ونظيره سري وأسريةٌ وسريان، والسري: النهر. اللغة يستن: يتبع. وأعداء الطرق: نواحيه، ويقال: خذ عديَّ الطريق. وتسمها: علاها، أي علا القربان، وغر السحاب: بيض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 وقلبه: تربعتْ جانبي رهبي فمعقلة ... حتى ترفض في الآل القراديد يستن أعداء قربان ...... البيت حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد وأنشد أبو علي في الباب. (278) فارحم أصيبيتي الذين كأنهم ... حجلى تدرج في الشربة وقع هذا البيت لعبد الله بن الحجاج الثعلبي. الشاهد فيه قوله: "أصيبيتي" تصغير أصبية، وأصبية جمع صبي، والمعروف صبي وصبية، وإنما جاء أصيبية في الشعر. وقد تقدم هذا البيت، بما فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 وأنشد أبو علي في باب ما كان من هذه الأسماء على أربعة أحرف، مؤنثاً ولم تلحقه علامة لتأنيث. (279) يصور عنوقها أحوى زنيم ... له ظأب كما صخب الغريم هذا البيت، لجمال بن سلمة العبديّ كذا ذكر أبو عبيدة، معمر بن المثنى، في كتاب"المثالب". ونسبه أبو عبيد البكري، للملعى العبدي، ونسبه ابن سيدة، في كتابه "المحكم" لأوس بن حجر. وصواب إنشاده: وجاءت خلعةٌ دبسٌ صفايا ... يصور عنوقها أحوى زنيم يفرقُ بينها صدعٌ ثنيَّ ... بتحجيلٍ ورابعةٌ بهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 وأبو علي وهم في البيت، فركب عجز بيته، على صدر آخر. الشاهد فيه قوله: "عنوق"، جمع عناق، وهو من الجمع الكثير، وفي أدنى العدد "أعنق" ويجمع أيضاً على "عنق". وأما تكسيرهم له على"أفعل" فهو الغالب على هذا البناء من المؤنث، وأما تكسيرهم له على "فعول" فلتكسيرهم إياه على "أفعل" إذ كانا يعقبان على باب "فعل". وفي المثل "العنوق بعد النوق" يضرب للذي يكون على حالة حسنة، ثم يركب القبيح من الأمر، ويدعُ حاله الأولى، وينحط من علو إلى سفل، وأنشد ابن السكيت: أبوك الذي يكوي أنوف عنوقه ... بأظفاره حتَّى أنسَّ وأمحقا وأنشد ابن الأعرابي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 لا أذبح النازي الشَّبُوتَ ولا ... أسلخُ يومَ المقامة العنقا لا آكل الغثَّ في الشتاء ولا ... أنصح ثوبي إذا هو انخرقا اللغة العناق: الأنثى من المعز، أنشد ابن الأعرابي: حسبتُ بغامَ راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناقِ ومعنى يصور: يبيل ويضم، قال الله تعالى: (فصرهن إليك) ، قال: غلامٍ رأيته صار كلباً ... ثم في ساعتين صار غزالاً ويروى "يصوع عنوقها" ومعناه يفرق يقال: صاع الغنم ويصوعها صوعاً: فرقها. ابن دريد: "صعت الشيء أصوعه، إذا ثنيته ولويته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 قال الخليل: صاع الشجاع أقرانه: وصاع الراعي ماشيته يصوع. جاءهم من نواحيهم. وصاع القوم: حمل بعضهم على بعض، عن اللحياني. وصاع الشيء صوعاً: ثناه ولواه، وانصاع القوم: ذهبوا سراعاً. والظأب: الكلام والجلبة، يقال: سمعت ظأب تيس بني فلان. وظأم، بالهمز فيهما، وهو صياحه عند هياجه. وقال أبو العباس، أحمد بن يحيى، ثعلب: ظاب التيس، وظامه، ولا يهمزان. وقال أبو علي البغدادي: رويناه في "الغريب المصنف"، غير مهموز. وقيل: الظتء: صوت التيس، وينشد هذا البيت. ظاء، وظأب الرجل بالهمز: سلفه، يقال: قد تظاءما وتظاءبا، إذا تزوجا أختين. والصخب: الصياح، والأحوى: الأسود. والزنيم: التيس ذو الزنمة، وهي الزيادة التي تكون في عنقه. وصف تيساً. وأنشد أبو علي في الباب. (280) تلفُّهُ الأرواحُ والسُّميُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 هذا الرجز للعجاج. الشاهد فيه قوله: "السمي"، جمع سماء الذي هو المطر. فأما المظلة، فلا تجمع إلا "سماوات" بالألف والتاء، استغنوا عن تكسيرها، بالألف والتاء. وقد تقدم هذا الشاهد والكلام عليه. وأنشد أبو علي في الباب. (281) وبالزُّرقِ أطلالٌ لميَّةَ أقفرتْ ... ثلاثةَ أحوالٍ تراحُ وتمطرُ هذا البيت، لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "تراح وتمطر"، أي: تمر عليها الريح، وينزل بها المطر، فهو مثل قول العجاج: تلفُّهُ الأرواحُ والسُّميُّ اللغة الزرق: أكثبه بالدهناء. والأطلال: آثار الديار. وأراد: ثلاثة أعوام، يصيبها الريح والمطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وأنشد أبو علي في الباب. (282) وكأنَّ حيَّاً قبله لم يشربوا ... منها بأقلبةٍ أجنَّ زعاقِ أنشد أبو زيد هذا البيت، لجبار بن سلمى. الشاهد فيه قوله: "أقبله"، جمع قليب، والقليب: البئر، سيذكر ويؤنث، فيجوز أن تكون "أقلبة"، جمعاً على رأي من أنث، كأسمية. ويجوز أن تكون، على رأي من ذكر، كرغيف وأرغفة. وقوله: "أجن" فعل، وفيه ضمير راجع على الأقلبة، في موضع الصفة ومعناه: تغيرن. والآجن: الماء المتغير. والزعاق: الماء المر، الذي لا يطاق شربه، الواحد والجميع فيه سواء، وأزعق الرجل: أنبط ماء زعاقاً. وبئر زعقة: مرة. وطعام زعاق: كثير الملح، وزعق القدر يزعقها زعقاً، وأزعقها: أكثر ملحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 أنشد أبو علي في باب ما كان آخره ألف التأنيث، أو الهمزة المنقلبة عنها. (283) تربَّعنَ من وهبينَ أو من سويقةٍ ... مشقَّ السَّوابي عن رؤوس الجآذرِ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه جمعه "سابياء" على "السوابي". ويروى موضع "تربعن" تحلون. ويروى "عن أنوف". اللغة السابياء: هي الجلدة التي تنشق عن رأس المولود، وهي من الناقة: الحولاء والسابياء أيضاً: المال الكثير. ووهبين وسويقة: موضعان. ومشق: موضع الشق عن رؤوس أولاد البقر، وهي الجآذر. وبعده: أعاريبُ طوريونَ في كلِّ بلدةٍ ... يحيدون عنها من حدازِ المقادرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 وأنشد أبو علي في باب، ما جاء جمعه على غير بناء واحده المستعمل. (284) منَ آلِ أبي موسى ترى الناسَ حوله ... كأنَّهمُ الكروانُ أبصرنَ بازيا هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "الكروان" جمع كروان، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله، ولكنه على حذف الزيادة، كأنه جمع "فعلاً"، فراعى حذف الألف والنون، لأنهما زائدان، فبقي "كرو" فقلبت واوه ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها طرفاً، فصارت "كرا" ثم كسرا "كرا" على "كروان"، كشبث وشيبثان، وخرب وخربان، وورل وورلان، وبرق وبرقان، وأخ وإخوان. وعليه قولهم: "أطرق كرا إن النعام بالقرى"، إنما هو ترخيم "كروان" على قوله: يا حار. فالواو الآن في "كروان" إنما هي بدل من ألف "كرا" المبدلة من واو "كروان"، ومثله قوله تعالى: (حتَّى إذا أبلغ أشدَّهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 هو عند سيبويه على تكسير "شدة"، على حذف زائدته، وذلك أنه لما حذف التاء، بقي الاسم على "شد"، ثم كسر على "أشد"، فصار كذئب وأذؤب، وقطع وأقطع. ونظير شدة وأشد، قولهم: نعمة وأنعم. وقال أبو عبيدة: هو جمع "أشد" على حذف الزيادة، قال: وربما استكرهوا على ذلك في الشعر، قال عنترة: عهدي بها شدَّ النَّهارِ كأنَّما ... خصبَ اللَّبانُ ورأسه بالعظلمِ ألا تراه لما حذف همزة "أشد" بقي معه "شد" كما ترى، فكسره على "أشد"، فصار كضب وأضب، وصك وأصك، وله نظائر. المعنى مدح بهذا الشعر بلال بن أبي بردة، وكان أمير البصرة وقاضيها وفيه يقول رؤبة: وأنت يا ابنَ القاضيينَ قاضي الإعراب قوله: "من آل أبي موسى ترى القوم"، ولم يقل "ترين" وكانت المخاطبة أولاً للمرأة، ألا تراه يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 تقولُ عجوزٌ مدرجي متروِّحا ... على بيتها من عند أهلي وغاديا أذو زوجةٌ في المصر أم ذو خصومةٍ ... أراك لها بالبصرةِ العامَ ثاويا فقلتُ لها لا إنَّ أهلي لجيرةٌ ... لأكثبة الدَّهنا جميعاً ومالياً وما كنتُ مذْ أبصرتني في خصومةٍ ... أراجعُ فيها يا ابنةَ الخير قاضيا ثم حول المخاطبة إلى رجل، فقال: "من آل أبي موسى". والعرب تفعل ذلك كثيراً، قال الله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم، بريح طيبة) . فكأن الخطاب والله أعلم كان للناس، ثم حولت المخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عنترة: شطتْ مزارُ العاشقينَ فأصبحتْ ... عسراً على طلابكِ ابنةَ مخرمِ وقال جرير: ما للمنازلِ لا تجيبُ حزيناً ... أصممنَ أمْ قدمَ الهوى فبلينا وترى العواذلَ يبتدرونَ ملامتي ... وإذا أردنَ سوى هواكِ عصينا قال أولاً لرجل: "وترى العواذل"، ثم قال: "سوى هواك". حكاية روي أن بلالاً وفد على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فسدك بسارية من المسجد، فجعل يصلي إليها، ويديم الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 فقال عمر بن عبد العزيز للعلاء بن المغيرة بن البندار: إن يكن سرُّ هذا كعلانيته، فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: قد عرفت حالي عند أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق، فما تجعل لي؟. قال: عمالتي سنة، وكان مبلغها عشرين ألف ألف. قال: فاكتب لي بذلك. قال: فأرقد بلال إلى منزله، فأتى بدواة وصحيفة، فكتب له. