الكتاب: شرح الواسطية للبراك المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك   [الكتاب مرقم آليا] ---------- شرح العقيدة الواسطية للبراك عبد الرحمن بن ناصر البراك الكتاب: شرح الواسطية للبراك المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك   [الكتاب مرقم آليا] العقيدة الواسطية تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقدمة فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل هذه الاجتماعات في سبيله وسببًا لمرضاته، وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه سميع الدعاء. أيُّها الأحباب، إنها لنعمة أن يتهيَّأ لنا جميعًا هذه اللقاءات على ذِكْر الله وتَعَلُّم العِلْم الموروث عن محمد -عليه الصلاة والسلام- فإنه العلم الذي تزكو به النفوس، وتستقيم به الأخلاق، وتُشْرِق به البصائر فهو زكاةٌ وحياةٌ ونورٌ وهدًى، وهذا فضْلٌ عظيم يَمُنُّ به -تعالى- على مَن يشاء {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) } (1) . أيُّها الأخوة، إنَّ اجتماعكم أو اجتماعاتكم في هذه الأيام وتفرغكم إن ذلك لمِن نعمةِ الله عليكم.   (1) - سورة آل عمران آية: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 فأوصيكم أن تستغلوا هذه الفترة التي فرَّغتم أنفسكم فيها للتزود من العلم من علم الكتاب والسنة، فاستغلوا وقتكم دائمًا، وإن كان هذا مطلوبًا منَّا جميعًا في كل وقت، لكن الوقت الذي يخصصه الإنسان لعمل ما ينبغي أن يستثمره لهذه المهمة التي قَصَد إليها، وفرَّغ لها وقته، وتخفَّف فيها عن شَوَاغله العامة، فأهل العلم والإيمان هم القلة القليلة في كل وقت، هم خيرة الله مِن خَلْقِه، فكل المؤمنين مُصْطَفَوْنَ مختارون اختارهم الله من سائر البشرية، من سائر الثقلين هم الخِيرة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (1) يعني: ويختار ما يشاء، فهو -تعالى- هو خالق كل شيء، وهو يختار مِن خَلْقِه ما يشاء فهو الذي خَلَقَ البشرية، وهو الذي يختار منها ما يشاء، وهذا الاصطفاء هو مراتب كثيرة جدًّا وعباد الله يتفاضلون في هذا الاصطفاء تفاضلًا عظيمًا، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم حيث يجعلُ رسالاته، وهو أعلم حيث يجعل فضله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } (2) .   (1) - سورة القصص آية: 68. (2) - سورة النساء آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فجدير بالعاقل أن يشكر ما مَنَّ الله به عليه مِن نعمة الإسلام ونعمة محبة الخير، فإن محبَّة الخير محبَّة العلم والعمل الصالح، هذا من فضله -سبحانه- الذي يتفضل به على مَن يشاء، ويمنُّ به على مَن يشاء، ولهذا قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) } (1) فاشكروا الله أيها الأحباب أوصيكم ونفسي بشكره -سبحانه وتعالى- على ما أولانا، وتفضَّل به، علينا فكما هدانا للإسلام، نسأله -تعالى- أن يُتِمَّ علينا هذه النعمة، أن يُتِمَّ علينا نعمة الإسلام بنعمة الاستقامة على هداه وصراطه المستقيم، وأن يستعملنا في الإسلام بطاعته حتى نكون محققين لإسلامنا قائمين بحق الله علينا.   (1) - سورة الحجرات آية: 7-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ومن الدعاء الذي أثنى الله به على مَن وفَّقه وذكره عن بعض أنبيائه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) } (1) فجزى الله القائمين على هذه الدورة وهذه البرامج المباركة، وجزى الله المشاركين فيها، جزى الله الجميع خيرًا، وإنَّ مِن أهم ما نتواصى به في هذه المناسبة أن نجتهد في إخلاص العمل، فإنَّ إخلاص العمل هو أساس صلاحه {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) } (2) فالعمل الصالح منه طلب العلم يقوم على أصلين: الإخلاص فيه لله، والمتابعة فيه للرسول -عليه الصلاة والسلام-. فالعمل الصالح هو ما تحقق فيه هذان الأمران، فالأول هو مقتضى شهادة: أن لا إله إلا الله، والثاني هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله. فإخلاص العمل هو أساس صلاحه، وبه يصير العمل عبادة لله، وتعلُّم العلم هو مِن العمل الصالح ومن العبادة لله -سبحانه وتعالى- وتعلُّم العلم هو الذي تنبني عليه سائر الأعمال؛ فإنَّ الأعمال الشرعية لا تستقيم ولا تصح ولا تصلح إلا بالعلم، لا بد أن تكون مبنية على العلم، فالعلم ضروري لتصحيح الاعتقادات وتصحيح الأعمال، وهذه هي النعمة العظيمة التي فضَّل بها -سبحانه وتعالى- من شاء مِن عباده، وهي نعمة العلم والعمل العلم النافع والعمل الصالح.   (1) - سورة الأحقاف آية: 15. (2) - سورة البينة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) فالمنعَم عليهم هم الذين عرفوا الحق، عرفوه وتعلموه وتبصروا فيه، والحق إنما يُعرَف بتدبر كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-. هم الذين عرفوا الحق واتبعوه، واتباع الحق هو العمل امتثالًا للمأمورات، واجتنابًا للمنهيات وإيقانًا بالعلوم الصحيحة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } (2) وهذه هي النهاية وهذه هي العاقبة. الهدى والفلاح، فالمؤمنون المتقون المستقيمون هم أهل الهدى والفلاح. فأهل الهدى والفلاح هم الذين جمعوا بين العلم والعمل بين العلم الصحيح إيمانًا بالله ورسوله وكتبه ورسله واليوم الآخر وعملوا الصالحات وأعظم الأعمال الصالحات هي الصلوات الخمس. أعظم الأعمال الصالحة بعد الشهادتين هي الصلوات الخمس، ولهذا يقدمها -سبحانه وتعالى- في الذكر عند ذكر الأعمال الصالحة، كما قال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) } (3) إلى أن قال في ختام صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } (4) .   (1) - سورة الفاتحة آية: 7. (2) - سورة البقرة آية: 2-5. (3) - سورة المؤمنون آية: 1-2. (4) - سورة المؤمنون آية: 9-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أيها الأخوة في الله لعلَّ هذه المقدمة فيها ذكرى، نسأله -تعالى- أن يجعلنا وإياكم ممَّن ينتفع بالذكرى، وأن ينفعنا بكتابه وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ومعلوم حسب ترتيب البرامج أن لنا في هذا الوقت على قِصَرِه درسين، وإن كان ذهب هذه الليلة قسطٌ من أن لا يتسع للجمع بينهما، فهذان الدرسان أحدهما في أحاديث الأحَكْام، والثاني في العقيدة، وهذان الدرسان مرتبطان بما سبقت الإشارة إليه من أن دين الإسلام والعلم الذي جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- يشمل أمورًا اعتقادية وأمورًا عملية. فدرس العقيدة هذا يتصل بمسائل الاعتقاد، ودرس أحاديث الأحْكَام في (عمدة الأحْكَام) يتصل بمسائل الاعتقاد، ودرس أحاديث الأحكام في عمدة الأحكام يتصل بالنواحي العملية، ولعلنا نبدأ. عقيدة الفرقة الناجية أصول الإيمان قال المصنف -رحمه الله تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } (1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا، أما بعد.. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة -أهل السنة والجماعة-، وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره" "الحمد لله" هذه افتتاحية في العقيدة الواسطية من تأليف الإمام الكبير الشهير بعلمه وجهاده وإحيائه للسنن ومحاربته للبدع: الإمام المعروف أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني -رحمه الله-. يقول في هذا الكتاب الموصوف بالعقيدة الواسطية نسبة إلى من طلب من الشيخ كتابتها، وهو رجل من أهل العلم في نواحي "واسط" بلد معروفة في شمال العراق "واسط"، فعرفت بالعقيدة الواسطية.   (1) - سورة الفتح آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولا مشاح في التسمية؛ فالمقصود التمييز، كما أن لشيخ الإسلام مؤلفات كثيرة في مسائل الاعتقاد، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن معظم مؤلفات شيخ الإسلام في مسائل الاعتقاد. فقد ألف في مسائل الاعتقاد مؤلفات مطولة ومختصرة، ومعظمها ألفها إجابة للسائلين، فهو كما ذكر عن نفسه: لا يكاد يبتدئ التأليف ابتداء، بل جُل مؤلفاته إجابة لمسائل، وردود على المخالفين، ومن أمتع وأفضل ما ألف في الاعتقاد هذه العقيدة: "العقيدة الواسطية" التي ذكر أنه كتبها وهو قاعد بعد العصر، كتبها في مجلس واحد. وقد نوظر في شأنها وجودل؛ لأنه قرر فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة من السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، ومن سلك سبيلهم. وهذا يخالف ما عليه جمهور الناس من العلماء والعامة، فجمهور الناس وكثير من الناس قد دخلت عليهم المذاهب المبتدعة؛ فلذلك ينكرون ويستنكرون ما يخالف ما هم عليه. وقد أبان -رحمه الله- في المناظرة التي كتبها، وبين أنه إنما يقرر في هذا الاعتقاد ما دل عليه الكتاب والسنة، وما درج عليه أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين، وأنه في هذه العقيدة يتحرى الألفاظ الشرعية، فارجعوا إلى هذه المناظرة في مجموع الفتاوى، في المجلد الثالث صفحة مائة وستين وما بعدها. وهذه العقيدة متميزة -كما قلت- على سائر ما ألفه -رحمه الله-؛ فإن كثيرا مما ألفه في مسائل الاعتقاد يشتمل على ذكر شبهات المغترين+، ومناقشتها مناقشة عقلية وشرعية، كما هو ظاهر في "الرسالة التدمرية". أما العقيدة الواسطية فإنها خالصة، فيها تقرير لمعتقَد أهل السنة والجماعة وبيان أصولهم، مع التبرير على ذلك من القرآن ومن السنة، من غير تعرض لشبهات المخالفين، ومن غير تطويل لمناقشتها؛ فلذلك كانت هذه العقيدة جديرة بالحفظ. وقد عرض فيها لأكثر المسائل التي وقع فيها الافتراق بين فرق الأمة، أكثر المسائل التي خالف فيها أهل السنة سائر فرق الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 يقول -رحمه الله- في خطبة هذه الرسالة أو هذه العقيدة: "الحمد لله {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } (1) وهذا مقتبس من القرآن؛ فإنه تعالى قال في غير موضع: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} (2) بل قال في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } (3) . وتقدم في الليلة الماضية ذكر المراد بالهدى ودين الحق، وأن الهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وأن هذا جماع رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } (4) "كفى بالله": كفى به مطلعا على عباده، وأحوالهم الظاهرة والباطنة. وفي هذا إشارة إلى دليل من أدلة صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن الإيمان باطلاعه تعالى على أحوال الخلق يستلزم الإيمان بصدق محمد -عليه الصلاة والسلام- كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) } (5) . فكفى دليلا على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدق ما جاء به من القرآن والحكمة، كفى دليلا على ذلك أنه تعالى على كل شيء شهيد {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) } (6) . "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا": وهذه كلمة التوحيد المركبة من نفي وإثبات، من نفي إلهية ما سوى الله، وإثبات الإلهية له تعالى وحده.   (1) - سورة الفتح آية: 28. (2) - سورة التوبة آية: 33. (3) - سورة الفتح آية: 28. (4) - سورة الفتح آية: 28. (5) - سورة فصلت آية: 53. (6) - سورة الفتح آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده": فوحده هذه حال مؤكدة لمدلول الإثبات ومدلول الاستثناء "إلا الله". "لا شريك له": هذه أيضا جملة مؤكدة لمدلول النفي "لا إله". "لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا" وهذا تأكيد بعد توكيد: إقرارا به وتوحيدا له -سبحانه وتعالى- في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته. "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله": وهكذا يجب أن يشهد الإنسان للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عبد الله ورسوله، يجب أن نجمع في الشهادة للرسول -عليه الصلاة والسلام- بأنه عبد عابد لله مربوب مدبَّر، ليس بإله، وليس له شيء من خصائص الإلهية، وهو رسول من عند الله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) . وهذا هو الصراط المستقيم: الشهادة بأن محمدا عبد الله ورسوله هو الصراط المستقيم فيما يجب اعتقاده في الرسول -عليه الصلاة والسلام-. فإن الناس في الرسول -عليه الصلاة والسلام- طرفان ووسط، فمن الناس من فرط في حقه فكذبه أو قصَّر في الإيمان برسالته - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم من غلا فيه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، وهذا ما حذر منه -عليه الصلاة والسلام- في قوله: " لا تطروني " -يعني لا تبالغوا في مدحي ولا تغلوا فيَّ- " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الصراط المستقيم: هو الشهادة بأنه عبد الله ورسوله. "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" - صلى الله عليه وسلم - كما في التشهد، "صلى الله عليه"، وهذه صفة صلاتنا عليه: أن نسأل الله أن يصلي عليه، كما قال -عليه الصلاة والسلام- لما قال له الصحابة: " كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ".   (1) - سورة الأعراف آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فصلاتنا على الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو دعاؤنا وسؤالنا الله بأن يصلي عليه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } (1) . وأحسن ما قيل في هذا المقام: إن الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملائكة، ولنبينا -عليه الصلاة والسلام- من ثناء الله أكمل ما أثنى الله به على عبد من عباده؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- هو سيد ولد آدم، فحظه من صلاة الله ومن ثناء الله هو أوفر حظ ونصيب. "وعلى آله وصحبه": والآل هنا هم أتباعه -عليه الصلاة والسلام-، وعطف الصحابة على الآل في هذا المقام من عطف الخاص على العام، وقد درج أهل السنة على ذكر الصحابة في الصلاة على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يعني خارج الصلاة، أما في الصلاة فيتقيد بما ورد، بنص ما ورد: "وعلى آله وصحبه وسلم". هذا كله دعاء له -عليه الصلاة والسلام- بأن يصلي الله عليه، وأن يسلم عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } (2) وصلاتنا عليه وسلامنا عليه بأن نسأل الله بأن يصلي عليه، وأن يسلم عليه، ومن صفة السلام ما جاء في التشهد: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ". هذه هي الخطبة، فقد اشتملت هذه الخطبة على حمد الله، فله الحمد كله، له المدح والثناء كله؛ لأنه الموصوف بجميع المحامد، الموصوف بكل كمال، فلا يستحق الحمد كله والثناء كله إلا المستحق لكل كمال، الموصوف بجميع نعوت الجلال، وليس ذلك إلا الله وحده، فهو الذي له الحمد كله، له الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله -سبحانه وتعالى-.   (1) - سورة الأحزاب آية: 56. (2) - سورة الأحزاب آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 يقول الشيخ -رحمه الله-: "صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم": يعني وسلم الله عليه، "وسلم تسليما": هذا مصدر مؤكد، "وسلم تسليما مزيدا": تسليما موصولا بالزيادة مستمرا دائما. "وسلم تسليما مزيدا أما بعد": وأما بعد هذه جملة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الشروع في المقصود، وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يقول في خطبه: أما بعد، ومعناها عند أهل اللغة "أما بعد": يعني مهما يذكر من شيء بعد فهو كذا وكذا. "أما بعد فهذا اعتقاد": "فهذا": إشارة إلى ما هو حاضر مما سيذكره الشيخ في هذه العقيدة، "فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة" بهذا يتبين أن الشيخ قصد في هذا التأليف إلامَ؟ إلى بيان اعتقاد الفرقة الناجية، إلى ما يعتقدونه في ربهم، إلى بيان ما يعتقدون مما أمر الله بالإيمان به. "فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة": ووصفها بالصفتين، ووصفها بالناجية والمنصورة أخذا من حديث افتراق هذه الأمة، كما في الحديث المشهور المروي في المسانيد والسنن: " أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " هذه هي الفرقة الناجية " قيل من هي يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وفي لفظ " وهي الجماعة " الفرقة الناجية. فالفرقة الملتزمة بما كان عليه الرسول -عليه الصلاة والسلام- توصف بأنها الناجية أخذا من هذا الحديث؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: " كلها في النار إلا واحدة ". وهي المنصورة أيضا، فهي موصوفة بالنجاة وبالنصر أخذا من قوله -عليه الصلاة والسلام-: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 هذه هي الطائفة أو الفرقة الناجية المنصورة، وهم الفرقة الناجية المنصورة، هم أهل السنة والجماعة الذين التزموا طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما عليه جماعة المسلمين، واعتصَموا بحبل الله جميعا، وجانبوا الفُرقة وأسبابها، أهل السنة والجماعة هذا اعتقادهم، "فهذا اعتقاد الفرقة": الفرقة والطائفة معناهما متقارب، "فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة". ثم بين الشيخ هذا الاعتقاد إجمالا بقوله: "وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره". هذه هي أصول الإيمان التي فسر بها النبي الإيمان، كما في حديث جبريل حين سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: أخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره " هذه أصول الإيمان الستة، فجميع مسائل الاعتقاد راجعة إلى هذه الأصول. إذن هذا هو اعتقاد الفرقة الناجية على سبيل الإجمال، وهذا الاعتقاد بالإيمان بهذه الأصول على سبيل الإجمال، هذا فرض عين على كل مكلف أن يؤمن بهذه الأصول إيمانا مجملا، هذا فرض عين الإيمان بالله. والإيمان بالله يشمل ثلاثة أمور: (1) الإيمان به ربا يعني مالكا مدبرا منعما متفضلا خالقا رازقا. (2) والإيمان به إلها معبودا لا يستحق العبادة غيره. (3) والإيمان به مستحقا لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فالإيمان بالله يشمل الإيمان بربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته على سبيل الإجمال. "الإيمان بالملائكة": لا بد من الإيمان بالملائكة كما أخبر الله عنهم في كتابه، الإيمان بأنهم مخلوقون موجودون، عباد مكرمون، خيار اختارهم الله، واصطفاهم وفضلهم، وجعلهم عبادا طائعين خاضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} (1) في هذا رد على من زعم أن الملائكة بنات الله فجعلوهم ولدا لله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) } (2) . {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (38) } (3) في الآية الأخرى {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (206) } (4) . والآيات في ذكر الملائكة وصفاتهم وعبادتهم لربهم ودوام خضوعهم وتسليمهم كثيرة، فهم عباد، ليسوا آلهة {* وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) } (5) وحاشا أن يقول أحد منهم ذلك فهم معصومون. الإيمان بالكتب -وهو الأصل الثالث- يتضمن الإيمان بكل ما أنزله الله من كتبه على من شاء من رسله، ما علمنا منها وما لم نعلم، يجب أن نؤمن بأن الله أنزل كتبا على من شاء من رسله، منها: التوراة، والإنجيل، والزبور، وأعظم كتب الله هو هذا القرآن أعظم كتب الله. والأصل الرابع: الإيمان بالرسل، فيجب الإيمان برسل الله إجمالا، يجب على كل مكلف أن يؤمن برسل الله، وأن الله أرسل إلى عباده رسلا يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويحذرون من عبادة ما سواه، يدعون إلى كل خير، ويحذرون من كل شر.   (1) - سورة الأنبياء آية: 26. (2) - سورة الأنبياء آية: 26-28. (3) - سورة فصلت آية: 38. (4) - سورة الأعراف آية: 206. (5) - سورة الأنبياء آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقد سمى الله من شاء منهم في كتابه، وذكر أنه قص منهم ما قص، وطوى علم آخرين {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (1) . وهكذا الأصل الخامس: وهو الإيمان باليوم الآخر، ويعبر عنه بالبعث؛ لأن البعث هو الذي يكون به الانتقال من دار البرزخ إلى الدار الآخرة، البعث بعد الموت، فيجب الإيمان بهذا الأصل، فهو أصل من أصول الإيمان. وهذه الأصول الله تعالى يذكرها مجتمعة في بعض الآيات، أو يذكر جملة منها، ويذكرها في مواضع متفرقة، كما قال -سبحانه وتعالى-: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (2) . وقال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) } (3) . والإيمان بالقدر يندرج في الإيمان بالله، وله أدلة مفصلة في القرآن، ومنها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) } (4) . ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) } (5) .   (1) - سورة النساء آية: 164. (2) - سورة البقرة آية: 177. (3) - سورة البقرة آية: 285. (4) - سورة القمر آية: 49. (5) - سورة الحج آية: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومنها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } (1) . ويأتي الكلام في بعض هذه الجوانب مفصلا، فيما ذكره الشيخ في هذه الرسالة. فهذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة على سبيل الإجمال، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية، اعتقادهم على سبيل الإجمال، أو اعتقادهم إجمالا ما هو؟ إذن نقول: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، أو البعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره. هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة على سبيل الإجمال، فهذه أركان الإيمان، أو أصول الإيمان، وكما قلت لكم: إن جميع مسائل الاعتقاد يرجع إلى هذه الأصول الستة.. نعم. الإيمان بما وصف به الله تعالى نفسه في كتابه "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) . فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه -سبحانه وتعالى-؛ فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه". بعدما ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة إجمالا، شرع في ذكر اعتقادهم تفصيلا، فقال: "ومن الإيمان بالله": مما يدخل في الإيمان بالله "الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.   (1) - سورة الحديد آية: 22. (2) - سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما صح من سنته، هذا هو من الإيمان بالله -كما تقدم هذا-. والإيمان بذلك يكون بإثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله، وبنفي ما نفاه الله عن نفسه ونفاه عن رسوله. يكون الإيمان بهذا بإثبات وبنفي، يقول الشيخ: "من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل". يصفون الله، يؤمنون بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، من غير تحريف، يعني من غير تحريف للنصوص عن وجهها، ومن غير تحريف للكلم عن مواضعه، وهو ما ذم الله به أعداءه اليهود {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (1) . والتحريف معناه العام: التغيير، وهو يشمل التغيير اللفظي أو التغيير المعنوي، فالتحريف اللفظي يكون بالزيادة على النص، أو النقص منه، أو تغيير الشكل. فلا يجوز تحريف النصوص، ولا سيما آيات القرآن، فآيات القرآن يجب الالتزام بلفظها، فلا تغيير زيادة ولا نقص، ولا تغيير شكل. وكذلك سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يجوز تغيير لفظها بما يستلزم تغيير معناها، فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، بل يجب إجراء النصوص على ظاهرها. "ومن غير تعطيل": من غير تعطيل لأسماء الرب وصفاته -نفيها-، تعطيل أسماء الرب وصفاته، أو تعطيل الرب عن صفات كماله، إنما يكون بجحدها ونفيها، مأخوذ التعطيل من العطل بمعنى الخلو، يعني إخلاء الرب عما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله. فالمعطلة ينفون ما أثبته الله لنفسه، ينفون ما وصف الله به نفسه، وما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فيعطلون الرب عن كماله المقدس، ينفون استواءه على عرشه، ينفون حقيقة اليدين، كما سيأتي مفصلا.   (1) - سورة النساء آية: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 "ومن غير تكييف أيضا": أي من غير بحث عن كيفية صفات الرب، ولا تعرض لتحديد كنه صفاته، فأهل السنة والجماعة يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله، من غير تحريف لنصوص الكتاب والسنة، ولا تعطيل للنصوص عما دلت عليه، ولا تعطيل للرب عما يجب إثباته له، ولا تكييف لصفاته، ولا تمثيل لصفاته بصفات خلقه. إذن اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات قائم على الإثبات والنفي، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها له تعالى عن كل نقص وعيب، بلا تعطيل، خلافا لأهل الضلال، الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا صفاته بصفات خلقه، فيقول قائلهم: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيَدي، وخلافا لمن غلا في التنزيه، حتى سلب الله صفات كماله، زعما منه أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه. فلهذا كان مذهب أهل السنة والجماعة بريئا من التشبيه، وبريئا من التعطيل، فلا ينفون ما وصف الله به نفسه، ولا يحرفون الكلم -أعني أهل السنة- ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته. فإن الله ذم الملحدين في أسمائه كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) } (1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (2) والإلحاد في أسماء الله يكون بنفيها، أو بنفي معانيها، أو بتسمية الله بغير ما سمى به نفسه، أو بتسمية بعض المخلوقين بما هو من خصائصه -سبحانه وتعالى-. يقول الشيخ -رحمه الله-: "ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه": كل هذا تأكيد لما سبق، وأن مذهب أهل السنة والجماعة بريء من هذه الأباطيل: بريء من التعطيل، بريء من الإلحاد، من التكييف، من التحريف، من التمثيل.   (1) - سورة الأعراف آية: 180. (2) - سورة فصلت آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ فإنه -سبحانه وتعالى- لا سَميَّ له، ولا نِد له، ولا كفو له، وهذا كله منفي في كتابه {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (1) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } (3) . والسمي والكفو والند ألفاظ متقاربة، كلها تفسر بالمثيل والنظير، فهو -سبحانه وتعالى- لا مثيل له من خلقه، ولا نظير له من خلقه، لا سمي، ولا كفؤ، ولا ند، ولا يقاس بخلقه -سبحانه وتعالى-. وهو أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه، هو أعلم بنفسه، نعم، كما قال المسيح -عليه السلام-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) } (4) فهو أعلم بنفسه. فالعباد لا سبيل لهم إلى معرفة أسمائه وصفاته إلا ببيانه وتعريفه وتعليله سبحانه، فهو أعلم بنفسه وبغيره، نعم هو أعلم؛ لأن علمه محيط بكل شيء، وهو تعالى أصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (5) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (6) . فإذا كان تعالى هو أعلم بنفسه، وهو أصدق الصادقين، فكيف يُكَذَّب ما أخبر به في كتابه وعلى لسان رسوله؟ كيف لا يُثْبَت ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله؟.   (1) - سورة مريم آية: 65. (2) - سورة الإخلاص آية: 4. (3) - سورة البقرة آية: 22. (4) - سورة المائدة آية: 116. (5) - سورة النساء آية: 122. (6) - سورة النساء آية: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فالمعطلة قد كذبوا ما أخبر الله به ورسوله من أسمائه تعالى وصفاته، وهو تعالى أصدق الصادقين، وهو أعلم بنفسه سبحانه، وكأن هؤلاء الذين جحدوا ما وصف الله به نفسه كأنهم ادعوا لأنفسهم أنهم أعلم بالله من الله، وأعلم بالله من رسول الله، وهذا من أبطل الباطل، وأسفه السفه، وأعظم الجهل، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (1) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (2) . ما يجب في صفاته تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } (3) . فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات. فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) .   (1) - سورة النساء آية: 122. (2) - سورة النساء آية: 87. (3) - سورة الصافات آية: 180-182. (4) - سورة الإخلاص آية: 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. بعدما ذكر الشيخ -رحمه الله- ما يجب في صفاته تعالى، وأن الواجب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وأن هذا من الإيمان بالله، وأن هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة. فمن طريقة أهل السنة والجماعة، أو طريقة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، أو صفه به رسوله، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، فلا ينفون ما وصف الله به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يشبهون صفاته بصفات خلقه. هذا هو منهجهم: يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، ويعتمدون في ذلك على كتاب الله، وما بيّنه -سبحانه وتعالى-، يعتمدون في ذلك على الكتاب إيمانا بالله، وإيمانا بكتابه. ولهذا قال الأئمة في بعض الصفات: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب. إن الإيمان به هو حقيقة تصديق الله، وتصديق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو مقتضى الإيمان بالله ورسوله وكتابه. يقول الشيخ بعدما ذكر هذا: "ثم رسله صادقون مصدقون": الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم جاءوا -في باب الأسماء والصفات وغيره- جاءوا بالحق المبين، فقولهم هو الحق، وما جاءوا به هو الحق الذي يجب الإيمان به والالتزام به.   (1) - سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 "ثم رسله صادقون": نعم رسل الله صادقون، بل هم أصدق الناس، الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم أصدق الناس؛ لأنهم قد اصطفاهم الله لتبليغ رسالاته، ولا يصطفي -سبحانه وتعالى- لتبليغ رسالاته وتبليغ شرائعه إلا الصادقين. "ثم رسله صادقون مصدقون": في بعض النسخ "مصدوقون"، "مصدقون" نعم الرسل صادقون في كل ما يخبروننا به، معصومون من الكذب -عليهم الصلاة والسلام-. وهم مصدقون، فالله تعالى يصدقهم، يقيم الأدلة على صدقهم، يقيم الخوارق الدالة على صدقهم، ويشهد بصدقهم في كلامه: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) } (1) {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) } (2) في الآية الأخرى. وهم مصدقون عند الموثقين مصدقون، بل إن أعداء الله الكفرة هم مصدقون للرسل في الباطن كما قال -سبحانه وتعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) } (3) وكما قال عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (4) فلا يكذب الرسل ظاهرا وباطنا إلا من لا عقل له، يعني ما عنده. أما العقلاء فإنهم -وإن جحدوا ظاهرا عنادا وحسدا وكبرا وما إلى ذلك- فهم مصدقون لهم في الباطن، وإن كان هذا التصديق لا ينفعهم، من صدَّق الرسل في الباطن وأظهر تكذيبهم فهو الكفور، لا ينفعه تصديقه في الباطن. أما معنى "مصدوقون": المصدوق هو المخبَر بالصدق، الصادق ما هو الصادق؟ هو المخبِر بالصدق، والمصدوق هو المخبَر بالصدق.   (1) - سورة يس آية: 1-3. (2) - سورة النمل آية: 79. (3) - سورة الأنعام آية: 33. (4) - سورة النمل آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فالرسل صادقون لأنهم قد أَخبروا بالصدق، وهم مصدوقون لأنهم مخبَرون بالحق، فهم يتلقون علومهم وما يبلغونه يتلقونه عن مَن؟ يتلقونه عن الله بواسطة وحيه، وبواسطة رسوله من الملائكة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (1) {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) } (2) . إذن فما قالته الرسل في الله هو الحق نفيا وإثباتا، ولصدق الرسل، وأن ما قالوه وما يقولونه في رب العالمين أنه هو الحق، قال -سبحانه وتعالى-: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } (3) . فسبح نفسه -سبحانه وتعالى- عما يصفه به الجاهلون والمفترون والمشركون، الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، سبح نفسه عما يصفون به، "سبحان" هذه الكلمة تدل على التنزيه على النفي {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} (4) سبحانه أن تكون له صاحبه، سبحانه أن ينام " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام " سبحانه عما يشركون. "سبحان": دائما سبحان هذه فيها دلالة علامَ؟ على التنزيه، على النفي، على نفي المعائب والنواقص والنقائص. وسلَّم على المرسلين، سلام من الله على رسله {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) } (5) وإنما سلَّم عليهم لأنهم أولياؤه الصادقون فيما أخبروا به عنه، المحقون فيما يصفون به ربهم؛ ولهذا يقول الشيخ: وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب ومن الشرك والإفك.   (1) - سورة الحاقة آية: 40. (2) - سورة التكوير آية: 20. (3) - سورة الصافات آية: 180-182. (4) - سورة النساء آية: 171. (5) - سورة الصافات آية: 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } (1) ثناء من الله على نفسه بإثبات الحمد كله له؛ لما له -سبحانه وتعالى- من الأسماء والصفات، من الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وبديع المخلوقات {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } (2) . فهذه الآيات فيها تنزيه وتحميد وتمجيد، وثناء على المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، فالرسل هم الأئمة، وهم القدوة، ولنا فيهم أسوة، ولا سيما نبينا خاتم النبيين -عليه الصلاة والسلام-، لنا فيهم أسوة، وسبيلنا سبيلهم. يقول الشيخ: "وقد جمع -سبحانه وتعالى- فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات": يعني وصف الله لنفسه، وكذلك وصف الرسول لربه فيه نفي وفيه إثبات، فيه نفي وإثبات. المدح يكون بماذا؟ يكون بالإثبات فقط أم بالنفي فقط؟ لا، يكون بالنفي وبالإثبات، يكون بإثبات الفضائل والكمالات، وبنفي النقائص والآفات. فالمدح يكون بنفي وإثبات؛ ولهذا جمع الله فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فهذه قاعدة قررها شيخ الإسلام في غير موضع، واعتبرها قاعدة: أن الله موصوف بالإثبات والنفي. بإثبات ماذا؟ بإثبات الكمالات ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى، وبنفي المعائب والنقائص والآفات، فهو السلام وهو القدوس. نعم "يقول الشيخ: "فلا عدول لأهل السنة عما جاءت به المرسلون": أهل السنة الفرقة الناجية المنصورة، لا محيد لهم ولا عدول لهم عن طريق الرسل، لا عدول لهم عن سبيل المرسلين.   (1) - سورة الصافات آية: 182. (2) - سورة الصافات آية: 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وقال لنبيه -سبحانه وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (2) بعدما ذكر الأنبياء والمرسلين إجمالا وتفصيلا قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (3) {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (4) فلا عدول لأهل السنة عما جاءت به المرسلون. فالصحابة والتابعون ماضون على سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (5) وسبيل الرسول هو سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } (6) . وما جاء به المرسلون في صفاته تعالى وغيرها هو الصراط المستقيم. قال الشيخ: "فإنه الصراط المستقيم": ما جاء به المرسلون هو الصراط المستقيم، الصراط هو الطريق الذي يجمع معانٍ، ليس كل طريق هو صراط. الصراط هو الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية، الواسع، المسلوك، الواضح، هذه خمسة معان لا يكون الطريق صراطا إلا أن تكون متوفرة فيه. هذا معنى ما ذكره ابن القيم في بيان خصائص الصراط في كلامه على سورة الفاتحة في مدارج السالكين، فالصراط هو الطريق الواضح البين المستقيم، الموصل إلى الغاية، المسلوك.   (1) - سورة يوسف آية: 108. (2) - سورة الأنعام آية: 90. (3) - سورة الأنعام آية: 90. (4) - سورة الأنعام آية: 90. (5) - سورة يوسف آية: 108. (6) - سورة النساء آية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وصراط الله مسلوك أم مهجور؟ مسلوك. من سالكوه؟ المُنعَم عليهم. نعم، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) صراط {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } (2) . ما جاء به المرسلون هو الصراط المستقيم، ولا عدول لأهل السنة والجماعة عن الصراط المستقيم، فالصراط المستقيم هو صراط المُنعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأهل السنة هم داخلون في هذا الطريق، في المُنعَم عليهم على حسب مراتبهم في العلم والدين والفضل. ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسله. الحمد لله. أسئلة س: السؤل الأول: هذه سائلة تقول: يوجد بعض طالبات العلم يحضرن دروس هذه الدورة، وقد أوشكت إحداهن بأن تأتيها الدورة الشهرية، فهل تحضر للحلقات أم لا؟. ج: تحضر بالطريقة الممكنة، يعني إن أمكن إن كان هناك مكان خارج المسجد، أو تكون مع محرمها أو صديقاتها في السيارة، تسمع بواسطة المكبر، أما أن تجلس في المسجد فلا، وقصدها لحضور هذه الحلقات لا يبرر ولا يبيح لبثها في المسجد، وإن لم يتيسر لها الحضور بالطريقة المشار إليها فنيتها إن شاء الله تبلغ مبلغ عملها. نعم. س: يقول: أتيت من خارج الرياض لحضور دروس هذه الدورة، فهل لي حكم المسافر؟. ج: هذه المسألة خلاف بين أهل العلم في المدة التي إذا عزم المسافر فيها الإقامة يصير في حكم المقيم، أو يثبت له حكم المقيم، مسألة خلاف قوي وواسع. والذي عليه الفتوى -وهو قول جمهور أهل العلم- أن المسافر إذا عزم على أن يقيم أكثر من أربعة أيام فإنه يتم، وهذا هو المنطبق على حالة الأخوة، فإذا كنت قدمت وأنت عازم على أن تواصل كل هذه المدة -نصف شهر مثلا- فعليك أن تتم الصلاة.   (1) - سورة الفاتحة آية: 7. (2) - سورة النساء آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وهذا لا يَرِد إلا إذا قُدر أنك صليت يعني تخلفت أو تأخرت فصليت وحدك أو مع رفاقك، أما إذا صليت في المسجد مع الجماعة -كما هو الأصل والواجب- فلا يرد عليك هذا السؤال؛ لأن المسافر إذا صلى خلف المقيم فالسنة أن يتم، عليه أن يتم، يتم الصلاة إذا صلى المسافر خلف المقيم، فالسنة في حقه إتمام الصلاة. نعم. س: صيام التطوع؟ لا حرج، صيام التطوع الأمر فيه واسع، المسافر يصوم الفرض والتطوع. نعم. س: يقول: لو وقعت الملابس أو لامست اليد جلد الكلب، فهل يتوجب غسلها؟ أعد.. إذا لامست الملابس أو مست اليد جلد الكلب، فهل يتوجب غسلها؟. ج: أما إذا لم تكن هناك رطوبة فلا يجب غسلها من نجاسة؛ لأن الرطوبة هي التي يحصل بها انتقال النجاسة، أما لو قدر أنه مَسَّ جلده وهو يابس، أو مرَّ من عنده ومس ثوبه وليس هناك رطوبة فلا نجاسة. نعم. س: هل يقاس الخنزير على الكلب فيما يتعلق بالحكم الشرعي المتعلق بإزالة النجاسة؟. ج: هكذا قاسه بعض الفقهاء، قاس الخنزير على الكلب، والله أعلم بالصواب. نعم. س: ما حكم الزيادة في الوضوء على ثلاث مرات؟. ج: لا تجوز الزيادة في غسل الأعضاء على ثلاث مرات، وليس المراد بثلاث مرات يعني ثلاث غرفات، قد تقصر الغرفة عن الغسلة فيحتاج إلى أن يأخذ شيء أو زيادة ماء. الغسلات أن يغسل العضو ثلاث مرات، فقد تحصل الغسلات الثلاث بثلاث غرفات -وهو الغالب-، وقد يحتاج إلى أكثر من ثلاث غرفات لتحقيق الغسلات الثلاث. أما أن يغسل العضو أكثر من ثلاث مرات فهذا لا يجوز؛ لأنه من الإسراف في الوضوء، وفيه تعدٍ لهدي الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وخير هديٍ هديُ محمد عليه الصلاة والسلام. نعم. س: هل وردت رواية في مسح الرقبة؟. ج: والله لا يحضرني الآن. نعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 س: وهذه شبهة يثيرها أحد الأخوة يقول: ألاحظ ويلاحظ غيري كثيرا من طلبة العلم أن دروس العقيدة عامة تبدأ وتنتهي، ولا يخرج طالب العلم بكثير فائدة من هذه الدروس؛ لأن غالب ما يكون فيها هي أمور قد تقررت في النفوس، وفطر الإنسان على معرفتها، وتركزت في عقيدته، فهل هذا صحيح؟ وأن دراسة العقيدة يستفيد منها طالب العلم في الرد على المخالفين فقط؟. ج: هذا كلام غير صحيح، وكل ما ورد في هذا السؤال هو دعوى -أعني من يقول إن حضور دروس العقيدة يخرج بها الحاضرون بغير فائدة- هذه دعوى يمكن أن ننسبها لمن ادعاها، نقول: أنت الذي تخرج بغير فائدة؛ لأنه قد استقر في ذهنك عدم الحاجة إلى هذه الدروس، وإلَّا فمسائل الاعتقاد هي أصل لمسائل العمل. كيف ومسائل الاعتقاد هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذه أصولها، وأول ذلك الإيمان بالله، ومسائل الاعتقاد التي تطرح وتشرح يعني أعظمها وأهمها ما يتعلق بالله، بأسمائه وصفاته. فهذه سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) } (1) هذه الآيات الأربع جمعت على سبيل الإجمال والاختصار كل المسائل المتعلقة بمعرفة الله -سبحانه وتعالى-، فقد اشتملت هذه الآيات على التوحيد بأنواعه الثلاثة. ثم قول القائل: إن هذه المسائل استقرت في النفوس. ما الذي استقر في النفوس؟ نعم إن كان المقصود استقرار أصل العقيدة إجمالا نقول نعم في الجملة، هذا في الجملة. نعم، نقول: استقر في نفوس المسلمين في الجملة، وكلمة استقر هذه كلمة تحتاج إلى أسباب. "استقرار" معناها التمكن والثبات، وهذا لا يتحقق إلا لمن توفر له معرفة الحق بدليله، وانزاحت عنه شبهات الباطل.   (1) - سورة الفاتحة آية: 2-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 إن العامي لو خطر بقلبه -أو نقول العادي- كم يخطر بقلبه خواطر لا يميز بين الحق من الباطل فيها، وربما ولّدت عنده أفكار. ثم إن الأفكار البدعية والأقوال المخالفة قد استشرت، وانتشرت في عقول المسلمين -في عقول كثير من المسلمين-، وفي المؤلفات في سائر العلوم. ولا مخرج ولا مخلص إلا بدراسة العقيدة على ضوء من كتاب الله، وسنة رسوله، وبمعرفة -كذلك- ما درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين في هذا المقام، فهذه الشبهة -في الحقيقة- إما لا تصدر إلا عن غالط جاهل، أو إنسان مغالط مشبه مضلل. نعم. س: وهذا السائل يقول: ما رأيك فيمن يقول: إن الأفضل التنوع، يعني غسل بعض الأعضاء مرة مرة، وبعضها مرتين مرتين، وبعضهما ثلاثا ثلاثا؟. ج: نعم, نقول ينبغي أن ينوع المسلم أسوة بالنبي -عليه الصلاة والسلام- يعني أقول: ليس من السنة أن تلتزم غسل أعضائك ثلاثا دائما، لا نقول: إن هذا أفضل أن تغسل أعضاءك دائما ثلاثا، بل الأفضل أن تتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وتنوع، وإن كان الغالب الغسل ثلاثا، لكن أقول: إن الأفضل أن ينوع الإنسان الوضوء أسوة بالنبي -عليه الصلاة والسلام-.. نعم. س: ++ … … … . ج: ممكن لا حرج لو غسل بعض أعضائه ثلاثا وبعضها مرتين وبعضهما مرة لا حرج فيه. نعم. س: ما حكم الصلاة خلف الصف مع صبي أظنه لم يبلغ؟ ج: الصبي الذي لم يبلغ الصحيح أنه تحصل به المصافة وتتم به المصافة، فقد صلى أنس - رضي الله عنه - واليتيم خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " صلى بنا النبي -عليه الصلاة والسلام- فقمت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا " نعم. س: أسئلة كثيرة وردت حول لبس الساعة، هل هي الأفضل باليمين أو بالشمال، وأسئلة مثلها في بعض المناسبات والولائم يتدافع الناس للخروج من المجلس مثلا فيقول: اخرج باليمين، فهل هذا من السنة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ج: أما الساعة فلا أرى فيها يمينا ولا شمالا، الساعة توضع حيث ما يناسب، هي تلبس لمعرفة الوقت، لا تلبس للزينة، لو كانت تلبس للزينة ممكن يتوجه أن يقال إن اليمين أولى بها. أما أنها تلبس لمعرفة الوقت، وتوضع في اليد يعني للاحتراس من ضياعها وسقوطها، فلتوضع في أي ما اتفق، في اليمين أو في الشمال، هذا هو الذي يظهر لي فيها، والله أعلم. وأما عند الخروج فلا ينبغي التشدد في هذا، فالأولى بالخروج من يكون قريبا من المخرج، إلا أن يكون هناك ما يقتضي التقديم، كتقديم الكبير مثلا تقديمه هذا لكبره، لسنه، لمنزلته التي تقتضي تقديمه، أما مع التساوي فينبغي أن يخرج من كان أقرب إلى المخرج، ولا أذكر سُنّة، أقول: لا أذكر سُنّة في هذا.. نعم. س: ما حكم الخروج من المسجد بعد سماع الأذان؟. ج: ورد أن أبا هريرة " رأى رجلا خرج يعني بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ". فالخروج -يعني من غير حاجة- هو معصية كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - " فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم " -. أما إذا كان هناك ما يستدعي الخروج، مع الأمن من تفويت الجماعة، كأن يخرج الإنسان يتوضأ لا بد من الخروج، هذا خروج واجب، فيجب الخروج بعد الأذان، لو أذن الإنسان وهو في المسجد ولم يتوضأ واجب عليه الخروج، كذلك لو كان مرتبطا مثل الإمام لأنه يحتاج إلى أن يخرج؛ لأن عليه واجب ومسئولية، فأرجو أن هذا مما يكون عذرا، والله أعلم. س: السؤال الأخير: دخلت في المسجد والإمام في التشهد الأخير، فانتظرت حتى انتهى، وصليت مع جماعة أخرى، فهل هذا هو الأولى؟. ج: أرجو ذلك، أرجو أن هذا هو الأولى؛ لأن الصحيح أن الصلاة إنما تدرك بإدراك ركعة لا بإدراك تكبيرة الإحرام، فمن فاتته الصلاة كلها ولم يدرك إلا التشهد فقد فاتته الصلاة. فإذا تيسر أو غلب على ظنه، أو كان هناك جماعة، فالأولى أن يصلوا جماعة، أولى من أن يدخلوا مع الإمام في آخر صلاته ثم يصلون فرادى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 س: هذا سائل يقول: ما الحكم في الشخص الذي يقول: ما الفائدة إذا قلنا لله يد أو ليس له يد، فلنعبد ربا لا شريك له، ولا نوالي ونعادي من أجل تلك الصفات؟. ج: سبحان الله العظيم. هذا غلط ومغالطة، بل نعبد ربا وإلها، ربا لا رب لنا سواه، وإلها لا إله لنا سواه، ومن العلم النافع أن نعلم صفات إلهنا. فإذا كان يعني من العلوم التي يستفيدها الناس أن يعلموا صفات بعض الشخصيات التي لهم تلعق بها، يعلم شيئا من صفاتهم، درج المؤرخون أنهم يذكرون صفات الشخصيات، والناس يعدون هذا من العلم، العلم وإن كان يعني مستوى تختلف أهميته، لكن يعتبر فيه فائدة أن تعرف أن الإمام الفلاني أنه كذا وكذا، وخلفته كذا، وأنه من صفاته كذا. ونرتفع أكثر من هذا: من العلم النافع أن نعلم صفات نبينا، وأنه رَبْعه، وأنه كذا لونه، وأنه وافر الشعر، كث اللحية -صلوات الله وسلامه عليه- هذا في المخلوق. فكيف مع هذا يصح أن يقول عاقل ما فائدة أن نعلم أن لله يدا؟ أعوذ بالله من ذلك، ما فائدة أن نعلم إذن، يعني مضمون هذا الطرح يعني لا فائدة في أن الله أخبرنا بأن له يدَين. هذا من العلم النافع: أن نعلم ما وصف الله به نفسه، علمنا بتعليمه أن له عينين، وأن له يدين، وأن له وجه -سبحانه وتعالى-، وهو في ذلك كله لا يماثل خلقه. ما الفائدة؟ بل -والله- إنه من أعظم العلم، بل -بشكل عام- العلم بالله بأسمائه وصفاته هو أفضل العلوم الشرعية الثلاثة، ونؤجل ذكر أقسام العلم الشرعي الأقسام الثلاثة، أقول الأبيات التي قالها ابن القيم يقول: والعلم أقسام ثلاث ما لها من رابع والحق ذي تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فهذا كلام ربما ورد على ألسنة من ينفي حقائق هذه الصفات، وهذا ليس بغريب منهم، وإن ورد شيء من هذا الكلام على لسان من هو من أهل السنة فهو غالط في هذا، وإن كان ليس من أهل المنهج المنحرف، لكنه غلط في هذا التعبير، وفي هذا التهوين من هذا العلم. والله المستعان، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بِهُداه، أما بعد: فقد سبق في الليلة الماضية ذِكْرُ قاعدة في باب الأسماءِ والصفات ألا وهي الجَمْع بين النفي والإثبات وهو ما عبَّر عنه الشيخ- رحمه الله- بقوله: وقدْ جمع -سبحانه وتعالى- فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وسيوضح هذه القاعدة بذكر شواهدها من القرآن وسبق شرْح هذه القاعدة وأن معناها أنه موصوف بإثبات الكمالات وموصوف بنفي النقائص، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن النفي الذي جاء في النصوص والإثبات أنه.. أن القاعدة فيه هي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات يعني أن الإثبات يأتي مفصَّل في تعداد للأسماء وتعداد للصفات وتعيين لها، وأمَّا النفي فيكون عامًّا مطلقًا وهو ما يعبَّر عنه بالإجمال هذا هو الغالب على طريقة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- التفصيل في الإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فالرسل جاءوا في صفات الله بإثبات مفصَّل وبنفي مُجمَل ولكن قد يأتي الإثبات مجملًا كما قد يأتي النفي مفصَّلًا لكن القاعدة الغالبة هو ما تقدَّم تفصيل في الإثبات والإجمال في النفي، ولعله يأتي لهذا المعنى مزيد إيضاح عند.. عندما نصل إلى شواهد النفي - يعني ما أورده الشيخ من النصوص الدالة على النفي- يحصل تطبيق هذه القاعدة وإيضاحها. ثم أيضًا النفي الذي يوصف الله به هو النفي المتضمن لإثبات كمال، فكلُّ نفي ورد في صفاته فإنه متضمن لإثبات كمال ضدِّه. ضد ذلك النفي أما النفي المحض الذي لا يتضمن ثبوت كمال فهذا ما لم يصف الله به نفسه؛ لأن النفي الذي لا يتضمن ثبوت كمال فهذا لا يكون مدحًا ولا كمالًا. وإذا كان هذا ما جاءت به الرسل فلا عدول لأهل السُنة والجماعة بما جاء به المرسلون، أهل السنة لا يعدلون عن سبيل الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- بل هم مقتفون لآثار الرسل لا سيما خاتمهم الذي له على أمته من واجب الإيمان والمحبة والاتباع ما ليس لغيره -صلوات الله وسلامه عليه- فإن هذا هو الصراط المستقيم. ما جاء به الرسل في صفات الله هو الصراط المستقيم في هذا الباب. والصراط المستقيم هو دين الله الذي بَعَث به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - في كل باب من أبواب العلم في مسائل الاعتقاد في باب الأسماء والصفات فيما يتعلق باليوم الآخر، فيما يتعلق بسائر أصول الإيمان فيما يتعلق بالشرائع والأوامر والنواهي. وهو صراط المُنَعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بعد هذا يقول الشيخ: وقد دخل في هذه الجملة ما وَصَف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعْدِل ثُلُث القرآن" وهي قوله -سبحانه- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) هذه سورة الإخلاص؛ لأنها متضمنة للتوحيد العلمي الخبري المستلزم لتوحيد العبادة وقد ثبت في الصحيح عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه قال: " والذي نفسي بيده إنها- يعني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } (3) - تعدل ثلث القرآن " تعدل ثلث القرآن من حيث الثواب، فتلاوتها مرة واحدة يعدل ثلث القرآن. ولكن هذا لا يعني الاكتفاء بها عن القرآن فلا بد من تلاوة سائر القرآن وتدبُّر س ائر النصوص لكن هذا دليل على فضْل هذه السورة وفضْل تلاوتها وذَكَر بعض أهل العلم كذلك أن سورة إنما كانت تعدل ثلث القرآن؛ لأن القرآن ثلاثة أثلاث: خبرٌ عن الله يعني خبر عن أسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر وقصص وهو خبر عن الخلق عن الرسل وأممهم وعن بَدْء الخلق وعن اليوم الآخر وهذا نوع والثالث: الأوامر والنواهي. فالقرآن توحيد وقصص وشرائع أوامر ونواهي.   (1) - سورة الإخلاص آية: 1. (2) - سورة الإخلاص آية: 1-4. (3) - سورة الإخلاص آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } (1) هذه خالصة للتوحيد. ليس فيها إلا صفة الرب -تعالى- ولهذا كان بعض الصحابة أحد الأمراء في بعض السرايا كان يختم بها قراءته في الصلاة، فإذا قرأ الفاتحة وسورة ختم بها القراءة. فسُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " سلوه لِمَ يفعل ذلك؟ فقال: إنها صفة الرحمن وأنا أحبها. فقال: أخبروه بأن الله يحبه " وفي لفظ. " أخبروه بأن حبَّه إياها أدخله الجنة " أو كما جاء في الحديث {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } (2) هذه السورة جارية على القاعدة. الشيخ يقول: وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص" إذًا هذه السورة فيها نفي وإثبات. فيها نفي. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } (3) إثبات {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) هذه ثلاث جُمَل كلها دالة على نفي. إذًا هذه السورة هي صفة الرحمن وهي مشتملة على نفي وإثبات فدلت هذه السورة على اسمين من أسمائه الحسنى الأحد والصمد وهذان الاسمان لم يذكرا في غير هذه السورة الأحد الصمد، فأما اسمه الأحَد فيدل على وحدانيته وهو يتضمن نفي الشريك والشبيه فلا شريك ولا شبيه، واسمه الصمد فُسِّر بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، نعم وهو لا يأكل ولا يشرب؛ لأن هذا هو موجب غناه فهو الغني -سبحانه وتعالى- بذاته عن كل ما سواه، والآكل والشارب مفتقِر إلى ما يأكل ولا يشرب وهو -سبحانه- الذي {يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} (5) وهو الذي يرزق {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } (6) .   (1) - سورة الإخلاص آية: 1. (2) - سورة الإخلاص آية: 1. (3) - سورة الإخلاص آية: 1-2. (4) - سورة الإخلاص آية: 3-4. (5) - سورة الأنعام آية: 14. (6) - سورة الذاريات آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقيل: في معنى الصمد أنه الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا من لوازم غناه وفَقْر العباد {* يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } (1) وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: الصمد هو السيد الكامل في سؤدده، والغني الكامل في غناه، والحكيم الكامل في حكمته إلى آخر ما ورد، يعني الصمد هو الكامل في جميع صفات الكمال، فهذان اسمان من أسمائه الحسنى ذُكِرا على وجه التعيين وبالتفصيل والتنصيص عليهما فهذا من الإثبات المفصل. هذا إثبات مفصل {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) } (2) لم يلد، ردٌّ على كل من نسب الولد إليه من اليهود والنصارى والمشركين والفلاسفة وغيرهم. {لَمْ يَلِدْ} (3) في هذا إبطال لما نسبه إليه المفترون. {وَلَمْ يُولَدْ (3) } (4) وإن لم يقل أحدٌ من الطوائف المقِرَّة بوجوده -سبحانه- لا أعلم بأن أحدًا قال: بأنه وُلِد لكن لمَّا ورد … لما نفى الله الولد عنه ونفى الولادة اقتضى ذلك -والله أعلم- نفي الولادة عن الله نفي أن يكون له والد: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) } (5) فإنه -تعالى- -كما سيأتي- الأول الذي ليس قبله شيء فلا بداية لوجوده والمولود محدَث وهو جزء من والده والله -سبحانه وتعالى- صَمَد لا تَجَزّأ في ذاته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (6) لم يكن له أحد نظيرًا ليس له ناظر وهذا النفي يتضمن نفي الولد والوالد والكفو يتضمن كمال أحديته وصمديته. لما أثبت لنفسه أنه الأحد الصمد أكَّد ذلك بنفي الولد والوالد والكفؤ إذًا هذا نفي متضمن لإثبات كماله   (1) - سورة فاطر آية: 15. (2) - سورة الإخلاص آية: 3. (3) - سورة الإخلاص آية: 3. (4) - سورة الإخلاص آية: 3. (5) - سورة الإخلاص آية: 3. (6) - سورة الإخلاص آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 يقول الشيخ: ودخل أيضًا في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في أعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي وهي قوله -تعالى-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) الآية وهذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله. كما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام أنه قال لأُبي بن كعب -رضي الله عنه: " أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) فقال: ليهنك العلم أبا المنذر ". وقد أشار الشيخ-رحمه الله- إلى ما ورد في فضلها وأن من فضلها أنه " ما قرأها عبد في ليلة إلا لم يزل عليه من الله حارس ولا يقربه شيطان حتى يُصبح ". كما ثبت هذا في صحيح البخاري في قصة الشيطان الذي جاء يحثو من الزكاة التي كان قد وكَّل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها أبا هريرة يحفظها فجاء ذلك الشيطان يحثو منها فأخذه أبو هريرة فتعلل بأنه في حاجة وعليه عيال فرحمه وتركه، وفي كل مرة يقول له الرسول -عليه الصلاة والسلام- " ما فعل أسيرك البارحة. فقال: إنه ذكر حاجة وعيالًا فرحمته فقال: كذبك وسيعود. يعني؛ لأنه ذكر أنه لا يعود ولكن عاد إلى أن جاء في الثالثة فقال. اتركني أعلمك آية في كتاب الله إذا أويت إلى فراشك فاقرأ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (3) فإنه لا يزال عليك مِن الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. شيطان عنده علم.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فلما جاء أبو هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثالثة قال: ما فعل أسيرك البارحة. قال: ذكر له ما تعلل به وما جعله يترك في الثالثة فذكر أنه قال له. دعني أعلمك آية في كتاب الله {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (1) إذا أويت إلى فراشك فاقرأ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) وذكرها. فقال -عليه الصلاة والسلام-: صدقك وهو كذوب " ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - صدقك ثبت هذا الحكم، فهذا القول لم يستفده أبو هريرة ولم نستفده من خبر الشيطان، إنما من تصديق الرسول وأن هذا حق الشيطان قد يعلم شيئًا من الفضائل والعلوم الشرعية التي يمكن أن يخادع بها بعض الناس. فهذا تعلَّل بهذه المعرفة اتخذ من هذا وسيلة للتخلص من قبضة أبي هريرة - رضي الله عنه -. المقصود أن آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة وهذا من أصح ما ورد في فضلها فإذا آوى الإنسان إلى فراشه فإنه يشرع له أن يقرأها فإنه لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وورد في سورة البقرة عمومًا أنها. أن الشيطان يفر أو ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ومن أسباب ذلك أنها مشتملة على هذه الآية العظيمة.