الكتاب: الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة المؤلف: أبو الحسن على بن موسى بن سعيد المغربي الأندلسي (المتوفى: 685هـ) تحقيق: إبراهيم الأبياري الناشر: دار المعارف، مصر عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة ابن سعيد المغربي الكتاب: الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة المؤلف: أبو الحسن على بن موسى بن سعيد المغربي الأندلسي (المتوفى: 685هـ) تحقيق: إبراهيم الأبياري الناشر: دار المعارف، مصر عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة في تراجم الذين تحققت سنو وفاتهم تراجم سنة إحدى وستمائة ثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الترجمة الأولى [شميم الحلي] الأديب الشاعر المتصوف شميم الحلي علي] بن الحسن [ابن عنتر، من مدينة الحلة من مدن الفرات العراقية. شاعر مشهور بالمشرق، مذكور في الكتب وعلى الألسن. وقفت على ترجمته في تاريخ بغداد لابن الساعي، وتاريخ حلب لابن العديم، وكتاب الأدباء لياقوت الحموي. وتلقيت جملاً من أخباره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وأشعاره من أدباء العراق والجزيرة والشام. فلخصت من جميع ذلك ما يليق بهذا المكان: جملة أمر هذا الرجل أن ذكره فوق شعره، فعلى كثرته لم أقف له على ما فيه إغراب ولإبداع. ومن جملة ذلك كتاب الحماسة التي جمعها من شعره، لحظتها فلفظتها إذ وجدتها مفسولة غير معسولة. وأقرب ما وقفت عليه من شعره، لما يليق بالمنزع المختار لهذا الكتاب، قوله: ألا هاتها حيث الجداول أصبحت ... تصول على أرجائها بصلال لدى نرجسٍ يسبى العيون بمثلها ... كأقراط تبرٍ كللت بلآل فهو وإن لم يأت بما يظهر عليه غوص الفكر فإنه ما قصر في سبك اللفظ وتقريب المعنى وزيادة التلفيق. وأشهر ما تقدمه في تشبيه النرجس بالأقراط قول ابن عبد ربه القرطبي صاحب العقد: على ياسمين كاللجين ونرجس ... كأقراط تبر في قضيب زبرجد نظر إليه والى قول أبي الطيب السلامي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 انظر إلى غصن لوته الصبا ... وقد غدا من زهره في حلى كأنه جيد على قامة ... من عقده بالدر قد كللا ولفق منهما ما استحق به اسم شاعر. وتذاكرت في شأن هذا الرجل مع بعض أهل بلده، فلم يعجبه ما وصفته به من عدم غوص الفكرة والنهوض إلى الطبقة العالية ذات الإعراب والإبداع. فجاءني بعد أيام وقال: ما تقول أيضاً فيمن يصدر عنه مثل هذا: أقول لآمرةٍ بالخضاب ... تحاول رد الشباب النضير أليس المشيب نذير الإله ... ومن ذا يسود وجه النذير فقلت: لعمري لقد أغرب لو لم يكن اهتذم ذلك من قول أبي أحمد النهرجوري: وقائلةٍ تخضب فالغواني ... قعود عن مصاحبة الكهول فقلت لها المشيب رسول ربي ... ولست مسوِّداً وجه الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فقال: أمثل هذا الرجل تقصر به، وهو إمام في العلماء والزهاد! فقلت له: الآن أرحت واسترحت، إن كنت منصفاً لم أقصر به من جهة علمه ولا زهده بل من جهة الشعر، لكونكم أوجبتم له من الشهرة والتقديم فيه مالا يقوم عليه برهان. فنفض ثيابه، وقام يجر أهدابه. وقد ذكر ياقوت الحموي أنه اجتمع بشميم فرآه كثير الدعاوى، خارجاً عن نمط الإنصاف والاعتراف. قال: أنشدني مرة قوله في الخمر: خفقت لنا شمسان من ... لآلائها في الخافقين في ليلة بدأ السرو ... ر بها يطالبنا بدين ومضى طليق الراح من ... قد كان مغلول اليدين قال: فقلت: أحسنت! فغضب وقال ويحك! ما عندك غير الاستحسان؟ فقلت: فما أصنع؟ قال: تصنع هكذا، ثم قام يرقص ويصفق. وجلس وهو يقول: ما أصنع! وقد بليت ببقر لا يفرقون بين الدر والبعر، والياقوت والحجر! قال: وكان قد جال البلاد واستقر بالموصل، فمات بها في ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ومما ذكره المؤرخون من أمره أنه كان من أعلام فقهاء الشيعة بالحلة، وأهل الفُتيا والإقراء عندهم. ثم ترقى إلى الزهد بزعمه وإطراح الدنيا. وصار يكثر الخلوة ويصل الصوم، إلى أن كان يزعم أنه يبلغ شهراً لا يأكل ولا يشرب، في يوم ولانهار منه. وكثير من أمثاله عاينتهم ببلاد المشرق يبلغون في الخلوة هذا المقدار وأكثر، ويجعل عليهم أمناء وحراس من قبل الملوك والكبراء لتتبين حقائقهم، فيشار إليهم بعد ذلك بالأنامل، وتلتفت عليهم هالات المحافل. ومن تاريخ ابن العديم: أن شميماً بلغ في الخلوة إلى أن كان يصل الصوم، ثم يأكل الطين فينزل برجيع ما فيه رائحة، ويشمه من يدخل عليه ليعلم مقدار مبلغه من الرياضة، فلذلك لقب بشميم. وحكى لي أحد فضلاء ماردين أنه ورد عليها ونزل حيث لا يخفى مكانه، لما كان عليه من التهويل واستعمال المخارق. فأرسل إليه ملكها ابن أرتق في أن يحضر عنده. فقال للرسول: كيف أسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 إليه وأنا الذي أقول: أنا الذي لو درى زماني ... قدري ما كان غير عبدي لم يزل واقفاً ببابي ... ولم يصرف خلاف قصدي فعاد الرسول بالجواب. فضحك الملك وقال: هذا رجل مجنون أو مستخف، وعلى الأمرين ينبغي لنا إن نرى ما عنده. ثم ركب إليه واجتمع به وانصرف، وقال للرسول: قل له: كان فلان قد نظر لك في ضيافة زاد قبل أن يشاهد ما عندك، فلما شاهده علم أن قدرك يحل عن كل ما عنده. فلما عاد إليه الرسول بذلك، التفت إلى أحد أصحابه وقال: أي ولد زنى! وسمع ذلك الرسول فرجع وهو يضحك. فقال له الملك: ما كان جوابه؟ قال: سكت. قال سبحان الله! أمن السكوت يكون ضحك؟ فأخبره. فضحك حتى فحص برجليه وقال: الرجل ممخرق، وقد علم أن مخرقته لم تجز علينا فجعل هذا فصل ما بيننا وبينه. وأخبرني ابن الصفار الدينوري ... أن شميماً اجتاز بمدينة دنيسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فصادف أن كان بها صاحب ماردين، فبلغه نزوله في بستان هنالك، فركب كأنه يتفقد البستان، وغرضه الاجتماع به. فقيل له: إن السلطان قد دخل البستان. فقال: ومن منعه؟ ولم يقم له ولا لقيه. فصعب على صاحب ماردين ذلك، وأظهر أنه جاء للفرجة، وانصرف ولم يجتمع به. وجاءه من عتبه في ذلك. فقال: كنت في مناجاة سلطان أعظم منه. فقال صاحب ماردين: رحم عياله! ولو كان الجنيد. ودس إليه من يؤذيه حتى خرج عن بلده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الترجمة الثانية [العبدوسي] الشاعر البارع المحسن العبدوسي محمد بن عبدوس الواسطي، من مدينة واسط. أطلعته واسطة من عقد شعرائها، فترقى إلى مخالطة كبرائها وأمرائها، ثم جال حتى انتهى إلى الديار المصرية، ومدح بها العادل وأرباب دولته، ومدح الظاهر صاحب حلب بما اجتمع منه سفر. ذكر ذلك صاحب تاريخها ولم يعجبني من جميع ما أورد من شعره غير قوله في الملك المذكور: أشتاقه شوق مصدود وكم حملت ... أم الأماني برؤياه فلم تلد وطبقته أعلى من هذا بأضعاف. ذاكرت أحد علماء بلدي في شأنه، فنوه باسمه وأنشدني له ما اخترته لكتاب "كنوز الأدب" وهو قوله الذي أبدع فيه وأغرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أهلاً وسهلاً بالعذار الذي ... أصبحت في شغل به شاغل خطان صيغت منهما في الهوى ... "لا" وهي حرف النهى للعاذل يا سائلي عن أمرها نكتة ... أضحى بها كالقمر الكامل كأنها ذاك السواد الذي ... تبصره في البدر يا سائلي فجر الصبا في وجنتيه غدا ... يموج مثل البحر الجائل أما تراه إذ طفا ماؤه ... قد قذف العنبر في الساحل وقد ازدحم على مشرع هذه الأبيات جملة من شعراء عصره، فما بلغوا فيه إلا دون قدره. وقوله، وهو غير خارج من "كنوز الأدب": وبديع أطلع الآ ... س بروض الجلنار رمت منه لثمة إذ ... عيل في الحب اصطباري قال لي لا تدن أنفا ... سك من نبت العذار إنني أخشى عليه ... منك من لفح الأوار قلت دعني من رقاعا ... تك واسمع لاعتذاري هو كالعنبر يذكو ... طيبه من غير نار فانثنى يبسم عن جمر ... شبيه بالدراري فرتعنا في رياض ... وكرعنا في عقار أي خمر أنا منها ... طول عمري في خمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وهو من الشعراء الذين حفظ ما قالوه في الجارية التي صنعت في أحد خديها بالغالية حية وفي الآخر عقرباً، فأمر الملك العزيز صاحب مصر أن يقال فيها. وكان قول العبدوسي: يا معشر الناس ألا فأعجبوا ... من قمرٍ حل به العقرب وحية ميتة أرسلت ... في جنة تلدغ من يقرب يا مظهراً آية موسى لنا ... إليك من دون الهوى المهرب وكانت وفاته بمصر سنة إحدى وستمائة، بعدما أكثر من هجائها وذم أهلها. ومن أعف ذلك وأبدعه قوله: يأهل مصر مدحتم ... مصراً بلا برهان وقلتم هي عينٌ ... نعم بلا إنسان أرض عدمنا لديها ... عوارف الإحسان وكل بر تراه ... فإنه في اللسان يوم ارتحالي عنها ... جعلته مهرجان وكان قد اتصل بالوزير ابن مجاور، فلما بلغ الغاية من الاستيلاء على دولة العزيز، لما استبد بالديار المصرية، قصر به، فأنشده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 عجبت لبحر جاد لي عند جزره ... ولم أر جوداً منه إذ جاءه المد لعل له عذراً على كل حالة ... هو الملك الأعلى يداً وأنا العبد? فقال: ما ثم عذر، لكن هذا شان الدهر، وعلى هذه الحال مرت الليالي والأيام، ولقد أحسنت إلي إذ ذكرتني بفضيلة. ثم أحسن إليه وسعى له فيما أقر عينه عند صاحبه. ومدحه بقصيدة منها: يا سائلي عما رأى من كساً ... ونعمة يقصر عنها الكلام قد كنت ذا جدب ولكنني ... أفلحت فاستمطرت صوب الغمام قام بأمري سيد ماجد ... ذكره عتبي رعى الذمام مبارك الطلعة ميمونها ... يبدأ من يخدمه بالسلام قد جرب الدهر وأحواله ... وأختار أخلاق جميع الكرام ومن محاسن شعره قوله: لله ذو أدبٍ حلو شمائله ... لقياه أطيب لي من جملة النعم أمس يحدثني والكأس في يده ... فبت أشرب راح الكرم والكرم وأنشدت له بالعراق هذه الأبيات، وهي مما يرتاح إليه في السماع، ويهتز لما اشتملت عليه كل كريم الطباع: ليلى بلا سحرٍ من ساحر الحوار ... أشتاقه وهو مشتاق إلى السحر ولو أتى زائر ما كان يمنعني ... لقرب ما بين حال الورد والصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فالليل عندي سواء إن دنا وقلا ... أشكو من الطول ما أشكو من القصر يا خاليا حاليا بالحسن ها كبدي ... أمست بالا جلد قوسا بلا وتر الظبي أنت وقد حوشيت من خنسٍ ... والبدر أنت موقى كلفه الغير والخمر أنت ولكن سكرها أبداً ... والغصن أنت ولكن دائم الزهر لا جفف الله عيني من هواك ولا ... متعت من غير ذاك الوجه بالبصر ورأيت جماعة من أدباء العراق يتطاولون بإنشاد هذه الأبيات ويفتخرون بها، وهي لعمري أهل لذلك، إلا أن بيته الذي هو واسطة القلادة مسروق من قول اللص الإشبيلي: فالليل إن هجرت كالليل إن وصلت ... أشكو من الطول ما أشكو من القصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهذا كما قال الملك الأشرف لبعض الشعراء وقد مدحه بقصيدة فيها أبيات سلخ ألفاظها ومعانيها من شعر غيره: أما تستحي أن تنشدي لنفسك ما أحفظه لغيرك؟ فقال: قد يقع الحافر على الحافر. فقال: نعم، ولكن للميدان كله لا. فضحك جميع من حضر من أهل الأدب. وصار ذلك الشخص عندهم يعرف بالميداني. وأخبرني بدمشق أحد أقارب الأموي كاتب الملك الأشرف بن العادل بن أيوب، أن ابن عبدوس وصل إلى الملك الأشرف وهو حينئذ بالجزيرة في مدة أبيه، والحال ضيقة، فحضر مجلسه وأنشده قصيدةً منها: ملك شككنا أيها أعلى علا ... أولاه أم وسطاه أم أخراه لما علا فوق الأنام محله ... مسحت عليهم كالسحاب يداه أشتاق رؤيته لأني واثقٌ ... إلا أرى بؤساً متى ألقاه فضحك الأشرف لما انتهى إلى هذا البيت وقال: ذهب البوس يابن عبدوس. إلا أنه نحن على ما لا يخفى عنك في هذا الوقت، فأيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تختار: يسير معجل، أو كثير مؤجل؟ فقال: يا خوند، إنما يصبر على المؤجل التجار أصحاب رءوس الأموال، وأما المفلسون الذي رؤوس أموالهم الأشعار مثلي وأشباهي فإنما هم أبناء يومهم. قال صدقت، وألتفت إلى الصفي كاتبه وقال: بحياتي عليك إلا ما أجزته عني. فقال: نعم وكرامة. وانصرف به إلى منزله، وحلف له انه ما يملك في ذمته شيئاً يقدر على خروجه عنه والتعوض منه إلا على البغلة التي يركبها، ودفعها إليه وألبسه ثيابه التي كانت عليه. فجن فرحاً، وأطنب في الثناء على الملك والكاتب وقال: هذا عندي في هذا الوقت خير من عشرة آلاف دينار في وقت آخر. قال: وهكذا كانت أفعال الملك الأشرف في أكثر الأوقات، إذ كان أعرف الناس باستجلاب الثناء في كل وقت وبكل ما أمكن. قال: ومما أنشده لنفسه فاستحسنه الصفي وكتبه، قوله: اسمع أخي اختبار ... قد شيبت رأسه الرجال إياك أن تشتفي بقول ... فيه على ربه وبال وبلغ النفس ما تمنت ... إذا تأتى لك الفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الترجمة الثالثة [ابن مجاور] الوزير الجواد المجيد نجم الدين بن مجاور يوسف بن الحسن. بيت بني مجاور بدمشق مشهور إلى الآن. لزمهم هذا النسب من جدهم، رفض جنة الدنيا بدمشق ولزم المجاورة بمكة، فعرف بالمجاور. ونشا نجم الدين متغذياً بتلك الطريقة ملتزما قراءة القرآن وإقراءه، واتخذ مكتبا يعلم فيه الصبيان على باب جامع دمشق. وسمت همته إلى إقراء النحو والأدب، واستفاد من ذلك ما علم به أولاد الكبراء، إلى أن أحتاج السلطان صلاح الدين معلما لابنه العزيز، فدل عليه، ووصفت طريقته الحميدة فأخذت السعادة بيديه. وأنس به العزيز فساد بخدمته في بلده وغير بلده، ووكله في أول الحال، ثم استوزره في نيابته عن أبيه بمصر، ثم فوض له جميع أمور دولته لما مات أبوه واستبد بالسلطنة. وكان أهلا لذلك، لما جمع من الفضائل والآداب ومكارم الأخلاق. وكان معرفا بتوطئة الأكتاف، ومعاونة الأدباء والشعراء، والأخذ معهم غير مميز عنهم، حتى كأنه إذا باحثهم واحد منهم، مع ارتقاء في الشعر إلى الدرجة التي تأخذ بمجامع القلوب والألباب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وترفع عن طبقة العلماء والأدباء والكتاب. ومن أمعن الفكر فيما أورد له في هذا المجموع علم أن له فكرة غواصة، وان معاني الأغراب وألفاظ الإبداع ليست عليه بمعتاصة. ومن الحكايات المستطرفة المتعلقة بترجمته أن ابن منذر البطلبوسي لما ورد من المغرب أعترضه وهو قاصد دار السلطان، فكلفه رفع بطاقة إليه في مرتب يستعين به على طلب العلم. فأعلمه أن الكلام في إجراء راتب مخترع لا يمكن. فقال: فإن لم يمكن هذا فاكتب إلى الفقيه فلان في أن ينزلني عنده في المدرسة ويجري لي من الوقف ما يكفيني. فقال: ليس هذا من شغلي وإنما من شغل متولي الاوقاف0 فاظهر انه لا ينفصل عنه إلا بالنظر في أمره، وجعل يورد عليه من أنواع التكليف ما يروغ الوزير عنه إلى أن أضجر. فأراد الانفصال عنه فقال: يا هذا، أعلم أنه من كلف ما لا يقدر عليه أتعب لسانه وسمع من يكلمه. فقال: أيها الوزير، أتعد إن أنا كلفتك ما تستطيع لم تعتذر لي عنه؟ قال: ما أعتذر لك عن شيء أستطيعه. قال: وأنا أيضاً فما أكلفك إلا أن ترجع إلى تعليم الصبيان في المكتب الذي كنت فيه، فتستريح أنت من كلف الناس ويستريح الناس من هذه الوزارة الخراء التي لا فائدة فيها، وقد شغلت مكانتها عن مستحقها ممن يفرح بقضاء حوائج الناس،، ويتكلف المشقات في تخليد شكرهم. فضحك الوزير ضحكاً لم يعهد منه مثله، وقال له: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أي وأنت على هذا المنزع، وفيك هذه الحلاوة، ولست من المغاربة الجفاء، ففيك مصطنع، ونبلغ إن شاء الله في شأنك فوق ما نقدر عليه. وحمله معه حتى ادخله على العزيز، فأعاد عليه ما جرى بينه وبين الوزير. فضحك واستطاب القصة وصيره من خواصه وانتفع بخدمته غاية الانتفاع. حتى أشتهر ذكره وصار كالوكيل والأمين، وانتقل بعد ذلك إلى حلب فصار في خدمة أخيه الظاهر. ومن الحكايات التي اخترتها لكتاب "روح الأدب" وشعرها من "كنوز المعاني" ما أخبرني به أبو بيان الإسرائيلي حكيم الديار المصرية وبقية المعمرين من أشياخها، الممازحين للملوك وأرباب الدول، قال: أهدي للملك العزيز بن صلاح الدين مملوك من القفجق، كما دب عذاره بشقره، لا يراه أحد فيقدر أن يثني عنه بصره. فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الملك العزيز لجلسائه الأدباء: نجعل هذا المملوك الجديد ساقينا اليوم. فلما استقر مجلس الأنس- وفيه جعفر بن شمس الخلافة، والأسعد ابن مماتي، وهما حينئذ الغاية في طبقة الشعراء، وهناك من يشعر غيرهما- قال لهم، وقد أخذت الكأس منهم وأزلت حجاب الحياء عنهم: هذا مكان الأفكار وإجالتها، وأشار إلى المملوك. فأفكروا ساعةً فلم يحضر لهم ما يرضونه، فقالوا: يا مولانا، إن الوزير نجم الدين له شغف بالمعذرين وأوصافهم، بفكرة منقادة لتعلقه بهم، وما لهذا إلا خاطره. فقال: نسره بالمشاركة في هذا الشأن ولا نضيره بالاستدعاء للحضور على ما لا يريده. ثم أمر بالكتب له في ذلك. فوصل جوابه بهذه الأبيات التي لا نظير لها في حسنها، ولا عديل لقصدها في فنها: غصن من الفضة قد أورقا ... بالتبر من فاز به وفقا رواه ساقي الحسن من مائة ... فبان في أعلاه ما قد سقى ومنتهى الأحرف من خطه ... في جانبي صدغيه قد عرقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 يا حسنه نوناً بماءٍ جرى ... ودار كالعقرب كي يتقى فاغتنموا بدراً بدا كاملاً ... في شفق من قبل أن يمحقا لا أبصرته مقلة ذاوياً ... ولا رأت زخرفه محرقا فطرب الملك العزيز، ووالي الشرب وأمر المغني بالغناء فيها. قال للخازن: أحضر جميع ما أهدي إلينا مع هذا المملوك. فأحضر وقوم، فكانت قيمته عشرة آلاف دينار مصرية. فقال: لو أن نجم الدين كمل أبياته عشرة لفاز بجملتها، ولكن يأخذ منها ستة آلاف ويقتسمون الباقي. ثم أطال النظر في المملوك فقال له: كن أنت الرسول إليه بهذا، وأنت من جملة ما حبوناه به. قال أبو بيان: فلا ندري من أي شيء نعجب، فهل مما تضمنته هذه الحكاية من الأخلاق الملوكية؟ وهي على ما جمعته نقطة من بحار فضائله رحمة الله عليه، فما ملك مصر مثله. ومما استحسنه الملك العزيز، فأمر شعراءه بالقول فيه، قصة الجارية التي صورت في خدها بالمسك حية، وكان الذي قال في ذلك وزيره المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قد رقمت في خدها أرقما ... بالمسك في مذهب ثوب طسيم ما ذاق من قبله غفوةً ... يا عجيبا من ساهر بالرقيم مرسلة بالحسن قد أظهرت ... في نار إبراهيم أيم الكليم ووقفت على ترجمته في تاريخ حلب لابن العديم فوجدت هنالك أنه مات سنة إحدى وستمائة. وقوله الطيار لخفته على الألسن وحسن منزعه: ولما تولى الخد وإلى عذراه ... رفعت إليه قصتي أتظلم فوقع فيها خطه بصبابتي ... وقال لي السلوان شيء محرم أتلبس ثوب الخد إذ كان ساذجاً ... وتخلعه لما بدا وهو معلم ثم وجدت الشهاب القوصى قد أثنى عليه في كتاب "تاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المعاجم" وأنشد له قوله، وهو من المحاسن التي لا يجب أن تغفل: يا ثغره المحمى منه بنابل ... من طرفه وبسائف من خده وبمشرق من صدغه وبناظر ... من خاله وبعامل من قده ارفق بما اغتصب الغرام فقد أتى ... خط العذار موقعاً في رده وأنشد له ابن المستوفى في تاريخ إربل: ليت رقيبي لم يكن أحولا ... إذا لم يكن أعمى ولا أعور لأن من يبصر من واحدٍ ... شيئين أولى الناس أن يحذرا وجرى ذكره يوما بحضرة الصاحب بهاء الدين زهير صاحب الأشعار الرقيقة الطائرة في أقطار الشرق والمغرب، فقال: وددت أن لي قوله بكثير من شعري، فما سمعت أظرف منه: صديق قال لي لما رآني ... وقد صليت زهداً ثم صمت على يد شيخ تبت قل لي ... فقلت على يد الإفلاس تبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الترجمة الرابعة [ابن نفاذة] الرئيس الشاعر المتقدم شمس الدولة أحمد بن نفاذة السلمي الدمشقي. كان عند السلطان صلاح الدين بن أيوب في عداد رؤساء الأجناد الذين يسمونهم بالأمراء. ذكر الشهاب القصوى في"تاج المعاجم" أنه كان جليل القدر بعيد الهمة أديباً شاعراً. ولد بدمشق سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، ومات بها في محرم سنة إحدى وستمائة. وأنشد له -مما طول فيه من الأشعار- ما يدل على اقتداره وطول نفسه. ومما يعد من "كنوز الأدب" قوله، وقد دخل على الفاضل البيساني مهنئاً له: قد عوفي الفاضل مما شكا ... وصح من سائر آلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وذاك أن الداء لما أتى ... إليه في جملة خدامه أجله أن يعتري جسمه ... معرفة منه بإعظامه ورام توديعا له فأثنى ... يرغب في تقبيل أقدامه فلم يكن بد من إسعافه ... جرياً على معهود إنعامه أخبرني الشهاب أنه لما أنشد هذه الأبيات قال الفاضل: أبياتك هذه يا شمس الدولة خير من العافية، ما سمعت في معناها أحسن منها، وأحسن ما فيها أنها من رب سيف. قال: ودخل على الصفي ابن شكر وزير العادل، وقد فهم عنه تقصيرا في حقه فأنشده: أيا من مودته لم تزل ... إذا ما ارتقى رتبة أو ولي أعيذك من غفلةٍ تعتري ... جلالك عن خادم أو ولي إذا لم تزدني على رتبتي ... فعد بي إلى حالي الأول فقال: بل لا أقنع لك إلا بالمزيد، ولا أعتذر لك إلا بالفعل. وشعره مدون، ظفرت به عند شخص لا يسمح بإعارته ولا مطالعته، فحفظت منه هذه الأبيات، وهي عنوان عما تضمنه من البدائع والغرائب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 شاق الحمام فباح بالأشجان ... عقد الندى في جيد غصن البان وتأويد الغيد النواعم شاقني ... فله ولي نوح على الأغصان لي بالحدوج وبالغواني صبابةٌ ... وله بورد الروض والريحان ولو أنني واصلت من أحببته ... يوماً لكان وكنت في بستان وبمهجتي خنث اللحاظ جفونه ... نشطت لقتلي نشطة الكسلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الترجمة الخامسة [التلمساني] قاضي الجماعة الأديب المتفنن أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مروان التلمساني. ذكره التاج ابن حموية الدمشقي في رحلته المغربية وأخبر أنه من المرية أصلاً. وكان والده من الأجناد، تقدم وساد وولى مدينة وهران. وبها ولد أبو عبد الله، ونشأ بتلمسان مجدا في الفقه والأدب، ومال لعلم الظاهر، وأكثر من مطالعة كتب ابن حزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فاشتهر بذلك، وصادف انحراف المنصور عن كتب الفروع وميله إلى مذهب أهل الحديث، فتقدم عنده إلى أن ولاه قضاء قضائه، فأبان عن صرامة وعفة ومروءة. وكان ممن له مشاركة في صناعتي النظم والنثر. وذكره والدي فيمن لقيه من أهل العلم وأطنب في الثناء عليه من جهة التعصب والسعي الجميل في حق من اعتمد عليه، مع خلق أندى من النسيم، وأدب أنق من الوجه الوسيم. قال: إلا أن حفظه وعمله بالأدب فوق شعره. وأحسن ما أورده منه قوله في المنصور، وله فيه أمداح كثيرة، أورد منها ما رأيت الاقتناع ببعضه كافٍ: أسيدنا يابن الإمامين أمركم ... منوطٌ بأمر الله ما عنده معدل نصرتم لأن الحق آن ظهوره ... وناصر في الله ما كان يخذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أزلتم على ما ينفع الناس جهلها ... وعلمتم في الدين ما كان يجهل وأوردتم السلسال من شفه الظما ... أوان جرى ذاك الحديث المسلسل قطعتم فروعاً قد أضرت بأصلها ... ألا هكذا من كان بالعدل يشتمل ملأتم بساط الأرض خيراً وما بقى ... فأخباركم فيه تسير وتنقل أقم إن تسر نحو الممالك راحلاً ... فساكنها شوقاً لعدلك يرحل ومن نادر الحكايات أنه كان قد لزم أبا جعفر بن مضاء قاضي القضاة مدة، وكان يثقل عليه بالطبع ويخف عليه بالتصنيع، ى فسأله في بعض الأوقات عن حاله، فارتجل هذه الأبيات: يا من مضى وتسمى ... ولم يخنه زمانه سألتني كيف حالي ... وقد كفاك عيانه إن كان عندك خيرٌ ... يرجى فهذا أوانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فقال: يكون الخير إن شاء الله ولأسعين فيه جهدي. ثم جعل يستنيبه ويرشحه لما هو أهله. فقال له بعض أصدقائه: أراك تقدم هذا الرجل وتعينه على نفسك. فضحك ابن مضاء وقال: الرأي ما ظننته، أنه غير رأي، هذا الرجل لاحت لي فيه بوارق السعادة ولا بد أن يتقدم رضيت أم سخطت، والأولى أن أظهر أن تقديمه بترشيحي وسعي له، فان وفى اشتركنا في حمد الناس، وان لم يف انفرد باللائمة. ثم إن ابن مضاء مرض في سفرة المنصور إلى إفريقيه سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاشتغل ابن مروان بالحكم بين الناس، فظهر منه من حسن الخلق والسياسة ما اشتهر به اسمه ونسي معه ابن مضاء، فما استقل ابن مضاء من مرضه إلا وقد حاك في قلب المنصور أن يجعله قاضي الجماعة فكان ذلك، وصار ابن مضاء إذا رآه والناس مقبلون عليه أنشد: وما يستوي الثوبان به البلي ... وثوبٌ بأيدي البائعين جديد ولم يزل أبو عبد الله قاضياً للمنصور إلى أن كانت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فوقع بينه وبين أبي القاسم بن بقى كلام أظهر فيه ابن مروان الاقتدار عليه، فأنشد ابن بقي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الدهر لا يبقى على حالة ... لكنه يقبل أو يدبر فان تلقاك بمكروه ... فأصبر فان الدهر لا يصبر واتفق أن سعى في إثر ذلك بابن مروان، ونسب له تقصير في صدقات خرجت على يده، فعزله المنصور وولى على قضاء الجماعة ابن بقى المذكور. فلقيه ابن مروان في إثر ذلك، وكان مفاكهاً حسن الخلق طيب النفس، فقال له: أفترى؟ لقد أقبل وأدبر ونحن نصبر كما صبرت! فاستحيا ابن بقى فلم يجاوبه بحرف. ثم لما ولى الناصر رده إلى قضاء الجماعة، فلم يزل عليه إلى أن مات في سنة إحدى وستمائة. ومما شنع عليه أعداؤه أنه نزل بتلمسان في دار يهودي، فاحتفل في إكرامه وأحضر له جميع ما قدر عليه، فخلا به وذاكره في دينه، ثم داعبه حتى أحضر له من طاهورتهم. فيقال إنه قال: يا إسرائيلي، دياركم نظيفة، وطعامكم طيب، وشرابكم رائق، ما أظنكم إلا على الحق. قال والدي: ما تكاد تجد فقيهاً من طلبة الغرب إلا وهو يحفظ هذه الحكاية، وقد سارت بها الركبان، والله أعلم بالحقائق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأنشدني له ابنه الكاتب القاضي أبو زكريا شعراً يصف فيه دعوة صنعها بعض أصدقائه وأحتفل فيها، وكان هو المتصرف بين أيديهم بنفسه، فعلق بخاطري منه قوله: يا حبذا دعوتك المرتضى ... جميعها من كل فضلٍ عميم كأننا الأغصان سكراً بها ... وأنت فيما بيننا كالنسيم وقوله، وهو في غاية الحسن، ولم أسمع في معناه مثله: وجاءنا خبز رأينا به ... في هالة الخير وجوه النعيم وكان ابنه مثله في حفظ الأدب والتخصص، وولى قضاء المرية والكتابة عن الأمير أبي بحر، ابن مولانا المقدس، إلا أنه كان نهاية في سوء الخلق والبخل، رحمة الله وسامحه. وهو شاعر تقف على ترجمته في سنة اثنتين وخمسين وستمائة. حضرت عنده في القاهرة مع جماعة من الأدباء، فأخرج لحما وخبزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 واحدة. ففرغت فأخرج أخرى، ثم فرغت فأتى بأخرى، وقد تغير وجهه. فقلت له: يا أبا زكريا، ما أظنك إلا حافظاً لو جوه النعيم، ما ترى أن تستذلها بالنظر فحجل واعتذر اعتذاراً بارداً، ولم يستدع أحداً منا بعد هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الترجمة السادسة [ابن جرج] شيخ طلبة الحضر، العالم الجليل، الفيلسوف الشاعر النبيل، أبو جعفر أحمد بن عتيق بن جرح الذهبي البلنسي. أصله من بني جرج، البيت المشهور بقرطبة، انتقلوا بالفتنة إلى بلنسية. وكان في آبائه من اشتغل بالتذهيب فجرى عليه ذلك الوصف، وكل من وقفت منه على ذكره، في كتاب أو مشافهة، عظيمه غاية التعظيم، وجعله أحق أهل عصره بالتقدم. وأبو الوليد الشقندي، من بينهم، شديد الغلو فيه، وهو أعلم الناس به لكثرة ملازمته إياه. سمعته مرة يقول: إن الكمال الإنساني إن جمع لإنسان فانه لم يعد ثلاثة: أرسطو، وابن سينا، وأبا جعفر الذهبي. وذكره في رسالة شعراء الأندلس الذين افتخر بمحاسن شعرهم على شعراء بر العدوة، ونوة فيها بقوله- وهو من المرقص الداخل في كتاب "كنوز الأدب": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أيها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختياري شكر الله ما أتيت وجازا ... ك ولا زلت نجم هدىٍ لساري أي برق أفاد أي غمام ... وصباح أدى لضوء نهار وإذا ما غدا النسيم دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار وأنت إذا بحثت جهدك فيما قال المشارقة والمغاربة في فاضل دل على صحبة فاضل، لم تجد مثل هذه الأبيات. قال: ومن الأبيات السائرة المفردة للتمثيل قوله في عالم انفصل عنه: ولكم مجلس لديك انفصلنا ... عنه مثل الصبا عن الأزهار وقوله، وقد عاد أبا سعيد بن جامع في مرضه: أنت عين الزمان لا تنكر السق ... م فما ذاك منكرٌ في العيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وممن كان يبالغ في وصفه من جهة العلم والمودة، وحسن الأخلاق وكمال الأوصاف، أبو عمران الطرياني قال: كنت إذا صعدت إلى الحضرة ألزم خدمة جماعة من أرباب دولتها، فوردتها مرةً، وحضر موسم، فغيروا عاداتهم، فحملني ذلك على أن قلت: غيرتم عاداتكم عندنا ... فكلنا من عبئه يستريح فغير الرحمن عاداته ... عندكم كي تعذروا في القبيح وبلغ ذلك أبا جعفر الذهبي، فقام بجميع ما أحتاج إليه، فقلت فيه: أبيت إلا كرما ... ذا ثروة أو معدما ترى الأيادي مغنما ... إذا رأوها مغرما فزادك الله على ... كل الأمور نعما وصليت إلى جانبه صلاة العيد، فلما التفت من السلام ورأى الناس يحوجون فرحاً أطرق، ثم أنشدني: نسر بالأعياد يا ويحنا ... وكل عيد قد تولى بعام والعمر در في نظام وهل ... نفرح أن ينقص در النظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ما في البرايا عاقلٌ كلهم ... يردى ولم يعمل حساب الفطام والحمد لله على ما قضى ... فهذه حكمته في الأنام ورأيت ابن حمويه قد ذكره في "رحلته المغربية" وأخبر أنه كان حسن الأخلاق جم المعارف. وسايرته يوماً بظاهر مراكش، فتذاكرنا معايب الدنيا وأنكادها، وأنها لا توجد فيها راحة غير مشوبة بتعب أو سوء عاقبة. فقال: عالم النقص لا تكون فيه الكمالات. وذكر ابن عمر في تاريخه أنه كان متفننا في العلوم، محيطا بكثير من الفلسفة، وأن وفاته كانت في سنة إحدى وستمائة في سفرته مع الناصر إلى إفريقية. وكان ممن طلب منحه أبى الوليد بن رشد، في مدة المنصور من أهل الفلسفة، فلم يوجد، فبلغه أنه في خدمة السيد أبي الحسن علي بن أبي حفص بن عبد المؤمن بغرناطة، فكتب له في أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يجمع له جمعا ويوفق بينهم حتى يلعنوه. فلما وصله الكتاب وقف عليه أبا جعفر في خلوة. فقال أبو جعفر: ألا لعنة الله على الظالمين! فضحك السيد وقال: عجلت بالمكافأة يا أبا جعفر، وبدأتنا بما استحيينا أن نبدأك به، وبالله لقد يشق على مقابلتك بما أنفذ به الأمر، لكن ليس من ذلك بد، وقد رأيت أن يكون على خلوة. فجمع خواصه ولعنوه بمكانه. فجعل يقول: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) . وتلطف السيد في أمره والجواب عن مسألته. ثم إنه بلغ ذاك الغاية القصوى بالخضرة حتى قدم على طلبة الحضر، فصار من أخص الجلساء وأرفعهم منزلة عند المنصور، ثم عند الناصر. وفيما كتبه والي من أخباره: أنه كان في أول أمره مشتغلا بالعلم ببلنسية، إلى أن شهر بها مكانه، وجل قدره في الإقراء والإفادة. فاستدعاه المنصور إلى الحضرة فقال: كنت في ركن من الأر ... ض على مقدار فهم مفرداً فيه مخلى ... فارغاً من كل خصم فدعوا بي ثم قالوا ... علم في كل علم عرضوني للبلايا ... أتلقى كل سهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يا لقومي أتعبوا في ... قصدهم روحي وجسمي وقال: كان لي أخ أميل إليه، فأردت أن أنبهه لحضور مجلس أبي جعفر الذهبي مع ما يستفيد منه. فقال لي أبو جعفر: لا تتعب في هذا الأخ الذي لك، فو الله لا أفلح أبداً. فقلت: ولم؟ قال: لأنه ليست عليه طليعة أديب، ولا له التفات أريب، ولا عنده إصغاء مسترشد، ولا لديه تلطف مستخبر. قال: فقطعه عنه، وتركته لشأنه0فما طلع في إخوتي أقل فلاحاً منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الترجمة السابعة [ابن الياسمين] الجليس المتفنن الكاتب أبو محمد بن الياسمين عبد الله بن حجاج الإشبيلي. نسب إلى أمه، وكانت سوادء، وكان هو أيضاً أسود. تخرج بإشبيلية في فنون العلم. وكان أول تعلقه بالفقه والتوثيق، حتى صار من أعلام العارفين بالوثيقة، ثم اشتغل بالنظم والنثر وفنون الآداب، فصار من أعلام الأدباء والكتاب. ومن حكاياته أنه جاء بإشبيلية إلى شيخ طيب، فشكا له تلهب معدته، وأنه لا يشبعه شيء. فقال، وقد لمح بوارق السعادة: لابد لك من أن تشتكي لي بسوء هضم معدتك، نعم وبثانية، نعم وبثالثة. فمضت الأيام وطلع إلى مراكش، وبلغ المبلغ العظيم من مجالسة المنصور ومسايرته له إذا ركب في أسفاره، لافتتانه بحديثه وما يجد عنده مما لا يجده عند غيره0فاتفق أن طلع ذلك الطيب إلى مراكش فاجتمع به، فقال له: يا حكيم، صدقت فيما أنذرتني به من سوء الهضم مما تراه. فدله على ما يصنع. ثم مضت الأيام فشكا له بالنقرس وقال: أظن هذه الثانية؟ قال: نعم. ثم أقام مدة، ووقع اجتماعه به، فقال له: يا حكيم، صدقت في اثنتين فأين الثالثة؟ فقال: يا فقيه، بلغتني على ألسن الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ولو كانت علة لشكوت بها. فضحك أبو محمد. وكان كثير الإجمال والمطايبة والمرح، وأحسن للطيب. وكان قبل ذلك لم يفض عليه في دنياه بشيء. وإنما أشار الطبيب إلى الخلة التي اشتهرت عن ابن الياسمين. والله أعلم بالسرائر. وذكر ابن عمر في تاريخه أن وفاته كانت في سنة إحدى وستمائة. ولم يوقف له على الحقيقة. وقد وجد مذبوحا في غرفة على باب داره. ومما تلقيته من جماعة من طلبة مراكش أنه وجد في تلك الغرفة على وجهه ووتد في دبره. وكذلك وجد الفتح صاحب القلائد، في تلك الجهة بعينها، ما بين دار ابن الياسمين والفندق الذي ذبح فيه ابن الياسمين، إلا مسافة يسيرة. وحكى أبو عمران الطرياني قال: كنت في اليوم الذي أصبح فيه ابن الياسمين مذبوحا عند الكاتب أبي الحسن بن عياش، فبينا أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ألاعبه بالشطرنج إذ دخلت إليه أمه له وألقيت إليه براءةً عرفته أن امرأة دفعتها إليها، ورغبت منها توصلها إلى سيدها. فقال هذا وقته! ولم يلتفت إليها. قال: فقلت له: ولعل فيها مالا يجب تأخيره. قال: ولعل. ثم أخذها وقرأها، فإذا بوجهه قد تغير، ثم ضحك ورمى بها إلى وقال: انظر هذا لا يحب تأخيره. فقرأتها، فإذا فيها: هذا ابن حجاج تفاقم أمره ... وجرى وجر لحد غايته الرسن حتى غدا ملتقى ذبيحا حاكيا ... للناس رقدته إذا هجر الوسن فليحزن الكاتب ما قد غاله ... وأخص بينهم الفقيد أبا الحسن فقلت: ومن ترى قائل هذه الأبيات لعنه الله؟ قال: يا سبحان الله! وهل صاحبها غير الكورائي الذي طبعه الله على ألا يضيع فرصة من فرص الأذاة. قال أبو عمران: ثم أشتهر بعد ذلك قول الكورائي في تلك القضية معرضا بابن عياش: فليحزن الكتاب ما قد غاله ... وأخص من بين الجميع فلانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فحصل التحقيق بأنه قائل ما تقدم. قال أبو عمران: فلم يكن ابن الياسمين، على ما كان له من منصب العلم والتقدم عند السلطان، يستتر بحاله، بل يتمازح فيه ولا يضيع بادرةً تقع من أجله. وله في ذلك أشعار كثيرة، منها قوله، وقد عذله بعض أصحابه في تقريب امرئٍ كان كثير الاختصاص به، وقال له: هلا اخترت لخدمتك، والقرب من مناولتك ومشافهتك، أبيض اللون: يبيعون حبي للسواد جهالةً ... وما علموا ما فيه لي من مآرب أهين لقصدي ربه وهو خادم ... إذا ما علا فوقي بمجداف قارب ويلقي ضحوك السن لله دره ... حمولاً لما حملته غير لاغب وفيه خصال جمةٌ غير هذه ... أحق الورى طُرّاً بخدمة كاتب فيا معشر الكتاب أوصيكم به ... وصية من يعني بحاجة صاحب قال: وربما كان يصرح في بعض خلواته لمن يأخذ معه في ذلك الشأن، إذا دارت كأس المدام، وارتفع حجاب الحياء عن الكلام، فيقول: ينبغي لأرباب هذه الصناعة ألا يعدلوا عن الأمرد، فانه أطول أيراً، وأكثر سيراً. ومن أشعاره المتعارفة بهذا الباب قوله في صبي مليح جاء يقرأ عليه، بعدما حام على قربة زمانا، فلم يقدر على ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 لله ذاك المليح لما ... أتى بأسفاره إلينا كم قد غدا حائماً إلى أن ... أوقعه البخت في يدينا فظن جهلا أنا عليه ... وما درى أنه علينا قال: وبينما هو في جامع إشبيلية إذ مر به صبي في نهاية الحسن. فأنشده مسمعاً له: ما ضر من سار وما سلما ... لو أنه من لحظه سلما فأظهر النفار من ذلك، فقال: لا تخف، انك أنت الأعلى. ففطن لمراده. فقال: لست ممن يركب بأجرة ولا سخرة. فلم يحر جواباً. وبقي متعجباً من فطنته ومن مخاطبته، وبحث عنه فإذا هو من بني زهر. ولما أشتهر قول أبي العباس الكورائي فيه: إست الحبارى ورأس النسر بينهما ... لون الغراب وأنفاس من الجعل خذها إليك بحكم الوزن أربعة ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل حمله ذلك على أن قال: يا أعرق الناس في نسل اليهود ومن ... تأبى شمائله التفصيل للجمل خذها بحكم اجتماع الذم واحدة ... تغنى عن النعت والتوكيد والبدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وله موشحات يغنى بها، وأمداح في المنصور والناصر. وأمثل ما وقع ليدي من ذلك قوله من قصيدة منصورية يذكر فيها قطع المنصور الأشغال بكتب الفروع والاقتصاد على ما ثبت من الأحاديث النبوية: أسيدنا قد وردتم بنا ... وارد كنا عليها نحوم نبذهم مقالة هذا وذا ... فزل المراء وقل الخصوم وأثبتتم قول من لفظه ... هو الشرع والحق منه يقوم فلا زلتم لكمال الهدى ... وإحياء دارس درس العلوم وقوله من قصيدة ناصرية: عجبت لمن يراك وبعد هذا ... يحاول أن يرى ملكا سواكا وقد جمع الإله لديك ما قد ... تفرق في البرية من حلاكا وما أحد يوم ذراك يوماً ... فيختار الترحل عن ذراكا فسبحان الذي أعطاك ملكا ... على مقدار ما أعلى علاكا وحضرت يوماً بحضرة تونس عند الوزير أبي العلاء فنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 زهر نارنج تفتح في أشجاره بين يديه، فقال: هل يحضرك فيه شيء من محفوظاتك على أن يكون مما يهز سامعه؟ فقلت: أما على هذا الشرط فلا. فقال: قل أنت فيه. فقلت: امتثالا لأمركم لا على شطركم. ثم أنشدته: بدا لك النارنج وهو كأنما ... يريك على الأجياد دراً منضدا وان خلته بين الزبر جد فضةً ... فعما قريبٍ سوف تلقاه عسجدا على مثله حث النديم شموله ... ونظم من شمل المنى ما تبددا فأطنب في الاستحسان، وأقام السرور بواحد ثم ثان. وقال: خرج ابن الياسمين إلى بعض بحار مراكش فنظر إلي مثل هذا المنظر واستحث على وصفه من كان معه من أهل الشعر والأدب. فقال كل واحد منهم على ما أعطاه فكره ووقته. فلم يحفظ من كل ذلك إلا قول ابن الياسمين: جاء الربيع وهذي ... أولى البشائر منه كأنما هو ثغر ... قد جاء يضحك عنه زهر لنارنج دوح ... انظر إليه وصنه أليس حياك عرف ال ... ذي جفا من لدنه وهذا مما أوردته في كتاب "الكنوز"، إذ إهمال مثله منه لا يجوز. وها أنا أختم ترجمته، بما تعرف به الشعر قيمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 نقلت من معجم أبي الوليد الشقندي أن أبا الحجاج بن نمرى، عالم فاس، لما استحسنت بالحضرة مذاكرته، أحسن إليه وخلع عليه، وحضر مع ابن الياسمين فاستقبح صورته واستحسن كلامه، فقال فيه: أيها لون اللابس لون الليل ... ثوباً حين أظلم والذي يضمر داءً ... منه يوماً ما تألم أنت من أقبح خلق الله ... ما لم تتكلم بشذور باهراتٍ ... ساحرات لو تجسم أصبحت في كل جيدٍ ... حسن عقدا منظم فلما بلغ ابن الياسمين ذلك قال: أيها الفاسي أتى ري ... حك قبل النجو يفغم في قريض حسن الصو ... رة بالهجو مجذم فقبلناه وقد جا ... ء لنا بالمدح معلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ثم قلنا: بمزاح ... منك قول ليس يعدم إنما الشأن فقيه ... عالم ليس يعلم لا تراه الدهر إلا ... بغريم الكأس مغرم يرفض النفل مع الفر ... ض أوان الزير والبم وإذا صلى رياءً ... كان فيها مثل أبكم في ثيابٍ كربيع ... قد سرى فيها المحرم ذا جوابي وهو ظلم ... لك والبادئ أظلم قال الشقندي: هذان الشعران بمنزلة الشعريين، وكلاهما عين في مقابلة عين. وقد أوردتهما في كتاب "كنوز المعاني"، لأنهما مما ظفرت منه الأماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الترجمة الثامنة [ابن مسعود] الفقيه المدرس الشاعر الظريف أبو العباس أحمد بن مسعود [بن محمد] الخزرجي القرطبي. جليل المقدار، جائل في الأقطار؛ رحل من بلده قرطبة فدوخ أقطار المغرب والمشرق، إلى أن استقر بمدينة دنيسر فطلع بها كالمصباح المشرق، واعتنى به ملوك ماردين ودنيسر بنو أرتق؛ وجعلوه مدرساً في أجل مدرسة لهم هناك. وقد ذكروا أنه كان في فنون العلوم بمنزلةٍ كذلك، وكان جل علومه الأصول والفقه الشافعي. وقفت على ترجمته في تاريخ دنيسر لعمر بن الخضر التركي وفي تاريخ حلب لابن العديم، وفي معجم ابن الشعار. وكلهم أطنب في الثناء عليه، وترجم عما لديه. وفي أثناء تلك التواريخ أنه مات بدنيسر في سنة إحدى وستمائة. ولما مررت بمدينتي وماردين في الرحلة البغدادية وجدت أدباءها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يرتاحون إلى أخباره، ويهيمون بحفظ ما وقع إليهم من أشعاره، فأضفت ما استفدت منهم إلى ما وقعت عليه في التواريخ المتقدمة الذكر، ولخصت من الجميع ما اخترته لهذا المكان. أخبروا أنه كان مع جلالة قدره وتصدره للتدريس من أولع الناس بحضور السماع، وأكثر قولاً في الغراميات التي لا تخلو من الانطباع. وقد أوردت له مما وقع ليدي من ذلك ما يدلك على رقة حاشيته، وحلاوة منطقه وتمكن قافيته، كقوله: ثار شوقي إلى الحمى ... وهوى الخرد الدمى وتذكر ما خلا ... من نعيمٍ تصرما طيب عيش فقدت ... معناه إلا توهما فهمت مهجتي جوى ... وبكت مقلتي دما آه من حمرة الخدو ... د ومن حوة اللمى وقوام تخاله ... سمهرياً مقوما ناعم لم أزل به ... في حياتي منعما وعذرا كأنما ... مد في الخد أرقما أيها المبتلي به ... عش كئيباً متيما والذي جاء لاحياً ... فيه صار مغرما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قل له دع سليمة ... وانج عنه مسلما وقوله: ملت عني لما حكاه العذول ... أي غصن مع