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان والي الكوفة: "أما بعد، فإن بلالاً غرنا بالله فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدناه خبثاً كله". ويروى أنه كتب إلى عبد الحميد، "إذا ورد عليك كتابي هذا فلا تستعن على عملك بأحد من آل أبي موسى". وكان بلال داهية لقناً أديباً، ويقال: إن ذا الرمة لما أنشده: سمعتُ: الناسُ ينتجعونَ غيثاً ... فقلتُ لصيدحَ انتجعي بلالاً تناخيْ عندَ خيرِ فتىً يمانٍ ... إذا النَّكباءُ ناوحتِ الشِّمالا فلما سمع قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 فقلتُ لصيدحَ انتجعي بلالا قال: يا غلامُ، مر لها بقت ونوى، أراد ذا الرمة لا يحسن المدح. وبعد البيت: مرمِّينَ منْ ليثٍ عليه مهابةٌ ... تفادى الأسودُ الغلبُ منه تفاديا فما يفربونَ الضَّحكَ إلاّ تنبسُّماً ... ولا ينبسونَ القولَ إلاَّ تناجيا وأنشد أبو علي في باب جمع الجمع. (285) أعاريبُ طوريونَ من كلِّ بلدةٍ ... يحيدونَ عنها من حذارِ المقادرِ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه جمع أعراب على "أعاريب". اللغة طوريون: غرباء، بهذا فسر في "ديوان شعر ذي الرمة". وهذا النسب غريب، ويروى "طربيون". يقول: إنهم ليسوا بأصحاب قرى، فهم مستوحشون، يحيدون من حذار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 الأمراض والموت، يقولون: إذا نزلنا القرى مرضنا، ومثله قول الشاعر: يقولونَ إنَّ الشامَ يعتلُّ أهلهُ ... فمنْ لي إذا آتِه بخلودِ ومثله قول الغنوي: وخبرتماني إنَّما الموتُ بالقرى ... فكيفَ وهاتا هضبةٌ وقليبٌ وأنشد أبو علي في الباب. (286) وقرَّبنَ بالزُّرقِ الجمائلَ بعدما ... تقوَّبَ عن غربانِ أوراكها الخطرُ هذا البيت لذي الرمة. الشاهد فيه قوله: "الجمائل" جمع جمال، وجمال جمع جمل، ونظيره نعم وأنعام وأناعيم، وله نظائر. اللغة الزرق: موضع بعينه. وتقوب جلد البعير: إذا رمى فيه القوباء. والغربان: رؤوس الأوراك، واحدها غراب. والخطر: هو أن يخطر البعير بذنبه، فيصير على عجزه لبد من أبواله وبعره، والخطر هنا: مصدر، والعرب تفعل هذا كثيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 وتقوب: تقشر، وإنما تقوب غراباه، لأنه يأكل الرطب فيسلح على ذنبه، ثم يخطر به، فيضرب بين وركيه، فإذا أصابه الصيف، وضربه الحر، انسلخ الشعر عن موضع خطره بذنبه. وقبله. فلمَّا مضى تنوءُ الزُّبانى وأخلفتْ ... هوادٍ من الجوزاءِ وانغمسَ الغفرُ وأنشد أبو علي في الباب. (287) هل من حلومٍ لأقوامٍ فتنذرهم ... ما جرَّبَ الناسُ من عضِّي وتضريسي هذا البيت لجرير. الشاهد فيه قوله: "الحلوم"، جمع حلم، وهو مصدر، وليس كل مصدر يجمع، كما لا يجمع كل جنس. وقد تقدم هذا البيت وصلته. وأنشد أبو علي، في باب ما جعل الاثنان فيه بلفظ الجمع. (288) ظهراهما مثل ظهورِ التُّرسينْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 هذا الشطر لهميان. الشاهد فيه قوله: "ظهور الترسين" وقد قدم "ظهراهما"، فجمع بين اللغتين. وقد مر هذا البيت، وصلته فأغنى عن إعادته. وأنشد أبو علي في الباب. (289) لأصبحَ القومُ أوباداً ولمْ يجدوا ... عندَ التَّفرُّقِ في الهيجا جمالينِ هذا البيت لعمرو بن العداء الكلبي. الشاهد فيه قوله: "جمالين" ثنى الجميع الذي هو "جمال". وقد جاءت منه ألفاظ يسيرة قالوا: إبل وإبلان، ورماح ورماحان قال الشاعر: تبقَّلتْ في أول التَّبقُّلِ ... بين رماحيْ مالك ونهشلِ ووجه ذلك، أنه أنزله منزلة القطيعين والنوعين والجنسين، وما أشبه ذلك، مما يصور لك معنى التثنية فيه، لأنه لا يجوز تثنية المجموع غالباً، لأنه نقض الغرض، لأن الجمع يفيد التكثير، والتثنبة تفيد التقليل، فليس ذلك مثل جمع الجمع؛ لأن من جمع الجمع فائدة التكثير والمبالغة. اللغة أوباد: جمع وبد، وهو الفقر والبؤس، ويقال: وبدت حاله، إذا ساءت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 وهذا الشاعر، يشكو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، وكان ولاه معاوية على صدقات كلب، فاعتدى عليهم. وقبله: سعى عقالاً فلمْ يتركْ لنا سبداً ... فكيفَ لوْ قدْ سعى عمرو عقالينِ والعقال هنا: زكاة العام من الغنم والإبل. قال أبو العباس، محمد بن يزيد المبرد: "إذا أخذ المصدق ما يجب في الصدقة قيل: أخذ عقالاً، وإن أخذ ثمنها، قيل: أخذ نقداً". والعقال أيضاً: القلوص الفتية، والعقال أيضاً: الرباط الذي يعقل به، وجمعه عقل. وأنشد أبو علي في الباب. (290) هما إبلانِ فيهما ما علمتمُ ... فعنْ أيِّها ما شئتمُ فتنكَّبوا هذا البيت، أنشده أبو زيدج، لشعبه بن قمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 الشاهد فيه قوله: "إبلان" ثنى الجمع، وهو كالذي قبله، والكلام فيهما سواء. وقبل البيت: وجمعٌ كرامٌ لم يمرِّن سراتهم ... حما الذُّلِّ لا نكلٌ ولا متأشِّبُ وأنشد أبو علي في باب ما يقع من أبنية الأسماء المفردة على الجميع كقوم وذود، إلا أنه من لفظ واحد. (291) وأينَ ركيبٌ واضعونَ رحالهم ... إلى أهل نارٍ من أناسٍ بأسودا هذا البيت، لعبد قيس بن خفاف البرجمي. الشاهد فيه قوله: "ركيب" تصغير "ركب" والركب اسم للجمع، وليس بتكسير "راكب"، يدل على ذلك تصغيره، لو كان تكسير "راكب" لقيل: "رويكبون"، فكنت تقلب ألف "راكب" واواً، وتجمعه بالواو والنون. وأسود: موضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 وأنشد أبو علي في الباب. (292) بنيتهُ بعصبةٍ من ماليا أخشى ركيباً أو رجيلاً غاديا هذا الرجز لأحيحة بن الجلاح. الشاهد فيه كالشاهد في الذي قبله. والقول في "رجيل" كالقول في "ركيب". وعصبة من ماله: قطعة منه. وأنشد أبو علي في الباب. (293) وجاملٍ خوَّعَ من نيبهِ ... زجرُ المعلَّى أصلاً والسَّفيحْ هذا البيت لطرفة بن العبد البكري. الشاهد فيه "وجامل"، هو اسم للجمع، وهو مذكر، ولو كان مكسراً أنث، ومثله "الباقر" اسماً للجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 اللغة خوع: يقال خوع ماله، وخوعه هو، وخوع منه، والهاء في "نيبه" ترجع على الجامل أي: نقص من النيب التي فيه. ويروى: "من نبته" يريد: وهو زجر المعلى، يعني ما ينحر في الميسر منها. والمعلى: القدح السابع في الميسر، وهو أفضلها، إذا فاز حاز سبعة أنصباء من الجزور. وقال اللحياني: وله فروض، وله غنم سبعة أنصباء إن فاز. وعليه غرم سبعة أنصباء إن لم يفز. والسفيح: من سهام الميسر، وله نصيب. وسهام الميسر عشرة: منها سبعة لها أنصباء، وهي الفذ، والتوءم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى. والثلاثة التي لا أنصباء لها: المنيح، والسفيح، والوغد. ويقال: إن المنيح سهم متعارف بالفوز، وقال عروة بن الورد العبسي: مطلاًّ على أعدائهِ يزجرونه ... بساحتهم زجرَ المنيحِ المشهَّرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 وأنشد أبو علي في باب تكسير الصفة للجمع. (294) قالت سليمى لا أحبُّ الجعدين ... ولا السِّباطَ إنَّهم مناتين الشاهد فيه جمع جعد، مسلماً، وإن لم يكن اسماً علماً، لأنه من صفات من يعقل، وما كان كذلك لم يمتنع من الواو والنون، كما لا يمتنع منه الاسم العلم. والجعد: مما بني على "فعل" في الصفات، ومؤنثة جعدة بالهاء، ولا يقال: أجعد ولا جعداء، ونظيره فرس ورد، والأنثى وردة، وله نظائر. اللغة الجعد من الشعر خلاف السبط، وقيل: هو القصير، عن "كراع". وتصريف الفعل منه: جعد جعودة وجعادة، وتجعد وجعد صاحبه، ورجل جعد الشعر، وامرأة جعدة، وجمعها: جعاد أيضاً، قال معقل بن خويلد: وسودٍ جعادٍ غلاظِ الرِّقا ... بِ مثلهمُ يرهبُ الراهبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 عنى من أسرت هذيلٌ من الحبشة، أصحاب الفيل. وجمع السلامة فيه أكثر. وتراب جعد: ند، وجعد الثرى وتجعد: تقبض. وزبد جعد: متراكب، وذلك إذا صار بعضه فوق بعض، على خطم البعير أو الناقة، قال ذو الرمة: تنجو إذا جعلتْ تدمى أخشَّتها ... واعتمَّ بالزبدِ الجعدِ الخراطيمُ وبهمى جعدة، وصليان جعد. والجعدة: نبت على شاطئ الأنهار. ورجل جعد اليدين: بخيل. ورجل جعد الأصابع: قصيرها. ورجل جعدة قصيرة من لؤمها، قال العجاج: لا عاجزَ الهوءِ ولا جعدَ القدمْ وخد جعد: غير أسيل، وبعير جعد: كثير الوبر. وقد كني بأبي الجعد. والذئب يكنى أبا جعدة وأبا جعادة. وبنو جعدة: حي من قيس، ومنهم النابغة الجعدي. الإعراب ألحق "الياء" في "مناتين" ضرورة، تشبيهاً بما جمع على غير واحده، نحو: مذاكير وملاقيح وشبه ذلك. وبعده: يا ربَّ جعدٍ فيهم لو تدرينْ ... يضربُ ضربَ السَّبط المقاديمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 أراد: بالمقاديم هنا: الرؤوس، لأنها مقاديم الحيوان، وهي في موضع نصب، "بيضرب" لا "بضرب"، كأنه قال: يضرب المقاديم ضرب السبط، فقدم وأخر. ولك في "المقاديم" وجهان، إن جعلتها جمع "المقدم" الساكن القاف، الخفيف الدال، فتكون "الياء" زائدة، لإشباع الكسرة، كالتي في قوله: "تنقاد الصياريف". وإن شئت جعلتها جمع "المقدم"، بتشديد الدال، وفتح القاف، فتكون "الياء" عوضاً من إحدى الدالين الساقطة في التكسير. وأنشد أبو علي في الباب. (295) تناهقونَ إذا اخضرَّتْ نعالكمُ ... وفي الحفيظةِ أبرامٌ مضاجيرُ هذا البيت، لأوس بن حجر. الشاهد فيه قوله: "أبرام" وهو جمع "برم"، لأن ما كان على "فعل" صفة، فبابه "فعال" نحو: حسن وحسان، وسبط وسباط، وقطط وقطاط. "فأبرام" مما يدل أنه يجيء على "أفعال"، ومثله بطل وأبطال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 اللغة البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. والبرم: في غير هذا البيت: ثمر الأراك. والبرم: مصدر برمت بهذا الأمر برماً. والنعال هنا: جمع نعل، وهي قطعة من الأرض الغليظة الصلبة، شبه الأكمة يبرق حصاها، ولا تنبت شيئاً، وقيل: هي قطعة تسيل من الحرة مؤنثة قال: فدىً لامرئ والنَّعلُ بيني وبينه ... شفى غيمَ نفسي من رؤوسِ الحواثرِ وفي الحديث: "إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال". والنعل أيضاً والنعلة: ما وقيت به القدم من الأرض، مؤنثة ونعل الدابة: ما وقى به حافرها. ونعل السيف: حديدة في أسفل غمده، مؤنثة أيضاً قال: إلى ملكٍ لا تنصفُ السَّاقَ نعله ... أجلَ لا وإنْ كانت طويلاً حمائله والنعل: العقب الذي يلبسه ظهر السيه، والنعل: الرجل الذليل يوطأ كما توطأ الأرض. وإذا اخضرت النعال، وهو ما صلب من الأرض، فما ظنك بالدماث؟ المعنى يقول إذا أخصبوا وشبعوا، يتناهقون كما تفعل الحمر، وعند الحفيظة وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 الغضب، أو المحافظة على منع الحريم أبرام، لا يدخلون في الميسر، وكنى بالميسر عن الحرب ومضاجير: جمع مضجير أو مضجار: وهو الكثير الضجر. ومثل هذا البيت قول الآخر: إذا اخضرَّتْ نعالُ بني غرابٍ ... (بغوا) ووجدتهم أشرى لئاما وقال آخر: قومُ إذا اخضرَّتْ نعالهم ... يتناهقون تناهقَ الحمرِ لأنهم إذا شبعوا، اشروا وبطروا، وهاجت ضغانهم، وطلبوا الطوائل والتراث، في أعدائهم، أنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: لو وصل الغيثُ أبنينا امرأً ... كانت له قبَّةُ سحقَ بجادِ يقول: لو اتصل الغيث، وأخصبنا، لأغرنا على الملك، فنأخذ متاعه وقبته، حتى نحوجه إلى قبة من كساء. قال أبو عمرو: إنما يغيرون في الخصب، لا في الجدب، قال: ومثله: قد كنتُ تأمنني والجدبُ دونكمُ ... فكيفَ أنتَ إذا رقشُ الجرادِ نزا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 ومثله: يا ابن هشامٍ اهلكَ الناسَ اللَّبنْ ... فكلُّهم يسعى بقوسٍ وقرنَ يقول: لما كثر الخصب، سعى بعضهم إلى بعض في السلاح. وقال آخر: قومٌ إذا نبتَ الربيعُ لهمْ ... نبتتْ عداوتهم معَ البقلِ وقال آخر: وقد جعلَ الوسميُّ ينبتُ بيننا ... وبينَ بني رومانَ نبعاً وشوحطاً وقال آخر: وفي البقلِ إنْ لمْ يدفعِ اللهُ شرَّهُ ... شياطينُ ينزو بعضهنَّ إلى بعضِ ومن أبيات المعاني في هذا الباب قول الشاعر: جلبتْ غديرةُ قوشةَ ابنةِ مخرمِ ... بطراً أشلَّ أبا الحبابِ عشيرها والعبدُ ينزو حينَ يربو بطنه ... حتَّى يمجَّ ذراع كفٍّ ريرها الغديرة: ضرب من أطعمة العرب، يقول: طعام هذه المرأة أبطر عشيرها، أبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 الحباب، لما شبع وربا بطنه بغى، فقطعت يده، ومجت ذراعه ريرها، وهو المخ الرقيق، كنى به عن الدم، ويقال: رِير، ورَير. وأنشد أبو علي في الباب. (296) لقد علمَ الأيقاظُ أخفيةَ الكرى ... تزجُّجها من حالكٍ واكتحالها هذا البيت، للكميت بن زيد الأسدي. الشاهد فيه قوله: "الأيقاظ" جمع "يقظ"، لأن "فعلا" لا يكسر في الغالب، وإنما يجمع بالواو والنون، نحو حذر وحذرون، وندس وندسون، ويقظ ويقظون. اللغة الأخفية: جمع خفاء، وهو الغطاء. والكرى: النوم. وتزججها: تدقيق حاجبها، يقال: زججت المرأة حاجبها بالمزج. المعنى وصف حرباً، وأنها تتزين لمن لا يقربها وجعل أجفان العين أخفية، وهي في الأصل ما يغطى به الشيء، تجوزاً وتوسعاً. وقبل البيت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 تعرِّضُ للأيدي اللوامسِ منهم ... روادفها مبذولةً ودلالها الإعراب نصب "أخفية الكرى" على التشبيه بالمفعول به، وإن شئت على التمييز، كما تقول: الحسان وجوهاً. وأنشد أبو علي، في باب تكسير ما كان من الصفات على أربعة أحرف، مما ليس بملحق ولا على وزنه. (297) ألا إنَّ جيراني العشيةَ رائحٌ ... دعتهم دواعٍ من هوىً ومنادحُ هذا البيت لحيان بن جبلة المحاربي. الشاهد فيه قوله: "دواع"، لأن "فاعلاً" إذا كان لما لا يعقل، جمع على "فواعل" وإن كان لمذكر، لمضارعته المؤنث من حيث امتنعا من الجمع بالواو والنون، يقال: داع ودواع، وبازل وبوازل، وبعير عاضة وعواضة. وقوله: "رائح" وقد قال: "الجيران" ولم يقل "رائحون" لأنه جعله اسماً للجميع، كالجامل والباقر، ويحتمل أن يريد: جمع الجيران رائح. ويروى: ألا إنَّ جيراني العشيَّ روائحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 اللغة الدواعي: صروف الدهر. والمنادح: جمع مندوحة وهي الأرض البعيدة الواسعة. والندح: الكثرة. وبعد البيت: فساروا بغيثٍ فيه أغيٌ فغرَّبٌ ... فذو بقرٍ فشابةٌ والذرايحُ وأنشد أبو علي في الباب. (298) إنَّ من القوم موجوداً خليفته ... وما خليفُ أبي وهبٍ بموجودِ هذا البيت، لوس بن حجر، يرثي عمرو بن مسعود الأسدي. الشاهد فيه قوله: "خليفته" ثم قال: "وما خليف"، وخليف وخليفة واحد في المعنى . وجمع خليفة: خلائف، كطريفة وطرائف، وصبيحة وصبائح، قال الله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 وجمع خليف: خلفاء مثل: ظريف وظرفاء، وفي الكتاب العزيز (خلفاء الأرض) . قال سيبويه: خليفة وخلفاء، وكسروه تكسير "فعيل" لأنه لا يكون إلا لمذكر. وأما "خلائف" فعلى لفظ "خليفة" ولم يعرف "خليفاً"، وحكاه أبو حاتم، واستشهد بالبيت المستشهد به. المعنى يقول: من القوم، من يفقد، فيوجد عوضه ممن يخلفه، ويحل محله، ويقوم مقامه، إلا "أبا وهب" فإنه لا يوجد منه عوض يخلفه. وقبل البيت: يا عينُ بكِّي على عمرو بن مسعودِ ... أهل العفافَ وأهلِ الحزمِ والجودِ أودى ربيعُ الصعاليك الألى انتجعوا ... وكلُّ منْ فوقها منْ صالحٍ مودِ والمعطمُ الحيَّ والأضيافَ إنْ نزلوا ... شحمَ السَّنام من الكومِ المقاحيدِ والواهبُ المئةَ المعكاءَ يشفعها ... يومَ الفضال بأخرى غيرَ مجهودِ وأنشد أبو علي في الباب. (299) دعها فما النَّحويُّ من صديقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 هذا الرجز لرؤبة بن العجاج. الشاهد فيه قوله: "من صديقها"، وهو يريد: من أصدقائها، وذلك أنه "فعيل"، وهو يقع للواحد، والجمع، والمذكر والمؤنث وصفاً، قال أبو ذؤيب: إذا فضَّتْ خواتمها وفكَّتْ ... يقالُ لها دمُ الودجِ الذَّبيحُ فوصف "الدم" بقوله: "ذبيح" وقال آخر: على قرواءَ ماهرةٍ دهينِ فوصف "القرواء" وهي مؤنثة، بقوله: "دهين" وقال آخر: بأعينِ أعداءٍ وهن صديقُ فوصف "الأعداء"، وهو جمع "بصديق". وقال آخر: يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ ... فماذا الذي تغني وأنت صديقُ وقال عز اسمه: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) وهو كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 المعنى يجوز أن يكون "النحوي" هنا، منسوباً إلى بني نحو، حي معروف. وقد قال صاعد اللغوي ملغزاً: وخفَّانِ عروضيا ... ن والناقةُ نحويّة العروضان: مكة والطائف. ويجوز أن يكون النحوي هنا العالم بالإعراب. حكاية يروى أن رؤبة بن العجاج، كان يسير ومعه أمه، إذ لقيها يونس بن حبيب النحوي، فجعل يونس يداعب والدة رؤبة، ويمنعها الطريق، فقال رؤبة: تنحَّ للعجوزِ عن طريقها إذْ أقبلتْ رائحةً من سويقها دعها فما النحويُّ من صديقها وأنشد أبو علي في الباب. (300) ومأتمٍ كالدُّمى حورٌ مدامعها ... لم تيأسِ العيشَ أبكاراً ولا عوناً هذا البيت، لتميم بن مقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 الشاهد فيه قوله: "عون"، جمع "عوان" ونظيره: جواد وجود، ونوار، ونور، ومثله قول الآخر: نواعمُ بينَ أبكارٍ وعونٍ ... طوالِ مشكِّ أعقادِ الهوادي اللغة العوان من النساء: التي قد كان لها زوج، ومن البقر والخيل: التي نتجت بعد بطنها البكر، وقيل العوان من البقر وغيرها: النصف في سنها وقال عز اسمه: (عوان بين ذلك) . فإن قيل: "بين" استعمل مضافاً بين شيئين فصاعداً، و"ذلك" في الآية ليس يشار به إلا إلى واحد. فيقال: إنما صلحت مع "ذلك" وحده؛ لأن "ذلك" تكون بمعنى اثنين، والعرب تجمع بها بذلك بين شيئين ومعنيين، وتجوز مع أسماء الأفعال، دون أسماء الأشخاص. فلو قلت: أظن أخاك شاخصاً، وكأن عمراً قائم، ثم قلت: قد كان ذلك، لجاز، وكنت قد جمعت بذلك وذاك الاسم والخبر اللذين لا بد لكأن والظن منهما. ولو قلت: كنت بين زيد وعمرو، لم يجز أن تقول: كنت بين ذلك، وإنما يجوز ان تقول: بين ذينك؛ لكونهما اسمي شخصين. "فذلك" في الآية، جمع بين الهرم والشباب، وكأنه تعالى قال: إنها بقرة، لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد، ولكنها نصف قد ولدت بطناً بعد بطن بين الهرم والشباب، فاقتضى ذلك جمع بين الهرم والشباب. ولو كان مكان الفارض والبكرة، اسما شخصين، لم يجز أن يجمع بذلك وذاك مع "بين" بوجه، لأنها لا تؤدي عن اسمي شخصين، ولا يصلح أن يكون "بين" إلا مع شيئيين فصاعداً كما تقدم، وهذا شيء عرض فقلت فيه. والمأتم: النساء يجتمعن في الخير والشر، والجميع مأتم، قال أبو عطاء السندي. عشيّةَ قامً النَّائحاتُ وشقِّقتْ ... جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدودُ فهذا المأتم، أراد به: المناحة. قال أبو حية النميري: رمتهُ أناةٌ من ربيعةِ عامرٍ ... نؤومُ الضحى في مأتمِ أي مأتمِ فالمأتم هنا، لم يرد به: المناحة. وروى ابن الأنباري عن الطوسي أنه يقال للرجال إذا اجتمعوا في حزن أو فرح أيضاً: مأتم. والدمى: جمع دمية وهي الصورة المنقشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 والحور: جمع احور وحوراء، كأحمر وحمراء. والحور: شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بيضاها، ولا يقال للمرأة: حوراء، إلا البيضاء مع حورها. والمدامع: أراد بها: العينين، واحدهما مدمع، وهو مسيل الدمع. وأنشد أبو علي في الباب. (301) وما لومي أخي من شماليا نسب أبو علي هذا القسم لجرير، ووقع في قصيدة عبد يغوث الحارثي وصدره: ألمْ تعلما أنَّ الملامةَ نفعها ... قليلُ .......... البيت وكأن أسر يوم الكلاب، أسرته تيم اللات، وكانوا يطلبونه بدم رجل، يقال له: النعمان بن جساس، فأيقن