الكتاب: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف: زينب بنت علي بن حسين بن عبيد الله بن حسن بن إبراهيم بن محمد بن يوسف فواز العاملي (المتوفى: 1332هـ) الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر الطبعة: الأولى، 1312 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة التراجم] ---------- الدر المنثور في طبقات ربات الخدور زينب فواز الكتاب: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المؤلف: زينب بنت علي بن حسين بن عبيد الله بن حسن بن إبراهيم بن محمد بن يوسف فواز العاملي (المتوفى: 1332هـ) الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر الطبعة: الأولى، 1312 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو ضمن خدمة التراجم] الدر المنثور في طبقات ربات الخدور المجلد الأول حرف الألف آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب أم النبي صلى الله عليه وسلم قال القرماني: أعطاها الله تعالى من الجمال والكمال ما كانت تدعى به حكيمة قومها، وكانت من الفصاحة والحكمة والبلاغة على جانب عظيم لم يسبقها إليه أحد من نساء العرب، توفيت بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بست سنوات، ودفنت بالأبواء. قال ياقوت في "معجمه": "والسبب في دفنها هناك أن عبد الله والد رسول الله كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمرا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة تخرج إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنوات خرجت زائرة لقبره، ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول الله، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها. ويقال: إن أبا طالب زار أخواله بني النجار بالمدينة، وحمل معه آمنة (أم رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فلما رجع منصرفا إلى مكة ماتت آمنة بالأبواء) . وقيل: دفنت بدار رائعة وهو موضع مكة. وقيل: بمكة في شعب أبي دب، وكانت من شاعرات العرب المجيدات. ومن شعرها قولها وهي في نزع الموت وكانت نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب بجانبها فتأسفت على تركه صغيرها وأنه سينشأ يتيما من الأب والأم، ولكن تأست بما يناله من الفخر والمجد في قومه وفي العالم بأسره مما رأته منه في حال صغره وهذا ما قالته: بارك الله فيك من غلام ... يا ابن الذي في حومة الحمام نجا بعون الملك العلام ... فودي غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في المنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فأنت مبعوث إلى الأنام ... تبعث في الحل وفي الحرام تبعث بالتوحيد والإسلام ... دين أبيك البر أبراهام فالله أنهاك عن الأصنام ... أن لا تواليها مع الأقوام ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق. وسلمت روحها. وقيل: إن بعضهم رثاها بهذه الأبيات: نبكي الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة زوجة عبد الله والقرينة ... أم نبي الله ذي السكينة وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة لو فوديت لفوديت ثمينة ... وللمنايا شفرة متينة لا (تبقى) ظعانا ولا ظعينة ... إلا أتت وقطعت وتينه أما دللت أيها الحزينة ... عن الذي ذو العرش يعلي دينه فكلنا والهة حزينة ... نبكيك للعطلة أو للزينة آمنة ابنة عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي كانت شاعرة من شاعرات العرب في الجاهلية اللاتي يشار لهن بالبنان، وكان شعرها قليلا إلا أنه ذو بلاغة عجيبة. وكان أبوها عتيبة قتله ذواب بن ربيعة الأسدي يوم خو من أيام العرب، ثم أسر ذواب وقتل فورا بعتيبة ولآمنة في أبيها مراث كثيرة لم يصل إلينا منها إلا قولها: على مثل ابن مية فانعياه ... بشق نواعم البشر الجيوبا وكان أبي عيتبة سمهريا ... فلا تلقاه يدخر النصيبا ضروبا للكمي إذا اشمعلت ... عوان الحرب لا ورعا هيوبا آمنة ابنة أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ولها يقول نابغة بني جعدة: وشاركتم قريشا في تقاها ... وفي أنسابها شرك العنان بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء بني أبان وكانت آمنة هذه تحت أمية بن عبد شمس معاصرا لعبد المطلب بن هاشم جد النبي فولدت لأمية العاص وأبا العاص، وأبا العيص والعوص، وصفية، وتوبة، وأروى بني أمية وقد سموا بالأعياص وكانت دائما تفتخر بهم، فلما مات تزوجها بعده ابنه أبو عمرو، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك يتزوج الرجل امرأة أبيه بعده فولدت له أبا معيط فكان بنو أمية من آمنة إخوة أبي معيط وعمومته. وقيل: إن ابنها أبا العاص زوجها أخاه أبا عمرو، وكان هذا نكاحا تنكحه الجاهلية فأنزل الله تعالى تحريمه. قال الله تعالى: (ولا تنكحوا ما نحك آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) (النساء: 22) فسمي نحاك المقت. وكانت آمنة مسموعة الكلمة مطاعة عند قومها، وكانت موصوفة بالشجاعة والمنعة وطالما افتخرت على باقي العرب في عزها ورجالها. آمنة الرملية رضي الله عنها كانت من أهل القرن الثالث للهجرة، وكانت من الزاهدات العابدات المنقطعات للتبتل، وكان أكثر زهاد زمانها يترددون عليها، ويتبركون بها، وكان بشير بن الحارث -رضي الله عنه- يزورها. ومرض بشير مرة فعادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 آمنة من الرملة فبينما هي عنده إذ دخل الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - يعوده كذلك فنظر إلى آمنة فقال لبشير: من هذه فقال له بشير: هذه آمنة الرملية بلغها مرضي فجاءت من الرملة تعودني فقال أحمد لبشير: فاسألها أن تدعو لنا فقال لها بشير: ادعي الله لنا. فقالت: اللهم إن بشير بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار فأجرهما يا أرحم الراحمين. قال الإمام أحمد: فلما كان من الليل رأيت فيما يرى النائم أن طرحت لي رقعة من الهواء مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم قد فعلنا ذلك ولدينا مزيد رضي الله عنهم. آن لويز جرمان ابنة الكونت نكر وزير مالية فرنسا ولدت هذه الشهيرة بباريس سنة 1766 م، وتولت أمها تعليمها ولكنها كانت تجهل مقتضيات التربية ومراعاة حال الأولاد من حيث مزاجهم وميلهم واتجاه عواطفهم، فشددت على ابنتها فيا لتعليم، واتخذت الصرامة ديدنا في التربية والتأديب، فلذلك لم يعلق قلب ابنتها بها ولا كان لكلامها وقع في نفسها، ومن جملة ما بين ذلك أنها كانت تحب اللعب بما يشبه التشخيص في المراسح، وتميل إلى ذلك ميلا شديدا فتعمل ملوكا وملكات من الورق، وتشخص لها مواقع من فكرتها، وتتكلم في التشخيص عنها. وكانت أمها تكره المراسح والتشخيص وتمنعها من اللعب بتلك الصور غير مراعية ميلها الشديد إلى ذلك فكانت ابنتها تختبئ وتلعب خفية عنها، ولا تكاشفها بشيء مما يخطر ببالها من ذلك. وأما أبوها: فكان أوفر من أمها حكمة وأكثر معرفة في معاملة ابنته فيلاطفها ويمازحها ويحدثها حتى تأنس إليه وتكشف له قلبها، وكان رجلا عظيما ووزيرا على مالية (لويس السادس عشر) ملك فرنسا، مهيبا بعيد الصيت والسطوة والنفوذ يختلف إلى بيته عظماء فرنسا، وعلماؤها وشعراؤها، كانت أمها تأتي بها وهي صغيرة السن إلى قاعة الاستقبال، وتجلسها على كرسي مستدير بجانبها وتوصيها من حين إلى حين بالجلوس مستقيمة لئلا تكون حدباء الظهر متى كبرت فتجلس هناك شاخصة إلى الزوار وتلتقط كل كلمة تخرج من أفواههم وتصغي أتم الإصغاء إلى أحاديثهم، وتذوق معانيهم حتى يرى الناظر من علامات وجهها أنها لا تدع فائدة تفوتها، وأنها تبتلع المعاني ابتلاعا على صغر سنها، وكانوا كلهم يحدثونها كما يحدثون كبار السن ويباحثونها فيما تعلمته ويحدثونها على درس ما لم تتعلمه، فلم تكثر عليها السنون حتى بلغت قوى عقلها مبلغا قلما تدركه العقول في سنها ولم تجيء عليها السنة الخامسة عشرة حتى شرعت في التأليف واشتد حبها للعلماء والعظماء فكان قلبها ينبض شديدا عند رؤيتهم، وصيتهم يستفزها إلى مجاراتهم ومسابقتهم، ولما بلغت عشرين سنة من عمرها شاع ذكرها في الآفاق، وانطلقت الألسنة بوصفها تزوجت بسفير أسوج في فرنسا واسمه (روستايل) سنة 1786 م فانفتح أمامها باب السياسة، وكانت في بداية عمرها تعتبر فلسفة (جان جاك روسو) اعتبارا عظيما. ولما ابتدأت الثورة الفرنساوية وكان أبوها قد أنجد حزب الثائرين مالت إليها حاسبة أنها الطريقة الوحيدة لسعادة فرنسا ونعيمها، ولكن لما تفاقم خطبها ورأت فظائعها، وعلمت أن أحسن أهل وطنها يقتلون بها نفرت منها وجعلت همها تخليص الذين قد وقعوا في حبالها من الموت فسعت في نجاة العائلة الملكية وفرارها إلى بلاد الإنكليز، ولكنها خابت مسعى فعمدت إلى تخليص غيرهم وكانت كلما خلصت شخصا لا تستريح حتى تخلص كل من يتعلق به من الأقرباء والأصدقاء وتخاطر بنفسها لخلاص غيرها مخاطرة أعظم الناس بأسا، واتفق أن الدول المتحالفة ضيقت على الحكومة الثورية سنة 1792 م، فقال رجال هذه الحكومة: لا نأمن على أنفسنا إن لم نقتل كل من له ضلع مع الملكية في باريس فاستباحوهم قتلا ونهبا. وكان لمدام (روستايل) أصدقاء كثيرون بينهم فخلصت بواسطتهم حياة كثيرين وبقي رجل اسمه (دومونتسكيو) فعزمت على أن تخرج به من باريس كخادم لها فلقيها الثائرون في الطريق فأنزلوها من مركبها كرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وذهبوا بها إلى زعيمهم فاخترقت الصفوف مرتجفة والسيوف والبنادق قد سدت الآفاق من حولها، ولو زلت قدمها لقتلت دوسا، ولكنها ثبتت على ضعفها ست ساعات تسمع صراخ القتلى وأنين المعذبين حتى أطلق سبيلها، فخرجت من فرنسا فرحة بأنها قد لقيت ما لقيت فداء نفس خلصتها من الموت، وكتبت كتابا بليغا في الدفاع عن الملكة (ماري أنتوانيت) ، لكنه لم يأت بالفائدة المقصودة فجزعت على قتلها جزعا شديدا. وفي سنة 1797 م: عادت من سويسرا حيث كانت متوجهة إلى باريس فوقع خلاف بينها وبين (نابليون بونابرت) لأنها أوجست منه السوء بعد تعرفها به بقليل قالت: إني لما تعرفت به أعجبني خلقه وعقله وقلت: إنه قد انفرد بهما كما انفرد بنصراته، وإنه رجل معتدل الطباع من أهل الجد والوقار بعكس زعماء الثورة ذوي الطباع الصعبة الذين كانوا يحكمون قبله، ولكن لما هدأ الجأش من إعجابي به وعدت إلى نفسي شعرت بنفور عظيم منه لما وجدته فيه، فإنه كالسيف البارد الماضي يجمد جمودا حين يجرح جرحا، وعلمت أنه يحتقر الأمة التي يريد أن يملك عليها. وجاهرت بمعاندته، فكنت ترى قاعتها غاصة بجماهير النافرين من (بونابرت) الناقمين عليه، فأوجس (بونابرت) خيفة منها، وحاول أن يرشوها بالمال لترجع عن معاندته فوعدها بأن يدفع لها مليوني ليرة كانا لأبيها على الدولة فرفضت قبول تلك الرشوة. فقال لها (جوزف بونابرت) : (قولي إذا ماذا تشتهين) قالت: (لا أشتهي شيئا وإن سيري هذا طبق لما اعتقده) . وكانت تحب سكن باريس محبة شديدة وتخاف النفي منها جدا ولا تسر إلا بمعاشرة الأدباء محفوفة بأهل الفضل والأصدقاء. وكان (نابليون بونابرت) يعلم ذلك فلما رأى إصرارها على معاداته أبى إلا أن ينتقم منها، فنفاها إلى مدينة سويسرا ولم يسمح لها بالاستبعاد عن منزلها أكثر من ميلين وحرمها من العودة إلى باريس فكان ذلك عليها مصيبة لا تطاق فقضت باقي أيامها حزينة على فراق باريس، وتولت تربية أولادها فكانت تعلمهم أكثر النهار ولم تنقطع عن ذلك في أشد أيامها حزنا وكآبة، وذلك كان أولادها يحبونها حبا عظيما، ويخاطرون بأنفسهم دفاعا عنها كما روى ذلك كثيرون من المؤرخين المشهورين، وقد اشتهرت مدام (روستايل) بمحامد كثيرة ظهر بعضها فيما مر نزيد عليه محبتها للحق والوقوف على حقائق الأمور ولذلك كانت تبذل جهدها في تعلم كل شيء ولو مهما كلفها من المشقة وكانت تقول: (جهل الناس للحق والحقائق أكبر دليل على انحطاطهم) . وقالت عن بونابرت: (إني علمت بانحطاطه منذ رأيته لا يهتم بحقائق الأمور) . وكانت تحب الموسيقى وتلهو بها عن أشغال التأليف، وتزيد السامعين طربا بحلاوة صوتها، وكان لها ميل شديد إلى التشخيص، وموهبة عظيمة فيه فكانت تعرف كل المراسح الأجنبية جيدا، وتعلمت في كبرها اللغات التي فاتها تعلمها في صغرها ومن أقوالها: إن درس اصطلاحات اللغة أحسن المثقفات للعقل وأسهل السبل لمعرفة أخلاق أهلها. كما هي وأعظم ما اشتهرت به كتبها التي بلغ عددها ثمانية عشر مجلدا في كل فن مستظرف حتى سموها (فولتير النساء) لكثرة المباحث التي بحثت فيها وقد قضت مؤلفاتها ثلاث غايات من أسمى الغايات. إحداها: توسيع علم الجمال عما كان في زمانها. والثانية: مهاجمة فلاسفة فرنسا المؤدبين ك (ديدور) و (دولباش) و (كندلاك) وغيرهم. مهاجمة عنيفة زعزعت أركان فلسفتهم. والثالثة: بث روح الحرية في صدور قومها إذ أبانت لهم أن الحرية أعظم شرط لسلامة الآداب والديانة الصحيحة، وكانت فاضلة تقية ورعة غير مترفضة. وماتت في 14 تموز (يوليو) سنة 1817 م بعد أن جالت زمانا في النمسا وروسيا وأسوج وبلاد الإنكليز الذين كانت تعتبرهم اعتبارا عظيما. إيت كججك ابنة السلطان أوزبك قال ابن بطوطة في رحلته: اسمها "إيت كججك وأيت" (بكسر الهمزة وياء مد وتاء مثناة، وكججك بضم الكاف وضم الجيمين) . وقال: إنه لما كان عند السلطان (أوزبك) طلب منه أن يزور نساءه وبناته وخواص مملكته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 على حسب عادة أهل ذلك الزمان فأذن له وكان من ضمن بناته (كججك) هذه قال: إنه لما توجه إلى هذه الخاتون وهي في محلة منفردة على نحو ستة أميال من محلة والدها أمرت بإحضار الفقهاء والقضاة والسيد الشريف ابن عبد الحميد، وجماعة الطلبة، والمشايخ، والفقراء، وحضر زوجها الأمير عيسى فقعد معها على فراش واحد وهو معتل بالنقرس لا يستطيع السعي على قدميه، ولا ركوب الفرس، وإنما يركب العربة، وإذا أراد الدخول على السلطان أنزله خدمه وأدخلوه إلى المجلس محمولا ورأى من هذه الخاتون ابنة السلطان من المكارم وحسن الأخلاق ما لم يره من سواها، وأجزلت له الإحسان وأفضلت، وأما معارفها وعلومها وكرمها فلم يضاهها فيها أحد سواها من نساء زمانها. أتالانتا ابنة شيني ملك سكروس (مملكة يونانية) كانت شديدة الكلف بالصيد، فاكتسبت من ذلك سرعة في العدو لا مزيد عليها حتى إنه لم يكن لأحد من الرجال الأقوياء السريعي الجري أن يجاريها في الميدان، وقتلت بالنساب حيتين كبيرتين تبعاها ليقتلاها وكانت ذات جمال باهر فتان فطلبها كثيرون للاقتران بها وألحوا عليها فأقسمت أن لا تقترن إلا بالذي يسبقها فيا لميدان بشرط أن يكون عاريا من السلاح، ويكون بيدها حربة تضربه بها إذا أدركته فهلك بمسابقتها كثيرون من طلابها وأتاها (إبومان) ، وكان من المقربين عند الكهنة والفائزين بوقايتها فتسابقا ولما وصلا إلى نصف الميدان أخذ (إبومان) ثلاث تفاحات من ذهب كانت قد أعطته إياها الكهنة المذكورون، فرماها على الأرض بعياقة ولياقة، فتشاغلت (أتالانتا) بها فتمكن من سبقها؟، وتقرر له الفوز فاقترن بها، وبعد ذلك غضب عليهما الكهنة لأنهما دلسا هيكل الزهرة فقتلومها. وقد قيل في (أتالانتا) هذه غير ذلك، وهو أنها ولدت في (أركاديا) وأنها ابنة (باسيوس) كان أبوها قد طلب إلى معبوداته أن ترزقه ولدا ذكرا فولدت (أتالانتا) فاغتاظ من ولاتها وألقاها على الجبل البرتنباتي فرضعت من دبة وأخذت تنمو حتى بلغت مبلغ النساء، وحافظت على بكارتها، وصارت أسرع الناس جريا على قدميها، فغلبت الحيتين المقدم ذكرهما واشتركت مع الأبطال في قتل الخنزير وكان لها مواقع في الألعاب البليانية ثم رضي عنها أبوها وألح عليها بأن تتزوج، فكان من أمرها ما تقدم. ولعل الرواية الأولى أصح. أديسا ابنة أدغر ملك إنكلترا ولدت سنة 961 للميلاد ربتها أمها في (دير ولتون) بالقرب من (سلزيري) ، ولما كانت السنة الخامسة عشرة من عمرها صارت راهبة، وبعد ذلك بثلاث سنين قتل أخوها (إدوارد) الذي خلف أباها، وذلك بأمر رايته (ألفريدا) فعرض عليها تاج الملك فرفضته باتضاع مسيحي وآثرت تخصيص نفسها لتقرية الفقراء والأيتام على تخت الملك، وصرفت أيامها في ذلك إلى أن توفيت سنة 984 م. ودفنت في كنيسة (سان دنيس) التي بنتها في حياتها وتعتبرها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ولها عندها تذكار في 16 أيلول (سبتمبر) من كل سنة. إديلينه ديباتي المغنية إن هذه المغنية كانت تربت من صغرها في المراسح وتخرجت بضروب الغناء، وساعدها الحظ بحسن صوتها وجمالها الذي جذب إليها الأنظار ولما آنست رشدها بلغت من الشهرة ما لم يبلغه غيرها من مغنيات الإفرنج وزادت شهرة في بلادها على شهرة مغنيات الخلفاء في مدة العباسيين والأمويين، ونالت من الثروة ما يبلغ دخله السنوي المليون فرنك، وقد حازت جملة (نياشين) افتخار من ملوك أوروبا وملكاتها والذي زاد افتخارها تشرف ملوك أوبوا بوضع إمضاءاتهم على مروحتها لأنها كانت تحمل مروحة فريدة من نوعها وبلا مثيل في العالم فإن جميع الملوك والمعاصرين لها كتبوا عليها بخط أيديهم أقوالا مختلفة تتضمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الثناء عليها والرضا عنها، فكتب القيصر الروسي: (لا شيء يسكن مثل غنائك) . وكتب إمبراطور ألمانيا: (إلى بلبل جميع الأزمان) وكتب الملكة (خرستيان) في أسبانيا: (ملكة تفتخر بأن تحسبك في جملة رعاياها) . وكتبت (فكتوريا) ملكة إنكلترا: (إذا صدقت كلمات الملك ليار القائل: (إن الصوت العذب موهبة) تكونين أنت يا عزيزتي إديلنه أغنى النساء) . والإمبراطور النمساوي والملكة (إيزابلا) وضعا إمضاءهما أيضا وكتبت ملكة البلجيك صورة المشرع الأول للأغنية الشهيرة، ثم يوجد في وسط المروحة هذه الكلمات: (أمد إليك يدي يا مليكة الطرب) مذيلة بهذا الإمضاء (بترس) رئيس الجمهورية الفرنساوية إن هذا الافتخار وهذا الاعتبار لم ينله