الصبا لا يميل كل حين تصغي لما قال هلا ... بعض حينٍ تصغي إلى ما أقول هو حظي أموت وجداً وشوقاً ... وحبيبي بمغضي مشغول أنا عبد وكل ما شئت تعطي ... فلتجني والعتب لم ذا يطول رضت فيه نفساً عزيزاً عليها ... ذلها والمحب عان ذليل ويقول النصيح أرسل إليه ... بخضوع لعل حالاً تحول أنا أرسلت للحبيب ولكن ... ليت شعري بما يعود الرسول وقوله: الحمد لله على ساعةً ... عاينت فيها البدر في سعده مبارك الطلعة ميمونها ... تقرأ آي النضج في خده قدمني من أفقه بعدما ... قاسيت ما قاسيت في بعده لم يجهل الحب ولا عابة ... فجاد بالوصل على عبده وعاهدت أجفانه صحبتي ... وكلنا باق على عهده أسر أيامي يوم أرى ... مرتقياً فيه إلى وعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وعهدي بالجلال بن الصفار الدنيسري يرتاح إذا أنشد قوله: وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرائق زهرها معنى عجيب وأعجب ما التعجب منه أني ... أرى البستان يحمله قضيب وأنشدني قوله: لاموا علي صبوتي والشيب مبتسمٌ ... كالزهر يبدي ابتهاجهاً في خمائله فقلت والوجد يطويني وينشرني ... أواخر اليوم أحلى من أوائله لم أترك الأنس حيناً من أحانيه ... فكيف أغفل عنه في أصائله فلم أبد له ما يعهده من الارتياح إذا أغرب علي بمعنى. فسأل عن سبب ذلك. فقلت له: لأني قلت، ولم أسمعه: وقائلةٍ أراك على التصابي ... وغصن العمر دب به الذبول وهذا الشيب أنجمه أنارت ... وطالعها لصاحبها أفول فقلت لها ودمع العين مني ... على تلك النجوم له مسيل أصيل العمر أتركه ضياعاً ... إذ الأوقات أطيبها الأصيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فمد يده إلى الدواة وكتبها. وأنشد له الصاحب كمال الدين بن العديم قصيدة. منها في الغزل: وقع الكلام مواقع الأشواق ... فأصاب فيك مقاتل العشاق ومنها في مدح ابن أرتق صاحب ماردين: ما جاد يوماً أن يقال هو الجوا ... د ولا توقف خشية الإملاق لكنه يعطي ويمنع عالما ... بمواقع الإمساك والإطلاق وأنشد له ابن الشعار في معجمه: يا ظبي سنجار أما ترثي لمن ... قد صار من أجلك في كف الأجل قد كان مشغولا بدارس عمله ... فاليوم لا علمٌ بقي ولا عمل ومن أبياته المفردة التي يمتثل بها: وما عجبي إلا لذي الجهل انه ... يؤمل في الأعداء رأى الأصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تراجم سنة اثنين وستمائة ثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الترجمة الأولى [التلعفري] الفيلسوف المتفنن الشاعر، الموفق مظفر بن محمد. من تلعفر من حصون سنجار. وكان الفضل التيفاشي يذكر لي هذا الرجل ويزعم أنه استفاد من تصانيفه في ضروب الفلسفة، ويمتعني بما وقع له من أخباره وأشعاره أيام رؤساء بني ندا، أعيان الجزيرة العمرية. ثم لما صار سنجار ومررت بتلعفر وحللت بالموصل وجدت ذكره هناك نابهاً، وألفيت كل من يذكره من أهل بلاده بانتسابه تائهاً وقد لخصت كما لقيته من ذلك: رحل في أول أمره من بلاده إلى الموصل وبغداد، وقرأ فيها مدة، ثم عاد إلى تلعفر واستقر بسنجار عند صاحبها بني مودود، وحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 منهم محل مر الخمر في العنقود، واختص من بينهم بقطب الدين، وتصدر لإقراء النجو والحكمة وضروب الآداب. وكان معظم علومه الفلسفة، واشتهر بالتنجيم وقول الشعر والأدب. فمن المتداول أنه وضع لقطب الدين في بعض السنين تقويماً وكتب عليه من شعره: تضمن حسبان مجرى النجوم ... وباح لديك بسر الفلك فما كان شرا فالحاسدين ... وما كان خيراً وبشرى فلك وله في قطف الدين وغيره من ملوك بيته أمداح جليلة، منها قوله الذي يرتاح إليه، وتعقد الخناصر عليه: غر بها ليل ساسوا الدهر واقتدروا ... عليه من حيث ظل العدل ممدود ماج الورى معهم في نعمة رحبت ... أفياؤها وسقى أفنانها الجود فبعضهم رائع في حال غفلته ... وبعضهم بين ذاك الدوح غريد لا يظهر العيد في أقطارهم أبداً ... إذ كل أيامهم من حسنها عيد المدح عندهم وقصدهم ... يد لديهم وأفق الجود مقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ما أحسنوا أبداً بدءًا إلى أحد ... إلا وقالت لهم أحسابهم عودوا وقطبهم قطبهم في كل مكرمةٍ ... على علاه استدار العترة الصيد ثم اختلت أحواله بسنجار، فرحل في نهاية من الإسراع والهرب إلى الملك الأشرف بحران، فعندما اجتمع به، قال له: ما أخرجك عن سنجار؟ فقال: صاحبها الذي جار. قال: فما هذا السوق؟ قال: على قدر المحبة والشوق. وقال في تغير صاحب سنجار عليه، مال يستغنى في هذا الباب عنه، ولا يتمثل في معناه بأحسن منه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أيا لمعزٍ صحبة السلطان إن لها ... صفواً يروق ولكن غبه كدر مماثلي لازال الدهر ذا حذرٍ ... منه وليس متى ما شاء يقتدر فكيف من ينقد الأجيال قاطبة ... مستصغراً وإذا يجفو جفا البشر وكلما شاء حكماً فيك أنفذه ... متى يشاء ومنه ليس تنتصر إن الملوك متى تستقر نارهم ... يحرقك قبل ابتغاءٍ للقرى الشرر وحضر يوماً في بستان عند الملك الأشرف، فخدمه مملوك له جميل الصورة، فقال له الملك: يا موفق، هل توفق لشيء من النظم في الذي جمع لك الحسن والإحسان؟ فقال: يا سلطان، ما أضيع هبوب النسيم على الروض الهشيم، ثم أفكر ساعةً وقال: أقول وقد أبصرت مرأى ... يحاكى غرة القمر المنير وأخلاقاً كما مزجت شمولٌ ... تدار عليك بالعذب النمير ولي حال ينافرها التصابي ... وقد حالت بإلمام النذير لقد أبديت لي حسناً وحسني ... ولكن جئت في الزمن الأخير فقال والله لقد جاوزت حد الإحسان! فلله درك! وبالله لا كتبه إلا بيدي. واستدعى الدواة وكتبها في دفتر اختياراته. وقدم على سنجار رجل كثير الدعاوى والتثقيل يعرف بابن الجغاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 القطربلي، ويكتب نفسه: علي بن طاهر العلوي. وكان أبوه، على زعمهم، يضرب الجغانة، وهي من آلات الطرب. ثم نشأ هذا الشخص فتعلق بالأدباء والأعيان، وأخذ من كلامهم واصطلاحهم ما يدخل به بين ... وسافر إلى الحجاز، فثار في خاطره أن يدعي الشرف، فرحل إلى الموصل وتزيا بزي الشرفاء وأرخى ذوائب شعره على جانبي وجهه. فضربه بالسياط نقيب العلويين هنالك وجرَّسه. والتجريس: أن يُنادي عليه: هذا خرا! ويشهر بين الناس. فسار إلى سنجار. واتفق على رؤسائها بكثرة التثقيل، وصاروا يعمرون مجالسهم بالمطايبة معه، والحكايات عنه إذا غاب. وصار له بذلك إدلالٌ يجالس به العلماء ويبحث في مجالسهم. وكان الحظ الأوفر من البلية به للموفق التلعفري، فجعله نصب أفكاره ونوادر أشعاره. فاطرد له معه، مع اتصال الأيام إلا في الندوة، ما يزري بأشعار ابن سكرة في خمرته. فمن ذلك قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ابن الجغاني غدا عندنا ... بضد ما كان بقطر بل صاعقةً أرسلها ربها ... بأرض سنجار على من بلي دلى ذؤاباتٍ وقال انظروا ... سبط النبي المصطفى المرسل حاشي السراة الغر من هاشم ... أن يقربوا من مدع ممحل يأنف من نسبته كل من ... يرجع في الناس إلى أول إن كان حقا ما ادعى قل له ... يظهر ذاك الأمر في الموصل السوط والتجريس قدامه ... وان تمادى أمره يقتل أرحنا منه الذي صاغه ... من جبل الجودي كالجندل خص جبل "الجودي" لأنه لا يفارقه الثلج. وكان هذا الرجل بارداً ثقيلاً يابس المفاصل. وقوله: هذا الجليس الذي بليت به ... أقسم ألا يفارق الصلفا في كل علمٍ يخوض مدعياً ... وهو جهولٌ بكل ما عرفا أوضع خلق الإله كلهم ... ويدعي أنه من الشرفا الموت منه ومن ثقالته ... أمانة الله عاجلاً وكفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقوله: هذا الدعى الذي غي ... ر جهله لم يهنه يروي الغريب وتروي ... غرائب اللوم عنه لطاهرٍ منتهاه ... والكاتب أطهر منه وقوله: لنا جليسٌ باردٌ معجبٌ ... أبعده الله وأمثاله إذا أحتبي في مجلسٍ تائهاً ... أخرج مثل الأرض أثقاله ويدعي في نسب المصطفى ... وفعله يكذب ما قاله يا رب لا تقض اتصالي به ... يوماً وقطع منه أوصاله ولم يزل مع الملك الأشرف إلى أن حضر معه وقعة دنيسر، التي كانت له في سنة اثنتين وستمائة، على نور الدين، صاحب الموصل، فوقع وارتض جسده، فمات في إثرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الترجمة الثانية [ابن عطاء الله] الشاعر الأديب المصنف راجي بن عطاء الله المصري. ذكر لي ابن عبد العظيم صاحب تاريخ مصر أنه كان عطاراً بالفساط، يجلس عنده الأدباء والشعراء، ويبيتون معه في السماع. وكان من أولع خلق الله بحضوره، والقول في منازع غرامياته. وخدم الملك العزيز، ابن صلاح الدين صاحب مصر، بالأدب والشعر، وله فيه أمداح. وصنف له كتاب "لشعراء العصرية، بالديار المصرية". وهو مشهور بأيدي الناس. وكانت وفاته سنة اثنين وستمائة. وأكثر ما وقعت عليه من شعره في طريقة السماع. فمما سمعته يغني به من ذلك فحفظته قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يا حادي العيس رفقاً ... بوخدها في البيد واثن المطي قليلاً ... على المحب العميد بلى بسلع حبيبٌ ... لقاؤه يوم عيد بلغه أني طريحٌ ... على تلاع زرود من يوم ذاك التجني ... وعهد ذاك الصدود وقوله: يا ثقاتي نقل الأع ... داء لي عنكم وعني بحياة الحب إلا ... كنتم لي عند ظني احذروا أن تتركوني ... في الهوى أقرع سني عذبوا بكل شيءٍ ... غير إظهار التجني فمتى شنع عنكم ... اشتفى الحساد مني إن أكن أبغي سواكم ... لا أقر الله جفني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لم أمن النفس إلا ... كنتم أقصى التمني أنا سكران هواكم ... وبذكراكم أغني شرب الكل بكأسٍ ... وأنا وحدي بدن فلهم فن ولي في ... نشواتي ألف فن وقوله: يا عيونا باللوى ساهرةً ... حرم الله عليك الفكرا أنا في نار اشتياقي محرقٌ ... ووشاتي تستطيب السمرا والذي قد ذبت من وجد به ... وغرام ليس يدري الخبرا ليتهم لو سامحوني ساعةً ... بحبيبي فاختلست النظرا ليس بختي في الهوى البخت الذي ... أجتني البرد به والزهرا وأنشدت له، وقد بلغه أن صاحبا له أفشى حديثاً كان بينه وبينه لم يطلع عليه غيره، وجعل يشنعه على جهة الإشفاق والنصح: على كل ما قد كان في الود بيننا ... عفاءٌ مدى الأيام غاد ورائح تشنع ما لولاك لم يبد للعدى ... وتزعم من جهل بأنك ناصح أفق أيها المغرور لست بلائق ... بمثلي وقد شانتك تلك الفضائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الترجمة الثالثة [هذيل الاشبيلي] الأستاذ النحوي الأديب الظريف أبو الحسن هذيل بن عبد الرحمن الإشبيلي. ذكر ابن عمر في تاريخه أنه مات في سنة اثنتين وستمائة. وكان أبو العباس النيار الإشبيلي من أحفظ الناس بأخباره وأشعاره ونوادره. أخبرني أنه وصل إليه طالب متخلف ليقرأ عليه، فكان في أول قراءته عليه قول كثير: حيتك عزة بعد الهجر وانصرفت ... فحي وحيك من حياك يا جمل فصفحه وقال: جئتك عرة. فقال: وكذاك بالله ترجع يا ولدي. وقال له يوماً: يا أستاذ، ما الكموج؟ فقال: وأين رأيت هذه اللفظة؟ قال: في قول امرئ القيس: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله فقال: نعم، الكموج: دويبة من دواب البر تحمل الكتب ولا تعلم ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقرأ عليه طالب من البربر قال: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا ... ) ووقف. فقال: لأي شيء بالله؟ ألطيب شعرك؟ عيسى ابن مريم لم يعلم لأصحابه ذلك، فكيف أنت! وخرج يوماً من المسجد الذي كان يقرئ فيه فوجد سائلاً وهو يرعد بالبرد ويصيح: الجوع والبرد يا مسلمين! فأخذ بيده وحمله إلى موضع فيه الشمس. وقال: صح بالجوع، فقد رفع الله عنك البرد. قال: ومن شعره: وقوله في جاهل كان يلزم مجلسه، وكان ممن ضيق الله ورزقه، وأساء خلقه: عهدي بالحرفة التي كرهت ... مع الأديب الأريب تصطحب وأنت ما بالها عليك غدت ... وقفاً ولم تدر قط ما الأدب وقوله فيه أيضاً: ومن أعجب الأشياء حرفتك التي ... شهرت بها والضيق في الخلق والرزق ولست أديباً لا ولا كاتباً ولا ... جليساً على الصهباء مستطيب الخلق غرائب لم تجمع لخلق من الورى ... وأغرب منها أن تعد من الخلق وقال في شخص آخر أحول كثير العجب، وقد مرضت عينه: جليس لنا يبرح الدهر قاعداً ... رمانا به الحرمان من حيثما رمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 له مقلة حولا وعينٌ مريضةٌ ... وعما قريب سوف يكدره العمى إذا أبصرت عيناي طلعته التي ... أموت بها غما أرى الموت مغنما وقال: وقد صافحه فتىً جميل من أبناء الأعيان: صبح الله لك الوجه بالسع ... د وحياه بالعلى والكرامة لم نلاحظ يوماً لحاظك إلا ... وسألنا من الإله السلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الترجمة الأولى [ابن مواهب] إسماعيل بن مواهب الحظيري. شاعر من الحظيرة، ضيعة كبيرة مشهورة من أعمال دجيل بالجانب الغربي من دجلة بين بغداد وتكريت. ذكر المؤرخون أنه مات في سنة ثلاث وستمائة. وذكر لي الشرف يعقوب الإربلي أنه اجتمع به في إبريل وغيرها وأنشده كثيراً من شعره. وكان مستجدياً جوالاً في الآفاق. قال: وقلت له مرة: أرى مجد الدين بن الأثير يكرمك ويحبك حاضراً، ويثني عليك غائباً، فلم لا تمدحه؟ فقال: أهل محبتك لا تجعلهم موضعا لاستجدائك فقلت له: أنت أعرف بطريقك. قال: ومما أنشدني من شعره فكتبته في اختياراتي قوله: إذا شئت طيب العيش لا تك خادماً ... لشخصٍ ولا مخدومه أبد الدهر وحاول كفافاً تنج من كلفة الغني ... وتخلص من الذل الملازم للفقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقوله يعتذر عن الانقطاع بتوالي المطر: عاقني عنك توالي المطر ... واصلا آصاله بالبكر ملأ الأرض وحولا أصبحت ... وهي مثل الحبر هلا الحبر فكأن البحر أضحى فوقنا ... سائلا أجمعه لم يسجر نعمةٌ آضت لعمري نقمةً ... عمت البلوى بها في البشر وعلى ذاك فان أرسلت لي ... سابحاً خضت بذاك البحر لا تظن الأمر عندي هيناً ... غلب الشوق على مصطبري وأنشد له صاحب تاريخ إربل: غبتم فما لي في التصبر مطمعٌ ... عظم الجوى واشتدت الأشواق لا الدار بعدكم كما كانت ولا ... ذاك البهاء بها ولا الإشراق اشتقاقكم وكذا المحب إذا نأى ... عنه أحبة قلبه يشتاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الترجمة الثانية [الكفر عزي] خطيب إربل وقاضيها جعفر بن هبة الله الكفر عزي، العالم المتفنن، من كفر عزي: ضيعة من ضياع مدينة إربل حاضرة بلاد الأكراد. وصفه صاحب تاريخ إربل بالمتفنن في العلوم ومعرفة النحو والهندسة والحساب، واشتهاره بإقراء ذلك مدةً. ووجدت الشرف يعقوب ملآن بأخباره وأشعاره، فذكر أنه كان على ما جعل إليه من خطة القضاء بتلك المملكة، واستولى عليه من الخطابة على منبر سلطانها، من أرق الناس حاشية وأطبعهم منزعا. ومن مستطرف حكاياته أنه كان في أول مرة متصدرا يقرأ عليه النحو وغير ذلك، وكان فتى من فتيان إربل يتردد إليه برسم قراءة النحو والأدب. ثم إن ذلك الفتى التحى وأدخل نفسه في الأشغال السلطانية. فصار مرهوب الجناب، مطروق الباب. وأتفق أنه لزم وضع سلطاني أهل إربل، فدخل الكفر عزي في ذلك فأساء فيه معاملته. وكان ذلك الأمر قد جعل إليه، فألزمه أن يحضر مجلس الشغل ويدفع ما رسم عليه. فوصل إلى المجلس وهو غاص وما هناك إلا من يعرف مقداره، ويلتزم إكباره، فجلس وأنشد مشيراً إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 هذا مقامي لديك يا من ... أقام دهراً وراء بابي أقصى أمانيه قرب إذن ... في دولة الحسن والشباب إن كنت أنسيت ذاك فانظر ... في فرد باب من الكتاب لا تغترر بالزمان يوماً ... وأفكر إذا سرت في الأباب مخارق الجاه ليس تبقى ... وموقف العزل كالحساب فافعل على قدر ما تلقى ... وقل فلا بد من جواب فاستحيا ذلك العامل على قلة حيائه، وأفكر في باب الفاعل والمفعول أيام يمشي على استحيائه، وأخذ ما جاء به الشيخ، واشتهرت القضية. وبلغت السلطان مظفر الدين صاحب اربل، فاستدعى الشيخ وقال: أغفلناك ولم ينبهنا أحد عليك لأنك محسود، ومثلك لا ينبه عليه إلا نفسه، وقد جعلت عقاب ذلك الرذل، الذي لم يقابلك بما يجب، عزله ووليتك الخطابة على منبر هذا الجامع. فقال: أرغب من إحسان السلطان ألا يكدره بأن أكون سببا لعزل شخص وقطع رزقه، وأنا ممن يشتفي بالقول لا بالفعل. فالاشتفاء بالأفعال من شيم الملوك. فقال له السلطان: أبيت إلا أدبا وظرفا. وجاء ذلك العامل فصار من خدامه، والمعترفين بإنعامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال: ومما يجب أن يحفظ من شعره قوله: لا تشك فالناس في الرزايا ... ثلاثة ثم لا مزيد إما صديق يفاد غما ... أو شامت كاشح حسود أو غافل عنك مستريح ... إليه شكواك لا تفيد ومن يسليك أو يواسي ... لم يبد شخصا له الوجود إلا أحاديث لفقوها ... يصغي لها الجاهل البليد وقوله: لا تقعدن مع العيال ولا تكن ... كلا وسد كلا وجد مشمرا وجب الفيافي واشتهر تنل المنى ... لا يقطع الهندي حتى يشهرا وقوله: انظر إلي بخبرة واترك كلا ... م المبغضين وكل شخص يحسد فالشمس إن شرفت وأشرق نورها ... ما ضرها ألا يراها الأرمد وكانت وفاته سنة ثلاث وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الترجمة الثالثة [ابن دهن الحصى] الأستاذ الأديب الحسن بن هبة الله بن دهن الحصى الموصلي، من أدباء الموصل المتصدرين للإقراء. مذكور في التاريخ أنه مات في سنة ثلاث وستمائة. وقفت على ترجمته في "تاريخ حلب" وفي "تاريخ المعاجم" وفي "اختيارات الشرف" فلخصت منها ما أوردته في هذا المكان. كان بالموصل يقرئ العربية ويمدح صاحبها، فرفع إليه أنه لما وصل صلاح الدين بن أيوب إلى جهة الموصل، ورام التغلب عليها، أنفذ إليه قصيدة يمدحه فيها، ويحضه على ما تقتضيه الهمة العالية في الملك. فتغير له، وخاف ابن دهن الحصى، فرحل إلى حلب وانقطع إلى صلاح الدين فأحسن إليه، ورتبه للإقراء في جامع المدينة. فلم يزل على تلك الحال والراتب جار عليه إلى أن مات. فأحسن ما أنشد الشرف يعقوب قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يبهج الناس بأعيادهم ... من أجل ذبح أو لإفطار وإنما عظم سروري به ... للثم من أهوى بلا عار أرقبها حولا إلى فابل ... لأنها غاية أو طارى وأحسن ملا أنشد له الشهاب القوصي: تطالبني عيني فلم تعد بعدكم ... وأنتم على حكم النوى في سوادها وتطمعني في طيفكم برقادها ... فأزجرها كحلا بميل سهادها ولي مهجة لم تبق فيها ... سوى ما سكنتم من صميم فؤادها وأحسن ما أنشد له الصاحب ابن العديم، وهو مما رواه عنه: وما أنا في الشكوى من البين عاجزٌ ... ولا ضاق حمل الرزايا بكم صدري ولا خانني حسن اصطباري وإنما ... رميت من البلوى بأكثر من صبري وقوله: من لصبٍ فوق فرش ضنيً ... أبدا فبرؤه ينتكس جفنه بالدمع منطلقٌ ... وكراه عنه محتبس جهل العذل موضعه ... فهداهم نحوه النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الترجمة الرابعة [الماكسيني] لأستاذ المتفنن أبو الحرم مكي بن زيان الماكسيني، من ماكسين، قاعدة "الخابور"، من أعمال سنجار ذكر المؤرخون أنه كان ضريرا. اشتغل بفنون العلوم ورحل في طلبها فقرأ مدة ببغداد وبالموصل، ورحل إلى الشام وغيرها. واشتغل بكثير المعارف، واستقر بالموصل مقرئا للعربية وغيرها، إلى أن مات بها في شوال سنة ثلاث وستمائة. وقفت على ترجمته في "تاريخ ابن الأثير" و"تاريخ ابن الساعي" و"تاريخ إربل" وتلخيصها: أن شعره كان دون علومه. وكان عماه من جدري أصابه في صباه. وأحسن ما أنشدوه له قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 إذا احتاج النول إلى شفيع ... فلا تقبله وانج قرير عين إذا عيف النوال بفرد مَنٍّ ... فأولى أن يعاف بمنتين وقوله: لك منزلٌ في القلب غير مذال ... كمراتع الآرام والآجال لم يعفه العهد القديم وكم عفت ... دارٌ بمر جنائبٍ وشمال وقوله: إذا ما كنت لا ترعى حقوقاً ... لإخوانٍ هم رفعوا منارك وتلزم كال حين أن تراعي ... ولا ينسى أخو ودٍّ مزارك ونقطع دهرنا تيهاً وعجباً ... وتأبى دائماً إلا اختيارك فزادك ... ما بقيت الله بعداً ولا أدنى على حال ديارك وقوله: على الباب يطلب الإذن صده ... تأدبه لا أن نعماك تحجبت فإن كان إذنٌ فهو كالخير داخلٌ ... عليك وإلا فهو كالشر يذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وولعت بحفظ هذين البيتين، واحتجت مرة طلب الإذن على فخر الدين ابن الشيخ، نائب السلطنة بالديار المصرية، فكتبت إليه: ماذا ترى في دخول من لا ... يروم شيئاً سوى الدخول تحصيل جاهٍ وكفُّ باغٍ ... والأمر لله في القبول فخرج في الحال حاجبه وقابل بما يليق بمكارمه، وجعل يستحسن "والأمر لله في القبول" ويكررها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الترجمة الخامسة [ابن نوفل] الأديب الحسيب أبو المحاسن الحسن بن نوفل الحلبي، من بيت مشهور في حلب إلى الآن. ذكره ابن العديم في تاريخها، وأخبر أنه ممن ينسب إلى الكتابة والرياسة، وأنه مات ببلده سنة ثلاث وستمائة وأحسن ما أنشده من شعر قوله: من ساءه أن بات في أسر الهوى ... قلق الجوانح دامي الآماق فلقد غدوت وقد سبتني أعين ال ... أتراك مشدوداً أشد وثاق ها مهجتي فلتفعل الأحداق ما ... شاءت بمحمول على الأحداق وتلقيت من بعض أقارب هذا المذكور أنه كان جنديا مخالطا للملوك، وأنه في بعض الولاة: يا مظهر العقل في ولايته ... كيف وما زلت ظاهر النزق لا تستقر الزمان أجمعه ... من عظم ما قد حملت من قلق مقدما من يرى تأخره ... مؤخراً من يفوز بالسبق ووضعك الشيء غير موضعه ... يشهد عند الأنام بالحمق مع الذي تقتضي الفراسة من ... تصغير رأس والطول في العنق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وأنشدني له بعض أدباء حلب قصيدة في ختان، اخترت منها قوله: ختانٌ فيه بالكرم اعتبار ... وبالشمع المنير وباليراع جرى دمه لنا شفقاً مذاباً ... لدى بدر تلفع بالشماع أتى ظبيا وأبدي صبر ليثٍ ... بضنك فيه ذم أخو الدفاع وكتب إلى وزير حلب ابن الموصل المشهور بالجود: يا من أمال الورى طُرّاً إلى حلب ... بالجود والخلق المألوف والأدب لا زلت في نعمةٍ يقضي الزمان بها ... أصم أعمى بلا هَمٍّ ولا نصب ولا شكوت بما أشكو إليك به ... الفقر والشيب والتزويج والجرب وعرفه أنه تزوج امرأة كتأب بها وهو على هذه الحال، وأنه لا يمنعه من طلاقها الذي لا يريحه غيره إلا عدم الصداق. فوجه إليه بصداق المرأة وما يشتري به جارية، وما ينفقه عليها، ويعاني به الشيب بالخضاب، والجرب بالأدوية والأغذية، فقال فيه: وصل الموصول كلٌّ علا ... بك يا من لا نظير له لك ... دون المبتلي حسداً آخرٌ قد زان أوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وسماح ناهض وله ... خلق في الناس أسفله وكفاه أن يذوب جوى ... كلما أصبحت تخمله ويذوق الموت من كمدٍ ... كلما حازيت منزله والورى داع وملتفت ... وسؤال مد أنمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الترجمة السادسة [عبد المنعم] الفقيه أبو الفضل عبد المنعم بن عبد العزيز الإسكندراني. وقفت على ترجمته في "تاريخ ابن الأثير" و"تاريخ ابن الساعي" ووجدت الأسعد بن يعرب شيخ علماء الإسكندرية مليئا بأخباره، فلخصت من جميع ذلك أنه تفقه بالا سكندرية على مذهب مالك، ورحل إلى بغداد فتأدب ولقي الفضلاء. ولم يزل يأخذ نفسه بقول الشعر إلى صدر له مثل قوله: يا ساحر الطرف ليلى ما له سحر ... وقد أضرَّ بجفني بعدك السهر ولست أدري وقد صورت شخصك في ... قلبي المشوق أشمسٌ أنت أم قمر ما صور الله هذا الحسن في بشر ... وكان يمكن ألا تعبد الصور أنت الذي نعمت عيني برؤيته ... لأنها شقيت من بعدها الفكر أموت وجداً ومالي منك مرحمةٌ ... وكم حذرت ولم ينفعني الحذر أستغفر الله لا والله ما خلقت ... عيناك إلا لكي يفني بها البشر قوله: أيهذا المتجني ... ما الذي رابك مني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كل يوم من جفائي ... لك فن بعد فن بالذي لم يغنني عنك وقد أغناك عني لا تنغص عيشةً أنت لها أقصى التمني وأفعل الخير إذا استطعت ولكن دون مَنِّ فأحق الناس بالإحسان من فاز بحسن وقوله في الإخوانيات: يأيها المتمني ما عداه أفق ... من سكرة لست منها صاحي الفكر وخذ من الدهر ما أعطاك مقتنعاً ... بالصفو طوراً وممزوجاً مع الكدر منغص العيش من لا يرتضي أبداً ... حالا ولم يلف إلا طامح البصر لو أنه صار حيث المجد منزله ... لظل ذا طمع في هالة القمر فلا صنيعة إلا وهي ضائعةٌ ... فيه وليس على الوهن بمصطبر وكيف تلقاه شكر لصاحبه ... من ليس غضباناً على القدر ووجه من بغداد رسولاً إلى يحيى الميورقي بإفريقية، فرجع بعشرة آلاف دينار، ففرقها في أهل وده ومعارفه، ومات فقيراً بمارستان بغداد في جمادى الآخر سنة ثلاث وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الترجمة السابعة [السلمي] القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن [محمد بن عبد الله بن] عمر السلمي القاضي. وقفت على ترجمته في "تاريخ ابن عمر" و"معجم الشقندي" و"معجم والدي" و"خلاصة الإبريز لمحمد بن عبد العزيز" فلخصت من ذلك: أنه كان فقيها علامة، وفي النظم والأدب أنذر علامة. جل بين قومه بمدينة فاس مقاره، وقضيت بها في الجاه والمال أوطاره؛ إلى أن كان هناك من أهل الفتيا، ثم صار من جلساء أصحاب الأمر وأرباب العليا؛ ثم ترقى إلى الخطابة والقضاء، وصار ذا إبرام وإمضاء. ومن شهور عنه في قضائه العدل في الأحكام، وقلة النزق عند اختلاف الخصام. وكان في غاية من الظرف، إذا أقبل شمت رائحة الطيب منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 على بعد، وإذا غسلت ثيابه لا يكاد يفارقها. وكان منزله كأنه الجنة، حتى وجد فيه أعداؤه مطعنا، ورفعوا للمنصور أنه غير حافظ للناموس الشرعي بكثرة تغزله واشتهار مقطعاته وانهماكه في العشق. ووافق ذلك أن رمى ابن أخٍ له يده في امرأة وغصبها على الدخول لمنزله، وشهد بذلك عند أبي موسى بن رمانة، حافظ فاس، جماعةٌٌ. فأمر بإحضار المذكور بعد صلاة الصبح وضرب عنقه. وطلع القاضي ليتكلم فيه وقد بلغه أنه متعفف، فقيل له في الطريق: إنه قد فات الأمر. فرجع. وكتب فيه الحافظ وأعلم أن فقهاء فاس أجمعوا على تأخيره عن الإمامة والخطابة وولوا غيره، حتى يصل الإذن العالي إما باستقرار الثابت أو بتعويضه. فوصل الأمر بوصول أبي حفص إلى الحضرة فما جهل مكانه، ولا صغر شانه. وولاه المنصور قضاء إشبيلية. فشكرت فيها سيرته، وحمدت سيرته. ومات بها وهو قاض في سنة ثلاث وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وله موشحات مشهورة يغني بها في الأقطار، منها: حسانةٌ رخيمة ... عانقت منها البانه والنقي الرجراج ... وأشواقي لحسانه ومما داخل في "كنوز المعاني" قوله: هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب عقل شاربها المدام يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام سما طرفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمس ينسكب الغمام وأذكر قدها فأنوح وجداً ... على الأغصان تنتدب الحمام وأعقب بينها في الصدر غماً ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام وقد اشتهر في الغرب والشرق قوله: لها ردفٌ تعلق من لطيفٍ ... وذاك الردف لي ولها ظلوم يعذبني إذا فكرت فيه ... ويتبعها إذا رامت تقوم ومن هذه القصيدة: أعيذك يا سليمي من سليمٍ ... قتلت فتاهم وهو الزعيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أمالك طالب بتراب قتلى ... إذا قتل الغرام فلا غريم وحضر يوماً معه أبو بكر بن ميمون وأبو العباس الكورائي. فقال الكورائي: ما زلت أضرب بالقنا المنآد ... حلق الدروع وأنفس الحساد ثم قال ابن ميمون: وحسبت أنى لا أراع لحادثٍ ... حتى بليت بسطوة الأحقاد فقال أبو حفص: من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تفتُّت الأكباد ولما قال أبو العباس الكورائي: نبغت عمرة بنت ابن عمر ... هذه فاعتبروا إحدى العبر قل لها عني إذا ما جئتها ... قوله تترك صدعاً في الحجر هبتك كالخنساء في أشعارها ... أو كليلي هل تجارين الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال في جوابه: نهاني حلمي فما أظلم ... وعز مكاني فما أظلم ولا بد من حاسدٍ قلبه ... بنور مآثرنا مظلم بغانا الحسود ولسنا كما ... يقول ولكن كما يعلم وخرج في صباه مع شيخه أبي ذر النحوي فأثرت الشمس في وجهه، وكان وسيماً، فقال الأستاذ: وسمتك الشمس يا عمر ... وسمةً بالحسن تعتبر فقال أبو حفص: علمت قدر الذي صنعت ... فانثنت صفراء تعتذر ولما أنشد أبا يعقوب بن عبد المؤمن قصيدته التي أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الله حسبك والتسع الحواميم ... تحوي بها سبعةً هن الأقاليم وانتهى منها قوله: يا سامعين أماديح الإمام ألا ... فاجثوا على ركب الإعظام أو قوموا قام جميع من في المجلس. وله قصيدة يمدح بها ابنه المنصور ويهنئه موقعه الأراك بالأندلس: أطاعتك الذوابل والشفار ... ولبى أمرك الفلك المدار ببشرى مثل ما أبهجت رياضٌ ... وسعد ما وضح النهار وفتح مثل ما انفتحت كمامٌ ... وشقت عن صدور مها صدار وآمال كما مدت ظلال ... وأفعال كما مدت بحار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وأعلامٌ بنصرك خافقاتٌ ... لها في كل جو مستطار ليهنئ أرض أندلس بدورٌ ... من السراء ليس لها سرار ومنها وصف الروم: وكم راموا الفرار من الرزايا ... ولكن أين من أجلٍ فرار تدار عليهم حمر المنايا ... بكأسٍ فيه عقر لا عقار إذا ما الليث أصبح في محل ... فما لطريدةٍ فيه قرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الترجمة الثامنة [الكورائي] الأديب الجليس أبو العباس أحمد بن عبد السلام الكورائي وقفت على ترجمته في"تاريخ ابن عمر" و"تاريخ ابن نجيل" و"خلاصة الإبريز لابن عبد العزيز"و "معجم والي" و"معجم الشقندي" وتلخيص ذلك أنه من تادلا، عمل مشهور بين مراكش وفاس. وقومه "كوراية" برابر يعيبهم أهل المغرب ويزعمون أنهم يهود. وقد استطرد لهجاء بني المهجوم أعيان فاس وعليتهم في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يابن السبيل إذا مررت بتادلا ... لا تنزلن على بني غفجوم قومٌ طووا طنب السماحة بينهم ... لكنهم نشروا لواء اللوم يا ليتني من غيرهم لو أنني ... من أهل فاسٍ من بني الملجوم وطراه شاعر ببراءة فيها أبيات، فكتب له عليها: يا من يطرى لمن يطرى ... أسرفت والله في التعدي أنا أطري الأنام طراً ... وأنت تبغي النوال عندي فلما وقف الشاعر على ذلك زاد بعده: نسبت للمسلمين ظلماً ... وكان شيخ اليهود جدي وهو من شيوخ أدباء المغرب. رزق طول العمر والجاه ومجالسة الخلفاء. فأول من جالسه منهم عبد المؤمن، ثم جالس أبا يعقوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثم جالس المنصور، وصنف له كتاب "صفوة الأدب" المشهور ب "حماسة الكورائي". ولما احتيج لرجل عامل عارف يجالس ابن منفذ، رسول صلاح الدين بن أيوب الواصل من المشرق، وقع الاختيار عليه، فما أتيح لأحد مجالسته سواه. ثم جلس الناصر، وحضر معه على فتح المهدية، وانصرف في خدمته إلى الحضرة، ومرض الناصر فهنأه بقصيدة أولها: أطلع الدهر منك بدراً منيراً ... ملأ السبعة الأقاليم نورا ثم مات سنة ثلاث وستمائة. وكان يقول في آخر أيامه: تعساً لطول العمر الذي أخرني لمعاشرة هؤلاء الأنذال! وعهدي بالخليفة عبد المؤمن يقول لي في جبل الفتح: يا أبا العباس، إنا نباهي بك أهل الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال في ابن خيار الجياني الذي سعى بابن عطية وزير عبد المؤمن وبلغ عنده الغاية في الجاه بعد ذلك: أيابن خيار بلغت المدى ... وقد يكسف البدر عند التمام فأين الوزير أبو جعفر ... وأين المقرب عبد السلام وكان عبد السلام الكومي قد ولي الوزارة بعد أبي جعفر، فلم تمر به الأيام حتى نكب وخنق. فما كان أقصر أمره. ولما عظم أبو زيد بن يوجان في وزارته أغرى المنصور بالكورائي وقال له: إنه من أهل الشعر والهزل، وما يليق بمجالس الخلافة إلا أهل العلم والجد، فهجر. فلما نكب ابن يوجان هجاه فأكثر. ومما ليس بمقذع من ذلك، قوله: لقد كنت تحكي في التهجم مالكاً ... وكانت بك الأحوال تحكي جهنما فما أعظم البشرى بعودك خاملاً ... وغيرك قد أضحى النبيه المقدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وهو أديب المغرب على الإطلاق في زمانه، مع ما له من اعتداد بالنفس والاقتدار في التقصيد. ومن عنوان ذلك قوله من قصيدة يمدح بها المنصور، ويذكر فتح قفصة وانهزام الميورقي: عدوكم بخطوب الدهر مقصود ... وأمركم باتصال النصر موعود وملككم مستمر ما له أمدٌ ... مؤقت دون يوم الحشر محدود ألقى على كل جبار كلا كله ... كأنه وهو في الأحياء مفقود وهبه عاش أليس الموت أرحم من ... عيشٍ يخالطه همٌّ وتنكيد أنحى الزمان على الأغرار واجتهدت ... في قطع دابرهم أحداثه السود ونازعتهم سيوف الهند أنفسهم ... فلم يفدهم عن الهيجاء تغريد فهم على الترب صرعى مثله عدداً ... إن كان يقضي بأن الترب معدود إذا حمى الأسد الغضبان رابيةً ... لم يفترس ثعلبٌ فيها ولا سيد وختمها بقوله: رضاكم الدين والدنيا وعدلكم ... ظلٌ ظليلٌ على الإسلام ممدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 دمتم حياة بني الدنيا ودام لكم ... نصرٌ وفتحٌ وتمكينٌ وتأكيد وله من قصيدة: عصوا دعوة المهدي وهي سفينةٌ ... فأغرقهم طغيانهم وهو طوفان ومن غر قصائده قصيدته في "رياح" يستميلهم إلى خدمة الأمير: أحاطت بغايات العلا والماخر ... على قدم الدنيا هلال بن عامر وزانوا سماء المجد عودا وبدأةً ... بسمر القنا والمرهفات البواتر هم المضريون الذين سيوفهم ... صواعق بأس تنتحي كل كافر أوائلهم في الجود والبأس غايةٌ ... وكم تركوا من غايةٍ للأواخر وكم فيهم من مثل كعب وهاشمٍ ... وكم لهم من مثل عمروٍ وعامر وكم قد أقاموا من عروش مواثلٍ ... وكم قد أقالوا من جدودٍ عواثر ومن محاسن صنعته قوله: جادوا وصالوا وصادوا واحتبوا فهم ... مزن وأسد وأصقار وأجبال إن سابقوا أو حاربوا غلبوا ... أو يمموا وصلوا أو أمَّلوا نالوا وقوله: غزوا فما امتنعوا صالوا فما انتفعوا ... كروا فما دفعوا فروا فما فاتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الترجمة التاسعة [الغساني] الحكيم الأديب المتفنن عبد المنعم بن مظفر الغساني الجلياني. وقفت على ترجمته في كتاب "الخريدة للعماد الأصفهاني" و"تاريخ حلب" وفي"تاج المعاجم" وفي"تاريخ بغداد لابن الدبيثي" وفي"تاريخ بغداد" أيضاً لابن النجار. فلخصت من جميع ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أنه ولد بجليانه من جهات غرناطة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، واشتغل بالطب والأدب، ورحل إلى المغرب واشتهر هناك ذكره، وأقام مدة ببغداد يمدح ويخالط الأعيان والفضلاء، ويطالع كتب الخزائن إلى أن المتفنن. واستقر بالشام وصار طبيب المارستان السلطاني في السفر والحضر، أيام صلاح الدين بن أيوب وبعده، إلى أن مات بدمشق سنة ثلاث وستمائة. ومدح في أول أمره صلاح الدين بمدائح مختصرات، فأعطاه عليها ثلاثمائة دينار مصرية، فحسده أحد الحاضرين وأظهر استكثار ذلك في حقه، فزاد السلطان ثلاثمائة دينارٍ أخرى. ووقفت على ديوان شعره، وأكثره مملوء من السخف والمجون، من نمط قوله في أبي الوحش، الذي كان يتطايب فيه مع أصحابه: إذا جاءني يوماً نعيُّ أبي الوحش ... وأبصرته فوق الرؤوس على النعش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقد جعلوا من نهر "قلوط" غسله ... وكفن كرشٍ وألحد في حش وظل لما يلقاه من هول منكرٍ ... وشدة ضيق القبر يضرط كالجحش بذلت لصحبي زق خمر وقينةً ... وزخرفت داري بالنمارق والفرش فإذا قيل لي ماذا التكرم والسخا ... أقل لهم مات الوضيع أبو الوحش وقوله يخاطب صديقاً له من أهل الجاه بشيزر رغب إليه أبو الوحش في أن يصحبه نحوه كتاباً: أبا الحسين استمع مقال فتىً ... عوجل فيما يقول فارتجلا هذا أبو الوحش جاء مجتدي ال ... قوم فنوه به إذا وصلا واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أتلوه من أمر شأنه جملا وخبر القوم أنه رجلٌ ... ما أبصر الناس مثله رجلا تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقلٌ به بدلا وهو على خفة به أبداً ... معترف أنه من الثقلا يمت بالثلب والرقاعة والس ... خف وأما ما سواه فلا إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا فسمه إن حل خطة الخسف والهون ورحب به إذا قفلا وسقه السم إن ظفرت به ... وأمزج له من لعابك العسلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقوله، وهو طيار بالمشرق: يا ساهراً في اقتناء علمٍ ... يخطب منه مقام محكم بدون هذا ترى فقيها ... فوسع الكم ثم عمهم وألبس من الشهيب طليلساناً ... وأغمده في المنكبين وأختم واجلس مع القوم في جدلٍ ... لا بالبخاري ولا بمسلم إلا صياحاً ونفض كمٍ ... ونظم "لا لا" وقوله "لم لم" فما أرى عندهم علوماً ... أكثر من "لا" و"لا أسلم" واستحسنوا قوله في الخمر: وصفراء لولا نفحها ومذاقها ... لقلت نضارٌ في الأباريق ذائب من الماء فيها للحباب عمائمٌ ... وللنور منها الأكف ذوائب ومن أبياته المفردة قوله: قد يكرم الفرد إعجاباً بخسته ... وقد يهان لفرط النخوة السبع وذكر العماد الأصفهاني أنه صنف كتابا سماه ب "نهج الوضاعة لأولي الخلاعة". وذكر المؤرخون أنه كان بمجلس السلطان صلاح الدين، فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الفاضل البيساني، ليغص منه بنسبه: يا أبا الفضل، كم بين جليانة وغرناطة؟ فقال: الذي بين بيسان والقدس. فخجل الفاضل وظهر ذلك في وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 تراجم سنة أربع وستمائة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الترجمة الأولى [البغيديدي] الشاعر الجمال البغيديدي حسين بن أحمد. لم أجد ذكره في تاريخ وإنما أخذت ترجمته من الحافظ أبي المحاسن الدمشقي ومن أدباء العراق: هو من بغيديد، قرية من قرى الحلة المشهورة بالعراق. وأول ما عرفت من أمره أني أول ما سافرت إلى بغداد بت ليلة على شاطئ دجلة في بستان، فسمعت في هدوء الليل يغنيان بهذه الأبيات في أحسن صوت وأبدع لحن: بين العقيق وحاجر ... أفنيت ماء محاجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 كم لي بذاك المنحنى ... من طيب عيش ناضر أيام أرتع للصبا ... في كل روض زاهر وأورد كل غضارة ... للعيش غير محاذر أحباب قلبي غبتم ... وسكنتم في خاطري وجفوتم وخيالكم ... من رحمة لي زائري أنسيتم عهد المشو ... ق المستهام الذاكر وزهدتم وغفلتم ... عن ذي غرامٍ ساهر كونوا كما شئتم ففيكم قد فضحت سرائري وعليكم اقتصرت أوا ... ئل صبوتي وأوامري لا وحش الله الحمى ... من كل ظبيٍ نافر ومن الغصون المائسا ... ت وكل بدرٍ سافر ومن النسيم معطراً ... ومن الغمام الباكر فما فرغا من هذه المقطوعة إلا وقد كدت أخرج عن الوجود طرباً، وبقيت وقد سر بها خاطري. ثم جعلت أبحث عن قائلها، فأخبرت أنها للجمال البغيديدي. وهو صاحب مقطعات في الغرام والمجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والهجاء وأكثر مسلكه في طريقة منصور الفقيه. إذا رمى بزوجه قتل، كقوله في شخص ثقيل، كان يزور بثقيلٍ آخر يقلب بالسراج: يا كفى الناس ما بينهم منك حتى ... صرت تغشاهم ومعك السراج فإذا زرت لا تزر بجنيبٍ ... لا يكون الطاعون والحجاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقوله في شخص نازلٍ يكثر من التيه، ولا يتكلم أحد في أدب أو علم إلا قطع حكايته وجعل يحكي: يا تائهاً يا جاهلاً يا قاطعاً ... كل مقال جاء من قائل لا يبصر الناس على كل ذا ... من ذي علاءٍ كيف من نازل وقال في شخص رفعه الزمان بالاشتغال في بعض الأعمال السلطانية، وكان يطعن في نسبه باليهودية: يا ناظراً في عطفه معجباً ... يبخل أن يبدأنا بالسلام والله لو أصبحت من هاشمٍ ... من معشرٍ سادوا الورى في نظام ما فيهم بعد أبي جعفر ... إلا إمام وارث بغى إمام لم نحتمل منك الذي جئته ... من صلفٍ يزري بعقل الكرام فكيف والسبت غدا عيدكم ... عذركم أمسى علينا حرام وأنشدت له في طريقة المجون: رأيت إذا زيدٌ على ظهر أمرد ... فقلت له ماذا الذي أنت تفعل فقال صغيرٌ ليس يعلم صنعةً ... أعلمه والأجر لي كيف يدخل وقوله: جاء على بغلة يعظمه الناس وقالوا فتىً وأي فتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فقلت من ذا؟ فقيل لي رجلٌ ... يلوط لكن يبوس ملتفتا ومن محاسن نوادره: قوله يخاطب أحد وزراء بغداد: قل للوزير أدام الله دولته ... يا أعدل الناس حالي كيف تلتبس إن الغلام وبرذوني قد اتفقا ... من فرط جوعهما ما فيهما نفس وإن تصرم هذا اليوم بي فغداً ... يمشي الغلام ولا يمشي بي الفرس وذكر أنه مات في سنة أربع وستمائة. ثم تذاكرت مع الحافظ أبي المحاسن الدمشقي بعد ذلك في شأنه فأخبرني أنه عمر، ولنتقل عن المجون والاستهتار إلى طريقة الفقراء، ولزم الزوايا والربط، وقال: أرعشت كفه على الكأس حيناً ... ثم قد أرعشت على القنديل ومحا من صحائف اللهو ما أث ... بته في صحائف التنزيل وتذاكرت مع العز الغنوي فيه، فأخبر أنه ذكره في كتابه في "من لقيه من الشعراء" فروى عنه، وأنشدني عنه أبياته التي خاطب بها الوزير، وقد تقدمت، وقوله: هو مثل السلطان في بلد النيل وهذا عجزٌ من السلطان قيل عنه إنسان سوءٍ فما عا ... ينت إلا مرأى بلا إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الترجمة الثانية [الكفرعزي] العالم القاضي أبو محمد جعفر بن محمود الكفرعزي. من كفر عزي، من ضياع إربل. ذكر عنه مؤرخ إربل أنه كان إماماً في الفقه الشافعي، مشاركاً في العلوم الحديثة والقديمة. ولي قضاء إربل ومات في سنة أربع وستمائة. وأنشد له: ولو أني كتبت بقدر شوقي ... إليك لضاق عن كتبي الفضاء أعلل فيك روحي بالأماني ... وأرجو أن يطول لك البقاء وتذاكرت مع الشرف يعقوب الإربلي في شأنه، فأثنى عليه ووصفه بخفة الروح ولطافة المنزع. وأنشد له: أهواك يا بدر لكن ... من لي بقرب البدور ولي إليك اشتياقٌ ... وكيف أسلو سروري ما بيننا من وصالٍ ... إلا الذي في السطور يطغى فيخرجه الشو ... ق من خبايا الصدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال: وكان في إربل شخص كثير الإلحاح واللجاج والمتابعة، فاتفق له أن استوزر، فقال فيه: قولوا أحقا سمعنا ... أم ذاك يخلق زورا أضحى "النصيبي" معيناً ... في ملكنا ونصيرا إن أبصرت لجاظي ... مشاوراً ومشيرا بدولةٍ كان هذا ... يوماً علينا عسيرا فلا رعى الله وقتاً ... قدمت فيه وزيرا نموت جوعاً ولسنا ... نلقي إليك الأمور قال: وجرى له أن تحاكم عنده شخص جريء متكلم مع شاب كما خط عذاره، فتان الصورة. فجعل القاضي يقبل الشاب. فقال له بما فيه من القحة: أراك يا قاضي المسلمين تميل إلى هذا الصبي ولا تلتفت إلي! فقال القاضي: ذاك لأنني أتبين مجاري الحق من أثناء كلامه. قال: لا والله، بل فتنك بألفه ولامه. فحبسه الحاضرون وهموا به. فقال: ما على هذا من جناح، احملوه إلى مارستان حتى يتطيب، فقد نشف دماغه. فحمل للمارستان وانحلت القضية. ثم أطلقه بعد ذلك. فكان يلقب بالناشف. فأضجره الناس، فهرب إلى الموصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الترجمة الثالثة [ابن الساعاتي] الشاعر المجيد الشهير المكثر الجليس البهاء بن الساعاتي الدمشقي أبو الحسن علي بن محمد بن رستم. وقفت على ترجمته في "تاريخ حلب" و"تاج المعاجم". ووقفت على ديوان شعره في أربع مجلدات. وهو مملوء من المحاسن. وتلخيص أمره: أنه خراساني الأصل، ولد بدمشق وكان أبو أمه يشتغل بالساعات التي على باب الجامع، فعرف به. قالوا: ولم بدمشق في زمانه أبدع منه صورة. وبرع في صباه خطاً وشعراً، ولعبا بالشطرنج والنرد، وفي الفروسية. فخالطه الكبراء، وهام فيه الجلة، ونادمة الملوك، وجالسة السلاطين إلى أن قدم على الجميع، وأبيح له ضرب طبولهم، على عادة أهل المشرق. وجل مديحه في السلطان صلاح الدين بن أيوب، وبنيه: العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 صاحب مصر، والأفضل صاحب دمشق، والظاهر صاحب حلب. وله مدح كثيرة في نجم الدين بن مجاورة وزير العزيز، وقد تقدمت ترجمته. ومن المشهور أنه قرأ في أولا أمره على البديع الأسطرلابي بأمد وكان له ألف دينار، فجعلها في حب ببيت البديع ولم يعلمه، فاتفق أن دخل سقاء وحمل الحب فوقع على الذهب فأخذه. وتفقده ابن الساعاتي فلم يجده. فخرج وشكا ذلك للبديع. فقال البديع ما اشتهر، لما تضمنه من الإحسان وطريف المقصد: يا من غاب عني لست أنساه ... ومن أصافيه ودي حين ألقاه إن كان مالك الحب ألفه ... كما علمت فماء الحب أفناه ثم سعى في شأنه حتى خلصه من السقاء. وكانت وفاة ابن الساعاتي بالقاهرة سنة أربع وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وتصفحت شعره فوجدته يجمع بين ألفاظ الشارقة الرقيقة، ومعاني المغاربة الدقيقة؛ فلا يخلو من صقل الكلام وغوص الفكر. وإذا أردت أن تقف على عنوان ذلك فأضع إلى قوله من قصيدة لصلاح الدين ابن أيوب: هز الصبا أعطافه هز الصبا ... أعطاف غصن البانة الهيفاء ما ضم صدر ضحى كطلعته ولا ... ينشق عن ثانية جيب سماء وبمهجتي الداني القريب خيالها ... ومزارها عني البعيد النائي وهبت مباسمها الصباح وقلبها ... خلعت ذوائبها على الظلماء وقفت وقوف الدمع ثم مشيت إلى الت ... وديع مشى الوجد في الأحشاء وقوله من قصيدة في الوزير ابن مجاور، وهو مما يغني به: عز الجفون وذلة الصبر ... حكما على بطاعة الهجر ما كنت أعلم قبل كاظمةٍ ... أن الوفاء طليعة الغدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لو كنت أسأل بعد وقفتنا ... عن ذاهبٍ لسألت عن صبري يا كعبة في الحسن ما نصبت ... إلا لكسبت الإثم لا الأجر علمت دمعي السعي ثم أخذ ... ت الصبر عنك بسنة النقر لو كنت عادلة على دنف ... لمنعت ظلم الردف للخصر ولما ضربت بسيف لحظك مع ... مودا فباء الجفن بالكسر لفتوره وحي إلي على هاروت أنزل سورة السحر وبسمت من دمعي ولا عجب ... للغاديات تبسم الزهر ما راعني في وجنتيك ضحى ... غير اصطلاح الماء والجمر يا ليلة بالنعف فزت بها ... ما كنت إلا ليلة القدر اسقي بريقك وهي صافية ... صهباء في قدح من الدار وحددتني باللحظ حين رأي ... ت الحد يلزم شارب الخمر وسواد قلب الليل يخفق فيه البرق خوف طليعة الفجر حتى بدا وكأن طلعته ... وجه الوزير يهش للسفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقوله في قصيدة في الفاضل البيساني، وهو أفضل مما يغني فيه: لهفي على غصن النقي المتمايل ... يهتز معتدلاً وليس بعادل لا يستبين منازلاً عشاقه ... بفتور لحظ كالقضاء النازل فشعاره من فارس ونجاره ... من عامرٍ ولحاظه من بابل يا قلب عاشقه وأسهم لحظه ... كم ألزم المتقول حب القاتل يلقاك من لدن القوام برامح ... ويصول من هدب الجفون بنابل كالبدر يسري في نجوم قلائدٍ ... وظلام أصدغ وسحب غلائل ما جال دمعي بعد طول جموده ... إلا على ذاك الوشاح الجلائل وقوله من قصيدة، وهو مما يغني به: فؤادي وفودي بعد لمياء أشيب ... وقلبي على جمر الغضي يتقلب إذا مال غصن قلت قدٌّ مهفهف ... وإن لاح برقٌ قلت كف مخضب فلا تنكر إذ كر العذيب بارقٍ ... فإني بثغر المالكية أنسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أغار على القرطين خيفة حبها ... ألست تراها مثل قلبي تعذب وأنكر من تلك الغدائر أنها ... إذا أرسلت ظلت مع الشعر تلعب ومن أبياته المفردة الواقعة في أشعاره السماع قوله: لو لم يكن هاروت ساحر قرطها ... ما كان في ذاك الفضاء يلعق. وقوله: قال سعدٌ وقد رأى فيض دمعي ... ليت شعري ما حدثته البروق. ومن "كنوز المعاني" قوله: لا تعجبن لطالبٍ بلغ المنى ... كهلاً وأخنق في الزمان الأول فالخمر تحكم في العقول مسنة ... وتداس أول عصرها بالأرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وقوله: كادت تطير من الزجاج وإنما ... صاغ المزاج لها خفي شباك وقوله في النهر: صدأ الظلام يزيد رونق حسنه ... أرأيت سيفاً قط يصقل بالصدا وقوله: والطير تقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمامة تنقط وهو من أولع الناس بالتلفيق، وجمع ما يقف عليه متفرقاً، كقوله: قم يا نديم إلي مباشرة الوغى ... فالحرب قائمةٌ ونحن هجود القطر نبل والغدير سوابغ ... والبرق بيض والغمام يقود وقوله، وكان أبو الفضل التيفاشي يقول: لم يطرق سمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 في منزعه أحسن منه: يا حبذا ذاك الزمان وطيبه ... والحادثات عن السرور نيام ومواقف بالنيربين شهدتها ... والعيش غضٌّ والزمان غلام جمد المدام بهن فهو فواكهٌ ... تجني وذاب التبر فهو مدام في جنة جليت فنقطها الحيا ... بعقود دُرٍّ خانهن نظام كملت فنرجسها المضاعف أعين ... والورد خدٌّ والقضيب قوام وقوله: لله يوم النيربين ووجهه ... طلق وثغر اللهو ثغر أشنب وكأنما فنن الأراكة منبر ... وهزارها فوق الذؤابة يخطب والرعد يشدو والحيا يسقي وغص ... ن البان يرقص والخمائل تشرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وكأنما الساقي يطوف وكأسه ... بدر الدجى في الكهف منه كوكب بكر بها نقع الغليل ومعجبٌ ... نقع الغليل بجذوة تتلهب والقطر نيل والغدير سوابغٌ ... موضونة والبرق سيف مذهب ومن أحسن ما وقع له في التعليل قوله في المداح: تخشى الفلا أبداً غارته فلذا ... قلب السراب على حافاتها يجب وعهدي بأبي المحاسن الدمشقي الحافظ يهتز طرباً إذا أنشد قوله في غلام تعلو وجهه صفرة شفقيه: وبروحي من وجهه شفقي ال ... لون كالشمس روعت بالفراق لا لداء لكنه غم وجداً ... لم يدع غير هائمٍ مشتاق راق ماء الجمال في وجنتيه ... فهو مرآة أوجه العشاق ومن معانيه المستحسنة قوله: لا تيأسن من أخ ولى بجانبه ... وإن بدا منه سوء أخلاق إن السماء ترجى وهي نازحةٌ ... إذا ألحت بإرعادٍ وإبراق وقوله: لا تخل أن كل ضحك سرورٌ ... ربما كان مؤذناً بالبكاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فطويلاً أبكي جفون الغوادي ... ضحك البرق في متون السماء ويستلمح قوله في سوداء: زعموا أنني بجهل تعشق ... تك سوداء دون بيض الغواني ليس معنى الجمال فيك بخاف ... إنما أنت خال خد الزمان وقال في منزل السعيد بن سناء الملك، وقد تأنق في بنائه: يا منزل القاضي السعي ... د حبوتني عياً ولكنه ما أنت إلا جنة ... إن كان في الأفاق جنة حاكيت شكل كليلة ... فمتى يرى كأخيه دمنة وله نوادر كثيرة في رجل كبير الأنف يلقب بالسديد، منها قوله: ما ضاقت الدنيا علي وقد حوت أنف السديد ويستحسن قوله في الباذنجان: يا مهدي الإبذنج أهلاً بما ... أهديت لي إذ لم تزل منعما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أقماع " كيمختٍ" على أكره ... من أدمٍ قد حشيت سمسما وقوله: أو ما ترى الأطيار في أشجارها ... كمغرد قد دب فيه شراب وكأن معتل النسيم تحيةٌ ... وكأنما أغصانها أحباب وقوله: أشجار موزٍ نزلنا بها ... فيا شكر الله ألطافها حلا طعمها ونما عرفها ... لمن ذاقها ومن استافها فمن كان ضيع أضيافه ... فليست تضيع أضيافها كخضر البنود إذا نشرت ... وجاذبت الريح أعطافها وإلا قدود عذارى رقصن ... فظلت تناقل أسيافها فلو كنت في غير قيد النهى ... لقمت فقبلت أطرافها وقوله: ولقد نزلت بروضة حزينة ... رتعت نواظرها بها والأنفس فظللت أعجب حيث يحلف صاحبي ... والمسك من نفحاتها يتنفس ما الجو إلا عنبر والدوح إل ... لا جوهرٌ والروض إلا سندس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 سفرت شقائها فهم الأقحوا ... ن بلثمها فرنا إليه النرجس فكأن ذا خدٌّ وذا ثغر يحا ... وله وله وذا أبدا عيونٌ تحرس وقوله مما يكتب على سيف: سر بي ولا تخف المقاتل واثقاً ... بالله إن العار عين المقتل أنا بارقٌ حيث الدماء سحائبٌ ... أهدي المنية في ظلام القسطل أظمى وبي نقع الغليل وغير ما ... عجبت إذا نقع الغليل بجدول ومن محاسنه التي يحتاج إليها قوله من قصيدة -وقد أرجف بصلاح الدين أيوب فيما انتابه- مشيرا بعافيته: لك البقاء وللأعداء ما زعموا ... وبالخلائق جمعاً لا بك الألم ما ضر مجدك ما قالوا وما أفكوا ... ولا معاليك ما شادوا وما هدموا وافي كتابك والآمال قاعدةٌ ... وهماً فقامت إلى تقبيله الهمم ما كان إلا الندى في كل واجبة ... أو العظائم في الأفاق تقتسم يطوي ويستر صوناً ثم ننشره ... كالشمس تسفر أحياناً وتلتثم وقال في الجارية التي رقمت في خدها بالمسك حية وعقرباً، فأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الملك العزيز الشعراء بالقول فيها: يا ضرة القمرين في شرفيهما ... من أي شيء منك لم أتعجب أقبلت مثل الشمس في غسق الدجى ... وحملت برقا ضاحكاً عن كوكب كتبت بخديها المواشط فتنةً ... عمت عموم هواك من لم يكتب جاء الكليم بأيةٍ من حيةٍ ... وأراك جئت بحية وبعقرب وكتب إلى الملك العزيز، وقد شرب دواء، قصيدة منها: وعرفت غبطة هذا الدوا ... ء من كل مؤلمة في الجنان فبرؤك صحة جسم الوجود ... نعم واعتدال مزاج الزمان ومن مستحسن مدحه الذي يتمثل به: واهاً لسعيك في بلوغ مقاصد ال ... عافي وبشرك في وجوه القصد طلبوا علاك بأنفس ما عودت ... حب الثناء ولا اكتساب السودد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الترجمة الرابعة [أبو ربيع] السيد المتفنن أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن المؤمن. والده أكبر إخوته. وهو الذي حاصر مدينة تونس، وغض منه أخواه أبو يعقوب وأبو حفص، بعد وفاة أبيهم فزعموا أنهما دسا إليه جارية جميلة سمته في خرقة الجماع. وكان حينئذ واليا على بجاية. وولى ابنه هذا الإقليم فأخرجه منه على اليورقي وتنقل في الولايات، كبلنسية وسجلماسة. وحيثما كانت ولايته اجتمع إليه أهل الأدب واشتهر مكانه. فقد كان متميزا في قومه، عالما فيهم بهذا الشأن. وقد اشتهر اختصاره للأغاني. وديوان شعره مجموع بأيدي الناس. ومن الحكايات النبيلة أنه كان بمراكش تحت جفوة من المنصور. فاتفق أن وفد على الحضرة وفد من الشام انتهى إلى ظاهر مراكش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وعين لهم الدخول في غداة اليوم الثاني فكتب أبو الربيع للمنصور: يا كعبة الجود التي حجت لها ... عرب الشام وغزاها والديلم طوبى لمن أمسى يلوذ بها غداً ... ويطوف بالبيت العتيق ويحرم ومن العجائب أن يفوز بنظرةٍ ... من بالشآم ومن بمكة يحرم فاستحسن المنصور مقصده وأظهر الرضى عنه، وأمره أن يكون هو الخارج للقائهم والداخل عليه. وذكره الشقندي في معجمه فأطنب في الثناء عليه، وقال: هو من مفاخري بني عبد المؤمن. وأحله منهم محل ابن المعتز من بني العباس، وابن المعز، من العبيديين، وقال: كان قديرا على النظم، حافظاً للآداب، جواداً يتعلق بأدنى سبب يجب رعيه. وخبرته فوجدته يجود في أكثر الأوقات بما يساعد عليه الزمان. قال: ولقد قلت له يوماً: يا سيدنا، تكلفون أنفسكم ما لا يساعد عليه الوقت. فضحك وقال: إنا نغالب الزمان فيما نتكلف، ونرجو من فضل الله ألا يغلبنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأذكر أنه شفع له شخص مليح الكلام. فولاه وأحسن إليه. فأتى بالقبائح. فذكر أمره وأنا حاضر. ثم قال فيه: لا تصنع المعروف إلا لمن ... رأيته أهلا لشكر الصنيع كم من شريف القول قد غرني ... بقوله والفعل منه وضيع ولم أكن أغلظ في مثله ... لكن رمتني ثقتي بالشفيع قال وقد كان مولعا بالألغاز. ومن محاسن ما له في هذا الباب قوله في القلم والدواة: وميتٍ برمسٍ طعمه عند رأسه ... فإن ذاق من ذاك الطعام تكلما يموت فيحيا ثم يفرغ زاده ... فيرجع للقبر فيه تيما فلا هو حي يستحق كرامةً ... ولا هو ميت يستحق ترحما وقوله في الصابون: وأسمر السودان بيضاً ... ويخشى الشمس أن تعدو عليه له في صنعه سرٌ مليح ... وكل الناس محتاج إليه وقوله في العين: وطائرة تطير بلا جناح ... تفوت الطائرين وما تطير إذا ما مسها الحجر أطمأنت ... وتألم أن يلامسها الحرير قال: وصحبه مرة في سفر، فجلسنا ليلا على نهر، وقد تشكل فيه القمر والنجوم، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وما سابقٌ لا يرى صاعداً ... تراه إذا ما استقام إن انحدر له منك ربعٌ ومنه الحياة ... وذلك حظ جميع البشر إذا ما جلست له ليلة ... حكى لك أنجمها والقمر وله جارية أسمها ألوفة: خليلي قولا أين