أنه مقتول. فقال هذا الشعر ينوح به على نفسه وأوله: ألا لا تلوماني كفى اللَّومَ ما بيا ... فما لكما في اللَّومِ خيرٌ ولا ليا ألمْ تعلما أنَّ الملامةَ نفعها ... قليلٌ وما لومي أخي من شماليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 فيا راكباً إمَّا عرضتْ فبلِّغنْ ... ندامايَ من نجرانَ أنْ لا تلاقيا أبا كربٍ والأيهمينِ كليهما ... وقيساً بأعلى حضرموتَ اليمانيا جزى الله قومي بالكلابِ ملامةً ... صريحهم والآخرين المواليا ولو شئتُ نجتني من الخيلِ نهدةٌ ... ترى خلفها الجردَ الجيادَ تواليا ولكنَّني أحمي ديارَ بنيهمُ ... وكان الرماحُ يختطفنَ المحاميا أقول وقد شدُّوا لساني وأوثقوا ... أمعشرَ تيمٍ أطلقوا من لسانيا أمعشرَ تيمٍ قد ملكتم فأسجحوا ... فإنَّ إساري لم يكنْ عن توانيا وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميَّةٌ ... كأنْ لم تريْ قلبي أسيراً يمانيا وقد علمتْ عرسي مليكةُ أنَّني ... أنا اللَّيثُ معدّياً عليّ وعاديا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 وقد كنتُ نحَّارَ الجزورِ ومعمل ال ... مطيِّ وأمضي حيثُ لا حيَّ ماضيا استشهد أبو علي به، على أن "الشمال" جمع، واحده شمال، كسروا "فعالاً" على "فعال"، ومثله: درع دلاص، وأدرع دلاص، وناقة هجان ونوق هجان، كما كسروا "فعلاء" على "فعل"، قالوا: فلك في الواحد، وفلك في الجميع. اللغة الشمال: خليقة الرجل، وطبيعته، قال صخر. أبى الشَّتمَ أنَّي قد أصابوا كريمتي ... وأنْ ليسَ إهداءُ الخنا من شماليا والشمال: خلاف اليمين. والشمال: الريح، والشمأل والشأمل والشمل والشمول. والشمال أيضاً: ما يستر به ضرع الشاة والبقرة، وأخلاف الناقة عن الفصيل، والعجل والخروف، لئلا يرضعها. وأنشد أبو علي في الباب. (302) ثم! َّ رماني لأكوننْ ذبيحةً ... وقد كثرتْ بين الأعمِّ المضائضُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 هذا البيت، لقيس بن جروة الطائي، ويعرف بعارق، وإنما سمي بعارق، لقوله يخاطب عمرو بن هند: فإنْ لم تغيِّر بعضَ ما قدْ صنعتمُ ... لأنتحينْ للعظمِ ذوأنا عارقه الشاهد فيه "لأكونن ذبيحة"، أي مما يذبحه، بينه أبو علي، لأنهم يقولون: ذبيحة: لما لم يذبح، وضحية: لما لم يضح به، ورمية: لما لم يرم. وذبيح: لما ذبح، ورمي: لما رمي، قال: أبو ذؤيب: إذا فضَّتْ خواتمهُ وفكَّتْ ... يقال لها دمُ الودجِ الذَّبيحُ بمعنى المذبوح. اللغة الأعم: الجماعة من الناس، والخلق الكثير، قال الشاعر: يزيغُ إليهِ العمُّ حاجةَ واحدٍ ... فأبنا بحاجاتٍ وليسَ بذي مالِ يريد: الحجر الأسود، يقول: الخلق إنما حاجتهم أن يحجوا، ثم إنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 آبوا مع ذلك بحاجات، وذلك معنى قوله: "أبنا بحاجات" أي: بالحج: هذا قول ابن الأعرابي: والعم: العشب، عن ثعلب، وأنشد: يروحُ في العمِّ ويجني الأبلما والعم: موضع عن ابن الأعرابي، وأنشد: أقسمتُ أشكيكِ من أينٍ ومن وصبٍ ... حتَّى تريْ معشراً بالعم أزوالا والعم: أخو الأب، والجمع: أعمام وعموم وعمومه. قال سيبويه: ادخلوا فيه الهاء، لتحقيق التأنيث، ومثله البعولة والفحولة. وحكى ابن الأعرابي، في أدنى العدد: أعم. وأعممن بإظهار التضعيف، جمع الجمع، وكان الحكم أعمون، ولكن هذا حكاه وأنشد: تروَّحَ بالعشيِّ بكلِّ خرقٍ ... كريمِ الأعممينَ وكلِّ خالِ ونخلة عم عن الليحاني، وجارية عممية وعماء، طويلة، والذكر اعم، والجمع عم. وقبل البيت: أصبحَ من أسماءَ قيسٌ كقابضٍ ... على الماءِ لا يدري بما هو قابضُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 فإنَّ أباها مقسمٌ بيمينه ... لئنْ نبضتْ كفِّي وإنِّي لنابضُ ثمَّ رماني لأكوننَ ذبيحةً ... وقد كثرتُ بين الأعمُّ المضائضُ ورواية أبي زيد: "رآني" ورواية غيره "رماني". وأنشد أبو علي في باب ما جمع على معناه دون لفظه. (303) قتَّلننا بعيونٍ زانها مرضٌ ... وفي المراض لنا شجوٌ وتعذيبُ هذا البيت لجرير. الشاهد فيه قوله: "وفي المراض"، وجاء على أصله، لأن مريضاً ومراضاً كظريف وظراف، وكريم وكرام، ومثله قول الآخر: أكاثر اقواماً وأعلمُ أنَّني ... صدورهمُ بادٍ علي مراضها والمستعمل: مريض ومرضى، شبه بجريح وجرحى، وعقير وعقرى، من قبل أن المرض بلية، فأشبه المفعول به. وأراد بالمراض: العيون، ومرضها: فتورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 والشجو: الحزن. وأنشد أبو علي في الباب. (304) ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ (به) ... كاليومِ طاليَ أنيقٍ جربِ هذا البيت لدريد بن الصمة، يقوله في الخنساء. الشاهد فيه قوله: "أنيق جرب"، أتى به على القياس، لن الواحد "أجرب" كأحمر وحمر، ويجمع أيضاً على: "جربى" شبهوه بأحمق وحمقى، وأنوك ونوكى. جعل ما أصاب البدن، بمنزلة ما أصاب النفس. الإعراب ذهب سيبويه في قولهم: "أنيق" مذهبين: أحدهما: أن يكون وزنه "أعفل"، قدمت العين على الفاء، فصار في التقدير "أونق" ثم أبدلت الواو ياء، لنها كما اعتلت بالقلب، اعتلت أيضاً بالإبدال. والثاني: أن تكون العين قد حذفت، ثم عوض منها "ياء"، فصار وزنها "أيفلا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 حكاية كان دريد خطب الخنساء فردته، وكان رآها متجردة، تهنأ بعيراً، فقال: حيُّوا تماضرَ واربعوا صحبي ... وقفوا فإنَّ وقوفكم حسبي أخناسُ قد هام الفؤادُ بكم ... واعتاده تبلٌ من الحبِّ ما إنْ رأيتُ ولا سمعتُ (به) ... كاليوم طاليَ أينقٍ جربِ مبتذِّلاً تبدو محاسنه ... يضعُ الهناءَ مواضعَ النَّقبِ قال أبو عبيدة: لما خطبها دريد، بعثت جاريتها، وقالت: انظري إليه إذا بال، فإن كان بوله يخرق الأرض ويخد فيها، ففيه بقية وإن كان بوله يسيح على وجهها، فلا بقية فيه. فرجعت إليها، وأخبرتها أن بوله يسيح. فقالت: لا بقية في هذا، فأرسلت إليه: "ما كنت لأدع بني عمرو، وهم كعوالي الرماح وأتزوج شيخاً". فقال دريد: وقاكِ اللهُ يا ابنةَ آلِ عمرو ... من الفتيانِ أشباهي وجنسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 وقالت إنَّه شيخٌ كبيرٌ ... وهلْ خبَّرتها أنَّي ابنُ أمسِ فلا تلدي ولا ينكحكِ مثلي ... إذا ما ليلةٌ طرقتْ بنحسِ فقالت الخنساء تجيبه: معاذَ اللهِ ينحكني حبركي ... يقول أبوه من جشمِ بنِ بكرِ فلو أصبحتُ في جشمٍ هديّاً ... إذنْ أصبحتُ في دنسٍ وفقرِ وأنشد أبو علي في باب ما جاء على أربعة أحرف ملحقاً أو على وزن الملحق. (305) فلا تفخرَ فإنَّ بني نزارٍ ... لعلاَّتٍ وليسوا توءمينا هذا البيت للكميت الأسدي. الشاهد فيه قوله: "توءمينا"، جمع "توءم"، جمعه بالواو والنون، لما كان لمن يعقل. وتكسيره: توائم. اللغة العلة، الضرة، وبنو العلات: بنو الأمهات الشتى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 وجمع العلات: علائل. وأنشد أبو علي في الباب. (306) أيُّها الفتيانُ في مجلسنا ... جرِّدوا منها وارداً وشقرْ هذا البيت لطرفة بن العبد البكري. الشاهد فيه قوله: "وشقر" جمع "أشقر"، وكان الحكم "شقراً" بالتخفيف، فحرك "القاف" ضرورة. اللغة وارداً: جمع ورد. وقوله: "جردوا منها"، أي القوا عنها حلالها، وأسرجوها للقاء. وقيل: الجريدة من الخيل: التي تختار، فتجرد في مهم الأمور. وبعده: أعوجيّاتٍ طوالاً شزَّباً ... دوخلَ الصَّنعةُ فيه والضُّمرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 من يعابيبَ ذكورٍ وقحٍ ... وهضبَّاتٍ إذا ابتلَّ العذرْ جافلاتٍ فوقَ عوجٍ عجلٍ ... ركبتْ فيها ملاطيسُ سمر وأنشد أبو علي في الباب. (307) ومعزىً هدباً يعلو ... قرانَ الأرضِ سودانا الشاهد في هذا البيت قوله: "سودان"، جمع "أسود"، ومثله أحمر وحمران وأشمط وشمطان، وأبيض وبيضان، وآدم وأدمان. اللغة المعزى: اسم للجمع، وكذلك معْز ومعَزٌ ومعيز ومعاز، قال القطامي: تصلَّينا بهم وسعى سوانا ... إلى البقرِ المسيَّبِ والمعازِ وكل ذلك اسم للجمع. وأما "معزى" فألفه ملحقه له ببناء "هجرع". قال سيبويه: سالت يونس عن "معزى"، فيمن نون. فدل ذلك أن من العرب من لا ينون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 قال ابن الأعرابي: "معزى" تصرف إذا شبهت ب?"