أحد في العالم وما ذلك إلا لحسن الآداب من هذه المرأة التي بها جذبت إليها قلوب أكبر أهل الأرض. أرجى ابنة أدرستوس هي زوجة (بوليلينكيوس) اشتهرت بمحبتها لزوجها فغنها بعد انهزام الرؤساء السبعة أمام (طيوه) عاصمة المصريين القدماء ذهبت مع (انتيقونه) امرأة أخيها لتقدم لزوجها الواجبات الأخيرة فقتلت بأمر (كريون) ملك ذاك الزمان وماتت صابرة حبا في زوجها لكي تلحقه في حفرته. أراكة ملكة قسطيلة هي بكر (ألفونس السادس) وأخت (بتريسة) زوجة ملك البرتوغال تزوجت أولا ب (ريمون البرغوني) الذي جعله (ألفونس السادس) كونت جيليقة، ثم تزوجت سنة 1109 م (بألفونس لوبانلبود) ملك (نواره) و (أراغون) ثم كرهها زوجها هذا لابتذال الحرية في سلوكها وعنادها في طلب حقوق الملك إرثا عن أبيها (ألفونس السادس) ، ثم خلعت نائب ملك قسطيلة بواسطة زوجها الذي اتخذ له حزبا قويا هناك فأسرت وحجز عليها في (أراغون) ، لكنها فرت من السجن وطلبت إلى الكرسي فسخ عقد زوجيتها، فصالحها (ألفونس) مؤقتا، ثم طلقها ثانيا سنة 1111 م فلجأت إلى محاربته لتطرده من مملكتها فاكنسرت ومضت إلى جيليقة وكان لها من زوجها ولد (ألفونس الثامن) فنادت باسمه ملكا سنة 1112 م وحكمت اسم محبوبها كونت (لاراه) في سنة 1112 م فخلعه كبار قسطيلة ونادوا باسم (ألفونس الثامن) فلم تقبل ذلك أراكة إلا بعد معاركة انتشبت بينها وبين ابنها فأسرت وحجز عليها في دير (سردتها) فماتت فيه بعد أربع سنوات. أريا الرومانية قد اشتهرت بشجاعتها وذلك أن زوجها دخل في مؤامرة ضد الإمبراطور فحكم عليه بأن يقتل نفسه فكلي تشجعه أخذت خنجرا وطعنت به نفسها، ثم ناولته إياه وقالت: خذه فإنه لا يؤلم ففعل مثلها وماتا معا. أرسلان خاتون هي خديجة ابنة داود أخي السلطان (طغرلبك) السلجوقي تزوجها الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة 448 هجرية، ثم لما وقعت الوحشية بينهما أخذها (طغرلبك) بصحبته إلى الري سنة 455 هجري) ثم أعيدت إلى بغداد سنة 459 هجري واستقبلها الوزير فخر الدولة بن جهير على بعد فرسخ. وهي التي دعتها امرأة السلطان ملك شاه في تزويج بابنتها بالخليفة المقتدي من غير اشتراط المهر لأنها كانت تعززت واشترطت حمل مهرها أربعمائة ألف دينار، فأشارت عليها أرسن خاتون بان تزوجها بدون اشتراط مهر فوثقت بكلامها، وفعلت ما أرادت وكانت المترجمة من النساء الكريمات الخيرات محبة للعلماء ولها جملة أوقاف على محلات خيرية مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 جوامع وتكايا وبيمارستانات ومدارس وخلافها في بغداد وغيرها من الممالك الإسلامية. أرسولا العذراء. هي من الكنسية الرومانية الكاثوليكية قيل: إنها ابنة أمير مسيحي من بريطانيا، وقد اختلفوا في تاريخ استشهادها فقيل: سنة 237 بعد الميلاد. وقيل: سنة 383 م. وقيل: 541 م. وسبب ذلك قيل: إن أميرا طلب أن يتزوجها فأجابته في الظاهر خوفا على بيت أبيها من شره، لكنها اشترطت أن يعطيها فرصة ثلاث سنوات وإحدى عشرة سفينة وعشر رفيقات من بنات الأشراف، ولها ولكل واحدة منهن 1000 عذراء فلما أعطيت ذلك أخذت تدرس معهن فن سلك البحار، ولما دنا وقت زفافها تضرعن إلى الله فأرسل فجأة عاصفة قذفت سفنها إلى مصب نهر (الرين) ومن هناك إلى (بازل) فتركن السفن ومضين ماشيات إلى رومية وبينما هن راجعات صادفن في (كولونيا) جيشا من الهوتيين، فلما رآهن أمير الجيش دعاهن إليه فلما حضرن أعجبته (أرسولا) فطلب أن يقترن بها فأبت عليه، فأمر بقتلهن جميعا وتركوهن وانصرفوا، فوارى أهل (كولونيا) أشلاءهن في التراب وأقيم لتذكارهن بعد ذلك معبد مخصوص إلى الآن يوجد في ذلك المعبد مجموع عظام يقال: إنها عظام (أرسولا) ورفيقاتها وجعل (لأرسولا) عيد في 21 تشرين الأول (أكتوبر) من كل سنة. أرسينوي ابنة بطليموس الأول ملك مصر تزوجت ب (ليسيماخوس) ملك تراقة بعد أن طلق امرأته لأجلها فحاولت (أرسينوي) أن يكون الملك لولدها بعده فسعت بقتل (أغاتوكليس) ابن زوجها، وهربت امرأته بأولادها إلى سوريا ملتجئة إلى (سلوقس) ، وطلبت إليه أن يأخذ بثأرها فنشأت عند ذلك حرب بين ملك تراقة وملك سورية قتل بها (ليسيماخوس) سنة 281 قبلا لميلاد فمضت (أرسينوي) إلى (كسندريه) من مدن (مكدونية) وبقيت هي وأولادها مدة تحت ظل الأمان. فلما قتل (بطليموس) (سيروتوس سلوقس) واستولى على (مكدونية) سنة 280 ق. م طمعا في الزواج ب (أرسينوي) ليقتل أولاد (ليسيماخوس) . فلما أجابته إلى الزواج واستولى على كسندرية قتل الأولاد بين يدي أمهم فهربت هي إلى تراقة ومنها إلى مصر فقبلها (بطليموس فلاذ) بالإكرام ثم تزوج بها. أرسينوي ابنة بطليموس أقلية وأخت كليوباترا الشهيرة أقامها الإسكندريون ملكة بعد أن أسر القيصر أخاها (بطليموس دنيسبيوس) سنة 47 قبل الميلاد، ثم وقعت هي أيضا في قبضة القيصر المذكور سنة 46 ق. م فأرسلها إلى رومية افتخارا بأسرها غير أن حسن سلوكها مال بالرومانيين إليها فأرجعت إلى مصر، ولما هربت من وجه أختها (كليوباترا) إلى هيكل (ديانا) أخرجها منه (أنطونيوس) بأمر (كيلوباترا) وقتلها في سنة 41 قبل الميلاد. أرسينوي ابنة بطليموس أقرجيه تزوج بها أخوها (فيلوباتر) ورافقته في حربه مع (أنطيوخوس الكبير) سنة 217 قبل الميلاد، وبعد سنين قليلة قتلها (فيلمون) أحد خواص امللك فنهض أصحابها وقتلوه بثأرها مع كل عائلته، و (أرسينوي) هذه هي أم (بطليموس أبيفانوس فيلوباتر) قد اشتهرت بحسن سياستها وخبرتها بالأحكام وخصوصا في الفنون الحربية، ولذلك كان زوجها دائما يرافقها ف غزواته، وقد انتصر على أعدائه جملة مرارا وكل ذلك بآرائها الصائبة. أريانو ابنة منيوس ملك أكريت هي ابنة (منيوس) من زوجته (باسيفا) قال: (أوميروس) أحبت (تيسيوس) لما أتى (أكريت) لمقابلة (فيوتود) مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الأتيينين الذين أتوا ليقدموا له الجزية وأعطته ربطة من الخيطان استعان بها على الخروج من البربي التي دخلها لقتل (مينوثور) فعرض عليها (تيسيوس) أن يتزوجها مقابلة لها على صنيعها فأجابته (أريانو) إلى ذلك وسافرت معه إلا أنهما لما وصلا إلى جزيرة (نكسوس) تركها (تيسيوس) ورجع إلى بلاده قائلا: (إن التي لم يكن لها خير في وطنها وأهله لم يكن لها خير في غيره) وبقيت هناك إلى أن ماتت جوعا. أريانو ابنة لاون ملك اليونان تزوجت (زينون) الذي جلس على تخت الملك سنة 474 للميلاد وساءها ما بدا من فواحش زوجها وخطئه ويقال: إنها دفنته في الأرض حيا وهو سكران، وتزوجت (أنسطاس) وأجلسته على تخت الملك بدلا عنه، وكانت وفاتها سنة 515 للميلاد ولها جملة مآثر في مملكتها. أزدوجا خاتون زوجة السلطان أوزبك اسمها (أردوجا) (بضم الهمزة وإسكان الراء، وضم الدال المهملة، وجيم وألف) وأورد: بلسانهم المحلة، وسميت بذلك لولادتها في المحلة، وهي ابنة الأمير الكبير (عيسى) بيك أمير الألوس (بضم الهمزة واللام) ومعناه أمير الأمراء. قال ابن بطوطة في (رحلته) : لما مررت بتلك البلاد وزرت السلطان أوزبك وامرأته ووزراءه وكان ذلك الأمير حيا وهو متزوج ببنت السكان (آيت كججك) وابنة (أردوجا خاتون) من أفضل الخواتين وألطفهن شمائل، وأشفقهن وهي التي بعثت إلي لما رأت بيتي على التل عند جوار المحلة، ولما دخلنا عليها رأينا من حسن خلقها وكرم نفسها ما لا مزيد عليه وأمرت بالطعام فأكلنا بين يديها ودعت بالشراب فشرب أصحابنا وسألت عن حالنا فأجبناها، وانصرفنا من عندها ونحن شاكرون معروفها. ولها مآثر وخيرات دارة على مساجد وتكايا ومدارس في بلادها وكانت مقربة عند السلطان لتقرب أبيها منه ومسموعة الكلمة عنده. أورجا ملكة كيلوكرى في بلاد طوالس هذه الملكة بنت ملك (طوالس) وهي بلاد واسعة مجاورة لبلاد الصين كان أبوها يفتح الفتوحات ويضع فيه من يشاء من أولاده، ولما فتح (كيلوكرى) وضع ابنته (أورجا) لعلمها بالسياسة وشجاعتها بالحرب وإقدامها على الأهوال. قال ابن بطوطة في (رحلته) : (لما وصلنا إلى (كيلوكرى) ورسينا بميناها استدعت هذه الملكة الناخورة (أي القبودان) صاحب المركب والكواني - وهو الكاتب - والتجار على عادتها، ورغب الناخرة مني أن أحضر معهم فأبيت الذهاب. فلما حضروا عندها قالت لهم: هل بقي أحد منكم لم يحضر فقال لها الناخورة: لم يبق إلا رجل واحد بخشي وهو القاضي بلسانهم (وبخشي بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين) وهو لا يأكل طعامكم فقالت: ادعوه، فجاء جنادرتها وأصحاب الناخورة فقالوا: أجب الملكة. فأتيتها وهي بمجلسها الأعظم وبين يديها نسوة بأيديهن الأزمة يعرضن ذلك عليها، وحولها النساء القواعد وهن وزيراتها، وقد جلسن تحت السرير على كراسي الصندل وعليه صفائح الذهب، وبالمجلس مساطب خشب منقوش، عليها (أوان) ذهب كثيرة من كبار وصغار كالخوابي والقلال واليواقيل، أخبرني الناخورة أنها مملوءة بشراب مصنوع من السكر مخلوط بالأفاويه يشربونه بعد الطعام وأنه عطر الرائحة حلو الطعم يفرح ويطيب النكهة، ويهضم. لما سلمت على الملكة قالت لي بالتركية: - ما معناه -: كيف حالك، كيف أنت؟ وأجلستني بالقرب منها، وكانت تحسن الكتابة بالعربية فقالت لبعض خدمها: آتني دواة وقرطاسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فأتى بذلك، فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم فقالت: ما هذا؟ فقلت لها: تنضري تنكري نام (وتنضري بفتح التاء الفوقية وسكون النون وفتح الضاد وراء وياء) ونام (بنون وألف وميم) ومعنى ذلك اسم الله فقالت: جيد، ثم سألتني من أي البلاد قدمت فقلت لها: من بلاد الهند. فقالت: بلاد الفلفل؟ فقتل: نعم، فسألتني عن تلك البلاد وأخبارها، فأجبتها. فقالت: لا بد أن أغزوها وآخذها لنفس فإني يعجبني كثرة مالها وعساكرها. فقلت لها: افعلي، وأمرت لي بأثواب وحمل فيلين من الأرز وبجاموسين، وعشرين من الضأن، وأربعة أرطال جلاب، وأربعة مرطبانات وهي ضخمة مملوءة بالزنجبيل والفلفل والليمون والضبا، وكل ذلك مملوح مما يعد للبحر. وأخبرني الناخورة أن هذه الملكة لها في عسكرها نسوة وخدم وجوار يقاتلن كالرجال وأنها تخرج في عساكر من رجال ونساء فتغير على عدوها وتشاهد القتال، وتبارز الأبطال. وأخبرني أنه وقع بينها وبين أعدائها قتال شديد، وقتل كثير من عسكرها وكادوا ينهزمون فدفعت بنفسها وخرجت الجيوش حتى وصلت إلى الملك الذي كانت تقاتله فطعنته طعنة كان فيها حتفه وانهزم عسكره، وجاءت برأسه على رمح فافتكه أهله منها بمال كثير فلما عادت إلى أبيها ملكها تلك المدينة التي كانت بيد أخيها. وأخبرني أن أبناء الملوك يخطبونها فتقول: لا أتزوج إلا من يبارزني فيغلبني فيحتشمون مبارزتها خوفة المعرة أن تغلبهم. ولهذه الملكة غارات ووقائع غريبة مع ملوك الهند ومولك الصين من المسلمين وعبدة الأوثان وما زالت مالكة تلك البلاد مدة من الزمان حتى توفي والدها وإخوتها جميعا وملكت سائر ملك أبيها وأخيرا قتلت بفراشها بدسيسة أحد ملوك الصين وانقرض ملكها بموتها. أربلاي المؤلفة مدام (دو أربلاي) مؤلفة إنكليزية ولدت سنة 1752 م، توفيت سنة 1840 م، وكانت في حداثتها قليلة الكلام جبانة، لكنها لما كبرت هذب العلم أخلاقها فكتبت سنة 1778 م قصة تشهد ببراعتها وطول باعها في هذا الفن، ثم كتبت عدة روايات غيرها واتخذتها الملكة لخدمتها الخصوصية. وبعد أن خدمت 5 سنوات ألحأها ضعف جسمها إلى الاستعفاء، واقترنت سنة 1793 م برجل فرنسي واستمرت على التأليف حتى إن مؤلفاتها زادت جدا وبقيت بعدها ميراثا لورثتها حتى أغنتهم غنى فائق الحد وطبعت جميع مؤلفاتها وانتشرت في جميع أنحاء العالم الغربي. أرتمسيا ملكة هاليكرناسوس من كاريا هذه الملكة كانت من ذوي الحكمة والدراية بالأمور الحربية والسياسية، وكان قورش ملك فارس لما هاجم بلاد اليونان اشتركت معه لكونها كانت خاضعة له، وأخذت معها أسطولا مؤلفا من خمس سفن. واشتهرت بما كان منها من البسالة والحكمة في معركة (سلاميس) التي انتشبت سنة 480 قبل الميلاد، وذكر في رواية مشكوك في صحتها أنها شغفت بحب شاب من (أبيذوس) اسمه (وردانوس) إلا أنه لم يشاركها في حبها فسلمت عينيه لكنها ندمت فيما بعد على قساوتها، واستشارت المعبودات فيما يجب أن تفعل كفارة عن ذنبها فقالت لها: من الواجب أن تطرح نفسها في البحر عن منحر جزيرة (لوكاريا) ففعلت ذلك وماتت غريقة. أرجون جارية أبي العباس الذخيرة وهو محمد بن القائم (بأمر الله) العباسي بسببها بقيت الخلافة في ولد القائم لأنه لم يكن له سوى أبي العباس هذا، وتوفي في حياة أبيه ولم يعقب فحزن القائم في أواخر أيامه حزنا لا مزيد عليه، وانقطع أمل الناس من خلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 عبقه وظنوا أن دولة البيت القادري قد انقرضت، وكان أبو العباس يختلف إلى هذه الجارية فاتفق أنها حملت منه، فلما رأى الناس هذه الحالة، وما ألم بالقائم من الهم والحزن أعلنت حملها فتعلقت آمال الناس بها وتوجهت الأفكار إليها، ثم إنها ولدت بعد وفاة مولاها بستة أشهر غلاما ففرح القائم فرحا مفرطا، وفرح الناس لبقاء الخلافة في بيته، وهذا هو الذي لقب بالمقتدر، وكان من أمره ما جاء في تاريخه وأرجو أن هذه أم ولد أرمنية تدعى قرة العين وأدركت خلافة ابنه المستظهر بالله وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله. أروى ابنة عبد المطلب أروى ابنة عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكرها أبو جعفر في الصحابة وذكر أيضا أختها عاتكة ابنة عبد المطلب قال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي لما أسلم طليب بن عمير دخل على أمه أروى بنت عبد المطلب فقال لها: قد أسلمت وتبعت محمدا أو تتبعينه فقد أسلم أخوك حمزة. قالت: انظر ما تصنع إخوتي ثم أكون مثلهن. قال: فقلت: إني أسألك بالله ألا أتيته وسلمت عليه وصدقته، وشهدت أن لا إله إلا الله. فقالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم كانت بعد تعد النبي لصلى الله عليه وسلم وتتبعينه بلسانها وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره وكانت من الشاعرات الأديبات والمتكلمات في العرب. ومن قولها ترثي والدها عبد المطلب مع باقي أخواتها حين طلب منهن ذلك قبل موته ليعلم قوتهن في الرثاء: بكت عيني وحق لها البكاء ... على سمح سجيته الحياء على سهل الخليفة أبطحي ... كريم الخيم شيمته العلاء على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير ليس له كفاء طويل الباع أملس شيظمي ... أغر كان غرته ضياء أقب الكشح أروع ذو فضول ... له المجد المقدم والثناء أبي الضيم أبلج هبرزي ... قديم المجد ليس له خفاء ومعقل مالك وربيع فهر ... وفيصلها إذا التمس القضاء وكان هو الفتى كرما وجودا ... وبأسا حين تنسكب الدماء إذا هاب الكماة الموت حتى ... كأن قلوب أكثرهم هواء مضى قدما بذي رأي مصيب ... عليه حين تبصره البهاء وقد أسنت وماتت في خلافة عمر بن الخطاب ودفنت بما يليق بها من الإكرام. أروى ابنة الحارث بن عبد المطلب بن هاشم كانت فريدة زمانها وبليغة عصرها وأوانها إذا خطبت أعجزت، وإن تكلمت أوجزت، ولا غرو ابنة البلاغة ومعدن الفصاحة والحصافة. قيل: إنها وفدت على معاوية بن أبي سفيان لما ولي الخلافة وكانت عجوزا كبيرة فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا خالة فكيف كنت بعدنا فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور فوليتم علينا من بعده وتحتجون بقرابتكم من رسولا لله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فكنا فيكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى فغايتنا الجنة وغايتكم النار، فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة وأقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له: وأنت يا ابن الباغية، تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة بغي بمكة وآخذهن للأجرة ادعاك خمسة نفر من قريش فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به. فقال مروان: كفى أيتها العجوز وأقصري لما جئت له. فقالت له: وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم، ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك فإن أمك القائلة في قتل حمزة: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي عن عتبة من صبر ... وشكر وحشي علي دهري =حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها ابنة عمي وهي تقول: خزيت في بدر وبعد بدر ... يا ابنة جبار عظيم الكفر فقال معاوية: عفا الله عما سلف يا خالة هات حاجتك. فقالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه. وبعد خروجها التفت معاوية إلى أصحابه وقال لهم: والله لئن كلمها كل من في مجلسي لأجابت كل واحد منهم بجواب خلاف الآخر بدون توقف. وهكذا فإن نساء بني هاشم أصعب في الكلام من رجال غيرهن وأمر لها بجائزة تليق بمقامها، وبقيت مكرمة بين قومها إلى أن توفيت بالمدينة بخلافة معاوية. أروى ابنة كريز بن عبد شمس كذا نسبها ابن منده وأبو نعيم والصواب ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وهي أم عثمان بن عفان وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم ماتت في خلافة عثمان، وكانت عاقلة ورعة لها صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم وروت عنه الحديث وحدثت أناسا كثيرين. أزرميدخت ابنة أبرويز كانت من أجمل النساء وجهاً وأحسنهن ذكاء، وأوفرهن عقلا، وأليقهن فعلا ولتعلق الفرس بمحبتها ورغبتهم في علو همتها ملكوها عليهم بعد قتل (خشينده) من بني عم (أبرويز) والدها الأبعدين، وكان عظيم الفرس يومئذ: (هرمز أصبهبد) خراسان فأرسل إليها يخطبها فقالت: إن التزوج للملكة غير جائز وغرضك قضاء حاجتك مني فسر إلي وقت كذا ففعل وسار إليها تلك الليلة فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله فقتله وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا رأوه قتيلا فغيبوه. وكان ابنه رستم وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية خليفة أبيه بخراسان فسار إليها في عسكر حتى نزل بالمدائن وحاصرها حتى ضاقت به ذرعا فطلب أهلها منه الأمان فأمنهم بشرط تسليم الملكة إليه فقبلوه منه ذلك ودخل المدينة وألقى القبض على (أزرميدخت) وسمل عينيها وقتلها. وقيل: بل سملت نفسها وكانت مدة ملكها ستة عشر شهرا. أسباسيا زوجة بركليس كانت من أشهر نساء اليونان حسنا وجمالا وعقلا، وفصاحة، وبلاغة، وأدبا، وفطنة، وخطابا لها اليد الطولى على جميع نساء عصرها بموفقتها لزوجها حتى إنها كانت تسير معه أين سار، وتشاركه في كل أعماله العقلية والفعلية، والأتعاب الرياضية وميادين النزال، وتعمل أعمالا يعجز عنها أقوى الرجال حتى أنها اكتسبت بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 شجاعة وشهرة لم يسبقها عليها أحد من نساء اليونان، وتقاطرت على بابها العلماء والشعراء والفلاسفة والرياضيون والبلغاء، وكان ناديها أحسن ناد جمع فيه العلم والأدب، ولذلك وصفتها المؤلفة الشهيرة مدام (أون) في كتابها المشتمل على سير أبطال النساء عند ترجمتها إذ قالت: إن بيتها أعظم بيت من بيوت عظماء اللاتينيين فلذلك لو نظرت إلى جدرانه تجدها مرصعة بتماثيل الرجال العظام، وأمام بابه رواق رفيع العماد وعلى الباب أسجاف الأرجوان، وبجانبه أفاريز من المرمر الأصفر وكوى البيت مشكبة كلها بقضبان النحاس على أشكال وضروب شتى، وأرضه مغطاة بالفسيفساء البديعة الأشكال، وعليها أرائك من القرمز والأرجوان، أهدابها مطرزة بالذهب، وفي البيت مكتبة من الخشب الثمين مملوءة بالدروج من الرق والحلفاء فلو نظر القارئ في الصباح إلى هذا البيت يرى (أسباسيا) قد نزلت من غرفتها على درج من المرمر الأبيض ومشت فيا لصحن، وخرجت إلى الرواق الجنوبي الذي يطل على بستان البيت لتستنشق نسيم الصباح مضمخا بأريج الأزهار والرياحين، وخرج (بركليس) وهو ماش بجانبها وتجاذبا أطراف الحديث في السياسة والفلسفة وهي طويلة القامة ممشوقة القد جعدة الشعر شقراؤه، نجلاء العينين حوراؤهما، شماء الأنف صغيرة الأذنين، حمراء الوجنتين والشفتين. تفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب لابسة رداء أبيض على ردنيه أبازيم من الذهب وفوقه رداء قصير من الأرجوان بل أردان أذياله مطرزة بالذهب وعلى كتفيها رداء ثالث مسدول عليهما سدلا، والنسيم يبعث به في ذهابها وإيابها فتخالها ملكا ناشرا جناحيه للطيران وفي أصابعها خواتم الذهب مرصعة بالحجارة الكريمة ولم تكن (أسباسيا) من ربات الغنج والدلال اللواتي يباهين بالحلي والحلل، بل من أهل الحجة المربين مع الفلاسفة والحكماء، وكان بيتها هذا ناديا تتقاطر إليه الفلاسفة ورجال السياسة كسقراط وأفلاطون وغيرهما فتباحثهم في أسماء المواضيع الفلسفية والسياسية حتى إذا كل عصب الدماغ منها ومنهم أدارت أزمة الحديث إلى الفكاهات واللطائف تديرها عليهم صرفا فتسكرهم بعذوبة كلامها كما أسكرتهم بسمو معانيها، وكان سقراط الحكيم يعترف بفضلها عليه ويشهد بأنها هذبت أخلاقه وكملت معارفه و (بركليس) زوجها كان ينسب إليها كل شهرته في الخطابة وقال: إنه تعلم منها البلاغة والسياسة. وكان نساء أثينا يترددن على بيتها أيضا ويتعلمن منها التهذيب واللباقة، وكانت الفنون الجميلة كالتصوير والبناء والنقش في أوج مجدها فعضدتها (أسباسيا) بيمينها وسعت جهدها في رفع شأن ذويها ولم تكن هذه الفاضلة من الأثينيات، ولذلك لم تحسب زوجة شرعية ل (بركليس) لأن شريعة أثينا كانت تحرم على الأثينيين اتخاذ الزوجات من الأجانب إلا أن جمالها المفرط وسمو عقلها وغزارة معارفها، وكثرة فضائلها ألجمت ألسن الناس عن الطعن عليها زمانا طويلا، والحسد - وقاك الله منه - عدو وألد لا يبهره الجمال، ولا تتغلب عليه الفضائل فنفخ في آذان بعض ذويه فقاموا عليها واتهموها باحتقار الأثينيات وبلغت القحة منهم حتى طعنوا في عرضها واتهموا معها (آتكفوراس) الفيلسوف (وفيدياس) النقاش فقتلوا أحدهما ونفوا الآخر نفيا مؤبدا وحامى (بركليس) عنهما بكل جهده فلم يستطع إنقاذهما. ولما وصل الدور إلى (أسباسيا) صار كله ألسنة وبلاغة فدافع عنها في مجمع (أرنوس باغوس) ، وكان من أفصح أهل زمانه لسانا، وأثبتهم جنانا، وأقواهم حجة، ولما عجز لسانه عن أقوال إربه دافع عنه بدموع عينيه حتى قيل: إنه أنقذها من الموت بالدمع ولم يكن من ضعاف العزائم الذين تفيض دموعهم عند أخف النكبات ولا كان من المتعلقين بحبال الهوى المنقادين بزمام الشهوات فإنه لما فشا الوباء واختطف ابنته البكر وأخته وكثيرين من أقاربه تحمل هذه النكبة الشديدة بصدر أرحب من البيد، وصبر أغزر من البحر، ولم يسكب عليهم دمعة، ولكنه لما رأى الفضيلة مهانة بإهانة زوجته، والعفة والطهارة مهتوكة أستارها ظلما وعدوانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 لم يتمالك عن البكاء، وكذا لما اختطفت أيدي المنون ابنته الصغرى وحمل إكليل الفرهر ليكلل به جبينه غلبت عليه الشفقة واقترن بها (بركليس) بعد أن هجر زوجته الأولى، وانقاد إليها الانقياد حتى قال (أرستوفاينس) : إنها هي التي حملته على إثارة حرب (ساموس) و (بلويومتبسوس) ولكن (فلوطرخس) المؤرخ الثقة نفى عنها هذه التهمة وتوفي (بركليس) بالطاعون فتزوجت (أسباسيا) بعده رجلا من التجار فصار بسببها من مشاهير أثينا وخطبائها. إستير ستنهوب ابنة كارلوس الثالث في عائلة ستنهوب امرأة إنكليزية شريفة ذات أطوار غريبة ولدت في لندن في 12 آذار (مارس) سنة 1776 م، وتوفيت في جون التابعة إقليم الخروب من جبل لبنان في 23 حزيران (جونيو) سنة 1839 م، وكانت أكبر أولاد (كارلوس الثالث أرلات ستنهوب) من زوجته (إستير) ابنة (إرل تشتام) دخلت في السنة العشرين من عمرها بيت عمها (وليم بت) فكان يعتمد عليها ويكاشفها أسراره، واستمرت عنده إلى أن مات سنة 1806 م، وقبل وفاته أوصى بها الأمة الإنكليزية فيعن لها مرتب سنوي قدره 200 ليرة إنكليزية غير أن المبلغ لم يكف لسد المصاريف التي كان يقتضيها مركزها وبذخها فانفردت في (والسن) ثم تركتها وطافت أوروبا وكانت حينئذ فتية نضرة جميلة غنية، فقوبلت في البلدان التي زارتها بالتكريم والتعظيم اللذين تقتضيهما صفاتها إلا أنها أبت الزواج مع أن خاطبيها كانوا من أهالي الرفعة والشأن وبعد أن زارت أكبر عواصم أوروبا لاح لها أنها تحصل في الشرق على مركز عظيم فسارت إلى القسطنطينية، وأقامت فيها بضع سنين واختلف الناس ي سبب خروجها من بلادها فذهب بعضهم إلى أنه حملها على ذلك حزنها على جنرال إنكليزي شاب قتل في إسبانيا وكانت تحبه فأثر فيها موته تأثيرا شديدا حتى لم تطب لها الإقامة بعده في إنكلترا، وذهب آخرون إلى أن الذي حملها على ذلك إنما هو ميلها إلى القيام بعظائم الأمور وحب الشهرة. ثم خرجت من القسطنطينية قاصدة سورية سنة 1810 م في سفينة إنكليزية كان فيها قسم كبير من ثروتها وأنواع كثيرة مختلفة من الحي والتحف، فلما وصلت السفينة إلى الجون (مكري) تجاه جزيرة (رودس) صدمت صخرا فتحطمت على مسافة بعض أميال من الساحل، وغرت أمتعة (إستير ستنهوب) وأموالها ولم تنج هي من الموت إلا بعد عناء شديد فحملت على لوح السفينة إلى جزيرة صغيرة قفرة فقامت فيها 24 ساعة لم تذق طعاما ولم يكن لها منقذ ولا مجير إلا أن جماعة من صيادي (مرموريزا) وجدوها في تلك الجزيرة في أثناء تفتيشهم على بقايا السفينة، فساروا بها إلى (رودس) وهناك أخبرت قنصل إنكلترا فجمعت ما بقي لها من المتاع وباعت قسما من أملاكها، بأبخس الأثمان وركبت سفينة ملأتها تحفا نفيسة وهدايا ثمينة للبلدان التي عزمت على السياحة فيها لم يصادفها في مسيرها نوء. وأتت اللاذقية فأقامت هناك، وتعلمت اللغة العربية وعرفت عادات الأهالي وطباعهم، وجهزت قافلة كبيرة، وحملت إلى البدو هدايا نفيسة على ظهور الجمال، وطافت أنحاء سورية كلها، فزارت القدس، ودمشق، وحمص، وبعلبك، وتدمر. ولما وصلت إلى تدمر اجتمع إليها كثيرون من قبائل البدو ومكنوها من الوصول إلى تلك المدينة، وكان عددهم حينئذ من 40 إلى 50 ألفا وكانوا كلهم يتعجبون من جمالها ولطفها، وأبهتها فجعلوها ملكة لتدمر وعاهدوها على أن جميع الإفرنج الذين يحصلون على حمايتها يمكنهم أن يزوروا (بعلبك) وتدمر آمنين على أرواحهم، ولكن بشرط أن يدفع كل منهم ضريبة قدرها ألف قرش، واستمرت تلك المعاهدة مدة طويلة يعمل بها وعند رجوعها من تدمر عزمت قبيلة قوية من البدو عدوة لتدمر التعدي عليها، غير أن أحد حشمها أنبأها في الحال بوقوعها في ذلك الخطر الجسيم فأخذت في السير ليلا، وكان خيلها من أجود الخيل فاجتازت في مدة 24 ساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مسافة طويلة وبذلك تمكنت هي ومن معها من النجاة وأتت دمشق وأقامت فيها أشهرا عند الوالي العثماني الذي كان الباب العالي قد وصاه بإكرامها وإعزازها وصرفت زمانا طويلا فيا لطواف والجولان في البلاد الشرقية وأذهل الأهالي ما شاهدوه ومن أعمالها وغناها فكانوا يعاملونها كملكة، وكانت هي تحاول بحذاقتها أن تضاهي (زينوبيا) ملكة الشرق في أعمالها وسنة 1813 م. استوطنت دير القديس إلياس المهجور الواقع في جوار قرينه على مسافة ساعة من صيدا، فبنت هناك عدة بيوت محاطة بسور أشبه بالأسوار التي كانت تبنى في القرون المتوسطة، وأنشأت هناك بستانا على نسق البساتين التركية فغرست فيه الأزهار والأشجار والفاكهة وكروما، وأقامت كشوكا مزينة بالنقوش والصور العربية، وجعلت للماء قنوات من الرخام وكانت تنبعث من نافورات وسط بلاط من الرخام مزين بأنواع النقوش أيضا، وكانت أشجار البرتقال والين والأترج الملتفة تزيد ذلك البستان جمالا ونزهة ولم يمكث ذلك الدير حتى صار حصنا وملجأ يلتجئ إليه المظلومون فتجيرهم، فبقيت هناك عدة سنين في أبهة شرقية محاطة بتراجمة سوريين وأوربيين وحاشية كبيرة من النساء، وجماعة من العبيد السود وكانت تلبس لبس أمير وتتقلد السلاح وتدخن وكان لها علائق حبية وسياسية مع الباب العالي، وعبد الله باش، والأمير بشير الشهابي حاكم لبنان، والشيخ بشير جان بلاد ومشايخ البدو في براري سورية وبغداد. ثم اتخذت لها مسكنا في بيت أخذته من رجل دمشقي مسيحي غني واقع على مرتفع يعرف بظرف جون نسبة إلى قرية (جون) التابعة لمديرية إقليم الخروب من جبل لبنان على مسافة 8 أميال من صيدا، ووسعت دائرة ذلك البيت، وأقامت حوله جنينة وسورا وبقيت فيه إلى أن توفيت، ثم أخذت ثروتها العظيمة تتناقص لعدم انتظام مصالحها التي لم يكن من يحسن القيام عليها في غيابها فبلغ دخلها السنوي 130 و40 ألف فرنك وكان مع ذلك غير كاف لسد المصاريف التي تقتضيها حالتها، غير أنه مات بعض الذين صحبوها من الإفرنج وتركها البعض الآخر وخمدت محبة الأهالي لها لأن توافدها كان موقوفا على مواساتهم بالهدايا والعطايا فأمست منفردة وقلت علائقها مع الناس، ولكن ظهر منها في هذه الأحوال ما يدهش الخواطر ويحيرا لعقول لأنها صبرت وتجلدت ولم يخطر لها البتة أن ترجع عن الأعمال التي أقبلت عليها، ولم تتأسف على ما فات ولا على العالم أجمع ولم يحزنها ترك خلانها وثروتها وميليها إلى الشيخوخة فأقامت وحدها من غير كتب ولا جرائد ولا رسائل من أوروبا ولم يكن عندها صديق يؤانسها ولا سمير يجالسها، بل بقي لها فقط جماعة من الجواري السود وعبيد سود صغار السن، وبضعة فلاحين سوريين يعتنون بشأنها وخيلها، ويسهرون عليها من الطوارق. وقد تحققت أن ما امتازت به من الصبر والعزم والحزم لم يكن ناشئا عن طباعها فقط، بل عن مبادئها الدينية المؤذنة بالشطط وكان في تلك المبادئ ما يدل على أنها جمعت بين الحقائق وعوائد شرقية خرافية ولاسيما غرائب فن التنجيم وعجائبه وقصارى الكلام أنها حصلت بأعمالها على شهرة عظيمة في الشرق وزهدت أوروبا كلها وكان الأهالي عموما يسمونها بالست الإنكليزية. وأما الإفرنج فتعرف عندهم ب (لاري ستنهوب) . ولما عزم إبراهيم باشا على فتح سورية سنة 1833 م اضطره الأمر إلى أن طلب إليها أن تكون على الحيادة، ويقال: إن بعد حصار عكا في السنة نفسها آوت مئين من الفارين وكانت تتعاطى فن التنجيم وغيره من الفنون السرية، واستمسكت ببعض عقائد دينية مستغربة فلم تعدل عنها حتى مماتها، ومما يدل على أن عقلها لم يخل من الاختلال في بعض الأمور أنها ربت حجرتين في إسطبل لتركب المسيح واحدة منها عند مجيئه إلى الأرض وتركب هي الأخرى مرافقة له إلى القدس، وفي السنين الأخيرة من حياتها كان قد بلغ أهلها في إنكلترا ما كان من أمرها، وإسرافها فقطعوا عنها الإمدادات المالية فتراكمت عليها الديون التي كانت تقترضها من الأهالي بسعي رجل يعرف باللقمجي فتوفيت ولم تقدر على وفائها، وهكذا الذين كانوا يحسبون أن في القرب منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ربحا لهم آل الأمر إلى خسارتهم. ويقال: إن مضايقاتها المالية مما كان بينها وبين الأمير بشير الشهابي من الاختلاف والضغينة، وقد سبب ذلك فيها من الخوف الذي أوقعها في مرض عضال قضت به نحبها ولم يكن عندها حال وفاتها أحد من الإفرنج، بل أحاط بها جماعة من خدامها من أهل البلاد فنهبوا بيتها حالما أدركتها المنية وعند وفاتها حضر قنصل الإنكليز من بيروت لأجل دفنها، ودفنت بالبستان المجاور لدارها، وقد روى الأهالي عنها قصصا كثيرة غريبة تكاد أن تكون من الخرافات لا يوثق بها وكتب الدكتور (مريون) الذين بقي عندها بضع سنين طبيبا لها سيرة حياتها بالإنكليزية في ثلاثة مجلدات رواية عنها وقصة أسفارها في ثلاثة مجلدات طبعت بالإنكليزية بعد وفاتها بمدة قصيرة. وقد زارها كثير من السياح الأوروبيين ومن جملتهم (دو لامرتين) الشاعر الفرنساوي المشهور فإنه لما كان في سورية سنة 1832 م يطوف في نواحيها ويتفرج على بلدانها ومناظرها رغب في زيارة تلك الخاتون إلا أنه كان في ذلك الوقت من أصعب الأمور على الإفرنج أن يقابلوها ولاسيما الإنكليز ومن كانوا من ذوي قرابتها فبعث إليها مع رسول بالرسالة الآتية ترجمتها: سيدتي، من سائح مثلك في الشرق وغريب في هذه الديار جاءها ليتأمل في مناظر الطبيعة وآثارها وأعمال الله فيها، وقد وصل إلى سورية منذ مدة مع عائلته وهو يحسب يوما يتمكن فيه من مقابلة امرأة هي نفسها من عجائب الشرق الذي جاءه زائرا من أجمل سياحته وألذها، فإذا شئت أن تقابليني فاذكري لي اليوم الملائم لذلك وقولي لي أينبغي أن أتوجه وحدي أو يمكنني أن أسير إليك بجماعة من خلاني يرغبون مثلي كل الرغبة في التشرف بمقابلتك، وأرجو يا سيدتي أن لا يكون هذا الطلب سببا لتكلفك ما يزعجك في عزلتك فإنني أعرف من نفسي قيمة الحرية ومحاسن الانفراد ولذلك لا يسوءني البتة رفضك مقابلتي، بل أتلقى ذلك بالتوقير والاحترام إلى آخره. وفي 30 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها سار إليه طبيبها ودعاه إلى جون فذهب مع الدكتور (ليوزدي) والموسيو (يرسيقال) ولما وصلوا نزل كل منهم في غرفة ضيقة لا نوافذ لها ولا أثاث فيها ولم يتمكنوا من مقابلتها حال وصولهم لأنها لم تكن تقابل الناس قبل ساعة الثالثة بعد الظهر، فلما حان الوقت أتاه غلام أسود وأدخله غرفتها قال: وكان الظلام قد أسبل عليها ذيله فلم أتمكن بسهولة من أن أتبين هيئتها اللطيفة المؤذنة بالهيبة والجلال وذلك الوجه الأبيض الصبيح، فنهضت وهي في زي الشرقيين، ودنت مني، ومدت إلى يدها مسلمة علي فأمعنت بها بالنظر، وإذا فيها من لطف المعاني ما لا تستطيع السنون محوه. نعم، إن نضارة الوجه واللون والرونق تمضي مع الفتوة إلا أنه متى كان الجمال في القد وهيئة الوجه مع العظمة والجلال، وطرأ عليه تقلبات باختلاف أزمان الحياة لا يزول تماما، وهذا كله على (لاري ستنهوب) وكان على رأسها عمامة بيضاء وعلى جبهتها عصابة من الكتان أرجوانية اللون طرفاها مرسلان على كتفيها وعلى بدنها شال من الكشمير الأصفر وفستان تركي كبير من الحرير الأبيض، كماه متدليان وهو مشقوق عند الصدر يظهر من تحته فستان آخر من نسج الفرس تتصاعد منه أزهار تكاد أن تصل إلى عنقها وهي مرتبطة بعضها ببعض بخرز من اللؤلؤ، وكان في رجليها خفان تركيان أصفران وهي تحسن لبس ذلك جميعه كأنها تعودته من صغرها. وبعد السلام قالت لي: قد أتيت من مكان بعيد وكلفت مشاق السفر لترى ناسكة فأهلا بك وإنني قلما يزورني الأجانب فيراني منهم في السنة واحد أو اثنان في الأكثر غير أن مكتوبك أعجبني وودت أن اعرف إنسانا يحبا لله والطبيعة والانفراد، وذلك نفس ما أحبه ولاح أيضا أن يجمعنا متحابين وإننا نتوافق في المشرب ويسرني الآن أني لم أخطئ في ظني وقد توسمت فيك عندما رأيتك أمورا تجعلني أن لا أندم على رغبتي في مشاهدتك، وناهيك أنني لما سمعت وقع قدميك وأنت داخل خالجني نفس تلك الخواطر فاجلس ودعنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نتحدث لأنك قد صرت لي صديقا فقلت لها: يا سيدتي، وكيف تشرفين بهذا اللقب رجلا لا تعرفين اسمه ولا سيرته قالت: نعم إنني لا أعرف حالك قدام الله ولا تحسبني مجنونة كما يسميني العالم في الغالب لأن صدري قد انشرح لك فلا أستطيع أن أخفي عليك شيئا وقد نشأ في الشرق علم ضاع الآن في بلادكم غير أنه لم يزل باقيا إلى الآن في البلاد الشرقية، وقد تعلمته وأتقنته فإنني أرصد الكواكب وأدرك أسرارها فكل منا ولد لنار من تلك النيران المساوية التي تولت أمر ولادتنا وتأثيرها، إما حسن وإما رديء وهو يظهر في عيوننا وجباهنا وهيئتنا وأسارير أيدينا وشكل أرجلنا وحركاتنا ومشيتنا، وبذلك عرفتك حق المعرفة كأننا معا منذ قرن كامل مع أنني لم أرك إلا منذ بضع دقائق. فقلت باسما: مهلا يا سيدتي إنني لا أنكر ما أجهل ولا أثبت ما لا يوجد في الطبيعة المنظورة وغير المنظورة التي تتجاذب فيها الأشياء أو يرتبط بعضها ببعض كائنات كالإنسان دونه الكائنات تحت سلطة كائنات أعظم منها كالكواكب والملائكة إلا أنني أحتاج إلى وحيهم لأعرف نفسي التي هي عبارة عن فساد وسقم وشقاوة. وأما أسار مستقبلي فأحب أن لا أعرفها وعندي أنني أجازف على الله الذي أخفاها عني إذا طلبت إلى مخلوق أن يوضحها لي، فأمر المستقبل بيد الله وإني لا أعتقد إلا فيه، وفي الحرية والفضيلة. قالت: ما لي ولهذا فاعتقد فيما يحلو لك، أما أنا فأرى أنك خلقت تحت سلطة ثلاثة أنجم سعيدة، قادرة، صالحة فاعتقد مثل تلك الصفات وهي تشوقك إلى غاية يمكنني أن أكاشفك بها الآن إذا شئت ذلك وقد أرسلك الله إلي لأنير عقلك وأنت من الرجال الذين حسنت نواياهم وطابت سريرتهم ويستنفذ منك الله بإنقاذ الأعمال العجيبة التي يريد أن يجريها بين الناس وهذا جواب كاف وبعد أن أطالا الجدال في هذا الباب. قالت له: وهل ترى في سياسته ودينه ومعشره كامل الانتظام ولا تشعر بما يشعر به العالم أجمع من أنه لابد من موح وفاة وهو المسيح الذي تنتظره وتطير شوقا إليه فلا ترى أحد موافقا لك في ذلك، وأن العالم أجمع محتاج إلى الإصلاح، وأني أتوقع أكثر من الناس كلهم قدوم مصلح يقوم المسالك ويرشد الناس إلى سواء السبيل فإن كان ذلك المصلح هو ما تسميه مسيحا فهذا أنتظره مثلك، وأرجو أن يظهر بعد أمد وجيز وأطالت الكلام في هذا الباب وقالت لي: اعتقد كما تشاء، أما أنا فعندي أنك رجل من الذين كنت أنتظرهم وقد أرسلتك العناية إلي وسيكون لك دخل كبير في العمل المزمع حدوثه، وسترجع أوروبا إلا أن أوروبا قد مضى زمانها وبقي لفرنسا وحدها أن تقوم بعمل عظيم، ستشترك فيه، ولم أعلم بعد كيف يكون ذلك، ولكنني إن شئت أذكر لك في هذا المساء عندما أستشير أنجمك ولم أعرف إلى الآن أسماءها كلها فقد رأيت منها أكثر من ثلاثة فهي أربعة أو خمسة وربما كانت أكثر ولا شك أن عطارد من جملتها فهو يهب العقل نورا، واللسان طلاقة وطلاوة، وأنت شاعر لا محالة لن في عينيك، والقسم الأعلى من وجهك ما يدل على ذلك إلى أن قالت: فاشكر الله على هذه النعمة لأنه قلما ولد تحت سلطة أكثر من نجم وندر من كان نجمه سعيدا وإذا كان سعيدا فلما يخلو من مفاعيل نجم آخر خبيث يقارنه أما أنت فقد كثرت نجومك وأجمعت كلها على أن تخدمك وهي تتعاون على ذلك فما اسمك؟ فذكرت لها اسمي قالت: هذه أول مرة سمعت به، ثم ذكرت لها ما نظمته من الشعر وأن اسمي مشهور عند أهل العلم في أوروبا إلا أنه لم يتمكن من اجتياز البحور والجبال حتى يصل إلى الشرق قالت: سيان عندي كونك شاكرا أو غير شاعر فإنني أحبك ولي فيك أمل أتحقق أننا سوف نلتقي ثانية فإنك سترجع إلى الغرب، ولكن لا تلبث حتى تعود إلى الشرق فإنه وطنك، قلت: إن لم يكن وطني فهو ميدان أفكاري. قالت: دع عنك المزح فإن وطنك الحقيقي ووطن آبائك وقد تحققت ذلك الآن فانظر إلى رجلك فإنها أشبه برجل رجل عربي، وما زلنا نتحادث حتى دخل عبد أسود فخر على وجهه ساجدا أمامها ويداه على رأسه؟، وخاطبها بكلمات عربية لم أفهمها، فالتفتت إلي وقالت: قد هيئ لك الطعام فاذهب فكل، أما أنا فلا أواكل أحدا لأن عيشتي عيشة نسكية فاغتذي بالخبز والثمار عندما أحس بالجوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولذلك لا ينبغي لي أن أكره ضيفي على مجاراتي. وبعد أن فرغت من مناولة الطعام استدعتني إليها، فلما حضرت وجدتها تدخن بقضيب طويل، واستحضرت لي قضيبا لأدخن أيضا قال: وكنت قد رأيت أجمل نساء الشرق وأظرفهن يدخن مثلها فلم أستغرب ذلك، وكان الدخان ينبعث من شفتيها اللطيفتين على شكل أعمدة فتعطرت به الغرفة، وأقمنا نتحدث في أمورها وأطلت فيها التفكر فتبين لي أنها أشبه بالساحرات القديمات المشهورات وهي أشبه ب (سيرسه) معبودة الأقدمين، وأن عقائدها الدينية وإن كانت غامضة فهي مقتطفة بحذق من أديان مختلفة فقد جمعت بين أسرار (الدروز وتسليم المسلمين واعتقادهم القدر، وانتظار اليهود مجيء المسيح، وعبادة النصارى للمسيح، وممارسة تعاليمه وآدابه، وزد على ذلك التصورات البعيدة الغريبة الناشئة عن فكر مشغوف بالشرق، ومتوقد بطول العزلة والانفراد وبعض إيضاحات أوضحها لها المنجمون العربيون فإذا تصورت ذلك كله انجلى لك شيء من هذا السر العظيم المستغرب الذي يؤثر في الإنسان ما يسميه جنونا ليتخلص من مشقة البحث وإمعان النظر فيه. والحق أولى أن يقال: إن هذه المرأة غير مجنونة فإن للجنون أمارات واضحة تظهر في العنيني وليس له أثر البتة في تلك الألحاظ اللطيفة ويظهر الجنون أيضا في الكلام فإن صاحبه كثيرا ما ينقطع عن الحديث فترى فيه اختلالا وشططا أما حديثها فسامي المعاني رمزي متسلسل مرتبط منتسق قوي وفي مذهبي أن جنونها اختياري وأنها تعرف نفسها حق المعرفة ولها أسباب تحملها على التظاهر بما قد تظاهرت به وما أخذ القبائل العربية المجاورة للجبال من العجب من حذقها وبراعتها يدل دلالة واضحة على أن ما ترجم به من الجنون إنما هو وسيلة لبلوغ بعض مآرب ولا يخفى أن سكان أرض أجريت فيها العجائب وكثرت فيها الصخور والبراري وتلونت تصوراتهم بألوان جوهم لا يصيخون سمعا إلا إلى كلام نبي أو إلى كلام من كان ك (لاري ستنهوب) فإنهم يميلون إلى فن التنجيم والنبوات والوحي وما أشبه وقد عرفت ال (لاري) المذكورة ذلك واتضحت لها الحقيقة لما هي عليه من قوة الحذق، ولكن ربما ساقتها القوة المذكورة كما هو الغالب في أمثالها إلى الاهتداء إلى مذهب وضعته لغيرها. وبعد أن جالت هذه التصورات في فكري قلت لها: لا ألومك إلا على أمر واحد، وهو أنك حسبت للحوادث حسابا فعاقك ذلك عن الوصول إلى مركز كان في طاقتك أن تصلي إليه. فأجابته: إنك تتكلم كمن يعتقد اعتقادا صحيحا في الإرادة البشرية، ويشك في فعل القدر، فقوتي على حالها لم تتغير غير أنني انتظر سنوح الفرصة ولا أجد في طلبها وقد أمسيت وحدي مهجورة بين هذه الصخور القفرة عرضة لمفاجئ جسور يطرق منزلي فينهب أمتعتي وحولي جماعة من الخدم الخائنين والعبيد الكنودين وهم ينهبونها في كل يوم ويتهددون حياتي أحيانا وفي المدة الأخيرة لم ينجني من الموت الأحمر إلا هذا الخنجر (وأرته إياه) الذي اضطرني الأمر إلى استخدامه لأدفع عني عبدا أسودا لئيما ربي في بيتي، ومع ذلك تراني سعيدة بقولي: الله كريم وأتوقع المستقبل الذي أخبرك به ويا حبذا لو كنت تحققه مثلي. وبعد أن تباحثنا كثيرا وشربنا القهوة التي كان يأتي بها العبيد كل ربع ساعة مرة قالت لي: هلم، فإني سأسير بك إلى مكان مقدس لا يدخله أحد من البشر وهو بستاني فدخلناه وجلسنا فيه مسروري الفؤاد لأنه من أجمل البساتين الشرقية التي رأيتها وكنا من وقت إلى آخر نجلس في الكشوك براحة ونتحدث على النسق الأول فلبثنا مدة على هذه الحالة ثم التفتت إلي وقالت: إذا كان القدر قد ساقك إلى هذا المكان وما بين نجمينا من الاتفاق يمكنني من مكاشفتك بأمور أخفيها عن كثيرين من بني البشر سأريك بعينك عجيبة من عجائب الطبيعة لا يعرف مستقبلها إلا أنا وأتباعي وهي التي ذكرها الأنبياء الشرقيون منذ قرون عديدة في نبواتهم، ثم فتحت بابا من أبواب البستان يشرف على حوش صغير فوقع نظري على حجرتين عربيتين جميلتين من أطيب أصل وأكمل شكل فقالت لي: هيا بنا فأريك هذه المهرة الكميت، ألم تتحفها الطبيعة بكل ما هو مكتوب عن المهرة التي ينبغي أن يركبها المسيح (وستوله مسرجة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فأمعنت بها النظر فرأيت فيها من غرائب الطبيعة ما يقوي ذلك الاعتقاد عند قوم لم يزح عنهم الجهل ستاره، لأن لها في مكان المنكبين تجويفا عميقا واسعا يشبه السرج وشيئا أشبه بركابين في مكان ركوبها من دون سرج صناعي ولاح لي أن تلك المهرة أحست بما لها من المنزلة والاعتبار عند (لاري ستنهوب) وعبيدها بما سيكون من أمرها في المستقبل، لأنها لم تركب البتة، وقد عهدت سياستها إلى سائسين عربيين يسهران عليها ليلا ونهارا ولا يفارقانها لحظة، وبالقرب منها مهرة أخرى بيضاء أجمل منها تشاركها فيما لها من المنزلة عند ال (لاري) المذكورة وهي كأختها لم يركبها أحد، وفهمت من كلام مضيفتي أنه وإن كان مستقبل المهرة البيضاء دون مستقبل المهرة الكميت قداسة فهو سري، وهي وإن كانت لم تقل لي ذلك قولا صريحا استنتجت منه أنها تركبها هي حين تسير بجانب المسيح إلى أورشليم ثم أمرت السائسين أن يخرجا الحجرتين إلى مرج خارج السور ففعلا وبعد أن أطلت النظر فيهما وتأملت في محاسنها رجعت إلى الدار وطلبت منها بإلحاح أن تأذن لموسيو (برسيفال) بمقابلتها فإنه كان صديقي وتبعني رغما عني وأقام منذ الصباح ينتظر صدور الإذن بمقابلتها وهي تبخل عليه بذلك فأجابتني إلى طلبي وببعد التردد مدة ودخلنا جميعا إلى غرفتها لنصرف فيها ليلتنا فأقمنا ندخن ونشرب القهوة بعد مباحثة طويلة دارت بيننا في أمور السياسة ونظام الحكومات فانتقلت أنا منها إلى أمور مزحية عن طريقة تنبئها. قال: وأردت أن أختبرها فسألتها عن سائحين أو ثلاثة من أصحابي مروا بها منذ 15 سنة فأدهشني كلامها عن اثنين منهم لأنني رأيتها مصيبة في حكمها كل الإصابة ومن العجب العجاب أنها وصفت بحذق وبلاغة لا مزيد عليهما واحد من ذينك الاثنين كنت أعرفه حق المعرفة مع أن من أصعب الأمور أن يعرف إنسان طباعه من أول وهلة لأن ظواهره تؤذن ببساطة تامة ويخدع أبعد الناس عن الانخداع، ومما أذهلني أيضا قوة ذاكرتها لأن السائح المذكور لم يصرف عندها إلا ساعتين ومضى بين زيارتي لها وزيارته 16 سنة كاملة فلا جرم أن العزلة تجمع قوى النفس وتقويها وقد تحقق ذلك الأنبياء والقديسون وأكابر رجال الدنيا والشعراء فكانوا يطلبون البراري والقفار ويعتزلون وهم بينهم. ثم تكلمنا عن بونابرت وعن مواضيع أخرى بحرية تامة ومازلنا على تلك الحالة إلى أن مضى أكثر الليل. قال: ولما حان الافتراق ظهر الحزن والكدر على وجهينا فقالت لي: لا تودعني لأننا سنلتقي مرارا في هذه السياحة ونلتقي كثيرا في سياحات أخر مل تخطر لك ببال بعد فاذهب واسترح واذكر أنك قد تركتني في قفار لبنان، ثم مدت إلي يدها فوضعت يدي على قلبي على عادة العرب مودعا وكان خاتمة اجتماعنا. هذا ملخص ما دار بينها وبين (لامرتين) من الكلام والمقام يضيق دون ما ذكره بالتفصيل أما بينها في (جون) فقد استولى عليه صاحبه الدمشقي الذي مات بعدها بقليل فانتقل إلى ابن له وحيد مسلم، ثم اقتضى به الأمر إلى أن شنق نفسه فأخذت امرأته تبيع كل ما يمكن بيعه من أدوات البناء خوفا من أن يؤخذ البيت منها. وهكذا عجلت خراب تلك الدار الجميلة حتى أمست الآن خاوية على عروشها يأوي إليها البوم وينعق الغراب وكذلك تكاد آثار الضريح الذي أقيم لها تمحى. وهكذا لم يبق لتلك المرأة التي حاولت أن تضاهي ملكة الشرق ولا أعمالها أثر في بطون التواريخ حفظت ذكرها ليكون عبرة لمن يعتبر وتذكرة لأولي الألباب. أسماء ابنة أبي بكر الصديق هي أسماء ابنة أبي بكر الصديق، وأمها قتيلة بنت عبد العزى وهي أخت عائشة لأبيها تسمى ذات النطاقين لأنها صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً لما هاجر فلم تجد ما تشده به فشقت نطاقها، وشدت به الطعام فدعيت ذات النطاقين. تزوجها الزبير بن العوام فولدت له عبد الله وعدة أبناء، وكان عبد الله أول مولود ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 في الإسلام بعد الهجرة، ثم طلقها الزبير فكانت مع عبد الله ابنها بمكة المشرفة حتى قتل ابنها فبلغت من العمر مائة سنة حتى عميت، وماتت بمكة سنة 73 هجرية و 692 ميلادية. ولها شعر قليل في رثاء زوجها وابنها ومن كلامها لابنها عبد الله حين قاتل الحجاج إذ دخل عليها وقال لها: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أدرت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تعود فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي، ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، ولم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك، واستعن بالله. فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي خرجت به رائيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله فإن ابنك لم يعهد بإيثار منكر ولا عمد بفاحشة، ولم يجز في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني. فقالت أمه: لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني احتسبتك وإن ظفرت سررت بظفرك أخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك فقال: جزاك الله خيرا فلا تدعي الدعاء. قالت: لا أدعه لك أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين، فتناول يدها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد فقال لها: جئت مودعا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك، فدنا منها فعانقته وقبلته فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد؟ فقال: ما لبسته إلا لأشد متنك. قالت: إنه لا يشد متني، فنزعها ثم درج لمته وشد أسفل قميصه وجبته تحت أثناء السراويل وأدخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة، فخرج وهو يقول مرتجزا: إني إذا أعرف يومي أصبر ... وإنما يعرف يومه الحر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاءا لله أبوك أبو بكر والزبير وأمك صفية ابنة عبد المطلب، ثم حمل على القوم وقاتل حتى قتل وصلب وطلبته أمه من الحجاج فأبى عليها إعطاءه، فكتبت لعبد الملك، فسمح لها بذلك فغسلته ودفنته، وبقيت بعده قليلا وماتت بعدما أضرت وذلك في سنة 73 هجرية. ومن قولها في زوجها الزبير بن العوام حين قتله عمرو بن جرموز المجاشعي وهو منصرف من وقعة الجمل بوادي السباع. غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم الهياج وكان غير معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمك إن قتلت المسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد أسماء ابنة سلمة أسماء ابنة سلمة وقيل: سلام بن مخرمة بن جندل بن أبير بن نهشل بن دارم التميمية الدارمية وهي أم الجلاس، قاله أبو عمر. وقال ابن منده وأبو نعيم: أسماء ابنة محزبة التميمية، وهي أم الجلاس، وأم عياش وعبد الله بن ربيعة. روى عنها عبد الله بن عياش والربيع بن معوز وذكر ابن منده وأبو نعيم حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعض بيوت أبي ربيعة إما لعيادة مريض أو لغير ذلك فقالت له أسماء التميمية - وكانت تكنى أم الجلاس وهي أم عياش بن أبي ربيعة -: يا رسول الله ألا توصيني؟ قال: "ائتي إلى أختك بما تحبين أن تأتي إليك" ثم أتى بصبي من ولد عياش به مرض فجعل يرقي الصبي ويتفل عليه، وجعل الصبي يتفل على النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل بعض أهل البيت ينهى الصبي وقال أبو عمر - ذكر نسبها كما تقدم - وقال: "كانت من المهاجرات هاجرت مع زوجها عياش بن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة وولدت له بها عبد الله بن عياش ثم هاجرت إلى المدينة وتكنى أم الجلاس روت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنها عبد الله بن عياش وجملة من التابعين وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب". أسماء ابنة عميس أسماء ابنة عميس بن معبد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن حلف بن أقبل وهو خثعم، وأمها هند ابنة عوف بن زهير بن الحارث الكنانية أسلمت أسماء قديما وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له بالحبشة عبد الله وعونا ومحمدا، ثم هاجرت إلى المدينة، فلما قتل عنها جعفر بن أبي طالب تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى لا خلاف في ذلك. وزعم ابن الكلبي أن عون بن علي أمه أسماء بنت عميس ولم يقل ذلك غيره وأسماء أخت ميمونة ابنة الحارث زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأخت أم الفضل امرأة العباس وأخت أخواتها لأمهم وكن عشر أخوات لأم. وقيل: تسع أخوات. وقيل: إن أسماء تزوجها حمزة بن عبد المطلب فولدت له بنتا، ثم تزوجها بعده شداد بن الهاد ثم جعفر وهذا ليس بشيء وإنما التي تزوجها حمزة سلمة ابنة عميس أخت أسماء ابنة عميس أكرم الناس أصهارا فمن أصهارها النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة والعباس - رضي الله عنهما - وغيرهم. أسماء ابنة النعمان بن شراحيل وقيل: أسماء ابنة النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن النعمان قال أبو عمر. وقال ابن الكلبي: أسماء بنت النعمان بن الحارث بن شراحيل بن كندي بن الجون بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الكندية، تزوجها رسولا لله صلى عليه وسلم فاستعاذت منه ففارقها. وقال يونس عن أبي إسحاق: كان رسول الله صىل الله عليه وسلم تزوج أسماء ابنة كعب الجونية فمل يدخل بها حتى طلقها. قال أبو عمر: أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل اليمن أسماء بنت النعمان بن الجون فلما دخل عليها دعاها فقالت له: تعال أنت فطلقها، قال: وزعم بعضهم أنها قالت: أعوذ بالله منك، قال: قد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها. وقيل: إنما التي قالت له كانت امرأة من بلعنبر من سبي ذات الشقوق، كانت جميلة فخاف نساؤه أن تغلبهن على النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لها إنه يعجبه أن يقال: نعوذ بالله منك وذكر نحو ما تقدم في فراقها قال: وقال أبو عبيدة: كلتاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عاذتا بالله منه. وقال عبد الله بن محمد عقيل: ونكح رسولا لله صلى الله عليه وسلم امرأة من كندة وهي الشقية، فسألت رسولا لله صلى الله عليه وسلم أن يردها إلى أهلها ففعل وردها مع أبي أسيد الساعدي وكانت تقول عن نفسها الشقية. وقيل: إن التي قال لها نساء النبي صلى الله عليه وسلم: لتتعوذ بالله منه هيا لكندية ففارقها فتزوجها المهاجر بن أبي أمية المخزومي، ثم خلف عليه قيس بن مكشوح المرادي قال: وقال