قلبي ومن به ... وكيف بقاء المرء من بعد قلبه فإن شئتما إظهار سرٍّ كتمته ... فقد بان أمري لكم بعد قلبه ومن مشهور غزله: أقول لركبٍ أدلجوا بسحيرةٍ ... قفوا ساعةً حتى أزور ركابها وأملأ عيني من محاسن وجهها ... وأشكو إليها أن أطالت عتابها فإن هي جادت بالوصل وأنعمت ... وإلا فحسبي أن رأيت قبابها فقبلتها فوق اللثام فقال لي ... هي الخمر أرشفت الغداة حبابها وكانت وفاته سنة أربع وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الترجمة الخامسة [المارتلي] الفقيه الزاهد أبو عمران موسى بن عمران المارتلي. وقفت على ترجمته في "معجم الشقندي" و"معجم والدي". وتلخيصها: أنه من مارتلة، المعقل المشهور على وادي "آنة" من عمل" باجة" من الأندلس. وسكن إشبيلية، واشتهر بالزهد والانقطاع حتى كان في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 واحد وقته، يزور الملوك ويتركون به وستوهبون دعاءه إلى أن كانت وفاته بإشبيلية سنة أربع وستمائة. وله نظم ونثر في النصائح والزهد، وذلك مدون مشهور بأيدي الناس. وعنوان ما ذكر ملتزما نصح به، وفيه: اسمع أخي نصيحتي ... فالنصح من محض الديانة لا تقربن من الشها ... دة والوساطة والأمانة تسلم أن تعزي لزو ... رٍ أو فضول أو خيانة وقوله: يا غبار في أن يرى شاهدا ... وحكمه بين الورى ماضي إياك فلغز خلاف لها ... أول ما تخضع للقاضي معرضاً وجهك في كل ما ... يومٍ لإقبالٍ وإعراض كن مستريحاً في الورى سارحاً ... بكل عيش نلته راضي منفرداً لا تفكرن بالذي ... يأتي ولا تبك على ماضي وقوله: إلى كم أقول ولا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأزجر عيني فلا ترعوي ... وأنصح نفسي فلا تقبل وكم ذا تعلل لي ويحها ... بعل وسوف وكم تمطل وكم ذا أؤمل طول البقاء ... وأغفل والموت لا يغفل وفي كل يومٍ ينادي بنا ... منادي الرحيل ألا فارحلوا أمن بعد سبعين أرجو البقا ... وسبع أتت بعدها تعجل كأن بي وشيكا إلي مصرعي ... يساق بنعشي ولا أمهل فيا ليت شعري بعد السؤال ... وطول المقام لما أنقل وكان لا يقبل من أحد شيئا، وإنما كان له ما يقوم به من ملك ورثه من جهة طيبة. وكان مع ذلك يعمل الخوص بيده في خلوته ويبيعه ويتصدق منه، لأنه كان يرى كراهية البطالة عن شغل لمثله. رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الترجمة السادسة [ابن خروف] الشاعر المحسن الشهير أبو الحسن علي بن محمد بن خروف القرطبي. وقفت على ترجمته في "تاريخ حلب" و"تاريخ المعاجم" وفي "زاد المسافر لأبي البحر". وتلقيت بعضها من الحافظ الدمشقي وغيره من أدباء الشام، إذ ذكره هناك مشهور، وهو إلى الآن على الألسن يدور. أصله من القيذاف، الحصن المضاف إلى أعمال غرناطة، وهو بين قرطبة وبينها. ونشأ أبو الحسن في قرطبة ورحل قبل أن يعظم اشتهار ذكره إلى المشرق، فطبق ذكره هنالك الآفاق، وامتلأت بمحاسنه مسامع الشام والعراق، واستقر في آخر أمره بحلب. وقال: حلبت الدهر أشطره ... وفي حلبٍ صفا حلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقال الصاحب كمال الدين بن العديم: كان يتردد بين حلب والموصل، يمدح الظاهر بن صلاح الدين. ومدح نور الدين أرسلان شاه، إلى أن حضر مرة بدار العدل في حلب عند الملك الظاهر في إحدى ليالي شهر رمضان من سنة أربع وستمائة، وتاج العلا الشريف يعظمه، فأطال على عادته، وكان ابن خروف قد أتى بقصيدة في مدح الظاهر أولها: شمس الهداية في أبناء أيوب ... أخت النبوة في أبناء يعقوب هم الملائك في زي الملوك وهم ... أسد الحروب وأقطاب المحاريب ثم خرج ليريق الماء في الظلمة فوقع في جب طامٍ كان هناك، وهو جار، فمات فيه، وأطلع منه، والقصيدة قد ضم عليها يده. فأمر الظاهر أن تجعل صلة القصيدة في تجهيز إلى قبره والصدقة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ثم إن ابن السنينرة الشاعر [جاء] بعد ذلك بقصيدة، ووجد تاج العلا في الدهليز يريد أن يدخل للوعظ، فبادر وكتب للظاهر: العبد قد وفى لينشد مدحه ... بنيت قواعدها على التخفيف وأخاف من تاج العلا تطويله ... ليلاً فألحق ملحق ابن خروف فضحك وأمر بإدخاله قبل وعظ تاج العلا. فحضر وأنشد. ومقطعات ابن خروف طيارة ظريفة، كقوله في غلام سندي: ومنوع الحركات يلعب بالنهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه متأود كالغصن بين رياضة ... متلفت كالظبي عند كناسه بالعقل يلعب مقبلاً أو مدبراً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه ويضم القدمين منه لرأسه ... كالسيف ضم ذبابه لرئاسه وقوله في غلام خياط: بني المغيرة لي في حكيم رشأٌ ... ظلالٌ سمركم تغنيه عن سمره يزهي به فرس الكرسي من بطل ... بإبرةٍ هي مثل الهدب من شفره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إذا تألق عنها الخيط تحسبها ... شهاب رجم جرى والنور في أثره يود كل لسان أن يكون لها ... لبداً إذا فرغت بالرقم من حبره وهذا كله مما لا يخفي أثر غوص الفكر فيه؛ وهو من محاسن "كنوز المعاني". وكان الأستاذ أبو عمران الطبراني يتعجب من قوله في غلام معذر: وكان غريب الحسن قبل عذاره ... فلما بدا صار الغريب المصنفا ومن نوادره قوله، وقد حبس القاضي محبوباً له: أقاضي المسلمين حكمت حكماً ... غدا وبه الزمان له عبوسا سجنت على دراهم ذا جمال ... ولم تسجنه إذ غصب النفوسا وقوله وقد دعاه إلى طعامه ابن لهيب الدمشقي: دعاني ابن لهيب ... دعاء غير نبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 إن عدت له يوماً إليه ... فوالدي في أبيه وأنشدني له أبو بكر بن الصابوني الإشبيلي مستطرفاً: مثلي يسمى أديباً ... مثلي يسمى أريبا إذا وجدت كثيبا ... غرست فيه قضيبا ثم زاد من قوله: ولا أبالي خصيبا ... لقيته أم جديبا وأنشدني الشهاب القوصي عنه، وهي مشهورة عند أدباء دمشق: تروق دمشق ولداناً وحوراً ... وتزهي زهو جنات النعيم إذا رحلت عروبة عن حماها ... تأوه كل أواب حليم إلى سبتٍ حكى فرعون موسى ... يجمع كل سحار عليم فتبصر كل أملودٍ قويمٍ ... يميس وكل ثعبان عظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 إذا انسابت أرقمه عليه ... تذكرنا بها ليل السليم وشاهدنا بها في كل حال ... حبالا ألقيت نحو الكليم وتحشر فوق أخضر مستدير ... ضراغمة الشرى وهي العريم بمغدي صبوةٍ ومراح أنس ... ومورد ظبية ومراد ريم مسلطة العيون على قلوب ... مؤيدة الفتون على حلوم وتبدي بالصوالج في كرات ... محاسن فعل أصحاب الرقيم فتبصر عند ذلك كيف تصطو ... بدور بالبروق على نجوم تظن كراتها تنبت منها ... قلوب العاشقين عن الجسوم وما في ضربها ألمٌ بشيء ... من الأشياء إلا بالهموم وأهل دمشق قد اختصموا بيوم السبت يعطلون في هذا اليوم من الجمعة جميع أشغالهم، ويخرجون إلى هذا الميدان الذي ذكره. فقوم يلعبون بالصوالج، وآخرون يغنون السماع. وكل أحد فيما مال إليه هواه، لا مثرب ولا منتقد. ويمتدون في ذلك عن الميدان إلى المقاسم، حيث تنقسم أنهار دمشق وتنصب إلى ما بين الشرفين المشهورين بالجسر. ووقع لي في ذلك أيام مقامي بها: أما دمشق فجنة ... يبني بها الوطن الغريب لله أيام السبو ... ت بها ومنظرها العجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أنظر بعينك هل ترى ... إلا محباً أو حبيب كل يبلغ نفسه ... ما تشتهي مرحاً وطيب في حيث لا داع هنا ... ك سوى السرور ولا مجيب أرض خلت ممن ينغص أو يراقب أو يعيب وقلت أيضاً: أما دمشق فما في الأرض مشبهها ... جنات عدن بها ما يشتهي البشر أرض لعمرك ما فيها لمبتذل ... ذامٌ يلوم ولا في صفوها كدر وكل سبت بها عيد تعود به ... آمالهم وبه الزلات تغتفر كلٌ إلى ما دعته نفسه عجلٌ ... كأنما فرصة قد جاء يبتدر حيث الميادين كالديباج قد بسطت ... خضراً جرت حولها من مائها طرر بها النعيم غدا للناس مكتملاً ... مطولا وهو في الآفاق مختصر القضب راقصةٌ والطير صادحةٌ ... والنشر مرتفع والماء منحدر وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر وكل وادٍ به موسى يفجره ... وكل روضٍ على حافاته الخضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 تراجم سنة خمس وستمائة اثنتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الترجمة الأولى [ابن منجا] الفقيه الخطيب الأديب أسعد بن منجا الدمشقي. في "تاريخ حلب" أنه ولد بدمشق سنة خمس عشرة وخمسمائة. واشتغل بالأدب والفقيه إلى أن ولى قضاء حران، وخطب على منبرها للمستضيء العباسي. ومن شعره: أرى نبال مقلته فأصمى ... غزال فاتر اللحظات ألمي يعلنني بسوف وهل وحتى ... وقد وعسى وليت ولا ولما فأوسعه على التفسيح حمداً ... ويوسعني على الإحسان ذما وجرى ذكره بحران، فأخبرني بعض من ينتهي إلى الأدب من أهلها، أنه كان جليلا نبيلا، وله مقطعات في الغراميات يشدو بها أهل الشارع. وحفظ منها قوله، وفيه ودلالة على لطف منزعه من هذا الباب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يا من به أنا مغرم ... ارحم فمثلي يرحم لم يبق في بقية ... أجفى بها أو أظلم هذا زمانك لو قبل ... ت وكنت ممن ينعم ما الحسن إلا دولة ... محبوبة تستغنم فإذا انقضت أوضعتها ... جهلاً بها فستندم أنا قد نصحت وبعد ذا ... نفسي فدى من يفهم والله حسبي من يعو ... قك إنما هي أسهم ومن العذار يخال رق ... ماً وهو عندي أرقم بالله خبرني أوص ... لي في الكتاب محرم ودمي حلال؟ ما أرى ... يفتى بهذا مسلم ولقد ذكرت زماننا ... والشمل عقدٌ ينظم فبكيتنه حتى بكت ... أسفاً على اللوم يا حادي الأظعان قف ... فعلل أن يتلوموا ولئن أقمت بمهجتي ... حيث اغتدوا أو خيموا فأرى لواحظ قاتلي ... من حيث ألا يعلموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لا أوحش الله الحمى ... بأهيل ودي منكم ما كنتم إلا النعي ... م مخلداً لو دمتم لا فارقتكم مزنةٌ ... تبكي البلاد فتبسم وكانت وفاته سنة خمس وستمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الترجمة الثانية [ابن أبي حفص] السيد أبو الحسن علي بن أبي حفص [عمر] عبد المؤمن. وقفت على ترجمته في " معجم الشقندي" و" معجم والدي" و" رحلة ابن حموية الدمشقي". وتلخيص أمره: أنه كان من أجل بيته قدرا، وأطيبهم ذكرا، وأسفحهم بدا، وأمنعهم سندا. وكان مألفاً للشعراء والأدباء. ولابن الفكون الشاعر فيه أمداح مخلدة، ولغيره من الشعراء وكان من أعلم الناس بأمور الري والمباني. فرأى المنصور تركه بمراكش يدبر مبانيه في إحدى سفراته. وطالت أيامه في بجاية واشتهرت إلى أن تغير ما بينه وبين قاضيها أبي العباس أحمد بن الخطيب. وكانا فرسي رهان في الهمة والسماح بالمال في الأغراض، وكل أحد على قدر منصبه. فأكثر لجاجاته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 القاضي حتى عزل. فجمع القاضي جميع ماله: أثنى عشر ألف دينار، فأخذه معه وطلع إلى مراكش، فنزل في جوارا بن مثنى، وأراه أنه لم يقصد سواه، وهو حينئذ يجر الدنيا جرا. فقال له: فيم جئت؟ أتطلب أن ترجع إلى ولايتك؟ قال: لا، ولكن جئت في أن أعزل الذي عزلني، وأغلب من غلبني. قال: وبأي شيء تفعل ذلك؟ قال: بك وباثني عشر ألف دينار جئت بها معي. قال: الآن حصحص الحق. فسمى ابن مثنى، في عزل السيد. واستعان بالمال في الحاشية، إلى أن كتب للسيد بالعزل. فعندما بلغه الخبر قال: لا تحقرن حقيراً ... وتهملن غموضه فرب سيد قومٍ ... أودى بسعي بعوضة إني خمر ولكن ... قد أعقبتها حموضة ثم ولاه الناصر بعد ذلك تلمسان، وبني بها المباني المشهورة، ثم اشتد مرضه، فاستغفر ورغب في أن يصل إلى الحضرة، فأسعف. فوصل إليها ونزل بها داره المشهورة بعظم النباهة وعلوم الهمم في التدبير. إلى أن مات هنالك في سنة خمس وستمائة. وعد ذلك أصحابه من سعادته، فإن يحيى بن غانية الميورقي كان أحرص الناس على أن يحصل في يده، لأنه هزمه الميورقي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قسطنينية جد له مطايا كثيرة للبناء، فقال: إذا كان يخرج بهذه المطايا إلى مثل هذا الموقف فكيف يكون في مستقره، والله لئن ظفرت به لأقلعن خصاه. قال الشقندي: فكان من ظرفه إذا انتشى تذكر قول الميورقي وجعل يصيح: بينا يا ربنا! فلما كان في سنة عزله ووفاته، ولى تلمسان أبو عمران، ابن عمه أبي يعقوب، وخرج إلى الميورقي، وقد جاء إلى جهات تلمسان، فكان وقعة تاهرت التي قتل فيها السيد. ومما يعد من محاسنه حمايته لأصحابه وخدامه ومن انقطع إليه. وكان لا يسمع فيهم قول ساع ويقول: إن الواحد منهم يخدمنا في الرخاء، ويصحبنا في الشدة، حين لا نرى أحداً ولا نجد لأمر يعن لنا، فإذا عاد الله بالخير وأسهمناهم فيه حسدوا ويسعى بهم. وقد ظهر من حكمه عن عمارة الشاعر البجائي، حين هجاه وحصل في يده، ما هو مذكور مخلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وذكر أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي قاضي بجاية أنه قال: أحصيت ما وصلني من السيد أبي الحسن أيام كوني معه، فوجدت ذلك أربعين ألفاً. وحكى التاج بن حموية أنه لحقته عطلة ولزمته ديون في مدة المنصور فكتب إليه من شعره: وجوه الأماني بكم مسفرة ... وضاحكةٌ لي مستبشرة ولي أمل فيكم صادق ... قريبٌ عسى الله قد يسره على ديون وتصحيفها ... وعندكم الجود والمغفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فرضي عنه وولاه وأحسن إليه. وكتب إليه ابن عمه السيد أبو الربيع: اليوم الجمعة ... يوم سرور ودعة وشلمنا مفترق ... فهل ترى أن نجمعه فجاوبه: اليوم يوم الجمعة ... وربنا قد رفعه والشرب فيه بدعة ... فهل ترى أن ندعه ومن لطائفه أنه قد أرسل في شغل فتى من خاصته، كان من أجمل الناس صورة، واتفق أن عاقه عن بلوغه إلى المقصد عائق فعاد، وأعلم بذلك، وهو مصطبح بالربيع، فقال: أنعم الله صباحاً ... للندى عاد إلينا وأقلا الله فيه ... للذي يهواه عينا لا رأينا بيننا يا ... مجمع الآمال بيننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 كتب في التاسع والعشرين من جمادى الآخر عام خمسة وثمانين وستمائة. وأسأل الله خير ما يقضي به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155