مفعل"، وهي "فعلى". ولا تصرف إذا حملت على "فعلى"، وهو الوجه عنده. قال: أغارَ على معزايَ لم يدرِ أنَّني ... وصفراءَ منها عبلةَ الصَّفواتِ المعنى لم يدر أنني مع صفراء. وهذا من باب، كل رجل وضيعته، وأنت وشانك. وعنى بالصفراء: قوساً غليظة، جناها من الصفرات، مصفرة من القدم. وأنشد هذا البيت سيبويه في "باب ما لا ينصرف مما ليست نونه بمنزلة الألف في بشرى"، شاهداً على تنويه؛ لأنه مذكر، وألفه للإلحاق "بهجرع ونحوه". ووصفه "بهدب" دليل تذكيره. والهَدِب: الكثير الهدب، يعني: الشعر. والقران: ما ارتفع من الأرض، وهو جمع "قرن". وقال: "سوادنا" وهو وصف للمعزى، غذ هو جمع في المعنى، فحمله عليه. ويروى: "قرار الأرض". وأنشد أبو علي في الباب. (308) بأجرع مقفارٍ بعيدٍ من القرى ... فلاةٍ وحفَّتْ بالفلاةِ جوانبه هذا البيت، لذي الرمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 الشاهد فيه قوله: "بأجرع"، استعمله اسماً لا صفة، لنهم لا يكادون يقولون: المكان الأجرع. ألا تراهم كسروه تكسير السماء، فقالوا: الأجارع، ولو كسروه تكسير الصفة، لقيل: جرع، مثل حمر، وله نظائر، أبطح وأباطح، وأسود وأساود، وأدهم وأداهم. اللغة الأجرع والجرعاء، والجرع والجرعة: أرض ذات حزونة تشاكل الرمل، وقيل: هي الرملة السهلة، وقيل: هي الدعص لا تنبت، وقيل: الأجرع كثيب، جانب منه رمل، وجانب منه حجارة. وقيل: الأجرع: رمل، والجرعاء: كهيئة الأكمة، تنبت الشجر والرخامى، والحلمة، وسائر العشب. وجمع الجرع: أجراع وجراع. وجمع الجرعة: جراع وجمع الجرعة: جرع: جرع، وجمع الجرعاء: جرعاوات. وحكى سيبويه: مكان جرع كأجرع. والجرع: التواء في قوة من قوى الحبل، أو الوتر، يظهر على سائر القوى. وأجرع الحبل أو الوتر: أغلظ بعض قواه. وحبل جرع، ووتر جرع، كلاهما مستقيم. ويروى "بأجرع محلال" أي يختار بأن يحل. وخفت جوانبه: أي أديرت حواليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 وأول القصيدة: وقفتُ على ربعٍ لميِّةَ ناقتي ... فمازلتُ أبكي عندهُ وأخاطبه وأسقيه حتَّى كاد مما أبثُّه ... تكلِّمني أحجاره وملاعبه وأنشد أبو علي في باب ما كان من الصفات على أكثر من أربعة أحرف. (309) مطاعينُ في الهيجا مطاعيمُ للقرى ... إذا ابيضَّ آفاقُ السَّماءِ من القرسِ الشاهد في هذا البيت قوله: "مطاعين"، جمع مطعان، وهو الكثير الطعن. قاال أبو علي: "ولم يجمع بالواو والنون، حيث استوى اللفظ للمذكر والمؤنث، كما لم يجمع "فعول" بالواو والنون، لاستواء المذكر والمؤنث". والهيجاء: الحرب، تمد وتقصر,. والمطاعيم: جمع مطعام، وهو الكثير الطعام. ويروى: إذا اغبَّرَ [آفاقُ] السماء من القرسِ والقرس: أبرد الصقيع، وقد قرس الرجل، وأقرسه البرد. المعنى مدح قوماً بالشجاعة والكرم في أزمنة المحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 وأنشد أبو علي في الباب. (310) مطافيلُ أبكارٍ حديثٍ نتاجها ... تشابُ بماء مثلِ ماءِ المفاصلِ هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي. الشاهد فيه قوله: "مطافيل" جمع "مطفل" والكثير المستعمل "مطافل". اللغة مطفل: ذات أطفال، والطفل: الصغير من كل شيء. وتشاب: تخلط. وماء المفاصل: جمع مفصل، وهو الموضع الذي يفصل بين جبلين. وقيل البيت: وإنَّ حديثاً منكِ لوْ تعامينه ... جنى النَّحلِ في ألبانِ عوذٍ مطافلِ مطافيلُ أبكار ........... البيت ومطافيل الثاني: بدل من الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 وأنشد أبو علي في الباب. (311) دارُ الفتاةِ التي كنَّا نقولُ لها ... يا ظبيةً عطلاً حسّانةَ الجيدِ هذا البيت للشماخ بن ضرار. الشاهد فيه قوله: "حسانة" بتاء التأنيث للمؤنث، وللمذكر حسان، والجمع حسانون، يقال: رجل حسن وجميل ووضيء، فإذا أرادوا المبالغة في ذلك، قالوا: وضاء ومثله قول الآخر: والمرءُ يلحقهُ بفتيان النَّدى ... خلقُ الكريم وليسَ بالوضَّاءِ وقال آخر: منهُ صفيحةُ وجهٍ غيرِ جمَّالِ اللغة امرأة عطل: ليس في عنقها حلي، من نسوة أعطال، وكذلك عاطل من نسوة عواطل وعطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 والأعطال أيضاً من الخيل والإبل: التي لا أرسلان لها، ولا قلائد عليها، واحدها عطل. وناقة عطل: بلا سمة، عن ثعلب، وقوله: أنشده ابن الأعرابي: في جلةِ منها عراميس عطل يجوز أن يكون جميع عاطل، كبازل وبزل، ويجوز أن يكون "العطل" يقع على الواحد والجمع. وقوس عطل: لا وتر عليها، ورجل عطل: لا سلاح عليه وجمعه أعطال. والجيد: مقدم العنق، والجمع: أجياد، وامرأة جيداء: طويلة العنق. وبعد البيت: تدني الحمامةَ منها وهي لاهيةٌ ... من يانعٍ الكرمِ غربانَ العناقيدِ يريد بالحمامة: المرأة، والحمامة أيضاً وسط الصدر. قال: إذا عرَّستْ ألقتْ حمامةَ صدرها ... بتيهاءَ لا يقضي كراه رقيبها وأنشد أبو علي في الباب. (312) غيرُ ميلٍ ولا عواويرَ في الهي ... جا ولا عزَّلٍ ولا أكفالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. والشاهد فيه قوله: "عواوير"، جمع عوار، وهو الضعيف الجبان قال سيبويه: لم يكتف فيه، بالواو والنون، لأنهم قلما يصفون به المؤنث، فصار "كمفعال" و"مفعيل" ولم يصر "كفعال"، ولو أجروه مجرى الصفة، لجمعوه بالواو والنون، كما فعلوا في: حسان وكرام. اللغة والعوار أيضاً، كالعائر، وهو الرمد أو البثر، يكون في جفن العين الأسفل، وقيل: هو القذى في العين. والجمع "عواوير". والعوار أيضاً: اللحم الذي ينزع من العين، بعدما يذر عليه الذرور. والعوار أيضاً: الذين حاجتهم في أدبارهم، عن كراع. والميل: جمع أميل، وهو الجبان، ويقال: الذي لا ترس له، ويقال: الأميل: الذي يميل عن ظهر فرسه. والهيجاء: الحرب تمد وتقصر. والعزل والعزلان والعزل والأعزل والمعازيل، حكاها ابن جنى كلها، جمع الأعزل، وهو الذي لا سلاح معه، فهو يعتزل الحرب. وحكى الهروي في "الغريبين": رجل عزل، والاسم من ذلك كاه العزل والأكفال: جمع كفل، وهو المتأخر في الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 مدح بهذا الشعر الأسود بن المنذر اللخمي، أخا النعمان. وقبله: أنتَ خيرٌ منْ ألفِ ألفٍ منَ القو ... مش إذا ما كبتْ وجوهُ الرِّجالِ ولمثل الذي جمعتَ من العد ... دةِ تأبى حكومةَ الجهَّال جندك التالدُ العتيقُ من الس ... سادات أهلِ القباب والآكال وأنشد أبو علي في الباب. (313) مشائيمُ ليسوا مصلحينَ عشيرةً ... ولا ناعباً إلاَّ ببينِ غرابها هذا البيت انشده سيبويه: في "باب اسم الفاعل"، ونسبه للأخوص، وأنشده في "باب الفاء"، ونسبه للفرزدق. الشاهد فيه "مشائيم" جمع مشآم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 المعنى هجا قوماً، ونسبهم إلى الشؤم، وقلة الصلاح والخير. فيقول: لا يصلحون أمر العشيرة، إذا فسد ما بينهم، ولا يأتمرون لخير، فغرابهم لا ينعب إلا بالفراق، وهذا مثل للتطير منهم، والشؤم بهم. والنعيب: صوت الغراب، ومده عنقه عند ذلك، ومنه ناقة نعوب ومنعب، إذا مدت عنقها في السير. الإعراب أنشده سيبويه بجر "ولا ناعب"، عطفه على معنى "الباء"، في قوله: "ليسوا مصلحين"، لأن معناه: "ليسوا بمصلحين"، فتوهم الباء، وعطف عليها. وإذا جاز توهم الحرف مع ضعفه، فالحمل على الفعل أوجب، لقوته وقد رد هذا على سيبويه، ولا يجيز الراد عليه غلا النصب، لن حرف الجر لا يضمر. وقد بين سيبويه ضعفه وبعده، مع أخذه لذلك عن العرب سماعاً، فلا معنى لرده عليه. وأنشد أبو علي في الباب. (314) قبحتمُ يا ظرباً محجَّره ... أوْ البارَ يبتدرنَ الحجره الشاهد فيه قوله: "يا ظربا"، حذف النون من "ظربان" في التكسير، وذلك أن الألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 والنون، قد عاقبتا تاء التأنيث، وجرتا مجراها، وذلك في حذفهم الألف والنون عند إرادة الجمع، كما تحذف تاء التأنيث. ألا تراهم قالوا في استخلاص الواحد من الجمع بالهاء، نحو: شعيرة وشعير، وتمرة وتمر، وبرة وبر، ودرة ودر. فكذلك انتزعوا الواحد من الجمع بحذف الألف والنون أيضاً، وذلك قولهم: إنسان في الواحد، وإنس في الجميع، وظربان وظرب. وكذلك أيضاً حذفوهما لياءي الإضافة، كمات تحذف التاء لها. قالوا في النسب إلى "خراسان": خراسي، كما قالوا في خراسة: خراسي. اللغة الظربان: دابة على خلقة الكلب، منتن الريح، ويجمع أيضاً على ظرابين وظربى. ويروى "محجره" بفتح الجيم. وتشديد الحاء مفتوحة، وهي: المدخلة في حجارها، المضطرة إليها. ويروى: "محجرة" بفتح الجيم، وتشديد الحاء مكسورة. وهي التي دخلت في أحجارها، أو التي احتفرت لأنفسها أحجاراً. والذي ثبت عند أبي الفتح بن جنى: "مجخرة"، بفتح الجيم، وبالخاء المعجمة، مكسورة مشددة، معناه: الشديد النتن. يقال: امرأة بخراء دفراء جخراء. فالبخر في الفم. والجفر في الإبط. والجخر في السفلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 والوبار: جمع وبر، وهي دويبة على قدر السنور. وأنشد أبو علي في باب ما كان آخره ألف ونون. (315) ولو كنتُ في نار الجحيم لأصبحتْ ... ظرابيُّ من حمَّانَ عنَّي تثيرها الشاهد فيه قوله: "ظرابي"، تكسير ظربان، ولهذا صح ان يحقر على "ظريبان". المعنى حي من بني حمان سعد بن زيد مناة بن تميم وصفهم بالإفساد، بين الإخوان والأصحاب، وذكر عداوتهم له، واعتداءهم واتباعهم له، ومطالبتهم إياه، حتى لو القي في نار الجحيم لما شفى ذلك صدورهم، ولا وقاه من شرهم، ولأثاروها عنه. وجعلهم كالظرابي في الإفساد والتشتيت؛ لأن "الظربان" يسمى مفرق النعم. ويقال للقوم يتقاطعون: "فسا بينهم ظربان". شرح قال أبو علي قبل البيت: "وتقول في تصغير سرحان، سريحين، لأنك تقول في جمعه: سراحين، وتقول في تصغير ظربان: ظريبان، لأنهم قالوا: ظرابي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 وإنما حمل التصغير على "ظرابي" دون "الظرابين"، لأن مثل ظرابي إنما جاء جمعاً، ومثال "ظرابين" أتى جمعاً وجمع جمع. نحو غراب وغربان وغرابين. وإنما حمل التصغير على "ظَرابي" دون "ظرابين"، لأن مثل ظرابي إنما جاء جمعاً، ومثال "ظرابين" أتى جمعاً وجمع جمع، نحو غراب وغربان وغرابين. وأنشد أبو علي في الباب (316) حَذْفَ الحُبَارِيَّاتِ والكَرَاوِين الشاهد فيه قوله: "الكراوين" جمع "كروان"، فعلى هذا يحقر"كريين" واصله "كريوين"، ثم أبدلت "الياء" "واواً" وأدغمت الياء في الياء. ولم يجز أن يقال فيه: "كريوين" كما جاز في "أسود"، لأن "الواو"وقعت في "كريوين"، بين "ياءين"، فقوي فيه التغيير أكثر مما قوي في "أسود". وصف صقراً. والحذف: الرمي والقطع، ونصبه على المصدر المشبه به. وأنشد أبو علي، في باب ما تجتمع فيه زيادتان من بنات الثلاثة، فتحذف إحداهما بعينها دون الأخرى. (317) البكرات اللفسَّج العَطَامسا هذا الشطر لغيلان بن حريث، قيل الذي الرمَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 الشاهد فيه قوله: "العطامسا" وكان الوجه "العطاميس"، بإثبات الياء، فحذفها ضرورة، والحكم ثباتها، لأنه جمع "عيطموس"، فصارت "الواو" رابعة، مثل "كردوس"، فلزم ثبات الياء بدلاً