آخرون: إن التي تعوذت بالله منه امرأة من سبي بلعنبر وذكر في قول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لها نحو ما تقدم قال: وقال آخرون: وكان بها وضح كالعامرية ففارقها. وقيل: إنه قال لها (هبي لي نفسك) ، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده إليها فاستعاذت منه ففارقها. قال أبو عمر: الاختلاف في الكندية كثير جدا منهم من يسميها: أسماء، ومنهم من يسميها: أميمة. واختلفوا في سبب فراقها على ما ذكرناه. والاختلاف فيها وفي صواحباتها اللواتي لم يجتمع بهن عظيم. أسماء ابنة يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل هي رسول النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم روى عنها مسلم بن عبيد أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ومقتضى شهواتكم، وحاملات أولادكم وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيلا لله عز وجل وإن أحدكم إذ خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربينا لكم أولادكم، أفما نشارككم في هذا الجر والخير؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: " هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ " فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها فقال: " أفهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته وإتباعها موافقته يعدل ذلك كله" فانصرفت وهي تهلل حتى وصلت إلى نساء قومها من العرب وعرضت عليهن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحن وآمن جميعهن. وسميت المترجمة: "رسول نساء العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم". إستير ابنة أبي حائل بن شمعي بن قيس ملكة الفرس كانت أحسن نساء زمانها جمالا وأبهاهن منظرا وكمالا، وأعذبهن منطقا ومقالا، تزوجت بالملك "أحشويروش" ملك الفرس الذي ملك من الهند إلى "كوش" على مائة وسبع وعشرين كورة، وكانت في ابتداء أمرها رباها رجل إسرائيلي يدعى "مردخاي"، وهو ابن عمها لأن أباها وأموها توفيا فأخذها هو وجعلها ابنة لنفسه وكان في شوشن القصر الذي هو كرسي ملك "أحشويروش" لأنه سبى من أورشليم مع السبي الذي سبي مع "بكنيا" ملك بهوذا الذي سباه "نبوخذنصر" ملك بابل. وسبب زواجها بالملك "أحشويروش" المذكور أنه جلس ذات يوم على كرسي ملكه الذي في شوشن القصر وعمل وليمة لجميع رؤسائه وعبيده وجيش فارس وأخذت هذه الوليمة مائة وثمانين يوما وعند قضاء هذه الوليمة عمل لجميع الشعب الموجودين في شوشن القصر من الكبير إلى الصغير وليمة سبعة أيام، وفي اليوم السابع لما طاب قلبه أرسل إلى "وشتى" الملكة زوجته أن تأتي أمامه بتاج الملك ليرى الشعوب والرؤساء جمالها لأنها كانت حسنة المنظر فأبت أن تأتي حسب أمر الملك فاغتاظ جدا واشتعل غضبه، وقال لمن حوله من العارفين بالأزمة: ما يعمل بالملكة "وشتى" لأنها خالفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أوامري؟ فقال أحدهم: ليس إلى الملك وحده أساءت بل إساءتها عمت جميع الرؤساء وجميع الشعوب الذين في كل بلدان الملك، وسوف يبلغ خبرها إلى جميع النساء حتى يحتقرن أزواجهن في أعينهن عندما يقال: إن الملك "أحشويروش" أمر أن يؤتى بالملكة "وشتى" إلى أمامه فلم تأت، فإن رأى الملك فليكتب أمرا من عنده أن لا تأتي " وشتى" مطلقا، وليعط ملكها لمن هي أحسن منها فرأى الملك والرؤساء ذلك صوابا فأرسل كتبا إلى كل بلدانه يخبرهم بذلك. وبعدما خمد غضب الملك "أحشويروش" قيل له: فليطلب الملك فتيات عذارى حسنات المنظر ويوكل وكلاء في كل بلاده ليجمعوهن بشوشن القصر ويعين عليهن خصيا، ويرتب لهن لوازمهن مما يحتجن إليه وبعد ذلك يختار منهن التي توافقه ويملكها مكان "وشتى" فرأى ذلك حسنا فأمر بجمع البنات حتى اجتمع عنده منهن شيء كثير فلما سمع "مردخاي" مربي "إستير" أمر الملك وقد اجتمعت فتيات كثيرات إلى شوشن القصر أخذ "إستير" إلى بيت الملك وسلمها إلى حارس النساء فلما نظرها الحارس استحسنها ونالت نعمة بين يديه فبادرها بأدهان عطرها بها ونقلها إلى أحسن مكان في بيت النساء ولم تخبر "إستير" عن شعبها وجنسها لأن "مردخاي" أوصاها بذلك واستمرت "إستير" مقيمة إلى أن بلغت نوبتها للدخول إلى الملك بعد أن أقامت اثني عشر شهرا لأنه هكذا كانت تكمل أيام تعطرهن ستة أشهر بزيت المر وستة أشهر بالطياب، فلما دخلت عليه ونظرها أحبها أكثر من جميع النساء ووجدت نعمة وإحسانا أمامه أحسن من جميع العذارى فوضع التاج على رأسها وملكها مكان "وشتى" وعمل وليمة عظيمة لجميع رؤسائه وعبيده ودعاها وليمة "إستير" وأعطى عطايا حسب كرم الملوك. وفي تلك الأيام بينما "مردخاي" جالسا في باب الملك إذ علم بفتيين ورئيس الخصيان في دار الملك أرادا أن يغتالاه فعلم الأمر عند "مردخاي" فأخبر "إستير" وهي أخبرت الملك باسم "مردخاي" ففحص عن الأمر فوده حقيقيا، فأمر بصلبهما فصلب كل منهما على خشبة وازداد اعتبار "مردخاي" في عيني الملك وقربه منه قربا عظيما، وبعد هذه الأمور قدم الملك "أحشويروش" وزيره "هامان" وجعل كرسيه فوق جميع الرؤساء الذين معه فكان كل من بباب الملك يسجد ل"هامان"، كنا أوصى به الملك. وأما "مردخاي" فلم يسجد له فقال عبيد الملك الذين ببابه لمردخاي: لماذا تتعدى أمر الملك ولم تسجد ل"هامان" فقال: لا أسجد لغير الملك وإني أعلم ما لا تعلمون فأخبروا "هامان" بذلك وأعلموه بأنه يهودي، ولما رأى هامان ذلك امتلأ غضبا وأسر في نفسه على إهلاك "مردخاي" وشعبه ولما أمكنته الفرصة قال للملك: إنه موجود شعب متشتت ومتفرق بين الشعوب في كل بلاد مملكتك وسنتهم مغايرة لجميع الشعوب وهم لا يعلمون بسنن الملك فلا يليق بالملك تركهم فإذا رأى الملك فليكتب بأن يبادروا وأنا أزن عشرة آلاف وزن من الفضة تعطى للذين يعملون العمل من مالي الخاص، فلما سمع الملك كلامه نزع الخاتم من يده وأعطاه لهامان وقال له: الفضة قد أعطيت لك من الخزينة الملكية والشعب أيضا تفعل به ما تريد، فاستدعى بالكتاب وكتب إلى جميع عمال البلاد يأمرهم بإبادة جميع اليهود من الطفل إلى الشيخ وأن يسلبوا أموالهم غنيمة وختم الكتب بختم الملك وسلمها إلى السعاة وخرجت بها ولما علم مردخاي كل ما عمل شق ثيابه ولبس مسحا برماد وخرج إلى وسط المدينة وصرخ صرخة عظيمة وجاء إلى باب الملك وكانت مناحة عظيمة عند اليهود وصياح وبكاء ونحيب. فلما رأى جواري إستير ذلك دخلن عليها وأخبرنها فاغتمت غما شديدا وأرسلت ثيابا لمردخاي لأجل نزع مسحه عنه فلم يقبل فدعت إستير واحدا من خدامها وأمرته أن يذهب إلى مردخاي ويأتيها بالسبب فذهب الخادم إليه وأخبره مردخاي بكل ما أصابه وأعطاه صورة الكتب التي صدرت من الملك لجميع الجهات لكي يريها لإستير ويخبرها ويوصيها أن تدخل إلى الملك وتتضرع إليه وتطلب منه العفو عن شعبها فرجع الخادم إلى إستير وأخبرها بكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مردخاي فأمرت الخادم بأن يرجع إليه ويعلمه بأن كل عبيد الملك وشعوب بلاده يعلمون أن كل شخص دخل إلى الملك بالدار الداخلية بدون إذن لم ينج من القتل إلا الذي يمد إليه الملك قضيب الذهب فيحيا فأخبره الخادم بذلك فقال له: أخبر إستير بأنك لا تفتكري في نفسك إنك تنجين في بيت الملك من دون اليهود، إنك إن سكت في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر، وأما أنت وبيت أبيك فتبادون فقالت إستير للخادم: أخبر مردخاي بأن يجمع اليهود الموجودين في شوشن القصر ويصوموا من جهتي ولا يأكلوا ولا يشربوا ثلاثة أيام ليلا ونهارا، وأنا أيضا أصوم كذلك وهكذا أدخل على الملك ولعل الله أن يمد إلي يد المساعدة. فانصرف مردخاي وعلم على حسب ما أوصت به إستير وفي اليوم الثالث لبست إستير ثيابا ملكية ووقفت في دار بيت الملك الداخلية مقابل الملك وهو جالس على كرسي ملكه، فلما رأى إستير واقفة مد لها قضيب الذهب الذي بيده، فدنت ولمست رأس القضيب فقال لها الملك: ما لك إستير وما هي طلبتك؟ إذا كانت نصف مملكتي تعطى لك؟ فقالت له: إذا رأى الملك فيأت ومعه هامان اليوم إلى الوليمة التي عملتها. فقال الملك: أسرعوا بهامان تنفيذا لكلام إستير، فحضروا به وأتى الملك وهامان إلى الوليمة التي عملتها إستير فقال لها الملك عند شرب الخمر: ما هو سؤالك وما هي طلبتك فيعطى لك؟ فقالت: إن سؤالي أن يأتي الملك وهامان إلى الوليمة التي أعملها لهما غدا وهناك أطلب طلبي، فخرج هامان في ذلك اليوم فرحا. وفي اليوم الثاني جاء الملك وهامان عند إستير فقال الملك لإستير ما هو سؤالك يا إستير وما هي طلبتك فأجابته: إن كنت قد وجدت نعمة في عين الملك فيعطى لي الملك طلبتي بالعفو عن شعبي لأنه قد صار بيعنا أنا وشعبي للهلاك والقتل، ولو كنت بعتنا عبيدا وإماء لكنت سكت مع أن العدو لا يعرض عن خسارة الملك. فقال لإستير: من هو وأين هو الذي يتجاسر بقلبه على أن يعمل هكذا؟ قالت: هو رجل خصم وعدو هذا هامان الرديء الخبيث، فارتاع هامان أمام الملك والملكة فقام الملك بغيظه عن شرب الخمر إلى جنة القصر ووقف هامان لنفسه أمام إستير الملكة لأنه رأى أن الشر قد أعيد عليه من قبل الملك، ولما رجع الملك من جنة القصر إلى بيت شرب الخمر وهامان متواقع على السرير الذي كانت إستير عليه قال: وهو أيضا يدخل على الملكة معي في البيت وأمر بصلبه فصلبوه على خشبة ارتفاعها خمسون ذراعا ثم سكن غضب الملك. وفي ذلك اليوم أعطى الملك لإستير بيت هامان وأتى مردخاي أمام الملك لأن إستير أخبرته فنزع الملك خاتمه الذي أخذه من هامان وأعطاه لمردخاي وأقامت إستير ومردخاي في بيت هامان ثم عادت إستير وسقطت عند رجلي الملك وتضرعت إليه أن يزيل شر هامان الذي دبره على اليهود، فأجاب طلبها وقال لها ولمردخاي اكتبا أنتما ما يحسن في أعينكما باسم الملك واختماه بختمي لأن الكتابة التي كتبت أولا لا ترد، فدعا كتاب الملك في ذلك الوقت وكتب حسبما أمر به مردخاي وختم عليه الملك وأرسل إلى كل الجهات وخرج مردخاي من أمام الملك بلباس ملكي وتاج من ذهب وكان اليوم عند اليهود يوم بهجة وفرح وصار عيدا يعيدون فيه وهو الثالث عشر من شهر آذار في كل سنة. إسكندره ملكة اليهود وهي زوجة إسكندر ملك بهوذا، ملكت وحدها بعد وفاة زوجها وذلك في مدة قصر ابنها (هرفانوس الثاني) وقد ارتكب الفريسيون في عهدها مظالم كثيرة. وقد ذكرها خلدون فقال: " وأوصى إسكندر امرأته الإسكندره قبل وفاته بكتمان موته حتى يفتح الحصن (وهو حصن كان خرج لحصاره ولم يذكر ابن خلدون اسمه) ويسير بشلوه إلى القدس فتدفنه فيه وتصانع الربانيين على ولدها (هرفانوس الثاني) فتملكه لأن العامة أميل إليه ففعلت ذلك واستدعت من كان من الربانيين وجمعتهم وقدمتهم للمشورة، واستبدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بالملك وكان لها ابنان من الإسكندر اسم الأكبر منهما (هرفانوس) والآخر (أرستيلوس) وكان صغيرتين عند موت أبيهما فلما كبرا عنيت (هرفانوس) للكهنوتية، وقدمت (أرستيلوس) على العساكر والحروب وضمت إليه الربانيين وأخذت الرهن من جميع الأمم وسألها الربانيون في الأخذ بثأرهم من القرايين وكانوا خلقا كثيرا وجاء القرايون إلى ابنها الكهنوت ينكرونه ذلك وإنه إذا فعل بهم ذلك وقد كانوا سيفا لأبيه الإسكندر فقد تحدث النفرة من سائر الناس وسألوه أن يلتمس إذنها في الخروج عن القدس والبعد عن الربانيين فأذنت له رغبة في انقطاع الفتنة، وخرج معه وجوه العسكر ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها ويقال: إن ظهور عيسى - صلوات الله عليه- كان في أيامها. وفيما ذكره ابن خلدون في آخر هذه القصة: إن ظهور السيد المسيح كان في أيام الإسكندره مخالفة لم تتفق عليه المؤرخون المحققون. والصحيح أنها توفيت سنة 71 أو 70 قبلا لميلاد. أسماء معشوقة جعد بن مهجع العذري هي من بني كلب ولم أعثر لها على اسم إلا من قوله: لعمرك ما حبي لأسماء تاركي ... صحيحا ولا أقضى به فأموت وكان سبب عشقه لها أن له أخوالا من كلب حول ماله إليهم خشية التلف فأقام عندهم ثم خرج يوما على فرس وقد صحب شرابا فاشتد الحر وظهرت له دوحة، فقصدها ونزل تحتها، فما استقر حتى بان له شخص عليه درع أصفر وعمامة سوداء يطرد سخلة وأتانا فقتلهما وقصد الدوحة ونزل بها فحادثه فوجد في ألفاظه عذوبة لا تقدر وخلب عقله فدعاه إلى الشراب فشرب وقام ليصلح من شأن فرسه فتزحزح الدرع عن ثدي كحق العاج فقال: امرأة أنت؟ قالت: نعم، ولكن شديدة العفاف حسنة الأخلاق والمفاكهة. فعلقها من تلك الساعة وسألها الزيارة فذكرت أن لها إخوة شرسة وأبا كذلك ثم مضت ولازم الوساد سنة كاملة ثم شكى إلى أحد أصحابه، فأشار عليه أن يخطبها من أبيها ومضى معه حتى نزلا بالشيخ، فأحسن ملقاهما فقال له: قد أتيتك خاطبا. قال: فوقا لكفاءة. وزوجه بها، فبنى بها من ليلته، فلما كان الغد جاء صاحبه فقال: كيف كانت ليلتك وكيف وجدت صاحبتك؟ قال: أبدت لي كثيرا مما أخفته عني قديما وسألتها فأنشدت: كتمت الهوى إني رأيتك جازعا ... فقلت فتى بعد الصديق يريد فإن تطرحني أو تقول فتية ... يضير بها برح الهوى فتعود فوريت عما بي وفي الكبد والحشا ... من الوجد برح فاعلمن شديد فبارك لهما وانصرف فكان ينشد: يا رب كل غدوة وروحه ... من محرم يشكو الضحى والرحه =أنت حسيب الخصم يوم الروحه أسماء ابنة حصن هي ابنة حصن بن حذيفة الفزارية قد استودعهما عامر بن الطفيل درعه في يوم الرقم فأدتها إليه بعد ذلك وذكرها في شعره الذي هجا فيه بني غطفان إذ قال: قد سألت أسماء وهي خفية ... بصحائها أطردت أم لم أطرد فلأبغينكم اتصاد عوارضها=ولأقبلن الخيل لابة خرغد ولأبرزن بمالك وبما لك ... وأخي المروءات الذي لم يسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وهي طويلة اقتصرنا على هذا المقدار. فأجابه نابغة بني ذبيان يلومه على تعريض عقائلهم في شعره فقال: فإن يك عامر قد قال جهلا ... فإن مطية الجهل الشباب فإنك سوف تحلم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فكن كأبيك أو كأبي براء ... توافقك الحكومة والصواب فلا تذهب بحلمك طامثات ... من الخيلاء ليس لهن باب أسماء ابنة رويم كانت من النساء العاقلات الحكيمات الأديبات الولودات وكانت تسمي أولادها بأسماء الوحوش الضارية. قيل: إنه مر بها وائل بن ساقط فرآها منفردة في خبائها فهم بها فقالت: والله لئن هممت بي لأدعون أسبعي. فقال: ما أرى سواك في الوادي فصاحت ببنيها: يا كلب، يا ذئب، يا فهد، يا دب، يا سرحان، يا سبع، يا ضبع، يا نمر. فجاءوا يتعادون بالسيوف فقال وائل: ما هذا إلا وادي السباع فلزم هذا الاسم ذلك الوادي وقالوا لها: ما شأنك؟ قالت: إنه نزل بنا ضيفا فأحببت أن تكرموه إكراما زائدا وانصرف وهو يتعجب من ذريتها ومن حضور بديهتها لتحمل العذر الذي أبدته لأولادها. أسماء ابنة محمد بن صصرى هي أخت قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى، كانت شيخة مسندة جليلة مباركة كثيرة البر سمعت العلماء وحدثت وحجت مرارا وكانت تتلو في المصحف وتفيد الفائدة التامة لمن يسمع منها ومما قيل فيها: كذلك فلتكن أخت ابن صصرى ... تفوق على النسا صبيا وشيبا طراز القوم أنثى مثل هذي ... فلا التأنيث لاسم الشمس عيبا أسماء العامرية كانت فصيحة ظريفة أديبة لطيفة عذبة المنطق سلسلة الألفاظ، لها أشعار رائقة ومعانيها شائقة وقصائد مطولة تمدح فيه خلفاء زمانها ونثر منسجم لطيف العبارة، فمن ذلك الرسالة التي أرسلتها إلى عبد المؤمن بن علي التي نمت إليه بنسبها العامري وتسأله رفع الضريبة عن دارها والاعتقال عن مالها وفي آخرها قصيدة أولها: عرفنا النصر والفتح المبينا ... لسيدنا أمير المؤمنينا إذا كان الحديث عن المعالي ... رأيت حديثكم فينا شجونا ومنها: رويتهم علمه فعلمتموه=وصنتم عهده فغدا مصونا فلما اطلع على قصيدتها ومقالها أجاب طلبها في جميع ما سألته عنه. آسية ابنة مزاحم امرأة فرعون كانت من خيار النساء المعدودات، تزوجت بفرعون موسى ملك مصر ولم تلد منه مدة حياتها معه وكان بحبها مستهاما ولكلامها مطيعا. وكان فرعون رأى مناما قد هاله، فأحضر الكهنة والمفسرين من أرباب دولته، وقص عليهم رؤياه فحذروه من مولود يولد في ذلك العام ويكون هو سببا لخراب ملكه، فأمر فرعون بقتل كلا غلام يولد في ذاك العام من بني إسرائيل، وكان في دار فرعون بستان فيه نهر كبير فخرجت الجواري إليه ذات يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ليغتسلن فيه فوجدن تابوتا فأخذنه وظنن أن فيه مالا، فحملنه على حالته حتى أدخلنه إلى آسية، فلما فتحته رأت فيه غلاما فألقى الله عليها محبة منه، فرحمته آسية وأحبته حبا شديدا، فلما بلغ الذباحين أن في دار الملك غلاما استأذنوه بأن يدخلوا داره ويذبحوا الغلام تنفيذا لأمره، فأذن لهم بذلك، فأقبلوا على آسية بشفارهم ليذبحوا الغلام، فقالت آسية للذباحين: انصرفوا فإن هذا ليس من بني إسرائيل فإن أتى فرعون استوهبته منه، فإن وهبه لي كنتم أحسنتم وإن أمركم بذبحه فلا مانع من ذلك، ثم إنها أتت به إلى فرعون وقالت له: ليس لي ولا لك ولد فلا تقتلوا هذا عسى أن ينفعنا، فسمح به إليها أن تربيه، فلما آمنت آسية عليه سمته موسى وأحضرت المراضع فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها حتى أشفقت آسية عليه أن يمنع من اللبن فيموت فأمرت بإخراجه إلى السوق ترجو أن يصيب امرأة يرضعوه من ثديها إلى أن أتت أمه وأعطته ثديها فرضع منها، فانطلق البشير إلى آسية يبشرها بأنه وجد لابنها امرأة مرضعة فأمرت بإحضارها وقالت لها: امكثي عندي لترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئا مثل حبه قط، فقالت لها: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي ولا أولي له إلا خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي، فأعطتها إياه فأخذته ورجعت إلى بيتها، فلما ترعرع قالت آسية لأم موسى: أحب أن تريني ابني، فوعدتها يوما تريها إياه فيه فقالت لخواصها وجواريها: لا يبقى منكن أحد إلا استقبل ابني بهدية ومكرمة فإني باعثة بأمينة تحصي ما تصنع كل قهرمانة منكن. فلم تزل الهدايا والتحف تستقبله من وقت أن خرج من بيت أمه إلى أن دخل على آسية، فلما دخل عليها أكرمته وفرحت به وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه ثم قالت لها: انطلقي به إلى فرعون ليكرمه، فلما دخل عليه أكرمه ووضعه في حجره فتناول الغلام لحية فرعون حتى جذبها ونتف منها بعض شعيرات، فغضب غضبا شديدا وخاف منه وقال: هذا عدوي المطلوب، فأرسل الذباحين ليذبحوه، فبلغ ذلك آسية، فجاءت تسعى إلى فرعون وقالت له: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي؟ فأخبرها بما فعل، فقالت له: إنما هو صبي لا يعقل وإنما صنع هذا من صباه، وأنا أجعل فيه بيني وبينك أمرا نعرف به الحق وأضع له حليا من الذهب والياقوت، وأضع له جمرا فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمر علمت أنه صبي، ثم وضعت له طشتا فيه الياقوت وطشتا آخر فيه الجمر فمد الغلام يده إلى الجوهر ليقبض عليه فزاغت عينه إلى الجمر فقبض على جمرة ووضعها في فمه فجاءت على لسانه فأحرقته فقالت له آسية: ألا ترى إلى فعله وأنه صبي لا يعقل فكف عن قتله. وكانت يوما متطلعة من كوة في قصر فرعون إذ نظرت إلى الماشطة امرأة (حزقيل) تعذب وتقتل فبينما فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون وجعل يخبرها بخبر الماشطة امرأة حزقيل وما صنع بها فقالت آسية: الويل لك يا فرعون. فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك. فقالت: ما اعتراني جنون ولكني آمنت بالله ربي وربك ورب العالمين، فدعا فرعون أمها وقال لها: إن ابنتك قد أخذها الحنون الذي أخذ الماشطة ثم إنه أقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإلهها فخلت بها أمها وسألتها موافقة فرعون فيما أراد فأبت وقالت: تريدين أن أكفر بالله؟ فلا والله ما أفعل ذلك أبدا، فأمر بها فرعون فمدت بين أربعة أوتاد ثم ما زالت تعذب حتى ماتت ولسانها لا يفتر عن ذكر الله وهي تقول: (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله) (التحريم: 11) . رحمها الله رحمة واسعة. اعتماد زوجة المعتمد بن عباد هي أم أولاده وتشتهر بالرميكية، وسبب اتصالها بالمعتمد هو كما قيل: إن المعتمد ركب في النهر ومعه ابن عمار وزيره وقد زردت الريح النهر فقال ابن عمار لوزيره: أجز (صنع الريح من الماء زرد) . فأطال الوزير الفكرة فقالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 امرأة من الموجودات على ضفة النهر: أي درع لقتال لو جمد. فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار ونظر إليها فإذا هي غاية في الحسن والجمال فأعجبته فسألها: أذات بعل أنت؟ قالت: لا، فتزوجها وولدت له أولاده الملوك النجباء. ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرميكية أغرت المتعمد به حتى قتله والقصيدة أولها: ألا حي بالغرب حيا حلالا ... أناخوا جمالا وحازوا جمالا وعرس بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا ويومين في قرية بأشبيلية كانت منها أولية بني عباد ومنها: تخيرتها من نبات الهجان ... رميكية ما تسوى عقالا فجاءت بكل قصير العذار ... لئيما يجارين عما وخالا قصار القدود ولكنهم ... أقاموا عليها قرونا طوالا أتذكر أيامنا بالصبا ... وأنت إذا لحت كنت الهلالا أعانق منك القضيب الرطيب ... وأرشف من فيك ماء زلالا وأقتع منك بدون الحرام ... فتقسم جهدك أن لا حلالا سأهتك عرضك شيئا فشيئا ... وأكشف سترك حالا فحالا فيا عامر الخيل يا زيدها ... منعت القرى وأبحت العيالا ومنها: ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له: فقال: يا سيدي ... لقد هناهنا قالت لقد هناهنا ... مولاي أين جاهنا قلت لها إلا هنا ... صيرنا إلى هنا أغسطينا عذراء سرقسطة عذراء توفيت في كوتا من إسبانيا في شهر حزيران سنة 1857 م بعد أن طعنت في السن كانت في صباها تبيع مشروبات في سرقسطة، فلما حاصر الفرنسيون المدينة المذكورة سنة 1808 م وسنة 1809 م اشتركت فيا لمدافعة واشتهرت بما بدا منها من الشجاعة ولقبت بلرتيبارا ومعناه طوبجيه لأنها نزعت فتيلة من لبرطوبجي كان في حالة النزع وأطلقت المدفع على المحاصرين، ومكافأة لها على خدمتها في وقت الحصار وجهت إليها قيادة فرقة من العساكر الإسباتيولية مع عدة نياشين، واستمرت فيا لقتال حتى حازت النصر مرارا بفرقتها على الفرنساويين. أفروسيني القديسة ولدت بالإسكندرية لنحو سنة 413 للميلاد وكان أبوها من الأغنياء وتربت هي على العبادة والتقوى ونذرت نفسها للبتولية وأنها لا تقبل زوجا لها أيا كان، فلما بلغت مبلغ النساء أراد أبوها أن يزوجها بأحد أقربائها، فلما أيقنت ذلك لبست ثوب رجل وفرت من بيت أبيها ولجأت إلى أحد النساك، ثم مضت إلى أحد الأديرة وسمت نفسها زمرد فقبلها الرهبان ولم يعرفوا أمرها، فأخذ أبوها يبحث عنها حتى جاء الدير وأخبر الرئيس بالخبر وهي حاضرة تسمع بدون أن يعرفها أبوها ولا الرئيس، فكانت تخاف أن تعرف، وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الخصوص أن أباها تردد كثيرا إلى ذلك الدير وكان يشكو للرئيس أمره، واستمرت على هذه الحالة 18 سنة. وقيل: 30 سنة وهي ملازمة للصلاة والصوم والتشقفات والعبادة الحارة حتى مرضت وعرفت أن أجلها قد اقترب فدعت والدها وكشفت له أمرها وتوسلت إليه أن يفرح بذلك، ثم توفيت. أفروسيني إمبراطورة الشرق هي امرأة ألكسيس الثالث الملقب أنجلوس أي الملاك ودبرت على وضعه على تخت الملك عوضا عن أخيه إسحاق أنجلوس سنة 1195 م، غير أنها هي التي ملكت بالحقيقة وكانت موصوفة بجودة العقل والشجاعة والفصاحة غير أنها كانت متكبرة وسيرتها غير مرضية فعلم بذلك ألكسيس سنة 1178 م وخشي حدوث فتنة شديدة فطردت أفروسيني من البلاط وحبست في دير. وسنة 1184 م استدعاها الإمبراطور إلى البلاط غير أنها لم تهنأ بالملك ثانية من جراء ثورة ألكسيس الملقب بالشباب وهو ابن أخي ألكسيس الإمبراطور فإنه ثار على الإمبراطور بعد خذلانه في حرب البلغاريين واستنجد الجيوش الصليبية فأتت لمساعدته، ولما استولى الفرنساويون في الحرب الصليبية الخامسة على القسطنطينية هربت أفروسيني وطافت مدة مع زوجها في آسيا ثم قبض على زوجها وحبس فبقيت منفردة من سنة 1210 م إلى أن توفيت سنة 1215 م. أفذوكسيا زوجة الإمبراطور أركاريوس أثليا ابنة الكونت بوثون الفرنجي، قائد بتودسيوس الكبير زوجها أطروبيوس الخرجبي بالإمبراطور أركاديوس وباسم أركاديوس ملك كلاهما، ولما سقط أطروبيوس من الملك حكمت إفذوكسيا بالقسط بين الناس ولم تقبل رشوة البتة كعادة ملوك ذلك الزمان، ولما نفت القديس يوحنا فم الذهب سنة 403 م لأنه وعظ عن زينة النساء وأبطل زهوهن وشعب عليها الشعب فاستدعته بعد أشهر ثم نفته سنة 404 م لأنه وبخ الشعب بقوة على ما حدث من الأمور غير اللائقة عند نصب تمثال أفذوكسيا ثم توفيت أفذوكسيا وكانت قد ولت لأركاديوس تيورسيوس الثاني. أفذوكسيا ابنة الفيلسوف ليونكيوس اليوناني امرأة تيورسيوس الثاني كان اسمها قبل أن تعمدت وتزوجت أثيناس وكان أبوها قد علمها العلوم الفلسفية والمعارف والآداب وكانت فوق ذلك بديعة الجمال ولما رآها أبوها في درجة عالية من حسن العقل والجد حرمها من ميراثه لعلمها بكفايتها في تحصيل أكثر مما يلزمها فتوجهت إلى القسطنطينية تطلب حقها من الإمبراطور بلكيريوس فعجب من علمها وحسن تصرفها وزوجها بأخيه تيورسيوس سنة 421 م فلم تهمل العلوم واشتهرت بها ونشطتها فازدحمت على بابها أقدام العلماء وأحبها واحد منهم يقال له: يولنبوس فقتله تيورسيوس الثاني غيرة إذ رأى كثرة اتصاله بها وأسقط منزلة أفذوكسيا فطلبت الرحيل إلى بيت المقدس، فأذن لها وأتبعها الملك بالرقباء، وأمر والي أورشليم بقتل خوري وشماس كانا يترددان إليها فغضبت أفذوكسيا وقتلت الوالي فنزع عنها الملك كل شرف واستحقاق ملكي. وكانت أفذوكسيا قد تبعت رأي أوطنجا غير أنها ارتدت بإرشادات القديس أفتيموس. وتوفيت بأروشليم سنة 460 م بعد أن برأت نفسها بالإقسام من التهم التي اتهمها بها الإمبراطور، وكانت قد أسست أديرة وكنائس وألقت عدة تآليف وكتب سيرة حياتها فليفور المؤرخ الشهير. أفذوكسيا أنفثا زوجة فالنتيانوس كانت أفذوكسيا امرأة تيورسيوس وتلقب بالفتاة، ولدت في القسطنطينية سنة 422 م، ولما قتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 زوجها كان شخص يدعى مكسيميوس شريكا في قتله وهي لم تعلم ذلك فتزوجته وزوجت ابنتها بابنه لكنها لما علمت الأمر من نفس مكسيميوس استدعت إلى إيطاليا جنسريك ملك القندالة فاكتسح رومية وأبقى أفذوكسيا عنده سبع سنين ثن رجعت إلى القسطنطينية سنة 462 م وأكملت حياتها بالرياضيات والعبادة. أفذوكسيا زوجة الإمبراطور قسطنطين دوكاس دعت لنفسها بالملك بعد وفاة زوجها سنة 1067 م لتثبت لأولادها حق الملك وأرادوا بعض كبراء الدولة أن يخلعها من السلطنة فحكمت بقتله غير أنها لما رأته لبها بجماله غضت عنه وجعلته قائد جيوش المشرق، ثم تزوجته سنة 1068 م بعد أن احتالت على البطريك كسيفينوس وأخذت منه صكا كانت قد تعهدت فيه لزوجها الأول إنها لا تتزوج بعد موته طول حياتها ولما تولى الإمبراطورية ابنها ميخائيل بعد ثلاث سنين من زواجها حبسها في دير، وكانت أفذوكسيا قد تضلعت من العلوم وألفت تآليف معتبرة منها تآليف في نسب المعبودات والأبطال من رجال ونساء وهو كتاب لطيف جدا وكتاب في تعليم النساء، وكتاب في شغل الأميرات، وكتاب في عيشة الرهبانية إلى غير ذلك من الكتب العلمية والتاريخية التي خلدت لها ذكرا في بطون الأوراق. أفذوكسيا لابوشين إمبراطورة روسيا هي أول امرأة لبطرس الأكبر وأم ألكسيس - المنكود الحظ- اتهمها زوجها بمواصلة رجل من الأشراف اسمه "كلبو" وهجرها ثم نفاها إلى دير بالقرب من بحيرة لادوغا، وأما كلبو فحكم عليه بالموت تحت العذاب الشديد ومع ذلك لم ينطق إلا ببراءة أفذوكسيا ثم استرجع الإمبراطور امرأته وماتت بعد ذلك بقليل. أكتافيا شقيقة الإمبراطور أوغسطوس زوجة مرقس أنطونيوس توفيت سنة 11 قبل الميلاد، تزوجت أولا بكلوريوس مرشلوس وكان يوليوس قيصر يرغب في فصلها عنه ليزوجها ببمباي إلا أن بمباي أبى ذلك فبقيت مع زوجها، ولما توفي سنة 41 قبلا مليلاد تزوجها مرقس أنطونيوس فتمكن بذلك الاتحاد بينه وبين أكتافيوس وصحبت زوجها الجديد في حروبه بالشرق وبواسطتها زال ما كان بيه وبين أخيها من الخلاف سنة 37 قبل الميلاد. ثم سار مرقس أنطونيوس لمحاربة البرثيين فشغف بحب كيلوباتره ولما أتت أكتافيا إلى بلاد الشرق سنة 35 قبل الميلاد بنجدات ومهمات ونقود لزوجها قبل ما أته به ولكنه أبى مقابلتها، فرجعت إلى إيطاليا ولم ترغب قط في مقابلة زوجها، بل أقامت في بيته وكانت تربي أولاده إلا أن أخاها أوغسطوس ساءه ذلك وعزم على الأخذ بالثأر، فشهر الحرب على أنطونيوس وكسره في موقعة أكتيوم المشهورة غير أن مرقس بعث إلى أكتافيا بكتاب الطلاق سنة 32 قبل الميلاد فانتقلت إلى بيت أخيها أوغسطوس وبعد وفاة زوجها المذكور جعلت أولاده من فولفيا وكيلوباتره مع أولادها فكانت تربيهم تربية واحدة من دون فرق بينهم وكان لها خمسة أولاد ثلاثة من مرشلوس، وابنتان من مرقس أنطونيوس اسم كل منهما أنطونيا، وإحداهما تزوجت بدوميتيوس أهينو بريوس دتيرون الذين جلسوا على تخت يالإمبراطورية الرومانية وماتت أكتافيا حزنا على ابنها مرشلوس الذي ولد لها من زوجها الأول فإنه توفي في عنفوان شبابه بعد أن كان أوغسطوس قد زوجه ابنته جوليا وعينه وارثا له في الإمبراطورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وكانت أكتافيا على جانب عظيم من التهذيب وحسن الأخلاق، وجودة العقل، وسعة المعارف. وقد أجمع أهل زمانها على أنها كانت أجمل من كيلوباتره. أكتافيا ابنة الإمبراطور كلوريوس من زوجته مسالينا خطبها لوسيوس سيلاتوس حفيد أوغسطوس إلا أن أمها أبطلت تلك الخطبة وزوجتها بابنها نيرون من زوجها دوميتيوس أهينو بريوس فطلقها لما جلس على تخت الملك مدعيا أنها عاقر، وتزوج ببوبيا وبعد ذلك نفاها إلى أكميانيا لأن بوبيا اتهمتها بعشق عبد مصري شاب اسمه أوساروس كان يحسن الغناء بالمزمار فاضطرب لذلك، وساءهم هذا الظلم جدا، فاضطر إلى أن يطفئ غيظهم نيرون فاستدعى أكتافيا إلى روية فقابلها الشعب بإكرام وسرور لا مزيد عليهما، وكسروا تمثال بوبيا فعزمت هذه على الانتقام وحرمت نيرون بتذمرها لذيذ المنام فأمر أنبسيت قاتل أمه أن يصرح أنه ضاجع أكتافيا فنفاها إلى جزيرة بنداثاريا، وهناك قطعت عروقها لقتلها بنزف دمها فمنعت الرعية جريان الدم فخنقت ببخار حمام حار، وأرسل رأسها إلى بوبيا سنة 62 للميلاد وكان لها من العمر حينئذ 20 سنة فقط. أليصابات زوجة زكريا هي أم القديس يوحنا المعمدان وقد ولدته في شيخوختها بعد أن كانت عاقرا وكان أبوها من نسل هارون وأمها من سبط يهوذا، ولذلك كانت من ذوات قرابة السيدة مريم العذراء، وقد زارتها السيدة المذكورة في حبرون الخليل في أيام حملها، وذهب القديس بطرس الإسكندري إلى أنها تركت تلك المدينة عندما قتل هيرودس الأطفال والتجأت مع ولدها إلى كهف في جبال بهوذا فماتت هناك بعد أربعين يوما من دخولها الكهف المذكور، وتركت القديس يوحنا وحده من دون معين فأقام على هذا الحال مدة طويلة. وقد طنب المؤرخون في تعداد فضائلها ووصف تقواها. أليصابات ابنة هنري الثامن، ملكة إنكلترا ولدت لهنري من زوجته حنة بولين وآخر من ملك من بيت تودور ولدت سنة 1533 م، وتوفيت سنة 1603 م. وجعلت ولية للعهد حال ولادتها وذلك بموجب قرار صدر من المجلس العالي، وبه حرمت أختها ماري ابنة كاترينا الأراغونية من الملك مع أنها كانت أكبر منها بسبع عشرة سنة. وفي السنة الثالثة من عمرها حدث ما أفضى إلى قتل أمها فصرح بأنها ابنة غير شرعية وتبدل ما كان لها من الاعتبار بالاحتقار، وتعلمت أليصابات اللغات اللاتينية والفرنساوية والإيطاليانية، والإسبانيولية، والفلمنكية وترجمت مؤلفا من اللغة الإيطاليانية إلى الإنكليزية وجعلته تقدمة لرابتها غير أنها كانت تفضل التاريخ على ما سواه من العلوم، وشاركت أخاها في الدروس التي ألقاها عليه رجل من أوفر أهل إنكلترا علما وأوسعهم معرفة. ولما توفي هنري الثامن في سنة 1547 م بالملك من بعده لابنته ماري ولأليصابات من بعدها، وعين لأليصابات مرتبا وافرا، وكان الناس حينئذ يحسبونها مناظرة لأختها ماري ورئيسة للحزب البروتستانتي، كما كانت ماري رئيسة للحزب الكاثوليكي. وسنة 1554 م تزوجت ماري بفليب الثاني، ملك إسبانيا وأمست تؤمل أن ترزق منه ولدا يرث الملك من بعدها وكان فيليب يعامل أليصابات باللطف، ويظهر لها الوداد، وتمكنت الصداقة والمحبة بين الأختين في الأشهر الأخيرة من حياة ماري، ولما توفيت ماري سنة 1558 م خلفتها أليصابات على تخت الملك من دون ممانع وبعد ستة أشهر من جلوسها على التخت أبطلت الصلوات الكاثوليكية من كنيستها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الخصوصية وأبت في أول الأمر أن تلقب برئيسة الكنيسة البروتستانتية وسمت نفسها والية لها إلا أنها أنفذت فيها سلطتها أخيرا ولم يكن لها معارض فيما تفعله وكان القوم في فرنسا يدعون لماري ستوارت ملكة سكوتلندا بحق التملك على إنكلترا، وكانت هذه الدعوى من شانها أن تأتي بنتائج ردئية وتسوق إلى الحرب، وأخذت أليصابات تتداخل في أمور سكوتلاندا ونجح الحزب البروتستانتي فيها بمساعدتها وحاول الباب بيوس الرابع أن يرد الملكة إلى الدين الكاثوليكي فحبط سعيه، وأرجعت قيمة المسكوكات الإنكليزية إلى ما كانت عليه سنة 1560 م فنشأ عن ذلك الإصلاح خير عظيم ونجاح للبلاد وأرسلت إلى الهوغنو الفرنساويين إمدادا من المال والسلاح والرجال وأمدت أيضا بروتستانت الفلمنك سرا، ولما طلبت ماري ملكة سكوتلاندا أن يسمح لها أن تنطلق بأمان من فرنسا إلى سكوتلاندا لم تجبها أليصابات إلى طلبها ويقال: أنها حاولت إلقاء القبض عليها. وسنة 1563 م طلب إليه المجلس العالي أن تتزوج لأن مسألة إرث الملك مما يهم رعاياها وخطبها كثيرون من إنكلترا والبلدان الأجنبية وكان من أعظم الإنكليز الذين يرغبون في الاقتران بها هنري فتزالان، ثامن عشر أرلات أرندل وآخرهم، وطلب إليها أيضا أن تعترف بماري ستوارت ولية للعهد فأبت، ولم تبرم المسألة وخطبها شارل التاسع ملك فرنسا فلم تجبه إلى سؤاله ومن جملة الذين رغبوا في الاقتران الأرشيدوق كارلوس ابن إمبراطور ألمانيا وكانت محبة الأرشيدوق تنمو يوما فيوما في قلبها، وكان الناس ينتظرون يوما فيوما اقتران الملكة بحبيبها وساء أليصابات تزوج دارنلي بماري ستوارت وتكدر الإنكليز عموما من ولادة ولد لهما لأن ذلك دل على أن الملك سينتقل فيما بعد إلى كاثوليكي، وفي تلك الأثناء حدثت قلاقل داخلية جديدة، واشتدت المصاعب الخارجية على الدولة لأن قبول المضطهدين الفارين من الفلمنك في إنكلترا وتأمينهم على أرواحهم ساء إسبانيا فأهينت الراية الإنكليزية في خليج مكسيكو وكذلك سفيرها في مدريد، فاستولت الملكة على مال لإسبانيا وجدته في سفن إسبانيولية التجأت إلى مرافئ إنكلترا ولما حجز الفلمنكيون أملاك الإنكليز في الفلمنك وسجن أصحابها، ألقت القبض على كل الإسبانيول المقيمين في إنكلترا وعلى سفير دولتهم أيضا وخاطبت فيليب الثاني في ذلك رأسا فأجابها بكبرياء وتهددها بالحرب، وكان دوق نرفلك قد انحاز إلى ماري ستوارت، وتعلق بها فحذرته أليصابات من ذلك، ثم ألقت عليه القبض وسجنته. وسنة 1569 م حدثت الثورة الشمالية العظيمة تحت رياسة أرلي وستمورلاند ونورثمبرلاند الكاثوليكيين فأخمدها أرل سكس في الحال، وقتل 800 من العصاة. وسنة 1570 م حرم الباب بيوس الخامس الملكة أليصابات وعلق رجل من الكاثوليك اسمه فلتون نسخة