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المقصود أن هذه الآية اشتملت أيضًا على العديد من أسماء الرب والصفات. ولهذا قال الشيخ: وما وصف الله. أي وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في أعم آية في كتابه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (1) فاشتملت على إثبات وحدانيته {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) هذه كلمة التوحيد ففي هذا إثبات إلهيته ونفي الإلهية عما سواه وهذا تحقيق التوحيد {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (3) اسمان من أسمائه الحسنى فهو الحي الذي لا يموت. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (4) الحي بالحياة الكاملة التي لا يعتريها نقص وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفاته الذاتية له -سبحانه-، ومن أسمائه "القيوم" القائم بنفسه الغني عما سواه والقائم بغيره فلا قيام لشيء من الموجودات إلا به فهو الحي القيوم. فهذان اسمان من أسمائه الحسنى وختمت هذه الآية باسمين آخرين وهما {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (5) ففيها أربعة أو خمسة نقول خمسة أسماء: الله هذا هو الاسم الجامع لمعاني سائر الأسماء سائر الصفات، وكذلك اسمه الحي القيوم. اسمان من أسمائه الحسنى وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (6) يعني هذا نفي أما قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (7) إثبات إذًا هذه الآية فيها إثبات ونفي، إثبات مفصل وفيها نفي مفصل {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (8) {لَا تَأْخُذُهُ} (9) لا تغلبه السنة وهي النعاس والوسن ولا النوم كما في الحديث الصحيح " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة البقرة آية: 255. (4) - سورة الفرقان آية: 58. (5) - سورة البقرة آية: 255. (6) - سورة البقرة آية: 255. (7) - سورة البقرة آية: 255. (8) - سورة البقرة آية: 255. (9) - سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يُرْفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه من انتهى إليه بصره " فهو -تعالى- الحي القيوم وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) هذا النفي يتضمن تأكيدًا لكمال حياته؛ لأن النوم أخ للموت، والسِنة هي بدايات النوم. فالله -تعالى- الحي الذي لا يموت وهو الحي الذي لا ينام ولا ينبغي له أن ينام لا يليق به النوم. فهذا نفي وهذا إثبات {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (2) في هذا إثبات لكمال ملكه على كل شيء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (3) هذا نفي أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه وهذا يتضمن كمال ملكة فلكمال ملكه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه بخلاف المخلوق الذي يشفع عنده الشافعون غصبًا عنهم الملوك والكبراء يشفع عندهم مقربوهم بغير إذنهم وينزلون على رغبتهم. المقصود أن هذه الآية اشتملت على العديد من أسماء الرب كما تقدم والعديد من صفاته، وقد اشتملت على نفي {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (4) {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (5) هذا نفي وكذلك قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (6) وهذا لكمال عظمته لا يحيط العباد به علمًا كما قال -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (7) ومن النفي الذي اشتملت عليه هذه الآية {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (8) {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (9) وأحسن ما قيل.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة البقرة آية: 255. (4) - سورة البقرة آية: 255. (5) - سورة البقرة آية: 255. (6) - سورة البقرة آية: 255. (7) - سورة طه آية: 110. (8) - سورة البقرة آية: 255. (9) - سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والذي عليه جمهور أهل السنة أن الكرسي موضع قدمي الرب. مخلوق عظيم لا يقرر قدره إلا الله والعرش أعظم منه {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) الكرسي قد وسع السماوات والأرض فهو أعظم من السماوات والأرض {وَلَا يَئُودُهُ} (2) يعني لا يشق على الله -تعالى- ولا يعجزه حفظ هذه العوالم العلوية والسفلية لا يكرثه ولا يثقله ولا يشق عليه حفظ هذه العوالم {* إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } (3) {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (4) العلي بكل معاني العلو ذاتًا وقدرًا وقهرًا وهو العظيم الذي لا أعظم منه والعوالم كلها في غاية الصغر والضآلة في جانب عظمته ومما يدل على كمال عظمته ما جاء في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } (5) . ثم يمضي الشيخ من ذكر سورة الإخلاص وآية الكرسي يمضي بذكر الشواهد من القرآن على ما وصف الله به نفسه من النفي والإثبات وسنمضي معه مستعرضين لهذه الشواهد ونقف معها حسب ما يقتضيه المقام والله المستعان. نعم. الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة فاطر آية: 41. (4) - سورة البقرة آية: 255. (5) - سورة الزمر آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين قال المصنف-رحمه الله- -تعالى-: "وقوله -سبحانه- {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } (1) وقوله -سبحانه-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (2) وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) } (3) . إحاطة علمه بجميع مخلوقاته وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } (4) وقوله: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (5) وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (6) وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } (7) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } (8) .   (1) - سورة الحديد آية: 3. (2) - سورة الفرقان آية: 58. (3) - سورة التحريم آية: 2. (4) - سورة سبأ آية: 1-2. (5) - سورة الأنعام آية: 59. (6) - سورة فاطر آية: 11. (7) - سورة الطلاق آية: 12. (8) - سورة الذاريات آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن النصوص القرآنية المشتملة على أسماء الرب وصفاته التي فيها النفي والإثبات مما يدخل في الجملة المتقدمة ما وصف الله به نفسه في هذه الآيات التي منها قوله -تعالى-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } (1) فهذه الآية فيها إثبات أربعة أسماء من أسمائه الحسنى. الأول والآخر والظاهر والباطن. وأحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقوله إذا أوى إلى فراشه: " اللهم رب السماوات السبع، اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أو كل ذي شر أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين واغننا من فضلك ". فهذا أحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء الأول: هذا اسم من أسمائه هو الأول يعني المتقدم على كل شيء فكل مخلوق كل ما سوى الله فإنه محدَث بعد أن لم يكن مسبوق. والله -تعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأنه لا بداية لوجوده -سبحانه وتعالى- فهو قديم لكن قديم لم يرد في النصوص فلا يعد من أسمائه -تعالى- لا يقال من أسماء الله القديم لكن معناه صحيح فيصح الإخبار عن الله فيقال: الله قديم نعم. قديم متقدم في وجوده على كل شيء لا بداية لوجوده، فهذا المعنى حق ثابت للرب -سبحانه- لكنه يغني عنه اسمه الأول، فالأول هو من أسماء الله الحسنى.   (1) - سورة الحديد آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء. الآخر يعني هذا الاسم يتضمن دوامه -سبحانه وتعالى- وبقاءه الذي لا نهاية له فكل مخلوق يفنى والله -تعالى- لا يفنى كما يقول الإمام الطحاوي- رحمه الله- في عقيدته: قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء لا يفنى ولا يبيد ولا يمكن -سبحانه وتعالى-. الآخر وما كتب له البقاء مثل الجنة والنار دوامهما وبقاؤهما ليس ذاتيًّا لهما بل بقاؤهما بإبقاء الله لهما، أما بقاء الرب فهو ذاتي لا يجوز عليه الفناء ألبتة. فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء فهذان اسمان دالان على أزليته وأبديته يعني على دوام وجوده في الماضي والمستقبل وأنت الظاهر فليس فوقك شيء الظاهر يعني العالي الظهور من معانيه العلو فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء هو فوقه كل شيء وهو القاهر فوق عباده وليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء فبصره نافذ لجميع المخلوقات وسمعه واسع لجميع الأصوات وعلمه محيط بكل شيء إذًا لا يحجب سمعه شيء ولا يحجب بصره حجاب بصره نافذ يرى عباده وعلمه محيط بكل شيء. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (1) "الباطن" وأنت الباطن فليس دونك شيء وليس معنى الباطن أنه -تعالى- داخل في المخلوقات لا، بل هو بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته نستمر.. نعم..   (1) - سورة الحج آية: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقوله -تعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (1) تقدم ذكر هذا الاسم. "توكل" أمر من الله لنبيه ولسائر المؤمنين {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} (2) اعتمد على الحي وفوض أمرك إليه على الحي الذي لا يموت فمن توكل عليه فهو حسبه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) } (4) والشاهد الحي، فالحي اسم من أسمائه والحياة صفة من صفاته وقوله: "لا يموت" نفي مؤكد لكمال حياته، فحياته حياة لا يطرأ عليها الموت وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } (5) اسمان من أسمائه الحسنى دالان على كمال حكمته وعلى جلال خبرته فهو خبير بدقائق الأشياء وهو أخص في المعنى من اسمه العليم {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} (6) وكأن هذه الجمل تفصيل لمضمون اسمه الخبير و {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} (7) ماذا يلج ماذا يدخل في الأرض؟ .   (1) - سورة الفرقان آية: 58. (2) - سورة الفرقان آية: 58. (3) - سورة الطلاق آية: 3. (4) - سورة المائدة آية: 23. (5) - سورة الأنعام آية: 18. (6) - سورة سبأ آية: 1-2. (7) - سورة سبأ آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ما صيغة عموم يعني يعلم كل ما يلج في الأرض من ماذا؟ من الأحياء من الحيوانات ومن النباتات ومن الأناس كل ما يدخل {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} (1) وما يدخل فيها من الجمادات كالمياه التي تغور في الأرض الماء يلج في الأرض وتبتلعه الأرض. الحيوانات لها مساكن تأوي إليها في الأرض {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} (2) من كل شيء سبحان الله العظيم {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} (3) من الملائكة ومن الأمر الذي ينزل من عنده ومن الأقدار {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (4) . يعلم هذا كله ففي هذا وهكذا قوله -تعالى-: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (5) عنده خزائن الغيب التي استأثر بعلمها وهي أو منها الخمس التي لا يعلمها إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } (6) فهذه خمس تفرد الله بعلمها لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} (7) .   (1) - سورة سبأ آية: 2. (2) - سورة سبأ آية: 2. (3) - سورة سبأ آية: 2. (4) - سورة سبأ آية: 2. (5) - سورة الأنعام آية: 59. (6) - سورة لقمان آية: 34. (7) - سورة الأنعام آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 "ما" صيغة عموم أي كل ما في البر الله يعلمه ويعلم ما في البر والبحر يعني وما في البحر يعلم ما في البحر. عام ما فيه من الحيوانات والنباتات التي لا يحصيها إلا خالقها والجمادات {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} (1) يشمل كل رطب ويابس؛ لأن هذه كلها نكرات في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (2) . كل هذه الدقائق وكل هذه المخلوقات كلها معلومة للرب والله محيط بها وهي أيضًا مثبتة في الكتاب المبين -كتاب المقادير- {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (3) والآية الأخيرة في هذا الموضوع {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (4) أنثى من بني آدم أو غيرهم من الأحياء وما تحمل من أنثى. أيُّ أنثى ولا تضع إلا بعلمه {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (5) كل ذلك قد أحاط به علمه وكتابه.   (1) - سورة الأنعام آية: 59. (2) - سورة الأنعام آية: 59. (3) - سورة الأنعام آية: 59. (4) - سورة فاطر آية: 11. (5) - سورة فاطر آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فهذه الآيات.. كل هذه الآيات.. من سورة الحديد وسبأ والأنعام وفاطر. كل هذه الآيات ونحوها دالة على إثبات علمه -سبحانه وتعالى- وأنه الموصوف بالعلم المحيط بكل شيء فهو -تعالى- العليم، والعلم صفته فهو عليم بعلمه وهو -تعالى- علمه لا يعزب عنه شيء {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} (1) وفيها دليل على إحاطة علمه بكل صغير وكبير بالجزئيات وبدقائق المخلوقات خلافًا للملاحدة الذين يقولون: إنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها أو لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم المعاني الكلية. وفي هذه الآيات رد على من قال: إنه لا يعلم الشيء إلا بعد وجوده أولًا يعلم الجزئيات بل يعلم -سبحانه وتعالى- ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون كما قال -تعالى- {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (2) والمعطِّلة كالجهمية والمعتزلة والفلاسفة ينفون حقيقة العلم عن الله ينفون صفة العلم، وهذا إلحاد في أسماء الله -تعالى- وصفاته وتنقص لرب العالمين، أئذا كان المخلوق يوصف بالعلم فكيف لا يوصف الخالق وهو أحق بكل كمال؟ فعلمه -تعالى- ثابت بالعقل وبالسمع يعني بالعقل وبالنصوص الشرعية.   (1) - سورة سبأ آية: 3. (2) - سورة الأنعام آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد نبه -سبحانه وتعالى- على الدليل العقلي في مواضعَ منها قوله -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1) إذًا وجود هذه المخلوقات في غاية من الإحكام دليل على علمه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } (2) وأهل العلم والإيمان وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه فيؤمنون بما في هذه الآيات من الأسماء الحسنى والصفات العليا فيثبتون علمه بالأشياء قبل وجودها ويثبتون علمه بالجزئيات ويؤمنون بأنه -تعالى- عليم. وأن هذا الاسم دال على معنى فهو عليم بعلم وهو عليم، والعلم صفته -سبحانه وتعالى- فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا كما في الآية الأخيرة التي في سورة الطلاق {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) في إثبات صفة القدرة {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } (4) هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، الظاهر اليوم عندي ارتباط فلا بد أن أنصرف ولو بعد الأذان فيمكن تقبل بعض ال أسئلة . أسئلة س: السؤال الأول: هذا سائل يقول: ورد في الآية التي ذكرت أن الله يعلم ما في الأرحام وأنه مما استأثر الله بعلمه فما ردنا من قال: بأن الطب قد تصل إلى معرفة ما في الأرحام؟   (1) - سورة الملك آية: 14. (2) - سورة الملك آية: 14. (3) - سورة الطلاق آية: 12. (4) - سورة الطلاق آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ج: العلم الذي تفرد به -سبحانه وتعالى- هذا لا يصل إليه أحد لكن ليس المقصود من قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (1) أنه لا يعلم شيء عما في الأرحام في جميع الأوقات، فالرحم ما في الرحم يعلم به كثير من الناس على سبيل الإجمال فالمرأة تعلم حملها في وقت مبكر وتعلم إذا نفخت فيه الروح أنه يتحرك نفس المرأة ومن يشاهدها يعلم أنها في بطنها حمل يعلم أنها حامل هذا ما هو علم؟ هذا ليس هو العلم الذي اختص الله به، هذا شيء من العلم الذي يظهره الله لعباده حسب أطوار الجنين وإن -يعني- حسب السنن الكونية المرأة أو الطبيب أو الطبيبة تعلم أن هذه المرأة إنها على وشك الوضع وأن الجنين سليم أو غير سليم كل هذه من المعلومات التي نعلمها هذه لا أحد يستعظمها ولا يستغربها أشياء معلومة للعامة والخاصة. هناك أشياء تُعرف لأهل الاختصاص كأهل الطب بالوسائل التي يصلون إليها مثل حال الجنين مدى نموه مدى كذا يعلمون من هذه الأشياء بواسطة الوسائل التي أقدرهم الله عليها كما نسمع كثيرًا إنهم يذكرون أشياء من حال الجنين في بطن أمه، ولكن العلم المحيط العلم التام بحال هذا الجنين وما يصل إليه هذا لا يعلمه أحد إلا بعد، المَلَك عند نفخ الروح فيه يعلم أشياء؛ لأنه يؤمر ويعلم، يؤمر بكتب رزقه وأجله إذا شفت أشياء لكن قبل هذا هل الملك يعلم؟ يعلم أجل هذا الجنين؟ يمكن أنه يسقط قبل أن يتم يمكن أجله قليلة يسقط الحمل قبل استكماله يمكن أنه يولد ثم يموت يمكن يولد ويعيش فترة.   (1) - سورة لقمان آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وهكذا قبل أن يأتي المَلَك لنفخ الروح فيه هل يعلم أحد من الخلق -يعني- أجَلَ هذا الجنين إلا أن يظهر -يعني- عرض يُعْلِم أنه مات. قد يُعْرَف بالطب أو تعرف المرأة قبل الطب تعلم أن حملها فسد مات إذًا هذا كله -يعني- مما هو معلوم لله ويكشفه -سبحانه وتعالى- لمن شاء من عباده شيئًا فشيئًا، لكن يأتي في وقت ما في الرحم -يأتي عليه وقت لا يدري أحد عنه شيئًا إلا -يعني- إلا ما هو من قبيل الظنون والاحتمالات يحتمل شيء من هذا القبيل حتى إنهم الآن بواسطة التحليل تضطرب عندهم المقاييس ووسائل التحليل فلا يدرون هل المرأة حامل أو غير حامل. ولعل في هذا القدر كفاية. س: السؤال الثاني: هات سؤال قبل الأذان، هذا سائل يقول: ما الحكم في الشخص الذي يقول: ما الفائدة إذا قلنا: لله يد أو ليس له يد فلنعبد ربًّا لا شريك له ولا نوالي ونعادي من أجل تلك الصفات؟ ج: سبحان الله العظيم هذا غلط ومغالطة بل نعبد ربًّا وإلهًا. ربًّا لا رب لنا سواه وإلهًا لا إله لنا سواه، ومن العلم النافع أن نعلم صفات إلهنا، فإذا كان -يعني- من العلوم التي يستفيدها الناس أن يعلم صفات بعض الشخصيات التي له تعلق بها يعلم شيئًا من صفات درج المؤرخون أنهم يذكرون صفات الشخصيات والناس يعدون هذا من العلم. العلم وإن كان يعني مستوى تختلف أهميته لكن يعتبر فيه فائدة أن تعرف إن الإمام الفلاني إنه كذا وكذا وخلقته كذا وأنه من صفاته كذا ونرتفع أكثر من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من العلم النافع أن نعلم صفات نبينا وأنه ربعة وأنه كذا لونه وأنه وافر الشعر كث اللحية صلوات الله وسلامه عليه - هذا في المخلوق فكيف مع هذا يصح أن يقول عاقل: ما فائدة أن نعلم أن لله يدا؟ -أعوذ بالله من ذلك- إذًا ما فائدة يعني مضمون هذا الطرح لا فائدة في أن الله أخبرنا في أن له يدين. هذا من العلم النافع أن نعلم ما وصف الله به نفسه علمنا بتعليمه أن له عينين وأن له يدين وأن له وجها -سبحانه وتعالى- وهو في ذلك كله لا يماثل خلقه. ما فائدة؟ بل والله إنه من أعظم العلم، بل بشكل عام العلم بالله بأسمائه وصفاته هو أفضل العلوم الشرعية الثلاثة ونؤجل ذكر أقسام العلم الشرعي الأقسام الثلاثة. أقول الأبيات التي قالها ابن القيم يقول: والعلم أقسام ثلاث ما لها من رابع والحق ذي تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني فهذا كلامٌ ربَّما ورد على ألسنة من ينفي حقائق هذه الصفات وهذا ليس بغريب منهم وإن ورد شيء من هذا الكلام على لسان مَن هو من أهل السنة فهو غالط في هذا وإن كان ليس من أهل المنهج المنحرف لكنه غلط في هذا التعبير وفي هذا التهوين من هذا العلم. نعم، اتفضل اقرأ الآيات التي انتهيت عندها. إثبات السمع والبصر لله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف-رحمه الله تعالى-: وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } (1) وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (3) .   (1) - سورة الذاريات آية: 58. (2) - سورة الشورى آية: 11. (3) - سورة النساء آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه وتعالى وقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (1) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } (2) وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) } (3) وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (4) . الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، هذه أيضًا جملة من الآيات المشتملة على بعض أسماء الرب وصفاته، وهي داخلة في الجملة التي أشار إليها الشيخ وهو الآن بصدد تقريرها بشواهدها، وهي أن الله -تعالى- جمع فيما وصفا، وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فوصف نفسه بإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبنفي الآفات والعيوب والنقائص، فمِن هذه النصوص القرآنية المشتملة على بعض أسماء الربِّ وصفاته، وهي من نصوص الصفات.   (1) - سورة الكهف آية: 39. (2) - سورة البقرة آية: 253. (3) - سورة المائدة آية: 1. (4) - سورة الأنعام آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 إذ كثيرٌ من آي القرآن يقال: إنها من نصوص الصفات فأول ذلك قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } (1) ففي هذه الآية إثبات اسم من أسماء الله الحسنى وهو الرزاق. رزاق صيغة تدل على كمال الرزق وكثرة الرزق. هو الرزاق -سبحانه وتعالى- قال قبلها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} (2) فكل ما يحصل للعباد من رزق مادي أو معنوي من علم أو مال أو أي منفعة {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا} (3) والنصوص المفسِّرة لهذا الاسم والمفصِّلة له كثيرة فهو -تعالى- خير الرازقين {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (4) كل ما يتقلب فيه العباد من النعم فهو منه هو الذي أعانه وأمد به العباد إن الله هو الرزاق وما يحصل على أيدي الناس من رزق فهم أسباب فقط.   (1) - سورة الذاريات آية: 58. (2) - سورة الذاريات آية: 57-58. (3) - سورة العنكبوت آية: 60. (4) - سورة النحل آية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فالإنسان يَرزُق أولادَه. يرزقهم يكد ويكدح وينفق عليهم {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ} (1) أمر برزقهم يعني بالإنفاق عليهم "واكسوهم" لكن الرزَّاق حقيقة المطعِم حقيقة هو الله كما دلَّت هذه الآية على صفة من صفاته وهي القوة "ذو القوة" القوة التي لا تشبه قوى المخلوق، فالمخلوق يوصف بالقوة {* اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (2) فالمخلوق يوصف بالقوة والله يوصف بالقوة ولكن ليست القوة مثلها ليست قوة المخلوق كقوة الخالق ولا قوة الخالق كقوة المخلوق فهو القوي. ومن أسمائه القوي كما لعله سيأتي من أسمائه القوي ومن صفاته القوي فهو ذو القوة المتين يعني الشديد القوة. ذو قوة وهو متين شديد القوة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (3) فيجب الإيمان بذلك ومعرفة الله بذلك لمن هذه الأسماء له آثاره السلوكية. إذا علم الإنسان أن كلَّ الخير بيده والعطاءَ وأنه لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما مَنَع توجه بقلبه لربه في كل حوائجه فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يدفع السيئات إلا هو يوجب له ذلك الرغبة إلى الله ورجاءه وتوكله عليه في حصول الخير ومنافع الدنيا والآخرة. وإذا علم العبد أنه -تعالى- القوي وأنه ذو القوة أيضًا ازداد تعظيمًا لربه ورجاء له وخوفًا منه فقوته لا يقاومها قوة. قوة لا يعتريها ضعف، نعم.   (1) - سورة النساء آية: 5. (2) - سورة الروم آية: 54. (3) - سورة فصلت آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وهذا يقال في سائر الصفات كما تقدم في الآيات الدالة على إثبات العلم. علمه -تعالى- علم محيط بكل شيء، يعلم دقائق الأشياء كما سبق تفصيله وكما فصل الله ذلك في مثل الآية التي تليت من قبل {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (1) {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) } (2) {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (3) كل هذا كل ما في الوجود وما يحدث في الوجود من تحولات وتغيرات ووجود مخلوقات وذهاب مخلوقات كل ذلك قد أحاط الله به علمًا. ومن هذه الآيات قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (4) وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (5) نفي وإثبات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (6) هذا نفي مجمَل. نفي للمثيل عن الله لا شيء مثله. ليس شيء في الوجود مثله لا في علمه ولا في سمعه ولا في بصره ولا في قدرته ولا في رزقه ولا في قوته ولا في عزته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (7) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. "ليس كمثله شيء" هذا نفي مجمل {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (8) إثبات فيه إثبات اسمين من أسماء الله الحسنى فهو السميع وهو البصير.   (1) - سورة الأنعام آية: 59. (2) - سورة القصص آية: 69. (3) - سورة فاطر آية: 11. (4) - سورة النساء آية: 58. (5) - سورة الشورى آية: 11. (6) - سورة الشورى آية: 11. (7) - سورة الشورى آية: 11. (8) - سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وفي هذا إثبات لصفتين من صفات الله ألا وهو السمع والبصر فهو السميع وهو ذو سمع. سميع بسمع خلافًا للمعطِّلة الذين ينفون أسماءه أو يعطلون صفاته كالمعتزلة الذين يقولون: سميع بلا سمع بصير بلا بصر. هذا جهل وضلالة والجاد. إلحاد في أسماء الله بل هو سميع بسمع وسمعه واسع لجميع الأصوات سمع {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } (1) {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} (2) مهما أسرَّ الإنسان في حديثه ومحادثته ومهما تناجى المتناجون فالله يسمع نجواهم يعلم ما جرى بينهم يسمع سمع ليس كسمع المخلوق. سمع المخلوق ليس كسمع الله، سمع المخلوق محدود سمع المخلوق موهوب له الله الذي أعطى الإنسان السمع جعل له السمع والبصر والفؤاد أما سمع الخالق فليس بمخلوق صفة ذاتية له لم يزل ولا يزال سميعًا ولم يزل ولا يزال بصيرًا ما زال بصفاته -سبحانه وتعالى- قبل خلقه. لم يزدد بكونهم شيئًا لم يكن قبلهم من صفاته. هكذا يقول الإمام الطحاوي في عقيدته فصفاته -تعالى- أزلية "سمع فالله سميع والإيمان بذلك له أثر إذا وقر في القلب الشعور بأنه -تعالى- سميع وأنه بصير أحدث لهم المراقبة لكن تضعف هذه المراقبة عند ضعف الشعور والاستحضار لسمع الرب وبصره أما من استحضر أن الله يسمع كلامه سوف يحسب حسابًا لما يتكلم به؛ لأنه يستحضر أن الله يسمعه لكنه يؤتَى الإنسان من غفلته عن اطلاع الله عليه وسمعه بصوته وتفصيل هذه الصفة أو الصفتين السمع والبصر كثير في القرآن يسمع كلام المؤمنين وكلام الناس في كلامهم العادي ويسمع كلام الكافرين المنتقصين لربهم {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} (3) .   (1) - سورة الزخرف آية: 80. (2) - سورة المجادلة آية: 7. (3) - سورة آل عمران آية: 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 سيذكر الشيخ أيضًا هذه بعض هذه الآيات في موضع آخر {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1) هذا من الكلام العادي تحاور في قضيتها. يسمع كلام الرسل في دعوتهم وما يرد عليهم قومهم كما قال سبحانه لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) } (3) {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} (4) بلى يسمع السر والنجوى. بصير -سبحانه وتعالى- ببصر وبصره نافذ بجميع المخلوقات. بصره نافذ فهو السمع البصير ولما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية وضع إبهامه على أذنه والسبابة على عينه قال: أمن علم؟ لبيان أن المراد بالسمع والبصر حقيقتهما. أنه ذو سمع حقيقة وذو بصر حقيقة. ومن الآيات التي تليت الآيات الدالة على إثبات المشيئة والإرادة {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (5) هكذا يقول الرجل الصالح المؤمن لصاحبه الكافر المغرور بجنته الذي لما دخل جنته قال: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ} (6) .   (1) - سورة المجادلة آية: 1. (2) - سورة طه آية: 46. (3) - سورة الشعراء آية: 15. (4) - سورة الزخرف آية: 80. (5) - سورة الكهف آية: 39. (6) - سورة الكهف آية: 35-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 يقول لو أنك عندما دخلت جنتك تذكرت أنها إنما حصلت بمشيئة الله. وما شاء الله أي هذا ما شاء الله وتذكرت أنه لا قوة لك ولا لغيرك إلا بالله، فلو أنك قلت: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (1) كان هذا هو الواجب عليك أما أن تقول: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} (2) هذا كفر وإنكار للبعث وإنكار لفضله -سبحانه وتعالى- إنكار لربوبيته؛ لأنه سبحانه هو المنعم المتفضِّل هو الذي يعطي ما يشاء لمن يشاء. هو الذي يعطي من يشاء ما يشاء. { (خطأ) مَا شَاءَ اللَّهُ} (3) يعني هذا ما شاء الله يعني هذا كائن بمشيئة الله. وفعلًا ما شاء الله كان. ما شاء الله لا بد منه وما لم يشأن لم يكن فكل ما يجري في الوجود وكل ما يحصل في الوجود من الذوات والصفات والحركات فهي كل ذلك بمشيئته لا يخرج عن مشيئته شيء أبدًا لا يخرج كل ما يجري الحروب الطاحنة والأمور هذه التي تجري هي جارية بقدر بمشيئة الله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) } (4) والإرادة لله وصف.. أخبر عن نفسه بأنه مريد وهو فعال لما يريد {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (5) و {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (6) {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (7) فمن صفاته الإرادة فهو يريد ولكن الإرادة المضافة لله قال أهلُ العلم الإرادة نوعان: إرادة قالوا: كونية وإرادة شرعية.   (1) - سورة الكهف آية: 39. (2) - سورة الكهف آية: 35-36. (3) - سورة الكهف آية: 35-36. (4) - سورة البقرة آية: 253. (5) - سورة البقرة آية: 185. (6) - سورة النساء آية: 26. (7) - سورة الأنعام آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أما الإرادة الكونية فهي بمعنى المشيئة ومن شواهدها قوله -تعالى- {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } (1) هذه إرادة كونية. كل ما شاء فإنه فعل. كل ما أراد الله أن يفعله فعله؛ لأنه لا معارض له ولا يستعصي عليه شيء فعال لما يريد ومن شواهد الإرادة الكونية قوله -تعالى- {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} (2) يعني من يشأ الله أن يهديه بشرح صدره للإسلام يوسع صدره ويقذف النور فيه ويجعل فيه القبول للحق. يقبل الحق بانشراح وسرور {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} (3) -أعوذ بالله- هذا يجعل صدره ضيقًا حرجًا. ينفر من الحق. يشمئز {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) } (4) والله -تعالى- يمن على من يشاء يهدي من يشاء بفضله وحمته ويضل من يشاء بحكمته وعدله يعطي ويمنع يهدي ويضل ويعز ويذل.   (1) - سورة هود آية: 107. (2) - سورة الأنعام آية: 125. (3) - سورة الأنعام آية: 125. (4) - سورة الزمر آية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (1) وأما الإرادة الشرعية فهي المتضمنة للمحبة فهي إنما تتعلق بمحابِّه سبحانه. هذا هو هاتان الإرادتان، ومن شواهد الإرادة الشرعية قوله -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (2) {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } (4) فهاتان إرادتان قال أهل العلم إن الفرق بين الإرادتين من وجهين: أما الإرادة الكونية فإنها عامة لكل الموجودات فهي شاملة لما يحب -سبحانه- وما لا يحب، فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته الكونية سواء في ذلك ما يحبه الله أو يغضبه فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته -تعالى- الكونية التي هي بمعنى المشيئة فإنه لا يخرج عن مشيئته أو إرادته الكونية شيء ألبتة. أما الإرادة الشرعية فإنها تختص بما يحبه سبحانه فالطاعات مرادة لله شرعًا أما المعاصي فليست مرادة شرعًا وما وقع من الطاعات ما حصل منها فإذا صليت مثلًا نقول: هذه الصلاة تتعلق بها الإرادتان: الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. ماذا تقول؟.. أقول ما يقع من الصلاة إذا صلى الإنسان أو أي طاعة تفعلها فإنها واقعة بالإرادة الكونية ومتعلق كذلك للإرادة الشرعية فهي مرادة لله كونًا وشرعًا.   (1) - سورة آل عمران آية: 26. (2) - سورة البقرة آية: 185. (3) - سورة النساء آية: 26. (4) - سورة الأحزاب آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أما المعاصي. ما يقع من المعاصي فهذه مرادة لله كونًا؛ لأنها لا يقع في الوجود شيء البتة إلا بإرادته ومشيئته -سبحانه- لكن هل المعاصي محبوبة لله لا بل هي مبغوضة وإن كانت واقعة بإرادته فهذا هو الفرق بين الإرادتين. فرق بين الإرادتين من وجهين. الأول أن الإرادة الكونية عامة لما يحبه الله وما لا يحبه لكل ما في الوجود فكل ما في الوجود فهو مراد الله كونًا وهو حاصل بمشيئته -سبحانه وتعالى- أما الإرادة الشرعية فإنها إنما تتعلق بما يجب -سبحانه وتعالى- فقط قال أهل العلم: "فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن وطاعة المطيع تجتمع الإرادتان كما في المثال المتقدم. وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر أليس الكافر مطلوب منه الإيمان. نعم لكنه لم يحصل فهو مراد لله شرعًا لكنه غير مراد كونًا إذ لو شاء الله لاهتدى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1) وكذلك الطاعة التي أُمِرَ بها العبد ولم يفعلها هذه مرادة لله شرعًا لكنها لم تتعلق بها الإرادة الكونية؛ إذ لو تعلقت بها الإرادة الكونية لحصل؛ لأن ما في إرادة الله كونًا. هذا من الفرق. ويمكن أن نقول أيضًا: -نذكر فرقا ثالثا وهو أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدًا، أما الإرادة الشرعية فقد يقع مرادها وقد لا يقع فالله أراد الإيمان من الناس كلهم أراده شرعًا يعني. أمرهم به وأحب ذلك منهم ولكن منهم من آمن ومنهم من كفر.   (1) - سورة يونس آية: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فالإرادة الكونية لا يتخلف مرادها، أما الإرادة الشرعية فقد يحصل مرادها وقد لا يحصل. أما وهذا ما يتصل بالآيات التي سمعناها وكلها تدل يعني فيها إثبات الإرادة أما الإرادة الكونية أو الإرادة الشرعية والمخلوق له إرادة وله مشيئة. المخلوق له إرادة وله مشيئة. نعم كما قال -سبحانه وتعالى-: {تُرِيدُونَ عَرَضَ $u÷R‰9$# وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} (1) وكما قال -تعالى- للإنسان {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) . لكن إرادة المخلوق ومشيئة المخلوق مخلوقة وإرادة المخلوق ومشيئة المخلوق مقيدة بمشيئته -سبحانه وتعالى- وتابعة لمشيئته، ومشيئة المخلوق قد يحصل مرادها يعني مشيئة المخلوق قد يحصل مبتغاها وقد لا يحصل فقد يشاء الإنسان ما لا يكون وقد يكون ما لا يشاء هذا شأن المخلوق، أمَّا الخالق فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ما شاء فلا بد أن يكون وما لا يشاءه فلا يكون ألبتة؛ لأنه -سبحانه وتعالى- لا يعجزه شيء ولا يستعصي عليه شيء فما شاء أن يفعله فعله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) } (3) . السلام عليكم ورحمة الله، نعم تفضل. إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله   (1) - سورة الأنفال آية: 67. (2) - سورة الإنسان آية: 30. (3) - سورة فاطر آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } (1) وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) } (2) وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) } (3) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } (4) وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (5) وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (6) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) } (7) وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) } (8) . وهذه أيضًا مجموعة من الآيات المشتملة على بعض صفات الرب -سبحانه وتعالى- وهي المحبة {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } (9) {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) } (10) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } (11) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } (12) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) } (13) .   (1) - سورة البقرة آية: 195. (2) - سورة الحجرات آية: 9. (3) - سورة التوبة آية: 7. (4) - سورة البقرة آية: 222. (5) - سورة آل عمران آية: 31. (6) - سورة المائدة آية: 54. (7) - سورة الصف آية: 4. (8) - سورة البروج آية: 14. (9) - سورة البقرة آية: 195. (10) - سورة الحجرات آية: 9. (11) - سورة البقرة آية: 222. (12) - سورة التوبة آية: 4. (13) - سورة الصف آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 يرحمك الله فدلَّت هذه الآية على أنه -تعالى- يحبُّ، فالمحبة صفة من صفاته كما قلنا في القوة والسمع والبصر والإرادة كلها صفات أخبر الله بها عن نفسه، كذلك أخبر أنه يحب بعض عباده، يحب المحسنين لأعمال المحسنين إلى عباد الله، يحب المقسطين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وحاولوا ويحب التوابين الرجَّاعين إليه عن الذنوب، وعن التقصير، يحب المتطهرين كما أمروا يحب المتقين -سبحانه وتعالى-، يحب المجاهدين في سبيله كله إخبار عن الله -سبحانه وتعالى-، فوجد أن الإيمان من صفات المحبة، وفي هذا غاية الترغيب في هذه الأعمال. إن محبة الله للعبد هي فوق ما ينال من الثواب، فالمؤمنون المخلصون أولياء الله يتطلعون للفوز بهذه المحبة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) والمخلوق يوصف بالمحبة ولكن مع الفرق فللمخلوق محبة تليق به وتناسبه يمكن أن يُعَبَّر عنها بشيء، ميل الشيء أو ميل الإنسان إلى ما يناسب، الله يوصف بالمحبة وليست المحبة كالمحبة محبة الخالق ليست كمحبة المخلوق كذلك العبد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) لكن محبة الخالق محبة حقيقية لا كما يقول المعطِّلة من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ينفون حقيقة المحبة الذين ينكرون حقيقة المحبة يقولون: الله لا يحب ولا تليق به صفة المحبة ويفسرون ما جاء في النصوص يحرفون النصوص، يفسرون بالإرادة يقول: يحب المقسطين يعني يريد الإنعام عليهم، يحب المتقين يعني يريد أن ينعم عليهم أو يقول: يحب المقسطين يعني يشيد بهم.   (1) - سورة آل عمران آية: 31. (2) - سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وهكذا يفسرون المحبة إما بالإرادة وإما بالثواب، أو إرادة الثواب فيمحون عن الله حقيقة المحبة وهذا مبنيٌّ على أصولهم الفاسدة وإن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه فيقعون في التناقض، ويفرون من شيء فيقعون في نظير أو في شر منه، وأهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته الناس، يثبتون له كل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله كما تقدم في مذهب أهل السنة والجماعة، فيدخل في ذلك إثبات لله المحبة فأهل السنة يثبتون لله المحبة، بل يثبتون لله المحبة من الجانبين فيقولون: إنه -تعالى- يُحِب ويُحَب، يحب المؤمنين والمجاهدين والمقسطين كما في الآيات ويحبه أولياؤه يحبه المؤمنون كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) بل إنه يختص بمحبته من يشاء كما ذكر في هذه الآيات، بل إنه يفضل بعض عباده في هذه المحبة، ولهذا اتخذ من عباده من اتخذه خليلًا كإبراهيم ومحمد -صلوات الله وسلامه عليهما- وسائر النبيين {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) } (2) . ومن الأدلة على إثبات صفة المحبة قوله -تعالى-: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) } (3) ودود، نقول: من المودة، من المودة قيل: ودود كغفور يعني كثير المغفرة، وودود يعني كثير المودة لأوليائه، وقيل: ودود بمعنى مودود أو محبوب والأول هو الراجح في تفسير هذا الاسم. نعم أيش تقول: الودود وهو مودد يعني محبوب فعلًا هو محبوب لأوليائه يحبهم ويحبونه لكن رجَّح العلامة ابن القيم في كلامه على هذا الاسم إن معناه ودود يعني أي كثير المودة لأوليائه وعباده الصالحين إجراءً لهذا الاسم مجرى غفور وشكور وما أشبه ذلك وعفوٌّ من الأسماء الحسنى، نعم.   (1) - سورة المائدة آية: 54. (2) - سورة النساء آية: 125. (3) - سورة البروج آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أسئلة يقول: فضيلة الشيخ والسلام عليكم ورحمته وبركاته. وعليكم السلام ورحمته وبركاته. س: من المعلوم أن الأشاعرة يثبتون سبعًا من الصفات لله -تعالى- ومن ذلك البصر فهل المقصود بإثباتهم للبصر إثباتهم للعينين لله سبحانه؟ . ج: أنا ذكرت هذا في أثناء الكلام قلت: إنهم يثبتون البصر لكن لا يثبتون العينين. نعم. س: وهذا انتشر بين كثير من الشباب ظاهرة سيئة لولا أنني لاحظتها بشكل كبير لما تحدثت عنها ولست وحدي الذي لاحظها فقد لاحظها كثير من الإخوان القادمون من الرياض القادمون من خارج هذه المنطقة ألا وهي ترك السلام حتى بين الشباب بعضهم مع بعض، كلمة توجيه يا فضيلة الشيخ. ج: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) فالأخوة الإيمانية هي أوثق الصلات وهي تقتضي التحاب بين المؤمنين ويكفي في الترغيب في السلام أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " فإفشاء السلام به إيناس وتحاب، إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم سلم عليه انشرح صدره وأنس بأخيه وركن له وزالت الوحشة فإذا أعرض عنه تدخل الشيطان وألقى الظنون السيئة والخواطر السيئة وامتلأت القلوب من الأحقاد الكاذبة وربما تجاوز الأمر إلى العداوات والحزازات والظلم والاعتداءات والغيبة بسبب هذا التدابر " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا " وصايا كريمة " وكونوا عباد الله إخوانًا ". وإن هذه الظاهرة لظاهرة سيئة كيف يُعْرِض المسلم عن أخيه المسلم من غير موجب؟ وهذا ما يحتمله هذا الوقت بالنسبة لهذه المسألة نعم. س: وهذا يقول: هل الاستغفار عند الانحراف في وقت قضاء الحاجة تكون في داخل الحمام أم بعد الخروج منه؟ . ج: لعله بعد الخروج أفضل. نعم.   (1) - سورة الحجرات آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 س: وهذا سائل يقول: ورد في شرح الوسطية قول عين يرى بها جميع المرئيات هل في هذه العبارة محظور ولو قلنا: عبارة أخرى يبصر بها ما شاء فهل هذا يكون أحوط؟ وجزاكم الله خيرًا. ج: لا لعل العبارة لمن الشيخ عبد الرحمن الساعدي على كل حال العبارة بالكتاب صحيحة وصالحة والعبارة بالكتاب غير صالحة؛ لأن قوله: يبصر بها ما شاء يمكن أن يكون فيها تقييد فليرى بها جميع المرئيات فبصره نافذ لجميع المخلوقات، فالعبارة التي في الكتاب هي الصحيحة وهي المعتبرة نعم. س: وهذا يقول أشكل علي هذا الحديث " الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها كأن يزني الرجل بأمه ". ج: هذا الحديث صحيح، صححه بعضهم وله شواهد نسأل الله السلامة والعافية والرِّبا من أعظم المنكرات وشر الذنوب واقرأ الآيات قبل الربا في سورة البقرة لتتصور خطر الربا نعوذ بالله من الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) إلى أن قال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) وقال: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) } (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } (4) الآية، نعم. س: وهذا يقول: قلت -حفظك الله- إن آدم خصه الله خلقه بيديه دون سائر المخلوقات ولكن ألم يثبت أنه خلق الجنة والفردوس الأعلى ألم يثبت أنه خلقها بيده وغرسها بيده؟ .   (1) - سورة البقرة آية: 275. (2) - سورة البقرة آية: 276. (3) - سورة البقرة آية: 278. (4) - سورة البقرة آية: 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ج: أولًا يُنْظَر في صحة هذا الحديث الذي تعنيه فإذا كان صحيحًا وجب الإيمان به وكان يعني قولنا أو قول أهل العلم: إن آدم خصَّه الله بأن خلقه بيده يعني خصوصية على سائر بني الإنسان أو سائر الإنس والجن والملائكة في كون هذا التخصيص باعتبار هذه الأجناس فليس هذا بمشكل ولله الحمد، نعم. لم يرد أن ابن عمر أناخ راحلته مستقبلًا القبلة ثم جلس يبول إليها فقيل: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي ذلك في الفضاء فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. هذا من أدلة أهل القول من أدلة من يقول: بجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان وابن عمر لعله أخذه مما رواه ورآه من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مضمون الحديث الآنف الذكر ولكن هذا رأيه، نعم. س: وهذا يقول: نحن شباب قدمنا من خارج هذه المنطقة وقصدنا هو طلب العلم والمدة محدودة لذا نرجو يا شيخ تكملة باب الطهارة في هذه الدورة وجزاك الله خيرًا. ج: والله يا حبَّذا نرجو أن نُوَفَّق أمر التكميل يخضع للإمكان والقدرة فالوقت هو نفسه محدود والتكميل لا بد أن يكون على حساب بعض الجوانب وكما لاحظتم اليوم أننا قرأنا ثلاثة أنواع من النصوص المتعلقة ببعض صفات الرب وقد رأيت أن الوقفة معها من باب الحاجة إلى ذلك وإلا فمن الممكن يعني فيه يوما أو يومين أن نعرض للآيات والشواهد التي ساقها الشيخ -رحمه الله- ونجمل الكلام عليه فإن رأينا مثلًا أن الوقت ضاق وبقي قدر كبير غيرنا الأسلوب إلى يعني التفصيل بعض الشيء إلى منهج الاختصار والاقتضاب والإجمال. إثبات اتصاف الله سبحانه بالرحمة والمغفرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قال المصنف -رحمه الله -تعالى-: وقوله: -سبحانه وتعالى- {بسم الله الرحمن الرحيم} (1) وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (2) وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } (3) وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (4) وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (5) وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) } (6) وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) } (7) . الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، هذه مجموعة من الآيات الدالة على بعض صفات الرب وأسمائه، فهي من نصوص الأسماء والصفات، وهي هذه الآيات المشتملة على إثبات اسمه الرحمن الرحيم واسمه الغفور وأنه -تعالى- أرحم الراحمين، وهذه الأسماء تدل على إثبات صفة الرحمة على ما هو مقرَّر في القاعدة المشهورة وهي أن قل اسم متضمن لصفة، فالله الرحمن الرحيم كما في هذه الآية {بسم الله الرحمن الرحيم} (8) هذه آية في سورة النحل بإجماع أهل العلم في قوله -تعالى-: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بسم الله الرحمن الرحيم} (9) وأما البسملة التي يفتتح بها السور ففيها خلاف.   (1) - سورة النمل آية: 30. (2) - سورة غافر آية: 7. (3) - سورة الأحزاب آية: 43. (4) - سورة الأعراف آية: 156. (5) - سورة الأنعام آية: 54. (6) - سورة يونس آية: 107. (7) - سورة يوسف آية: 64. (8) - سورة النمل آية: 30. (9) - سورة النمل آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والصواب أنها آية يعني قيل: إنها آية من كل سورة وقيل: إنها آية أنزلت للفصل بين السور والدلالة على ابتداء السورة وهذا أوجه أي أنها آية من القرآن أنزلت للدلالة على أوائل السور والفصل بين السور وهذان الاسمان الرحمن الرحيم قد جاءا في مواضع كثيرة من القرآن "الرحمن الرحيم" جاءا مقترنين كما في البسملة وفي مواضع أخرى كقوله، -تعالى-: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } (1) وجاء يعني مُتفرِّقَيْن يعني ذُكِر الرحمن في مواضع وحده والرحيم يذكر وحده أو مع اسم آخر فالرحيم قُرِن باسم آخر كالغفور والرءوف، {إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } (2) {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) } (3) وهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى فهو الرحمن وهو الرحيم. والمشهور في الفرق بينهما أن الرحمن يدل على الرحمة العامة والرحيم يدلُّ على الرحمة الخاصة بالمؤمنين، وقال بعضهم: الرحمن يعني في الدنيا والآخرة والرحيم يعني في الآخرة وهذا قريب من الذي قبله والحق أنه -سبحانه وتعالى- الرحمن الرحيم في الدنيا والآخرة. وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان يعني يدلان على الرحمة وهي معنًى فيه رقَّة يعني فيه الرحمة تقتضي الإحسان والإنعام والإكرام ولا يقال: إن هذا تفسير للرحمة؛ لأنها صفة معقولة المعنى وضد الرحمة القسوة وضد الرحمة العذاب: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) } (4) {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) } (5) .   (1) - سورة البقرة آية: 163. (2) - سورة البقرة آية: 143. (3) - سورة البقرة آية: 218. (4) - سورة الإسراء آية: 54. (5) - سورة العنكبوت آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وفرَّق ابن القيم في الفرق بين هذين الاسمين بأن الرحمن يدل على الرحمة الذاتية والرحيم يدل على الرحمة الفعلية، الرحمة الذاتية للرب سبحانه فإنه -تعالى- لم يزل ولا يزال متصفًا بالرحمة فالرحمة من صفاته الذاتية وهو موصوف بالرحمة الفعلية التي تتعلق بها مشيئته هذه هي الرحمة الفعلية صفة فعلية يرحم مَن يشاء فلا يزال يرحم مَن يشاء كيف يشاء وتقول: لا يزال الله -سبحانه وتعالى- رحيمًا لا يزال موصوفًا بالرحمة، لم يزل ولا يزال موصوفًا بالرحمة -سبحانه وتعالى- هذا اسمان عظيمان. وقد أنكر الكفار اسمه الرحيم فأنكر الله عليهم ذلك وكفَّرهم قال -تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) (60) } (1) {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) } (2) . إذن الرحمن الرحيم اسمان من أسمائه الحسنى يدلان على صفة الرحمة وفي الآيات الآخرة التصريح بصفة الرحمة قال الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (4) وقوله: -سبحانه وتعالى-: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) } (5) .   (1) - سورة الفرقان آية: 60. (2) - سورة الرعد آية: 30. (3) - سورة الأعراف آية: 156. (4) - سورة غافر آية: 7. (5) - سورة يوسف آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فالعباد يوصفون بالرحمة " الراحمون يرحمهم الله " {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (1) فالعباد يوصفون بالرحمة وليس هذا من التشبيه في شيء فللمخلوق الرحمة التي تناسبه وللرب الرحمة التي تناسبه وتليق به وليست الرحمة كالرحمة ولا الرحيم كالرحيم، المخلوق كذلك يسمى رحيمًا كما قال له -عليه الصلاة والسلام- {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } (2) فالله رءوف رحيم والنبي رءوف رحيم وليس الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم. فللمخلوق من هذه الأسماء وهذه الصفات ما يناسب وللرب -تعالى- من أسمائه وصفاته ما يناسبه ويليق بعظمته وجلاله وكبريائه. وأهل السنة والجماعة منهجهم في هذه الصفات وهذه الأسماء منهج واحد، إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية وهذا معنى قول السلف في نصوص الصفات أمِرُّوها كما جاءت، يعني أمِرُّوها كما جاءت مثبتين عليه مؤمنين بها غير محرِّفين لها ولا مكيِّفين لما تدلُّ عليه بلا كيْف. فأهل السنة والجماعة يثبتون لله -سبحانه وتعالى- صفة الرحمة على حقيقتها حقيقة، وأما أهل الكلام أهل البدع والضلال فهم ينفون حقيقة عندهم ويفسرون الرحمة في حقه بنحو ما يفسرون به المحبة فيما سبق يفسرونها بالإرادة أو بما يخلق الله من النعم والمنافع التي ينتفع بها العباد وينفون حقيقة الرحمة. الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ينفون حقيقية الرحمة؛ لأنهم يقولون إن الرحمة رقة تعتري من قامت به الرحمةُ وهذا ما لا يليق به -سبحانه- الرقة فيها ضعْف وهذا خطأ هذا تفسير لرحمة المخلوق هي التي يعبَّر عنها بأنها رقة تعتري مَن قامت به تعتريه رقة وانفعال، هذه رحمة المخلوق فبسبب هذا التوهُّم لما توهموا من إثبات صفة الرحمة أنها مثل رحمة المخلوق نفوا حقيقة الرحمة وفسروها أنها رحمة بالإرادة.   (1) - سورة الفتح آية: 29. (2) - سورة الأحزاب آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقالوا: الرحمة من الله رحمة بالإنعام والإحسان على عباده، أو أن المراد به الرحمة برحمته -تعالى- هو ما يخلقه -تعالى- من النعم التي ينعم الله بها على عباده نعم، الواقع أن هناك رحمة هي مخلوقة لكن هذا غير صفة الرحمة التي هي صفة الرب -تعالى-، فالرحمة تضاف إلى الله صفة له كما في هذه الآيات: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (1) {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (2) {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) } (3) {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) } (4) . وهذه الرحمة هي الصفة التي هي صفة الرب قائمة به، رحمة صفة قائمة به كعلم، وسمعه، أما الرحمة المخلوقة فأضافتها إليه كإضافة المخلوق إلى خالقه كما في الحديث الصحيح " إن الله خَلَق مائة رحمة أنزل منها واحدة وجعلها بين العباد يتراحمون بها وجعل عنده تسعًا وتسعين " ويوم القيامة يتممها مائة ويجعلها كلها في الجنة يرحم بها عباده المؤمنين والجنة هي رحمة -سبحانه وتعالى-: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) } (5) تقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} (6) هذا توسل إلى الله هذه صفة {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } (7) {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} (8) .   (1) - سورة الأعراف آية: 156. (2) - سورة غافر آية: 7. (3) - سورة الأعراف آية: 151. (4) - سورة يوسف آية: 64. (5) - سورة آل عمران آية: 107. (6) - سورة النمل آية: 19. (7) - سورة النمل آية: 19. (8) - سورة الجاثية آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 هذه هي الرحمة المخلوقة ذلك في الفوز المبين، فالرحمة المضافة لله نوعان: صفة له أو مخلوقة، فالأول من إضافة الصفة إلى الموصوف والثاني إضافة المخلوق إلى خالقه، فانظر بعد ما ذكر إنزال الغيث بعد يأسٍ مِن العباد قال -تعالى-: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (1) فالمطر رحمة ونعم الله هي رحمة منه بعباده، الجنة هي رحمته التي يرحم بها عباده المؤمنين. فالمقصود أن هذه الآيات هي دالة على إثبات ما اشتمل عليه من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فيجب إثبات ذلك له -سبحانه وتعالى- على ما يليق به ويختص به بلا تحريف وصرف للنصوص عن ظاهرها كما يفعل أهل التعطيل والضلال ولا تكيف، ولا تمحو وهذا منهج أهل السنة والجماعة، وأما المعطلة فينفون حقيقة الصفات ثم يؤولون النصوص، الغالب عليهم تأويل النصوص، ومنهم المفوض ويقول: هذه النصوص لا نقول فيها شيئا بل نقرها ألفاظًا دون تفسير لها ودون فهم لمعناها فهي نصوص لا تدل على شيء ولا يفهم منها شيء وكل من القولين باطل -أعني قول أهل التفويض وأهل التأويل- بل هذه النصوص دالة على معاني معقولة وبهذا عرفنا أن له -تعالى- رحمة وأنه رحيم وأن رحمته واسعة وأنه -سبحانه وتعالى- وسع كل شيء رحمة وعلمًا وأنه لم يزل رحيما رءوفًا رحيمًا -سبحانه وتعالى-. وهذا العلم وهذا الإيمان يوجب التوجه إلى الله بطلب رحمته وبعث الرجاء في قلوب المؤمنين إذا تدبَّر المسلم هذه الآيات تعلق قلبه بربه وقوي أمله فيه وقوي رجاؤه فصار يرجو رحمته يدعونه {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) } (2) .   (1) - سورة الروم آية: 50. (2) - سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أو لهذا المؤمنين بناء على هذا العلم يضرع إلى الله: اللهم ارحمني اللهم احمني وارحم عبادك المؤمنين فيدعو لنفسه بالرحمة ويدعو لإخوانه المؤمنين يسأل ربه أن يرحمه وإذا رحمه الله إذا رحمه ربه أنعم عليه بأنواع النعم وأعظم رحمة يرحم الله بها عبده أنه يوفقه للإيمان والعمل الصالح والاستقامة على ذلك،نعم. ذكر رضى الله وغضبه وسخطه وكراهيته وأنه متصف بذلك وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) وقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (2) وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (3) وقوله: {فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (4) وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (5) وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } (6) .   (1) - سورة المائدة آية: 119. (2) - سورة النساء آية: 93. (3) - سورة محمد آية: 28. (4) - سورة الزخرف آية: 55. (5) - سورة التوبة آية: 46. (6) - سورة الصف آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 كذلك هذه الآيات اشتملت على إثبات بعض صفات الله -سبحانه وتعالى- وهي الرضا والغضب والكراهية المقت فالله -تعالى- موصوف بهذه الصفات فالله وصف نفسه بالرضا عن عباده {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) وبالغضب والسخط على أعدائه {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (2) وقال في اليهود: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (3) وقال -تعالى-: في سورة الفاتحة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (4) وهم اليهود، وقال في المنافقين: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} (5) كره فهو -تعالى- يكره كما في الحديث " إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " وقال -سبحانه وتعالى-: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) } (6) وكذلك وصف نفسه بالمقت للكافرين {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (7) والمقت أشد الكفر فكما أنه -تعالى- يحب أولياءه يحب المؤمنين، يحب المقسطين التوابين والمتطهرين ويحب المتوكلين عليه كذلك يمقتُ الكافرين ويثبطهم ويكرههم.   (1) - سورة المائدة آية: 119. (2) - سورة النساء آية: 93. (3) - سورة البقرة آية: 90. (4) - سورة الفاتحة آية: 7. (5) - سورة التوبة آية: 46. (6) - سورة الإسراء آية: 38. (7) - سورة غافر آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات يثبتون هذه الصفات ويؤمنون بها كما جاءت يؤمنون بأن الله -تعالى- يرضي ويغضب ويكره ويمقت -حقيقته كل هذا حقيقة هو حقٌّ على حقيقته حسبما يليق به -سبحانه وتعالى- المخلوق يوصف بهذه الصفات المخلوق يغضب {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} (1) {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (2) غضب من غضبه هو، وليس الغضب كالغضب، كذلك المقت في آية واحدة {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (3) والمخلوق يوصف بأنه يكره {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (4) . يكره وليس صفة الخالق كصفة المخلوق ولا صفة المخلوق كصفة الخالق فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيف هذه دلالة أسس تمثيل نفسي العلم بالكيف ما لأهل السنة والجماعة في هذه الصفات قائم على هذه الأصول الثلاثة يتضمن ثلاثة أشياء إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي التمثيل أي نفي مماثلته -تعالى- لخلقه وأن صفاته لا تماثل صفات المخلوق فصفاته -سبحانه وتعالى- لا يعلم أحد من الخلق كيفيتها لها كيفية صفة الرب لها كيفية نعم لها كيفية لكن الذي يعنبنا، ويجب علينا ألا نبحث عن كيفية إثبات الرب؛ لأن ذلك لا علم لنا به مما قد استأثر الله بعلمه كيفية ذاته وصفاته.   (1) - سورة الأعراف آية: 150. (2) - سورة الأعراف آية: 154. (3) - سورة غافر آية: 10. (4) - سورة الحجرات آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولهذا نقول: نفي العلم ما نقول: نفي الكيفية نفي العلم بالكيفية لا نعلمه وقول السلف: تمر كما جاءت بلا كيف يعني بلا تكييف لصفاته وبلا بحث عن كيفية صفاته، وأمَّا المعطِّلة من الجهميةِ والمعتزلة وكذلك الأشاعرة في هذه الصفات فإنهم ينفون حقيقةَ الرِّضا والغضب والكراهية والمَقْت ويفسرون هذا كلَّه بالإرادة بإرادة الانتقام نحو تفسيرهم للمحبة والرحمة، يفسرون هذه المعاني بإرادة الانتقام يعني ينفون حقيقة الرضا وحقيقة الغضب وحقيقة الكراهة والبغض ويفسرون ذلك إما بالإرادة وإما بعض المفعولات وهي ما يخلقه -تعالى- من العقوبات، يعني نفس المقت العقوبة التي يخلقها الله هي الكراهة وهي كذا وكذا وكذلك الرضا يفسرونه بإرادة الانتقام نحو تفسير المحبة والرحمة. وهذا تحريف للكلم عن مواضعه كما تقدم ويدَّعون أن الغضب مثلًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام فيقال لهم: هذا تفسير لغضب المخلوق هذا تفسير لغضب المخلوق هذه حقيقة غضب المخلوق وما يمكن أن يقال عنه غضب المخلوق. هو الذي يمكن أن يفسر بأنه غليان دم القلب، أما غضب الرب فلا، ما يفسر هذا التفسير غضب معنى معقول مقابل الرضا أو جنده الرضا أو من آثاره الانتقام وإنزال العقاب بمن غضب الله عليه -نعوذ بالله من غضب الله-، فيجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من هذه الصفات بأنه -تعالى- يرضي ويغضب ويكره ويمقت يوجب للعبد خوفًا ورجاءً يوجب له أن يطلب رضا الله وأن ترغب نفسه في ذلك وإن رضوانَ الله لأكبر ما يمن الله به على أوليائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حتى إذا دخل المؤمنون الجنة، الله -تعالى- يتجلى لهم ويقول لهم: ماذا تريدون ويقول: " ألا أعطيتكم ما لم أعط أحدًا من العالمين فيقولون: ماذا نريد وقد أعطينا، بيضت وجوهنا وأدخلتنا الجنة فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا " أو كما جاء في الحديث " أحل عليكم رضواني فلا أسخط " فهذا أفضل ما يعطي الله أولياءه قال الله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (1) رضوان من الله يُحله على أوليائه، هو أكبر من نعيم الجنة يعني أكبر ممَّا في الجنة من أنواع النعيم من المطاعم والمشارب والملابس. ومثله الإيمان بأنه -تعالى- يغضب يوجب للعبد أن يخاف من غضب الله ويستعيذ منه، وفي الحديث الصحيح " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فالإيمان بصفات الرب وصفاته آثار على القلب وآثار على سلوك العبد توجب العلم بأسماءِ الله وصفاته. والإيمان بها ولتحقيق لذلك له آثار باطنة وظاهرة تورث الموثقين من عباد الله محبته -سبحانه- وخوفه ورجاء التوكل عليه كل هذا من آثار الإيمان بأسمائه وصفاته. نعم.   (1) - سورة التوبة آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ذكر مجيء الله لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (1) وقوله -تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} (2) وقوله -تعالى-: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (3) وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) } (4) . وهذا أربع آيات أيضًا هي من نصوص الصفات ويدل على إثبات صفة فعلية المجيء والإتيان، والمجيء والإتيان معناهما متقارب {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (5) أي: هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وذلك يوم القيامة وهذا اليوم يأتيهم الله فيه يوم عصيب عليهم ماذا تكون حالهم إذا لقوا الله وقد كفروا به وبرسله وأشركوا به وأعرضوا عن هداه عنه لموقف موقف ذلٍّ وهوان وحسرة إذا جاء -سبحانه وتعالى- وهذه حاله، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (6) والملائكة يأتون كما في آيات الفجر {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (7) تأتي الملائكة وهكذا قوله -سبحانه وتعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ} (8) كل هذا سيأتي.   (1) - سورة البقرة آية: 210. (2) - سورة الأنعام آية: 158. (3) - سورة الفجر آية: 21-22. (4) - سورة الفرقان آية: 25. (5) - سورة البقرة آية: 210. (6) - سورة البقرة آية: 210. (7) - سورة الفجر آية: 22. (8) - سورة الأنعام آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ستأتي الملائكة {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) } (1) إلى أن قال -تعالى-: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) } (2) والقرآن متشابه يُصَدِّق بعضه بعضًا - ففي الآية الأولى قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (3) هناك ظلل من الغمام، السحاب الذي الله أعلم بمداه وبمقدار وبصفته، أمور غيبية لا تحيط بها عقول العباد ويوم تشقق السماء بالغمام وتأتي منها الظلل ظلل الغمام وينزَّل الملائكة {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) } (4) . تنزل الأملاك بأمر الله الملائكة تنزل بأمر الله وتفعل ما تُؤمَر به مما يشاء -سبحانه وتعالى- فالملائكة في الدنيا وفي الآخرة هم رسل الله يوكلون بما يشاء -سبحانه- ملائكة موكلون بكذا بالوحي، بالقَطْر، بقبض الأرواح، بالجبال بما يشاء -سبحانه وتعالى-، يوم القيامة أيضًا يأتون ويفعلون ما يؤمرون {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } (5) {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) } (6) {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} (7) متى يوم القيامة أو يأتي بعض آيات ربِّك وجاء تفسير هذه الآية هذا البعض وهو طلوع الشمس مِن مغربها كما جاء في الصحيح أنه " إذا طلعت الشمس من مغربها آمن مَن على وجه الأرض ولكن لا ينفع نَفْسا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ".   (1) - سورة الفرقان آية: 22. (2) - سورة الفرقان آية: 25. (3) - سورة البقرة آية: 210. (4) - سورة الفرقان آية: 25. (5) - سورة التحريم آية: 6. (6) - سورة الفرقان آية: 25. (7) - سورة الأنعام آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فيجب إثبات ما دلت عليه هذه الآيات من مجيئه -سبحانه وتعالى- فيجب الإيمان بأنه يجيء كيف شاء لا يصلح أن يتخيل العباد كيفية مجيء الرب ونزوله -سبحانه وتعالى- لا يصح أن نتخيل ولا نفكر في هذا أبدًا؛ لأنه لا سبيل لعقول العباد إلى أن يتصوروا كيفية نزوله وكيفية مجيئه -سبحانه وتعالى-؛ لأنه ينزل كيف شاء ويجيء كيف شاء -سبحانه وتعالى- فالعقول قاصرة عن تكييف ذاته وصفاته بل هي قاصرة عن تكييف بعض المخلوقات تكييف الرب -تعالى- وصفاته أعجز وأهل السنة والجماعة يثبتون ذلك ويؤمنون به ويعلمون أنه -تعالى- سيأتي يوم القيامة للفصل بين عباده، يأتي للفصل بين عباده والحكم بينهم ليجزي العاملين بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر في ذلك اليوم الذي هو يوم الدين سبحان الله العظيم. والإيمان بذلك يوجب الإعداد والإيمان باليوم الآخر والإيمان بما يكون فيه من مجيء الأملاك يوجب الإعداد لذلك اليوم فإن من الناس من يلقى ربه وهو عليه غضبان -نعوذ بالله من ذلك- اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافتك من عقوبتك وبك منكم نسأله -تعالى- أن يجعلنا ممن يسعد بلقائه ويكون فائزًا مسرورًا بذلك إنه -تعالى- سميع الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله نعم. إثبات الوجه واليدين والعينين لله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال -رحمه الله- -تعالى- وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (1) وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (4) وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (5) وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) } (6) وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (7) .   (1) - سورة الرحمن آية: 27. (2) - سورة القصص آية: 88. (3) - سورة ص آية: 75. (4) - سورة المائدة آية: 64. (5) - سورة الطور آية: 48. (6) - سورة القمر آية: 13-14. (7) - سورة طه آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه هذه الآيات ساقها المؤلف شاهد وأدلة على إثبات بعض صفات الرب -سبحانه وتعالى- فهي من نصوص الصفات فدلت الآيتان الأوليان على إثبات الوجه له والآيتان الأخريان على إثبات اليدين والآيتان الأخيرتان على إثبات العينين له -سبحانه وتعالى- وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا كله لله على ما يليق به -سبحانه- يثبتون مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية يثبتون الوجه لله واليدين والعينين وأن وجهه ليس كوجوه العباد، العباد لهم وجوه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) } (1) العباد لهم وجوه وليس وجه الخالق كوجه أحد من الخلق ولا يعلم العباد كيفية وجهه كما لا يعلمون كيفية ذاته هذه الثلاثة أسس تقدم التنبيه عليها وهكذا يثبت أهل السنة اليدين له -تعالى- تصديقًا لخبره سبحانه يثبتون اليدين أن له -تعالى- يدين يفعل بهما ويخلق ما يشاء وليست كأيدي العبد ولا يعلم العبادة كيفيتها وهكذا العينان يثبتها أهل السنة يؤمنون بأن لله عينين ويرى بهما كما في الآيتين تجري بأعيننا، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (2) {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (3) .   (1) - سورة القيامة آية: 22. (2) - سورة الطور آية: 48. (3) - سورة طه آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأهل الضلال الذين أصلوا أصولهم الباطلة ومن أصولهم أنه -تعالى- لا تقوم به أي صفة هو ذات مجرد فهؤلاء ينفون حقيقة الوجه واليدين والعينين، إثبات هذا لله تشبيه فينفون عن الله الوجه ليس له وجه وليس له يدان يفعل بهما ويخلق بهما وليس له عينان أبدًا ينفون هذا كله وهذا ردٌّ لما أخبر الله به ورسوله ويسلكون في هذه النصوص ما ذكرت في الليلة الماضية يسلكون فيها إما طريقة التفويض يقولون: هذه النصوص تُقرأ ولا تتدبر ولا يُفهم منها شيء ولا تدل على إثبات صفات له -سبحانه وتعالى- تقرأ على القاعدة فقط ولا يوقف عندها ولا يتدبر معناها وآخرون يتأولون هذه النصوص يؤولونها، يؤولون الوجه، يقولون: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (1) الوجه هذه كلمة زائدة والمعنى ويبقى ربك هذه الصفة ما لها يعني يصح حذفها أولا من الكلام الله -تعالى- أو المراد بالوجه يعني نفس الذات. فيبقى وجهه يعني ذات ربك أو الثواب وهذه أي ويبقى ثواب ربك وهذه من تأويلاتهم الباطلة وهي سمجة ولا موجب لهذا إلا أصلهم الباطل وهو نفي صفات الرب -سبحانه وتعالى- فلما أصلوا الأصل الباطل لا بد أن يقفوا من هذه النصوص موقف يبتغون مرافقها لمذهبهم الباطل فيحرفونها وهكذا اليدين يؤولونها بكذا بكذا بالقدرة اليد القدرة، اليد النعمة، وهذه تأويلات تخالف سياق الكلام ولا أصل لها من لغةٍ ولا شرع ولو كان قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) يعني القدرة له قدرة ولا يقال لله قدرة ونعمه كثيرة لا تحصى ولو كان معنى {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) يعني بقدرتي مثلًا فلآدم خصوصية فالكل مخلوق بقدرة الله -سبحانه وتعالى-.   (1) - سورة الرحمن آية: 27. (2) - سورة ص آية: 75. (3) - سورة ص آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهكذا يتأولون يعني العينين بنفس البصر أو الرؤية عند من يثبت الرؤية والبصر كالأشاعرة يثبتون البصر والرؤية بمعناهما أو قريب ولكنهم لا يثبتون العينين له سبحانه، وأمَّا أهل السنة فمجمعون على إثبات هذه الصفات، وتدل على إثبات هذه الصفات الكتاب والسُنة والإجماع وقوله -سبحانه وتعالى-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) } (1) إن الله يخبر -سبحانه وتعالى- عن كل شيء سيفنى ويذهب وكل ما عليها من نبات وحيوان سيبلى ويفنى ثم يبعث الله الموتى من قبورهم بعدما يفنيهم جميعًا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (2) وهكذا قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} (3) كل شيء هالك وبالٍ وميت يموت الإنس والجن والملائكة الكل {إِلَّا وَجْهَهُ} (4) -سبحانه وتعالى- تدل هاتان الآيتان على إثبات الوجه له -تعالى- وتدل على بقائه على أنه -سبحانه وتعالى- الباقي الذي لا يفنى كما يفنى غيره له البقاء والدوام فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، فلا يجوز عليه الفناء ولا يجوز عليه الموت هو الحي الذي لا يموت الذي لا يموت والقوي الذي لا يَضْعُف والقدير الذي لا يعجز -سبحانه وتعالى-. -سبحانه وتعالى-.   (1) - سورة الرحمن آية: 26. (2) - سورة الرحمن آية: 27. (3) - سورة القصص آية: 88. (4) - سورة القصص آية: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وليس لقائل أن يقول: إن قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (1) إن الآية إنما تدل على بقاء الوجه فتحتاج إلى تأويل كما طرح هذا بعض السائلين ولا يتوهم جاهل بدلالات الكلام كل عاقل يعرف أساليب الكلام ولا سيما اللغة العربية يُدرك أن معنى قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (2) أنها تدل على بقائه -تعالى- وعلى أنه باق ولا تدل بظاهرها أبدًا على أن البقاء لوجهه فقط وأنها ذاته تحتاج إلى تأويل فهو هكذا ساذج لا يحسن فَهْمَ الكلام، والتأويل هو صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر وعن احتمال راجح إلى احتمال مرجوح، فنسأل هل هاتان الآيتان تحتاجان إلى تأويل؟ نقول: إن ظاهرهما أنه -سبحانه وتعالى- أن البقاء لوجهه فقط أعوذ بالله من ذلك هل هذا ظاهرهما؟ لا ليس ظاهر الآيتين هذا بل ظاهرهما أنه -سبحانه وتعالى- الباقي {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (3) يفهم كل عاقل يفهم دلالات الكلام أن هاتين الآيتين يفهم منهما أنه -سبحانه وتعالى- الباقي الذي لا يفنى وأن له وجها. فأفاد الترتيب إثبات البقاء له -تعالى- وإثبات الوجه له -تعالى- ولا يفيد أن البقاء مخصوص أو خاص بالوجه دون ذاته -تعالى- عند فهم الخاطئين الغالطين فدلت الآيتان على أن له وجها قد وصف -سبحانه وتعالى- وجهه بالجلال والإكرام {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} (4) فوجهه موصوف بالجلال وبالعظمة والكبرياء وبالإكرام ذو الجلال والإكرام فهو -تعالى- الذي يكرم عباده وهو المستحق للإكرام هو المستحق من عباده أن يكرموه بطاعته وتقواه وبتعظيمه وإحلاله ثناءً عليه وتمجيدًا له وتعظيمًا له وتنزيها له عن كل نقص وعيب ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فوجهه يوصف بذي الجلال والإكرام فهو -تعالى- ذو الجلال والإكرام.   (1) - سورة الرحمن آية: 27. (2) - سورة الرحمن آية: 27. (3) - سورة الرحمن آية: 27. (4) - سورة الرحمن آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 كما تدل الآيتان على أن كل عمل لغير الله باطل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1) فإن كل ذلك يتضمن أنه هو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه وأن كل عمل لغيره فهو فان، كل عمل لغيره فهو هالك ذاهب {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) } (2) ولا يبقى إلا ما كان خالصًا لوجهه {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) } (3) وكذلك قوله -تعالى-: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4) توبيخ من الله لإبليس عندما امتنع عن السجود لآدم {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (5) يُظِهر الله فَضْل آدم، آدم فضَّله الله بفضائل نفخ فيه من روحه وعلمه أسماء كل شيء وأسجد له الملائكة وخلقه بيده من بين سائر المخلوقات كل شيء.. كل الموجودات هي خلقه -سبحانه- خلقها بقدرته ومشيئته وأمره {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) } (6) إنما آدم خلقه الله بمشيئته وأمره {إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) } (7) .   (1) - سورة القصص آية: 88. (2) - سورة الفرقان آية: 23. (3) - سورة الكهف آية: 46. (4) - سورة ص آية: 75. (5) - سورة ص آية: 75. (6) - سورة النحل آية: 40. (7) - سورة آل عمران آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولكن خصَّ آدم بأن خلقه بيديه -تعالى- كيف يشاء ونقف عند خصوصية خلقه بيديه والله يفعل بيديه ما شاء ويخلق بيده ما شاء كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن الله يأخذ أرضه وسماءه بيديه فيهزهن ويقول لهن: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " وهذه الأحاديث تفسر قوله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) . له يدان -تعالى- يفعل بهما يخلق بهما يأخذ بها ما شاء كيف شاء ولكن لا نكيفها ولا نتخيلها أبدًا نؤمن بهما بأن لله يدين حقيقة يفعل بهما، يخلق بهما ما شاء يأخذ بهما ما شاء -سبحانه وتعالى- ولا نقول: إنه له يدان وليستا جارحتين فإن هذه العبارة يطلقها بعضهم وهي عبارة مبتدعة موهمة توهم وقد تتضَّمن نفي حقيقة اليدين فلفظة جارحة تحتاج إلى تفسير من أين له يدان حقيقة وإذا قلنا: له يدان حقيقة فلا يعني أن له يدين كيد الخلق، له يدان يفعل بهما ما شاء -سبحانه وتعالى- وكذلك قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) الآيات {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) هذا إخبار من الله عن سفينة نوح عندما أمره الله بصنعها فصنعها {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (4) .   (1) - سورة الزمر آية: 67. (2) - سورة القمر آية: 14. (3) - سورة القمر آية: 14. (4) - سورة المؤمنون آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فنوح عليه السلام صنع الفلك على عين الله وبمرأى من الله وجرت به وبمن معه من المؤمنين أيضًا بمرأى منا وليس هذا على التأويل في شيء هذا على التعبير عن دلالة الكلام، المعنى تجري بمرأى منا تجري والله يرعاها ويراها، يراها بعينه التي لا تنام فمن قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (1) فقد عبَّر المعنى تعبيرًا صحيحًا وليس هذا تأويلا للعين ولا نفيا للعين بل هذا يتضمن إثبات العين؛ لأن العين بها تكون الفائدة {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) بمرأى منا فالله يراك. ومن كان الله يراه يرعاه ويحفظه ويحرسه فإنه لا خوف عليه كما قال -تعالى-: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } (4) {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) } (5) {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) } (6) {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) } (7) ويقول أهل السنة: إن لله عينين وإن كان لفظ العينين لم يرد في القرآن ولم يصح به حديث فيما أعلم وإن ذُكِر فيه حديث لكن في ثبوته نظر لكن أهل السنة فهموا من كلام في القرآن أن لله عينين ولا يجوز الخروج عن سبيل المؤمنين فسبيل المؤمنين هو هذا.   (1) - سورة القمر آية: 14. (2) - سورة القمر آية: 14. (3) - سورة الطور آية: 48. (4) - سورة الشعراء آية: 217. (5) - سورة الشعراء آية: 218. (6) - سورة الشعراء آية: 219. (7) - سورة الأنفال آية: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (1) في موسى يربى في بيت فرعون على عين الله والله -تعالى- يرعاه ويحفظه ويحرسه -سبحانه وتعالى- من كيد الكائدين {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (2) {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (3) والله -تعالى- يحبه وحببه إلى من شاء من عباده هذه الآية على إثبات العين لله لكن لا يصح أن يقال: إنها تدل على أنه ليس لله إلا عين هذا فهم خاطئ لا يخطر إلا للجاهل بدلالات الكلام جاهل فكما أن قوله -تعالى- {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (4) هل تدل على أنه ليس لله إلا يد واحدة كما يقوله المخالفون والغالطون والمتخلفون ليس لله إلا يد واحدة بيده لا مَن كان له يدان. يقال: هذا بيده أخذ هذا بيده ولا يدل على أفراد اليد إذن قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (5) لا يدل على أنه ليس لله إلا عين يعني لا يفهم كل من كان على الفطرة وفطرته على عيني لا يدل على أنه ليس لله إلا عين يعني لا يفهم كل من كان على الفطرة وفطرته نقية سليمة من الشبهات وسليمة من الخلجات ووساوس الشيطان أبدًا ما يتبادر إلى ذهن العامي الذي على الفطرة لا يفهم أنه ليس لله إلا عين حاشا. وهكذا قوله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (6) هذا الأسلوب لا يدل على أن لله أعين كما أن قوله -تعالى-: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (7) لا يدل على أن لله أيدي كثيرة والحقيقة أنه يعني لولا وجود بعض الأفكار والوساوس والتساؤلات لما كان يعني هناك داعٍ لهذا التوقف لكن هناك إلقاءات شيطانية تكلم بها من تكلم بها من أهل البدع وتكلم بها من تكلم من جهال الناس مما عملت أيدينا هذا الأسلوب لا يدل على أن لله أيدي.   (1) - سورة طه آية: 39. (2) - سورة طه آية: 39. (3) - سورة طه آية: 39. (4) - سورة الملك آية: 1. (5) - سورة طه آية: 39. (6) - سورة القمر آية: 14. (7) - سورة يس آية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 إذن {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (1) لا يدل على أن لله أعين؛ لأن من قواعد اللسان العربي أن المثنى إذا أضيف إلى الجمع أو صيغة الجمع يذكر بلفظ الجمع قال: أهل العلم كقوله -تعالى-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) والسارق والسارقة تقطع أربع أيدي لهما؟ يدان من السارق ويدان من السارقة وهكذا قوله -تعالى-: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (3) للمرأتين قلوب أم قلبان هذه قصة عائشة وحفصة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (4) إذن الجمع لا يدل عدد كبير من القلوب إذن هذه الآيات استدل بها أهل السنة على إثبات العينين لله -سبحانه وتعالى- ولا يجوز التوقف في هذا البتة لا يتوقف بهذا إلا جاهل بما عليه السلف الصالح وجاهل بما عليه السلف الصالح وجاهل بدلالات الكلام فيجب الإيمان بكل هذه الصفات على ما يليق به سبحانه لا تشبه صفة من صفاته صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (5) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا يعلم العباد كيفية شيء من هذه الصفات. فلا يجوز أن نتخيل وجهه أو كيفيته أو كيفية العينين له -تعالى- لا تفكر فيما لا سبيل إليه فهذا من العبث ومن الهوس ومن التشاغل، ومن فتح أسباب الأفكار فلا تفكر في ذلك نؤمن بأنه -تعالى- ذو سمع وذو بصر فهو سميع وسمعه واسع لجميع أسراره وذو بصر كما تقدم واسع بصره نافذ لجميع المخلوقات وأن له -تعالى- عينين يرى بهما كيف يشاء وله عينينا تلقيا به حقيقة كما أن له يدين حقيقية كما أن له علمًا وقدرة وحياة حقيقة كل ذلك للرب -تعالى- على ما يليق به ويختص به لا يماثله شيء من صفاته. نعم   (1) - سورة القمر آية: 14. (2) - سورة المائدة آية: 38. (3) - سورة التحريم آية: 4. (4) - سورة التحريم آية: 4. (5) - سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أسئلة س: ما قولكم في قوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) إذا لم تفهم بدون تأويل؟ . ج: هذا موضوع سيأتي فلن نطيل فيه مرات أو مرتين يأتي قريبًا في آيات المعية سيأتي، وعلى كل حال ما في شيء من هذه الصفات إلا يحتاج إلى تأويل يعني هذا التأويل مبني على الفهم وعلى التصور الناقص والتصور الخاطئ هل المعية تقتضي اختلاطًا؟ يعني اتصالًا وممازجة، المعية أبدًا المعية في كل مقام بحسب معية المخلوق للمخلوق يعني عجلنا بعض الشيء معية المخلوق للمخلوق هل تقتضي اتصالا وممازجة؟ متى سيأتي؟ . ابن تيمية -رحمه الله- قال هذا القمر موضوع في السماء وهو من أصغر مخلوقات الله وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر القمر معنا هل يعني أنه معنا لازم يكون كمعيتك لصاحبك يعني فيه اتصال ويجمعكما مكان واحد وما إلى ذلك؟ لا أبدًا، المعية في اللغة العربية لا تقتضي اتصالًا ولا مخالطة وامتزاج تختلف باختلاف المضاف والمضاف إليه والله أعلم نعم. إثبات السمع والبصر لله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.   (1) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } (1) وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (2) وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } (3) وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (4) وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) } (5) وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) } (6) وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) } (7) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (8) . إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) } (9) . وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) } (10) وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) } (11) وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) } (12) . وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة   (1) - سورة المجادلة آية: 1. (2) - سورة آل عمران آية: 181. (3) - سورة الزخرف آية: 80. (4) - سورة طه آية: 46. (5) - سورة العلق آية: 14. (6) - سورة الشعراء آية: 218-219. (7) - سورة الأنفال آية: 61. (8) - سورة التوبة آية: 105. (9) - سورة الرعد آية: 13. (10) - سورة آل عمران آية: 54. (11) - سورة النمل آية: 50. (12) - سورة الطارق آية: 15-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } (1) وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) } (2) وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (3) وقوله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) } (4) . هذه الآيات كنظائرها فيما تقدم اشتملت على إثبات العديد من أسماء الله وصفاته -سبحانه وتعالى-، فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، من أسمائه وصفاته مع الإيمان بأنه تعالى لا مثيل له في شيء من ذلك، وأنه لا يعلم كيفية شيء من صفاته أحد من خلقه، فلا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم كيفية سمعه وبصره وغير ذلك، لا يعلم أحد من العباد كنه هذه الصفات، بل ذلك مما استأثر الله به، وهذه الصفات التي اشتملت عليها الآيات، منها من الأسماء السميع والبصير والعفو والغفور، والقدير كلها أسماء ثابتة لله، فهو السميع البصير، وهو العفو الغفور وهو العفو القدير، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } (5) .   (1) - سورة النساء آية: 149. (2) - سورة النور آية: 22. (3) - سورة المنافقون آية: 8. (4) - سورة ص آية: 82. (5) - سورة النساء آية: 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وتقدم بعض ذلك، وكل اسم من هذه الأسماء متضمن لصفة من صفاته -سبحانه وتعالى-، ومما يحقق أن أسماءه ليست كما تقول المعتزلة: إنها مجرد أعلام محضة، لا تدل على معان، لا بل هي أسماء تدل على معان على صفات، فهو -تعالى هو- السميع، وهو يسمع أقوال العباد حسنها وقبيحها يسمع {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (1) المرأة التي ظاهر منها زوجها، جاءت تجادل النبي -عليه الصلاة والسلام- وتشتكي حالها وعيالها، وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا تحرم به المرأة، وليس لهذا حل، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أنزل هذه الآيات في مناسبة هذه المرأة. فأبان -تعالى- أن الظهار ليس طلاقا، ولا تحرم به المرأة، ولكن تجب فيه الكفارة، وأن الظهار منكر من القول وزور، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (2) تشتكي إلى الله حالها، تقول في أمر عيالها: " إن ضممتهم إلى جاعوا "؛ لأنهم ليسوا تحت رعاية أبيهم الذي ينفق عليهم. " وإن تركتهم له ضاعوا " {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (3) يسمع، وجاء في قصة هذه المرأة عن أم المؤمنين عائشة تقول: " إني في جانب البيت، وإنه ليخفى علي بعض كلامها " وتقول -رضي الله عنها-: " سبحان من وسع سمعه الأصوات " المرأة تجادل الرسول وعائشة قريبة منهم يخفى عليها بعض كلامها، والله العلي الأعلى يسمع كلامها، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} (4) "قد": تفيد التحقيق، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي y7ن9د‰"géB فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (5) .   (1) - سورة المجادلة آية: 1. (2) - سورة المجادلة آية: 1. (3) - سورة المجادلة آية: 1. (4) - سورة المجادلة آية: 1. (5) - سورة المجادلة آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 والله سمع كلامها، متى؟ عندما كانت منها المجادلة، وكان منها الحوار، سمع كلامها، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (1) يسمع الحوار الذي بينها وبين الرسول، ثم علل ذلك: قال: {إِن اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) } (2) سمع ويسمع؛ لأنه سميع بصير، وكذلك يسمع كلام المفترين المجترئين على الله من الكفار، لكنه يحلم عليهم ويمهلهم. {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} (3) هذه مقالة لبعض اليهود، واليهود أهل جرأة على الله وتنقص، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (4) نعم. سمع الله قول هذا الكافر العنيد المجترئ على الله، إن الله فقير ونحن أغنياء، عندما أنزل الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (5) قال هذا الخبيث: الله يستقرضنا من أموالنا أو يستقرضنا أموالنا، الله فقير، والله يخبر بأنه سمع، وفي هذا الإخبار تهديد، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} (6) ليس المراد فقط الإخبار بأنه سمع، لا هذا في ظله التهديد.   (1) - سورة المجادلة آية: 1. (2) - سورة الحج آية: 75. (3) - سورة آل عمران آية: 181. (4) - سورة المائدة آية: 64. (5) - سورة البقرة آية: 245. (6) - سورة آل عمران آية: 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 نعم. لقد: وهذا فيه توطئة، اللام هي الموطئة للقسم، المعنى: والله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) } (1) فيه تهديد كما ... ما جاء في قوله تعالى: مهددا للمكذبين بالرسل {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} (2) نسمع، الله يسمع سرهم ونجواهم، وسيجزيهم على ما يدور في هذا السر والنجوى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } (3) .   (1) - سورة آل عمران آية: 181. (2) - سورة الزخرف آية: 80. (3) - سورة الزخرف آية: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فالله يسمع كلام المتآمرين على رسل الله والمتناجين بالإثم والعدوان، والرسل تكتب أيضا الملائكة الموكلون بكتابة الأعمال تكتب، إذن هذه الأقوال الخفية التي يستسر بها أهلها، هي مسموعة للرب ومكتوبة بأيدي الحفظة الكرام الكاتبين، {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } (1) وفي هذا ما فيه من التهديد والوعيد، هذا أسلوب تهديد، وكذلك من هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) هذا خطاب من الله لموسى وهارون لما أرسلهما الله إلى فرعون خافا، فرعون طاغية، وهما بشر يخافان، هذا قاله الله بعد أن قال الله عن موسى وهارون لما قال لهما: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (3) فثبتهما بوعدهما بمعيته لهما، وبأنه يسمع ويرى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (4) يسمع ما يدور بينهما وبين فرعون وقومه، يسمع كلام موسى وهارون، ويسمع كلام الفرعون الطاغية ومن معه، يسمع الكل. وفي هذا وعد ووعيد، ولكن جانب الوعد أظهر؛ لأنه جاء خطابا لموسى وهارون، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (5) .   (1) - سورة الزخرف آية: 80. (2) - سورة طه آية: 46. (3) - سورة طه آية: 43-46. (4) - سورة طه آية: 46. (5) - سورة طه آية: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أيضا {وَأَرَى (46) } (1) فهو -تعالى- من صفاته الرؤية، يرى هو سميع بصير، إذن اسمه البصير ليس اسما مجردا عن المعنى، بل اسم يدل على أنه -تعالى- ذو بصر نافذ لجميع المخلوقات، إذن هو يرى، يرى جميع المرئيات، والله -تعالى- ينوع الأدلة على إثبات هذه الصفة إثبات صفة الرؤية {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) } (3) . والله يرى ما يجري بين الرسل وأعدائهم المكذبين، يرى -سبحانه وتعالى- العباد في مساجدهم ومحاربهم، يراك أيها العبد، فاحذر أن يراك ربك حيث نهاك، وفي ذكر السمع والرؤية في هذه المواطن تثبيت لقلب الرسل وأتباعهم، فيه تقوية لعزمات العابدين إذا استحضر العبد -وهو يعبد ربه- أن الله يراه، هذا مقام من مقامات الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) } (4) . ومن الآيات الدالة على الرؤية قوله -سبحانه وتعالى-: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (5) {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (6) إلى قوله: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (7) إلى قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (8) .   (1) - سورة طه آية: 46. (2) - سورة طه آية: 46. (3) - سورة الشعراء آية: 217-218. (4) - سورة الشعراء آية: 217-219. (5) - سورة التوبة آية: 94. (6) - سورة التوبة آية: 103. (7) - سورة التوبة آية: 104. (8) - سورة التوبة آية: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وفي هذا تهديد للمنافقين بأن ما تعملون سيراه الله ويراه الرسول ويراه المؤمنون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (1) في آية قبلها {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) } (2) . هذه في المنافقين صريحة {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (3) فالله يرى عمل العاملين، العاملين المحسنين أو العاملين المسيئين، الله يرى أعمال هؤلاء وهؤلاء، يرى أعمال المؤمنين من صلاتهم وصدقاتهم وحجهم وجهادهم، ويرى أعمال الكافرين من شركهم وظلمهم وعدوانهم وجرائمهم، يرى هؤلاء وهؤلاء، فيه إثبات السمع والبصر والرؤية له -سبحانه وتعالى- فهو تعالى يسمع، وسمعه واسع لجميع الأصوات، ويرى وبصره نافذ لجميع المخلوقات، فيرى جميع المرئيات، لا يحجب بصره شيء، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.   (1) - سورة التوبة آية: 105. (2) - سورة التوبة آية: 94. (3) - سورة التوبة آية: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ومن الصفات التي اشتملت عليها الآيات التي قرأت صفة المكر والكيد، المكر والكيد معناهما متقارب، وكذلك المحال {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) } (1) يعني شديد المكر بأعدائه من الكافرين والمنافقين، شديد المحال، فمن مكر الله به فهو المغلوب؛ ولهذا قال -سبحانه وتعالى- في الكافرين: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } (2) {وَمَكَرُوا مَكْرًا} (3) هذا في قوم صالح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) } (4) وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) } (5) . فالله يكيد الكافرين والمنافقين، ويمكر الله بهم وهو خير الماكرين والعباد يمكرون ويكيدون، وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد، ولكنه تعالى يمكر بأعدائه حقيقة ويكيدهم حقيقة، والمكر والكيد هو تدبير خفي يتضمن إيصال الضرر من حيث يظن النفع تدبير خفي الذي يريد أن يمكر يظهر المحبة ويظهر الإحسان، وهو يتخذ ذلك وسيلة للإيقاع بخصمه وعدوه. والمكر من الناس منه المحمود والمذموم، فإذا كان على وجه العدل فهو محمود، وإذا كان على وجه الظلم والعدوان، فهو مذموم، فالمكر مكر الناس منه المحمود ومنه المذموم كالمكر مجازاة، أو المكر مثلا بالكفار، يعني: مكر المسلمين فالحرب خدعة، المكر بهم والتدابير الخفية للإيقاع بالكافرين، هذا كله من أنواع الجهاد في سبيل الله، لكن المكر بالمؤمنين المكر بغير حق هذا ظلم، أما المكر من الله، فهو كله محمود وعدل وحكمة، هو يمكر بالكافرين مكرا حقيقيا ويدبر تدبيرا خفيا، يوصل به العقاب من حيث يظن الإنعام.   (1) - سورة الرعد آية: 13. (2) - سورة الأنفال آية: 30. (3) - سورة النمل آية: 50. (4) - سورة النمل آية: 50. (5) - سورة الطارق آية: 15-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وشاهد هذا قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) } (1) {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} (2) الاستدراج هذا هو المكر {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) } (3) وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (4) . إملاء الله للكافرين هو من مكره بهم، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (5) مما يشتهونه، ويفرحون به {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (6) أليس هذا مكرا، يفتح الله عليهم أبواب المسرات والنعم والخيرات ويصب عليهم مما يشتهون حتى إذا فرحوا بما أتوا أحل بهم النقمة {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) } (7) مكر، إي والله، والآن ما تتمتع به أمم الكفر من الحضارة القائمة والرقي والتقدم المادي والسلطان والقوة على سائر أمم الأرض، هذا والله إنه من مكر الله بهذه الأمم الطاغية من مكر الله بهم إنهم يعيشون في مكر من الله. هذه الفتوح المادية أدت بهم إلى الاغترار والزهو والغطرسة والكبرياء والتسلط والظلم، هل انتفعوا بهذه الحضارة، أو ازدادوا بها إثما، انتفعوا لا والله، بل ازدادوا بها إثما تماما " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ".   (1) - سورة الأعراف آية: 181. (2) - سورة الأعراف آية: 182. (3) - سورة الأعراف آية: 182. (4) - سورة آل عمران آية: 178. (5) - سورة الأنعام آية: 44. (6) - سورة الأنعام آية: 44. (7) - سورة الأنعام آية: 44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فالواجب على المسلمين ألا يغتروا بما يعيشه الكفار من مظاهر عز وتقدم ورقي وعلوم ومعارف، على المسلمين أن يسعوا فيما ينفعهم، لكن من غير أن يعجبوا بالكفار، وأن يعظموا الكفار، وأن يسيروا في ركابهم، وأن يقلدوهم في التوافه، وفيما يضر وما لا ينفع. المقصود أن هذا من مكر الله، بل من مكر الله بالمنافقين أن شرع قبول علانيتهم، يعني: المنافقون من أظهر الإيمان وأبطن الكفر، فالله أمر بأن نقبل علانيته ونترك سريرته، فيظن المنافق أن نفاقه قد راج على الله، وأنه بهذا قد خدع الله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) } (1) . ومن الصفات التي ورد بعض الأدلة والشواهد عليها العزة، فمن صفاته -تعالى- العزة، فالعزة تفسر بمعنى القوة والغلبة، فله العزة صفة -سبحانه وتعالى-، ومن أسمائه العزيز، فله العزة بكل معانيها، وله العزة جميعا، وهو الذي منه العزة، أي: يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وقد جعل العزة الحقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2) . وكلما كان حظ الإنسان من الإيمان أكبر كان حظه من العزة والنصر والنجاة أوفر، فاسمه العزيز يدل على صفة العزة، فليس اسما محضا مجردا خاليا عن المعنى لا.   (1) - سورة البقرة آية: 9. (2) - سورة المنافقون آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 إذن النصوص دلت على إثبات هذا الاسم وإثبات ما يدل عليه من الصفة، ولله العزة، وقال عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ} (1) يقسم بعزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) } (2) إبليس يهدد آدم وذريته بالإغواء، نعوذ بالله من إبليس وجنوده من شياطين الإنس والجن، {فَبِعِزَّتِكَ} (3) إذن العزة صفة من صفاته -سبحانه وتعالى- فله الغلبة على كل شيء {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) } (4) {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) } (5) وهو العزيز بمعنى أنه الذي لا مثيل له، عزيز لا مثيل له -سبحانه وتعالى- فله إذن العزة بكل معانيها على أكمل وجه، وإن كان المخلوق له عزة، فليست العزة كالعزة، والمخلوق قد يسمى عزيزا كما قال تعالى: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} (6) وليس العزيز كالعزيز، فسبحان الله العظيم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وله المثل الأعلى، صلى الله وسلم وبارك على محمد. أسئلة س: السؤال الأول: يقول: هل صحيح أنه يطلق على الاستنجاء بالأحجار استجمار؟. ج: نعم يسمى استجمارا، تقدم: " ومن استجمر فليوتر ". س: وهذا يقول: يقول بعض الناس: إن الله يتكلم مثل كلام المخلوقين لأنه كلم موسى؟. ج: هذا السؤال تقدم ... . س: يقول: هنالك من يبالغ في التنزه من البول حتى يصل إلى مرحلة الوسوسة؟.   (1) - سورة ص آية: 82. (2) - سورة ص آية: 82. (3) - سورة ص آية: 82. (4) - سورة المجادلة آية: 20. (5) - سورة المجادلة آية: 21. (6) - سورة يوسف آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ج: نعم. الوسوسة يجب الحذر فيها، فلا إفراط ولا تفريط، فمن الناس من يتهاون في البول، ولا يبالي بما يصيبه منه، قد يبول ويقوم بدون أن يستنجي، وقد يصيبه رزاز البول، ولا يحترز منه، ومن الناس من يندفع، ويمشي مع الشكوك والأوهام، فيغسل من بدنه وثيابه ما يتوهم أنه قد أصابه بول، ولم يصبه بول، أو يبالغ في الغسل، فيكثر من الغسلات. والبول يعني: إزالته لا تحتاج إلى كثرة غسلات، يستنجي الإنسان بالقليل غرفتين، ثلاثة، يغسل النجاسة التي في المخرج من البول يسيرة، وتذهب مثلا غرفة غرفتين ثلاثة، تزول بها التي حصلت بها المكافأة؛ لأن نفس النجاسة، موضعها وقدرها يسير جدا بخلاف البول الكثير الذي قد أصاب المحل أو الموضع أو الثياب، فإنه يحتاج إلى يعني: مقدار من الغسل يناسب حاله. الرسول لما بال الأعرابي في المسجد دعا بذنوب من ماء فصبه عليه، لكن لو كانت نقطة تستدعي ذنوب، لا مانع أن يصب عليها فنجان. نكمل.. لأنه تحصل بها المكافأة ... نعم. س: وهذا يقول: ما حكم استعمال المناديل الورقية في الاستجمار، وهل يشترط في ذلك ثلاثة مناديل؟. ج: المناديل أرجو أنها تجزئ بالشروط المذكورة أن يحصل بها الإنقاء وأن تكون المسحات ثلاثة لا تنقص، وأما ثلاثة مناديل وكذا من هذا القبيل، قد تحتاج المسحة الواحدة إلى أكثر من منديل، فمن المناديل ما يكون رقيقا، فالمناديل أنواع. المهم أنها مسحات ثلاث يحصل بها النقاء، لا تقل عن ثلاث مسحات، ولا بد من حصول الإنقاء، وهو زوال عين النجاسة. نعم. وقلت: إن المناديل أنواع منها الناعم الذي لا يحصل به الإزالة كما ينبغي إلا بعناية خاصة، ومنها الخشن الذي هو يعني: أكثر تأثيرا، وأقوى أثرا في إزالة النجاسة، فلا بد من ملاحظة ذلك. نعم. س: يقول: هل في حديث أنس دليل على وجوب اتخاذ السترة في الصلاة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ج: نعم ليس فيه دليل. نعم. الحديث الشريف فيه مآخذ وألفاظ اختلف فيها ... على الوجوب شرعية السترة لا خلاف فيها لكن هل يستدل بهذا الحديث على وجوب السترة.. لا السؤال على الوجوب؟ ما هو عن الوجوب؟ لا. س: وهذا يقول: هل ننسب الدنو والتجلي إلى الله -تعالى- وقد جاء هذا في قصة الإسراء من حديث شريف؟. ج: أما الدنو فهو ثابت في الجملة للرب -سبحانه وتعالى- فالنزول يتضمن الدنو، وكذلك حديث: " أنه تعالى يدنو عشية عرفة، فيباهي بأهل الموقف الملائكة … " ملائكته، فالدنو ثابت في حق الرب -سبحانه وتعالى- وليست … هذا حديث شريف لأن الحديث الشريف فيه ألفاظ قد أخذت عليه واعتبرت من أوهامه. نعم. قل. س: هناك ألفاظ شاعت بين الناس مثل قولهم: الله لا يشغلنا إلا في طاعته، وقولهم: الله لا يلهينا إلا في طاعته. ج: ما فيه بأس أبدا هذا الدعاء يعني: كأن يقول: الله لا يشغلنا إلا بما ينفعنا إلا بطاعته والطاعة واسعة، يعني: أولياء الله كل حياتهم مستغرقة في طاعته {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} (1) ولفظة الشغل ما فيها شيء " إن في الصلاة لشغلا " الإنسان المشغول بالصلاة والذي يكره ... في القراءة، قد يعني: أشغله الله، واستعمله في خير فلا أرى في هذا من بأس إلا لفظ الإلهاء تركها أولى. الله لا يلهينا إلا في طاعته، أما لفظ الشغل فهو ثابت؛ لأن الشغل هو الاشتغال بالخير والشر. نعم. س: هل يجوز إثبات صفة المكر لله -سبحانه وتعالى-؟ .   (1) - سورة الأنعام آية: 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ج: إي والله كيف تسأل هذا السؤال وقد سمعته وقد قرأت الآيات وقلنا: إنه تعالى يمكر حقيقة، لكن يقول بعض المفسرين: إن الله سمى عقوبته للماكرين مكرا مشاكلة لفظية، هذا ليس بشيء، وذكرت لكم إن الله يمكر حقيقة، وذكرت لكم الأدلة على هذا من القرآن، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (1) وأمثال ذلك. س: وهل يجوز النفخ في الإناء لتبريده مثل الشاي مثلا؟. ج: لا أدري الله أعلم … . لعل الأحوط هو عدم فعله اصبر لا تنفخ فيه أو اصبر حتى يبرد تدريجيا أو ضعه تحت المروحة أو روح عليه، هذا أحوط ما دام نهى عن التنفس في الإناء، فكيف بالنفخ يعني: في الجملة، أقول قولي هذا، والله أعلم. س: وهذا يقول: نريد أن تعطونا -عفا الله عنكم- ضابطا أو أكثر للتفريق بين الاسم والصفة والإخبار؟. ج: الله أعلم هذه المسألة محل استشكال عن كثير من الناس، ولكن الاسم هو كل ما يمكن أن تدعو به ربك، فتقول: يا حي يا قيوم، يا سميع يا بصير، فهو اسم، لكن الصفات مثل: النزول والغضب والرضا والمكر، ما تقول: يا نازل، أو يا غاضب، هذا لا يقال: ليس من أسماء الله الغاضب أو الراضي أو النازل أو الماكر، لكن يمكن أن يقال: إن من أسمائه أنه -تعالى- أحسن الخالقين، وأنه خير الراحمين، وأيضا وخير الماكرين، فخير الماكرين: يمكن أن نقول: إنه اسم، هو خير الماكرين، وهو خير الرازقين، وهو أحسن الخالقين، وهو أرحم الراحمين، فهل يقال لأحد: إنه أرحم الراحمين، إلا هو، وهل يقال لأحد: إنه خير الرازقين إلا الله. فهذا كله ألفاظ تختص بالرب -سبحانه وتعالى- فيمكن أن يدعى بها تقول: يا خير الراحمين، يا خير الرازقين، يا خير الغافرين، يا خير الماكرين، امكر بأعداء الإسلام، لا بد في التوسل أن تتوسل بالأسماء المناسبة يعني: لمقامه نعم. س: ......   (1) - سورة الأنعام آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ج: هذا كتاب قدري، أما هذه قد سمع الله عندما نزلت هذه الآية على الرسول، هي إخبار عما وقع، فالله سمع كلامها يوم تكلمت، وأنزل الله هذه الآية بعدما تكلمت، وبعدما سمع الله. أما المكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تكون الأحداث، فتلك كتابة القدر كتابة مضمونها أن هذا سيكون الله سمع كلام المجادلة، متى؟ قبل أن يخلقها أو بعدما خلقها؟ ..وبعد.. انتهى..أما الكتابة سبق فيها كتابة أقدار ومقادير كلام تكلمت به هو مكتوب، {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) } (1) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) } (2) نعم. س: قلت -حفظك الله- في صدد ذكرك لعبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق، قلت: قبحه الله ولعنه، والمعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه عند موته، فهل يجوز لعنه وحالته هذه؟. ج: نعم. نعم. صلى عليه، وقد نهي عن الصلاة عليه صلى عليه؟ من قال: إنه صلى عليه؟ لعله هم أن يصلي عليه ونهي، ونزل القرآن بالنهي عن الصلاة عليه نعم. س: وهذه امرأة تقول: إنها تستعمل حبوب منع الحمل بغير إذن زوجها، وهو يريد الإنجاب، فهل في ذلك محظور؟. ج: ليس لها أن تستعمل مانع الحمل إلا باتفاق بينهما؛ لأن الذرية من حقهما جميعا. س: السؤال الأخير: نلاحظ على بعض الأخوة، وخاصة عند إقامة الصلاة، ومنهم الذين يجلسون متكئين على المساند التي هي موجودة بالمسجد، أنه إذا أقيمت الصلاة، فإن أحدهم لا يتقدم إلى الفراغ الذي يكون أمامه، خوفا من أن يضيع مكانه الذي يتكأ عليه، كذلك ما نلاحظه على عدم التراص في الصفوف، نرجو من فضيلتكم التوجيه السليم بهذا الخصوص؟ وفقكم الله.   (1) - سورة القمر آية: 53. (2) - سورة القمر آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ج: لعل طرح هذا السؤال فيه لفت نظر وتنبيه والإخوة يسمعون كثيرا من الأحاديث، ومن كلام الأئمة في كل ما يقيم المؤذن، يتضمن ما يتضمن الأمر برص الصفوف وإتمام الصف الأول فالأول، والنهي عن ترك الفرج، ففي طرح هذا السؤال تنبيه للإخوان، فعلينا أن نتواصى ونوصي الإخوان بتحري الفضائل، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: " لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه " ويقول: " خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها " فينبغي أن الإنسان لا يتقاعس ولا يكسل عن طلب الفضائل وطلب الخير. ومسألة المساند لا ينبغي لغير العاجز المتعب، لا ينبغي له أن يحرص على المساند، والتوسع في وجود المساند في المساجد في الحقيقة لا أراه إيجابيا، بل هو سلبي؛ لأنها تورث عند بعض الناس الخدور والفتور والكسل، يعني: الإنسان التعبان الكبير أو شيء، أقول: هذا من الأولويات لا على سبيل التحريم، يكون أولى، لا تحرص على المسند وأنت معافى متمتع بقوتك والحمد لله. س: وهذا يقول: إذا خرجت من المسجد بقصد الوضوء أو غيره وأنا أنوي الرجوع إلى المسجد فهل أصلي تحية المسجد؟ ج: الله أعلم، ولكن الذي يظهر لي أن هذا الخروج العارض، ولاسيما إذا لم يكن هناك تأخر وتطويل، إنما هو خروج عارض، فلا أراه موجبا لتحية المسجد؛ لأن هذا ليس له كبير أثر، فيخرج الإنسان يكلم شخصا يخرج لحاجة، ويرجع من قريب، فأرجو أن هذا لا يلزم معه تكرار تحية المسجد، وإن خرج للوضوء، ثم رجع، فإنما ينبغي له أن يصلي ركعتي الوضوء، وتكون تحية المسجد، في الجملة -مثلا- إذا فرضنا أنه يشرع له تحية المسجد. نعم. س: السؤال الأخير ... يقول: ألا يدل فعل أبي أيوب أن من رأى منكرا، ولا يستطيع أن يغير ذلك المنكر أن يبتعد عن هذا الموقع؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ج: هذه الأماكن معدة لقضاء الحاجة، والإنسان قد يحتاجها أو يضطر إليهما، فأبو أيوب لم يأمر بهدمها؛ لأن هذا قد لا يتأتى لو ترتب عليه أضرار أو مفاسد، وقد لا يتيسر أيضا الاستغناء عنهما، افرض نفسك في بلد في أسواق أمكنة، وتود أنك تتخلص من هذه الحالة، لكن ما يمكن. إثبات الاسم لله ونفي المثل عنه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } (1) وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (2) وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (3) وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } (4) وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (5) . نفي الشريك عن الله تعالى وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } (6) .   (1) - سورة الرحمن آية: 78. (2) - سورة مريم آية: 65. (3) - سورة الإخلاص آية: 4. (4) - سورة البقرة آية: 22. (5) - سورة البقرة آية: 165. (6) - سورة الإسراء آية: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) } (1) وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } (2) وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) } (3) وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) } (4) . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } (5) . الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، كل الآيات المتقدمة التي ساقها المؤلف أدلة وشواهد على ما وصف الله به نفسه من الصفات الثبوتية، فإنه كما سبق في القاعدة قاعدة النفي والإثبات، وهي أنه -تعالى- موصوف بالإثبات والنفي، وأن الله قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات.   (1) - سورة التغابن آية: 1. (2) - سورة الفرقان آية: 1-2. (3) - سورة المؤمنون آية: 91-92. (4) - سورة النحل آية: 74. (5) - سورة الأعراف آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وآخر الآيات التي قرأت فيها دلالة على إثبات العديد من أسماء الله وصفاته كما تقدم، منها السميع البصير العفو الغفور القدير، صفات السمع والبصر والعزة، من صفاته العفو، ومن أسمائه العفو، ومن شواهد هذه الصفات التي قرأت في الليلة الماضية قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى tûüإ3"|،yJّ9#ur وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) } (1) فإن في هذه الآية إثبات هذين الاسمين من أسمائه: الغفور والرحيم. في قوله تعالى: {* لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } (2) فيه إثبات اسمين من أسماء الله العفو والقدير وكل اسم متضمن لصفة، فمن صفاته العفو والتجاوز عن السيئات وإزالة آثارها، ومن صفاته القدرة.   (1) - سورة النور آية: 22. (2) - سورة النساء آية: 148-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 والعفو إنما يكون كمالا إذا كان مع قدرة؛ ولهذا قرن الله بين هذين الاسمين العفو والقدير، فعفوه لا عن عجز، بل مع قدرة، وهكذا قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) } (1) فيه إثبات اسمين من أسمائه، وهما الغفور الرحيم، وقد تقدم لهذا نظائر فهو الغفور والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة مغفرته للذنوب، فهو الغفور، وهو الغفار، وهو غافر الذنب، وهو الرحيم ذو الرحمة الواسعة، وهو الرحيم الذي لم يزل موصوفا بالرحمة، وفي هاتين الآيتين ترغيب في العفو والرحمة، فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفا عفا الله عنه، ومن غفر غفر الله له {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (2) {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} (3) {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (4) {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } (5) . ومن سنة الله في الجزاء أن يجازي كلا بجنس عمله، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } (6) وفي الدعاء المأثور الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين عائشة حين سألته قال: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " فالله يحب لعباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يغفر بعضهم لبعض {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (7) {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} (8) {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) } (9) .   (1) - سورة النور آية: 22. (2) - سورة النور آية: 22. (3) - سورة النور آية: 22. (4) - سورة النور آية: 22. (5) - سورة النساء آية: 149. (6) - سورة الرحمن آية: 60. (7) - سورة النور آية: 22. (8) - سورة النور آية: 22. (9) - سورة النور آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وهذه الآية نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - عندما حلف ألا ينفق على مسطح ابن بنت خالته، فلما أنزل الله هذه الآية قال: بلى، إني أحب أن يغفر الله لي فرد على مسطح نفقته، وبعد فهذه الآيات التي تليت آنفا تختلف عن الآيات السابقة، فإن هذه الآيات {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } (1) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (2) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) } (3) {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } (4) {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (5) {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (6) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (7) {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} (8) . هذه الآيات تتضمن نفي هذا النقائص عن الله، فهي تتضمن وصف الله بنفي تلك النقائص، فالله موصوف بالإثبات وبالنفي.   (1) - سورة الرحمن آية: 78. (2) - سورة الملك آية: 1. (3) - سورة الفرقان آية: 1. (4) - سورة الفرقان آية: 2. (5) - سورة البقرة آية: 22. (6) - سورة مريم آية: 65. (7) - سورة الإخلاص آية: 3-4. (8) - سورة المؤمنون آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ومن صفات النفي التي يوصف الله بها أنه تعالى منزه عن الولد والوالد والكفء والند والشريك والولي من الذل، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (1) فيه نفي الولد، نفى الولد نجده في القرآن كثيرا في سورة الإخلاص، في آيات مطولة فيها تنديد بالذين ينسبون إليه الولد، وذلك لأن كثيرا من الأمم نسبوا إليه ذلك، فاليهود قالت: عزيز ابن الله، النصارى قالوا: المسيح ابن الله، مشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله؛ ولهذا كثر التنديد بمقالتهم { (خطأ) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} (2) فيه توبيخ وتقريع وإفحام لأولئك، وأنه لا حجة لهم لا من عاقل ولا من ... ولا من ... ما هو إلا الكذب والافتراء الذي زينه الشيطان لهم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) } (3) . وكل من أشرك مع الله غيره، فقد جعل له مثلا، وجعل له ندا؛ ولهذا أنكر الله عليهم ذلك {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (4) لا تجعلوا له أشباه ونظراء، فإنه لا نظير له لا تجعلوا له أندادا في العبادة، فإنه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، فلا مثيل له في ذاته، ولا في صفاته، ليس كمثله شيء.   (1) - سورة الإسراء آية: 111. (2) - سورةالصافات آية: 149. (3) - سورة النجم آية: 19-22. (4) - سورة البقرة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 كل هذه الآيات الغالب وإن كان فيها إثبات، لكن الشيخ -رحمه الله- ساقها للاستشهاد بها على الصفات السلبية على وصفه تعالى بنفي هذه النقائص، فالله موصوف بنفي النقائص والعيوب بنفي الشرك، لا شريك له، كم تجدون في القرآن "لا شريك له"، "سبحان الله عما يشركون" نفي الولد، نفي الصاحبة، {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) } (1) {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (2) نفى المثل {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) } (3) {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (5) .   (1) - سورة الجن آية: 3. (2) - سورة الأنعام آية: 101. (3) - سورة النحل آية: 74. (4) - سورة الشورى آية: 11. (5) - سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فذم -سبحانه وتعالى- الذين اتخذوا من دون الله أندادا في المحبة يحبونهم كحبهم لله، يسوونهم بالله في المحبة، والسمي والند الكفء أو الكفو {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (1) والمثل كلها ألفاظ متقاربة كلها تفسر بالمثل والشريك والشبيه والنظير، فإنه فكما تقدم أنه -سبحانه وتعالى- لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، ونفى هذه النقائص يستلزم إثبات الكمال يستلزم تفرده بالكمال، فلا مثيل له، ولا ند له، فهو -سبحانه وتعالى- المتفرد بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، متفرد لا مثيل ولا سمي ولا ند ولا ولد، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} (2) نفى الولد ونفى الإله {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (3) لو كان مع الله إله آخر لكان للإله خلق، ولانفرد كل إله، ولذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، ولكنه ما ثم إلا إله واحد، هو الإله الحق، كل ما يعبد من دون الله فهو معبود بالباطل.   (1) - سورة الإخلاص آية: 4. (2) - سورة المؤمنون آية: 91. (3) - سورة المؤمنون آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إذن ليس في الوجود إله حق إلا الإله الواحد {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } (1) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) } (2) لا إله إلا الله: أصل دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، لا إله إلا الله: نفي لإلهية ما سوى الله وإثبات الإلهية له تعالى، ولا يتحقق التوحيد إلا بذلك بإثبات الإلهية له، ونفي الإلهية عما سواه، ثم تخصيصه بالعبادة وإفراده بالعبادة، وذلك بعبادته وحده وترك عبادة ما سواه {* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (4) . تبارك: هذه الكلمة تدل على التنزيه والتقديس، تبارك: معناها تقدس وتعالى عن كل النقائص والعيوب من الشركاء والأنداد والأولاد. تبارك: وفيها أيضا الدلالة على أنه تعالى ذو الخير والبركة، والبركة: هي الخير الكثير، وهو -سبحانه وتعالى- الذي بيده الخير، وهو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا. وتبارك: تدل على أن بركته -تعالى- ذاتية ليست مكتسبة، أما المخلوق فما يكون فيه من بركة، فهي بركة موهوبة. وقال الله عن عيسى -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} (5) فالعبد يكون مباركا، ولا يقال في العبد: إنه تبارك، ما تقول: فلان تبارك، كما يجري على ألسنة بعض الناس يقولون: تباركت علينا يا فلان، أو تبارك هذا الشيء، تباركت هذه السلعة، أو هذه الدار تباركت غلط، لا هذه سلعة مباركة.   (1) - سورة البقرة آية: 163. (2) - سورة الأنبياء آية: 25. (3) - سورة النساء آية: 36. (4) - سورة الرحمن آية: 78. (5) - سورة مريم آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وهذا شيء مبارك، وهذه دابة مباركة وسيارة مباركة، وما إلى ذلك. فالمخلوق يجعل الله فيما شاء منه البركة، أما الله -تعالى- فهو الذي بركته ذاتية له، فهو الذي يوصف بأنه تبارك، يقال: تبارك الله أحسن الخالقين، تبارك الله رب العالمين، تبارك الذي نزل الفرقان على عبده، وإن إنزال الفرقان من خيره وبركته من خيره الفياض ومن رحمته بعباده أنزل الفرقان على عبده، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (1) . فـ"تبارك" لا تضاف إلا إلى الله، أو إلى اسم من أسمائه، تبارك اسم ربك ذي الجلال الإكرام. وتقدم لكم أن القاعدة فيما يوصف الله به من النفي هو الإجمال أن يكون مجملا لا مفصلا، لكن هذا هو الغالب، وقد يأتي النفي مفصلا، فنفي الكفء ونفي الند والسمي والمثل كل هذا من قبيل النفي المجمل، لأنه نفي مطلق نفي عام، فلا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.   (1) - سورة الفرقان آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فهذا نفي مجمل أما مثل نفي الولد نفي النوم والسنة ونفي الصاحبة، فهذا من النفي المفصل، وكذلك كل ما يوصف الله به من النفي، فإنه متضمن لإثبات كمال، فنفي السنة والنوم يتضمن إثبات كمال حياته وقيوميته، ونفي الضلال والنسيان {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) } (1) يتضمن إثبات كمال علمه {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) } (2) ونفي الغفلة عنه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) } (3) {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) } (4) نفي الغفلة يتضمن كمال علمه، فلكمال علمه لا يغفل، ونفي الشريك يتضمن كمال تفرده في ربوبيته وإلهيته -سبحانه وتعالى- كمال تفرد، فهو الواحد وهو الأحد، وهو الإله الذي لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (5) نفى الولد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (6) لا شريك له في ملكه، ولا شريك له في شيء من أسمائه وصفاته، فلا شبيه ولا شريك، فلا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته ولا في أسمائه -سبحانه وتعالى-.   (1) - سورة طه آية: 52. (2) - سورة طه آية: 52. (3) - سورة المؤمنون آية: 17. (4) - سورة هود آية: 123. (5) - سورة الفرقان آية: 2. (6) - سورة الإسراء آية: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ونفي الولي من الذل يتضمن كمال عزته وكمال قوته وقدرته وولايته لأوليائه، لم يكن لحاجة به إليهم ولذل يلحقه -تعالى وتقدس- بل هو القوي العزيز، وهو القدير المقتدر؛ ولهذا قال -سبحانه-: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } (1) عظم ربك تعظيما قولا وفعلا بالقول وبالفعل فهو الكبير المتعال، وهو أكبر من كل شيء، الله أكبر الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. ومن الآيات التي سيقت، وهي لعلها آخر الآيات قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (2) الفواحش الفعلات المنكرة البالغة في القبح غايته فاحشة هي الفعلة الشنعاء التي تستفحشها وتستقبحها الفطر السليمة والعقول المستقيمة، {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} (3) البغي على الخلق، {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} (4) ولعل هذا هو الشاهد، فتحريم الشرك بالله يتضمن نفي الشريك يتضمن أنه لا شريك له، كما أن قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (5) نهى عن جعل الأنداد لله؛ لأنه لا ند له، فلما كان -تعالى- لا ند له حرم على عباده أن يتخذوا له أندادا؛ لأن ما يتخذونه أندادا وشركاء هي ليست أنداد ولا شركاء إلا في زعم المشركين وإلا في ظن المشركين، وإلا فهي مخلوقات مربوبة ناقصة عاجزة، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.   (1) - سورة الإسراء آية: 111. (2) - سورة الأعراف آية: 33. (3) - سورة الأعراف آية: 33. (4) - سورة الأعراف آية: 33. (5) - سورة البقرة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المقصود أن هذه الآيات من أول ما قرئ إلى آخر الآيات ساقها المؤلف استشهادا على ما سبقت الإشارة إليه، من أنه -تعالى- موصوف بالإثبات والنفي، وأن الله جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فنجد بعض الآيات فيها إثبات، وبعضها فيه نفي فقط، وبعضها يجمع الله فيه بين النفي والإثبات، وكل إثبات فإنه يتضمن نفي ضده. فإثبات العلم يستلزم نفي الجهل والنسيان والضلال والغفلة ونفي هذه الأشياء، ويتضمن كمال العلم، وهكذا نجد أن أساليب القرآن في وصفه تعالى متنوعة كثيرا، بل إن نصوص الصفات هي أكثر ما في القرآن نصوص الصفات مجملة ومفصلة، هي أكثر من سائر الآيات نعم. إثبات استواء الله على عرشه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) في سبعة مواضع، في سورة الأعراف، وقوله: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) وقال في سورة يونس -عليه السلام-: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4) وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (5) وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6) وقال في سورة الم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (7) وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (8) .   (1) - سورة طه آية: 5. (2) - سورة الأعراف آية: 54. (3) - سورة الأعراف آية: 54. (4) - سورة الرعد آية: 2. (5) - سورة طه آية: 5. (6) - سورة الأعراف آية: 54. (7) - سورة السجدة آية: 4. (8) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أيضا يتابع الشيخ -رحمه الله- سوق الشواهد القرآنية على إثبات صفاته -سبحانه وتعالى- الأدلة الدالة على إثبات صفاته -تعالى- فيذكر النصوص الدالة على صفة الاستواء صفة الاستواء، وهو استواء الله على عرشه -سبحانه وتعالى- فيقول: وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) في سبعة مواضع، يعني: هذا المعنى في سبعة مواضع من القرآن ذكر استواء الله على عرشه جاء في سبعة مواضع: أحدها في سورة طه بهذا اللفظ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) الرحمن هذا اسم من أسمائه الحسنى التي كفر بها المشركون، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (3) هو الرحمن ذو الرحمة الواسعة العامة، وهو ذو الرحمة التي لم تزل، ولم يزل هو الرحمن، ولا يزال رحمانا رحيما، الرحمن على العرش العرش، قال أهل العلم: معناه في اللغة سرير الملك، أو سرير الملك، المعنى متلازم.   (1) - سورة طه آية: 5. (2) - سورة طه آية: 5. (3) - سورة الرعد آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والمراد بالعرش في هذه الآيات عرش الرحمن، وهو سرير وهو مخلوق، وهو أعلى المخلوقات وأعظم المخلوقات، ولا يقدر قدره إلا الله، ولا يحيط العباد بعظمة هذا العرش، وقد وصف الله العرش بأنه عظيم وكريم ومجيد في مواضع من القرآن فيها ذكر العرش، ومنها هذه الآيات التي يخبر الله فيها عن استوائه على العرش، ففي سورة الأعراف: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ومثلها في سورة يونس، وفي سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) في سورة الفرقان: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } (3) . في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4) وآخرها في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5) . {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6) معناه كما جاء ذلك عن السلف معناه علا وارتفع واستقر على العرش، استوى على العرش استواء يليق به، ويخصه، لا يشبه استواء المخلوق، المخلوق يوصف بالاستواء على غيره؟ نعم. {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} (7) .   (1) - سورة الأعراف آية: 54. (2) - سورة الرعد آية: 2. (3) - سورة الفرقان آية: 59. (4) - سورة السجدة آية: 4. (5) - سورة الحديد آية: 4. (6) - سورة الأعراف آية: 54. (7) - سورة الزخرف آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 واستوت "سفينة نوح" {عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ} (1) {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) } (2) وليس الاستواء كالاستواء استواء الله على عرشه ليس كاستواء المخلوق استواء، يخصه ويليق به، ويناسبه ولا يعلم العباد كنهه، فيجب أن يثبت ذلك لله مع نفي مماثلته لصفة المخلوق ونفي العلم بالكيفية، لكن الاستواء معلوم معناه معلوم كما قال الأئمة، كما قال الإمام مالك وغيره لما قال له رجل: كيف استوى، قال: الاستواء معلوم، معناه معلوم في اللغة العربية، إذن هو معلوم في هذه النصوص، أو ليس بمعلوم؟، بلى إنه معلوم؛ لأن الله أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، وأمر عباده بالتدبر وذم المعرضين عن تدبر القرآن. إذن الاستواء معلوم، إذا قرأنا هذه الآيات نعلم معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (4) نعلم معنى ذلك، يعني: علا وارتفع واستقر كيف شاء -سبحانه وتعالى- نعلم معنى ذلك، لكننا لا نعلم كيفية ذلك، والإيمان به واجب لأن أصل الإيمان هو الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله، فالإيمان بالقرآن والإيمان بالرسول يقتضي التصديق بكل ما في الكتاب والسنة من الإخبار، الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تكلف وسؤال عما لا سبيل إلى العلم به.   (1) - سورة هود آية: 44. (2) - سورة المؤمنون آية: 28. (3) - سورة الأعراف آية: 54. (4) - سورة طه آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ونلاحظ أن الآية الأولى، وهي آية طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) فيها الإخبار بأنه استوى على العرش، لكن متى؟ الله أعلم لم يبين لما تدل الآية على ترتيب هذا الاستواء أو وقت لهذا الاستواء الرحمن على العرش استوى، فيها إثبات الاستواء على العرش، لكن سائر الآيات فيها ذكر خلق السماوات والأرض، وعطف الاستواء على ذلك بحرف "ثم" {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى} (2) . فهي تدل على أن استواءه على العرش بعدما خلق السماوات والأرض. وهذا في كل الآيات الست {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) استواء الله مخصوص بالعرش، لا يقال: إنه استوى -تعالى- على السماء، فضلا أن يقال: استوى على الأرض، بل استوى على العرش، العرش الذي هو سقف المخلوقات، فهو أعلى المخلوقات وأعظم المخلوقات، فالله تعالى فوق ذلك فوق جميع المخلوقات، يلزم من علوه واستوائه على العرش علوه فوق جميع المخلوقات. وأهل السنة مجمعون على إثبات هذه الصفة، وأهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هذه الطوائف الرئيسة، ومن دخل مدخلهم كالرافضة؛ لأن الرافضة اتبعوا صاروا معتزلة، وكذلك الزيدية الذين دخلت عليهم أصول المعتزلة، الكل ينفون صفات الرب والاستواء. من ذلك ينفون حقيقة الاستواء عن الله، ومنهم من ينفي حقيقة العرش أيضا، ويقول: المراد بالعرش الملك، استوى على العرش يعني: استولى على الملك، فيفسرون الاستواء بالاستيلاء والعرش بالملك، وقد يكتفي بعضهم بتأويل الاستواء بتأويله إلى الاستيلاء بصرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه.   (1) - سورة طه آية: 5. (2) - سورة الأعراف آية: 54. (3) - سورة الأعراف آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أما العرش فقد دلت النصوص على أنه مخلوق متميز عن سائر المخلوقات موصوف بما ذكرت أنه جاء في القرآن عظيم وكريم ومجيد. وجاء في السنة أنه ذو قوائم، وجاء في القرآن أنه محمول: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ z¸ِچyèّ9$ وَمَنْ حَوْلَهُ} (1) يحملون العرش يصح أن يكون الملك يحملون الملك هم الملائكة من جملة ملك الله، فلا يستقيم هذا التفسير الذي هو في الحقيقة تحريف، وتفسير الاستواء بالاستيلاء أيضًا فاسد من جهة اللغة ومن جهة الشرع، فإنه لا يعرف في اللغة، استوى: بمعنى استولى، ولا دليل لهم عليه إلا بيت قاله الأخطل النصراني قال: ...................... '''قد استوى بشر على العراق قالوا: إن هذا معناه استولى على العراق. وليس هذا صريحًا، استوى بشر على العراق، يعني: علا على عرشه، صار سلطانًا عليه، وهذه عمدتهم، وأيضًا من جهة المعنى، لا يصح، فإن الاستيلاء يشعر بأنه كان قبل ذلك غير مستول عليه، وأنه صار مستوليا عليه بعد أن لم يكن، أو يشعر أيضًا بالمغالبة، استولى عليه. فالمهم أن المعطلة ومن سلك سبيلهم ينفون حقيقة الاستواء، ويفسرونه بالاستيلاء، وهؤلاء أهل التأويل منهم أما أهل التفويض، فيقولون: هذه نصوص يجب أن نمرها ألفاظا دون أن يفهم منها معنى، ودون أن تفسر تمر ألفاظا، وتقرأ ألفاظا جوفاء، لا تتدبر، ولا يعقل لها معنى، وكلا القولين باطل، أعني: قول أهل التفويض وأهل التأويل. فالاستواء إذن يجب إثباته لله، يجب أن نؤمن بأنه -تعالى- مستوٍ على العرش، وأنه استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض، والعرش مخلوق قبل ذلك، " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ".   (1) - سورة غافر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وفي حديث آخر " قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " وهذه النصوص أعني نصوص الاستواء هي من أدلة علوه -تعالى- على الخلق نصوص الاستواء، هي نوع من أنواع أدلة علوه -تعالى- على خلقه التي سيذكر الشيخ منها نماذج في الشواهد التالية. إثبات علو الله على مخلوقاته وقوله -تعالى-: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) . وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (2) . وقوله -تعالى-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) . وقوله -عن فرعون-: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (4) . وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) } (5) . إثبات معية الله لخلقه وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } (6) .   (1) - سورة آل عمران آية: 55. (2) - سورة النساء آية: 158. (3) - سورة فاطر آية: 10. (4) - سورة غافر آية: 36-37. (5) - سورة الملك آية: 16-17. (6) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (1) . وقوله: {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (2) . وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (3) . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (4) . وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) } (5) . وقوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } (6) . وهذه الآيات -أيضا- جملة من هذه الآيات التي قرأت، تدل على علوه -تعالى- وهي أنواع، كما تقدم، أدلة علو الله -تعالى- على خلقه أنواع كثيرة جدا في القرآن وفي السنة، وهي أنواع أوصلها شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم أوصلوها إلى أكثر من عشرين نوعا، هي أنواع، ومعنى ذلك في كل نوع تحته أفراد من الأدلة، فمثلا من أنواع أدلة العلو التصريح باستواء الله على عرشه، هذا نوع وتحته كم دليل في القرآن سبعة، كلها فيها تصريح باستواء الله على عرشه.   (1) - سورة المجادلة آية: 7. (2) - سورة التوبة آية: 40. (3) - سورة طه آية: 46. (4) - سورة النحل آية: 128. (5) - سورة الأنفال آية: 46. (6) - سورة البقرة آية: 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ومنها التصريح برفع بعض المخلوقات إليه نعم {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (1) {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) } (2) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) } (3) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (4) . إذن من أنواع أدلة علوه -تعالى- على خلقه هو التصريح برفع بعض المخلوقات إليه، كما في هاتين الآيتين، ومن التصريح بصعود بعض المخلوقات إليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (5) وعروج بعض المخلوقات إليه {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } (6) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) } (7) فهذه كلها أنواع من أدلة علوه، ومنها التصريح بفوقيته -تعالى- على عباده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } (8) .   (1) - سورة النساء آية: 158. (2) - سورة النساء آية: 157. (3) - سورة النساء آية: 158. (4) - سورة آل عمران آية: 55. (5) - سورة فاطر آية: 10. (6) - سورة المعارج آية: 4. (7) - سورة السجدة آية: 5. (8) - سورة الأنعام آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ومن ذلك التصريح بالفوقية مقرونة بمن {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (50) } (1) ومنها -أيضا- التصريح بأنه في السماء، وهذا في القرآن في موضعين، كما هنا قال -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) } (2) . فالله موصوف بأنه في السماء، كل هذه تدل على علوه تعالى. ومنها إخباره -تعالى- عن فرعون بأنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (3) فهذه -أيضا- تدل على علوه -تعالى- على خلقه، ووجه ذلك أن فرعون تظاهر بأنه يطلب إله موسى في السماء، مما يدل على أن موسى قد أخبره بأن إلهه في السماء، فذهب الطاغية يقول لوزيره هامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (4) يعني: الذي يزعم أنه في السماء، فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على أن الله في السماء، لأن فرعون تظاهر بأنه يطلب إله موسى في السماء؛ بناء على إخباره؛ بناء على أن موسى أخبر عن ربه، وهو كذلك بأنه في السماء.   (1) - سورة النحل آية: 50. (2) - سورة الملك آية: 16-17. (3) - سورة غافر آية: 36-37. (4) - سورة غافر آية: 36-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ومن النصوص الدالة على علوه التصريح بوصف العلو {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (1) اسم من أسمائه "العلي" فله العلو بكل معانيه، وله الفوقية بكل معانيها: ذاتا وقدرا وقهرا، ولكن العلو الذي أنكره المعطلة، هو علو الذات، وعلو القدر، وإن أثبتوه لفظا، فما أثبتوه في الحقيقة؛ لأن من نفى صفات الرب -تعالى- نفى أسماءه وصفاته، فما أثبت لله علو القدر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (2) . فالعلو الذي فيه نزاع بين أهل السنة وطوائف المبتدعة، هو علو الذات، فأهل السنة يؤمنون بما دلت عليه هذه النصوص من أنه في العلو، فوق جميع المخلوقات، فهو عال بذاته فوق جميع المخلوقات، فهو العلي الأعلى، هو العلي، وهو الأعلى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } (3) . وأما أهل البدع فيقولون - أعوذ بالله من الضلال والزيغ زيغ القلوب- فيقولون: إنه ليس في السماء، ليس في العلو، بل هو في كل مكان، حال في المخلوقات، وهؤلاء هم الحلولية الذين رد عليهم الإمام أحمد، وقال: إن قولكم هذا يستلزم أن يكون الله في الأماكن المستقذرة والمستهجنة من الحشوش وبطون الحيوانات، وكفى بهذا تنقصا لرب العالمين، فالله أعلى وأجل من أن تحيط به مخلوقاته، وأن يحويه شيء من مخلوقاته، بل هو العلي العظيم، العلي فوق كل شيء، العظيم الذي لا أعظم منه، فلو كان حالا في كل مكان لما كان هو العلي، ولما كان هو العظيم مطلقا.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة الأنعام آية: 91. (3) - سورة الأعلى آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وهؤلاء الضلال الملاحدة عمدوا إلى هذه النصوص الكثيرة، فحرفوها كما حرفوا نصوص الاستواء فيما سبق، حرفوا الباقي، أو فوضوا، فقد يقولون: بل رفعه الله إليه، رفع الله عيسى إليه، رفعه إليه يعني: إلى محل عظمته وسلطانه، يعني: هذا من نوع تحريفاتهم، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (1) إلى محل عظمته وسلطانه، والسلطان معه في كل مكان. في عموم النصوص في نحو هذه التأويلات السمجة يعني: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (2) هكذا يقول: أأمنتم من في السماء أمره -سبحانه- أمر الله -سبحانه- نافذ في كل شيء، فيحرفون هذه النصوص فعندهم أن الله في كل مكان، فالملائكة لا تعرج إليه، نسبة كل المخلوقات إلى الله سواء، ليس بعضها أقرب إلى الله من بعض، والنصوص دالة على أن من العباد ومن المخلوقات ما هو عنده {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} (3) هؤلاء مقربون، الملائكة المقربون {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (206) } (4) . وكفى بهذا تنقصا لرب العالمين وتلاعبا بكلامه -سبحانه وتعالى - حيث يصرف عن وجهه، ويحرف عن مواضعه، وتجعل كل هذه النصوص، ليست على حقيقتها بل هي مجاز. إذن يجب الإيمان بأنه -تعالى- له العلو بكل معانيه، والفوقية بكل معانيها، وأنه -تعالى، إذن- فوق جميع المخلوقات، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فتقول: إنه -تعالى- فوق جميع المخلوقات، وأنه العالي على جميع المخلوقات، ولكن لا تقل: إنه استوى على جميع المخلوقات، فالاستواء على العرش.. فالاستواء مختص بالعرش، وأما العلو فإنه على جميع المخلوقات.   (1) - سورة المعارج آية: 4. (2) - سورة الملك آية: 16. (3) - سورة الأعراف آية: 206. (4) - سورة الأعراف آية: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ويقول الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: إن الاستواء طريق العلم به، هو السمع فقط، وأما العلو فوق جميع المخلوقات، فطريق العلم به هو السمع والعقل، إذن العلو صفة ذاتية، العقل يعني: سمعية عقلية، يعني: طريق العلم بها هو السمع المطابق للعقل، وأما الاستواء فطريق العلم بها السمع، السمع يعني: النصوص السمعية النقلية من الكتاب والسنة. ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- بعد أن ساق جملة من النصوص الدالة على علوه -تعالى- على خلقه، ذكر النصوص الدالة على المعية، وفي هذا تناسب، ففي مقابل أدلة العلو يذكر أدلة المعية، ومن هذه النصوص آية الحديد {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) في سورة المجادلة {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) وهذه هي المعية العامة المتضمنة للعلم، هو مع عباده أينما كانوا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (3) والمعية في اللغة العربية: تدل على مطلق المقارنة والمصاحبة، ولا تستلزم اختلاطا ولا ممازجة، إذن فوصفه -تعالى- بأنه مع عباده لا يدل على أنه حال في المخلوقات كما زعم الملحدون الغالطون، زعموا أن هذه الآيات تدل على أنه في كل مكان مع عباده، معهم في بيوتهم، ومعهم في سائر ما يكونون فيه في كل مكان، وهذا فهم خاطئ هو مع عباده مع أنه -تعالى- في السماء، هو في السماء في العلو، مستو على عرشه، وفي نفس الوقت هو مع عباده معهم، يسمع كلامهم، ويرى مكانهم وحركاتهم وسكناتهم، ويعلم سرهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.   (1) - سورة الحديد آية: 4. (2) - سورة المجادلة آية: 7. (3) - سورة المجادلة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إذن هو معهم، ولا يعني ذلك أنه مع النجوى الثلاثة والأربعة، أنه معهم يعني: في المكان الذي هم فيه، وأنه متصل بهم وملاصق، كل هذا من لم يفهم من هذا الكلام إلا هذا المعنى، فهو جاف الطبع، جامد العقل، فاسد الفهم، لا يفهم من هذا إلا أن يكون الله بين أولئك النجوى، بينهم حال بينهم، داخل السقف الذي هم تحته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وعما يظنه الجاهلون، فذلك من ظن السوء بالله، من ظن أن معنى أنه -تعالى- مع عباده يعني: أنه مخالط لهم، متصل بهم، وممازج لهم، وأنه في كل مكان، فقد ظن به ظن السوء، وظن بكلامه -تعالى- ظن السوء. وهذه المعية عند أهل العلم، يسمونها المعية العامة؛ لأن الله مع الناس كلهم مع العباد كلهم {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} (2) نجوى أيا كانوا: مسلمين، كفار من سائر الناس، {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) ومن قال من السلف إنه -تعالى- معهم بعلمه، فهو حق، إنما قال ذلك لبيان ما تقتضيه هذه المعية، أن مقتضاها العلم والسمع والبصر، وقال الإمام أحمد -عندما قال ذلك أو معناه-: إن الله -تعالى- بدأ آية المعية بالعلم وختمها بالعلم، ِ فمعنى أنه معهم أين ما كانوا يعني: معهم بعلمه، معهم، وهو فوق السماوات، هو معهم هو نفسه مع عباده على هذا النحو، على هذا الوجه، هو في السماء مستو على عرشه، وهو معهم هو نفسه لا غيره، مع عباده يعلم أحوالهم ومكانهم ويرى حركاتهم وسكناتهم، ويسمع كلامهم. هذه المعية، وهذه تشمل كل الناس البر والفاجر الجن والإنس والملائكة، هو -تعالى- معهم.   (1) - سورة الحديد آية: 4. (2) - سورة المجادلة آية: 7. (3) - سورة المجادلة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وأما المعية الخاصة ففي الآيات الأخرى، كقوله -تعالى- {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (1) {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (2) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } (3) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (4) هذه معية خاصة؛ لأنها جاءت مقيدة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } (5) الصابرون هم بعض العباد لا كلهم، المتقون {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} (6) هم البعض {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (7) هذا يقوله الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأبي بكر عندما قال له: " يا رسول الله إن المشركين لو نظروا إلى أقدامهم، أو إلى ما تحت أقدامهم لأبصرونا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (8) ". وأخبر الله عن هذه المقالة {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (9) هذه معية خاصة، والمعية الخاصة تتضمن ما تتضمنه المعية العامة من العلم والسمع والبصر وزيادة، وهو النصر والتأييد والرعاية، فهو معهم -سبحانه وتعالى- معية تتضمن حفظهم وكلاءتهم ونصرهم {إِن اللَّهَ مَعَنَا} (10) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (11) يكلؤهم -سبحانه- ويحفظهم، ويؤيدهم، وينصرهم على أعدائهم.   (1) - سورة طه آية: 46. (2) - سورة التوبة آية: 40. (3) - سورة البقرة آية: 153. (4) - سورة النحل آية: 128. (5) - سورة البقرة آية: 153. (6) - سورة النحل آية: 128. (7) - سورة التوبة آية: 40. (8) - سورة التوبة آية: 40. (9) - سورة التوبة آية: 40. (10) - سورة التوبة آية: 40. (11) - سورة النحل آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فالمعية الخاصة تتضمن ما تتضمنه المعية العامة وزيادة، فالمعية إذن في كتاب الله يعني: المعية المناطة بالله نوعان: معية عامة، ومقتضاها العلم والسمع والبصر، ومعية خاصة، ومقتضاها الخاص يعني: الحفظ والنصر والتأييد والعناية والرعاية منه -سبحانه وتعالى- لأوليائه. إذن المعية العامة، عامة للبر والفاجر، وأما الخاصة، فهي خاصة بالمؤمنين المتقين المحسنين والصابرين والمرسلين وهكذا. وأهل السنة والجماعة يثبتون المعية له -تعالى- على ما يليق به، ويؤمنون بأنه لا منافاة بين علوه ومعيته، لا منافاة بينهما، فهو عال في دنوه، قريب في علوه، لا منافاة بين النصوص الدالة على علوه وبين النصوص الدالة على قربه ومعيته -سبحانه وتعالى- لا منافاة بينها. وأهل الضلال يعارضون بينها، ولاحظوا كيف حرفوا نصوص العلو وحملوا نصوص المعية على ظاهرها عندهم، وليس ما فهموه هو ظاهرها، كلا، لكنهم فهموا نصوص المعية، وحملوها على ظاهرها عند ذي الفهم السقيم والذهن الجاف الجامد {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) معكم يعني: مخالط لكم، ومعكم في غرفكم وحجركم، يعني: تحت سقفها، تحويه هذه الأماكن؟ تعالى الله عن ذلك علو كبيرا، هو مع عباده أين ما كانوا، لا يخفى عليه من أحوالهم خافية، علم الله في كل مكان، الله -تعالى- فوق مخلوقاته وعلمه في كل مكان، علمه محيط بكل شيء، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } (2) . إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وقوله -تعالى-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (3) .   (1) - سورة الحديد آية: 4. (2) - سورة الطلاق آية: 12. (3) - سورة النساء آية: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (1) . وقوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} (2) . وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (3) . وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (4) . وقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (5) . وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (6) . وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) } (7) . وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) } (8) . وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (9) . وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) } (10) . وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (11) . وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) } (12) . وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} (13) . وقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (14) .   (1) - سورة النساء آية: 122. (2) - سورة المائدة آية: 116. (3) - سورة الأنعام آية: 115. (4) - سورة النساء آية: 164. (5) - سورة البقرة آية: 253. (6) - سورة الأعراف آية: 143. (7) - سورة مريم آية: 52. (8) - سورة الشعراء آية: 10. (9) - سورة الأعراف آية: 22. (10) - سورة القصص آية: 65. (11) - سورة التوبة آية: 6. (12) - سورة البقرة آية: 75. (13) - سورة الفتح آية: 15. (14) - سورة الكهف آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) } (1) . الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فهذه الآيات ساقها الإمام ابن تيمية -رحمه الله- للاستدلال بها على إثبات كلام الله، وأن الله يتكلم، ويكلم، وقال: والنصوص في هذا -كما سمعنا- كثيرة، النصوص القرآنية الدالة على إثبات صفة الكلام لله كثيرة جدا. وأهل السنة يؤمنون بما دلت عليه هذه النصوص، يؤمنون بأنه -تعالى- يتكلم ويكلم من شاء كيف شاء، بل إنه -تعالى- لم يزل متكلما إذا شاء بما شاء وكيف شاء، لم يزل متكلما إذا شاء لم يحدث له الكلام، بعد أن كان غير متكلم، بل لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء، فيوصف بأنه بالقول يقول، وبأنه يتكلم -سبحانه وتعالى- وأنه ينادي ويوصف بأنه ينادي بالمناداة، ويناجي أيضا، فهو -سبحانه وتعالى- يتكلم كلاما يسمعه من شاء من عباده. إذن هو يتكلم بحرف وصوت، يعني: بالكلمات بكلمات بحروف، فكلامه حروف وكلمات وسور وآيات، فيجب الإيمان بذلك إثبات صفة الكلام له -سبحانه وتعالى- مع نفي مماثلته -تعالى- للمخلوقات، فكلامه وتكلمه ليس ككلام أحد من الخلق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) .   (1) - سورة النمل آية: 76. (2) - سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وإن كلامه لتصعق منه الملائكة، إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاء لقوله، تعظيما له -سبحانه- ولعظم ما يسمعون من وقع كلامه -سبحانه وتعالى- ولكنه إذا شاء كلم عباده، وجعل لديهم الطاقة والقدرة على سماع كلامه، أو يكلمهم كيف شاء كلاما تحتمله قواهم، كما كلم موسى، ونادى الأبوين {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (1) فكلامه -سبحانه وتعالى- كلام مسموع يسمعه من شاء من عباده، وأهل البدع المعطلة ومن تبعهم ينفون الكلام عن الله، ويقولون: إنه لا يتكلم. سبحانك هذا بهتان! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!. يقولون: لا يتكلم، ولا يكلم، وأن هذا يستلزم التشبيه، ويستلزم ما يستلزمه كلام المخلوق من كذا ومن كذا، ومن الأدوات، ومن المخارج، فينفون حقيقة الكلام عن الله بمثل هذا التلبيس الذي هو من وحي إبليس البعيد العدو المبين، وماذا يقول هؤلاء الضلال عن القرآن؟ يقولون: إنه كلام مخلوق خلقه الله في الهواء لا في المحل، وعبر عنه جبريل أو خلق كلاما في الهواء، وتلقاه جبريل وبلغه.   (1) - سورة الأعراف آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المهم أن كلام الله مخلوق، إذا أراد -سبحانه وتعالى- أن يكلم أحدا، خلق كلاما حتى إن خطاب الله موسى وكلامه موسى، زعم الجهمية والمعتزلة أن الله خلق كلاما في الشجرة، لا أن ما سمعه موسى هو كلام الله، خلق كلاما في الشجرة، ذلك الكلام هو ما قصه الله علينا في القرآن، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) } (1) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) } (2) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) } (3) والآيات في هذا كثيرة، ومما قاله الله لموسى قال له: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) } (4) إلى آخر ما قصه الله علينا من خطابه وكلامه لكليمه موسى -عليه الصلاة والسلام- {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) } (5) الآيات.   (1) - سورة مريم آية: 52. (2) - سورة النازعات آية: 15-16. (3) - سورة النازعات آية: 15-16. (4) - سورة طه آية: 12-14. (5) - سورة طه آية: 9-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فعندهم أن هذا الكلام الذي سمعه موسى كلام مخلوق، خلقه الله في الشجرة، لا أنه كلام قائم به -سبحانه وتعالى- وأن موسى سمع كلام الله من الله، وهذا مع أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإن نفي الكلام عن الله غاية في التنقص لرب العالمين، فإن الكلام كمال، فالذي يتكلم أكمل من الذي لا يتكلم، بل إنه -سبحانه وتعالى- عندما وبخ بني إسرائيل على عبادتهم العجل، ذكر أن العجل لا يتكلم، فكيف يعبدونه { (خطأ) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} (1) وفي الآية الأخرى {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) } (2) . فجعل من الدليل على بطلان إلهية العجل أنه لا يرجع إليهم قولا، ولا يرد عليهم جوابا ولا يتكلم. وقد دل على إثبات هذه الصفة، أعني: صفة الكلام بهذا التقسيم، دل على ذلك هذه الآيات والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور، الكل كلام الله، كلها منزلة من عند الله، التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى -عليه السلام- والزبور المنزل على داود، والقرآن الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب، كلها كلام الله.   (1) - سورة الأعراف آية: 148-1149. (2) - سورة طه آية: 88-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال الله -تعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) وقال -تعالى- {* أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} (2) فهو كلام الله، وإضافة القرآن إلى الله هو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف كعلمه وسمعه وبصره وحياته ووجهه ويديه، إضافة الكلام إلى الله، إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعطلة نفاة الكلام يقولون: هذا القرآن مخلوق، وهذا ما أنكره عليهم أئمة الإسلام، وكفروا من قال: القرآن مخلوق. وصبر الذين امتحنوا في أمر القرآن؛ ليقولوا بأن القرآن مخلوق، وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد، إمام أهل السنة الذي امتحن بالضرب والسجن؛ ليقول القرآن مخلوق، فأبى أبى على الجهمية وصبر على أذاهم، فلا غرو أن حاز ذلك اللقب إمام أهل السنة، فرحمه الله وسائر أئمة الهدى.   (1) - سورة التوبة آية: 6. (2) - سورة البقرة آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هذه الآيات التي ساقها المؤلف؛ للاستدلال بها على إثبات صفة الكلام لله، أولها قول الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (1) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (2) فكلامه حديث، يسمى حديثا قال الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (3) فالقرآن حديث، حديث: كلام، الكلام يسمى حديثا {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (4) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (5) والقيل والقول معناهما واحد، أو متقارب، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) } (6) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (7) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } (8) أي: لا أحد أصدق من الله حديثا وقولا، ويوضح هذا قوله -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (9) . وشرائعه وأوامره ونواهيه، كلها عدل {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) } (10) لا مبدل لكلماته.   (1) - سورة النساء آية: 122. (2) - سورة النساء آية: 87. (3) - سورة الزمر آية: 23. (4) - سورة النساء آية: 87. (5) - سورة النساء آية: 122. (6) - سورة النساء آية: 122. (7) - سورة النساء آية: 87. (8) - سورة النساء آية: 87. (9) - سورة الأنعام آية: 115. (10) - سورة الأنعام آية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 كلمات الله نوعان: كلمات كونية، وهي ما يكون به الكائنات، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) } (1) كما قال لليهود العتاة المتمردين {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) } (2) {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) } (3) . وكلمات شرعية: وهي كلماته المنزلة على رسله، كلامه الذي أنزل على رسله، وهي كتبه، ومنها بل وأعظمها وأشرفها القرآن، فالقرآن كلامه وكله من كلماته الشرعية، وكلماته الكونية والشرعية كلها كلامه، ليس شيء منها مخلوق؛ ولهذا جاء التعوذ بكلمات الله في غير ما حديث: " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق " فاستدل العلماء بمثل هذا على أن كلام الله غير مخلوق.   (1) - سورة النحل آية: 40. (2) - سورة البقرة آية: 65. (3) - سورة الأعراف آية: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومن هذه الآيات {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} (1) في غير موضع: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (2) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} (3) {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (4) {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) } (5) {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) } (6) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) } (7) {قَالَ يَا آَدَمُ} (8) إلى آخر القصة. كلها فيها إضافة القول إلى الله، ومنها قوله -تعالى-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} (9) كلمه: خاطبه، خاطبه بكلام، بأخبار، وبأوامر {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) } (10) ناداه {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) } (11) .   (1) - سورة المائدة آية: 116. (2) - سورة آل عمران آية: 55. (3) - سورة المائدة آية: 110. (4) - سورة المائدة آية: 116. (5) - سورة البقرة آية: 30. (6) - سورة البقرة آية: 31. (7) - سورة البقرة آية: 32. (8) - سورة البقرة آية: 33. (9) - سورة النساء آية: 164. (10) - سورة الشعراء آية: 10. (11) - سورة مريم آية: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 إذن الله -تعالى- نادى موسى، وناجاه، والنداء هو الخطاب بصوت رفيع، والمناجاة الخطاب بصوت خفي، فموسى هو كليم الله، وهو نجي الله، كليم مكلم، كلمه الله وناجاه، ناداه وناجاه. إذن الله -تعالى- موصوف بالمناداة والمناجاة، والعباد يوصفون بالكلام والتكليم وبالمناداة وبالمناجاة، وليست المناداة كالمناداة، والمناجاة كالمناجاة، ولا التكليم كالتكليم، وهذا كله في القرآن. الله ذكر هذه المعاني، وأضافها للمخلوق، يعني: وصف المخلوق بالتكليم وبالمناداة وبالمناجاة {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) } (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} (3) . المقصود إن كل ما يوصف الله به من ذلك، ليس مثل ما يوصف به المخلوق. {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} (4) كلم اللهُ، بالرفع فاعل وموسى مفعول هو المكلم و"تكليما": مصدر مؤكد ليرفع ويدفع احتمال المجاز {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (5) .   (1) - سورة الحجرات آية: 4. (2) - سورة المجادلة آية: 12. (3) - سورة المجادلة آية: 9. (4) - سورة النساء آية: 164. (5) - سورة النساء آية: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والمعطلة يحرفون هذه الآية لكن هيهات، يقولون: وكلم اللهَ لأنها لو كانت الآية هكذا بهذه الصفة، يكون التكليم ممن؟ من موسى، وكلم اللهَ يعني: موسى كلم الله ولو كان الأمر كذلك أفيكون لموسى خصوصية؟ لا، كل أحد يمكن أن يكلم الله، أنتم تكلمون الله؟ نعم، تناجون الله إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه يناجي ربه، الداعي يكلم ربه، يكلمه يقول: يا رب، يا رب، يدعو يكلم ربه، العباد يكلم أحدهم ربه، ويناجي ربه، لكن خصوصية موسى في أن الله كلمه؛ ولهذا المبطل المعطل محاولة منه يعني: لإبطال هذه الأدلة يقول: وكلم اللهَ، لكن هيهات كلام الله محفوظ محفوظ في الصدور، وفي المصاحف {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } (1) . وانظر: إن هذا التكليم بين الله، أنه كان مناداة ومناجاة، كان مناداة وكان مناجاة كما في آية سورة مريم {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) } (2) فالله نادى موسى، ونادى الأبوين من قبل، لما عصى آدم وحواء، وخالفا أمر الله، وارتكبا ما نهيا عنه {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (3) ناداهما {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } (4) .   (1) - سورة فصلت آية: 42. (2) - سورة مريم آية: 52. (3) - سورة الأعراف آية: 22. (4) - سورة الأعراف آية: 22-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وكذلك -سبحانه وتعالى- ينادي في المستقبل، متى ينادي؟ يوم القيامة، ينادي المشركين توبيخا لهم {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) } (1) ويخاطب الرسل {* يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) } (2) " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ". فالله -تعالى- إذن لم يزل ولا يزال متكلما، إذا شاء بما شاء، وكيف شاء، ويكلم من شاء من عباده من ملائكته ورسله وعباده وسائر الخلق، يكلم من شاء -سبحانه وتعالى- ومن كلامه الكتب، ومنها القرآن، فالقرآن كلام الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (3) لكن كلام الله، هو كلام الله غير مخلوق، القرآن كلام الله هو كلام الله محفوظا في الصدور، ومسموعا بالآذان ومقروءا بالألسنة، ومكتوبا في المصاحف كله كلام الله، لكن كلام الله يسمع ممن؟ يسمع من القارئ، فقوله -تعالى-: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4) يسمعه إما من الرسول، أو من بعض المؤمنين {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (5) .   (1) - سورة القصص آية: 62. (2) - سورة المائدة آية: 109. (3) - سورة التوبة آية: 6. (4) - سورة التوبة آية: 6. (5) - سورة التوبة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أما الذي سمع القرآن كلام الله من الله فهو جبريل، جبريل سمع كلام الله من الله، لأنه هو الموكل بالوحي {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } (1) فجبريل الروح الأمين سمع كلام الله من الله، ومحمد -عليه الصلاة والسلام- سمع القرآن من جبريل، سمع كلام الله الذي نزل به جبريل، سمعه من جبريل، والصحابة سمعوا القرآن من الرسول، ويسمعه بعضهم من بعض، وهكذا. وهو في كل هذا هو كلام الله، نعم هذا، لعله أبرز ما يتعلق بهذه الآيات، كلها تدل على إثبات كلام الله بهذه الأساليب المختلفة، جاءت بأساليب وبألفاظ مختلفة لها دلالاتها كما علمنا.   (1) - سورة الشعراء آية: 192-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى وقوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) } (1) . وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (2) . وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (3) . وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) } (4) . وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) } (5) .   (1) - سورة النمل آية: 76. (2) - سورة الأنعام آية: 92. (3) - سورة الحشر آية: 21. (4) - سورة النحل آية: 101-102. (5) - سورة النحل آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وهذه الآيات فيها إخبار عن القرآن، بأنه منزل من عند الله، والآيات التي فيها الإخبار عن نزول وتنزيل وإنزال القرآن كثيرة جدا {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) } (1) {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ} (2) والقرآن يوصف بأنه يقص، وأنه يفتي، وأنه يبشر، وينذر ويهدي، كلها قد جاءت في القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) } (3) . فالقرآن يوصف بأنه يقص؛ لاشتماله على القصص، وعلى أخبار الأنبياء مع أممهم، وعلى الأوامر، على ما فيه من الأوامر والنواهي، كل هذا يقصه على العباد {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4) .   (1) - سورة النمل آية: 76. (2) - سورة النمل آية: 76. (3) - سورة الإسراء آية: 9-10. (4) - سورة النمل آية: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 هنا جاء التقييد {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) } (1) كما قص عليهم ما قص من أمر المسيح -عليه السلام- ومن أمر ما حرم عليهم {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) } (2) وهذه الآيات التي فيها الإخبار عن نزول القرآن، تؤكد ما مضى من أن القرآن كلام الله؛ لأنه منزل من الله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) } (3) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) } (4) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) } (5) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (6) {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } (7) . إذن القرآن جاء من عند الله، من الله، فابتداء نزوله من الله، ابتداء نزوله من الله؛ لأنه كلامه فلا بد أن يكون ابتداء نزوله منه -تعالى- {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} (8) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (9) كما أن هذه الآيات، كما يستدل بها على أن القرآن كلام الله منزل منه -سبحانه- فإنه يستدل بها على علوه؛ لأن النزول إنما يكون من العلو.   (1) - سورة النمل آية: 76. (2) - سورة النحل آية: 118. (3) - سورة غافر آية: 2. (4) - سورة الزمر آية: 1. (5) - سورة فصلت آية: 2. (6) - سورة النحل آية: 102. (7) - سورة الشعراء آية: 192-193. (8) - سورة الزمر آية: 1. (9) - سورة النحل آية: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إذن القرآن نزل من عند الله، من الله، وهو -تعالى- في العلو، كما تقدم ذكر الأدلة على علوه، وذكر الأدلة على أن القرآن كلامه، فهذه الآيات التي فيها الإخبار عن نزول القرآن من الله، تؤكد الأمرين جميعا، تؤكد أن القرآن كلام الله، وأن الله -تعالى- له العلو فوق جميع مخلوقاته. إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وقوله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (1) . وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) } (2) . وقوله: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (3) . وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) } (4) . وهذا الباب في كتاب الله كثير، من تدبر القرآن طالبا للهدى منه، تبين له طريق الحق. وهذه الآيات ختم بها المؤلف -رحمه الله- ما أورده من النصوص القرآنية الدالة على إثبات صفات الرب -سبحانه وتعالى- وهي النصوص الدالة على إثبات الرؤية له تعالى. يعني: رؤية العباد له، وهذه مسألة كبيرة -أيضا- ضل فيها كثير من الطوائف، ووفق الله للحق فيها وغيرها أهل السنة والجماعة، مسألة الرؤية، وهي داخلة في مسائل الصفات، فهي داخلة في باب صفات الرب، هل الله يرى أو لا يرى؟ يقول المعطلة: إنه -تعالى- لا يرى. وأهل السنة والجماعة يؤمنون بما دل عليه الكتاب والسنة: من أنه -تعالى- يرى، يرى بالإبصار، يراه من شاء من عباده.   (1) - سورة القيامة آية: 22-23. (2) - سورة المطففين آية: 23. (3) - سورة يونس آية: 26. (4) - سورة ق آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقد دلت النصوص على أن المؤمنين يرونه يوم القيامة في الجنة، وفي عرصات القيامة، ومن هذه الأدلة قوله -تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (1) ناضرة بهية حسنة مشرقة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (2) يعني: تنظر إلى ربها، تنظر إليه، فهي في نفسها بهية مسفرة ضاحكة مستبشرة، وجوه ناضرة: من النضارة، وهي الحسن إلى ربها ناظرة. وهي وجوه أولياء الله يوم القيامة، وجوه المؤمنين، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } (3) . فقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (4) من النظر بالبصر، ونظر: يأتي متعديا بنفسه، ومتعديا بفي، ومتعديا بإلى، فالمتعدي بنفسه بمعنى الانتظار {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (5) {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} (6) بمعنى هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويل ما وعدوا به. والمتعدي بفي، وهو بمعنى التفكر {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي} (8) يعني: أفلم يتفكروا، كما قال -تعالى- في الآيات الأخرى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} (9) .   (1) - سورة القيامة آية: 22-23. (2) - سورة القيامة آية: 23. (3) - سورة القيامة آية: 24-25. (4) - سورة القيامة آية: 23. (5) - سورة البقرة آية: 210. (6) - سورة الأعراف آية: 53. (7) - سورة الأعراف آية: 185. (8) - سورة الأعراف آية: 185. (9) - سورة الروم آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أما المتعدي بإلى، فهو بمعنى نظر العين، تقول: نظرت إلى كذا، يعني: ببصري، نظرت إليه بعيني بالبصر، كما قال -تعالى-: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) } (1) فهذه الآية هي أدل دليل على إثبات الرؤية لله تعالى، يعني: إثبات رؤية المؤمنين لربهم، إثبات أنه -تعالى- يرى. ومن الأدلة على ذلك قوله -تعالى- في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } (2) وهذا مما توعد الله به المكذبين، توعدهم بأنهم عن ربهم، يومئذ يعني: يوم القيامة، يوم يصلون نار جهنم {كَلَّا بَلْ 2 رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } (3) فتهديد الكافرين بحجبهم عن ربهم، يدل على أن المؤمنين بخلاف ذلك، وأنهم يرون الله، وأنهم يرونه -سبحانه-. فلو كان المؤمنون لا يرونه، لما كان بينهم وبين المكذبين فرق، ولو كان -تعالى- لا يرى البتة لما كان في قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } (4) لما كان في هذا الوعيد فائدة؛ لأن الكل محجوب، الكل يستحيل عليه أن يرى الله، بل الله يستحيل أن يرى عند المعطلة. ومن الأدلة القرآنية على إثبات الرؤية قوله -تعالى-: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (5) وقوله -تعالى-: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) } (6) .   (1) - سورة ق آية: 6. (2) - سورة المطففين آية: 15. (3) - سورة المطففين آية: 14-17. (4) - سورة المطففين آية: 15. (5) - سورة يونس آية: 26. (6) - سورة ق آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقد جاء تفسير الزيادة والمزيد بأنه النظر إلى وجهه الكريم -سبحانه وتعالى- للذين أحسنوا الحسنى الجنة وزيادة، أي زيادة؟ زيادة عظيمة، ألا وهي نظرهم إلى وجهه -تعالى- الكريم، وفي الدعاء المأثور: " وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم " نسأله -تعالى- أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم. هذه أظهر الآيات التي يستدل بها على إثبات رؤية العباد لربهم -سبحانه وتعالى- وهناك أدلة منها: قوله -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (1) وهي ما يتمسك به المعطلة، يتمسكون بهذه الآية، ويقولون: لا تدركه الأبصار، يعني: لا تراه الأبصار، ثم يحرفون الآيات الأخرى، وهذه الآية التي يحتجون بها على نفي الرؤية، هي حجة عليهم؛ لأن الصحيح أن الإدراك المنفي هو الإحاطة، فمعنى قوله -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (2) يعني: لا تحيط به الأبصار؛ وذلك لكمال عظمته -سبحانه وتعالى- ونفي الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية من غير إحاطة، إذ لو كان لا يرى مطلقا لما كان لنفي الإحاطة -وهو المعنى الخاص- لما كان له فائدة، فنفي الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية، لكن من غير إحاطة. فكانت الآية التي يستدل بها المعطلة على نفي الرؤية، هي دليل عليهم لا لهم، ولعل الإمام ابن تيمية تعمد هذا الترتيب، وتحراه وهو أنه ختم هذه النصوص التي أوردها من القرآن على إثبات صفات الرب، مما يحقق للعباد معرفتهم بربهم، فنحن عرفنا ربنا بأسمائه وصفاته، وذلك بما أنزله في كتابه وبلغه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيحصل للعباد في هذه الحياة العلم بربهم، لكنه علم من غير إحاطة {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (3) . ففي الدنيا العباد لا يرونه، لكنهم يعلمون علما من غير إحاطة، ويوم القيامة يرونه، فيجتمع لهم العلم الذي في قلوبهم، والرؤية له -تعالى- بأبصارهم، وهذه غاية.   (1) - سورة الأنعام آية: 103. (2) - سورة الأنعام آية: 103. (3) - سورة طه آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فكأن الإمام ابن تيمية في إيراد هذه الآيات في هذا الموضع، كأنه ينبه إلى أن هذه غاية، رؤية العباد لربهم غاية لهم، فتتوق نفوسهم إلى النظر إلى وجهه الكريم، بعد أن عرفوه في الدنيا بأسمائه وصفاته، كما علمهم، فإنه -تعالى- يتمم هذا لأوليائه يوم القيامة، بأن يجعلهم ينظرون إليه، وأن يكشف الحجاب لهم، فينظرون إليه، وذلك غاية نعيمهم، فلا يلتفتون إلى شيء، لا يلتفتون إلى شيء مع نظرهم إليه -سبحانه وتعالى-. وفي النهاية يقول: وهذا باب واسع، يعني: النصوص الدالة على أسماء الرب وصفاته وأفعاله، مما يورث العلم بالله باب واسع، من تدبره، من تدبر هذه النصوص، تبين له طريق الحق، وهدي لطريق الحق، فتدبر القرآن هو سبيل العلم النافع، وهو الطريق لمعرفته -سبحانه وتعالى- المعرفة الصحيحة؛ فإن العقول لا تستقل بمعرفة، وغاية ما تحصله العقول المعرفة الإجمالية، أما معرفة أسماء الله وصفاته على التفصيل، فلا سبيل للعقول إلى ذلك، وإنما طريق العلم في ذلك هو ما جاءت به الرسل. فرحم الله الإمام ابن تيمية على هذه العناية العظيمة، يعني: قد يقول بعض الناس: إنه أسهب وأكثر، لكن المقام جدير بالعناية، فنصوص الصفات ليست محدودة قليلة في القرآن في موضع وموضعين وثلاثة، بل هي كثيرة جدا، فهذه الآيات التي ساقها هي قليل من كثير. فاقرأ، اقرأ أي سورة تجد فيها من إثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، والسورة الجامعة لمضمون القرآن كله سورة الفاتحة، وكيف صدرت بـ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) } (1) هذه الآيات الثلاث، فيها جماع أسماء الرب وصفاته، لكن على سبيل الإجمال. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد. ال أسئلة ؟ نعم. أسئلة بسم الله الرحمن الرحيم   (1) - سورة الفاتحة آية: 2-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 س: هذا سائل يقول: هناك شبهة سمعتها من بعض العامة، أو الملبس عليهم يقول: لماذا يركز العلماء، ويدرسون، وينبهون الناس على القول بخلق القرآن، وقد انقرض من يقول بهذا القول؟ . ج: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. هذه البدعة، بدعة القول بخلق القرآن، هذه المقالة الشنعاء المنكرة التي أصلها جحد صفات الرب، يعني: يقول في القرآن، القول بخلق القرآن باطل مبني على باطل، وهو نفي صفات الرب، نفي الكلام عن الرب، وهذا الفكر لم ينقرض، موجود في مؤلفات الناس عبر القرون، وموجود في عقول كثير من المنتسبين للإسلام، فالكتب قد انتشر فيها بدعة التعطيل، نفي الصفات، نفي العلو، نفي حقيقة الكلام عن الله. الأشاعرة الذين يقال: إنهم أقرب الطوائف للسنة، وينتسبون للسنة ماذا يقولون عن القرآن؟ يقولون: الكلام كلام الله، يثبتون الكلام من الصفات الثابتة، لكن ما هو الكلام عندهم؟ وهذا مما يمكن -فاتني أن أتعرض له- يقولون: الكلام معنى نفسي، واحد قديم، معنى نفسي، يعني: ليس بحرف ناطق في نفسه، يعني: كلام الله في نفسه، وهو شيء واحد قديم، ليس تابعا لمشيئته -سبحانه وتعالى- يعني: إنه كلام الله معنى نفسي، ليس تابعا لمشيئته، معنى قائم بالرب، مثل حياته وقدرته، فلا يقال: إنه يتكلم إذا شاء، ويكلم من شاء إذا شاء، بل هو معنى نفسي. وهذا يعني: أنه لا يسمع كلام الله، لا يسمع لأنه ليس بحرف ناطق، إذن هذا القرآن الذي نتلوه هو عبارة عن كلامه، إذن فهو مخلوق، إذن بدعة القول بخلق القرآن، وإن دلست، وإن حصل عند بعضهم مثل الأشاعرة مراوغة وتلفيق، فإن حقيقة هذه البدعة موجودة. فالقرآن الذي في المصاحف، ويحفظه حفاظ القرآن هو عبارة عن كلام الله، لا أنه كلام الله، ومن هم أكثر الناس في العالم الإسلامي؟ أهم أهل السنة؟ أم غيرهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الرافضة هؤلاء الذين يعدون بالملايين، هم على أصولهم، يعني: من أصولهم، أصول المعتزلة، يعني: أصول المعتزلة عندهم، وكذلك الزيدية كما سبقت الإشارة إلى هذا، فالقرآن عندهم مخلوق، فمن يدعي أن هذه الفرق انقرضت، وأن هذا الفكر انقرض، لا يعدو إما أن يكون جاهلا لا يدري عن الناس؛ لأنه لا يسمع، ما يسمع كثير كلام عن هذا الأمر، أو إنه ملبس مغالط، يريد أن يسكت عن هؤلاء، وأن لا تثار هذه القضايا؛ لأن فيها يعني: فيها شناعة على أصحاب هذه المذاهب. س: هذا سائل يقول: هل الضحك من صفات الله -سبحانه وتعالى- وما معنى قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) } (1) ؟ . ج: يؤجل هذا السؤال إلى الليلة القادمة -إن شاء الله- لأن هذا الموضوع في الفصل الآت, نعم. س: هل مخاطبة الله في يوم القيامة للحساب، يستلزم رؤيته، وإذا كانت الإجابة بنعم، فكيف نوفق بينه وبين أن رؤية الله خاصة للمؤمنين في الجنة؟ . ج: لا يستلزم، خطابه لا يستلزم فـ الله كلم موسى دون رؤية، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} (2) وقال -تعالى- {* وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (3) فالله -تعالى- في يوم القيامة، يكلم من شاء مع رؤية، أو بدون رؤية. س: كيف يكون موسى -عليه السلام- قد اختصه الله -جل وعلا -بالتكليم مع أنه -سبحانه وتعالى- قد كلم آدم وحواء بقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (4) وقد كلم النبي، - صلى الله عليه وسلم -؟ .   (1) - سورة النجم آية: 43. (2) - سورة الأعراف آية: 143. (3) - سورة الشورى آية: 51. (4) - سورة الأعراف آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ج: الواقع كأن اشتهار أن موسى كليم الله، كأنه أولا باعتبار.. يعني: أنه من بين الرسل، ولعله يؤيد هذا قوله -تعالى- {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (1) فهو كليم الله من الرسل يعني: لا نقول: إن موسى هو كليم الله، بمعنى أن الله لم يكلم أحدا سواه، لا نقول هذا، فكلم الأبوين، وكلم الملائكة، لكن هو كليم الله، يعني: من بين سائر الرسل، والنصوص الدالة على تكليم الله لموسى هي أظهر من سائر الآيات. قال الله: {* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (2) منهم من كلم الله: هذه تنصرف لمن؟ تنصرف للرسل، منهم من كلم الله، والقرآن يفسر بعضه بعضا {* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} (3) من هو هذا؟ اقرأ آية النساء {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (4) . فصل في الاستدلال على إثبات أسماء الله وصفاته من السنة ثبوت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا على ما يليق بجلاله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فصل , ثم في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالسنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. وما وصف الرسول به ربه - عز وجل - من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها.   (1) - سورة النساء آية: 164. (2) - سورة البقرة آية: 253. (3) - سورة البقرة آية: 253. (4) - سورة النساء آية: 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 - ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ متفق عليه. إثبات أن الله يفرح ويضحك ويعجب وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته.. " الحديث متفق عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم - " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة " متفق عليه. وقوله: عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب حديث حسن. إثبات الرجل والقدم لله سبحانه وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله " وفي رواية: " عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط " متفق عليه. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. تقدم في بيان مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الرب -سبحانه وتعالى- وأسمائه أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثباتا ونفيا. فيثبتون له ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل. ومضمون هذا أنه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من أسماء الرب وصفاته، وما جاء في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا لما أورد الإمام ابن تيمية كثيرا من النصوص القرآنية المتضمنة لكثير من أسماء الله وصفاته مما يدخل في القاعدة المتقدمة، وهي أنه -سبحانه وتعالى- موصوف بالإثبات والنفي، أتبع ذلك بذكر بعض النصوص النبوية المشتملة على بعض أسماء الرب وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فإن السنة هي الأصل الثاني في الاستدلال، ومعرفة ما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فإن الله أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، الكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فكلاهما وحي، كلاهما وحي كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) } (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } (2) . فكل ما يبلغه عن الله -سواء كان قرآنا أو سنة- فإنه وحي أوحاه الله إليه، وكل منهما منزل كما في تلكم الآية: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) } (3) . فيجب الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته، كما يجب العمل بما أمر الله به في القرآن، والانتهاء عما نهى عنه سبحانه، وكذلك ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو نهى عنه، فإنه يجب العمل بأوامره - صلى الله عليه وسلم - بأوامره ونواهيه، وطاعته في أمره ونهيه. وإنكار السنة مطلقا ودعوى أننا لسنا مكلفين إلا بالقرآن كفر وضلال ومخالفة للقرآن؛ فإن الله تعالى أمر باتباع الرسول، وبطاعة الرسول، وأخبر أنه أنزل الحكمة على الرسول كما تقدم. قال الشيخ رحمه الله: "إن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه"، فالسنة -والمراد بالسنة في هذا السياق سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهي أقواله وأفعاله وتقريراته، هذا هو المراد بالسنة إذا ذكر الكتاب والسنة، فقيل الكتاب والسنة، فالمراد بها: سنة الرسول التي تشمل أقواله وأفعاله وتقريراته. فسنة الرسول القولية والفعلية والتقريرية هي تبين وتفسر القرآن، وتدل على القرآن وتعبر عنه، وهذا هو الأغلب على السنة، الأغلب على سنة الرسول أنها بيان.   (1) - سورة النجم آية: 3. (2) - سورة النجم آية: 4. (3) - سورة النساء آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومن السنة ما يتضمن أخبارا وتشريعات ليست في القرآن، قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} (1) - أي القرآن- {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) } (2) . فالرسول -عليه الصلاة والسلام- قد فسر القرآن وبينه، ففسر ما أشكل من ألفاظه، فإن كثيرا من ألفاظه يعرفها المخاطبون باللسان العربي، كما قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامهم، وتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بيَّن القرآن، فالسنة فيها تفصيل ما أجمل في القرآن، وتقييد المطلق، وتخصيص العام، وهذا الموضوع يطول الحديث عنه، يعني موضوع طويل الكلام فيه وتفصيله. أحكام الصلاة أكثرها إنما تجده في السنة، أحكامها التفصيلية، صفتها، أفعالها، أقوالها، مواقيتها، الصيام، أحكام الزكاة، أنصبة الزكاة، الأموال التي تجب فيها الزكاة، الحج، كثير من الأحكام إنما عرفت تفصيلا بسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-. والمقصود أن ما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ربه من الأحاديث الصحيحة التي تلقاها أهل العلم والمعرفة -وهم أهل الحديث، أهل ذلك الشأن- تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك. يعني كما يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، يجب الإيمان بما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ربه من الأحاديث الصحيحة، التي تلقاها أهل العلم بهذا الشأن بالقبول. يجب الإيمان بها، سواء كانت من قبيل المتواتر أو الآحاد، فأهل السنة والجماعة يقبلون كل ما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-.   (1) - سورة النحل آية: 44. (2) - سورة النحل آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أما أهل البدع فإنهم -بناء على أصولهم الفاسدة في نفي صفات الرب سبحانه- يردون نصوص الصفات، إما بحجة أنها آحاد، والآحاد يزعمون أنه لا يحتج بها في العقائد، وإن كانت متواترة قالوا: إنها ظنية اللفظ، ألفاظ ظنية لا تفيد اليقين، فهم يدفعون هذه النصوص، ويردونها زاعمين إما أنها لم تثبت، أو أنها ظنية الدلالة. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يصفون الله بكل بما وصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه، مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول، ويؤمنون بذلك، وهذا هو الواجب، الواجب الإيمان بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما صح عنه، كما يجب الإيمان بما في القرآن. وقد أورد الإمام ابن تيمية في هذا الفصل أمثلة لهذه الأحاديث: وهذه الأحاديث التي أوردها الإمام ابن تيمية منها ما دل على صفات قد دل عليها القرآن كالتكليم في قوله - صلى الله عليه وسلم - " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ". أو العلو كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء " هذا مثل قوله سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (1) وكقوله للجارية " أين الله؟ قالت: في السماء ". أو إثبات بعض الأسماء مع تفسيرها كالأول والآخر والظاهر والباطن، كما في حديث أبي هريرة في الدعاء الذي كان النبي يدعو به يقول: " اللهم رب السماوات السبع، رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء " إلى قوله: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ". أقول: إن كل هذه الأحاديث إنما دلت على مثل ما دل عليه القرآن، فتكون هذه الصفات قد تطابقت عليها دلالة القرآن ودلالة السنة، فتكون ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، يعني إجماع أهل السنة والجماعة، ومثل ذلك الرؤية.   (1) - سورة الملك آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فقد ذكر الشيخ في آخر ما أورده من الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب " أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-. وهذا أيضا مما ثبت في الكتاب، فرؤية العباد لربهم قد دلت عليها نصوص من القرآن، ودلت عليها السنة المتواترة، وأجمع على ذلك سلفنا، وهذه النصوص -أعني تلك النصوص التي قد دلت على مثل ما دل عليه القرآن- سنكتفي فيها بهذه الإشارة. ونتأمل جميعا ما أورده الشيخ من النصوص الدالة على صفات لم يأت ذكرها في القرآن، وهي هذه الأحاديث التي قرأناها، وألاحظ أن الشيخ رحمه الله -الإمام ابن تيمية رحمه الله- قد قدم هذه الأمثلة وساقها تباعا، وهي هذه الأدلة: حديث النزول، الفرح، الضحك، حديث القدم -نعم-، فهذه الصفات إنما ثبتت بالسنة، فليس في القرآن ذكر لهذه الصفات+. فأول ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ". وهذا الحديث رواه جمع غفير من الصحابة، وعده أهل العلم من المتواتر، فقد تواترت السنة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بإثبات نزول الرب تعالى في آخر الليل " ينزل ربنا ". لذلك أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفة، يثبتون النزول الإلهي ويؤمنون به، مع نفي مماثلته لنزول الخلق، ونفي العلم بالكيفية، فيقولون: إنه تعالى ينزل، ينزل حقيقة، وإذا قلنا ينزل حقيقة فلا يعني أنه ينزل مثل نزول العباد، لا، ينزل كيف شاء، ينزل، والنزول معلوم، والكيف مجهول. ينزل، ونزوله يتضمن دنوا وقربا، ولكن ليس كنزول العباد، فالله أعلم بكيفيته، لكنه ينزل هو، لا كما يقول المعطلة: تنزل رحمته، أو أمره، أو ينزل ملَك. فهذا من التحريف الذي ينكره أهل السنة والجماعة ويرفضونه، والله قد ذم اليهود لتحريف الكلم عن مواضعه، وهذا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فالرسول يقول: " ينزل ربنا " والأصل الحقيقة، الأصل أنه هو " ينزل ربنا " الأصل أنه هو، ويؤكد الحقيقة -أنه ليس المراد أمره أو رحمته أو غيره- يؤكده قوله: " فيقول: من يدعوني " هذا يمنع من احتمال المجاز، يمنع. " من يدعوني فأستجيب له؟ " هل يجوز أن يقول الملك: " من يدعوني؟ " هل تقول الرحمة: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني.. ". فأهل السنة مجمعون على أن النزول من فعل الرب تعالى، وأنه هو الذي ينزل حقيقة، ولكن لا كنزولنا ولا يقاس به، وهذا من أفعاله، النزول صفة فعلية، يكون بمشيئته. والمعطلة يلبسون على الجهال ويقولون: هذا يتضمن أن الله يزول عن مكانه. فهذه من الشبهات التي يشبهون بها على الأغرار، ولهذا قال بعض الأئمة: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. ما أحسن هذا الرد البسيط المفحم: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. يفعل ما يشاء، ينزل كيف شاء، استوى على العرش كيف شاء، يجيء يوم القيامة للفصل بين عباده كيف شاء، فعال لما يريد. أما إذا قيل: إنه لا ينزل، لا كذا، لا كذا. معناه فيه حجر، هذا الرب لا يفعل ما يريد، ما يقدر، تعجيز للرب، تنَقُّص، فالذي يفعل أكمل ممن لا يفعل. وكذلك القول في الفرح والضحك، فيجب الإيمان بالفرح والضحك، أن الله يفرح، وفرحه تعالى يتضمن محبته لما يفرح به، ورضاه به وعنه. يفرح كما في الحديث الصحيح المتفق على صحته: " لله أشد فرحا " فرح، يفرح حقيقة، لكن لا كفرح العباد، إذا فسرنا فرح العباد بأن الفرح هو كذا لذة وسرور بالمحبوب أو نحوه، لو فسرنا هكذا نقول: هذه صفة المخلوق، فاللذة لا نضيفها، لكنه فرح يتضمن المحبة. فقوله: " لله أشد فرحا بتوبة عبده " هذا يتضمن أن الله يحب توبة التائبين، بل يفرح بتوبة التائبين، والحديث مشهور، طويل، في قصة سيقت على سبيل المثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته أضلها في أرض فلاة، عليها طعامه وشرابه، حتى أيس منها، فآوى إلى أصل شجرة، قد أيس منها، فبينما هو كذلك ينتظر الموت إذ هي عند رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ". اللهم أنت عبدي، فرح، فرح، أيس من الحياة، وفجأة يجد راحلته عند رأسه واقفة وعليها طعامه، انظروا إلى هذا التصوير، على وجه -يعني- في حدود معلومنا، وإلا فشأن الله أعظم، لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته. فيجب الإيمان بأن الله تعالى يفرح بتوبة التائبين، فالفرح إذن صفة يجب إثباتها له، وأنها لا تماثل فرح المخلوق، ولا نعلم كنهها وكيفيتها. وهكذا الضحك، وقد جاء في أحاديث عدة، ومنها هذا الحديث: " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخلان الجنة " وذلك أنه يجاهد المؤمن في سبيل الله فيُقتل، فيسلم القاتل ثم يستشهد، فكلاهما يدخل الجنة، القاتل والمقتول، الأول جاهد في سبيل الله فقتل، والثاني -القاتل- يؤمن فيجاهد فيُقتل. كلاهما يدخل الجنة، فالله يضحك إليهما؛ لأن أمرهما عجب، يجتمعان في الجنة، القاتل والمقتول، وضحكه إليهما يتضمن رضاه عنهما، يتضمن الرضا، ولا أقول: إن هذا تفسير للضحك، لا، بل هو تعالى يضحك كيف شاء، وهو معنى يختلف عن معنى الفرح، فيجب إثبات ذلك كله، مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية. وإذا كان العلم بالكيفية مستحيلا، فلا يجوز التفكر في كيفية نزول الرب، أو فرحه، أو ضحكه، لا تفكر في الكيفية، لأنه لا سبيل إلى أن تعلمها، لا تفكر، لا تتخيل، بل إيمان، إثبات لما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، إيمان وإثبات لما وصف به الرسول -أعلم الخلق بالله- بما وصف به ربه، مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأما الحديث الرابع: فهو حديث قال عنه الشيخ: إنه حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره من حديث طويل، والشيخ اقتصر على الشاهد، كما اقتصر على الشاهد في الحديث الثاني: " عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِهِ، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ". الشاهد منه في هذا المقام: " فيظل يضحك " وفيه دلالة على إثبات العجب، وإثبات الضحك، وإثبات النظر، ثلاث: العجب، النظر، الضحك، ولكن العجب والضحك صفتان -كذلك- ثابتتان في القرآن كما تقدم، وإن كان العجب لم يسبق له ذكر لكنه ثابت، يعني لم يمر في الشواهد فيما أذكر. لكن من الأدلة القرآنية على إثبات العجب قوله تعالى: "بل عجبتُ ويسخرون" في قراءة صحيحة سبعية، قراءة حفص التي نقرأ بها: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) } (1) والقراءة الأخرى "بل عجبتُ " فالضمير يعود لمن؟ إلى الله تعالى "بل عجبتُ ويسخرون"، كما دل على صفة العجب قوله تعالى: {* وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (2) . كذلك هذا الحديث من الأدلة على إثبات صفة العجب، فهو تعالى يوصف بالعجب على المنهج المقرر: إثبات مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية. وليس عجبه لجهله بالأسباب، فهذا شأن المخلوق، المخلوق هو الذي يعجب أحيانا لجهله بالسبب، كما يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب، هذا في عجب المخلوق، أو في بعض عجب المخلوق. " عجب ربنا من قنوط عباده " القنوط: شدة اليأس " وقرب غِيَرِهِ " بينما العباد قانطون أزلون، والأزْل هو الشدة، والأزِل هو الذي قد بلغت به الشدة حدا بعيدا، استولى عليه اليأس، فالأزل والقنط معناهما متقارب.   (1) - سورة الصافات آية: 12. (2) - سورة الرعد آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 " ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " مع قرب الفرج وقرب تغيير الأحوال، تغيير الله للأحوال من الشدة إلى الرخاء، من القحط إلى الخصب، في هذا الظرف الله تعالى يعجب لهذه الحال، فيظل يضحك كيف شاء -سبحانه وتعالى-. فإن العباد إذا طالت عليهم الشدة استولى عليهم اليأس واشتد، وآل بهم الأمر إلى القنوط، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) } (1) . الحديث الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال جهنم يُلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة " -سبحانه وتعالى- " حتى يضع رب العزة فيها رجله " وفي رواية: " عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط " والحديث متفق عليه. وفي هذا الحديث إثبات الرِّجل والقدم له -سبحانه وتعالى-، وأهل السنة يثبتون لله ما جاء في هذا الحديث على حقيقته، كما يثبتون سائر الصفات، كما يثبتون اليدين والعينين له -سبحانه وتعالى-، ويقولون: إن له تعالى قدمين، كما جاء في الأثر المشهور عن ابن عباس في تفسير الكرسي: أنه موضع القدمين، أي: قدمي الرب -سبحانه وتعالى-. القول في القدمين واليدين، القول في ذلك واحد، لا مجال للتفريق، وأهل السنة لا يفرقون، وأهل البدع لا يفرقون كيف ذلك؟   (1) - سورة الروم آية: 48-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أهل البدع ينفون كل هذه المعاني، كما ينفون حقيقة نزوله واستوائه، ينفون كذلك حقيقة الفرح والضحك والعجب، وينفون اليدين والعينين والوجه والقدم، ينفون ذلك كله؛ لأن مبدأهم أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، ويستلزم التشبيه وما أشبه ذلك. أما إن كانت نصوص قرآنية لا يمكن أن يدفعوها بعدم الثبوت، لكن يقفون منها -كما تقدم- أحد موقفين: إما التفويض بأن يجروها ألفاظا من غير فهم لمعناها، ومن غير تدبر، زاعمين أنها لا تدل على شيء، أو التأويل بحملها على معان بعيدة. أما الأحاديث فالأمر عندهم فيها أوسع، فإنها -كما ذكرت- إن كانت آحاد قالوا: هذه آحاد، ودفعوها من أول الأمر دون أن ينظروا فيها، دون أن يحكموا على ما فيها بتفويض أو تأويل، لا يحتاجون، يدفعونها، يردونها، وإن كانت متواترة وقفوا منها موقفهم مما جاء في القرآن. كالجهمية والمعتزلة، بل وكذلك الأشاعرة، هذه الطوائف يتفقون على نفي هذه الصفات التي دلت عليها السنة الصحيحة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما نفوا كثيرا، كما نفوا ما جاء في القرآن. فبالنسبة للفرح والضحك يمكن أن يفسروه بالرضا، ثم الرضا له تفسير معروف، تفسير الرضا عند نفاة الصفات إرادة الإحسان، أو نفس الإحسان، بما يخلقه الله من النعم. والغضب هو إرادة الانتقام، أو هو نفس الانتقام بما يخلقه الله من العقوبة. أما الرِّجل والقدم، فالذين يؤولون يقولون: إن المراد جماعة من أهل النار، أن جهنم لا تزال يلقى فيها حتى يلقي الله عليها جماعة من أهل النار وفوج كثير حتى يغطيها ويملأها بها "رِجل". وهذا خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وخلاف ما يدل عليه السياق، ثم إن الرواية الأخرى -يعني- توضح وتدفع هذا التحريف، وفي رواية " عليها قدمه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ومضمون هذا الحديث قد جاء -يعني- أصله في القرآن: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) } (1) فهذه الآية شاهدة لما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وكلام الله وكلام رسوله يصدق بعضه بعضا: " لا تزال جهنم يلقى فيها " يعني أهلها، يلقى فيها أهلها، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) } (2) أهل جهنم يُلقَون فيها إلقاء، يطرحون طرحا، {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3) " لا تزال جهنم يلقى فيها " يعني أهلها وما يُعبد من دون الله، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) } (4) أعوذ بالله من النار. نعم، فقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال جهنم " يعني أنها تبقى وتستمر تطلب المزيد، تستمر، فقوله "لا تزال": هذا الفعل يدل على الاستمرار، " يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها رجله " في بمعنى على كما في الرواية الأخرى، " فيها رجله " وفي رواية: " عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض " تتضايق وينزوي بعضها إلى بعض فتمتلئ، تمتلئ فتقول: قط قط، يعني: يكفي يكفي، نعوذ بالله من النار. وفي هذا تحقيق لوعده -سبحانه وتعالى-؛ فإنه قد وعد الجنة والنار بمَلئهما أو بمِلئهما؛ إذ " قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وإن عليَّ لكليكما مِلْأها " أو كما قال، أو كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) - سورة ق آية: 30. (2) - سورة الملك آية: 8. (3) - سورة فصلت آية: 40. (4) - سورة الأنبياء آية: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فالنار يضيقها الرب حتى تمتلئ، وأما الجنة فإذا دخل أهل الجنة يبقى فيها فضل، فهي واسعة، مع كثرة من يدخلها من عباد الله، فينشئ الله لها أقواما فيسكنهم الجنة برحمته -سبحانه تعالى-، أما النار فإنه لا يعذب بها إلا المستحقين لعذابه، نعوذ بالله من عذاب الله. فالمقصود أن هذه الصفات التي تضمنتها هذه الأحاديث كلها إنما ثبتت بالسنة، وليس في القرآن -فيما أعلم- ما يدل عليها. أما ما بعد هذه الأحاديث إلى آخر ما أورده الشيخ فكلها قد دلت على صفات دل عليها القرآن: التكليم، العلو -مثلا-، القرب، إثبات بعض الأسماء: كالأول والآخر إلى آخره، إثبات الرؤية، والله أعلم. وبهذا -يعني- نكون قد فرغنا من استعراض كل ما تضمنه هذا الفصل من الأحاديث، ونقف عند ختام هذا الفصل الذي ضمنه الشيخ -يعني- مقارنة بين أهل السنة وسائر طوائف المبتدعة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا " متفق عليه. موقف أهل السنة والجماعة التي فيها إثبات الصفات الربانية إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه بما يخبر به. فإن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. بل هم الوسط في فِرَق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة فهم وسطهم في باب صفات الله -سبحانه وتعالى-، بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية، والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. ذكرت في الليلة الماضية أن ما أورده الشيخ -رحمه الله- من الأحاديث المشتملة على بعض صفات الرب -سبحانه وتعالى- منها ما دل على مثل ما دل عليه القرآن: كالتكليم، والعلو، والمعية، والسمع، والرؤية، وبعض الأسماء: كالأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والسميع: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائب، وإنما تدعون سميعا قريبا، فهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وهو الحديث ما قبل الأخير. ومنها أحاديث دلت على صفات لم يأت ذكر لها في القرآن، وذكرتها: النزول، الفرح، الضحك، القدم، الرجل، نعم. وآخر هذه الأحاديث هو حديث الرؤية، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر " لا تضامُون، أو لا تَضَامُّون، أو لا تُضارون في رؤيته، وكذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: " وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس -صلاة الفجر- وصلاة قبل غروبها -وهي العصر- فافعلوا ". ونلاحظ أن الشيخ ختم أحاديث الصفات بحديث الرؤية، كما ختم ما أورده وذكره من آيات الصفات -يعني الأسماء والصفات- بالآيات الدالة على رؤية الرب، ندرك أن الشيخ -يعني- متعمد لهذا الترتيب، وكأنه إشارة إلى أن الرؤية هي التي ينتظرها المؤمنون، وهي محققة للمؤمنين الذين آمنوا بالله، وبما أخبر به في كتابه، وأخبر به رسوله، وما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وأحاديث الرؤية من الأحاديث المتواترة، فرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب، وبالسنة المتواترة، وبإجماع أهل السنة والجماعة، بإجماع الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، وهم الفرقة الناجية. يقول الشيخ: "إلى أمثال هذه الأحاديث" يعني هذه نماذج، وإلا فأحاديث الصفات كثيرة، لا حصر لها، كثيرة جدا، "إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يخبر به عن ربه" يعني من الأسماء والصفات والأفعال. فإن الفرقة الناجية المنصورة -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، لا يفرقون بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة، لا، بل يقبلون هذا وهذا، يؤمنون بهذا كله، بما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- عن ربه من أسمائه وصفاته، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، كما تقدم، تقدم ذكر مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب. يقول الشيخ: "فإن الفرقة الناجية وسط في فرق الأمة"، الفرقة الناجية هي الوسط في فرق الأمة، معتدلة، هي عدل خيار، الوسط هي العدل الخيار، أو هو العدل الخيار، كما أن هذه الأمة وسط في الأمم، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) . أمة وسطا يعني عدولا خيارا، الوسط هو العدل الخيار، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، ولا تقصير ولا تجاوز، اعتدال واستقامة، إن الوسطية تمثل الاستقامة، إن الاستقامة هي لزوم الصراط المستقيم، فلا انحراف هنا ولا هناك. كما أن الأمة وسط، الأمة المحمدية التي تحقق لها الإيمان بالله ورسوله، ولم تأت بما تخرج به عن الإسلام، نعم، هي وسط في الأمم، وإن كان لبعضهم ذنوب وأخطاء، وعند بعضهم بدع.   (1) - سورة البقرة آية: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لكن ما دام أنه قد تحقق لهم الإيمان ظاهرا وباطنا، ولم يأت أحد منهم بما يخرج به عن الإسلام، فإنه من الأمة المحمدية التي يثبت لها هذا الوصف بحسبها، فكل من كان على الصراط المستقيم، يعني أتم استقامة كان حظه من الوسطية بحسب ذلك. المقصود أن الشيخ يقول: إن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- وسط في فِرق الأمة، كما أن الأمة وسط في الأمم، ثم يفصل ذلك في مسائل يقول: فهم وسط في باب صفات الله، بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وسط، أهل التعطيل ينفون صفات الرب، يعطلون الرب عن صفات كماله، يعطلون النصوص عما دلت عليه من الحق، وشرهم الجهمية، هم أهل التعطيل؛ إذ ينفون الأسماء والصفات، ويدخل فيهم المعتزلة، فإن لفظ الجهمية إذا أطلق يتناول المعتزلة. ويقابلهم أهل التمثيل، الذين يمثلون صفات الرب بصفات الخلق، يقول أحدهم: له يد كيدي -تعالى الله-، وسمع كسمعي، وبصر كبصري، وهكذا، فهؤلاء أهل التمثيل. وكل من المذهبين ضلال وكفر، كما قال الإمام نعيم بن حماد -رحمه الله-: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيه. أهل السنة -إذن- هم يثبتون، يثبتون لله ما أثبته لنفسه، خلافا لمن؟ للمعطلة، بلا تشبيه خلافا للمشبهة، وينزهونه عن النقائص والعيوب خلافا للمشبهة، بلا تعطيل خلافا لمن؟ للمعطلة، فإن المعطلة غلوا في التنزيه، غلوا، يعني يزعمون أنهم ينفون الصفات عن الله حذرا من التشبيه، فغلوا في التنزيه، فأفضى بهم ذلك إلى التعطيل، وفروا من تشبيه، فوقعوا في تشبيه أكبر. والمشبهة -أعني أهل التمثيل- غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، ولهذا قال بعض أهل العلم: "إن المعطل يعبد عدما"؛ لأن نفي جميع الصفات يستلزم نفي الذات، "والمشبه يعبد صنما"، المشبه الذي يقول: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ليس هذا هو الله الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فأهل السنة وسط، ولهذا نقول: إنهم يثبتون لله الأسماء والصفات، وينزهونه عن كل ما لا يليق به، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، فهذه وسطيتهم، فكانوا بريئين من الإفراط والتفريط، وسائر الانحرافات والضلالات التي وقع فيها من خالفهم. ثانيا: وهم وسط، أيضا أهل السنة وسط في باب ماذا؟ في باب أفعال الله، هذا الثاني: أفعال الله، في باب أفعال الله، بين الجبرية والقدرية، وسط في أفعال الله بين الجبرية والقدرية. الجبرية يقولون: لا فعل لنا، بل كل الأفعال أفعال الله، فالعبد لا فعل له، والله هو الفعال لكل شيء. وعلى مذهبهم الباطل الخبيث يكون الله هو الفاعل لأفعال العبد، بمعنى أنه هو الموصوف بها حقيقة، فهو المصلي، والصائم، وكذا، والآكل، والشارب، ونترك الباقي؛ لأن فيه شناعة، فلا فعل للعبد، العبد حركاته لا اختيار له فيها، ولا إرادة ولا مشيئة، بل مَثَله مَثَل الريشة في مهب الريح، وحركته كحركة الأشجار، وحركة المرتعش، والعروق النابضة. ويقابلهم القدرية، ومنهم المعتزلة، المعتزلة قدرية، هؤلاء ينفون القدر، والجبرية يثبتونه، لكنهم يغالون في الإثبات. وأما القدرية فيراد بهم -في الغالب- النفاة الذين يقولون: إن الله تعالى لا يقدر على أفعال العبد، بمعنى أن العبد يخلق فعله، فيتصرف دون مشيئة الله، ودون قدرته، فالله لا يقدر أن يجعل هذا مؤمنا وهذا كافرا، ويجعل المطيع عاصيا أو العاصي مطيعا، أو الكافر مؤمنا أبدا، فالعبد يفعل بإرادته المحضة المنطلقة المنقطعة عن مشيئة الله، وعن قدرة الله، فينفون عموم المشيئة، وعموم الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أهل السنة والجماعة بين ذلك، وسط في أفعال الله، فيقولون: إنه تعالى خالق كل شيء، فجميع ما في الوجود هو خلقه، خالق السماوات والأرض ومن فيهن، وهو خالق العباد، وخالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق أفعالهم {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } (2) . ولكن للعبد فعل، فأفعال العباد ليست أفعالا لله، العبد هو المصلي والقائم، والراكع والساجد، والآكل والشارب، والصادق والكاذب، والظالم والسارق، وهكذا، العبد هو الذي يوصف بهذه الأفعال، هي أفعال للعبد، لكنها واقعة بمشيئته تعالى وبقدرته، وهي مفعولة له ليست فعلا له، المفعول غير الفاعل، المفعول هو الشيء المصنوع المنفصل عن الفاعل، وأما الفعل فمن شأنه أن يقوم به الفاعل. ولهذا ذكرت لكم أن الذين ينكرون المحبة والرضا، والغضب والسخط، وينفون ذلك، ينفون هذه الصفات عن الله، يفسرونها، يفسرها بعضهم بأشياء منفصلة، بمفعولات، مفعولات بالنعم، وبالعقوبات المخلوقة. إذن أهل السنة والجماعة وسط في أفعال الله، بين الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور وليس له إرادة ولا اختيار ولا فعل، وإضافة الأفعال إليه إضافة مجازية، وإلا فهي في الحقيقة أفعال لله، وهم وسط -أعني أهل السنة- بين الجبرية وبين القدرية النفاة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعله، وإنه لا تعلق لمشيئة الله ولا لقدرته بأفعال العبد. إذن هم وسط، فأهل السنة يثبتون القدر، يؤمنون بالقدر بكل مراتبه، ومع ذلك يؤمنون بالشرع، ويثبتون فعل العبد، فخالفوا بذلك الجبرية والقدرية، وكانوا وسطا بين الطائفتين الضالتين المنحرفتين. ثالثا: وهم وسط -أعني الفرقة الناجية أهل السنة- وسط في باب وعيد الله، وسط بين من؟ بين المرجئة، والجهمية، والوعيدية من الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة كلهم وعيدية، والجهمية مرجئة.   (1) - سورة الرعد آية: 16. (2) - سورة الصافات آية: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فأهل السنة في باب الوعيد، المراد بالوعيد ما توعد الله به العصاة من أهل كبائر الذنوب من الموحدين، كما توعد الله القاتل، وآكل مال اليتيم، وآكل الربا، وتوعد ما توعد به من فر من الزحف، وتوعد به -مثلا- القاذف للمحصنات الغافلات المؤمنات، وما أشبه ذلك من نصوص الوعيد. الوعيد هو -يعني- الوعد بالعذاب والعقاب، أهل السنة وسط في نصوص الوعيد بين المرجئة الجهمية، والوعيدية من الخوارج والمعتزلة. فالمرجئة عندهم -يعني نظرتهم إلى الوعيد- نظرة ضعيفة؛ لأن عندهم أن الإيمان هو التصديق فقط، أو المعرفة فقط، قريب من قريب، إذن يقولون قولتهم المشهورة: " إنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة "، انتهي إذن الوعيد، راح، ما في وعيد، ليفعل المسلم، يفعل ما يشاء ولا يخاف، هذه نظرة المرجئة إلى وعيد الله، ينظرون إليه نظرة، يعني نظرة تهوين وتهاون، وغفلة وإعراض، لا يقيمون له وزنا. أما الوعيدية فيقولون: إن الوعيد الذي توعد الله به العصاة هذا حتمي، فمن مات مصرا على كبيرة فلا بد له من دخول النار، وإذ دخل النار فلا بد له من الخلود فيها. من هم الوعيدية؟ الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة هم الوعيدية، فهم يتفقون -الخوارج والمعتزلة يتفقون- على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، يقولون: إنه مخلد في النار. وأهل السنة والجماعة وسط في هذا المقام، يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة من الوعيد، مما توعد الله به في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما توعد به من عصاه وخالف أمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ولكن يقولون: إن هذا الوعيد معلق على المشيئة، فالعاصي إذا مات هو تحت مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه بالنار فمآله إلى الخروج منها؛ للأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار. فيقولون: إن مرتكب الكبيرة مستحق للوعيد، ومتعرض للوعيد، ولا بد أن يعذب الله من شاء من مرتكبي الكبيرة، خلافا للمرجئة الجهمية، ويقولون: إنه تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأدخله النار، عذبه بقدر ذنبه، ثم أخرجه من النار خلافا لمن؟ للخوارج والمعتزلة. إذن يقولون: نصوص الوعيد تُمَر كما جاءت، يعني تمر كما جاءت لا تحرف، وإن كانت كل نصوص الوعيد على الذنوب مقيدة بقيد متفق عليه، وهو نصوص التوبة، فكل من تاب من الذنب تاب الله عليه، ومقيدة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ومقيدة بنصوص خروج الموحدين من النار. ورابعا: أهل السنة والجماعة وسط في أسماء الإيمان والدين بين من؟ بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، هذا التقابل قريب من الذي قبله، إن تراه تماما هو قريب من الذي قبله، التقابل بين الطائفتين المتطرفتين المنحرفتين، التقابل واحد. أهل السنة والجماعة وسط في أسماء الإيمان والدين، أسماء الإيمان والدين هي الأسماء الشرعية التي ترجع إلى الدين وحال الإنسان في دينه: مؤمن، كافر، فاسق، منافق، عاصٍ، هذه هي أسماء الإيمان والدين، فأهل السنة وسط في هذه الأسماء، التي -يعني- تتضمن أحكاما، وتستتبع أحكاما دنيوية وأخروية.   (1) - سورة النساء آية: 48. (2) - سورة النساء آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وسط في هذا الباب، في باب أسماء الإيمان والدين، أو في باب الأسماء والأحكام، بين الحرورية -الحرورية اسم للخوارج نسبة إلى الموضع الذي خرجوا فيه: حروراء، الحرورية نعم الحرورية- والمعتزلة، يعني الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، هذا الانقسام يتعلق أيضا بمرتكب الكبيرة. لكن القضية الأولى الوعيد يتعلق بالآخرة، حكمه في الآخرة، وقد علمنا حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة عند أهل السنة، وعند الخوارج، والمعتزلة، وعند المرجئة، والجهمية. لكن حكمه في الدنيا: الحرورية يقولون: إن مرتكب الكبيرة العاصي بارتكاب ما نُهي عنه هو كافر، يخرج عن الإيمان ويدخل في الكفر، كافر حلال الدم والمال مرتد. والمعتزلة يقولون: لا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا كافر، وهذا أصل من أصولهم، كما أن من أصولهم إنفاذ الوعيد، يعني حتمية الوعيد كما تقدم، أي ما توعد الله به من عصاه. وأما المرجئة فيقولون: أبدا، العاصي مؤمن كامل الإيمان، العاصي مؤمن، الإيمان هو التصديق، فكل من كان عنده التصديق بربوبيته تعالى، وتصديق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مؤمن كامل الإيمان. العاصي مؤمن، انظروا كيف التقابل والتناقض، الخوارج يقولون: كافر، المعتزلة قالوا: هو في منزلة يخرج عن دائرة الإيمان، وليس بمؤمن، المرجئة يقولون: بل هو مؤمن كامل الإيمان. أهل السنة بين ذلك، يقولون: من أظهر الإيمان وأبطن الكفر فهو منافق، من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب وأصر عليها فهو فاسق، وهو مؤمن كما سيأتي في فصل، يعني مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، مؤمن ناقص الإيمان مثلا، فلا يسلبون عنه اسم الإيمان المطلق، لا يسلبون عنه مطلق الاسم، ولا يعطونه اسم الإيمان المطلق، لا يعطونه الاسم المطلق، ولا يسلبونه مطلق الاسم، يقولون مؤمن ناقص الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 إذن صاروا وسطا: المرتكب لكبيرة وهو موحد ولم يأت بناقض، هذا -يقولون-: عاص فاسق ناقص الإيمان، ما يقولون: مؤمن كامل الإيمان، ولا يقولون: كافر، ولا يقولون: إنه في منزلة بين المنزلتين. وبهذا تظهر وسطيتهم، ويظهر تطرف من خالفهم، فالحرورية والمعتزلة في طرف، والمرجئة في طرف، هؤلاء هم المتطرفون حقا، أما أهل السنة فهم عدل خيار وسط، لا إفراط ولا تفريط، أهل عدل في أحكامهم وأقوالهم وأفعالهم. والمسألة الخامسة، وهي الأخيرة: وأهل السنة وسط في أصحاب رسول الله، أصحاب الرسول صاروا -يعني ما يجب لهم- صار قضية، أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - اختلفت فيهم الفرق، ففريق غَلَوا، وفريق جَفَوا، وفريق توسطوا. فأهل السنة والجماعة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الخوارج والرافضة، أو بين الرافضة والخوارج، تعبير واحد. فإن الرافضة يغلون في آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يغلون في علي بن أبي طالب وذريته، يغلون في فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجاوزون فيهما الحد. وأما الخوارج فإنهم يكفِّرون كثيرا من الصحابة، ومنهم علي - رضي الله عنه - فكانوا مع الرافضة على طرفي نقيض. والرافضة هم شر النواصب، فإن النواصب -أو الطائفة الناصبة- هم الذين ينصبون العداء لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخير أهل بيت النبي مطلقا من؟ أهل بيته خيرهم هو علي - رضي الله عنه - وإن كان الرافضة يجمعون مع غلوهم في عليّ وذريته نصب العداوة لخير هذه الأمة بعد نبيها، لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة، ولا يستثنون إلا نفرا قليلا. فهم شر من الخوارج، فقد شاركوا الخوارج في نظير ما ضلت وانحرفت فيه الخوارج من أمر الصحابة وزادوا عليه، زادوا، فالرافضة شر، والخوارج خير منهم بكثير، فالذي يبغض -مثلا- عليا أو يكفره هو أهون ممن يبغض أبا بكر ويكفره، يعني هذا خير من هذا، وإن كان الكل ضالا منحرفا زائغا عن سبيل الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فأهل السنة وسط، يحبون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينزلونهم منازلهم، ولا يبغضون أحدا منهم، ولا يتبرءون من أحد منهم، ولا يذكرونهم إلا بالجميل، ويبغضون من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، هذه يعني قريب من عبارات الإمام الطحاوي في عقيدته. ونحب أصحاب رسول الله، نحن أهل السنة نحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نغلو في أحد منهم، وسط، ينزلونهم منازلهم، فلا غلو كما صنعت الروافض، ولا جفاء كما صنعت الخوارج، فأهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج، والله المستعان. فصل في وجوب الإيمان باستواء الله وعلوه ومعيته على خلقه وأنه لا تنافي بينهما فصل , وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به في كتابه، وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه -سبحانه- فوق سماواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } (1) . وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (2) أنه مختلط بالخلق؛ فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو -سبحانه- فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته.   (1) - سورة الحديد آية: 4. (2) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يُظن أن ظاهر قوله "في السماء" أن السماء تقله، أو تظله. وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (1) {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (3) . هذا فصل خصصه الشيخ -رحمه الله- لتقرير صفتين من صفات الله، تقدم ذكرهما وذِكر أدلتهما من الكتاب ومن السنة، ألا وهما علوه تعالى على خلقه واستواؤه على عرشه، ومعيته لعباده. هاتان الصفتان تقدم ذكر الأدلة على العلو، والأدلة على المعية فيما أورده الشيخ من النصوص القرآنية، وفيما أورده من الأحاديث النبوية، ولكنه خصص لهاتين الصفتين فصلا خاصا؛ لوجود الاضطراب في هذا المقام، وعروض الاشتباه أو كثرة الاشتباه في هذا الأمر. يقول الشيخ -رحمه الله-: "من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه -سبحانه وتعالى- فوق سماواته مستو على عرشه".   (1) - سورة فاطر آية: 41. (2) - سورة الحج آية: 65. (3) - سورة الروم آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وأنه -سبحانه وتعالى- مع عباده كما في آية الحديد، فإن الله تعالى قد جمع في آية الحديد بين الأمرين: بين ذكر العلو والمعية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) استوى: علا وارتفع {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } (2) . فمن الإيمان بالله الإيمان بعلوه تعالى، وفوقيته على خلقه، واستوائه على عرشه، وأنه تعالى مع ذلك هو مع عباده، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، فهذا مما أخبر الله به في كتابه، وأخبر عنه به رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة. إذن هاتان الصفتان ثابتتان بالكتاب والسنة والإجماع، ولا منافاة بين هاتين الصفتين؛ فإنه تعالى مع علوه على خلقه واستوائه على عرشه هو مع عباده، هو مطلع على عباده، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، لا يخفى عليه شيء من حالهم وأمرهم. والمعية التي وصف الله بها نفسه ويجب إثباتها له لا تقتضي اختلاطا بالخلق، لا تقتضي أن يكون الله مختلطا بالخلق وحالّا في الخلق، تعالى الله عن ذلك. يقول الشيخ: "فإن هذا المعنى الباطل لا توجبه اللغة"، المعية لا تقتضي اختلاطا ولا حلولا، لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، فالذين لم يفهموا من معيته تعالى لعباده إلا أنه مختلط بهم حالٌّ فيهم حتى يقولون: إنه في كل مكان. هؤلاء خارجون عن موجب اللغة، مخالفون لما أجمع عليه سلف الأمة، ومخالفون لما تقتضيه الفطرة السوية.   (1) - سورة الحديد آية: 4. (2) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والمعية -معية المخلوق للمخلوق- نعم، هل تقتضي اختلاطا، حلولا؟ لا، المثال: هذا القمر، فوق حيث شاء -سبحانه وتعالى-، بعيد، وهو يقال: إنه معنا مع المسافر وغير المسافر وهو في مكانه. إذن معية المخلوق للمخلوق لا تقتضي اختلاطا، فكيف بمعية الخالق، كيف بمعية الخلق للمخلوق؟! . يجب أن يعلم أن ما وصف الله به نفسه من علوه ومعيته فوقيته ومعيته أن كل ذلك حق على عبده حقيقته. حقيقة الله مستو على عرشه الحقيقة عالم على خلقه الحقيقة وهو معنا حقيقة، وليس في قولنا: هو إنه معنا حقيقة ما يتضمن الحلول، هو معنا حقيقة على ما ينوط يليق به ويناسبه ويختص به فهو حق على حقيقته، يقول الشيخ: لا يحتاج إلى تحرير تحريف وصرف له عن ظاهره أبدا. الله معنا نعم. هو معنا نفسه معنا هو فوق سماواته مستو على عرشه، وهو سبحانه معنا يرانا يسمعنا، علمه محيط بنا {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} (1) .   (1) - سورة المجادلة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 يقول: ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، يجب أن تصان هذه المعاني، يصان ما يثبت لله من الفوقية -من كونه في السماء- يصان عن الظنون الكاذبة، وكذلك المعية تصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن معنى أنه الله في السماء يعني أنه، هكذا في السماء، تقله: تحمله، والسماء الأخرى تظله -تعالى الله-، فهذا ظن كاذب وسوء ظن بالله وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن معنى في السماء يعلو في العلو فوق جميع مخلوقاته، فوق جميع المخلوقات، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء نعم. هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وكذلك المعية يجب أن تصان عن الظن الكاذب كظن الحلولية الذين يقولون: معنى أنه معنا أنه في كل مكان حال في الأشياء في داخل الغرف في داخل الأمكنة المستخبثة، حال في كل شيء يعني: أشبه ما يكون بالهواء الذي يملأ الفراغ -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاهلون والمفترون علوا كبيرا، سبحانه وتعالى، سبحانه، سبحانه وتعالى، سبحان الله عما يصفون-. يشير الشيخ إلى الدليل الدال على امتناع أن يحيط به شيء من مخلوقاته، فإنه سبحانه العليم وهو العظيم الذي لا أعظم منه، فالمخلوقات كلها في كونه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) وهو العظيم الذي {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (2) وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (3) {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (4) .   (1) - سورة الزمر آية: 67. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة فاطر آية: 41. (4) - سورة الروم آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فهذه العوالم كلها في قبضته -تعالى- يدبرها كيفما يشاء، {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (1) والسماوات والأرض قائمة بأمره، ويوم القيامة إذا شاء قبض الأرض وطوى السماوات بيمينه قال الله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } (2) وفي الحقيقة أنه ينبغي حفظ هذا الفصل؛ لأن فيه عبارات جيدة تتضمن بيان ما يجب انتهاجه والثبات عليه من إثبات هاتين الصفتين العلو والمعية، الإيمان بذلك هو من الإيمان بالله ومن الإيمان بكتابه ومن الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بعلوه واستوائه ومعيته هو من الإيمان بالله وكتبه ورسله. فصل في وجوب الإيمان بقرب الله من خلقه وأنه لا ينافي علوه وفوقيته فصل: وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته وأنه -سبحانه- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه هذا الفصل متمم للذي قبله؛ ولهذا يقول: فقد دخل في ذلك، يعني: فيما تقدم من الإيمان بعلوه ومعيته الإيمان بأنه قريب مجيب قال الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (5) .   (1) - سورة فاطر آية: 41. (2) - سورة الزمر آية: 67. (3) - سورة البقرة آية: 186. (4) - سورة الشورى آية: 11. (5) - سورة البقرة آية: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فالله -تعالى- موصوف بالعلو والفوقية كما أنه موصوف بالقرب وبالمعية، وكل من هذه المعاني ثابت بالنصوص من الكتاب والسنة ولا منافاة بين علوه وفوقيته وقربه ومعيته، لا منافاة كما ترون، هو -سبحانه وتعالى- فوق جميع المخلوقات مستو على عرشه، وفي نفس الوقت هو مع عباده وهو قريب من الداعين والعابدين {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) إذن فالله -تعالى- موصوف بهذا كله ولا منافاة بين هذه الصفات فهو -تعالى- علي في دنوه مع أنه قريب هو علي، وقريب في علوه مع أنه علي هو قريب، لا منافاة بين علوه وقربه، علوه ومعيته، لا منافاة بين علوه وفوقيته وقربه ومعيته، بل هو -سبحانه وتعالى- عال في دنوه قريب في علوه. في هذا الفصل. كمل. أضاف إليه مسألة القرب والكلام فيها مع العلو يعني يشبه الكلام في المعية مع العلو والله المستعان. طيب إذن اقرأ الفصل الثالث بعد موضوع الكلام. فصل في وجوب الإيمان برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية فصل: وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه -سبحانه- وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله -تعالى-.   (1) - سورة البقرة آية: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وهذا فصل عقده الشيخ لمسألة الرؤية لمزيد من العناية بها؛ لأن مسألة الرؤية مما اتسع فيها الكلام وعظم فيها الاشتباه والاضطراب فيقول الشيخ: إنه قد دخل فيما تقدم في مسألة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، دخل في هذه الأصول الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم، ليست رؤية قلبية كما يقول المحرفون لا بل بالأبصار بعيونهم عيانا بأبصارهم، والدليل على هذا نصوص الكتاب والسنة المتواترة وإجماع سلف الأمة، فهي قضية تضافرت عليها الأدلة يرونه -سبحانه وتعالى-، يقول: "يرونه في عرصات القيامة" يعني في مواقف القيامة وساحات القيامة، في ساحات القيامة ومواقفها، ويرونه كذلك بعد دخولهم الجنة كما يشاء، يرونه كما يشاء كيفية وزمانا ومكانا يرونه كما يشاء، لا نحدد إلا في حدود ما صرحت به النصوص الثابتة من نصوص الكتاب أو من السنة الصحيحة. فالمقصود أن الشيخ عقد لبعض هذه المسائل التي سبق ذكر أدلتها، عقد لها فصولا؛ لأنها مسائل متميزة بالكلام فيها بين فرق الأمة، وبين أهل السنة ومخالفيهم كما في الفصل الذي تجاوزناه، وسنعود إليه -إن شاء الله- وهو ما يتعلق بعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن وفي كلام الله ومنه القرآن. بسم الله الرحمن الرحيم أسئلة س: السؤال الأول: يقول فضيلة الشيخ -حفظه الله-: من المعلوم أن أهل السنة والجماعة يوقفون صفات الرب -سبحانه وتعالى- بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل وورد في دعاء دخول المسجد " اللهم افتح لي أبواب رحمتك " فما المراد من " افتح لي أبواب رحمتك " الواردة في الحديث وهل هي صفة الرحمة لله أم لا وجزاكم الله خيرا؟ . ج: الله أعلم أقول في هذه حسبما أفهم من السياق والله أعلم بالصواب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 " افتح لي أبواب رحمتك " إما أن تكون الرحمة الجنة، الجنة وللجنة أبواب، وقد ورد أن من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، مثلا وافتح لي أبواب رحمتك، وقد تكون أعم من ذلك أعم من الجنة، قد يكون المراد أبواب رحمتك، يعني: الأسباب والطرق الموصلة إلى رحمتك من الجنة وغيرها أو الأسباب التي أنال بها رحمتك فأكون مرحوما برحمته -سبحانه وتعالى-. فالرحمة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الرحمة المخلوقة أو الرحمة التي هي صفته يعني تحتمل المعنيين، ولا يخفى أن الرحمة المخلوقة هي أثر لرحمته التي هي صفته -سبحانه وتعالى- والله أعلم. س: وهذا يقول: ما حكم الروافض الموجودين بيننا الآن وكيف نعاملهم وقد التقينا بهم في مدارسنا وأعمالنا؟. إن أظهروا رفضهم وجهروا به فيجب أن ينكر عليهم وأن يؤخذ على أيديهم ويرفع أمرهم إلى الجهات التي تملك إيقافهم، وإن تستروا وستروا خبثهم ونفاقهم فيعاملون بحسب الظاهر منهم، ولكن من غير أن يكون هناك اندماج وعقد صداقات وانبساط معهم بل يعاملون في حدود الحاجة كمثل من تعامله في التجارة في البيع والشراء، كذلك لو كنت بليت بمخالطتهم في شيء من الأعمال فتعاملهم في حدودهم، يعني: ما يقتضيه من العمل، ويظهر أنه لا مانع من السلام والرد عليهم؛ لأن المنافقين كانوا في حياة الرسول يعيشون بين الصحابة -فنسأل الله السلامة والعافية-. س: ما موقف أهل السنة من الأشاعرة؟ وما موقف الطالب إذا كان يدرسه رجل أشعري؟ . أهل السنة أهل عدل يعاملون الناس بالعدل عملا بقوله -تعالى-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (1) نعم. هم ينكرون على الأشاعرة ما عندهم من المخالفات ويعرفون لهم ما عندهم من الحسن. س: والطالب؟ ؟ .   (1) - سورة الأنعام آية: 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 والطالب إذا وجدت سنيا من أهل السنة والجماعة فلا تجادل عليه الأشعري، وإذا لم تجد فلا بأس -إن شاء الله- من الاستفادة منهم في العلوم التي لا علاقة لها بالعقيدة كمدرس رياضيات، علوم العلوم التي لا علاقة لها بالعقيدة التي يخشى مثلا أن يكون له أثر فيها. س: وهذا يقول: ما حقيقة الزيدية؟ وهل هم كالمعتزلة؟. ج الزيدية هم شيعة، فالأصل فيهم أنهم شيعة ويعتبرونهم خير طوائف الشيعة، ويسمون المفضلة؛ لأنهم يفضلون علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، لكن ليسوا كالإمامية السبابة الخبثاء الذين يسبون أبا بكر وعمر ويطعنون فيهما وفي دينهما وفي خلافتهما، وقد دخلت على كثير من الزيدية أصول المعتزلة، هذا الذي ذكره أهل العلم. س: هل يكفر صاحب الكبيرة الذي يعرض كبيرته على أصدقائه مثلا متفاخرا بذلك ويصف تفاصيل فعله؟ ؟ . ج والله يخشى عليه من الكفر؛ لأن هذا يشعر بارتياح ورضا واستباحة هذا خطأ يبدو إذا كان الإنسان يتبجح بممارسة الزنا والفجور ويكون مبسوطا ولا يكترث هذا ينبئ عن خبث، الافتخار، الفخر يدل على الرضا على المحبة، المؤمن وإن زنا وإن سرق فهو في قرارة نفسه لا، لا يفخر بهذا ما يفخر لا بد أن يكون في نفسه شيء من وخز، ويؤمن بأن هذا محرم من يؤمن بأنه محرم يفتخر؟! -نعوذ بالله من الاغترار، نعوذ بالله-. س: إذا كان هذا هو معتقد المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة فهل معنى ذلك أنهم لا يرتكبون الكبائر أبدا؟ . ج أهل الطوائف يتناقضون قد يقولون أقوالا توجب كفرهم فيكونون كفارا على مذهبهم ما يلزم أنهم يرتكبون، قد يرتكبون بل يرتكبون هم كغيرهم مثلا يرتكبون الكبائر، فإما أن يناقضوا أنفسهم أو يقروا بالكفر على أنفسهم. س: وهذا أرسل أحد الإخوة يقول: سبق أن سألتكم -أحسن الله إليكم- عن رجل يؤخر العشاء إلى آخر الليل، وأجبتم بما أجبتم به، وقد لوحظ عليه منذ أجبتم محافظته على صلاته مع الجماعة جزاكم الله خيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ج الحمد لله نسأل الله أن يهدينا جميعا إلى الصواب وأن يلهمنا رشدنا بمنه وكرمه -بارك الله فيك وفيه وثبتنا وإياه على الهدى-. س: يقول: ذكرت أن الجهمية تعم المعتزلة عند الكلام عن الوسطية في صفات الله، ثم ذكرت في باب وعيد الله أن الجهمية مرجئة، وأن المعتزلة وعيدية، أرجو إزالة اللبس. ج: الجهمية إذا أطلقت في باب الصفة هذا الجواب ـ الجهمية في باب الصفات إذا قابلنا بين الجهمية المعطلة والممثلة المشبهة فإنهم يدخلون، يعني: في المثال الأول، وأظن أن هذا الجواب يرفع اللبس. س: وهذا يقول: قال الله -تعالى- {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (1) قال ابن عباس كما ذكر عنه سعيد بن المسيب: نزلت في آخر ما نزل من القرآن لم ينسخها شيء فما معنى {خَالِدًا فِيهَا} (2) ؟ .   (1) - سورة النساء آية: 93. (2) - سورة النساء آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ج على كل حال الذي عليه أهل السنة والجماعة أن القاتل حكمه حكم سائر مرتكبي الكبائر وأن توبته مقبولة إذا تاب، تاب الله عليه، وإن بقي عليه ما يبقى من حقوق للعباد، فإن التوبة لا تسقط حقوق العباد. وإن نزلت هذه الآية متأخرة عن آية الفرقان فلا يمكن أن تكون مقيدة بها كيف؟ ونصوص التوبة تعم الكفار، الكافر إذا تاب، تاب الله عليه فكيف بالقاتل والرسول عليه -الصلاة والسلام- يقول: كلمة جامعة " التوبة تجب ما كان قبلها " فقول ابن عباس هذا لا يصح أن يكون معارضا، لا تُعارض به النصوص الكثيرة الدالة على التوبة وعلى خروج أهل التوحيد من النار، ولا يقول ابن عباس: إن مرتكب الكبيرة إنه مخلد في النار. لا، يقول: إنه مستحق لهذا الوعيد ومستحق للوعيد، نعم.، ولعل مما يوجه هذا أن القاتل تتعلق به كما يقال: إن القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله؛ لأنه عصى ربه، وحق لأولياء المقتول، وهذا يستوفى إما بالدية أو بالقصاص وإما أن يسقط بالعفو، والحق الثالث حق للمقتول وهذا لا بد من استيفائه يوم القيامة. والخلود هنا مؤول عند أهل السنة بالمكث الطويل فهذه الآية مقيدة بالاتفاق بآيات من نصوص التوبة ومقيدة كذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) والله أعلم. س: وهذا يقول: هل هذه العبارة صحيحة؟ وهي: إن الذوات القائمة بنفسها إذا أضيفت إلى الله فهي إضافة تكريم وتشريف، والذوات الغير قائمة بنفسها إذا أضيفت إلى الله فهي صفة لله.   (1) - سورة النساء آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ج: هذه العبارة واضح من السياق الذي قاله يعني بعض أهل العلم كابن القيم، فإنه يقول: ما يضاف إلى الله نوعان يعني: من أعيان قائمة بنفسها، فإضافتها إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه، وقد تقتضي تشريفا كالناقة والبيت وما إلى ذلك، وإن كانت أمورا معنوية كانت إضافتها إلى الله من إضافة الصفة للموصوف، هذا ما أذكره في هذه المعاني، والأمر أوضح عندي من هذا الكلام، فإضافة الوجه واليد إلى الله والعينين وإضافة العلم إليه وإضافة السمع والبصر كله من إضافة الصفة إلى الموصوف، فالعقلاء يدركون هذا بدون بعض العبارات التي تحتاج إلى تفسير، نعم. س: وهذا يقول: نعلم جميعا أن الله - عز وجل - خلق السماوات والأرض في ستة أيام، السؤال أليست تعتبر هذه الأيام الستة ستة آلاف سنة وذلك مصداقا لقوله -تعالى- عن اليوم: إنه كـ {أَلْفَ سَنَةٍ} (1) . ج هذا فيه خلاف بينهم فمن أهل العلم من يرى أنه كأيامنا، ومنهم من يرى أن اليوم مقداره ألف سنة هذا رأي لبعض السلف وبعض الأئمة، وإن القول بأنها أيام كهذه الأيام لعله أظهر وأقرب؛ لأنها مطلقة، والرسول سماها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء إلى أن ذكر الجمعة عدها، فلا يمكن الجزم بأنها بمقدار ألف سنة إلا ببرهان والله أعلم. س: وهذا يقول: كيف يكون الولاء والبراء للمسلم من هذه الفرق الضالة؟ فهل يتولاهم على أنهم ينتسبون إلى الإسلام أم يتبرأ منهم؟ .   (1) - سورة البقرة آية: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ج: عند أهل السنة أن الناس ثلاثة أصناف: عدو لله فتجب عداوته ومعاداته والبراءة منه. ومؤمن تقي صالح، تجب موالاته ومحبته مطلقا. وثالث مخلط كالمسلم العاصي والمسلم المبتدع بدعة لم يخرج بها عن الإسلام بل باق، وهو مسلم لم يخرج بها عن الإسلام، فهذا يحب ويوالى بقدر ما معه ويبغض ويعادى بقدر ما معه من العصيان، والإسلام يجمعهم أخوة الإيمان لا تزول بالمعصية أخوة الإيمان باقية. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) فكل من لم يثبت أنه مرتد خارج عن ملة الإسلام فهو داخل في عموم أخوة الإسلام. الأخوة ثابتة بين المسلمين بين فرق الأمة إلا من حكم بكفره -والعياذ بالله نسأل الله السلامة-. س: هذا يقول: نحن شباب أتينا لطلب العلم في هذه المنطقة المباركة ولدينا بعض الأسئلة التي نرجو أن تمن علينا بالإجابة عليها منها: ما هي دروسكم خارج هذه الدورة؟ وأين تقام؟ . ج: هذا الوقت ليس مكان للإجابة على مثل هذه الأسئلة. س: وسؤال هنا يقول: رجاء أخير وهو رأيكم لو واصلتم في شرح عمدة الأحكام ودروس العقيدة بعد نهاية الدورة؟ . ج: يمكن التفاهم على هذا فيما بعد وإن تم شيء ففي غير هذا المسجد الذي صلينا فيه. س: السؤال الأخير رجل عليه كفارة يمين فهل يجوز أن يطعم فقيرا واحدا أو لا بد من عشرة مساكين؟ . ج: لا بد من عشرة مساكين بنص القرآن إطعام عشرة {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ} (2) صريح في القرآن فلا ينبغي للإنسان أن يحيد عن ظاهر القرآن ويتلمس المخارج أن يطعم مسكينا واحدا بل عليه أن يطعم عشرة ولا يجزئه إلا أن يطعم عشرة، لا من أطعم مسكينا بنصيب عشرة لم يجزئه إلا عن واحد. س: ما حكم من قال: إن الله في كل مكان بعد ما يبين له الدليل من الكتاب والسنة وأصر على ذلك؟ . ج: ملحد ضال والعياذ بالله.   (1) - سورة الحجرات آية: 10. (2) - سورة المائدة آية: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 س: وهذا يقول: ما الضابط في الخروق التي في الجوارب وهل تنطبق أحكام المسح على الخفين على الشرابات المعروفة الآن؟ . ج: عندي نعم. هذا حكم المسح على الخفين وعلى الجوارب ومنها الشراب، هذا جاء عن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- قال الإمام أحمد: جاء عن تسعة من الصحابة المسح على الجوربين، والجوارب هي ما يلبس على القدمين مما ينسج من قطن أو صوف أو غيرهما، ولكني أنصح بأن يكون الشراب الذي يمسح عليه صفيقا حتى يكون أشبه بالخف وليكون أتم سترا، وأما الشراب الرقيق فلا يعجبني المسح عليه ولكني لا أقول: إنه لا يجزئ قطعا الله أعلم. وهذا أما إذا كان رقيقا يصف البشرة فإنه حينئذ كأن وجوده كعدمه، ولأنه لا يتحقق به ستر القدم، ويلزم لو قلنا هذا أن يأتي إنسان بنوع مثلا من هذه الأنواع من الصنادل التي تكون بها سيور متعارضة على القدم. س: وردت ثلاثة أسئلة بهذا اللفظ ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (1) . ج: هذا في القرآن وليس في الحديث. {* وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) } (2) {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (3) . {عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (4) ما فيها أكثر من ذلك ماذا تريد؟ ما معنى العرش على الماء فوق الماء وبس، لكن تقول: والله يعني غاطس يعني لا تقول: رايح منه مسافة، كم متر، واللي فوق الماء وبدون نقصان، كل ذلك ما نستفيد من العلم به لا نقول: به شيء نمسك نقف مع النصوص {عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (5) فوق الماء.   (1) - سورة هود آية: 7. (2) - سورة هود آية: 6. (3) - سورة هود آية: 7. (4) - سورة هود آية: 7. (5) - سورة هود آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 س: السؤال الأخير هل يجوز أن يفعل المأموم في الصلاة سنة لم يفعلها الإمام مثل التورك أو جلسة الاستراحة نظرا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما جعل الإمام ليؤتم به "؟ وجزاكم الله خيرا. ج: أقول نعم.، المأموم يفعل السنن وإن لم يفعلها الإمام، وليست هذه مما يشرع للمأموم متابعة الإمام فيها فعلا وتركا؛ لأن الذي يلزم الاقتداء به فيه هي الأفعال المنصوصة، قيام، قعود، ركوع، سجود، التسبيح مثلا أمر به، التحميد بالنسبة للإمام، التكبير فقط، أما الأمور الأخرى مثل أقوال الصلاة، الأقوال أنت ما تدري عنه يسبح تسبح قبله التشهد، تسبح بعد التشهد تسبقه في التشهد يمكن تسبقه في التشهد هو يترسل وأنت تسرع؛ فلا علاقة بينك وبين الإمام بالنسبة للأقوال ما عدا التكبيرات، ولا علاقة بينك وبينه في الأفعال ما عدا المذكورات قال -عليه الصلاة والسلام-: " إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا ركع فاركعوا ولا ترفعوا حتى يرفع، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجدوا وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون " أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-. فالإمام إذا لم يرفع يديه أو إذا لم يتورك مالك وبه، والله أعلم يعني إلا إذا كان الإمام مستعجلا فربما تركت جلسة الاستراحة عن إتمام الفاتحة، فلا تجلس قم بعد إمامك واقرأ أما إذا كان الإمام مطمئنا متأنيا فمن الممكن أن تأتي بجلسة الاستراحة فإنها جلسة خفيفة لا تفوت شيئا. س: هذا يقول: ما القول الصحيح في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في الدنيا؟ أرجو التفصيل؟. ج: الله أعلم، أرجح الأقوال أنه لم يره بعينه لحديث أبي ذر: " هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا " أو في اللفظ الآخر " نور أنى أراه " فهذا هو المرجح، والله أعلم أنه لم يره بعيني رأسه، يعني: لم يره الرؤية البصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 س: هناك من يقول: إن الصوت الذي يخرج من القارئ مخلوق؛ لأنه عمل، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } (1) فهل هذا القول صحيح؟. صوت القارئ مخلوق من الذي قال: إنه ليس بمخلوق إلا جاهل جهلا مطبقا، الصوت الذي تسمعه صوت القارئ، والكلام المقروء هو كلام الباري -سبحانه وتعالى- نعم. صوته وأدواته كلها مخلوقة لا إشكال فيها فليس هناك مجال لاشتباه وأنا أشرت إلى أن كلام الله إنما يسمعه الناس بعضهم من بعض حتى يسمع كلام الله، فالمسموع؛ الكلام المسموع هو كلام الله، والصوت المسموع هو صوت القارئ، لكن جبريل سمع كلام الله من الله. س: هل من قال: إن القرآن مخلوق كافر كفر مخرج من الملة؟ . ج: نعم. هذا معنى الكلام السابق. س: وهذا يقول: أحسن الله إليك كيف نتعامل مع الإباضي سواء العالم منهم أو العامي؟ . ج: كن داعية، تعامل معهم بالدعوة، وجادلهم بالتي هي أحسن يعني من تطمع في استجابته ومن ظهر منه التعصب فأعرض عنه، واحذر من تلبيسهم وتضليلهم، فحاول أن تختار إنسانا يمكن أن يؤثر ولا يتأثر -بتوفيق من الله- وآخر لا يخشى عليه، ومن كان منهم متسترا ببدعه فإنه يعامل بنحو معاملته يعني المتسترين على بدعهم وظنونهم، ومن كان يجهر بأصوله وبدعه فيجب أن يهجر يعني: حذرا من سلبه، أن يهجر هجر المتاركة والمباعدة؛ لأنه حينئذ يكون داعية إلى هذه البدع -نسأل الله السلامة والعافية-. نعم.. س: وهذا يقول: من نذر ألا يتكلم بالكذب، ثم تكلم بالكذب، ثم نذر مرة أخرى ولم يوف بهما فهل تكون الكفارة عن نذر أم نذرين؟ .   (1) - سورة الصافات آية: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ج: هذا يحتاج إلى أن يشرح كيف نذر؟ هل نذر شيئا؟ إن كان قال: لله علي أن أصوم كذا إن كذبت أو أصلي كذا أو أتصدق بكذا إن كذبت، ثم كذب فعليه كفارة يمين، وإن كان اعتبر يعني ترك الكذب نذرا عليه لله على ألا أكذب فهذا نذر لا معنى له؛ لأن الكذب حرام عليه، فالله قد فرض عليه ألا يكذب، فلا أرى أن يكون عليه شيء إلا أن يتوب، يتوب إلى الله من الكذب حتى ولو لم يكن قد نذر، يعني: هل تحريم الكذب عليه بسبب نذره؟ يعني: لما نذر حرم عليه الكذب، الكذب حرام حتى قبل أن ينذر، فإذا نذر يعني تحصيل حاصل، فإذا كذب فقد عصى فعليه أن يتوب إلى الله من كذبه ولا شيء عليه، عليه التوبة كلما كذب عليه أن يتوب، أن يتوب توبة نصوحا. س: وهذا يقول: نرى - مع الأسف - إذا ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلوا عليه وإذا ذكر الله -سبحانه وتعالى- لم يسبحوه ولم يهللوه. ج: الأمر في هذا يصعب. س: وهذا يقول: هل الإسبال خاص بالثوب أم يدخل في ذلك البنطلون وغيره؟ . ج: الثوب كل ما ينزل عن الكعبين سواء كان ثوب أو سروال أو بنطلون لعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: " ما أسفل من الكعبين فهو في النار " " من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله له " " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم وذكر منهم المسبل والمنان ". س: يقول: هل يقال: صلى الله عليك وسلم لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد انتشر هذا بين الشباب في هذه الأيام؟ . ج: وما ينبغي التوسع في هذا حتى يصير شعار الرسول، ورد أنه إذا جاءه قوم بصدقة قد يقول: لبعضهم صلى الله عليك أو اللهم صل، اللهم صل على بني فلان أو على آل أبي فلان كما قال: لأبي أوفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 إن هذا الفصل من أعظم فصول هذه العقيدة أهمية؛ لأنه يتعلق بقضية كبرى ألا وهي مسألة كلام الله التي اضطرب فيها الناس، واختلف فيها أهل الضلال وهدى الله إلى الحق فيها أهل السنة والجماعة، إن هذه المسألة هي التي نشأت عنها الفتنة الكبرى في خلافة بني العباس، في خلافة المأمون، فتنة القول بخلق القرآن، والمحنة بذلك حتى حُمل الناس على هذه البدعة؛ أي: القول بخلق القرآن حُملوا على ذلك بالقوة، وامتحن العلماء وعلى رأسهم إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله يقول الشيخ -رحمه الله-: فصل: "ومن الإيمان بالله وكتبه"، من الإيمان بالله ومن الإيمان بكتب الله الإيمان بأن القرآن كلام الله، القرآن الكتاب المبين، القرآن الحكيم، والقرآن العظيم، هذا القرآن هو كلام الله؛ كلامه حقيقة تكلم به -سبحانه-، تكلم به حقيقة وسمعه منه جبريل وبلغه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) } (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } (3) كلام الله حقيقة، وهذا هو المعقول؛ إن كل عاقل إذا سمع إضافة الكلام إلى متكلم عقل أنه كلامه، هذا كلام فلان.   (1) - سورة الشعراء آية: 192. (2) - سورة الشعراء آية: 193. (3) - سورة الشعراء آية: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فالقرآن العظيم وهو المكتوب في المصاحف المبدوء بالفاتحة المختوم بسورة الناس؛ فالقرآن من الفاتحة إلى الناس مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (1) يقول الشيخ: "من الإيمان بالله وكتبه، الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل، منزل من الله" {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} (2) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } (3) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (4) منزل غير مخلوق. هذه هي عقيدة أهل السنة في القرآن منزل غير مخلوق، ليس بمخلوق بل هو صفة من صفات الله. فالكلام صفة الله والقرآن من كلام، الله تكلم به -سبحانه- فليس هو بمخلوق، منزل غير مخلوق خلافا للجهمية والمعتزلة ومن شابههم من القائلين بأن هذا القرآن مخلوق، الله لا يتكلم إذن فالقرآن ليس كلامه حقيقة، وإن أضيف إليه فهو من إضافة المخلوق إلى خالقه، هم يقولون: القرآن كلام الله لكنه ليس على معنى أنه تكلم به؛ بل على معنى أنه خلقه، وقد صرح الله -سبحانه وتعالى- بإضافة القرآن إليه وأنه كلامه {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (5) . {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} (6) .   (1) - سورة العنكبوت آية: 49. (2) - سورة الزمر آية: 1. (3) - سورة الشعراء آية: 193. (4) - سورة النحل آية: 102. (5) - سورة التوبة آية: 6. (6) - سورة الفتح آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 يقول المعطلة من الجهمية والمعتزلة: يقولون: هذا القرآن مخلوق خلقه الله إما في الهواء أو أي كان كيفما كان ويقر المؤمنون بأنه كلام الله، حقيقة منزل غير مخلوق منه بدا أي: ظهر، القرآن وهو من الله سُمع من الله كلاما تكلم به -سبحانه- كيف شاء. فالله يتكلم بالوحي كيف شاء ويتلقاه عنه من شاء من ملائكته وجبريل هو الموكل بالوحي كما في آيات العديدة، آيات كثيرة منها: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) } (1) هو الروح الأمين بل قال -سبحانه-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (2) {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) } (3) {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) } (4) منه بدا وإليه يعود: يعود في آخر الزمان يرفع. يرفع من المصاحف والصدور كما جاء بذلك كثير من الآثار الدالة على أن القرآن يرفع،؛ لأنه قرب قيام الساعة لا يبقى في الأرض أحد. لا يبقى فيها من يقول: الله الله. يقبض المؤمنون فلا يبقى في الأرض من يؤمن بالله، فالقرآن يرفع، قبيل ذلك يرفع القرآن، وهذا معنى قول أهل السنة: وإليه يعود، هذه هي العبارة المعبرة عن مذهب أهل السنة والجماعة "أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود".   (1) - سورة الشعراء آية: 193. (2) - سورة الحاقة آية: 40. (3) - سورة التكوير آية: 20. (4) - سورة التكوير آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إذن القرآن هو كلام الله حقيقة لا مجازا، حقيقة، وأما الذين ينفون الكلام عن الله مطلقا يقولون: إنه ليس كلام الله إضافته إليه إضافة من قبيل إضافة المخلوق إلى خالقه كما تقدم. يقول الشيخ: "ولا يجوز أن يقال عن القرآن: إنه عبارة أو حكاية عن كلام الله". هذا يشير إلى مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة يقولون: إن كلام الله معنى واحد نفسي ليس بحرف ولا صوت، إنه كلام معنوي في النفس، كلام له معنى نفسي واحد قديم قائم بالرب، وأما ما يسمعه الملائكة أو يسمعه الأنبياء أو هذا القرآن أو غيره من الكتب، هذه الألفاظ عبارة أو حكاية قد يعبرون بهذا أو ذاك، عبارة تعبير عن كلام الله ليس القرآن كلام الله حقيقة، بل هو مجاز؛ لأنه عبارة تعبير عن ذلك المعنى -تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا- إنهم بذلك يشبهون الله بالأخرس الذي الذي تكون في نفسه المعاني ويعبر عنها من يفهم إشارتها، يعبر عنها فما يتكلم به المعبر هو كلامه يعبر به عن المعنى الذي فهمه من ذلك الأخرس -أعوذ بالله-. ولهذا أشار الشيخ إلى بطلان قول هؤلاء بقوله ولا يجوز أن يقال: إن هذا القرآن حكاية عن كلام الله أو عبارة لا بل هو كلام الله حقيقة، والكلام إنما يُضاف إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، إنما يُضاف للكلام ويقال: هذا كلام فلان أو كلام من يُضاف إليه، إنما يُضاف الكلام إلى من قاله مبتدئا للكلام لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فلا يقال: إن القرآن كلام محمد، هذا قول الكفار {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } (1) . لا يقال: إنه كلام محمد أو كلام بشر أو إنه كلام جبريل؛ لأن الكلام، وإن كان جبريل قد بلغه ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه، وقد أضيف إليهما القرآن بلفظ القول" إنه" أي" القرآن "لقول رسول".   (1) - سورة المدثر آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 كلمة رسول تنبئ عن أن هذا القول، أن إضافة القول للرسول إضافة ابتداء إضافة تبليغ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} (1) وقد أضيف إلى جبريل كما في آية التكوير، وأضيف إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الرسول البشري في سورة الحاقة {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) } (2) {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) } (3) {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (4) {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) } (5) . وهذا يمنع من أن يقال: إنه قول جبريل ابتداء؛ ابتدأه جبريل أو أنه ابتدأه محمد؛ لأنه قد أضيف إليهما، فلا يجوز أن يكون كل منهما ابتدأه، كلا بل كل منهما بلغه، فإضافة القرآن إلى جبريل الرسول من الملائكة أو إلى محمد وهو الرسول من البشر إضافة تبليغ كما ينبئ عن ذلك لفظ رسول {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} (6) هذا قول رسول إذن الكلام ليس كلامه، بل كلام مرسله نعم.   (1) - سورة الحاقة آية: 40. (2) - سورة الحاقة آية: 38. (3) - سورة الحاقة آية: 39. (4) - سورة الحاقة آية: 40. (5) - سورة الحاقة آية: 41. (6) - سورة الحاقة آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ولهذا جاء التنصيص على أنه كلام الله، وقد أجمع أهل السنة على ذلك، أجمعوا على أن القرآن كلام الله؛ لأن من ينفي أن يكون القرآن كلام الله حقيقة وأنه مخلوق إنما يقول ذلك بناء على أصله الفاسد وهو أن الله لا يتكلم -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-، وتقدم أن نفي الكلام عن الله تنقص لرب العالمين، وسبق التذكير بأن الله بين لبني إسرائيل بطلان ألوهية العجل بأنه لا يتكلم {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) } (1) ويختم الشيخ هذا الفصل بقوله: "فالقرآن هو كلام الله حروفه ومعانيه" ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف. الجهمية والمعتزلة نفاة الكلام مطلقا يقولون: القرآن ليس كلام الله حروفه ومعانيه ليست كلاما لله، بل الكل مخلوق، وأما الأشاعرة يقولون: المعنى كلام الله، أما الحروف فهي معبر بها عن المعاني، عن تلك المعاني، والحق أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، حروفه ومعانيه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } (2) هذه الآية تكلم الله بها، تكلم بها كيف شاء وتلقاها عنه الرسول الكريم جبريل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (3) {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) } (4) وبلغه للرسول الكريم من البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -.   (1) - سورة الأعراف آية: 148. (2) - سورة الفاتحة آية: 2. (3) - سورة الحاقة آية: 40. (4) - سورة التكوير آية: 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وهكذا، فالقرآن كله من الله حقيقة حروفه ومعانيه، وهكذا سائر الكتب المنزلة هي كلامه -سبحانه وتعالى- يعني: قبل التحريف قد أنزل الله على موسى التوراة، وأنزل الإنجيل، وأنزل، قال الله: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} (1) في كتابه قرن بين الكتب الثلاثة {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) } (3) {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (4) هذا الكتاب. نعم. هذا ما يتعلق بهذا الفصل، وهو فصل مستوف لتقرير المذهب الحق في القرآن، فهذا الفصل ضمنه الشيخ -رحمه الله- تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن المنافية للمذاهب الباطلة. فصل في ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت فيؤمن بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه، فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل: ما ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} (5) فيقول: المؤمن ربي الله والإسلام ديني ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي.   (1) - سورة آل عمران آية: 3. (2) - سورة البقرة آية: 255. (3) - سورة آل عمران آية: 3. (4) - سورة آل عمران آية: 4. (5) - سورة إبراهيم آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضرب بمرزبَة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتُعاد الأرواح إلى الأجساد وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } (1) وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) } (2) ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن.   (1) - سورة المؤمنون آية: 102-103. (2) - سورة الإسراء آية: 13-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 يقول الشيخ: "فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر" الإيمان باليوم الآخر هو أحد أصول الإيمان الستة التي فسر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان، وهو الأصل الخامس الإيمان باليوم الآخر، أو بتعبير آخر الإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان باليوم الآخر يدخل فيه أشياء كثيرة مما جاءت به النصوص، فيدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، كل ما يكون بعد الموت ويجري للإنسان بعد الموت فإنه داخل في اليوم الآخر والإيمان به من الإيمان باليوم الآخر، إذن الإيمان باليوم الآخر لا يختص بالبعث وما بعده بل يتناول ما يكون قبل ذلك. إن الدور ثلاث: دار الدنيا وهي دار العمل ودار البرزخ والدار الآخرة، ودار البرزخ والدار الآخرة كلاهما دار جزاء، كلاهما دار جزاء، وعلى هذا فيجب الإيمان بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من فتنة القبر وعذاب القبر ونعيم القبر وما يكون بعد ذلك من القيامة الكبرى، فإن القيامة قيامتان: قيامة صغرى: وهي الموت الذي يكون به الانتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ؛ فهذه قيامة صغرى. وأما القيامة الكبرى: فهي التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إنه تعالى يبعث الأموات من قبورهم {وَأَن اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) } (1) {وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَن اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القبور} (2) فتنة القبر وعذاب القبر ونعيمه أحوال من أحوال دار البرزخ، البرزخ يعني الحاجز بين الدنيا وبين القيامة الكبرى أو الدار الآخرة اسمه البرزخ {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } (3) وهو ما بين الموت إلى البعث هذه دار البرزخ، فيجب الإيمان بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة المتواترة من فتنة القبر وعذاب القبر، الفتنة إنها الابتلاء، والمراد بفتنة القبر هو السؤال سؤال منكر ونكير للميت؛ سؤال الملكين للميت، " فإن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فيقعدانه ويسألانه يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد وأما الكافر فيتلجلج ويحار ويجيب بالحيرة يقول: هاه لا أدري فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (4) " كما قال ذلك -سبحانه وتعالى- في كتابه، فهذه الآية فسرت التثبيت في الآخرة فسر بالتثبيت في القبر {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا} (5) {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (6) بالاستقامة على الإسلام حتى الموت {وَفِي الْآَخِرَةِ} (7) بالتثبيت عند فتنة القبر.   (1) - سورة الحج آية: 7. (2) - سورة الحج آية: 7. (3) - سورة المؤمنون آية: 100. (4) - سورة إبراهيم آية: 27. (5) - سورة إبراهيم آية: 27. (6) - سورة البقرة آية: 85. (7) - سورة البقرة آية: 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولقد صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: " وإنه أوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم " تفتنون: يعني تمتحنون بالسؤال مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال: " فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ … " إلى آخره. وبعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، ومن عذاب الشقي أنه إذا تحير في الجواب وقال: سمعت الناس يقولون شيئا فقلت يضرب، يُوكل به من يضربه، يضربه بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق. إذن هذه الأمور تجري في مقربة من الناس، قريبة جدا في القبور والناس قريبون منها ولا يدرون شيئا عنها، فهي من علم الغيب والإيمان بها من الإيمان بالغيب القبور قريبة من الناس والناس يأتون إليها ولا يدرون عما يجري سبحان الله!. أليس قد مر علينا حديث صاحبي القبرين؟ كيف أخبر الرسول بأنهما يعذبان؟ والصحابة معه لا يدرون أخبر عن تعذيبهما وعن سبب تعذيبهما، ولكن من حكمة الله أنه ستر أحوال القبور وأهوالها وعذاب المعذبين فيها، ولقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع " لو سمع الناس ما في القبور -أعوذ بالله نسأل الله العافية- لو كشف لهم لما استطاعوا المُقام ولما طاب لهم عيش ولما تدافنوا لفر الناس وهاموا على وجوههم. القبور فيها أمور وخطوب؛ ولهذا جاء في كثير من النصوص الاستعاذة بالله من عذاب القبر ومن فتنة القبر وانظروا كيف أوصانا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن نستعيذ بالله من هذه الأخطار العظيمة في كل صلاة بعد التشهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من النار يقول: اللهم إني أعوذ بك من النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال " ولو كُشف للناس أحوال القبور لما كان لهم ثواب على الإيمان به؛ لأن الثواب إنما هو على الإيمان بالغيب، فهذا هو الذي فيه الفضل ويتبين فيه المؤمن المصدق من الكافر الجاحد، الإيمان بالغيب {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) } (1) {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (2) ولهذا إذا كُشف للناس، بل إذا عاين الإنسان مصيره انغلق عليه باب التوبة، فالله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويقبل توبة التائبين ما لم ييئسوا من الحياة ويعاينوا العذاب كما أخبر الله عن الهالكين من المكذبين {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) } (3) {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } (4) . إذا فمن أصول أهل السنة الإيمان بعذاب القبر ونعيم القبر وفتنة القبر، وقد أنكر ذلك بعض المبتدعة وأنكر ذلك الملاحدة الزنادقة ويشبهون يقولون: هذه القبور لا نرى فيها شيئا، يعني: إذن هم لا يؤمنون إلا بما تدركه حواسهم وهم الضالون المضلون، كم من الأمور الموجودة قريبة منا ولم ندركها، أليس الإنسان قد وكل الله به ملائكة من حوله يكتبون أعماله ويحفظوه؟ لا يدركهم وهم معه معه الملائكة الموكلون به، بل إن ملائكة الموت أقرب إلى الإنسان من أهله، الملائكة ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب وهم لا يدرون   (1) - سورة البقرة آية: 2. (2) - سورة البقرة آية: 3. (3) - سورة غافر آية: 84. (4) - سورة غافر آية: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) } (1) {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) } (2) {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) } (3) {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } (4) إذن أحوال القبور الإيمان بها من الإيمان بالغيب ولا يصح يعني: أن يكون عند الإنسان أدنى شك لكونه لا يرى شيئا ولا يسمع بهم، وقد يكشف الله لبعض الناس شيئا من أحوال القبور كما تواترت الأخبار يُكشف أحيانا لبعض الناس أشياء إما صوت إما أمور مسموعة أو أمور مرئية، وبعد ذلك يبقى الناس في قبورهم وفي أحوالهم إلى القيامة الكبرى التي دلت عليها ... ، أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فالقيامة البعث بعد الموت، فالإيمان بها من أصول الإيمان ومن أنكر البعث فهو كافر {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} (5) والحديث عن البعث طويل، الحديث عن البعث في القرآن طويل ومستفيض ومتنوع وكثير وواسع.   (1) - سورة الواقعة آية: 82. (2) - سورة الواقعة آية: 83. (3) - سورة الواقعة آية: 84. (4) - سورة الواقعة آية: 85. (5) - سورة التغابن آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يقوم الناس من قبورهم، يقومون هذه ترد تُعاد الأرواح إلى الجسد يُجمع شتات الأبدان، يجمع ما تمزق وتفرق ويُعاد خلقا جديدا {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) } (1) {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) } (2) قال الله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) } (3) الأجزاء المتفرقة والأوصال المتمزقة والعظام النخرة هذه يجمعها ربك وينشئها نشأة أخرى ويعيد الأرواح إلى أبدانها، الأرواح الأرواح نفسها تُرد إلى تلك الأبدان التي أنشأها، التي ينشئها الله نشئا جديدا، تُعاد الأرواح إلى الأبدان، فيقوم الناس من قبورهم تتشقق عنهم قبورهم، تتشقق {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ} (4) . تتشقق الأرض كما تتشقق عن النبات، يدفن النبات في الأرض فتنمو هذه البذور فنتشقق عنها الأرض فتخضر وتخرج الأشجار والثمار والله شبه يعني إحياء الأموات من قبورهم وإخراجهم من قبورهم بإحياء الأرض بعد موتها {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) } (5) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) } (6) . وفي الآية الأخرى {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (7) {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } (8) وهذا المعنى في القرآن كثير.   (1) - سورة ق آية: 2. (2) - سورة ق آية: 3. (3) - سورة ق آية: 4. (4) - سورة ق آية: 44. (5) - سورة الحج آية: 5. (6) - سورة الحج آية: 6. (7) - سورة فصلت آية: 39. (8) - سورة فصلت آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يكونون حفاة عراة غير منتعلين وغير مكتسين غرلا غير مختونين {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (1) يقومون، وتسأل أم المؤمنين عائشة لما أخبر الرسول بذلك " الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال الرسول: يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-. هذه هي أحوال، ذكرتها كشيء أو جملة مما يكون يوم القيامة، من ذلك دنو الشمس، تدنو الشمس من رءوس الخلائق كما صح بذلك الحديث الصحيح فيعرقون على قدر أعمالهم فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه ومنهم من يُلجمه العرق لجاما، تدنو منهم الشمس ولو كانت خِلقتهم وطبيعتهم كطبيعتهم في هذه الحياة لاحترقوا، لكن حياة الآخرة حياة يعني خلقت للبقاء. إذا ردت الأرواح إلى الأبدان فإنها ترد ردا لا انفصال ولا فراق بعده. ومما يكون يوم القيامة نصب الموازين ووزن الأعمال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } (2) .   (1) - سورة الأنبياء آية: 104. (2) - سورة الأنبياء آية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي نصوص من السنة الدالة على وزن الأعمال، وكذلك نشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، والآيات في هذا كثيرة كما ذكر الشيخ واحدة منها وهي قوله -تعالى-: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (1) {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (2) ألزمناه عمله ونصيبه في عنقه ملازم له {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} (3) كتابا حقيقيا كتابا الله أعلم به {كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) } (4) {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) } (5) مفتوحا {اقْرَأْ كِتَابَكَ} (6) كتاب قد أُحصي على الإنسان فيه كل صغير وكبير.   (1) - سورة الإسراء آية: 13. (2) - سورة الإسراء آية: 13. (3) - سورة الإسراء آية: 13. (4) - سورة الإسراء آية: 13. (5) - سورة التكوير آية: 10. (6) - سورة الإسراء آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (1) {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) } (2) فكل هذا مما يجب الإيمان به وهو داخل في الإيمان بالله، من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - به من فتنة القبر وعذاب القبر ونعيم القبر والبعث بعد الموت وقيام الناس من قبورهم حفاة ودنو الشمس ونصب الموازين ووزن الأعمال ونشر الدواوين، كل هذا مما يجب الإيمان به، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله؛ لأن منهجهم ومذهبهم قائم على الإيمان بكل ما أخبر الله به في كتابه وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيمان وتسليم لا يعارضون شيئا من ذلك بعقولهم أو بعقل فلان أو بآراء فلسفية أو بأقوال، أو جدل كلامي، مذهبهم قائم على التسليم، التسليم لخبر الله وخبر رسوله -عليه الصلاة والسلام-، يؤمنون بذلك كله كما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال: آمنت بالله وبما جاء على مراده، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأهل البدع وإن أقروا بالبعث فإنهم يقرون بالبعث، لكن يقولون أقوالا تخالف موجب النصوص وينكرون بعض ما ورد في السنن فمن ينكر الميزان فأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله بكل ما أخبر الله به في كتابه، فالإيمان بهذه الأمور كله داخل في الإيمان باليوم الآخر. السلام عليكم ورحمة الله، نعم. فصل في ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر (تابع)   (1) - سورة الكهف آية: 49. (2) - سورة القمر آية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها، ويقررون بها وفي عرصات القيامة -ويجزون- فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون عليها، وفي عرصات القيامة، الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومما يكون يوم القيامة من الأمور العظيمة الحساب فيوم القيامة من أسمائه يوم الحساب من أسمائه، يوم القيامة له أسماء كثيرة يوم القيامة، ويوم الفصل، ويوم النشور، ويوم التلاق، ويوم التناد، ويوم الحساب، حساب، هذا هو من أعظم ما يكون في يوم القيامة وهو الحساب. يحاسب الله الخلائق يحاسبهم وهو سريع الحساب، وهو أسرع الحاسبين سبحانه وتعالى، يحاسب الله الخلائق يحاسبهم {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) } (1) {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) } (2) {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) } (3) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) } (4) {وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) } (5) {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) } (6) {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) } (7) {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) } (8) فمن الناس من يحاسب حسابا يسيرا، ومنهم من يحاسب مَن يناقش الحساب.   (1) - سورة الانشقاق آية: 6. (2) - سورة الانشقاق آية: 7-8. (3) - سورة الانشقاق آية: 9. (4) - سورة الانشقاق آية: 10-11. (5) - سورة الانشقاق آية: 12. (6) - سورة الانشقاق آية: 13. (7) - سورة الانشقاق آية: 14. (8) - سورة الانشقاق آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وقد قال عليه الصلاة والسلام: " من نُوقِشَ الحساب عُذِّب، فقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) } (1) {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) } (2) قال: إنما ذلك العرض " عرض الأعمال. حساب المؤمن الذي غفر الله له ذنوبه، حسابه إنما هو عرض أعماله؛ ولهذا يسترشد إلى هذا بقوله: ويخلو الله -تعالى- بعبده المؤمن، يحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن، يخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، ويخلو بعبده يقرره بذنوبه إلى آخره كما وصف ذلك في الكتاب والسنة. وهو لا يعني هذه الكلمة عامة يعني إشارة إلى دليل قوله: "ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن" فمن أمور الحساب ما دل عليه القرآن، فذكر الآيات التي ذكرتها، ومنها ما دلت عليه السنة، وفي الفقرة الثانية إنما جاءت به السنة فالرسول أخبر أن الله يخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، ثم يغفرها له يقرره بها ويغفرها له يقول: " سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " أو كما جاء في الحديث. وأما الكفار، يقول الشيخ: فإنها لا توزن أعمالهم، لا توزن أعمالهم كما توزن من له حسنات وسيئات، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ لأنه لا حسنات لهم، ليس لهم حسنات؛ فلهذا لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ لأن الحسنات والسيئات توزن أعماله؛ فقد ترجح الحسنات؛ وقد ترجح السيئات، فيستوجب العذاب إذا رجحت سيئاته على حسناته. فالكفار، يقول الشيخ: لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته، بل تحصى أعمالهم فيوقفون عليها، ويقرون بها ويجزون بها، وكأن هذه العبارة تُشْعِر بأن أعمالهم لا توزن.   (1) - سورة الانشقاق آية: 7. (2) - سورة الانشقاق آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والقرآن ظاهره -والله أعلم- أن الكفار توزن أعمالهم فتخف موازينهم قال الله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) } (1) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) } (2) {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) } (3) الآيات، ونظائر هذا في القرآن متعدد، لكن قال الشيخ: إنهم لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناتهم وسيئاتهم توزن أعمالهم فتخف ميزانهم؛ لأنهم ما لهم حسنات تخف موازينهم، موازين الحسنات ليس فيها شيء. فهؤلاء -والعياذ بالله- يبوءون بالشقاء بالشقوة، وهم الذين يقولون: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) } (4) {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) } (5) فيقول الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) } (6) نعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء، نعوذ بالله من مصير أهل الشقاء، والله المستعان، نسأل الله السلامة والعافية، ويظهر أننا اليوم سنكتفي بهذا القدر، ونأخذ بعض ما تيسر من ال أسئلة ؛ لأننا نحب أن ننصرف عند الأذان. أسئلة س: السؤال الأول: يقول ما معنى قوله في الحديث: " غرلا بُهما " ما معنى " غرلا بُهما ". ج: "غرلا": غير مختونين، أما "بُهما": فالآن لا يحضرني معناها، نعم، ثم "بُهما" ما وردت في اللفظ الذي عندنا، هل وردت معكم؟ لا ما وردت، فراجعوا الحديث نعم كلام أهل العلم، نعم "بهما" لا أعرف. نعم. س: ما رأيكم في مَن خَطَّأ شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة "تسلسل الحوادث"؟.   (1) - سورة الأعراف آية: 8. (2) - سورة المؤمنون آية: 103. (3) - سورة المؤمنون آية: 104. (4) - سورة المؤمنون آية: 106. (5) - سورة المؤمنون آية: 107. (6) - سورة المؤمنون آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ج: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله هذا السؤال لا يتسع له هذا الوقت، ما يتسع الوقت للكلام في هذه المسألة، مسألة كبيرة تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى وقت، وعلى كل حال فلعل الذين خطأوه ما فهموا مراده، فكل من فهم حقيقة الأمر في هذه المسألة بإنصاف لا يشك في أن ما قرره شيخ الإمام ابن تيمية هو الحق، نعم هذا هو الجواب على سبيل الاختصار. س: هذا يقول: رجل يجلس بين الشباب ويقلد كبار المشايخ فيتضاحك الشباب هل يكفر لاستهزائه، علما أنه يقول: إنه مستأذن من المشايخ الذين يقلدهم؟. ج: هذا من شأن أهل الجهل والسفه والاستخفاف، هذا إنما يفعله سفهاء الناس، أصل التقليد مبدأ التقليد، والتمثيل للشخصيات تقمص الشخصيات، هذا أسلوب أهل اللهو، هذا هو الذي يقوم عليه التمثيل الذي يمثل حجما كبيرا من برامج الترفيه، الترفيه الأثيم، لا البريء ليس هو الترفيه البريء. وأما قوله: هو مستأذن، فهذا مستبعد، أنا أظن أنه كذب إن كان يقوله لمن يمثل عندهم، فلا أستبعد أنه يكذب عليهم، فيجمع بين استهزائه واستخفافه وتعويد من يتأثرون به على هذه المناهج، يجمع لهم بين العمل الساخر المتضمن للاستخفاف بأهل العلم وأهل الصلاح والكذب عليهم، لا أظن أحدا يأذن لشخص أن يمثل نفسه، ويقول: نعم، والدليل على عدم الجدية أن الجلسة تكون جلسة ضحك وتسلية ولهو، هذا هو رأيي فمن يزعم ذلك، ويمارس هذا الأسلوب الخاطئ الشائن، نعم. س: هل الأصح أن نقول: ما ربك، ما دينك، أو من ربك ما دينك؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ج: حسب ما ورد في الحديث، والذي يظهر: ما ربك، وما دينك، أو من ربك يعني لفظ الحديث الآن بالضبط لا يحضرني، الموجود عندكم " من ربك؟ وما دينك؟ " هذا واضح ما فيه شيء، من ربك، يراجع في البخاري. نعم وكل من اللفظين له وجه، لكن لفظ "مَن" أليق؛ لأن "مَن" في اللغة العربية تستعمل لمن يوصف بالعلم في المخلوق؛ ومن يوصف بالعقل، فهذا أنسب فإذا صحت الرواية "ما ربك" فإنه لا مانع من التعبير بها، ويكون لها وجه، لكن الآن المتبادر كما قلت: " من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " نعم. س: السؤال الأخير: هل يصح إطلاق لفظ الشخص على الله سبحانه وتعالى؟. ج: ورد في البخاري: " لا شخص أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " الحديث. لا شك فهذا مما يخبر به عن الله ويقال: إنه شخص، نعم وشيء، لكن لا يقال: إن هذا اسم من أسماء الله الشخص، كما أن الشيء يطلق على الله، فتقول الله شيء، لكن ليس من أسمائه الشيء، وهذه المسألة المشهورة عند أهل العلم، أن باب الأخبار أو من باب التسمية والوصف والله أعلم. نعم. شفاعات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول من يستفتح باب الجنة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، وله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة ثلاث شفاعات، أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم، بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم من الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة فيشفع في كل من استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، ويشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يقول الشيخ أيضا يذكر جملة من الأمور التي تكون يوم القيامة والإيمان بها يدخل في الإيمان باليوم الآخر. الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأن أول من يستفتح باب الجنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يستفتح فيفتح له فيدخل فيكون أول شخص يدخلها، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، فهم أول من يدخل الجنة هم الطلقاء، ويدخل بعده من شاء سبحانه وتعالى. وأول من يدخل من الأمم أمته، فهو أفضل النبيين والمرسلين، وأمته خير الأمم، كل هذا مما صحت به الأحاديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذه أيضا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وفضائله التي يظهر الله بها فضله على رءوس الأشهاد. {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) } (1) و+ الذي يقول: إن للرسول -عليه الصلاة والسلام- ثلاث شفاعات: الشفاعة الأولى: وهي الشفاعة في أهل الموقف، أن يقضى بينهم، وتسمى الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود الذي امتن الله به عليه في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) } (2) وفي الحديث بعد النداء وفي الدعاء بعد النداء " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ". هذه الشفاعة خاصة به، وهي الشفاعة التي يتدافعها الأنبياء أولو العزم حين يأتي الناس لآدم، ويتوسلون إليه يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله، ويذكرون ما له من الفضائل، وما اختصه الله به " أنت يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك ألا تنظر ما نحن فيه، ألا ترى ما نحن فيه ... ".   (1) - سورة الشرح آية: 4. (2) - سورة الإسراء آية: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 إلى آخر ما جاء في حديث الشفاعة الطويل المتواتر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فينتهي الناس إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فيقول: " أنا لها فيذهب فيسجد يقول: فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فيسجد ويحمد ربه بمحامد يعلمها ويفتح الله بها عليه فيقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط واشفع تُشَفَّع ". هذه الشفاعة الكبرى التي يتراجع عنها الأنبياء، ويتقدم لها نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- بعظيم منزلته عند ربه. والشفاعة الثانية شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، ويجري نحو ما جرى من تدافع وتراجع الأنبياء عن الشفاعة في ذلك، فيشفع أيضا لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وفي كل ذلك إظهار لشرفه - صلى الله عليه وسلم - وإعلاء لقدره، وإظهار لكرمه على ربه. والثالثة: الشفاعة في أهل الكبائر فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه الشفاعة تكون لغيره من الأنبياء والصديقين والصالحين والملائكة، يشفع الملائكة، يشفع الأنبياء، ويشفع المؤمنون يعني فيمن دخل النار، أو استحق دخول النار. وهذه الشفاعة في أهل الكبائر، هذه الشفاعة التي ينكرها أهل البدع المعتزلة ينكرون هذه الشفاعة والخوارج؛ لأن ذلك يناقض أصلهم، وتقدم أن الخوارج والمعتزلة من أصولهم أن أهل الكبائر لا بد لهم من دخول النار، والخلود فيها هذه تمنع الشفاعة كما تمنع الشفاعة في المشركين تمنع هذا حق {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) } (1) مشركون {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) } (2) . عند الخوارج والمعتزلة أن مرتكب الكبيرة كذلك لا تنفعه شفاعة الشافعين، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله، ويثبتون هذه الشفاعة للنبي -عليه الصلاة والسلام- وغيرها، لكن هذه أهمها وأبرزها.   (1) - سورة غافر آية: 18. (2) - سورة المدثر آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ولهذا الشيخ يعني اقتصر عليها فاثنتان خاصتان به، والثالثة مشتركة، ولكن له منها الحظ الأوفر، فإنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام يشفع أربع مرات، يشفع يقول: " فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم يعود فيشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة " إلى أربع مرات , تشفع الملائكة. إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة ويُخْرِج الله من النار أقواما بغير شفاعة بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المُنَزَّلَة من السماء، والآثار من العلم المأخوذ عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذاك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده. ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة، بل بمحض فضله ورحمته -سبحانه وتعالى- والكل من فضله، والكل من رحمته حتى من يخرج من شفاعة الشافعين، هل خرجوا إلا برحمة الله وغفرانه، من الذي أذن للشافع أن يشفع، ومن الذي قبل منه الشفاعة؛ لكنه سبحانه وتعالى تارة يسدي فضله بسبب يهيئه ويجريه على يد بعض العباد، وتارة يمنع ويؤتي فضله دون توسط سبب. والسبب إذا توسط فهو أيضا عائد إلى إرادته تعالى ورحمته وفضله، فالأمر له أولا وأخرا، فهو الذي يرحم المشفوع له، ويكرم الشافع بالإذن له، وقبول شفاعته، يكرم الشافع فيأذن له بالشفاعة، ويرحم المشفوع فينجيه من العذاب بشفاعة من أذن له بالشفاعة والقبول. نعم، بعده. هذه الكلمة من الشيخ أَجْمَلَ فيها الكلام عن اليوم الآخر بعد ما ذكر أشياء مما يكون يوم القيامة، ما يجب الإيمان به، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر، ختم بهذه الجملة أصناف ما تضمنته الدار الآخرة، أصناف وأنواع، وتفاصيل ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وتفاصيل ذلك موجود في الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها من كتب الله المنزلة، كلها تضمنت منهاج ما تضمنته، وكذلك في المأثور عن الأنبياء في آثار كثيرة مأثورة عن الأنبياء الماضين تتضمن أخبارا عن اليوم الآخر، لكن لا يثبت شيء من ذلك إلا ما وصلنا بخبر معصوم. أما الآثار المروية عن الأنبياء، الأخبار التي لم تثبت بطريق يجب اعتماده، فإنه يصبح الأمر فيه معلقا على الدليل، يعني يصبح كحديث بني إسرائيل، أما أن يقوم الدليل على كذبه فيرد، أو صدقه فيقبل، أو يبقى لا يصدق ولا يكذب، لكن المأثور عن اليوم الآخر حق، لكن إذا جاءت به جزيئات تصديقية، فلا بد من أن يثبت ذلك. يقول: وفي المأثور عن نبينا -صلى الله عليه سلم- من الأخبار والآثار في القرآن ما يشفي أن نحتاج أن نرجع إلى التوراة والإنجيل، أو في أخبار بني إسرائيل لا نحتاج أبدا، ففي الكتاب والسنة الغنى، فيه الغنى، فيه ما يشفي ويكفي، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ". تؤمن بالقدر يعني: بتقدير الله للأشياء قبل كونها، تقدير الخير والشر الأشياء فيها خير وشر، الأشياء المقدرة فيها خير وشر، فالقدر يطلق ويراد به التقدير السابق، تقدير الله للأشياء في علمه وكتابه. ويطلق القدر على الشيء المقدر تقول: هذا قدر، تعني الحادث، تقول هذا قدر يعني: أمر مقدر فكل الأشياء قدر، قيامك قدر، وقعودك قدر، ومشيك قدر، وأكلك وشربك كله قدر يعني مقدر. الحوادث التي تحدث كلها قدر مقدر، قدر بمعنى مقدر، يعني: سبق به علم الله وكتابه، والصحة قدر، والمرض قدر، كلها قدر، ولهذا لما " سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الأدوية والرقى قالوا: هل ترد من قدر الله؟ قال: هي من قدر الله " الأدوية والرقى هي من قدر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ولما رأى عمر - رضي الله عنه - وكثير من الصحابة الرجوع عن الشام لما بلغه أنه قد نزل بها الطاعون قال له بعض الناس: يا أمير المؤمنين تفر من قدر الله؟ قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله. وجاءت السنة موافقة لما وُفِّقَ له أمير المؤمنين - رضي الله عنه - ومن معه، الرسول أخبر وأمر " أن من سمع بالطاعون في أرض فلا يقدم عليها وإن كان فيها فلا يخرج منها فرارا " لا يخرج منها فرارا منه، أو فرارا من القدر، وأنا أريد أن أتحدث عن موضوع القدر يعني: حتى نقرأ النص ونكون قد فرغنا منه يقول الشيخ ابن القيم: الإيمان بالقدر، وإن كان من المناسب لو قال الشيخ فصل بين الانتقال إلى موضوع جديد: فصل: وتؤمن أو من أصول أهل السنة الإيمان بالقدر، وتؤمن الفرقة الناجية، ويلاحظ أن الشيخ ميز هذا المقام بتعبيره؛ لأن الإيمان بالقدر..؛ لأن مسالة القدر هي من المسائل الكبار التي تباينت فيها مذاهب الأمة. الإيمان بالقدر على درجات وكل درجة تتضمن شيئا: الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما يكون قبل أن يكون بعلمه القديم الأزلي، وعلم ما العباد فاعلون من الطاعات والمعاصي كل ذلك معلوم للرب بعلمه القديم، هذه المرتبة الأولى من الإيمان بالقدر، لا بد في الإيمان بالقدر من الإيمان بها، الإيمان بعلم الله السابق هذا شيء. الشيء الثاني: الإيمان بأن الله كتب مقادير الأشياء عنده في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الكتاب المبين، أو الإمام المبين، كتب ذلك بقلم المقادير كما في الحديث الصحيح: " قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفي الحديث الآخر " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر.. " أيضا من أسماء اللوح المحفوظ الذكر {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَن الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) } (1) . إذن كتب الله مقادير الأشياء كتب ما هو كائن، " جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " كل ما يحدث، كل ذلك مكتوب {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) } (2) {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (3) يعني: من أدلة هذه المرتبة، أو المرتبتين: العلم والكتاب قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} (4) . فجمع بين العلم والكتاب ذكر الأمرين: علمه تعالى بكل شيء، واشتمال كتابه على كل شيء {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} (5) يعني كل ما في السماء والأرض هو في كتاب الله، قال تعالى: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (6) كل ما جرى ويجري في هذا الوجود فهو مكتوب. مكتوب في اللوح المحفوظ. كل ما يجري على سبيل المثال كل ما يجري: من أمور، ومن أفعال، ومن تصرفات، ومن أحوال من صحة ومرض، وهم وحزن، ومن أجل أو رزق، من سعة رزق أو ضيق رزق، أو سعادة أو شقاوة، كل ذلك مكتوب.   (1) - سورة الأنبياء آية: 105. (2) - سورة القمر آية: 53. (3) - سورة الأنعام آية: 59. (4) - سورة الحج آية: 70. (5) - سورة الحج آية: 70. (6) - سورة الأنعام آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 هذا في الكتاب الأول، والتقدير تقدير عام، وهناك تقديرات أخرى، تقدير يتعلق بآدم، أو بآدم وذريته، قبل أن يخلق الله آدم بأربعين عاما كما في الحديث الصحيح في محاجة آدم وموسى " قال آدم: فبكم وجدت مكتوبا عليّ {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) } (1) " وفي بعض الروايات: " أتلومني على قدر قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين عاما ". وتقدير ثالث وهو تقدير يتعلق بكل فرد. كل فرد له تقدير يخصه كما في الحديث الصحيح، المتفق على صحته أنه " عندما يبلغ الجنين أربعة أشهر ويتم له مائة وعشرون يوما يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ". فهذا تقدير آخر يختص بكل إنسان، بكل نفس، كل إنسان له تقدير خاص، تقدير يكون عند نفخ الروح فيه، وتقدير حولي، وهو ما يكون في ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) } (2) . وسميت ليلة القدر؛ لأن الله يقدر فيها ما يكون في السنة من ليلة القدر إلى نهاية العام من السنة إلى السنة، وهذه التقديرات لا تناقض التقدير الأول، والكتاب الأول لا تتناقض معه، والله تعالى حكيم. الدرجة الثانية من الإيمان بالقدر: الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن هذا الوجود لا يكون فيه حركة، ولا سكون، ولا تقديم، ولا تأخير، ولا وجود صغير، ولا كبير إلا بما شاء " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " وهذه المرتبة يعني مضمونها الإيمان بعموم مشيئة الله؛ لأن مشيئة الله عامة، لا يخرج عنها شيء، لا يخرج عنها شيء يعني: لا يخرج عن مشيئة الله شيء لا أفعال العباد، ولا الحيوان ولا غيرها.   (1) - سورة طه آية: 121. (2) - سورة الدخان آية: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والمرتبة الرابعة وهي الأمر الثاني، أو الشيء من الثاني من الدرس الثاني: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، فهو خالق السماوات والأرض ومن فيهن، وما بينهما من الذوات والصفات والأفعال، خالق العرش وما دون العرش كل ذلك خلقه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) . إذن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بهذه الأمور الأربعة، وتسمى مراتب الإيمان بالقدر، الإيمان بالقدر، لا بد أن يشتمل على هذه المراتب الأربعة، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالقدر على هذا الوجه بمراتبه الأربعة. وأما المنكرون للقدر فهم طائفتان: غلاة أنكروا العلم والكتاب، ويقولون: إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، ومعنى هذا أنه لم يقدر الأشياء، ولم يكتب ما يكون، كما ينكرون عموم المشيئة، وعموم الخلق، ويُخْرِجون عن مشيئة الله وخلقه، يُخْرِجون عن ذلك أفعال العباد، بل وأفعال الحيوان. فهذا مذهب قدمائهم وغلاتهم أي: قدماء القدرية، أما المتوسطون منهم فينكرون المرتبة الثالثة والرابعة، وهي عموم المشيئة، ومنهم المعتزلة، فالمعتزلة ينكرون عموم المشيئة، وعموم الخلق، فيُخْرِجون أفعال العباد عن مشيئة الله، فعندهم أن أفعال العباد ليست من مشيئة الله، والعبد يتصرف بغير مشيئة الله، والله لا يقدر على أن يغير من حال الإنسان شيئا، فيتضمن ذلك تعجيز الرب. تعجيزه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. ويُخْرِجون أفعال العباد عن ملكه، فمضمون قولهم: أنه تعالى ليس له الملك كله، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأنه الله تعالى له الملك كله، وله الأمر كله سبحانه وتعالى. حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة   (1) - سورة الرعد آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية، ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (1) وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (2) ولا يسلمون الفاسق الملي الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (3) . وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ". ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته.   (1) - سورة البقرة آية: 178. (2) - سورة الحجرات آية: 9-10. (3) - سورة النساء آية: 92. (4) - سورة الأنفال آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، يعقد الشيخ -رحمه الله- هذا الفصل؛ لبيان منهج أهل السنة في ثلاث مسائل في الحقيقة أنه سبقت الإشارة إلى بعضها، عند الكلام في وسطية أهل السنة والجماعة بين فِرَق الأمة. المسألة الأولى: ما يتناوله اسم الإيمان يعني مسمى الإيمان ما هو الإيمان؟ . يقول الشيخ -رحمه الله-: من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل. قول وعمل خلافا للمرجئة الذين يقولون: إنه التصديق فقط، تصديق القلب هو الإيمان، وأما الأعمال فليست من الإيمان، أو كقول الجهمية: هو المعرفة، والمعنى متقارب. وخلافا للكرامية الذين يقولون: الإيمان هو التصديق باللسان فمن صدَّق بلسانه فهو مؤمن يعني: في الدنيا، وإن كان مخلدا في النار يوم القيامة، لكن ليس هو في الحقيقة بمؤمن، بل هو منافق، هذا اسمه الشرعي من صدَّق بلسانه، وأظهر الإيمان بلسانه فليس بمؤمن في الحقيقة {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } (1) . فأهل السنة يقولون: إن الإيمان قول وعمل؛ للأدلة الكثيرة التي دلت على هذا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر الإيمان في حديث جبريل بأصوله الستة، وهي اعتقادية أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه، إلى آخره. وفسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بأمور عملية قال لهم: " أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا الله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم ". ففسره بنحو تفسيره للإسلام، ففسرها بأمور عملية، وأبلغ من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ". وقال كثير من الأئمة: الإيمان قول وعمل؛ ردا على المرجئة الذين يقولون الإيمان هو مجرد قول، قول القلب يعنى: اعتقاد القلب، وإقرار اللسان.   (1) - سورة البقرة آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المرجئة يُسَمَّوْنَ مرجئة الفقهاء كالإمام أبى حنيفة، ومن تبعه يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، تصديق القلب وإقرار الإيمان، أهل السنة وأئمة أهل السنة ينكرون هذا القول، وما هو أبعد منه. يقولون: الإيمان قول وعمل؛ فلهذا يقول الشيخ: من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل، ثم يقسم ذلك بقوله: قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، يعني: أن الإيمان يشمل هذه الأمور الخمسة: الإيمان اسم لهذه الأمور الخمسة، يشمل خمسة أمور: قول القلب يعني: اعتقاد القلب يعني: التصديق. وقول اللسان الذي هو الإقرار، كما يقر الكافر عند إسلامه، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وعمل القلب كمحبة الله ورسوله وأوليائه ومحبة ما يحب، والخوف من الله والرجاء، والتوكل عليه سبحانه. وعمل اللسان كثير كالذكر بأنواعه، وتلاوة القرآن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعمل الجوارح كالصلاة من الركوع مثل ما في الصلاة من عمل الجوارح، فالصلاة مشتملة على أقوال وأعمال، كالقيام، والركوع والسجود، هذه كلها أعمال جوارح، ومثل الحج والطواف بالبيت وسائر المناسك، هي من أعمال الجوارح، فهذا هو الذكر، فالإيمان يشمل كل ذلك. " الإيمان بضع وستون شعبة " فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج بأعماله من الإيمان، كله قول القلب واللسان، هذا تفصيل لما ذكر قول أهل السنة فصله بقوله: قول القلب واللسان يعني: اعتقاده. اعتقاد القلب، واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. وهذا أتم من قول من يقول: إن الإيمان اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، صحيح أن هذا يرد مذهب الخوارج المرجئة، لكن ما ذكره الشيخ من هذه الأمور الخمسة أتم، يعني: يستوعب كل جوانب الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه أن الإيمان قول، وعمل، خلافا للمرجئة من الجهمية، والأشاعرة وغيرهم؛ خلافا للمرجئة؛ خلافا لكل من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان؛ فالأعمال من الإيمان، وأدلة ذلك ظاهرة بينة لمن تدبر نصوص الكتاب والسنة. المسألة الثانية: أن الإيمان يزيد وينقص، وكثير من المرجئة يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو واحد ما دام أنه هو التصديق، فإنه لا يزيد ولا ينقص، شيء واحد، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان يزيد وينقص، وما دخلته الزيادة يدخله النقص، إذا خلا عن الزيادة فإنه ناقص {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (1) {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (2) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } (3) . فالإيمان يزيد، التصديق بالقلب يزيد بالقوة يقوى ويضعف، الإيمان يزيد بالطاعة، فكل من كان أطوع لله كان إيمانه أكمل، وينقص بالمعصية ينقص، وهذا هو المعقول، أفيكون إيمان التقي المستقيم علي أمر الله ظاهرا وباطنا كإيمان المنتهك لحرمات الله؟ لِلَّهِ أفيكون إيمان آحاد المؤمنين كإيمان الكُمَّل من المؤمنين كأبي بكر وعمر فضلا عمن فوقهم؟! فالإيمان يزيد وينقص، وهذا يحسه من أوتي علما وبصيرة، وتفقدا لحاله، يحس زيادة الإيمان ونقصه بالإقبال بقوة الخوف من الله، وقوة التوكل، فالخوف يقوى ويضعف، والتوكل يقوى ويضعف، والرجاء يقوى ويضعف، كل ذلك يزيد وينقص.   (1) - سورة الفتح آية: 4. (2) - سورة الأنفال آية: 2. (3) - سورة آل عمران آية: 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 هذا في أحوال القلوب فضلا عن الأعمال الظاهرة يزيد وينقص، وكما تقول المرجئة: إن الإيمان واحد، وأهله فيه سواء كذلك الخوارج والمعتزلة عندهم أن الإيمان كذلك لا يزيد ولا ينقص بمعنى أنه كل لا يتجزأ، فإذا فات منه جزء أو فقد منه جزء زال الكل، وعند أهل السنة لا يزول كل الإيمان بزوال بعضه. أما الخوارج والمعتزلة يقولون: يزول الإيمان بزوال بعضه، كمرتكب الكبيرة وهي المسالة الثالثة. لا يزول الإيمان بزوال كله، فالإيمان شعب كما في الحديث لكن منها شعب قد يزول الإيمان بزوالها وشعب لا يزول الإيمان بزوالها، وإلا لوقع الناس في حرج عظيم. المسألة الثالثة: حكم مرتكب الكبيرة، أهل السنة والجماعة لا يكفرون بمطلق المعاصي لا يكفرون أهل القبلة هو كل من أظهر الإسلام، ولم يأت ناقضا من نواقض الإسلام، فهو من أهل القبلة كما في الحديث " من صل صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا، أو فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا ". فهؤلاء هم أهل القبلة، فكل الطوائف التي لا يحكم بكفرها، فهي من أهل القبلة، والمنافقون هم من أهل القبلة في الظاهر، وإلا فهم المنافقون، ليسوا من المؤمنين بل هم مع الكافرين {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) } (1) {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) } (2) .   (1) - سورة النساء آية: 140. (2) - سورة النساء آية: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فأهل السنة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي يقول: يعني: أي معصية فإنه يكفر صاحبها. لا المعاصي أنواع، معاصي توجب الكفر نواقض الإسلام كالاستهزاء بآيات الله وبرسول الله {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِن اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } (1) . مثل سب الدين وسب الإسلام، سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه ذنوب يخرج بها الإنسان عن الإسلام؛ ولهذا يقول الشيخ: إن أهل السنة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، خلافا للخوارج؛ فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعروف أنهم يكفرون يعني: مرتكب الكبيرة. فمن ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب خرج عن الإسلام، وصار من الكافرين حلال الدم والمال، يصير مرتدا، كالسارق والزاني والشارب، وما إلى ذلك عندهم أنهم كفار، أما أهل السنة، فإنهم لا يكفرون بهذه الذنوب، بل أخوة الإيمان باقية مع المعصية، أخوة الإيمان القاتل أخو المقتول، أليس الله قال في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} (2) يعني القاتل الذي عفي له {مِنْ أَخِيهِ} (3) يعني: من دم أخيه من المقتول، فالقاتل والمقتول أخوان في الإسلام، وإن كان القاتل عاصيا ظالما، وهذا مظلوم.   (1) - سورة التوبة آية: 64-65. (2) - سورة البقرة آية: 178. (3) - سورة البقرة آية: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لكن هذا لا تزول عنهم إخوة الإيمان، ومثل هذا آية الحجرات {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1) إلى أن قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) بل إن أهل السنة لا يسلبون العاصي أو الفاسق الملي من المسلمين الفاسق من المسلمين، الملي منسوب لملة الإسلام، الفاسق الملي نسبة للملة الإسلامية، الملة القيمة لا يسلبونه الإيمان كما تفعل الخوارج، وكما تفعل المعتزلة. الخوارج لا يقتصرون على سلبه الإيمان، بل يسلبونه الإيمان ويكفرونه، أما المعتزلة فإنهم يسلبون الإيمان، وأهل السنة لا يكفرونه، بل ولا يسلبونه الإيمان ولا يخلدونه في النار يوم القيامة، بل هو يوم القيامة، الفاسق الملي يوم القيامة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم يخرجه من النار برحمته سبحانه وتعالى، وبشفاعة الشافعين من أهل طاعته، وكل ذلك من فضله وكرمه وإحسانه. فأهل السنة أيضا لا يسلبون الفاسق الملي الإيمان كما تفعل المعتزلة، ولا يخلدونه في النار، كما تقول الخوارج والمعتزلة، فالفاسق يقول الشيخ: إن الفاسق قد يدخل في الإيمان المطلق في بعض الآيات، وقد لا يدخل في بعض الآيات، ففي قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (3) هذه يدخل فيها الفاسق فليس من شرط الرقبة التي أمر الله بتحريرها ليس من شرطها يعني: كمال الإيمان.   (1) - سورة الحجرات آية: 9. (2) - سورة الحجرات آية: 10. (3) - سورة النساء آية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بل يجزئ بتحرير رقبة إنسان رجل ذكر، أو أنثى معه أصل الدين، أصل الإيمان؛ ولهذا الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال للجارية التي أراد سيدها أن يعتقها قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: " أين الله؟ قالت: في السماء " فإذن هي مؤمنة بالله، وأنه في العلو خلافا للمعطلة الحلولية، قال: " من أنا؟ قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: أعتقها فإنها مؤمنة ". وقد لا يدخل الفاسق الملي في الإيمان المطلق في بعض النصوص، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (1) إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (2) فالفاسق الملي، الفاسق لا يدخل في مثل هذه الآية. لا يدخل في مَن هذه صفاتهم {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3) فالفاسق الملي ليس مؤمنا حقا هو مؤمن في الجملة، كما لا يدخل في اسم الإيمان في قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وهو مؤمن الإيمان الكامل الذي يمنع من مقارفة هذه الفواحش. فمن يقدم على الزنا، أو السرقة، أو الانتهاب لا يقدم على ذلك، وهو مؤمن إيمان المؤمنين الكُمَّل الذين يمنعهم إيمانهم عن اقتراف المعاصي، وإن كان معه أصل الإيمان، الزاني وهو يزني عنده أصل الإيمان لا يزول عنه أصل الإيمان، لو زال عنه أصل الإيمان صار مرتدا، ولو مات قبل أن يتوب كان كافرا.   (1) - سورة الأنفال آية: 2. (2) - سورة الأنفال آية: 4. (3) - سورة الأنفال آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وهذا قول الخوارج لا هم معهم أصل، لكن يزول عنه الإيمان الكامل الذي يمنع من الإقدام علي الفاحشة ومتي يعود؟ متي يعود له إيمانه؟ إذا تاب، إذا تاب عاد إليه ما كان معه من إيمان عاد بالتوبة، نعم يعود إليه إيمانه، أما ما دام أنه مُصِرّ لا يعود إليه إيمانه مُصِرّ علي مقارفة الزنا، أو السرقة أو الشرب، أو غيرها. فإذا تاب رجع إليه إيمانه الذي كان عليه. يقول الشيخ في ختام هذا الفصل في بيان حكم الفاسق وهو مرتكب الكبيرة العاصي من المسلمين يقول: إذن ماذا يعبر أهل السنة عن الفاسق؟ يقولون: إنه مؤمن بإيمانه يعني: هو مؤمن بما معه من إيمان، فاسق بكبيرته هو فاسق باعتبار الكبيرة ومؤمن بما معه عنده يعني: جانب طاعة وجانب معصية أو هو مؤمن ناقص الإيمان. يقول الشيخ: فلا يعطى الاسم المطلق فيقال: هو مؤمن، هذا مؤمن، ولا يسلب مطلق الاسم، يقال: إنه ليس بمؤمن، هذا فيه سلب لمطلق الإسلام، لمطلق اسم الإيمان ليس معه إيمان، فلا يعطى الاسم المطلق، بحيث إنه يوصف بالإيمان الكامل، ويقال: إن هذا مؤمن، ولهذا لما أعطى الرسول رجالا ولم يعط واحدا قال له أحد الصحابة: " إنك لم تعط فلانا وإني لأراه مؤمنا قال: أو مسلما " ردد ذلك ثلاث مرات. ففرَّق بين الإيمان والإسلام، الإسلام يسقط على سائر المسلمين، كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يأت بناقض من نواقض الإسلام فهو مسلم، فاسم الإسلام يعني أعم وأوسع دائرة. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن مسلما مؤمنا الإيمان الكامل، إن كان معه أصل الإيمان، لا إسلام إلا بإيمان لا يكون الإنسان مسلما علي الحقيقة، إلا ومعه أصل الإيمان إيمان القلب، فهذا تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسائل الثلاث: في مسمى الإيمان، وما يتناوله هذا الاسم، وفي زيادة الإيمان ونقصانه، وفي حكم مرتكب الكبيرة، أو الفاسق الملي، يعني: أي تعبير من النوعين مرتكب الكبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وقد أشار إلى مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، ومذهب الخوارج، ومذهب المعتزلة، فأهل السنة والجماعة يخالفون هذه الطوائف فيما ابتدعوه من الأسماء والأحكام، فمرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا مثلا أنه مؤمن ناقص الإيمان ليس بكافر، ولم يخرج عن الإيمان مطلقا، وفي الآخرة تحت مشيئة الله كما تقدم. وهذا هو موجب عدل الرب -سبحانه وتعالى- فلا يُسَوِّي بين مَن آمن به وبرسله مع ارتكاب بعض الذنوب، وبين من كفر به وبرسله، فالله -تعالى- لا يسوي بين هؤلاء وهؤلاء، كما يسوي بين العاصي الفاسق المجترئ على حرمات الله وبين المتقين {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) } (1) نعم. فصل في الواجب نحو الصحابة وذكر فضائلهم فصل: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } (2) . وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضلون من أنفق من قبل الفتح، وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق بعدُ وقاتل. ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وبأنه " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ".   (1) - سورة ص آية: 28. (2) - سورة الحشر آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة. ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي -رضي الله عنهم- كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة علي تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- بعد اتفاقهم على تقديم أبو بكر وعمر أيهما أفضل؟ فقدَّم قومٌ عثمانَ وسكتوا، وربَّعُوا بعلي، وقدَّم قومٌ عليا، وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، ثم علي، وإن كانت هذه المسألة، مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يُضَلَّل المخالِف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن الذي يُضَلَّل فيها مسألة الخلافة. وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر. أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله، ويحبون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَتَوَلوْنَهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: يوم غديرخم " أذكركم الله في أهل بيتي ". وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي " وقال: " إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بين هاشم واصطفاني من بني هاشم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ويتولون أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصا خديجة -رضي الله عنها- أم أكثر أولاده، أول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية والصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. وهذا فصل ضمَّنه الشيخ -رحمه الله- منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول، وقرابة الرسول، وزوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يعني: أمر الصحابة صار قضية عقدية، وقد افترق فيهم الناس كما تقدمت الإشارة إلى هذا في الكلام عن وسطية أهل السنة. وأن أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج ومنهج أهل السنة والجماعة يتضمن هذه الأمور التي ذكرها الشيخ فمن أصول أهل السنة في هذا الباب: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلامة قلوبهم من بغض الصحابة، ومن الغل والحقد عليهم، فقلوبهم سليمة، ليس فيها غل على أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يبغضون أحدا منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وكذلك ألسنتهم سليمة لا يسبونهم، ولا يتبرءون من أحد منهم، بل إنهم يحبون أصحاب رسول الله بقلوبهم، ويثنون عليهم بألسنتهم، ويدعون الله لهم كما وصف الله أولئك، أعني: التابعين لأصحاب الرسول -صلى الله علي وسلم- من المهاجرين والأنصار قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (1) يعني من بعد المهاجرين والأنصار {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } (2) . هذا يدل على محبتهم لمن قبلهم: للمهاجرين والأنصار؛ لذلك يدعون لهم بالمغفرة ويسألون ربهم أن يطهر قلوبهم من الغل {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } (3) وإن كان هذا المعنى مشروعا من المؤمنين لإخوانهم عموما، ولكن أحق الناس بذلك هم الصدر الأول، هم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم أحق بالدعاء لهم، أحق بسلامة القلوب لهم. وكذلك أهل السنة والجماعة يطيعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكمل طاعة في قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". قال هذا عليه الصلاة والسلام لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم من بعد الفتح، وهو خالد بن الوليد لما كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف بعض اختلاف فقال عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد: " لا تسبوا أصحابي ".   (1) - سورة الحشر آية: 10. (2) - سورة الحشر آية: 10. (3) - سورة الحشر آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فالصحبة مراتب فبعض الصحابة أكمل صحبة من بعض فالسابقون الأولون ليسوا كالمتأخرين، ليسوا كالذين تأخر إسلامهم، وهذا كذلك ينسحب علي من جاء بعد الصحابة فقوله: " لا تسبوا أصحابي " وإن ورد على هذا السبب فإنه يتضمن نهي من يأتي بعدُ عن سب أصحاب الرسول. سبحان الله! إذا قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: " سباب المسلم فسوق " المسلم أيّ مسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " فما الظن بسب أصحاب الرسول؟ فكيف بسب أحد من أصحاب الرسول؟ فكيف بسب أفاضل الصحابة وأكابر الصحابة؟ وقد باء بهذا الإثم الطائفة المخذولة الشقية الطائفة الرافضة، باءوا بهذا الإثم، فهم شر طوائف الأمة أشدها بغضا وسبا وظلما لأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا قال الشيخ في آخر الكلام ويتبرءون أهل السنة والجماعة يتبرءون من طريقة الروافض الذين يسبون الصحابة، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ومن تفاصيل هذا الأصل أن أهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار يعني أن أهل السنة يؤمنون بفضل الصحابة ويحبونهم وينزلونهم منازلهم فالصحابة متفاضلون، فبعضهم أفضل من بعض؛ لذلك أهل السنة، نعم أهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار؛ لأن الله قدمهم في الذكر، فأي آية يذكر الله فيها المهاجرين والأنصار، فإنه تعالى يقدم المهاجرين {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (1) يقدمون المهاجرين علي الأنصار. كما أنهم يؤمنون بكل ما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- بل بكل ما جاء في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة المتعلقة يعني بفضائلهم عموما وخصوصا. ولهذا قال الشيخ في آخر الكلام: ويتبرءون، أهل السنة والجماعة يتبرءون من طريقة الروافض الذين يسبون الصحابة، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.   (1) - سورة التوبة آية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ومن تفاصيل هذا الأصل أن أهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار يعني: أن أهل السنة يؤمنون بفضل الصحابة ويحبونهم وينزلونهم منازلهم فالصحابة متفاضلون فبعضهم أفضل من بعض؛ لذلك أهل السنة، نعم أهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار؛ لأن الله قدمهم في الذكر، فأي آية يذكر الله فيها المهاجرين مع الأنصار فإنه تعالى يقدم المهاجرين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (1) يقدمون المهاجرين على الأنصار. كما أنهم يؤمنون بكل ما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- بل بكل ما جاء في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة المتعلقة بفضائلهم عمومًا وخصوصًا، فيؤمنون ويصدقون بقوله - صلى الله عليه وسلم - بما جاء في قول الله: " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". ويؤمنون بفضل أهل بدر، يعرفون لهم هذه الفضيلة العظيمة، كما أنهم يؤمنون بما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- من قوله: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " هؤلاء أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعين، الذين قال الله فيهم: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} (2) من ماذا؟ من الصدق في الإيمان، ونصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصدق في مبايعته {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) } (3) بايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الموقف بايعوه على الموت أو بايعوه على ألا يفروا، بيع عهد، ففازوا بهذا الوعد، وفازوا بهذا الثناء {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (4) .   (1) - سورة التوبة آية: 100. (2) - سورة الفتح آية: 18. (3) - سورة الفتح آية: 18. (4) - سورة الفتح آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 هؤلاء هم أهل بيعة الرضوان، إنها بيعة لا يدركها أحد، فضيلة لا يدركها أحد بعد، نعم كما أن من تفصيل منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم يفضلون من أنفق من قبل الفتح على من أنفق من بعد الفتح وقاتل، يفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل. والمراد بالفتح هو صلح الحديبية، ليس المراد به كما يتبادر لأذهان كثيرين من الناس أنه فتح مكة لا بين الفتحين قريب من سنتين، فالفتح هنا هو صلح الحديبية وهو الذي أنزل الله فيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) } (1) فتح، وكان إرهاصًا لفتح مكة كان صلح الحديبية يعني سببًا أوليا لفتح مكة أخيرًا. وهذه المفاضلة نَبَّهَ الله إليها بقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (2) لكن مع الفارق الذين أنفقوا وقاتلوا في أيام الشدة وقلة النصير لا يساويهم ولا يدانيهم من أنفق بعدما قويت شوكة الإسلام، وظهر دين الله، وكلا وعد الله الحسنى، الكل قد وعدهم الله الحسنى، لكن مع التفاوت والتفاضل الذي لا يقدر قدره إلا الله {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (3) . وكذلك من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يعرفون لقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضلهم، قرابة فضيلة، لكن إذا اقترنت بالإيمان، قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيحفظون وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- في أهل بيته حين قال يوم غدير خم:   (1) - سورة الفتح آية: 1. (2) - سورة الحديد آية: 10. (3) - سورة الحديد آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 " أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته قرابته القربى الأدنون، ثم قرابته القربى هم بنو هاشم، ثم قريش على مراتبهم لهم حظهم وشرفهم من قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرابتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن هذه الفضيلة لا تتحقق إلا مع الإيمان، فإذا لم يتحقق الإيمان فلا تنفع الأنساب، فأبو لهب وأبو طالب لم تنفعهم قرابتهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كذبوا دعوته، ولم ينقادوا له، وقال -عليه الصلاة والسلام- حين شكا إليه العباس أن قريشًا تشجفوا بني هاشم شكا منهم جفوة قال: " والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله - يعني: لإيمانكم- ولقرابتكم " فمن كان من قرابة النبي فإنه اجتمع له فضل الصحبة وفضل القرابة كعلي - رضي الله عنه - فضل الصحبة فهو من سادات الصحابة، ومن السابقين الأولين، وفضل القرابة فهو -كما تقدم- أفضل قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يوالون أزواجه ويحبون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أمهات المؤمنين وأنهن زوجاته وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } (1) إلخ. وهذه الآية تدل على الصحيح على أن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته بل هن أولى من يدخل في هذا الاسم الشريف {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } (2) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) } (3) .   (1) - سورة الأحزاب آية: 33. (2) - سورة الأحزاب آية: 33. (3) - سورة الأحزاب آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 خصوصا يقول شيخ الإسلام: وخصوصًا خديجة وعائشة، فخديجة أم أكثر أولاده؛ لأنها أولى زوجاته أولى أمهات المؤمنين، وهي أم أكثر أولاده، وهي من أسبق السابقين إلى الإسلام، وعائشة التي قال فيها الرسول -عليه الصلاة والسلام-: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو الخبز باللحم، وهو من أفضل الطعام الخبز واللحم، " كفضل الثريد على سائر الطعام ". وأهل السنة مختلفون في المفاضلة بينهما، فقوم فضلوا عائشة، وقوم فضلوا خديجة، ومنهم من قال: إن هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، وعندي -والله أعلم- أن القول بتفضيل خديجة أنه قول قوي؛ لأدلة كثيرة؛ لأدلة الدالة على فضلها، وكلهن فضليات، رضي الله عنهن. نعم، كذلك من المسائل الكبيرة التي تدخل في هذا الأصل: أن أهل السنة يؤمنون ويقبلون ما تواتر عن علي - رضي الله عنه - وعن غيره من أن أفضل هذه الأمة أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي. فأهل السنة والجماعة قائلون بأن أفضل الصحابة هم الخلفاء الراشدين، وأن ترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، فأفضل هذه الأمة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر، وهذا بإجماع المسلمين بإجماع المسلمين الأولين والآخرين بإخراج طائفة الروافض، فأفضل هذه الأمة: أبو بكر ثم عمر. وقد يقول الشيخ: إن أهل السنة قد وقع بينهم خلاف في القديم في المفاضلة بين عثمان وعلي، فقوم قدموا عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقوم قدموا عليا، وقوم توقفوا يعني: فمن أهل السنة من فضَّل عثمان على علي، ومنهم من فضل عليًا، ومنهم من توقف، لكن استقر أمر أهل السنة على تفضيل عثمان على علي، وأن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل على ترتيبهم في الخلافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هذا هو الذي استقر عليه أمر أهل السنة والجماعة، وهذا يعني أن الخلاف قد ارتفع، وأجمع أهل السنة أخيرًا أجمعوا على هذا الأمر على تقديم عثمان على علي، فأفضل الصحابة هم الخلفاء الراشدون، وترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة. لكن يجب أن يُفَرَّق بين مسألة المفاضلة بين عثمان وعلي، وبين الطعن في خلافة عثمان، ولا يلزم من تفضيل علي على عثمان الطعن في خلافة عثمان؛ فمسألة تفضيل علي على عثمان يقول الشيخ: ليست من المسائل التي يضلل المخالف فيها. أما مسألة الخلافة فمن طعن في خلافة واحد من الخلفاء الراشدين فهو ظالم أضل من حمار أهله، فمن طعن في خلافة عثمان، وقال: إنه تقديم للمفضول، وإنه يعني كان عن محاباة من بعض الصحابة، وإن عثمان قد هضم حقه، فهو ضال مضل. وقد قال بعض السلف: من طعن في خلافة عثمان فقد أذرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قد اتفقوا على تقديم عثمان؛ وهذا حجة لما عليه جمهور أهل السنة؛ واستقر عليه أمرهم من تقديم عثمان على علي في الفضل؛ فهذا هو مذهب الصحابة ومنهجهم، منهج أهل السنة والجماعة. ومنهجهم في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلامة قلوبهم وألسنتهم، محبتهم إنزال كل منزلته، وهذا هو العدل، محبتهم والإيمان بفضائلهم بكل ما جاء في الكتاب والسنة من الأخبار في فضائلهم ومناقبهم، كما لا يفوتني أيضًا أن مما يدخل في هذا أن أهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لمن شهد له رسول - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام. لعل هؤلاء هم العشرة بقي واحد وأبو عبيدة بن الجراح، هؤلاء هم العشرة، وكذلك أيضًا، فالمبشرون بالجنة كثير ومنهم: ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم الحسن والحسين ومنهم، ومنهم كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وهذا يعني بشائر أو بشارات على وجه التعيين فلان وفلان وفلان، وتقدم أنه ممن يُشهد لهم بالجنة كل من بايع تحت الشجرة، أهل بيعة الرضوان كلهم قال فيهم الرسول -عليه الصلاة والسلام-: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " فهذا يقتضي أن أهل السنة والجماعة يقفون مع النصوص ويجرون مع النصوص، يؤمنون بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق. منهج أهل السنة النهي عن الخوض فيما وقع من الخلاف والنزاع والحروب بين الصحابة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورن. إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة، أو يستر عنهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنهم خير القرون، وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد؟ والخطأ مغفور، ثم القَدْر الذي يُنْكَر من فعل بعضهم قليل نذر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح. ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله عليهم من الفضائل علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه. تقدم ذكر جمل من المسائل التي يتضمنها منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن منهجهم وطريقتهم القويمة السليمة أنهم يمسكون عما شجر بين الصحابة يمسكون عن الخوض فيما وقع من الخلاف والنزاع والحروب يمسكون عن ذلك يعني: لا يخوضون لا يتكلمون لا يجعلون ما جرى بين الصحابة حديثا يتسلون به فضلا عن أن يتذرعوا به إلى الطعن في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. يمسكون لا يخوضون في هذا، بل يعرضون عنه ويغفلون عنه؛ لأن هذا مع ما في الخوض فيه من المفاسد فإنه أيضًا يؤلم قلوب المؤمنين؛ فلا يحبون التكلم فيه والتشاغل به. بل إذا تذكروا ذلك، أو ذُكِرَ لهم أوقفوا وزجروا من يخوض في ذلك ويبادرون إلى الدعاء لأصحاب الرسول والترضي عنهم، والدعاء لهم بالمغفرة، كما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } (1) .   (1) - سورة الحشر آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 إذن لا يخوضون في هذا لا كلامًا ولا كتابة وتعليقًا، فتسطير ما جرى بين الصحابة لا خير فيه، اللهم إلا من يكتب للرد على المبطلين وإزاحة الشبه، فيكون هذا الكلام، وهذا التأليف ليس مقصودًا بذاته لا يقصد به مجرد الأحاديث التأريخية والخوض الذي تزجى به الأوقات، ويؤدي إلى تسويد القلوب. ومن أحسن ما أُثِرَ في هذا قول لعمر بن العزيز -رضي الله عنه ورحمه- لما ذُكِرَ له ما جرى بين الصحابة من حروب كما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- وبين علي وطلحة والزبير ومن معهما -رضي الله عنهم-. قال: تلك دماء طهَّر الله منها يدي فلا تلوثوا بها لساني. أو كما قال رحمه الله ورضي عنه. وهذا معنى عظيم، فهذا أصل يجب التفطن له والتمسك به، بل إن هذا المعنى هو الواجب نحو المسلمين ما يكون بينهم، ينبغي الكف عن مساويهم فكيف بأصحاب الرسول الأخيار، خير هذه الأمة. ثم يقولون من هذا المنطلق، ومن هذا الأصل يقولون: إن ما أُثِرَ وما نقل من مساوئ الصحابة، من المساوئ من تلك الحروب أو غيرها منها ما هو كذب، الأخبار التأريخية كثير منها كذب، منها ما هو كذب، وإن كان الأصل واقع لكن التفصيلات منها ما هو كذب، ومنها ما زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، هذا قسم منها. والصحيح، منه الصحيح مما أُثِرَ من مساوئ الصحابة هم فيه معذورون مأجورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون فهم مأجورون بأجر أو أجرين هكذا يجب الكف، والتماس العذر، الكف عن الخوض في مساوئهم والتماس العذر فيما ثبت، وما لم يثبت يرد فيه من أول وهلة. ما لم يثبت لا ينظر فيه، لكن ما ثبت يُخَرَّج على هذا الوجه، يُخَرَّج على أن ما وقع هو اجتهاد، ولا يعني هذا أن الصحابة معصومون، بل أهل السنة لا يقولون: إن أحدًا من الصحابة معصوم، فالصحابة ليسوا بمعصومين، العصمة إنما هي للرسول - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أما الصحابة فليسوا بمعصومين فلا يقولون: إن أحدًا من الصحابة معصوم يعني معصوم من الذنوب، بل تجوز عليهم الذنوب، تجوز عليهم الذنوب في الجملة هم بشر، بشر تعرض لهم العوارض النفسية، وتحصل من أحدهم الزلة، والله تعالى يقول: {إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ} (1) اتقوا: المتقون قد يذنبون، {إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) } (2) . ويقول تعالى في صفة المتقين الذين يعد الصحابة في أول وأعلى درجات المتقين من هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - يقول الله في صفة المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) } (3) . وإذا علم هذا فما يقدر من الذنوب ما يقدر أو ما يقع منهم من ذنوب يُغْفَر لهم، أو عندهم من أسباب المغفرة ما ليس عند غيرهم، لهم من أسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، فما يقدر أنهم وقعوا فيه فإنه يغفر لهم إما بالتوبة، وهم أحرى بها، وإما بالحسنات الماحية أو المصائب هذه المكفرات. هذه مكفرات الذنوب لهم ولغيرهم، ولكنهم هم أولى بها ونصيبهم منها أعظم وأكبر، فيكون إذن قد تاب منه، أو غفر له بالحسنات الماحية، أو بمصائب وابتلاء ابتلي به في الدنيا أو يغفر له بشفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- الذين هم أحق بشفاعته كما يقول الشيخ.   (1) - سورة الأعراف آية: 201. (2) - سورة الأعراف آية: 201. (3) - سورة آل عمران آية: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 نعم، هم أحق بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - مع أن ما يقدر من ذلك وما يصدر عنهم إن صدر، كما يقول الشيخ، نعم، وما يصدر عنهم إن صدر هو نذر قليل في جانب الحسنات، في جانب فضائلهم، فإن لهم سوابق، لهم فضائل لا يلحقهم فيها غيرهم، كيف وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". كيف وهم الذين قال فيهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- " خير الناس قرني ثم الذي يلونهم " " خير الناس القرن الذي بعثت فيه " ومن هم؟ هم الصحابة -رضي الله عنهم- فالمقصود أن الواجب هو الكف عن مساوئ الصحابة، والتماس العذر لهم، وتذكر ما لهم من الفضائل والسوابق، وما لديهم من أسباب المغفرة. وما يكون منهم من ذنوب فإن ذلك مغمور في جانب حسناتهم وفضائلهم وختامًا يقول الشيخ: إن من نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وبصدق وعدل علم أنهم خير الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، خير الناس. وهذا يستفاد مما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن هذه الأمة خير الأمم فإذا كانت هذه الأمة خير الأمم، والصحابة خير هذه الأمة، تبين أن الصحابة خير الناس بعد الأنبياء؛ ولهذا قال الشيخ: لا كان في الأمم مثلهم، لا كان في الماضي مثلهم، ولا يكون في آخر الزمان مثلهم، لا كان ولا يكون مثلهم. وأما ما ورد في صفة الغرباء، وأجر الغرباء، وأن للعامل في أيام الصبر أجر خمسين من الصحابة، فهذا محمول عند أهل العلم على الفضل المقيد يعني: لهم أجر خمسين في صبرهم على البلاء والصبر على تسلط الأعداء، لا أن لهم أجر خمسين من الصحابة في كل عمل فيكونون بهذا أفضل من الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بل هؤلاء الذين لهم أجر خمسين أفضل من الصحابة في خصلة من خصال الدين وفضيلة من الفضائل، فلا يكونون بهذا أفضل من الصحابة مطلقًا، بل هم أفضل من الصحابة في هذه الخصلة وفي هذه الفضيلة، فالتفضيل المقيد لا يوجب الفضل المطلق، نعم. فصل في موقف أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء فصل: ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، والمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فِرَق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة. وهذا أصل من أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء يعني: الإيمان بكرامات الأولياء حق، وهي خوارق للعادات ما يُجْرِي الله على أيدي أوليائه من خوارق العادات في العلوم والمكاشفات والقدرة والتأثيرات؛ كالذي حكاه الله عن أوليائه؛ أو عن بعض أوليائه في سورة الكهف. أصحاب الكهف من أولياء الله، وجرى لهم مما جرى لهم من خوارق العادات أنهم مكثوا في كهفهم مددًا طويلة دون أن يموتوا بقوا أحياء مع ما مضى عليهم من السنين ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ومع ذلك يقومون ويرد بعضهم إلى بعض {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (1) . وهذا خارق للعادة لو نام إنسان مدة طويلة هلك ومات؛ لأن جسمه يحتاج إلى الغذاء؛ ينفد وقوده وتنفد طاقته وتنفد، لكن هؤلاء مكثوا سنين، ومع ذلك بقوا أحياء {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} (2) يتقلبون وكلنا يعرف ما أجرى الله على يد الخضر على القول بأنه ولي لا نبي من الوقائع الثلاث التي استعظمها موسى: خرق السفينة، وقتل الصبي، وتقويم الجدار.   (1) - سورة الكهف آية: 19. (2) - سورة الكهف آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 كل ذلك من خوارق العادات التي أجراها الله على يدي عبده الخضر، فأهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء إجمالاً، لكن لا يثبتون إلا ما صح، فهم إنما يصدقون بما صح منه، لكن هم من أصولهم الإيمان والتصديق بما ثبت وبما صح من كرامات الأولياء، وهم بهذا يخالفون أهل البدع كالمعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء ينكرونها، والأخبار مستفيضة في هذا الشأن. وقد حكى الناس وحكى المؤرخون أمورًا كثيرة، ومنها ما يشاهد بين حين وآخر، وهي مستمرة، كرامات الأولياء يجريها الله على أيديهم، ولا تزال لم تزل، ولا تزال جارية من صدر هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، والله تعالى يجري كرامات الأولياء؛ تقوية لإيمان بعضهم وسدًا لحاجة بعضهم قد يقع العبد الصالح في ضرورة فيحدث الله له أمرًا خارقًا للعادة يكشف به ضرورته؛ فما صح من ذلك وثبت وجب الإيمان به وتصديقه، أما ما لم يثبت فإنه يتوقف فيه ما نقول بأن هذا فعلا وقع ما يحكى ولم يثبت عندنا نتوقف فيه نقول: جائز. فصل في صفات أهل السنة والجماعة فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ". ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدي كل أحد؛ ولهذا سُموا أهل الكتاب والسنة، وسُموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفُرْقَة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين وهم يَزِنُونَ بهذا الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة، أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشر في الأمة. كذلك من طريقة أهل السنة. ومن أصول أهل السنة اتباع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به ظاهرًا أو باطنًا واتباع آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهذا ما أمر الله به عباده، أمرهم باتباع الرسول {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) } (1) ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (3) . فهذه طريقتهم: اتباع آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- في قوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " فهم متبِعُون لسنة الرسول معظِّمُون لها مستمسِكُون بها، وكذلك سنة الخلفاء الراشدين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فما سَنَّهُ هؤلاء مما لم يخالفوا فيه لم يختلفوا ولم يُعَارَضُوا فيه، ولم يخالف دليلاً من الكتاب والسنة، فإنه كذلك مأمورون نحن باتباع هذه السنة، سنة الخلفاء الراشدين بوصيته -عليه الصلاة والسلام- " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ". فما سَنَّهُ أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي - رضي الله عنه - فهو سنة ماضية نحن مأمورون باتباعهم فيها، واتباعنا لهم بهذا هو من تحقيق اتباعنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأننا بذلك نعمل بوصيته.   (1) - سورة الأعراف آية: 158. (2) - سورة آل عمران آية: 31. (3) - سورة التوبة آية: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يقول الشيخ عن أهل السنة والجماعة: إنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس ويقدمونه، ويؤمنون بأنه أصدق الكلام، وأن هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير هدي، فيقدمون كلام الله على كلام غيره، وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هدي غيره؛ لذلك سُموا أهل الكتاب والسنة؛ لتقديمهم كتاب الله وسنة رسوله؛ لإيمانهم بأن القرآن هو أصدق الكلام، وأن هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو خير الهدي. كما جاء في خطبته -عليه الصلاة والسلام- إذ يقول: " إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها " لذلك سموا أهل الكتاب والسنة، هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم المستمسكون بهما؛ المُحكِّمُون لهما، الذين لا يقدمون عليهما معقولاً ولا ذوقًا، ولا استحسانًا، لا يقدمون عليهما. ويسمى أهل السنة أيضًا بأهل الجماعة، فهم أهل السنة والجماعة أهل الكتاب والسنة، وهم أهل السنة والجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع، وهم يجتمعون على الحق ويؤمنون بالاجتماع عملاً بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ويعملون بالإجماع، إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- يقول الشيخ: والإجماع هو الدليل الثالث. فأصول الأدلة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع. والإجماع في الحقيقة دليل تابع للكتاب والسنة، فهذه أصول الأدلة يقول الشيخ: فأهل السنة والجماعة يَزِنُونَ بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع، يَزِنُونَ بها كل ما عليه الناس وما يقوله الناس، وما يفعله الناس، يَزِنُونَ به أقوال الناس وأفعالهم وأحوالهم، مما له تعلق بالدين.   (1) - سورة آل عمران آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب أن توزن بها الأعمال والأقوال والأحوال والأخلاق، وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه: الاعتصام بحبل الله بدينه الذي بعث به رسوله، بكتابه الذي أنزله بالحكمة التي أنزلها على محمد - صلى الله عليه وسلم - الاتباع للسلف الصالح من الصحابة الذين أثنى الله عليهم وعلى المتبعين لهم والذين اتبعوهم بإحسان. فصل في بيان مكملات العقيدة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يتحلى بها أهل السنة فصل: ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه " وقوله - صلى الله عليه وسلم - " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". يقول الشيخ -رحمه الله- ويعقد هذا الفصل الذي يختم به هذه العقيدة يعقد هذا الفصل؛ لبيان منهج أهل السنة في معاملة الخلق في معاملة الناس وفي سلوكهم في أنفسهم ومع غيرهم، وكلهم مع هذه الأصول المتقدمة كلها من الأول: إيمانهم بالله وصفاته مما جاء في الكتاب والسنة على التفصيل المتقدم وغيره، إيمانهم باليوم الآخر بكل ما أخبر الله به في كتابه، وأخبر به رسوله. وإيمانهم بالقدر، وقولهم في الإيمان، وقولهم في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل المتقدم، وكذلك اعتمادهم في الاستدلال على الكتاب والسنة والإجماع، واقتفاء آثار السلف الصالح من الصحابة -رضي الله عنهم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، يعني: منهجهم ليس علميًا فقط وعقديًا فقط يعني: يعتقدون ذلك في أنفسهم ولا شأن لهم بالآخرين، لا، بل مع هذه الأصول العقدية هذه الأصول العظيمة القويمة يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ إذ هم مصلحون. يقول: على ما توجبه الشريعة لا على ما يوجبه الهوى والرأي المجرد، فالمعتزلة عندهم من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنهم يدخلون فيه الخروج على الأئمة، ومن الناس من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دون أن يتقيد بحدود الشريعة، فيفسد أكثر مما يصلح، كما تقدمت الإشارة إلى هذا قريبًا في الكلام على حديث بول الأعرابي في المسجد على ما توجبه الشريعة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الدين، والأدلة عليه كثيرة، نصوص من الكتاب والسنة، واجب عظيم، به قوام الدين، وقوام أمر المسلمين، وما حل بهم من فساد في دينهم ودنياهم إلا لتفريطهم في أنفسهم فيما أوجب الله عليهم، وتفريطهم في هذا الواجب: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. كما أن من طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يقيمون شرائع الإسلام الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد كلها يقيمونها مع الولاة مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا إذا كان القائد وأمير الحج فاجرًا لا يتركون الحج من أجل فجورهم، فليكن ما دام الحج حق فهم يتعاونون مع من كان بالحق. فكل من أمرهم بالخير أجابوا، فكل من قادهم بكتاب الله وسنة رسوله اتبعوه يقيمون الحج، خلافًا لأهل البدع كالروافض الذين يرون أنه لا حج ولا جهاد إلا مع إمام معصوم، والإمام المعصوم الذين يدعونه معدوم يقيمون الحج والجهاد والجمع والأعياد يقيمونها مع الأمراء لا يتركون الجمع والأعياد؛ لكون الإمام كافرا أو فاجرا لا يعطلونها؛ لا يعطلون شعائر الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كما أنهم يصلون الجماعات يحافظون على الجماعات: صلاة الجماعة، الجماعات: صلاة الجماعة التي استخف بها كثير من المسلمين، والنصوص من الكتاب والسنة الدالة على وجوبها، على عظيم فضلها كثيرة مشهورة مذكورة ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " المؤمن للمؤمن كالبينان يشد بعضه بعضًا " يعني: يؤمنون بالرابطة الإسلامية، هذه الرابطة التي قد وهنت في نفوس كثير من المسلمين. وهذه الرابطة تعني: الشعور بآلام وآمال المسلمين " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ". وجماع هذا قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) هذه الأخوة لها حق تقتضي المحبة والمواساة، والمشاركة في الآلام والآمال، وما يكون من اختلاف وطن يعني: المؤمنون إخوة، وإن اختلفت أوطانهم، وتباعدت، واختلفت أنسابهم فلا يجوز الولاء والبراء على أساس الأرض، والله هذا سعودي، هذا مصري، هذا يمني، لا، يجب أن يكون أساس الولاء هو الحب في الله والبغض في الله. والروابط الجاهلية الآن هي التي يُشَاد بها وتُذْكَر ويُنَوَّهُ عنها، ويتعلق بها الناس، ويتعاملون على أساسها التعامل بين أكثر الناس على أساس الروابط الجاهلية التراب الوطن، الوطنية، لا. العلاقة يجب أن تكون العلاقة التي يبنى عليها الولاء والبراء والحب والبغض هو الدين، فتحب المؤمنين ممن كانوا، وأين كانوا؟ وتبغض الكافرين ممن كانوا وأين كانوا؟ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) ولو كان أقرب قريب {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (3) الآية.   (1) - سورة الحجرات آية: 10. (2) - سورة المجادلة آية: 22. (3) - سورة المجادلة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا " ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وابن السبيل والرفق بالمملوك وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها. وهذه الجملة هي نوع تفصيل لما تقدم من أن طريقة أهل السنة الأمر بالمعروف أو أن من طريقتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمعروف اسم جامع لكل ما أمر الله به من الواجبات أو المستحبات فيأمرون بالواجبات على وجه الإلزام، ويأمرون بالمستحبات على وجه الندب والترغيب. فمن ذلك أنهم يأمرون بالصبر عند البلاء، يأمرون بالصبر على المصائب والأقدار المؤلمة؛ لأن هذا الذي أمر الله به، الله أمر عباده بالصبر {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) } (1) {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) } (2) الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء يأمرون بذلك {إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) } (3) . فالله أثنى على الصابرين والشاكرين في كتابه، أثنى على الصابرين والشاكرين، وهذا شأن المؤمن " عجبًا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له. إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ".   (1) - سورة الأنفال آية: 46. (2) - سورة آل عمران آية: 146. (3) - سورة إبراهيم آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 يأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى اليتامى والمساكين المستضعفين، يأمرون بالإحسان إلى المستضعفين، كما أمرهم الله بذلك {* وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) . فهم يأمرون بالإحسان إلى من أمر الله بالإحسان إليه، الإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمماليك، والرفق بالخدم. الخدم والعمال من جنس المماليك من حيث إنهم مُسْتَخْدَمُون، فيجب الرفق بهم والإحسان إليهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، وأداء حقوقهم، وقد كثر الخدم عند الناس، وكثيرًا ما يتعرضون للظلم ممن هم تحت ولايته وكفالته، فيجب الائتمار بالرفق بهم، والإحسان إليهم. فأهل السنة هذا من منهجهم، يأمرون بهذه الأوامر الشرعية، هذه الفضائل يأمرون بما أمر الله به وينهون عما نهى الله عنه، يأمرون بحسن الخلق يأمرون ويعتقدون معنى قول - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا " فهم يتخلقون بالأخلاق الفاضلة، ويأمرون بها غيرهم، يأمرون بحسن الخلق بالأخلاق الفاضلة التي منها ما تقدم يأمرون بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال. مكارم الأخلاق: الأخلاق الكريمة، والأعمال الحسنة الجليلة، ويأمرون بمعالي الأخلاق هذا قريب بالذي قبله يعني: بالأخلاق العالية، الأخلاق الكريمة عالية فاضلة وينهون عن سفسافها، ينهون عن رديء الأخلاق، يأمرون بالإحسان: بالجود بالصدقة ببذل المعروف، بطلاقة الوجه، بالسلام بعيادة المريض، يأمرون بهذه الأخلاق.   (1) - سورة النساء آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وينهون عن سفسافها عن رديء الأخلاق وحقيرها: عن البخل، عن الجبن ينهون عن الفخر والخيلاء، ينهون عن التفاخر والتعاظم قال -عليه الصلاة والسلام- " إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " فأهل السنة ينهون عن الفخر والخيلاء والبغي على الخلق، والاستطالة. البغي عليهم يعني: بظلمهم لأنفسهم أو أموالهم، والاعتداء عليهم في ذلك. والاستطالة يعني التطاول، والتعاظم على الخلق بحق أو بغير حق حتى إذا كان لك حق على فلان فلا تتطاول عليه، ولا تتسلط عليه، التطاول فيه تعاظم وتسلط بسبب أنك تزري عليه، وعن التطاول ينهون عن البغي، البغي بغير حق وعن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، نعم. وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه مُتَّبِعُونَ للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لكن لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته " ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " وفي حديث عنه أنه قال: " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المنثورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذي قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه الوهاب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يقول الشيخ: إن أهل السنة في كل ما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به هم فيه متبِعُون، متبِعُون للكتاب والسنة، يأمرون بما أمر الله به، وبما أمر به رسوله، وإنما ينهون عما نهى الله عنه ورسوله، فهم في كل ذلك متبعون، لا مبتدعون ولا متبعون لأهوائهم. يقول الشيخ: وطريقتهم -كما تقدمت الإشارة إلى هذا إجمالاً، هذا إجمال لما سبق إجمال تام- طريقتهم إذن هي دين الإسلام، طريقة أهل السنة والجماعة هي دين الإسلام الذي بعث الله بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام، هو الجامع لكل العقائد الصحيحة، والعلوم النافعة والأعمال الصالحة كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } (1) طريقتهم هي دين الإسلام، والمنتسبون للإسلام كثير. وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن هذه الأمة " ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار " كما صح بذلك الحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: " كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " وفي اللفظ المشهور " قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". فكل هذه الفرق تنتسب للإسلام، فمن الفرقة الناجية؟ الفرقة الناجية هي المستمسكة بالإسلام المحض الخالص، لما كان في الأمة الإسلامية فِرَقًا كثيرة، وفي هذا علم من أعلام نبوته -عليه الصلاة والسلام- فقد أخبر عن افتراقها، ووقع كما أخبر. يقول الشيخ: صار المتمسكون بالإسلام المحض، الإسلام الخالص الذي لم يخلط بالبدع الاعتقادية أو العملية، المتمسكون بالإسلام المحض هم أهل الكتاب والسنة، هم الفرقة الناجية المنصورة، المتمسكون بما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام- خالصًا عن الشرك، خالصًا عما وقعت فيه الفرقة المنحرفة، عن هذا الصراط هم أهل الكتاب والسنة.   (1) - سورة التوبة آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وهذه الفرقة هم درجات ليسوا على مرتبة واحدة، أهل السنة ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم على مراتب كثيرة، طبقات الأولياء إجمالاً طبقتان: الأولياء طبقتان: مقربون، وأصحاب يمين، أو سابقون، ومقتصدون. فالمقربون السابقون هم الذين فعلوا الفرائض، فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات. والمقتصدون نعم، هم الذين أدوا الواجبات واجتنبوا المحرمات، هؤلاء هم المقتصدون، أولياء الله هم طبقة مقربون وأبرار أو إن شئت قل: مقربون وأصحاب يمين، وهكذا جاء التعبير عنهم في القرآن اقرءوا قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) } (1) واقرءوا قول الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) } (2) إلى قوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) } (3) . فأهل السنة والجماعة هم على مراتب، فيهم الصديقون والشهداء والصالحون، الصديقون هم أعلى طبقات الأولياء بعد الأنبياء، هم أعلى طبقة بعد الأنبياء، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } (4) .   (1) - سورة الإنسان آية: 5-6. (2) - سورة المطففين آية: 22-23. (3) - سورة المطففين آية: 26-28. (4) - سورة النساء آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والصديق هو المبالغ في الصدق، أو هو كثير الصدق والتصديق، والصديق المطلق في هذه الأمة هو أبو بكر، هو صديق هذه الأمة؛ لكن هذا لا ينفي وصف الصديقية عن غيره، لكنه صار هذا الوصف عَلَمًا عليه، الصديق صديق الأمة أبو بكر الصديق، صار هذا الوصف ملازمًا له، وإلا فالصديقية ليست مقصورة. فيهم الصديقون والشهداء والصالحون، وفيهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى يعني: فيهم الأئمة الذين يُهْتَدَى بهم، يشبهون بالأعلام الجبال، والعلامات التي يهتدى بها، علامات الطريق، أعلام الهدى ومصابيح الدجى التي يستضاء بها في الظلام وفي حنادس الظلام. ففي أهل السنة أئمة الهدى، أئمة يهتدى بهم في علمهم وفي عملهم، على مراتب ففيهم: أئمة متبوعون وعباد صالحون تابعون، أئمة الهدى ومصابيح الدجى وفيهم، وفيهم. الصحابة سبق الحديث عنهم، وأنهم مفضلون تفضيلاً مطلقًا على من بعدهم، نعم، والتابعون لهم بعد ذلك هم أهل السنة والجماعة، الذين لزموا الأصول المتقدمة واقتفوا آثار الصحابة، واتبعوا آثار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فهؤلاء على مراتبهم، التابعون، وتابعوهم وتابعوهم إلى يوم القيامة. يقول الشيخ: وفيهم الأبدال، وهذا اللفظ ورد في بعض الأحاديث، ولكن ذكر شيخ الإسلام وغيره أنه لم يصح في الأبدال حديث، يعني: في عدد الأبدال، أما معنى الأبدال فهو واقع: فيهم الأبدال، ومعنى الأبدال: أقول لم يصح حديث ذكر شيخ الإسلام أنه لم يصح حديث في عدد الأبدال، في عددهم عددهم كذا. والأبدال المراد بهم العلماء والعُبَّاد، العلماء العاملون والعُبَّاد الصالحون، الذين يخلف بعضهم بعضًا، كلما مات عالم قام بدله، وكلما مات عابد خلفه من بعده، هؤلاء الأبدال، والله -سبحانه وتعالى- كما جاء في حديث " لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لا يزال فالصالحون والأئمة لا يزالون، وإن كان في آخر الزمان يقل العلم ويثبت الجهل، و " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من قلوب الرجال وإنما يقبض العلم أو يُقْبَض العلم بموت العلماء " ولكن هذا لا يعني أنه ينقطع وينصرم وإن قل، يقل العلم، فحجة الله قائمة على عباده إلى أن يأتي أمر الله -تبارك وتعالى-. ولهذا ينبه الشيخ إلى هذا المعنى بقوله: إن هذه الطائفة لا تزال كما أخبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فأهل السنة والجماعة المتمسكون بالإسلام المحض، وعندي أن مفهوم أهل السنة والجماعة أوسع من مفهوم الفرقة الناجية، فالفرقة الناجية المنصورة هم أهل السنة والجماعة، لكن في أهل السنة يعني: فيهم الظالمون لأنفسهم، وهم طبقات سابقون، ومقتصدون وفيهم الظالم لأنفسهم، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) . لكن المتمسكون بالإسلام المحض علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا، هم الفرقة الناجية المنصورة، التي أخبر بها الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأخبر أنها لا تزال في قوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق " لا تزال هذا يدل على الاستمرار. " لا تزال طائفة من أمتي على الحق " يعني: جنس هذه الطائفة لا يزال، وإلا فهي أجيال ينقرض بعضها، ويخلفهم آخرون " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " يعني حتى تقوم، وفي لفظ " حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ". والساعة هنا فسرت بقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان عند قرب قيام القيامة الكبرى، فإنه تعالى يرسل ريحًا فتقبض أرواح المؤمنين، فتخلو الأرض من الخير، ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.   (1) - سورة فاطر آية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فهذه الطائفة مستمرة إلى أن يأتي أمر الله -تبارك وتعالى- ويأتي الأجل الذي قدَّره الله لبقاء هذا الدين وبقاء حملته، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم بمَنِّه وكرمه من هذه الطائفة، وأن يثبتنا على دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على الحق، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله تعالى أن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله والحمد لله رب العالمين. نعم، هذا الذي يظهر لي؛ لأن مَن يَصْدُق عليه أنه من أهل السنة فيهم العصاة والظالمون لأنفسهم، وهذا لا يخرجهم لا يجعلهم من أهل البدع؛ لأن أهل السنة هذا الاسم يتناول من يسير على هذه الأصول؛ وأهل السنة على مراتب؛ هذا هو الذي يظهر لي؛ فالفرقة الناجية المنصورة لا ريب أن هؤلاء هم المستمسكون بالإسلام المحض؛ كما قال الشيخ مستمسكون بالإسلام المحض؛ وأهل السنة والجماعة يعني: بالمفهوم التام هم كذلك المتمسكون بالإسلام المحض علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا. لكن أهل السنة يدخل فيهم من يكون ظالمًا لنفسه ببعض المعاصي، ولو كان ارتكاب بعض المعاصي يخرج من هذا المفهوم لكان كثير ممن يُنْسَبون ويُعْرَفون بأهل السنة كثير منهم ليسوا من أهل السنة والجماعة. إذن ماذا يكونون؟ فعندي أن أهل السنة والجماعة اللفظ مع الفرقة الناجية والمنصورة، وما بينهما من الفرق كما بين الإسلام والإيمان على ما هو معروف أن الإسلام يعني أوسع دائرة هذا المعنى، الإسلام تجده يشمل يتناول مختلف القضايا، أوسع دائرة، فكل من كان على اعتقاد أهل السنة في التأصيل يعني: من حيث الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر. ويؤمن بأسماء الله وصفاته على ما تقدم، ويؤمن بالقدر على ما هو مقرر، وكذلك في الإيمان، وفي أصحاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وفي المسائل الخمس فهو من أهل السنة، نعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أسئلة س: هذا سائل يقول: عندما يتحدث المتحدث عن التفريق بين أهل السنة وبين من فارقهم من الفرق، يركز على موضوع الصفات فقط، فهل امتاز أهل السنة بتوحيد الأسماء والصفات فقط أم هناك فروق أخرى؟. ج- لا، في فروق أخرى، لكن قد يقتضي المقام أحيانًا الاقتصار على بعض الأصول، وإلا فأصول الإيمان كما لا يخفى، أصول الإيمان متعددة، والأصول التي يتميز بها أهل السنة عن غيرهم لا تختص بالصفات، فهناك موضوع الإيمان، مرتكبي الكبيرة، والموقف من الصحابة -رضي الله عنهم-. فالخوارج يعني هم مبتدعة، وليسوا من أهل السنة، وإن أثبت من أثبت منهم الصفات، وإن كان متأخرو الخوارج قد دخلت عليهم البدع الكلامية الأخرى، فالفرق الإسلامية في العهود المتأخرة ازدوجت وتداخلت على ما تقدم من أن أصول المعتزلة دخلت على مثلاً الرافضة والزيدية، وعلى غيرهم، فموضوع الفرق بين أهل السنة وغيرهم لا يقتصر على قضية الصفات، نعم. س: هذا يقول: فضيلة الشيخ هل يجوز إطلاق هذه الكلمة العصمة لله ولرسوله؟. ج- لا العصمة للرسول العصمة تقتضي عاصمًا ومعصومًا، والله تعالى هو الذي يعصم عباده، المعصوم من عصمه الله، فلا يقال: العصمة لله، ومن جرت على لسانه ربما أنه لم يلاحظ مدلولها. كثير من الأحيان تجري العبارة على لسان المتحدث خطأ أو الكاتب خطأ دون أن يعتقد مضمونها، فمن يعتقد أن الله له العصمة يعني: يعصمه غيره فهو ضال ملحد، الله معصوم يعصمه أحد؟ لا، لكن من جرت على لسانه من المتحدثين، ومن هو معروف بالاستقامة أو معروف بسلامة المنهج والمعتَقَد إنما يحصل هذا على سبيل الخطأ بسبب عدم الانتباه لمدلول الكلام. فنسأل الله أن يلطف بنا إنه على كل شيء قدير، نسأل الله أن يلطف بالأمة من هذه الفتن المدلهمة. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه أما بعد: فقد تقدم ذكر القاعدة التي يقوم عليها باب الأسماء والصفات وهي أنه تعالى موصوف بالنفي والإثبات، ونحن بصدد ذكر ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية من الشواهد الدالة على هذه القاعدة، فقد قال: قد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص، وفي آية الكرسي، وكذلك دخل في هذه القاعدة ما ذكره الله من أسمائه وصفاته في سائر آي القرآن، تقدم ذكر ما يتعلق بالعلم. وبعد ذلك أفاض الشيخ في ذكر الشواهد القرآنية المتضمنة لصفات الرب، فمن هذه الصفات: الرحمة، والمحبة، والإرادة، والرضا هذه أربع صفات، ذكر الشيخ في هذه الشواهد بعض أدلتها، فمن ذلك قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} (1) هذه آية من سورة النمل، وهي آية أيضا على الصحيح نزلت لافتتاح سائر السور، والدلالة على بداية السورة {بسم الله الرحمن الرحيم} (2) كذلك قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) قوله عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} (4) {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} (5) {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) } (6) .   (1) - سورة النمل آية: 30. (2) - سورة النمل آية: 30. (3) - سورة الأعراف آية: 156. (4) - سورة غافر آية: 7. (5) - سورة الكهف آية: 58. (6) - سورة يونس آية: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وهذا في القرآن كثير، ومن أدلة صفة المحبة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) } (1) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } (2) {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) } (3) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) } (4) . ومن الآيات الدالة على صفة الرضا قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (5) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (6) {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} (7) {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (8) وأما الإرادة فمن أدلتها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (9) وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (10) .   (1) - سورة التوبة آية: 4. (2) - سورة البقرة آية: 222. (3) - سورة الحجرات آية: 9. (4) - سورة الصف آية: 4. (5) - سورة المائدة آية: 119. (6) - سورة محمد آية: 28. (7) - سورة آل عمران آية: 162. (8) - سورة التوبة آية: 72. (9) - سورة البقرة آية: 185. (10) - سورة الأنعام آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وكذلك قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } (1) {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) } (2) ويتصل بهذا ذكر المشيئة {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) } (5) . وكذلك مما تضمنته الآيات التي أوردها الشيخ في هذا الموضع، الآيات الدالة على صفة القوة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) } (6) {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (7) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } (8) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (9) . فهذه جملة الصفات التي يجب الإيمان بها: القوة، والرحمة، والمحبة، والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات لله، كما أثبتها لنفسه في كتابه، مع الإيمان بأنها ليست مثل صفات المخلوقين، فليست قوته كقوة العباد، المخلوق يوصف بالقوة {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} (10) ويوصف بالرحمة ويوصف بالمحبة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (11) ويوصف بالرضى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (12) .   (1) - سورة هود آية: 107. (2) - سورة الحج آية: 16. (3) - سورة النحل آية: 93. (4) - سورة الرعد آية: 26. (5) - سورة الشورى آية: 49. (6) - سورة الحديد آية: 25. (7) - سورة الكهف آية: 39. (8) - سورة الذاريات آية: 58. (9) - سورة فصلت آية: 15. (10) - سورة الروم آية: 54. (11) - سورة المائدة آية: 54. (12) - سورة المائدة آية: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ويوصف بالإرادة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} (1) وليست إرادته كإرادة المخلوق، ولا حبه كحب المخلوق، ولا رضاه كرضاه، بل هذه الصفات تثبت له -تعالى- على ما يناسبه ويليق به، أهل السنة والجماعة يثبتونها على حقيقتها، يثبتون هذه الصفات لله على حقيقتها اللائقة به سبحانه، وخالفهم في ذلك المعطلة والمشبهة. فأما المشبهة فيثبتون هذه الصفات، ويجعلونها مثل صفات المخلوقين، يقول أحدهم: له سمع كسمعي، وبصر كبصري يعني: وحب كحبي، ورضا كرضاي ورحمة كرحمتي وهكذا. وأما المعطل فينفي حقائق هذه الصفات، فالجهمية مثلاً وكذلك المعتزلة ومن تبعهم لا يثبتون شيئا من هذه الصفات، لكن منهم من يفسرها، ومنهم من يمسك ويفوض معاني هذه النصوص، فأما الذين يفسرونها فيعرفون ويسمون أهل التأويل، فيفسرون الرحمة والمحبة ويفسرون مثلاً الرضا، بل والغضب وغير ذلك، يفسرونه بالإرادة، يفسرون هذه الصفات بالإرادة إرادة الثواب، أو إرادة الانتقام، فالرحمة والمحبة والرضا يفسرونها بإرادة الثواب. والغضب والسخط والمقت يفسرونه بإرادة العقاب، وهنا من تحريف الكلم عن مواضعه، بل الله -تعالى- رحيم برحمة، ويحب حقيقة، ويرضى حقيقة، ويغضب ويسخط حقيقة، ولكن كل ذلك بلا كيف، كل ذلك على ما يليق به ويناسبه ويختص به، هذا هو المنهج الذي عليه أهل السنة والجماعة. فمذهب أهل السنة والجماعة في باب الصفات يقوم على ثلاثة أصول: الإثبات: إثبات ما أخبر الله -تعالى- به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله، ونفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية، ونفي العلم بالكيفية، هذه أصول مستمرة في جميع ما جاء في النصوص.   (1) - سورة الأنفال آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ويناسب هنا أن أنبه إلى أن الإرادة المضافة لله، الإرادة التي تضاف لله نوعان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فأما الإرادة الكونية فهي بمعنى المشيئة، ولا تستلزم المحبة، ليس كل ما شاءه الله وأراده من الإرادة الكونية يكون محبوبا له. والإرادة الأخرى، النوع الثاني الإرادة الشرعية وهي تتضمن المحبة، إذن الإرادة نوعان: إرادة كونية وإرادة شرعية، فمن شواهد الإرادة الكونية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (1) إرادة كونية. ومنها ومن شواهد الإرادة الشرعية قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (3) . ويفرق العلماء بين الإرادتين من وجوه: أولاً: أن الإرادة الكونية عامة، فجميع الوجود مراد لله، وواقع بمشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فليس في الوجود، لا يقع في الوجود إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ولا يكون إلا ما يريد أبداً، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالذي وقع نقول فيه: شاءه الله، وما لم يقع ما ندري عنه. نقول: إن شاء الله يعني: ما فعلته اليوم، أو أمس هل شاءه الله؟ . نعم شاءه، لكن ما تنوي فعله غداً ما ندري عنه، فإن وقع علمنا أن الله قد شاءه، وإذا لم يقع علمنا أن الله لم يشأه.   (1) - سورة الأنعام آية: 125. (2) - سورة البقرة آية: 185. (3) - سورة النساء آية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عامة الإرادة الكونية عامة بمعنى المشيئة عامة، تشمل كل ما في الوجود، من خير وشر، كله بمشيئته سبحانه وتعالى، وهذا يرجع إلى كمال ملكه، إلى كمال الملك، فله الملك كله، فكل ما في الوجود فإنه واقع بمشيئته وقدرته تعالى، أما الإرادة الشرعية فليست عامة، بل هي مختصة بما يحبه الله، بما يحبه الله، فالله يريد من عباده الإيمان والطاعة، إذا كان يريد من عباده الإيمان والطاعة، فهذا معناه الإرادة الشرعية. وهذه الإرادة تتضمن المحبة، فالله يحب الإيمان والمؤمنين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، يريد من عباده الأعمال الصالحة، ويحبها الله، يحب التقوى والتوبة " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته … " الحديث. فهذان فرقان الأول: أن هذه عامة، والإرادة الشرعية خاصة هنا فرق هذا واحد. الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مُرَادُها يعني: لا بد أن يقع ما أراده الله، فلا بد أن يقع لا بد؛ لأنه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ما شاء الله كان، وأما الإرادة الكونية فقد يقع المراد، وقد لا يقع، فليس كل ما أراده الله كونه يعني: شرعا يكون. فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن، فإيمان المؤمن مراد لله كونا وشرعا، وتنفرد الإرادة الكونية بكفر الكافر، فكفر الكافر ومعصية العاصي أليست واقعة بمشيئة الله؟ وقع شيء من ذلك قهرا على الله؟ لا، فتستقل به الإرادة الكونية والمشيئة. وأما الإرادة الشرعية فتنفرد بإيمان الكافر؛ لأنه ما وقع، لكن الله أراده منه وأمره ودعاه إلى الإيمان؛ فهذا مما بينه أهل العلم للفرق بين الإرادتين، الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فإذا رأينا مثلاً شيئا من الحوادث العامة، يعني رأينا شيئا من المخلوقات نقول: هذا واقع بقدر الله بمشيئته -سبحانه وتعالى- وإرادته يعني: الإرادة الكونية، لكن إذا العبد صلى وأطاع ربه فصلاته واقعة بالإرادتين، وإذا لم يصل عصى، ولم يصل فهو مأمور بالصلاة، والله يريد منه الصلاة، الإرادة الكونية، ولكنه لم يفعل، والله أحكم الحاكمين، وبهذا يعلم أن الله قد يشاء ما لا يحب، ككفر الكافر، ويحب ما لا يشاء كإيمان الكافر، الذي لم يحصل. فعلى كل حال ينبغي الفرق بين الإرادتين، فالمسلمون الآن يعلمون هذا ولله الحمد بفطرتهم، وبما علموه من كتاب الله، وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فإذا رأوا أيَّ أمر قالوا: هذا بقدر الله، وبمشيئة الله وبإرادته، يعلمون أنه لا يكون إلا ما يشاء، ويقولون: إنه تعالى يحب من عباده الإيمان والطاعة، هذه أمور محبوبة له سبحانه وتعالى، فليس كل ما في الوجود محبوبا له كما تقول الجهمية والجبرية، وليس شيء من الوجود خارجا عن الإرادة كما تقول القدرية. القدرية ينفون عموم المشيئة، ويخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله، هؤلاء " القدرية مجوس هذه الأمة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ومن الصفات التي ذكر الشيخ لها، ذكر أدلتها أو بعض أدلتها: الوجه لله تعالى، واليدان، والعينان قال سبحانه وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (1) وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) قال سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (3) وقال: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4) وقال سبحانه وتعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (5) و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (6) وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} (7) وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (8) {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (9) . فهذه ثلاث صفات لله تعالى، يجب إثباتها له على المنهج المعروف، على منهج أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات لله على ما يليق به مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، فيؤمنون بأن له وجها، موصوفا بالجلال والإكرام، وأن له عينين تليقان به، وأن له يدين يفعل بهما، يبسطهما ويقبضهما كيف يشاء، خلق بهما آدم {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (10) . ولا يكيفون شيئا من ذلك، لا يكيفون ولا يسألون عنه بكيف، كيف يد الرب؟ كيف عينيه تعالى؟ لا هذا منكر، بل يثبتون ذلك، يؤمنون بهذه الصفات لله مع العلم بأنها لا تماثل صفات المخلوقين، ولا يعلم العباد حقيقتها وكنهها وكيفيتها، فيجب الإيمان بذلك على ما يليق به سبحانه وتعالى إثباتاً بلا تشبيه، ولا تكييف.   (1) - سورة الرحمن آية: 27. (2) - سورة القصص آية: 88. (3) - سورة المائدة آية: 64. (4) - سورة ص آية: 75. (5) - سورة الملك آية: 1. (6) - سورة آل عمران آية: 26. (7) - سورة يس آية: 71. (8) - سورة القمر آية: 14. (9) - سورة الطور آية: 48. (10) - سورة ص آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وأما المعطلة فينفون حقائق هذه الصفات، ويحرِّفون النصوص، لا يثبتون لله وجها، ولا يدين ولا شيئا، نسأل الله العافية، يؤولون الوجه بكذا بالذات، أو بالثواب، ويؤولون يعني العينين بمجرد الرؤية، ويؤولون اليدين بالقدرة والقوة، أو النعمة، يحرفون هذه النصوص، فينفون حقائق هذه الصفات. ويفسرون النصوص بتفسير يخالف ظاهرها، وهذا هو التحريف من غير حجة كما تقدم أن التحريف: صرف اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر بغير حجة صحيحة. ومن الصفات التي أورد الشيخ شواهد لها المكر، والكيد، والمقت والغضب، وكلها {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} (1) {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (2) قوله سبحانه وتعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} (3) والسبيل واحد، فالله -تعالى- يمكر بأعدائه، بالمنافقين وبالكافرين يمكر بهم جزاء وفاقا، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } (4) {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) } (5) . قال تعالى في الكفار: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) } (6) {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) } (7) والكيد والمكر معناهما متقارب، الله يمكر بأعدائه وهو خير الماكرين، لأن مكره تعالى عدل وجزاء على مكر المنافقين والكافرين، فكما يمكر المنافقون بالمؤمنين ويخادعون الله، فهو تعالى يخدعهم، كما يمكرون بالمؤمنين فيظهرون الإيمان وما هم بمؤمنين، الله تعالى يمكر بهم ويستدرجهم.   (1) - سورة الأنفال آية: 30. (2) - سورة غافر آية: 10. (3) - سورة الفتح آية: 6. (4) - سورة الأنفال آية: 30. (5) - سورة النمل آية: 50. (6) - سورة الطارق آية: 15. (7) - سورة الطارق آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ومن استدراجه تعالى بهم، ومكره بهم أنه يفتح عليهم أبواب الخير، ويعطيهم مما يحبون من شهوات الدنيا، وقد أعد لهم العقاب {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (1) فهذا من صور الاستدراج. ومن صور المكر {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (2) قال - صلى الله عليه وسلم - " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " يملي الإملاء هذا من المكر، أعوذ بالله، نعوذ بالله من مكر الله، والمقت هو أشد الجور {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (3) فهو تعالى يمقت الكافرين، يبغضهم أشد البغض؛ لأنهم أعداؤه وأعداء رسله، كفروا به وجحدوا آياته، جحدوا الآيات، وكذَّبوا الرسل، فعاقبهم الله بالمكر واستدراجهم وكيدهم. ومن الصفات كذلك التي أورد الله لها شواهد من القرآن، يمكن مثل العزة، قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) } (4) وقال عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) } (5) فهو تعالى موصوف بالعزة، ومن أسمائه العزيز {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) } (6) وفي مواضع كثيرة، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) } (7) فهو موصوف بالعزة والرحمة.   (1) - سورة الأنعام آية: 44. (2) - سورة آل عمران آية: 178. (3) - سورة غافر آية: 10. (4) - سورة الصافات آية: 180. (5) - سورة ص آية: 82. (6) - سورة إبراهيم آية: 4. (7) - سورة الدخان آية: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 كذلك لعله فات بعض يعني الصفات مثل السمع والبصر {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (1) {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} (2) أيضا هذه أوردها الشيخ بعدُ أيضا {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } (3) فهذه تمام الصفات العزة والسمع والبصر. ومن أسمائه العزيز السميع البصير فهو العزيز، وهو البصير، وهو السميع، وكل اسم متضمن لصفة، من القواعد المقررة في باب الأسماء والصفات أن كل اسم متضمن لصفة، فهو العزيز والعزة صفته، وهو السميع والسمع صفته، وهو البصير والبصر صفته، ونطق القرآن بذكر العزة كما في الآيتين المذكورتين، وجاء عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " سبحان من وسع سمعه الأصوات ". والبصر جاء ذكره في حديث أبي موسى: " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " فله العزة، والعزة لها دلالات ومنها: القوة، والغلبة، والتفرد بالكمال، فهو العزيز الذي لا نظير له، وهو القوي سبحانه وتعالى الذي لا غالب له، فهذه أيضا جملة من الصفات التي جاء ذكرها في القرآن، فهو تعالى عزيز، والعزة صفته: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4) قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (5) .   (1) - سورة النساء آية: 58. (2) - سورة المجادلة آية: 1. (3) - سورة المجادلة آية: 1. (4) - سورة المنافقون آية: 8. (5) - سورة فاطر آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والقول في هذه الصفات كلها المتقدمة كالقول فيما سبق، أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات، ويؤمنون بأنها لا تماثل صفات المخلوقين، المخلوق يوصف بالعزة، ويوصف بالسمع ويوصف بالبصر، ويوصف بكل هذه الصفات لكن على ما يليق به ويختص به، فليس مَكْرُهُ تعالى كمكر العباد، ولا كيده ككيدهم، ولا ولا ولا … كما قلنا فيما تقدم، وليس سمعه كسمع المخلوق، ولا بصره كبصره، وتعالى وتقدس، بل صفة الخالق تليق به وتختص به، وصفة المخلوق تناسبه وتختص به، صفات المخلوق مخلوقة، صفات المخلوق حادثة، صفات المخلوق قابلة للزوال، صفات المخلوق ناقصة، أما صفات الخالق فليست كصفات المخلوق لا يلحقها نقص ليست مخلوقة، فصفات الخالق ليست مخلوقة، فيجب الفرق بين هذا وهذا، بين اسم العزيز والسميع والبصير، وسائر الأسماء، وسائر الصفات المضافة لله، وسائر الأسماء والصفات المضافة للعباد المخلوقة لله فيه {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } (1) . قال في المخلوق: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } (2) وقال في شأنه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (3) {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) } (4) {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (5) فليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. وهكذا يقال في سائر الأسماء: ليس العزيز كالعزيز، ولا الرحيم كالرحيم، كما نقول في سائر الصفات: ليست محبته كمحبة المخلوق، ولا مشيئته كمشيئة المخلوق، مشيئة المخلوق محدودة، المخلوق قد يشاء ما لا يكون، وقد يكون ما لا يشاء، وهذا شأن المخلوق، والمخلوق مشيئته مرتبطة بمشيئة الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (6) .   (1) - سورة الإنسان آية: 2. (2) - سورة الإنسان آية: 2. (3) - سورة النساء آية: 58. (4) - سورة النساء آية: 134. (5) - سورة الشورى آية: 11. (6) - سورة الإنسان آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أما مشيئة الخالق فما شاء كان ولا بد، وما لم يشأ فإنه لا يكون، ومشيئته ليست تابعة لمشيئة أحد من الخلق، ومن الصفات التي أورد الشيخ لها شواهد -قد يفوتني بعضها لكنني حسب ما أتذكر من هذه الصفات- صفة العلو، وصفة الاستواء. صفة العلو، فالله تعالى موصوف بالعلو على جميع خلقه، وموصوف بالاستواء على العرش، أما الاستواء على العرش فقد ذكره الله في سبعة مواضع من القرآن، والشيخ أورد هذه الآيات عندكم كلها، السبع الآيات كلها، سردها في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، والم تنزيل السجدة، وسورة الحديد، في جميعها ذكر استواء الله على العرش. وأما العلو فأدلته كثيرة جدا {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (1) في مواضع {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5) وأدلة الاستواء على العرش هي من أدلة العلو على الخلق.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة فاطر آية: 10. (3) - سورة النساء آية: 158. (4) - سورة الأنعام آية: 18. (5) - سورة الملك آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قال العلماء: إن أدلة العلو أنواع كثيرة أنواع: منها التصريح بعلوه تعالى على خلقه {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (1) ومنها التصريح بالفوقية المطلقة، ومنها التصريح بالفوقية المقيدة بمن {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (2) ومنها التصريح بأنه في السماء، ومنها التصريح بأنه مستو على العرش، ومنها التصريح برفع بعض المخلوقات إليه {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) ومنها التصريح بعروج بعض المخلوقات إليه {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} (4) . وأهل السنة والجماعة يثبتون هاتين الصفتين له تعالى، فيثبتون أنه العلي الأعلى، أنه فوق عباده بذاته فوق جميع المخلوقات، ويثبتون بأنه بذاته فوق العرش مستو على العرش، استواء يليق به ليس كاستواء المخلوق على ظهور الفلك والأنعام، كما قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (5) وقال: {عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ} (6) . لا ليس استواؤه كاستواء المخلوق، استواؤه على العرش مع كمال غناه عن العرش ليس معتمدا على العرش، وليس محتاجا إلى العرش، وهو العلي، والعلو والفوقية يقسمه العلماء ثلاثة أنواع: علو القدر وعلو القهر، وعلو الذات، والخلاف بين أهل السنة والمعطلة في علو الذات.   (1) - سورة البقرة آية: 255. (2) - سورة النحل آية: 50. (3) - سورة النساء آية: 158. (4) - سورة المعارج آية: 4. (5) - سورة الزخرف آية: 13. (6) - سورة هود آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فالجهمية والمعتزلة ينفون علوه تعالى بذاته فوق المخلوقات، وينفون حقيقة الاستواء، ويفسرون ويحرفون النصوص الدالة على هذه الصفات، يحرفونها فطريقتهم في النصوص التحريف، فلما أصَّلوا نفي الصفات احتاجوا إلى تحريف النصوص وصرفها عن مواضعها، فيفسرون العلو والفوقية بعلو القدر وفوقية القدر، وفوقية القهر، وعلو القهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) يعني: فوقهم بعلو القدر يعني: أنه أفضل منهم بس؟ كقولك: الذهب فوق الفضة، يعني أنه أفضل بس؟ لا، إنه فوق العباد بذاته. إذن ماذا يقولون في ذات الرب؟ يقولون: إنه في كل مكان حَالٌّ في المخلوقات، وهذا ضلال بعيد، في كل مكان، رد عليهم أهل السنة والجماعة، وقالوا: هذا يقتضي أنه في كل مكان في الأماكن المستقذرة وفي وفي كذا، فنفوا عن الله الكمال، ووصفوه بالنقص، المعطلة نفوا عن الله الكمال ووصفوه بالنقص، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وفسروا الاستواء بالاستيلاء، فقالوا: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) يعني: استولى على العرش، قال أهل السنة: هذا يقتضي أنه كان مغلوبا، وأن العرش لم يكن ملكا لا ثم استولى عليه، وهذا ظاهر الفساد، بل معنى استوى على العرش أنه علا فوق العرش، وارتفع عليه سبحانه وتعالى، هذا هو معنى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) علا عليه وارتفع عليه سبحانه وتعالى. والاستواء صفة تتعلق بالعرش خاصة، فلا يقال: الله مستو يعني على كذا، على السماء جاء في القرآن {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (4) لا الاستواء صرحت النصوص في الاستواء، يقال: الله تعالى استوى ومستو على العرش، كما جاء ذلك في سبعة مواضع من القرآن.   (1) - سورة الأنعام آية: 18. (2) - سورة الأعراف آية: 54. (3) - سورة الأعراف آية: 54. (4) - سورة البقرة آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وأما العلو فإنه عام، يقال: الله فوق عباده، فوق كل شيء، فوق السماوات هكذا، والشيخ قد أورد في هذا الموضوع آيات كثيرة مما يدل على هاتين الصفتين، صفة العلو وصفة الاستواء، وفي هذا الموضع أشير إلى أن من الصفات ما تواردت عليها جميع الأدلة، مثل صفة العلو، فقد تواردت عليها أدلة الكتاب والسنة، والإجماع، والعقل والفطرة، كلها تدل على علوه تعالى على خلقه، فطريق العلم بصفة الاستواء العقل، والسمع، العقل والسمع. وأما الاستواء على العرش، فطريق العلم به السمع فقط النصوص، يعني الاستواء على العرش ثبت بأي شيء؟ تثبت بالنصوص، وأما العلو فهو ثابت بالسمع يعني بالنصوص بالكتاب والسنة، وكذلك الإجماع إجماع سلف الأمة، وكذلك الفطرة فالله فطر عباده على التوجه إلى العلو، أي إنسان يقع في ضرورة أين يتوجه؟ يمين شمال، تحت؟ لا، يتوجه إلى العلو، فطرة جاذبية يعني: انجذاب إلى العلو على الفطرة، فهذا مما ذكره العلماء في هذا الموضع. أهل السنة والجماعة يثبتون هاتين الصفتين له سبحانه وتعالى، على ما يليق به يناسبه، فيؤمنون بأنه العلي الأعلى، فهو فوق جميع مخلوقاته، وهو تعالى مستو على العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، هو فوق جميع المخلوقات، وعلمه في كل مكان، علمه محيط بكل شيء {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (1) . ويأتي الكلام على صفة المعية؛ لأن بينها وبين صفة العلو بينهما تناسبا، صفة المعية وتقسيم العلماء لها، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.   (1) - سورة المجادلة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أسئلة س: ما المقصود بالتفويض وما مداه؟. ج: التفويض مسلك لبعض نفاة الصفات وغيرهم أيضا، فكل من ذهب مذهبا، ووجد في النصوص ما يخالف مذهبه، فقد يتخذ التفويض منهجا له، تفويض الباطل، وهو أن هذه النصوص ليس لها معنى مفهوم، فمثلا نفاة الصفات كالاستواء على العرش، أو المحبة، أو الرضا، أو الرحمة، أو نفاة صفة الوجه، أو اليدين والعينين قد لا يفسرون هذه النصوص. قد يقولون: الله أعلم بمراده، هذه النصوص تقرأ ألفاظا من غير فهم لمعناها، لا تدل على شيء، ولا يفهم منها شيء، العباد عليهم أن يقرءوها حروفا ألفاظا بدون تدبر، لا يتدبرونها؛ لأنها لا تُفْهَم، ومذهب هؤلاء يعرف بتعبير آخر وهو التجهيل، أهل التفويض هؤلاء يعرفون أيضا عند أهل السنة بأهل التجهيل؛ لأن مذهبهم يتضمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ومن تبعهم بإحسان لا يعرفون معاني هذه النصوص. التجهيل نسبة الرسول والصحابة ومن بعدهم إلى الجهل بكلام الله، بل نسبة الرسول إلى الجهل بالكلام الذي يتكلم به، يقول: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " وهو ما يدري أيش معنى ينزل، وبهذا يعلم أن مذهب التفويض بهذا التصوير مذهب باطل، فهو مذهب لبعض نفاة الصفات مثلاً، يعني نفاة الصفات منهم من ينتحل التأويل، يفسر النصوص بخلاف ظاهرها كما تقدم. ومنهم من يلجأ إلى التفويض وهو أيضا مذهب باطل؛ لأنه يقوم على نفي الصفات، ويتضمن تجهيل الرسول، نسبة الرسول والصحابة والتابعين له بإحسان إلى الجهل بكلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- وهذا ضلال بعيد، نعم. س: ما وجه تشبيه القدرية بمجوس هذه الأمة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ج: وجهه أن المجوس يثبتون خالقَيْن، خالق الخير وخالق الشر، والقدرية أثبتوا خالقين، فقالوا: الله خالق السماوات والأرض وخالق العباد، والعباد خالقون لأفعالهم، إذن أفعالهم من قعود وقيام وذهاب ومجيء وركوع وسجود، وسائر الحركات هذه ليست مخلوقة لله، ولا واقعة بمشيئه، ولا بقدرته، فالعبد هو الذي يفعل هذه الأفعال بمحض مشيئته، وبمحض قدرته، فالله تعالى لا يقدر أن يجعل الكافر مؤمنا، أو المؤمن كافرا، ولا يجعل المطيع عاصيا أو العاصي مطيعا، ولا يجعل القاعد قائما، والقائم قاعداً أبدا، فيخرجون أفعال العباد عن قدرة الله -تعالى- ومشيئته، ويقولون: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، فشابهوا المجوس من هذه الحيثية، نعم. س: ما هو الفرق بين الجبرية والقدرية؟ . ج: الجبرية والقدرية ضدان، القدرية يقولون: إن العبد يخلق أفعاله ويتصرف بمحض مشيئته، ولا علاقة لمشيئة الله، ولا علاقة لقدرة الله بأفعاله، هؤلاء هم القدرية النفاة. أما الجبرية فيقولون: إن العبد لا مشيئة له، ولا قدرة له فحركاته وقيامه وقعوده كلها بمشيئة الله وبقدرة الله، ولا مشيئة للعبد ولا قدرة للعبد، فحركة الإنسان ذهابا ومجيئا وقياما وقعودا وصعودا وهبوطا، كل ذلك بغير مشيئة ولا اختيار، إنكار للحس. فأفعال المخلوق، أفعال العبد كحركة المرتعش مثل المصاب بالرعشه بيده، المرتعش له إرادة في هز يده؟ لا، لكن أنت إذ هززت يدك تتكلم تقول: اسمعوا هذه حركة إرادية ولا ما إرادية؟ هذه إرادية، وحركة المرتعش لا إرادية، وحركة النائم لا إرادية، فالجبرية يقولون: الإنسان مجبور على أفعاله؛ إذ ليس له فيها إرادة، ما له إرادة، وهذا باطل شرعا وعقلا وحسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهذا يقتضي أن الإنسان إذا فعل فعلاً لا يلام؛ ولهذا يرد عليهم أهل السنة يقولون: يعني إذا صح لكم هذا فإذا اعتدى أحد عليكم فماذا تفعلون به؟ إذا قلتم: إن الإنسان مجبور، واحتججتم بالقدر على المعاصي التي تفعلونها فإذا اعتدى شخص على واحد منهم بالضرب والأذى، هل يقبل منه أن يقول: هذا بقدر، وأنا غير مختار، أنا ما بإرادتي، هل يقبل هذا منه؟ ما يمكن. ما تستقيم ومذهبهم باطل لا يستقيم عليه أمر الدنيا ولا الآخرة، والجبرية يسمون المشركية؛ لأنهم يشبهون الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} (1) وكل من قال، كل من احتج بالقدر على المعاصي فهو يجنح إلى الجبر، السارق إذا جاء وأخذناه وقلنا له: لِمَ تسرق؟ قال: هذا قدري، هذا ما هو بإرادتي، هذا قدر، هل نقبل منه ذلك؟ القائل نقبل مه أن يحتج بالقدر؟ ويقول: أنا مجبور، لا، بل نقتل القاتل عمدا، ونقطع يد السارق. كما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه احتج عليه سارق بالقدر، فقال: إنما سرقت بقدر الله. قال: ونحن نقطع يدك بقدر الله. نعم. س: هل أدلة إثبات الاستواء على العرش هي أدلة أو تصلح أدلة لصفة العلو؟. ج: إي والله، أجل؛ لأن العرش هو أعلى المخلوقات، والله تعالى فوق العرش، نعم نص العلماء، وأنا ذكرت هذا، قلت: إن من أنواع أدلة العلو التصريح باستوائه تعالى على العرش، نعم. س: فضيلة الشيخ ما معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) ؟ .   (1) - سورة الأنعام آية: 148. (2) - سورة القصص آية: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ج: كل شيء هالك إلا وجهه يعني: من أهل العلم من قال: إن المراد هلاك المخلوقات وفناء المخلوقات بالموت، وتغير هذه العوالم السماوات والأرض كالملائكة والجن والإنس كلهم سيموتون، ويبقى الرب تعالى هو الحي الذي لا يموت، يعني من الناس من قال: إن المراد هلاك كل حي، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (1) فكل حي يموت إلا الحي القيوم، الحي الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (2) . ومنهم من استدل بها أيضا على أن كل عمل باطل إلا ما أريد به وجه الله، وهذا معنى أيضا تتضمنه الآية، معنى صحيح، فكل من المعينين يعني حق، فكل حي يموت إلا الحي القيوم الذي لا يموت، وكل عمل فإنه باطل إلا ما أريد به وجهه، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) وفي الآية إثبات الوجه له سبحانه وتعالى، نعم. س: فضيلة الشيخ وفقكم الله، لقد ذكرتم أن كل اسم من أسماء الله مرتبط بصفة، فهل هذا لكل اسم من الأسماء مثل اسم الله؟. ج: أي نعم كذلك الله. الله معناه الإله فهو الاسم الذي يدل على صفة الإلهية، أنه الإله المعبود المستحق لعبادة، الله معناه ذو الألوهية، ذو الألوهية كما جاء عن ابن عباس، نعم. س: وهذا يسأل عن كروية الأرض؟. ج: الأرض كروية بمعنى أنها مستديرة، لو ذهبت إلى جهة المغرب، وقدر لك أن تسير على خط مستقيم رجعت إلى النقطة التي بدأت منها، هذه صحيحة، ونص عليها العلماء، كما ذكر شيخ الإسلام، ونقل في ذلك الإجماع، لكن المنكر هو القول بأنها تدور، أما القول بأنها كروية فهذا صحيح.   (1) - سورة آل عمران آية: 185. (2) - سورة الفرقان آية: 58. (3) - سورة القصص آية: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 س: حول هذا يا شيخ، حول استدارة الأرض يقول: ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في استدارة الأرض، وهل هذا منافي للعقيدة السليمة؛ لأن بعضهم قال: إذا أشرت إلى السماء مثلا في مكان ما، فهذا معاكس لمن يشير السماء في النقطة المقابلة؟ . ج: هذا أمر العالم، وشأن الرب -سبحانه وتعالى- العالم كله في جانب عظمة الرب في غاية من الصفر، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) والذي يحب يقرأ في هذه المسألة يقرأ الرسالة العرشية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه سئل هذا السؤال وكتب فيه الرسالة المعروفة بالعرشية أو المعروفة بعرش الرحمن، والناس يتصورون أن من كان في الجهة الأخرى من الأرض أنهم تحتنا لا هم فوق الأرض، فالجسم الكروي -هكذا يقول العلماء- الجسم الكروي ليس له إلا جهتان: علو وسفل، فالسطح هو العلو، والمركز الوسط هو السفل وهذا لا يتحمل أكثر من هذه الإشارة. كنا انتهينا بالأمس إلى ذكر صفة العلو والاستواء، وقلت: إنه يتصل بهذا الكلام في صفة المعية، فالمعية لله -تعالى- قد جاءت فيها آيات كثيرة، منها قوله -سبحانه وتعالى- {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) قال سبحانه وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (3) .   (1) - سورة الزمر آية: 67. (2) - سورة الحديد آية: 4. (3) - سورة المجادلة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (1) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } (2) وقال عن نبيه: إنه قال: {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (3) {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (4) . فأفادت هذه الآيات إثبات المعية لله، والمعية قال العلماء: إنها نوعان يعني: معية عامة، ومعية خاصة، فأما المعية العامة فهي المذكورة في آيتي الحديد والمجادلة {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (5) {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) . ومعية خاصة، وهي معيته تعالى لأوليائه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (7) {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (8) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) } (9) في مواضع، قال العلماء: والفرق بين المعيتين أن المعية العامة تقتضي العلم؛ ولهذا يقول بعضهم معهم بعمله، تقتضي العلم، ويدل لهذا أنها وردت مقرونة بالعلم {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (10) .   (1) - سورة النحل آية: 128. (2) - سورة البقرة آية: 153. (3) - سورة التوبة آية: 40. (4) - سورة التوبة آية: 40. (5) - سورة الحديد آية: 4. (6) - سورة الحديد آية: 4. (7) - سورة النحل آية: 128. (8) - سورة التوبة آية: 40. (9) - سورة البقرة آية: 153. (10) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وفي الآية الأخرى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (1) فبدأ هذه الآية بالعلم وختمها بالعلم، وهي في الحقيقة معيته تعالى لعباده تقتضي علمه بهم، وسمعه لأصواتهم.ورؤيته لأعمالهم، وحركاتهم وسكناتهم فهو معهم، لا تخفى عليه من أمرهم خافية، وهو فوق العرش كما جاء في الحديث الآخر، والله فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه، ونفاة العلو أخذوا من أدلة المعية شبهة لهم، اتخذوها شبهة، وقالوا معهم. هذا يدل على أنه، الله في كل مكان {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) قالوا: هذا يدل على أن الله في كل مكان، وهذا من الفهم الخاطئ، وسوء الفهم عن الله وعن رسوله، فنفوا علو الله على خلقه، ونفوا معيته الحقيقية، المعية الحقيقية نفوها، وأثبتوا له معية هو منزه عنها، قالوا: إنه -تعالى- في كل مكان حال في كل مكان، وسأعود إلى الكلام في المعية العامة.   (1) - سورة المجادلة آية: 7. (2) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وأما المعية الخاصة، فإنها تتضمن النصر والتأييد والحفظ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (1) هو معهم -سبحانه وتعالى- يحفظهم، ينصرهم، يؤيدهم، فلهم معية خاصة، أولياؤه هو معهم معية خاصة، ومن ذلك قوله -تعالى- لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) والمعية الخاصة تتضمن مع ما تتضمنه المعية العامة وزيادة، يعني: تتضمن العلم والسمع والبصر، وتتضمن -أيضا- أو تقتضي الحفظ والتأييد والنصر، فقوله -تعالى- {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (3) يسمع ما يقولان، وما يقال لهما، ويرى أعمال الفريقين {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (4) وفي هذا تثبيت لموسى وهارون، تثبيت لهما، فإذا علما أن الله معهما لن يخافا من الطاغية فرعون؛ لأن الله قال لهما ذلك لما قالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (5) . وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبى بكر لما قال له: والله لو نظروا إلى أقدامهم لأبصرونا، يعني: الطلب لما كانا في الغار مختفيين، وجاء الطلب عند باب الغار أعمى أبصارهم وصرفهم وقال أبو بكر: لو نظروا إلى أقدامهم لأبصرونا، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وقال له ما قال سبحانه ما قاله -سبحانه وتعالى- عن نبيه: {لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (6) .   (1) - سورة النحل آية: 128. (2) - سورة طه آية: 46. (3) - سورة طه آية: 46. (4) - سورة طه آية: 46. (5) - سورة طه آية: 45-46. (6) - سورة التوبة آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فهو معهم يراهم، ويسمع كلامهم، ويعلم سرهم وعلانيتهم، وهو -تعالى- يحفظهم، ويكلؤهم، وينصرهم، ويؤيدهم، فالمعية الخاصة هي معيته -تعالى- لأوليائه المتقين وعباده المؤمنين وأوليائه الصالحين، وهي تقتضي ما ذكرت من التأييد والنصر والحفظ وغير ذلك، من أسباب السعادة، تيسير الأمور. وقد عقد شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية فصلا؛ لبيان أنه لا منافاة بين العلو والفوقية، وبين المعية، وهو الفصل الثاني عندكم، الفصل الثاني، الفصل الثاني فيه بيان حقيقة المعية، يعني: مطلقة مع حقيقتها في اللغة، وبيان أنه لا منافاة بينها وبين علوه -سبحانه وتعالى- فمن الإيمان بالله وكتبه ورسله الإيمان بما أخبر به عن نفسه، من أنه -تعالى- فوق خلقه مستوٍ على عرشه، وأنه معهم أينما كانوا، يقول شيخ الإسلام: وقد جمع الله بين هاتين الصفتين، يعني: العلو والفوقية، وبين المعية في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) في آية واحدة، جمع بين إثبات العلو بذكر الاستواء؛ لأني قلت لكم بالأمس إن أدلة الاستواء على العرش، هي من جملة أدلة علوه -تعالى- على خلقه. فدلت الآية على إثبات العلو والاستواء على العرش وإثبات المعية، ولا منافاة بين إثبات هذا وذاك.   (1) - سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فلا يلزم من معيته -تعالى- لعباده أن يكون مختلطا بالخلق، ممازجا لهم؛ فإن مطلق المعية إنما يدل على -يعني- المعية من حيث هي، تدل في اللغة على مطلق الاقتران، مقارنة، نوع مقارنة مصاحب معه، لا تدل على الامتزاج والمخالطة، فمطلق المعية إنما يدل على مطلق المقارنة، فلا يلزم من وصف الشيء بالمعية أن يكون مخالطا لما هو معه، ويوضح شيخ الإسلام هذه الحقيقة بضرب مثل من المخلوقات، يقول: هذا القمر، وهو من أصغر المخلوقات، موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر، أينما كانوا، تقول: سرنا والقمر معنا، أو تقول هذا القمر معنا، والقمر أين هو منك؟ أين القمر منك؟ القمر في مكان في مداره ومجراه بعيد، وتقول: هذا القمر معنا، مع المسافر وغير المسافر. فإذا كان المخلوق يكون مع المخلوق، ويوصف بأنه مع المخلوق، ولا يلزم من هذه المعية أن يكون ممتزجا به، ومخالطا له، فالعظيم العلي، العظيم الأعظم، والعلي الأعلى، كيف يقال: إنه يلزم من معيته لعباده أن يكون مختلطا بالخلق، فالله -سبحانه وتعالى- إذا مع عباده حقيقة، هو معهم حقيقة، هو -سبحانه وتعالى- مع عباده حقيقة، ولا يعني ذلك أنه مختلط بهم، أو ممازج لهم، فمن ظن ذلك فهو من أجهل الناس بكلام العرب، ومن أجهل الناس بربه، وقد وقع في ذلك الحلولية من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم. أفيصح إذا قيل: إن الله في السماء أن يكون في داخل السماء، ومن ظن ذلك، فهو من أجهل الناس لا، الله تعالى في السماء، يعني: في العلو فوق جميع المخلوقات، فوق السماوات مستوٍ على العرش، فلا منافاة إذا بين إثبات العلو وإثبات المعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 القرب -أيضا- القرب: فالله وصف نفسه بالقرب، إن الله قريب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) إن ربى سميع قريب، {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } (2) فكل ما وصف الله به نفسه حق ولا تناقض، ولا اختلاف، فهو -تعالى- عال فوق مخلوقاته بائن من خلقه، ليس في ذاته صفة من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته صفة من ذاته، مستو على عرشه، وهو مع ذلك قريب من عابديه وداعيه، وهو مع عباده أينما كانوا، وهو مع أوليائه الصالحين وعباده الصالحين. وقد عقد شيخ الإسلام ابن تيمية فصلا -أيضا- آخر، نبه فيه إلى أن الله -تعالى- موصوف بهذا وهذا، فهو قريب في علوه هكذا يقول، قريب في علوه، علي في دنوه، وقد -يعني- أشرت إلى ما تضمنه هذان الفصلان؛ لارتباطهما -يعني- بالآيات التي أوردها الشيخ ضمن الشواهد القرآنية، الدالة على صفاته تعالى. فذكر في ضمن الشواهد الآيات الدالة على علوه والآيات الدالة على المعية، ثم عقد فصلين ضمنهما بيان أنه لا منافاة بين هذه النصوص، لا منافاة بين إثبات العلو والاستواء، وإثبات العلو والقرب، ولعل أحدكم يقرأ لنا الفصلين؛ لأن عبارات الشيخ رصينة ومتينة، وإن احتاج المقام إلى -يعني- إيضاح شيء من عباراته، يحصل إن شاء الله. الفصل الثاني: بعد قوله: فصل: السنة. نعم. ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان قبله. (هذا ما توفر لدينا من الشرح ....... )   (1) - سورة البقرة آية: 186. (2) - سورة سبأ آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299