من الياء المحذوفة في التكسير كما ثبت في التحقير، ولأن حرف اللين إذا كان رابعاً في التحقير ثبت البدل منه، ولم يسقط إلا ضرورة، أو بعده "ياء" كقولهم في جمع "أثفية" أثافٍ. اللغة البكراتُ: الفتياتُ من النوقِ. والفسَّجُ: جمع فاسج وفاسجةٍ، وهي التي ضربها الفحل، قبل أن تستحق الضرابَ، وقد فسجت فسوجاً. والعيطموس من النوق: الفتية الحسنة الخلق. وقبله: وقَرَّبتْ سادَتُها الرَوَائِسا والروائس: المسرعة المتقدمة، واحدتها: رائسة. يقول: قَرَّبُوا جميَع أموالهم للرحيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 وأنشد أبو علي في باب تحقير الجمع. (318) دعانِيَ من نجدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِيْن بنا شيباً وشيبنناً مُرْدَا وقبل هذا البيت: لَحَى الله نَجْداً كَيْفَ يَترْكُ ذا الغنى ... فقيراً وحُرُّ القومِ يَتْرُكُه عَبْدَا أنشد هذين البيتين الهجريَّ في "نوادره ". وقد دله أبو علي كثيراً من منتحلي هذه الصناعة، وفضحهم بقوله: " فإن حقرت السنين على قول من قال: دعاني من نجدٍ فإنَّ سنينه وذلك أن قوله: فإن صغرت السنين، يريد: بعد التسمية بها، وجعل النون بدلاً من المحذوف، وفتحها تشبيهاً بالنون الأصلية، كما قال الآخر: وإن لنا أبا حسنٍِ علياً ... أبٌ برُّ ونحنُ له بنونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 وكما قال سحيم بن وثيل: وماذا يدَّري الشعراءُ مني ... وقدْ جاوزتُ رأس الأربعينِ وقال ذو الإصبع العدواني: إنّي أبيُّ ذو محافظةٍ ... وابنُ أبيًّ أبيًّ من أبيَّينِ ولم يرد تصغير "السنين" لم تقل إلا"سنيات"، لأنك قد رددت ما ذهب، فصار إلى بناء لا يجمع بالواو والنون. فلا بد من ردها إلى الواحد، ورد اللام المحذوف، إذا أريد تحقيرها فتقول: "سينة" ثم تجمعها بعد التصغير، فتقول: "سنيات". وقد بين أبو علي قوله هنا، في كتابه "التذكرة". فقال: "إذا حقرت السنن، اسم رجل، على قول من قال: دَعَانِي منْ نَجْدٍ فإِنَّ سِنينه و"الأربعين". فالقياس على قول من قال: "هويئر" في "هارٍ"، قال: "سنين" فرجعت اللام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 وزاد في هذا القول: "ولا ينكر هاهنا اجتماع الياءات، على هذا الحد، ألا تراهم في تصغير "صغير": "صغير"، فزادوا "ياء" لم تكن في بناء التكبير، فإذا اجتلبت الزيادة في هذا النحو، فأن يرد إلى الأصل أولى". وقال أبو عمر: أقول في تصغير"سنين" اسم رجل: "سنين"، لأنه يجري على مثال تصغير "سعيد". قال أبو علي الفارسي: هذا يدل على أن أبا عمر يذهب في تحقير "يضع" اسم رجل، مذهب سيبويه، وهو "يضيع" لا مذهب المازني، وهو"يويضع". ألا تراه لم يرد المحذوف من "سنين". وقال سيبويه: وإذا حقرت "سنين" اسم امرأة، في قول من قال: هذه سنين، كما ترى، قلت: "سنين"، على قوله في يضع: "يضيع". ومن قال "سنون" قال: "سنيون"، رددت ما ذهب وهو اللام. وإنما هذه الياء والنون إذا وقعنا في الاسم بمنزلة ياء الإضافة وتاء التأنيث الذي في بنات الأربعة، لا يعتمد بها، كأنك حقرت "سني". وقال أبو علي في "التذكرة": ذكر أبو الحسن الأخفش، "مئين وسنين" قال فيهما قولين، ثم اختار أحدهما، وهو الصحيح عنده. قال: وأما "مئين وسنين"، في قول من رفع النون، فهو "فعيل"، ولكن كسرت الفاء، لكسر ما بعدها، وأجمعوا كلهم على كسرها، وصارت النون في آخر "سنين" بدلاً من الواو لأن أصلها من الواو، وفي "مئين" بدلاً من الياء، لأن أصلها من الياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 قال والقياس الجيد عنده أن نكون "سنين" "فعلين"، مثل غسلين محذوفة، ويكون قول الشاعر: السني والمئي في قوله: وحاتمُ الطائُّي وهابُ المِئي مرخَماً. فإن قلت: "فعلين" لم يجئ في الجمع، وقد جاء"فعيل" في الجمع نحو: عبد وكليب. فالجواب: أن من الجمع أشياء، لم يجئ: مثلها إلا بغير اطراد، نحو سفرٍ وقومٍ، وقد جاء منه ما ليس له نظير، نحو عدى. وأنت إذا جعلت"سنين" بدلاً، فالبدل لا يقاس عليه ولا يطرد، ومخالفة الجمع للواحد كثير. وإنما أوردت ما قاله أبو علي، عن أبي الحسن، لأن من الناس من ذهب إلى أن الشاهد يتوجه عليه. وأنشد أبو علي في باب تحقير الترخيم. (319) أبلغ يزيد بني شيبان مالكة ... أبا ثبيت أما تنفك تأتكل هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 الشاهد فيه قوله: "أبا ثبيت"، تصغير "ثابت" مرخماً وأبو ثابت: هو يزيد بن مسهر الشيباني. اللغة مألكة: رسالة، قد تقدم القول عليها. وتأتكل: "تفتعل" من الفساد، يقال: أكل بين الناس إذا مشى بينهم بالفساد، وسعى بالبشر. وقال أبو عبيدة: تأتكل: تلهب وتحترق. وبعده: ألستَ مُنْتَهِياً عن نَحْتِ أَثْلَتنا ... ولستَ ضائِرَها ما أطَّتِ الإبلُ تغرِي بنا رَهْطَ مسعودٍ وأخوته ... عند اللقاء فتُرْدِي ثم تَعْتَزلُ لا أَعْرفِنَّك إنْ جَدَّ النفيرُ بنا ... شُبَتِ الحربُ بالُّطَّوافِ واحتَمَلُوا كناطحٍ صخرةً يوما لِيْفَلِقَها ... فَلَمْ يَضِرْها وَأَوْهَى قرنَه الوَعِلُ وأنشد أبو علي في باب تحقير الأسماء المبهمة. (320) قد احتَمَلَتْ مَيَّ فهاتِيكَ دارُها ... بها السُّحْمُ تَرْدي والحَمَامُ المُطَوَّقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 هذا البيت لذي الرُّمَّة. الشاهد فيه قوله: "هاتيك"، بمعنى هذه، الهاء للتنبيه، و"تي" اسم المشار إليه، و"الكاف" حرف خطاب. اللغة السُّحْمُ: الغربانُ وتردي: تحجل، والرديانُ: السرعة، يقال: ردت الدواب، إذا أسرعت. ويقال: الرديان: مشي الحمار من أريهَّ إلى متمعكه. الحمام: القمارى. المعنى وصف خلو الدار من أهلها، وصارت مألفاً للوحش والطير. وبعد البيت: أًرَبَّتْ عليها كلُّ هَوْجَاءَ رادةٍ ... زَجُولٍ بجَوْلانِ الحصى حين يَسْحَقُ وأنشد أبو علي في الباب. (321) وليس لعيشنا هذا مَهَاهٌ ... وليستُ دارنا هاتا بِدَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 هذا البيت لعمران بن حطَّان. الشاهد فيه قوله: "هاتا"، لأنَّ "تا" للمؤنث، "فهاتا" بمعنى هذه. اللغة المهاه: خفض العيش، وهو بالهاء، ووزنه "فعال"، والهاء أصليةٌ. وقال أبو عبيدة: "كلُّ شيءٍ مههٌ ومهاه ما النساء، وذكرهن، فنصب على الاستثناء. وقال أبو العباس المبرد: "النحويون يثبتون الهاء في الوصل، فيقولون: مهاهٌ، وتقديره"فعال"، ومعناه: اللمعُ والصفاء، يقال: وجه له مهاهٌ". والأصمعي يقول: مهاةٌ، تقديرها: حصاة، يجعل الهاء زائدة، وتقديرها في قوله: "فعلة". والمهاة: البلورة، والمهاة: البقرة، وجمعها المها". ويروى: وليست دارنا الدنيا بدارٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 وأنشد أبو علي في باب أبنية الأفعال الثلاثية ومصادرها. (322) فصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفَعُه كِذَابُه هذا البيت للأعشى، ميمون بن قيس. الشاهد فيه قوله: "كذابه"، وهو مصدر كذب يكذب كذباً وكذاباً. المعنى قوله: والمرء ينفعُه كذابُه يقول: إن الكذب ينفع في بعض المواضع، وإن الصدق ليس يجب أن يستعمل في كل المواضع. وقد أبيح الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، وقال الشاعر: تَخَلَّق مع الأقوام إن رُمْتَ وُدَّهم ... بصِدقٍ وكَذْبٍ خِفيَةً وعلانِيَهْ فإنَّ مِنَ الأقوامِ مَنْ إنْ صَدَقْتَه ... طَوَى لَكَ حِقْداً أَوْ رَمَاكَ بِدَاهِيَهْ وقال المعريّ: تعالى الله فهو بِنَا خَبِير ... قد اضطُرَّتْ إِلَى الكَذِبُ العقولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 نُقولُ عَلَى المَجَازِ وَقَدْ عَلِمْنَا ... بأَنَّ القولَ لَيْسَ كَمَا نَقُولُ وقبل الشاهد: وإذا غَزَالٌ أَحْوَرُ ال ... عينين يعجبُني لعَابُه حَسَنٌ مُقَلَّدُ حَلْيه ... والنَحْرُ طِيَّبَةٌ ملاَبُه غَرَّاءُ تَبْهَجُ زَوْلهُ ... والكَفُّ زَيَّنَها خِضَابُه ويروى: فصدقته وكذبته. على لفظ الغزال. وأنشد أبو علي في الباب. (323) أَخَذَ المَخَاضَ من العِشَارِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً ويَكْتُبُ للأمير أَفِيلا هذا البيت للراعي، واسمه عُبيد بن حصين بن معاوية، من بني نمير، يكنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 أبا جندل، وإنما لقب الراعي بقوله: لها أَمْرُها حَتَّى إِذا مَا تَبَوَّأتْ ... لأِخْفَافِهَا مرعًى تَبَوَّأَ مَضْجَعَا الشاهد فيه قوله: "غلبة" مصدر "غلبهُ، يقال: غلبه يغلبه غلباً، وغلبة، وغلباً وغلبة، ويقال: الغلبي والغلبي، أنشد أبو زيد: وكُنَّا إذا الدّينُ الغلبيَّ برى لنا ... إذا ما حللناه مصابَ البوارقِ حمىً لا يحلُّ الدهرَ إلاَّ بإذننا ... ولاَ نسألُ الأقوامَ عهدَ المواثقِ وقال كثير: فإنْ تمطلينا أمَّ عمروٍ غلبَّةً ... وتستنظري ديني وقد حلَّ مالِيا اللغة العشار: جمع عشراء، ويجمع أيضاً: عشراوات وعشر، وكذلك امرأة نفساء ونفاس ونفس ونفساوات. والعشراء: التي مضى لحملها عشرة أشهر، وقيل ثمانية، والأول أولى، لمكان لفظه، وإذا وضعت فهي عشراء أيضاً، قال الفرزدق: كم عمةٍ لك يا جريرُ وخالةٍ ... فدعاءَ قدْ حلبتْ عليَّ عشاري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 وليس للعشار لبن، وإنما سماها عشاراً، لأنها حديثة العهد بالنتاج وأعشرت الناقة وعشرت، صارت عشراء، وامرأة معشر: متم على الاستعارة. المعنى شكا إلى عبد الملك بن مروان المصدقين. وقبل البيت: إِنَّ الذين أمرتهم أن يعدلوا ... لم يفعلوا مما أمرتَ فتيلا أخذوا المخاضَ منَ العشارِ غلبَّةً ... ظلماً ويكتبُ للأمير أَفيلا أخذوا العريفَ فقطعوا حيزومه ... بالأصبحيةِ قائماً مغلولا حتَّى إذا لمْ يتركوا لعظامه ... لحماً ولا لفؤاده معقولا نسيَ الأمانةَ من مخافة لقحٍ ... شمسٍ تركن بضيعهُ مجزولا الإعراب نصب "ظلماً" على المصدر في موضع الحال، وإن شئت على المفعول من أجله، ويحتمل الحال. ونصب"أفيلاً" بيكتب. وأنشد أبو علي في الباب. (324) وكأنَّ عافية النسورِ عليهم ... حجٌّ بأسفل ذي المجاز نزول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 هذا البيت لجرير، وينسب إلى الأخطل. الشاهد فيه قوله: "حج" وهو اسم يقع على الحاج، وهو قول أبي زيد. وقال آخر: كأنما أصواتها بالوادي ... أصواتُ حجُّ من عمانَ غادي هكذا أنشده ابن دريد، بكسر الحاء. قال سيبوبه: حجه يحجه حجا، كما قالوا: ذكره يذكره ذكراً. وقال غيره: الحجُّ والحج، مصدران، يقال: حج يحج حِجا وحَجا. المعنى وصف قتلى، وشبه ما عليهم من النسور بالحاج إذا نزلوا، وعافية الطير والسباع: طلاب الرزق، وأنشد ثعلب: لعزَّ علينا ونعْمَ الفتى ... مصرك يا عمرو للعافيه وفعله: عفاه يعفوه، واعتفاه يعتفيه، إذا نزل به، يعني إن قتلت، وصرت أكلة للطير والسباع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 وذو المجاز: موضع. وأنشد أبو علي في باب الأفعال الثلاثية المزيد فيها ومصادرها. (325) وصالياتٍ ككما يؤثفين. هذا الشطر لخطام المجاشعي. الشاهد فيه قوله: "يؤثفين"، أخرجه على أصله، ضرورة، كما قال الآخر: فإنَّه أهلٌ لأنْ يؤكرما وتقدير"أثفية"، "أثفوية"، وزنها"أفعولة" اجتمعت فيها ياء وواو، فسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبل الياء، لتصح. واستدلوا على زيادة الهمزة بقول العرب: ثفيت للقدر، إذا جعلتها على الأثافي، وبقول الكميت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا ... ولاثفيتْ إلاَّ بناحين َتنصب وقال قوم: يؤثفين، "يفعلين" كما تقول: يسلفين ويجعبين. جعلوا "االهمزة" أصلا، و"الياء" هي الزائدة، بعكس القول الأول. ووزن "أثفية" عندهم: "فعلية" على مثال بختية، واستدلوا على ذلك بقول النابغة: وإن تأثفكَ الأعداءُ بالرفدِ فوزن تأثفك، "تفعلك"، ولا يصح فيه غير ذلك، والهمزة أصل، ولو كان من قولهم: ثفيت القدر، لكان تثفاك. المعنى وصف منزلاً قد خلى من أهله، وبقيت منهم آثار لهم، ومن تلك الآثار "صاليات" يعني: الأثافي، لأنها صليت بالنار حتى اسودت. الإعراب أجرى "الكاف" الجارة مجرى مثل، فأدخل عليها"كافاً" ثانية، فكأنه قال: كمثل ما يؤثفين، و"ما" مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: كمثل إيفاثها، أي إنها على حالها حين أثفيت. والكافان في قوله: "ككما"، لا يتعلقان بشيء. أما الأولى منهما، فإنها زائدة، كزيادتها في تعالى: (ليس كمثله شيء) . وحرف الجر إذا كان زائداً يتعلق بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 وأما الثانية فقد جرت مجرى الأسماء، لدخول حرف الجر عليها، فحكمه حكم الأسماء، ولو سقطت "الكاف" الأولى لقال: "كما يؤثفين". فكان يجب حينئذ، أن تكون"الكاف"، متعلقة بمحذوف صفة لمصدر مقدر محمول على معنى"الصاليات" لا على لفظها، لأن قوله "وصاليات" قد ناب مناب قوله: ومثفيات إثفاء مثل إثفائها حين نصبت للقدر، ولابد لك من هذا التقدير، ليصح اللفظ والمعنى. وأنشد أبو علي في الباب. (326) فما أفجرتْ حتَّى أهبَّ بسدفةٍ ... علاجيمَ عينِ ابنيْ صباحٍ نثرها هذا البيت لذي الرمَّة. الشاهد فيه قوله: "أفجرت"، والمعنى: صارت في وقت الفجر، أي: وافقت طلوع الفجر. اللغة أهب: أيقظ. علاجيم: جمع علجوم، وهو ذكر الضفادع هنا. والعلجوم أيضاً: ذكر البط. والعلجوم: الظلمة المتراكمة. والعلجوم: الجمل الضخم. وعين: يعني عين ماء. وابنا صباح: رجلان من ضبة. وصباح: اسم رجل، وقيل: اسم امرأة. ومن جعله اسم امرأة لم يصرفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 ونثيرها: ما نثرت الحمير من أفواهها. وقيل: نثيرها: نخيرها بأنوفها، وقال رؤبة: وأهيجَ الخلصاءَ من ذاتِ البرقْ أي: وجدها الحمار هائجة يابسة. وقال الأعشى: فمضى وأخلفَ من قتيلةَ موعِدا أي: وجدها مخلفة. والسدفة: الظلمة هنا، ويكون للضوء، وهو من الأضداد. المعنى وصف حمير وحش وردت الماء سحراً، فأيقظ نثيرها العلاجيم. وقبل البيت: وظلتْ بملقَى واحفٍ جزع المعى ... قياماً تفالى مصلخما أميرها فراحتِ لادلاجٍ عليها ملاءةٌ ... صهابيةٌ من كل نقع تثيرها وأنشد أبو علي في باب الزوائد اللاحقة لبنات الثلاثة من غير أن تكون بها على وزن بنات الأربعة. (327) كمْ قد حسرنَا من علاةٍ عنسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 هذا البيت للعجاج. الشاهد فيه قوله: "حسرنا"، من أفعال المطاوعة. اللغة حسرنا: أعيينا وأتعبنا، وحسرت الدابة حسراً، واستحسرت أعيت وكلت. والعلاة: اللناقة القوية، والعلاة أيضاً: السندان. والعلاة: الصخرة. والعنس: الناقة القوية. والعنس أيضاً: الصخرة، شبهت الناقة بها. وأنشد أبو علي في الباب. (328) فلما أتى عامانِ بعد انفصالهِ ... عن الضرع واحلولىِ دماثا يرودها هذا البيت لحميد بن ثور الهلالي. الشاهد فيه تعدية "احلولى". احلوليت الشيء: وجدته حلواً. والدماث: السهول من الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 ورادت الدواب روداً وروداناً، واسترادت: رعت، وردتها أنا. وأنشد أبو علي، في باب ما اشتق من بنات الثلاثة للمصادر من الزمان والمكان. (329) لا تقهِ الموتَ وقياتهُ ... خطَّ لهَ ذلك في المحبلِ هذا البيت للمتنخل الهذلي، استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه قوله:: "في المحبل" هو للزمان، لا للمكان. ويروى "المحبل" بفتح الباء، وهو حيث تحتبله المنايا. ومعنى خط: كتب. وأول الشعر: هل تعرف المنزلَ بالأهيلِ ... كالوشم في المعصم لم يخملِ وبعد البيت: ليس لمت بوصيل وقد ... علَّقَ فيه طرفُ الموصلِ أودىَ إذا انبتت قواهُ فلمْ ... يركبْ إذا ساُروا ولم ينزلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 وأنشد أبو علي في باب أحكام الراء في الإمالة. (330) عيسى الله يغنى عن بلاد ابن قادر ... بمنهمرٍ جونِ الرباب سكوبِ هذا البيت لهدبة بن خشرم العذري. الشاهد فيه جواز إمالة الألف من "قادرٍ"، وإن كان قبلها المانع، وذلك لقوة الراء المكسورة على الإمالة. اللغة المنهمر: السائل. والجون: الأسود هنا. والرباب: ما تدلَّى من السحاب دون سحاب فوقه. والسكوب: المنصبّ. واستعمل"عسى" بإسقاط"أن" من الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 وأنشد أبو علي في باب علم حروف الزيادة. (331) جاءتْ عنسٌ من الشام تلق الشاهد فيه قوله: "تلق"، ومعناها: تخف وتسرع، وأصله"تولق"، حذفت الواو، لوقوعها بين ياء وكسرة، مثل وزن يزن، وأشباهه. فدل من هذا، على كون الواو أصلية. فعلى هذا لا يكون "أولق" إلا "أفعل"، فإذا سمي به لم ينصرف معرفة. ويحتمل أن يكون "فوعلاً" وأصله "وولق"، فلما التقت الواوان في أول الكلمة، أبدلت الأولى همزة، لاستثقالهما أولا، كقولك في تحقير"واصل" "أويصل" فإن سميت "بأولق" على هذا صرفته. والذي عليه الجماعة أنه "فوعل"، من تألق البرق إذا خفق. وكان أبو إسحاق يجيز أن يكون "أفعل" من ولق يلق. والوجه ما عليه الجماعة، من كونه "فوعلا"، من ألق، وهو قولهم: ألق الرجل فهو مألوق، ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه: تراقبُ عيناها القطيع كأنَّما ... يخالطها من مسَّه مسُّ أولقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 وقد قالوا منه: ناقة مسعورة، أي: مجنونة، وقد قيل في قوله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر) : هو الجنون، وشاهد هذا قول القطامي: يتبعن ساميةَ العيِنينِ تحسبُها ... مجنونةً أو ترى ما لا ترى الإبُل اللغة العنس: البازل الصلبة من النوق، ولا يقال لغيرها عنس، وجمعها عناس وعنوس، والعنس أيضاً: الناقة القوية، والعنس: الصخرة. والعنس: العقاب. وعنس قبيلة حكاها سيبويه، وأنشد: لا مهل حتى تلحقي بعنسِ أهل الرياط البيض والقلنسِ وأنشد أبو علي في الباب. (332) يلقى عليه النيدلان بالليل هذا الشطر لرؤبة بن العجاج. الشاهد فيه قوله: "النيدلان" بغير همز، فهي إذن في "النئدل" زائدة. والنيدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 والنيدلان، بغير همز: الكابوس، فإذا همزت كانت الهمزة زائدة، لأنه مشتق من ندلت الشيء، إذا غطيته، وبه سمي المنديل، وهو"مفعيل"، وندلت الشيء: جمعته، وأنشد: فندلاً زريقُ المال ندل الثعالب وبعد البيت: نفرجة القلب قليل ما النيل التفرجة: الجبان، غير ذي جلادة ولا حزم. وأنشد أبو علي في الباب. (333) يسوق بهم شنذارة متقاعس ... عدوُّ صديق الصالحين لعين هذا البيت لجرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 الشهد فيه قوله: "شنذارة" بالنون، فدل أنم الهمزة في "شئذارة" زائدة. اللغة يقال: ساق بهم الإبل سوقاً، وأساقها واستاقها. والشئذارة: قال أبو علي: السيء الخلق. وقال غيره: الذي يعنف في السير. والمتقاعس: المتأخر، وقيل: الثابت، والقعس: الثبات، وتقعستِ الدابة: ثبتت، فلم تبرح مكانها. وأنشد أبو علي في باب زيادة النون. (334) يعصرن السليط أقاربه الشاهد فيه زيادة النون مجردة من الضمير. والبيت بكماله قد تقدم. وذكر أبو علي في أثناء كلامه في إبدال الجيم من الياء "وأمسجت وأمسجا". وجاء هذا الذي ذكره في شعر العجاج: (335) حتى إذا ما أمسجت وأمسجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 يريد: أمسيت وأمسى، فأبدل الجيم من الياء. وذكر أبو علي أيضاً في أثناء كلامه. (336) حسن ذا أبا استشهد به على أن "حسن"، منقول من"حسن" وهو بعض بيت، لأبي المنهال البصري، في قصيدة تسمى "درة الغواص" أولها: إنَّ الغوانيِ قدْ أتعبننا نصبا ... خلتهنَّ ضعيفاتِ القوى كذبَا وقبل بيت الشاهد: مثلي يردُّ على العادي عداوتهُ ... ويعتبُ المرءَ ذا العتبى إذا عتبا تحمى عليَّ أنوفٌ أن أذلَّ ولا ... يحمي مناوئها أنفاً ولا ذنبا أنا ابن أعصر أسمو للعلى وترى ... فيمن أقاذفُ عنْ أعرضهم نكبا إذا قتيبة مدتني حوالبها ... بالدهم تسمع في حافاتها خدبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 لا يمنعُ النَّاسُ منَّي ما أردت و ... أعطيهم ما أرادوا حسنَ ذا أدبا وأنشدَ أبو علي في باب ما كان فيه حرف العلة ثانياً عيناً. (337) وكيد ضباعُ القفَّ يأكلن جثتي ... وكيدَ خراشٌ بعد ذلك ييتم هذا البيت لأبي خراش الهذلي. الشاهد فيه قوله: "كيد" نقل حركة العين إلى "الكاف" وهو مبني للفاعل: وحسن ذلك كونه غير متعدًّ اللغة الضباع من السباع، ذكرها ضبعان. والقف: ما ارتفع من الأرض. والجثة من الإنسان: شخصه متكئاً، أو مضطجعاً، وقيل: لا يقال جثة إلا إن يكون قاعدا أو نائماً، فأما القائم: فيقال: قامته، وجمعها جثث وأجثاث. اليتم: الانفراد، عن يعقوب. واليتم: فقدان الأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 وقال يعقوب: "اليتم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم" ويقال لمن فقد أمه من الناس: مقطع. وفعله: يتم ييتم، ويتم ييتم. وقال أبو خراش هذا الشعر: لما نجا من بني لحيان، حين هموا بقتله. وقبل البيت: فلولا دراكُ الشدَّ كانت حليلتي ... تخير في خطابها وهي أيَّمُ وأنشد أبو علي في باب ما يتم فيه الاسم، لسكون ما قبل حرف العلة، أو بعده (أو) لأن السكون اكتنفه. (338) وكحل العينين بالعواور الشاهد فيه قوله: "العواور"، حذف الياء ضرورة، ولأجل ذلك صحت الواو، ولا تهمزها، لأن الياء في نية الثبات، ومنه قول الآخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 مال إلى أرطاة حقفٍ فالطجعْ أبدل "الضاد" لاما، وكان قياسه إذا زالت "الضاد" وخلفتها اللام أن تظهر"تاء" "افتعل" كما تقول: التفت والتقم والتحف. لكن أقرب "الطاء" بحالها، ليكون اللفظ بها دليلاً على إرادة "الضاد" التي "اللام" بدل منها، كما دلت صحة "الواو" على إرادة "الياء" في "العواوير". ومثله إنشاد أبي الحسن: أرهنَ بنيك عنهم أرهنْ بنى يريد: بني، فحذف الياء الثانية للقافية، ولم يعد "النون" التي كان حذفها للإضافة فيقول: "بنين"، لأنه نوى الثانية، فجعل ذلك دليلاً على إرادتها، ونيته إياها، وله نظائر. اللغة العواوير: جمع عوار، وهو الرمدُ، قالت الخنساء: قذًى بعينك أم بالعين عوَّارُ ... لكنْ بكيتُ لمنْ أقوتْ به الدارُ وقال رؤبة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 وما بعينيهِ عَوَاويرُ البخقْ فأتى به على الأصل. وقيل: هو بئر يكون في جفن العين الأسفل، وجعله كالكحل، استعارة. وأنشد أبو علي في باب التضعيف في باب الياء والواو (339) عيُّوا بأمرهمُ كما ... عيَّت ببيضتها الحمامه هذا البيت لعبيد بن الأبرص. الشاهد فيه قوله: "عيُّوا وعيَّت"، وأصله: عييوا وعييت، فسكن الياء الأولى، وأدغمها في الثانية، وأجرى الفعل مجرى المضاعف الصحيح، فسلم من الاعتلال والحذف، لما لحقه من الإدغام. وبعده: جلعتْ لها عودينِ منْ ... نشمٍ وآخر من ثمامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 خاطب عبيد بن الأبرص بهذا الشعر حجراً أبا امرىء القيس الكندي، يستعطفه لبني أسد. حكاية: وذلك أن حجراً كان يأخذ منهم إتاوة، فمنعوها إياه، فأمر بقتلهم بالعصا، فلذلك سموا "عبيد العصا"، ونفي من بقي منهم إلى"تهامة"، وأمسك منهم عمرو بن مسعود، وعبيد بن الأبرص، فلذلك قال عبيد بن الأبرص، في هذه الكلمة: ومنعتهم نجداً فقد ... حلُّوا على وجلِ تهامَه أنت المليكُ عليهم ... وهم العبيدُ إلى القيامه فرق لهم حجر، وأمر برجوعهم إلى ديارهم. فأضطغنوا عليه ما فعل بهم، فقتلوه. وأما تشبيه عبيد أمر بني أسد بأمر الحمامه، فتلخيصه أنه ضرب النشم مثلا لذوي الحزم، وصحة الرأي والتدبير، وضرب الثمام مثلا، لذوي العجز والتقصير. وأراد أن ذوي العجز منهم، شاركوا ذوي الحزم في آرائهم، فأفسدوا عليهم تدبيرهم، فلم يقدر الحكماء على ما أفسد السفهاء، كما أن الثمام لما خالطه النشم في بنيان العش. فسد العش وسقط، لوهن الثمام وضعفه، ولم يقدر النشم على إمساكه، لشدة قوته، ونظير هذا قول الآخر: ولكنَّ قومي عزَّهم سفهاؤهُم ... على الرأي حتى ليس للرأي حاملُ تظوهرَ بالعُدوان واختيل بالغنى ... وشورك في الرأي الرجالُ الأماثلُ وأصحاب المعاني يقولون في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه أنه أراد: جعلت لها عودين، عوداً من نشم، وآخر ثمامه، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه. فقوله: "وآخر" على هذا التقدير، ليس معطوفاً على"عودين"، لأنك إن عطفته عليه كانت ثلاثة، وإنما هو معطوف على الموصوف المحذوف وقامت صفته مقامه، فهو مردود على موضع المجرور. هذا قبيح في العربية، لأن إقامة الصفة مقام الموصوف، إنما يحسن في الصفات المحضة، كقولك: جاءني العاقل، ومررت بالظريف، ولا يحسن أيضاً في الصفة المحضة حتى تكون صفة مختصة بالموصوف دالة عليه. وكلما ازدادت الصفة عموماً ضعف إحلالها محل موصوفها فقولك: جاءني العاقل، أحسن من قولك: جاءني الطويل، لأن العاقل يختص بالإنسان، ولا يختص به الطويل. فإذا لم تكن الصفة محضة، وكانت شياً ينوب مناب الصفة من مجرور أو ظرف أو فعل لم تجز إقامتها مقام الموصوف. فلا يحسن أن تقول: جاءني من بني تميم، وأنت تريد: رجلاً من بني تميم، ولا لقيت يركب، وأنت تريد: رجلاً يركب. وقد جاء من ذلك شيء قليل، لا يقاس عليه، أنشد سيبونه: لو قلت ما في قومها لم تيثمِ ... يفضلها في حسبٍ وميسمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 وقال النابغة: كأنَّكَ من جمالِ بني أقيشٍ ... يقعقعُ خلفَ رجليه بشنَّ أراد: أحداً يفضلها، وجملاً من جمال بني أقيشٍ. وأنشد أبو علي في الباب. (340) وكنا حسبناه فوارس كهمسٍ ... حيوا بعدما ماتوا من الدهر أعصرا هذا البيت لأني حزابة، واسمه الوليد بن حنيفة، أحد بني ربيعة بن حنظلة من مالك بن زيد مناة بن تميم، شاعر من شعراء الدولة الأموية. الشاهد فيه قوله: حيواء، خفف بالحذف ولم يدغم، بناه بناء "خشوا"، لأن "حيي" إذا ضوعفت الياء منه ولم تدغم بمنزلة"خشي". وإذا اتصلت بواو الجمع لحقها من الاعتلال، ما لحق "خشي" إذا كانت للجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 وقبل البيت: لله عينا من رأى من فوارسٍ ... أكر على المكروه منهم وأصبرا وأكرم لو لاقوا سداداً مقاربًا ... ولكن لقوا طمَّا من البحر أخضرا فما برحوا حتى أغضُّوا سيوفهم ... ذرا الهام منهم والحديدَ المسمَّرا وكهمس: اسم رجل. وهو حي من تميم. وهو أسماء الأسد. وهو القصير أيضاً. وناقة كهمس: عظيمة. وأنشد أبو علي في باب الإدغام. (341) فما كلُّ ذي لبًّ بمؤتيك نصحه ... وما كلُّ مؤتٍ نصحه بلبيب هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن يعمر بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. استشهد أبو علي بعجزه. الشاهد فيه قوله: "بلبيب"، أتى بياء ساكنة، قلبها كسرة، فأوقعها موقع الحرف المتحرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 في إقامة الوزن، ولذلك لزمت هذه الياء حرف الروي، وكانت ردفاً له، لا يجوز في موضعها إلا الواو، إذ كانت في المد بمنزلتها. وهذا البيت من الطويل، من الدائرة الأولى من دوائر العروض. وله ثلاثة أضرب: مفاعلين: سالٌم، وهو الضرب الأول. ومفاعلن: مقبوض، وهو الضرب الثاني. وفعولن: محذوف معتمد، وهو الضرب الثالث. ومعنى الاعتماد فيه، أن جزءه السابع المتصل بالضرب حكمه أن يجيء مقبوضاً، غير سالم، كبيت أبي الأسود هذا. ألا ترى أن قوله: "جهوب"، وزنه "فعولن" مقبوض، وقوله: "لبيب" وزنه "فعولن" محذوف. ومعنى محذوف: أنه كان "مفاعلين"، فحذف منه "لن" وهو سبب، فبقي"مفاعي" فنقل إلى "فعولن". فإذا سلم الجزء السابع من القبض، كان ذلك عيباً في العروض، مكروهاً مع هذا الضرب المحذوف، كما قال الآخر: أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلاّ تقيموا صاغرينَ الرؤوسا فقوله: "غرين" وزنه"فعولن" سالم، وقوله: "رؤوسا" "فعولن" جاء الجزء السبع سالماً، وذلك عيب. سبب هذا الشعر: أنه خطب امرأة من القيس، يقال لها: أسماء بنت زياد، فاسرها أمرها إلى صديق له، من الأزد، يقال له: الهيثم بن زياد، فأخبر بذلك ابن عم لها، كان بخطبها. فمضى ابن عمها فتزوجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 فقال أبو الأسود: لعمري لقد أفشيتُ يوماً مخافتي ... إلى بعضِ من لم أخشىَ سرًّا ممنَّعا فمزقَّهُ مزقَ العبا وهو غافلٌ ... ونادى بما أخفيتُ منه وأسمعا فقلتُ ولمْ أفحش لعاً لك عاثراً ... وقد يعثرُ السَّاعي إذا كان مسرعا ثم قال: أمنت امرأً في السرَّ لم يكُ حازما ... ولكنَّه في النصحِ غيرُ مُريبِ أذاع به في الناس حتَّى كأنه ... بعلياءَ نارٌ أوقدتْ بثقوبِ وكنتَ متى لم ترع سرَّك تنتشر ... فوارعُه من مخطئ ومصيب فما كلُّ ذي لبًّ بمؤتيك نصحه ... وما كلُّ مؤثٍ نصحه بلبيبِ ولكن إذا ما استجمعا عند واحدٍ ... فحقَّ له من طاعةٍ بنصيبِ كمل "إيضاح شواهد الإيضاح" بحمد الله وعونه، وصلى الله على النبي محمدٍ، خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً. في الثالث لجمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904