من الحرم على باب قصر الأسقفية في لندن فقبض عليه وقتل صبرا وبعد أن حبط مسعى القوم في عقد الزواج بينهما وبين الأرشيدوق كارلوس عرض عليها أن تتزوج بدوق أنجو الذي صار فيما بعد ملكا لفرنسا وسمي هنري الثالث وكان آخر رجل من بيت. قالوا: ألقيت المسألة على ديوان المشورة قال بعض الأعضاء: إن الدوق لا يلائم الملكة لأنه أصغر منها سنا (وكان عمره 20 سنة وعمرها 37 سنة) فأغضبها ذلك جدا. ويستدل من هذه الحادثة وما أشبهها أنها لم تكن تراعي جانب الخلوص في مثل هذه الأمور، وأنها كانت تغتاظ غيظا شديدا عندما ترى أحدا من خاطبيها يتزوج بغيرها بعد أن ييأس منها وجعلت سسيل لورد بورليغ وزيرا لها ووجهت إليه نظارة الخزينة وإلى السير توماس سميت مستشارية الدولة، وحصل لهاتون أهمية كبرى لأن الملكة أحبته كثيرا لكمال صفاته وجماله، واتهمها الناس أنها تعشقه وحبا بنفعه نزعت من أسقف لها كثيرا من الأوقاف وبعثت إليه برسالة في ثلاثة أسطر غاية في الخشونة. وفي أثناء الكلام عن اقترانها بدوق أنجو عرضت عليها أمها أن تزوجها بأخيه ألنسون وكان أصغر منها باثنتين وعشرين سنة قبيح الخلق والخلق، ثم انقطعت المراسلات بين أليصابات وأنجو فطلب إليها الإمبراطور مكسيميليان الثاني أن تتخذ ابنه رودلف بعلا لها مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أنها كانت في العمر أكبر من أمه وعرض عليها أيضا هنري دو نوارة إلا أن قلبها كان لم يزل متعلقا بدوق أنجو وأظهرت أنها عدلت عنه لأسباب دينية، وداول فيليب الثاني أن يقتلها فواطأ على ذلك كلا من نرفلك وماري ستوارت فكشفت المؤامرة وقتل نرفلك وماري ستوارت ثم استؤنف الكلام عن اقترانها بألنسون أخي دوق أنجو، وأصدر المجلس العالي قرارا بقتل ماري ستوارت فمل تسلم أليصابات بذلك، وفي تلك الأثناء حدثت ملحمة سنت برثلماوس سنة 1572 م، فاشتد غيظ الإنكليز وهاجوا على ماري وطلبوا قتلها فلم تجبهم أليصابات إلى ذلك رأسا، بل قبلت بتسليمها إلى السكوتلانديين الذين كان الإنكليز يعتقدون أنهم يقتلونها حالما يقبضون عليها. وسنة 1575 م طلب الهولنديون إلى أليصابات أن تملك عليهم لأنهم كانوا يعتبرونها من نسل فيليب أدوهينو فلم تجبهم إلى ذلك، ولا ساعدتهم، ولكنها قلبت سنة 1578 م أن تمدهم بالمال والرجال، واشترطت عليهم شروطا يمكنها بها أن تسترجع ما تنفه عليهم وحدث في إيرلاندا ما أتبعها وأقلقها، وكان الإيرلانديون يسمون الحرب التي أقامها اللورد منتجوى هناك الساحرة استهزاء بالملكة وتكاثرت مداخلة مندوزا سفير إسبانيا في إحداها فأكره على الخروج من إنكلترا وقتل وسجن كثيرون من المتآمرين. أما فليب هورد أرل أرندل وابن دوق نرفلك فحكم عليه بالقتل وبعد أن حبس مدة طويلة مات في السجن وألف ليستر جمعية لوقاية الملكة ممن سماهم بالمتآمرين الثانويين، وأثبت المجلس العالي ذلك بقرار أصدره وعزم على قتل ماري ستوارت إذ سعت في قتل أليصابات ثم كشفت مؤامرة تحت رياسة أنثوني بابنفتون كان في نيتها قتل الملكة وإخلاء سبيل ماري فعاد ذلك بالويل على ماري بدلا من أن تجر منه نفعا فجرت محاكمتها واختلف القضاة في ذلك اختلافا عظيما غير أنه حكم عليها بالاشتراك في المؤامرة وقتلت في فوثرنفاي في 8 شباط (فبراير) سنة 1587 م فحزنت عليها أليصابات ظاهرا حزنا شديدا، وقد تقرر فيما بعد واتضح جليا أن توقيعها على الحكم الصادر بقتل ماري كان محض تزوير. ومما لا ريب فيه أنها أرسلت إلى قلعة فوثرنفاي من دون علمها ولا أمرها، وكانت أحوال فرنسا مما لا يوجب الخوف من هذا القبيل إلا أن الباب وملك إسبانيا كانا من أعداء أليصابات الألداء يرغبان في تنكيلها وقهرها فحرمها البابا سكستوس الخامس وشهر عليها حربا صليبية وادعى فيليب الثاني بتاج الملك وبنى دعواه على أنه وارث شرعي لبيت لانكستر لكونه من سلالة ابنتي جون أف غونت اللتين ملكتا برتوغال وقسطيلة وتجهز جهازا للحصول على مطالبه ووعده البابا بمساعدات كثيرة شرطية، وفي تلك الأثناء أغار دراك على سواحل إسبانيا فعاث ونهب سفنها وهجم على ميناء قادس فألحق بسفنها ضررا كبيرا وتهيأ الإنكليز بسرعة لملاقاة عسكر فيليب فنزعوا الشقاق من بينهم واتحد الكاثوليك والبيورتيانة وباقي الشعب فكانوا يدا واحدة وجهزوا أسطولا مؤلفا من 180 سفينة تحت قيادة اللورد هورد أف أفنغام وقيادة دراك وفربيشر وهوكنس وجمعوا جيشين مؤلفين من 60 ألف مقاتل. أما الأسطول الإسبونيولي فسار من إسبانيا في 29 أيار (مايس) سنة 1588 م لغزو إنكلترا ولكن هبت زوبعة شديدة أكرهته على الرجوع ولم يلتق الأسطولان إلا في شهر تموز (جولية) فتقاتلا قرب ساحل إنكلترا وبعد أن استمرت الحرب بينهما سجالا مدة سعة أيام انكسر الإسبانيون وتبدد شملهم. وسنة 1589 م أرسلت أليصابات جيشا لتخليص البرتوغال من أيدي الإسبانيون فصادف فشلا مع أنه خرج من البحر، ووصل إلى ضواحي لبسبون وأمدت هنري الرابع ملك فرنسا بالمال والرجال لأنه كان يحارب إسبانيا والاتحاد المشهور بين سنة 1590 م، وسنة 1591 م، وسنة 1593 م التأم المجلس العالي وبعد مشاحة جرت له مع الملكة خضع لها وساء أليصابات عزم هنري الرابع على ترك المذهب البروتستانتي وكشفت مؤامرة عقدها جماعة أرادوا أن يدسوا المس في شراب أو غيره وقتلت رودريا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 غولوبس وهو بهوري إسبانيولي الأصل كان في خدمتها عدة سنين، وذلك لاشتراكه في تلك المؤامرة وفي ذلك الوقت عمت الاضطهادات الدينية إنكلترا كلها وقتل كثيرون من وجوه البيورتيانة، وكانت الحرب مع إسبانيا جارية على قدم وساق. وسنة 1596 م فتح قادس أسطول وجيش إنلكيزيان تحت قيادة هورد أف أفنغام وأسكس. وكان أكسس حينئذ أكثر أهل إنكلترا نفوذا وسطوة، إلا أنه لقصر عقله وسوء تدبيره لم يعد عليه مركزه ولا اعتبار الملكة له بأقل نفع، وكثرت الدسائس في البلاط الملكي فأمسى أسكس وهو أكرم رجال الدولة وأقلهم دراية آلة في أيدي أهل الغايات والمطامع وأرسل أسكس لمحاصرة الإسبانيين في بلادهم وفي الأقيانوس الأتلنتيكي: أن فيليب الثاني حاول أن يجعل ابنته ملكة لإنكلترا فلم يفعل شيئا فأغضب ذلك الملكة، ولكن لم تلبث أن رضيت عنه وتمكن من مقاومة بورليغ ومضادته إلى أن عرف بورليغ المذكور أن بينه وبين ملك سكوتلاندا مراسلة، ولما عزم هنري الرابع على عقد الصلح مع إسبانيا ورأى أن ذلك مما يغيظ أليصابات عرض على إنكلترا وإسبانيا عقد الصلح وتوسط الخلاف بينهم، فصادق بورليغ على ذلك وخالفه أسكس، وفي مجلس من الوزراء عقدته الملكة للنظر في مصالح إيرلندا حول أسكس قفاه للملكة باستخفاف فصفعته وقالت له: اذهب، لا سلمك الله فأغلظ لها إرل أسكس الكلام وهاج وماج وخرج من المجلس وبينما كان قوم يحاولون مصالحتهما توفي بورليغ في 4 آب (أغسطوس) سنة 1598 م. وبعد ذلك بستة أسابيع توفي فيليب الثاني فرجع أسكس إلى البلاط الملكي وبعد مدة وجيزة انتخب لوردا واليا لإيراندا وكانت تلك البلاد حينئذ في حال تعيسة ولم يوجه إليه ذلك المنصب عن حب بل عن غيظ وسعى له فيه أعدائه المدبرون على هلاكه وكان هو من أهل السياسة الدولية لا من المضطلعين بسياسة الأهالي ومن أهل الشرف لا من رجال الحرب فحبطت مساعيه في إيرلاندا فرجع منها من دون إذن، وسلك طريق التهور والشطط فكان كالباحث على حتفه بظلفه فسيق إلى دكة المجرمين فقتل عليها سنة 1601 م، وأمسى السير روبرت سسيل بن بورليغ أكثر وزراء أليصابات نفوذا وكان بينه وبين ملك سكوتلاندا مراسلة وطلبت الملكة أن هنري الرابع ملك فرنسا يزورها في دوفر لأنه كان في كالي إلا أنه أرسل إليها سفيره موسيودي روسني فقابلته ودار بينهما حديث مهم فإنها تكلمت في أول الأمر عن ملك سكوتلاندا، وقالت له: إنه سيخلفها في الملك ويصير لبريطانيا العظمى كلها, وهي أول من لقب بهذا اللقب، ثم أرسل إليها "هنري الرابع" سفارة أخرى فأحسنت ملتقاها وكان آخر اجتماعات المجلس العالي في أيامها في شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1601 م فقاومت الامتيازات الجائزة التي كانت قد منحتها قبلا مقاومة شديدة، ولكن إذ رأت أن مقاومتها له لا تجدي نفعا عدلت عنها بوجه لا يمس فيه شرفها. وفي أوائل سنة 1603 م ورد عليها تشكيات شتى فاعتلت لذلك صحتها إلا أن سبب موتها هو أنه أصابها نزل في "رشتمند" فتوفت فيها ودفنت في 28 نيسان هذا, وإن الحوادث التي جرت في عهدها هي من أهم الحوادث التي جرت في إنكلترا والعصر ال "أليصاباتي" في التاريخ الإنكليزي هو من أزهى الأعصر وأزهرها وقد جعل له رجال السياسة والحرب والفلاسفة الكثيرون الذين نبغوا فيه من غيرهم من أهل الحذق والدراية مقاما في تاريخ العالم لم يتجاوزه عصر ألبتة, والحوادث المهمة التي جرت في حياة "أليصابات" مقررة ثابتة لا يتدافع فيها اثنان أما أوصافها فقد اختلف فيها المؤرخون. وهذه ترجمة ما ذكره عنها "فرويد" في آخر تاريخه قال: "إن مركزها من أول الأمر كان متعبا جدا, وتعلقها ي "لبستر" تعلقا مشؤوما أو غير مرتب جعلها تكره الزواج وما حل بها من اليأس زاد أطوارها غرابة, ولم تتحزب للإصلاح عن طيب خاطر بل ظروف زمانها حكمت عليها بذلك فاضطرتها إلى وقاية الأراتقة والعصاة مع أنه لم يكن لها صالح في مقاصدهم ولا كانت تؤمن بتعاليمهم وكانت تشعر بالضرورة حال خضوعها لها وما بدا منها من التردد نشأ عن حملها رغما عنها على سلوك طريق تكره المسير فيه وكانت حاذقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 جدا تدرك دقائق الأمور إلا أنها لم تكن تهتم كثيرا بالأمور الخطيرة وكانت خالية عن الانفعالات النفسية التي تجعل للطبع البشري قوة وثباتا غير أنه كان لها صفة أدبية سامية جدا وهي الشجاعة فاستمرت ثلاثين سنة عاكفة على قتل الناس ولم يلحق بعقلها من جراء ذلك خلل ولا هالها أمر القساوة وكانت تحتقر التنعم والحلم في غير موضعهما وتحب البساطة في المعيشة وتقوم بأشغال صعبة, وتسلك مسلك الاقتصاد في بيتها ومع أن غرورها لم يفق عند حد لم يحل لها التملق ألبتة. وكانت إذا سمعت غيرها يتكلم بالكذب لا تنفر منه ولذلك هان عليها ارتكاب الكذب, وكانت كثيرة الدهاء والحيل لا تلوح عليها البساطة إلا عندما تخايل وتخادع وكانت إذا وعدت بشرفها تنسى ما وعدت به فضلا عن أنه لم يظهر منها ألبتة ما يدل على أنها تفهم معنى الشرف, ولاغترارها بدرايتها وفهمها كانت لا تقوم بتغيرات يسددها إليها "بورليغ" من دون أن تلحق ضررا بالمملكة وبنفسها معا ولم تعدل عن مقاومة أو مضادة إلا بعد وقوعها في المشاكل وكانت حذاقة "بورليغ" المذكور وحذاقة "ولسنفهام" مما لا تكاد تكفي لتخليصهما منها, والنتائج العظيمة التي حصلت عليها إنكلتر في أيامها لم تنشأ عن سياستها بل عن سياسة رجالها التي كان من رأيها أن تضعفها وتوهنها مع أن الأمرو كانت تقتضي عزما وحزما وإجماعا ولم تركب في إبرام الأمور متن الشتت والعجلة ونسبوا ذلك إلى حكمتها لأنه طالما كانت له نتائج حميدة فربحت بذلك وقتا وأعقد مشاكلها ما كان حله حلا مرضيا مما يقدر عليه الوقت فقط, وكانت تحب أن تملك بالراحة إلى حين وفاتها تاركة للأجيال التابعة حل ما يعرض فيها من المشاكل, وكانت ترغب كل الرغبة في أن تشتهر بالحلم والرأفة التي عاملت بها المتآمرين هي من الأمور الغريبة التي لم يبارها فيها أحد إلى الآن, وكان بينها وبين أبيها في هذا الباب بون عظيم فإنه كان يعاقب رؤساء المتآمرين ويعفو عن أتباعهم. أما "أليصابات فقلما تمكنت من حمل نفسها على إمضاء أمر بقتل بعض الأشراف على أنها كانت تستطيع أن تأمر بخنق فلاحي "يوركشير" عشرات بموجب النظام الحربي من دون أن يؤاخذها ضميرها في ذلك. والحاصل أنها طالما كانت صارمة عند وجود الحلم وحليمة عند وجود الصرامة وسبب نجاحها وسلامتها إنما هو انقسام أعدائها وضعفهم لا حكمتها وثبات عزمها". أليصابات ملكة إسبانيا ولدت سنة 1602 م، وتوفيت سنة 1644 م, وهي ابنة "هنري الرابع" ملك فرنسا من زوجته "ماريا رومديشي" زفت إلى "فيليب" ابن ملك إسبانيا سنة 1615 م. وسنة 1621 م جلس زوجها على تخت الملك وسمي "فيليب الرابع" فعهد زمام المملكة إلى كونت "اوليفارز", وانهمك في اللذات والملاهي فحاولت "أليصابات" أن تبهه من غفلته وتحمله على مقاومة سياسة وزيره التي كان من شأنها أن تفضي بالبلاد إلى الخراب, فحبط مسعاها. وسنة 1640 م حدثت ثورة في "قطلونية", وانفصلت البرتوغال عن إسبانيا وساعدت عسكر مؤلفا من خمسين ألف مقاتل ثم سارت على القصر الذي كان ينعم فيه الملك في "بون رتيرو" فأخذت ولدها من يده وقالت للملك: سيدي, إن هذا الغلام ولدنا الوحيد سيكون أفقر إنسان في أوروبا إن لم تعزل جلالتكم في الحال وزيرا ساق إسبانيا إلى الخراب فنفى "أوليفارز" ودبت الحماسة مؤقتا في عروق "فيليب" أما "أليصابات" فقطعت كل علائقها مع بيت أبيها لأنهم أمسو ألداء أعداء إسبانيا وقبضت على زمام المملكة بيدها وأخذ "فيليب" يحاول في مقدمة عساكره استرجاع ما خسره من بلاده فلم يصادف نجاحا, وأبدت "أليصابا" في إدارة مصالح البلاد حكمة ومحبة لوطنها ووفقت بين الأحزاب بإنذاراتها وفصاحتها, وباعت حليها وقللت مصاريف بيتها كثيرا مساعدة للخزينة حتى حسب الإسبانيول وفاتها مصيبة وطنية وحزنوا عليها حزنا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أليصابات بتروفنا إمبراطورة روسيا هي ابنة "بطرس الكبير" من زوجته "كاترينا الأولى", ولدت سنة 1709 م, وتوفيت سنة 1762 م. تولت بعد وفاة أبيها "بطرس الثاني" ابن "ألكسيس" (سنة 1727 م أو 1730 م) وابنة عمها "حنة أبفانفنا" بنت أكبر أولاد "بطرس الكبير" (سنة 1730 م أو 1740 م) . ولم تكن "أليصابات" تميل إلى التملك بل كانت تقول: إن لذة الحب أشهى شيء غليها إلا أن "حنة" جعلت "إيفان" ابن "أنطوني أولزيك" دوق "برنسوبك" ولي عهدها تحت وصاية أمه "حنة" لأنه كان ولدا لم يبلغ من العمر إلا بضعة أشهر, وأوصت أن تكون وكالة الملك مدة قصره في يد محبوبها "بيرون" فحرمت "أليصابات" الملك بذلك ثالثة, ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل أمست حرية "أليصابات" في خطر, لأن الحسد الذي ربي في عروق أم الغلام الذي جعل وليا للعهد حملها على أن تتبصر في التخلص من وكيل الملك, ومن "أليصابات" نفسها, فأشارات عليها أن تترهب إلا أن "لستوق" جراحها ومحبها واطأ جماعة على رد كيد أعدائها في نحورهم وساعده على ذلك الحزب الروسي الوطني ودسائس سفير "لويس الخامس عشر" ملك فرنسا فأفضى الأمر بالمتآمرين على حمل السلاح والخروج على الحكومة, فغلبوا "حنة" "وإيفان" ونصبوا "أليصابات" إمبراطورة في شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1741 م. وجعلت "حنة" مع زوجها وكثيرين من حزبها في السجن وحبس "إيفان" في قلعة "شلسلبرغ" فلم يخرج منها فيما بعد وعهدت مصالح الدولة والبلاد إلى جماعة من رجال "أليصابات" كانوا مثلها خالين عن الشهامة والدراية واستوت فيها محبة البطل والشهوات وبدا منها أحيانا ما دل على شدة قساوة, وتوحش إلا أنها كانت مرارا حليمة وكانت كريمة الأخلاق وقد رقت على المناصب العلية رجالا روسيين من الأفاضل وأهل السياسة وعينت "بطرس" ابن أختها "حنة روشيس هلستين غترب" المتوفاة وليا للعهد. وانتصرت في حرب جرت لها مع أسوج وانتهت بمعاهدة صلح انعقد في "آبو" سنة 1743 م, ثم كشفت مؤامرة أقيمت عليها فألقت القبض على المتآمرين وقاصصتهم قصاصا شديدا وأمدت "مريا تيريزا" بجيش لمحاربة "فرديريك الكبير" فساعدت بذلك على عقد معاهدة صلح في "أكس لا شابيل" سنة 1748 م, ثم حركها كل من "شوفالوف" و"بستوزف" ضد بروسيا وكان قد ساءها استهزاء وقع عليها من ملكها فحالفت النمسا وفرنسا عليه في الحرب المعروفة بحرب السنين السبعة وقامت عساكرها تحت إمرة "سوتيكوف" و"بوتورلين" و"أبراكسين" وفر "مور" بأعمال جرت ويلات كثيرة على بروسيا فانتصروا في موقعتي "غروس ياغرندرف" و"كورنسدرف" كلتيهما واستولوا على "كلبرغ" وحلوا في نفس برلين, ولما توفيت الإمبراطورة تخلص فرديريك من عدوة قوية وترجى أن يلقى مساعدة من خلفها "بطرس الثالث", أما الفساد الذي وقع في بلاطها فاستمر فيه على وفاتها وكان "راز" و"موفسكي" في الأصل من القزق المجهولي الحسب والنسب فجعلته من بعض حشمها ثم جعلته نديمها ووجهت إليه رتبة فلد مارشال واتخذته لها بعلا في السر ويقال: إنه أب لثلاثة من أولادها ومن الأعمال الخطيرة التي تذكر بها "أليصابات" تأسيسها المدرسة الكائنة في موسكو وأكاديمية الفنون المستطرفة في "بطرس برج" وكانت تحب نشر الفنون المذكورة وجرى لها مع "فولتير" المشهور مراسلة مكنته بها من الحصول على المواد اللازمة لتاريخ أبيها. أليصابات ملكة بوهيميا ولدت سنة 1596 م, وتوفيت 1662 م, وهي ابنة "جيمس الأول" ملك إنكلترا. كانت حسنة الصفات أديبة, خطبها كثيرون فآثرت هي وأبوها "فرديريك الخامس" المنتخب البلاتيني لأنه كان على مذهب البروتستانت فعقد الزواج باحتفال عظيم سنة 1613 م بلغت مصايفه 53 ألف ليرة, وكان المهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ألف ليرة إنكليزية, وكان زوجها رأس الحزب البروتستانتي في ألمانيا, ولما عرض عليه عصاة بوهيميا سنة 1619 م أن يتملك عليهم ألحت عليه بإجابتهم إلى ذلك, وقالت له: إن كنت تخشى أن تصير ملكا فلماذا تزوجت ابنة ملك؟ ثم دخلت "براغ" وجلست على تخت الملك بأبهة, غير أن مدة ملكها لم تطل لأن جنود الإمبراطورية تقدمت إلى أملاك "فرديريك" الأصلية وأغارت على بوهيميا أيضا. وبعد موقعة "براغ" سنة 1620 م اضطر الأمر كلا من "فردريك" وزوجته الملكة إلى الفرار فأمنهما عنه "موريس دوناسوفي هاغ" وولدت هناك أكثر أولادها, ومن جملتهم البرنس "روبرت" المشهور في تاريخ الحروب الأهلية الإنكليزية أما صغرى أولادها فصارت أميرة منتخبة ل "هانوفر" وهي جدة البيت الملكي الإنكليزي الحالي, ولدت سنة 1630 م بعد ولادة "شارل الثاني" ابن أخيها ورجعت "أليصابات" على إنكلترا سنة 1660 م, فأقامت نحو ستة أشهر في بيت اللورد "كرافن", وتوفيت به بعد وفاة زوجها سنة 1638 م, وكان بينهما مودة عظيمة وقد تغزل السير "هنري وتون" بمحاسنها في بعض أشعاره. أليصابات دو فالوا أو إيزابلا دو فالوا ملكة إسبانيا ولدت في "فونتينيلو" في 13 نيسان (أفريل) سنة 1545 م, وتوفيت في مدريد في 3 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1568 م, وهي ابنة "هنري الثاني" ملك فرنسا من زوجته "كاترينا دو مديشيط, خطبت بموجب معاهدة عقدت في "أنجلس" سنة 1551 م ل "إدورد السادس" ملك إنكلتر إلا أن "إدورد" المذكور توفي قبل قيام عقد الزواج ثم خطبت بموجب مقدمات معاهدة الصلح التي أبرمت في "كاتو كمبريسيس" للدون "كارلوس" ابن ملك إسبانيا وفي 3 نيسان (أبريل) سنة 1559 م قررت المعاهدة ولكن إذ كانت زوجة "فيليب الثاني" والد الدون "كارلوس" قد توفيت اتخذها له عوض ابنه. وسنة 1560 م أقيم في "توليدو" احتفال عظيم للعرس. ألينورا رغويانه هي ابنة "وليم العاشر" آخر دوقات "أكونيانيا" ووارثتهو ولدت سنة 1122 م, وفي سنة 15 من عمرها تزوجت "لويس الثامن" ملك فرنسا فجعلت دوقية "غويانه" و"غسكونيا" و"سنتونج" و"بوانو" و"بيارن" مهرا لها إلا أن طيشها وميلها إلى الخلاعة والملاهي ساء "لويس" زوجها واشتد الختلاف بينهما في أثناء الحرب الثانية الصليبية وكانت قد صحبته فيها سنة 1147 م فاستأذن مجمع "بوجنسي" في طلاقها فسمح له بذلك فطلقها سنة 1152 م وبعد ذلك بستة أسابيع تزوجت "هنري نلانتاجنت" كونت "آنجو" و"روف بورمنديا" الذي صار بعد ذلك ملكا لإنكلترا وسمي "هنري الثاني" سنة 1154 م, فانتقلت بذلك ولايات "أكوتيانيا" إلى إنكلتر إلا أن زواجها هذا لم يكن خبرا من الأول لأن نساء البلاط الملكي حسدنها كثيرا وقتلت "روزمندا" إحداهن وألقت الرعب في قلوب أهل البيت الملكي وحركت البنين على آبائهم فمل "هنري" بأعمالها فسجنها في دير سنة 1173 م, فلم تخرج من سجنها إلا عندما جلس ابنها "رتشرد" الملقب بلقب الأسد على تخت الملك وذلك سنة 1189 م, وعهدت إليها إدارة المملكة مدة غياب "رتشرد" المذكور في الحرب الثالثة الصليبية وبعد رجوعه إلى إنكلترا بمدة وجيزة دخلت دير "فونتفرو" وبقيت فيه إلى أن ماتت سنة 1203 م. ألينورا روغوزمان امرأة إسبانيولية كانت تعتبر في زمانها أجمل نساء إسبانيا, عشقها "ألفونس الحادي عشر" ملك "قسطيلة" الملقلب بالمنتقم, واستعرت في قلبه نيران الغرام, فغاب عن الهدى وافتضح فيها افتضاح العاشقين, وخلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 العذار, وتصامم عن كلام العاذلين, وكان يعاملها معاملة زوجة فلا يستحي في هواها ولا يخشى لوم لائم ولولا أسباب سياسة مهمة جدا لطلق زوجته البرتوغالية, واتخذها له زوجة بدلا منها, غير أن "ألينورا" لم تكن دون الملكة إلا في اللقب فقط واستمرت 20 سنة مالكة قلب "ألفونس" وولد لها منه توأمان أحدهما "هنري روترتستامار" الذي جلس على تخت الملك والآخر "فرديريك" رئيس "كافليريه مار يوحنا" ولما توفي الملك سنة 1350 م أرادات الملكة أن تنتقم من عشيقته فألقت عليها القبض في "إشبيلية" سنة 1351 م, ولم يتمكن ولداها من إنقاذها مع أنهما بذلا في ذلك السبيل ما في وسعهما فقتلت خنقا في قصر الملكة على مرأى منها ومن ولدها "بطرس" الملقب بالعاس. ألينورا زوجة دون جوان دواكنبها كانت بديعة الجمال وكان زوجها غنيا إلا أنه كان دونها في الشرف وأكبر منها سنا, سار بها إلى بلاط "ليسبون", ولما رآها "فردينندو الأول" أسره حسنها ودلالها وحرمه حبها لذيذ المنام, فأخذ يلاطفها ويغازلها ويؤلنسها, وطلب إليها أن تكون له عشيقة فأبت, فحمل زوجها على أن يطلقها واتخذها له زوجة بعد أن قطع ما كان بينه وبين بنت ملك "قسطيلة" من العلائق, فنشأ عن ذلك ثورة في "ليسبون", ولكنها أخمدت في الحال, وجعلت "ألينورا" ملكة سنة 1371 م. وكانت على جانب عظيم من الكبرياء والطمع فوجهت إلى ذوي قرابتها أسمى المناصب وخشيت أن يقع بينها وبين أختها زوجة "ألانفنك دون جوان" منازعة على تخت الملك فحملت "دون جوان" المذكور على قتلها وقتلت أيضا باقي أعدائها وغمرت المتحزبين لها بالعطايا والأموال, ثم جعلت "الدون جوان أنديرو" من أعيان "قسطيلة" رئيسا للوزارة ووجهت إليه لقب كونت "أورين" وذلك لأنها كانت تحبه أكثر من زوجها وجعلها "فيردنند" قبل وفاته وكيلة للملكفأشركت حبيبها المذكور في غدارة المملكة إلا أن الوقت لم يصف لهما لأن ال "دون جوان" أراد أن ينزع الوكالة من يدها فدخل قصرها وقتل "أنديرو" في حضنها سنة 1383 م, وتفاقم غيظ الشعب من سلوكها فخافت على نفسها وخرجت من "ليسبون" ولم تزل سائرة إلى أن وصلت إلى "شنترين" فاستطعت صهرها "فردينندو" ملك "قسطيله" وتخلت له عن الملك وكانت تؤمل أن يأخذ بثأرها من سكان "لبستون" فإنها كانت تبغضهم جدا إلا أنه هو أيضا خشي عواقب خبثها وطمعها فحبسها في دير "تورديز بلاس" قرب بلاد الوليد فتوفيت فيه سنة 1405 م بعد أن مزق الحزن فؤادها. أمستريس زوجة دارا ملك فارس اشتهرت بشدة انتقامها من امرأة شقيق زوجها "أردانيت" وكان زوجها قد عشقها وكان من عادة ملوك فارس أن يمنحوا زوجاتهم في بعض الاحتفالات أي شيء طلبنه فانتهزت " امستريس" تلك الفرصة وطلبت أن تدفع إليها "أردانيت" فأجابها إلى ذلك فقطعت أنفها وأذنيها وحاجبيها ولسانها, وثدييها وطرحت شلوها للكلاب فتحرك الغيظ في قلب زوجها "ماسستس" وعزم على أن يأخذ بثأرها فلم تمهله "أمستريس" بل أنفذت إليه من قتله ولكي تؤدي للآلهة شكرها على ما أولتها من نجاح مقاصدها الفظيعة قربت لها 14 شابا من أشراف فارس أمرت بإحراقهم أحياء. انظر إلى هذه العظمة والكبرياء التي كانت أول خراب ملك "دارا" حتى صار كما اراناه التاريخ. أمستريس ابنة أخي داريوس وامرأة "ديوينسيوس" طاغية هرقلية النبطش يظن أنها أسست مدينة "أمستريس" المسماة الآن أمصترا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أو حسنتها. ويقال: إنها ابنة الملك "داريوس" لا ابنة أخيه كانت ذات جمال فائق وعقل رائق سلبت عقول اليونان بحسن سياستها وتدبير أعمالها حالة كونها ابنة ألد أعدائهم, وتوفيت وهم راضون عنها حتى إن بعضهم كان يعظمها مثل المعبودات. أليصابات كارمن سيلفا ملكة رومانيا هو الاسم الذي انتخبته لنفسها وأصل اسمها "أليصابات أوتيلي لويز رونويد" ولدت هذه الملكة في 29 خلت من ديسمبر سنة 1843 م ببلدة "موتربو" بقرب "تويد" اقترن بها في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة 1869 م البرنس "شارل دي هوهترلون" الذي ألقيت إليه فيما بعد مقاليد الحكم برومانيا فقبل, وجعل هذه الإمارة من عداد الممالك المشهورة وذلك بعد حرب الترك والروس سنة 1877 م, وقد رزقه الله في بادئ الأمر ببنت يسحر جمالها الألباب وتأخذ نباهتها وذكاؤها بالقلوب, ولكن لم يكن لها من طول الحياة نصيب حيث قصمت المنية عود شبابها, وقد سبب موتها لوالدتها من الآلام المرة ما لا يمكن الفهم وصفه ومحا من مخيلتها ما هي فيه من العز والجاه والفخار, ولها الحق في أن تقدم نفسها ضحية على مذبح الهموم والأكدار لأن ابنتها وقطعة كبدها حلت من الأدب والعلم إلى درجة قل أن يدرك شأوها من كان أكبر منها سنا من الذكور والإناث. وكان للملكة ميل غريزي للسفر كامن فيها, فلما توفيت ابنتها برز هذا الميل وقالت من الشعر الرقيق, واللفظ الرشيق حتى إنها حازت بين قومها شهرة لم يسبقها إليها من انتهى إليه علم الشعر وكانت لها المشاركة الكلية في علم الأدب والوقوف التام على كلام الفصحاء. وأما خصالها الحميدة وأفعالها المحمودة فحدث ولا حرج فإنها هي التي استحوذت على قلوب قومها, واستولت على عقول عشيرتها بما لها من لهجة الجانب ووداعة الأخلاق, والشفقة على المساكين من الرعايا واللطف بهم. وشاهدنا على ذلك لما كان زوجها يحارب تحت أسوار مدنية بلغتا بشجاعته المشهورة وشهامته التي لا تنكر كانت هي من جهة أخرى تواسي من أصيب بالجروح من العساكر وتسليه بالألفاظ التي لو كان به مهما كان لقام على قدم الصحة وشاركها في طريق العافية والشفاء. ولما عمل عقد السلم وانقشعت سحب الحرب عادت إلى مقر وحدتها ومركز عزلتها وهو قصر السمائية نفسها في مخالب الحزن والهم على بنتها وتقطع حبل الوقت بمواصلة الليل بالنهار في المطالعة. وإليها تنسب الآن نهضة أهل رومانيا في العلوم الأدبية لاسيما في الشعر منها وطالما شدت أذن الشاعر المشهور "إسكندر باشيلي" الذي هو الآن معتمد رومانيا في باريس ومدت إليه يد المساعدة في الأعمال الفكرية والمؤاثرة الشعرية, والمؤلفات المترجمة عديدة كثيرة التباين والاختلاف, فمنها ما هو نثر ومنها ما هو شعر وقد اشتهر فضلها في البلاد الفرنساوية فأخذ علماء هذه الديار في ترجمة مؤلفاتها النفيسة فقد ترجم الكاتب الشهير "لويز أولياك" كتابا لها عنوانه: "خطرات أفكار ملكة" وترجم الكاتب "سال" مؤلفاتها الشعرية والحوادثية. وممن تصدى إلى كتابة تاريخ حياة هذه الملكة باللغة النمساوية جناب البارون "هكلرج" وقد طبع تاريخ حياتها جملة مرات, وكانت الطبعة الخامسة بمدينة "هردلبرق" سنة 1889 م وجناب الموسيو "ميت كرمنتر" طبعه بمدينة "يرسلو" سنة 1882 م, ومفصل ترجمة حياتها أيضا بقلم الموسيو "سرجي" طبع في باريس سنة 1890 , ولم تشتهر ترجمة ملكة مثل ترجمة هذه الملكة. أم السعد ابنة عصام الحميري وتعرف بسعدونة من أهل قرطبة روت عن أبيها وجدها وغيرهما, وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم تكملة لقول غيرها هذا البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سألثم التمثال إن لم أجد ... للثم نعل المصطفى من سبيل وهي قولها: لعلي أن أحظى بتقبيله ... في جنة الفردوس أسنى مقيل في ظل طوبى ساكنا آمنا ... أسقى بأكواب من السلسبيل وأمسح القلب به عله ... يسكن ما جاش به من غليل فطالما استشفى بأطلال من ... يهواه أهل الحب في كل جيل أم العلاء بنت يوسف الحجاريه كانت شاعرة, لبيبة, أديبة, ذات حسن, وجمال, وأدب وكمال, لها قصائد طنانة وموشحات رنانة ذكرها صاحب المغرب وقال: إنها من أهل المائة الخامسة. فمن شعرها قولها: كل ما يصدر منكم حسن ... وبعلياكم يحلى الزمن تعطف العين على منظركم ... وبذكراكم تلذ الأذن من يعش دونكم في عمره ... فهو في نيل الأماني يغبن وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه: الشيب لا ينجع فيه الصبا ... بحيلة فاسمع إلى نصحي فلا تكن أجهل من في الورى ... يبيت في الحب كما يضحي ولها أيضا: افهم مطارح أحوالي وما حكمت ... به الشواهد واعذرني ولا تلم ولا تلكني على عذر أبينه ... شر المعاذير ما يحتاج للكلم وكل ما جئته من زلة فبما ... أصبحت في متن من ذلك الكرم وتوفيت في بلدها وادي الحجارة بالأندلس. أم الكرام هي ابنة المعتصم بن حماد ملك المرية كانت تنظم الشعر وتقول العروض, ولها الباع الطويل بالموشحات الأندلسية وقد افتخرت بها نساء العرب. وكانت عشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمسار وعملت فيه الموشحات ومن شعرها فيه: يا معشر الناس ألا تعجبوا ... مما جنته لوعة الحب لولاه لم ينزل بدر الدجى ... من أفقه العلوي للترب حسبي بمن أهواه لو أنه ... فارقني تابعه قلبي أم الهناء ابنة القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية سمعت عن أبيها وكانت حاضرة النادرة, سريعة التمثل من أهل العلم والفهم والعقل, ولها تأليف في القبور ولي أبوها القضاء في المرية, دخل مرة وعيناه تذرفان وجدا لمفارقة وطنه فأنشدته تمثله: يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان وهذا البيت من جملة أبيات وهي: جاء الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 غلب السرور علي حتى إنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني وبعده البيت السابق وبعد هذا البيت الآتي: فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ... ودعي الدموع لليلة الهجران أم بسطام بن قيس النصراني سيد بني شيبان كانت من نساء العرب المتقدمات في الأدب ذات شعر رائق, ومعنى فائق, فمن قولها ترثي ولدها بسطام حين قتل يوم الشقيقة قتله بنو ضبة: لبيك ابن ذي الجدين بكر بن وائل ... فقد بان فيها زينها وجمالها إذا ما غدا فيها غدون كأنهم ... نجوم سماء بينهن هلالها فيا لله عينا من رأى مثله فتى ... إذا الخيل يوم الروع هب نزالها عزيز مكر لا يهد جناحه ... وليث إذا الفتيان زلت نعالها وحمال أثقال وعائذ محجر ... وليث إذا الفتيان زلت نعالها سيبكيك عان لم يجد من يفكه ... وتبكيك فرسان زلت رحالها وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم ... وأرملة ضاعت وضاع عيالها مفرج حومات الخطوب ومدرك ال ... حروب إذا صالت وعز صيالها فغشى بها حيا كذاك ففجعت ... تميم بها أرماحها ونبالها فقد ظفرت منا تميم بعثرة ... وتلك لعمري عثرة لا تقالها أصيبت به شيبان والحي يشكر ... وطير يرى أرسالها وحبالها أم حكيم ابنة عبد المطلب الهاشمية الملقبة بالبيضاء كانت من النساء الحكيمات العاقلات في بني هاشم جمعت مع الحكمة وفرة الأدب, ومع البلاغة فصاحة العرب كانت مع أخواتها رثت أباها في حياته كطلبه بهذه الأبيات: ألا يا عين جودي واستهلي ... وبكى ذا الندى والمكرمات ألا يا عين ويحك أسعديني ... بدمعك من دموع هاطلات وبكى خير من ركب المطايا ... أباك الخير تيار الفرات طويل الباع شيبة ذا النعالي ... كريم الخيم محمود الهبات وصولا للقرابة هبرزيا ... وغيثا في السنين الممحلات وليثا حين تشتجر العوالي ... تروق له عيون الناظرات عقيل بني كنانة والمرجي ... إذا ما الدهر أقبل بالهنات ومفزعها إذا ما هاج هيج ... بداهية خصيم المعضلات فبكيه ولا تسمي بحزن ... وبكى ما بقيت الباكيات أم حكيم ابنة قارظ هي حليلة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كانت من فصحاء نساء العرب وأحسنهن أدبا وجملا, وأثبتهن جنانا, وكانت تقول الشعر وأكثر أشعارها رثاء على ولديها وكانا صغيرين, اسم أحدهما عبد الرحمن, والآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قثم. فلما فاز معاوية بعد تحكيم الحكمين بعث بالضحاك بن قيس, وبسر بن أرطأة بجيش وأمرهما أن يقتلا كل من كان من شيعة على بن أبي طالب حتى الأطفال والحرم فذهب بسر إلى اليمن وكان عبيد الله بن العباس عاملا هناك فلما لم يجده أغار على بيته فعثر بولديه المذكورين فذبحهما بشفرة كانت معه فجزعت أمهما عليهما جزعا شديدا, وخالط عقلها تطوف الأحياء وتقصد المنتديات في المواسم وحيثما رأت مجتمعا رفعت صوتا يقطعه البكاء وتنشد مراثي يرق لها الجلمود ومن مراثيها قولها: يا من أحس بابني اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف يا من أحس بابني اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مردهف يا من أحس بابني اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مختطف نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا أنحى على ودجي ابني مرهفة ... مشحوذة وكذاك الإفك يقترف حتى لقيت رجالا من أرومته ... شم الأنوف لهم في قولهم شرف فالآن ألعن بسرا حق لعنته ... هذا لعمر أبي بسر هو السرف من دل والهة حرى مولهة ... على حبيبين ضلا إذ غدا السلف فكان كل من يسمعها تنفجر منابع عينيه حزنا عليها وتنفطر صفاة قلبه رثوا إليها فسمعها يوما يماني ذو نفس أبية ونخوة جاهلية, فذهب إلى بسر وتلطف بالتزلف إليه حتى وثق به فخرج يوما بولديه إلى وادي أوطاس وقتلهما ثم فر وأنشد: يا بسر بسر بني أرطاة ما طلعت ... شمس النهار ولا غابت عن الناس خير من الهاشميين اللذين هما ... عين الهدى وصمام إلا سوق القاسي ماذا أردت إلى طفلي مولهة ... تبكي وتنشد من أثكلت في الناس أما قتلتهما ظلما فقد شرفت ... من صاحبيك قناتي يوم أوطاس فاشرب بكأسهما ثكلا كما شربت ... أم الصبيين أو ذاق ابن عباس ومن قولها أيضا: ألا يا من سبى الأخوي ... ن أمهما هي الثكلى تسائل من رأى ابنيها ... وتستسقي فما تسقى فلما استيأست رجعت ... بعبرة واله حرى تتابع بين ولولة ... وبين مدامع تترى وقيل: إنه لما بلغ علي بن أبي طالب قتل "بسر" الصبيين جزع لذلك جزعا شديدا ودعا على "بسر" بقوله: اللهم اسلبه دينه ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلب عقله. فأصابه ذلك, وفقد عقله وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب, ويجعل بين يديه زق منفوخ, فلا يزال يضربه حتى يسأم. وقيل: دخل عبيد الله بن العباس على معاوية بن أبي سفيان وعنده بسر بن أرطأة فقال له عبيد الله: أنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال: نعم, أنا قاتلهما. فقال عبيد الله: لوددت أن الأرض كانت أثبتتني عنك. قال: فقد أثبتتك الآن عندي فقاما فقال عبيد الله: ألا سيف. فقال له "بسر": هاك سيقي فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال ل "بسر" أخزاك الله شيخا, قد كبرت وذهب عقلك وذاك رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه تدفع إليه سيفك إنك لغافل عن قلوب بني هاشم والله لو تمكن منه لبدأ بي قبلك. قال عبيد الله: أجل والله, وكنت أثني به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أم خالد النميرية كانت من نساء العرب المشهورات بالعقل والذكاء والتدبير في قبيلتها بني نمير وهي مشهورة بأم خالد وشهرتها غلبت اسمها, ولذلك لم تأت الرواة عليه ولها أبيات في ولدها خالد وكان توفي في بعض الغزوات ودفن في الغربة وهي: إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضه ... أتتنا برايات نصاب هبوبها أتتنا بمسك خالط المسك عنبر ... وريح خزامى باكرتها جنوبها أحن لذكراه إذا ما ذكرته ... وتنهل عبرات تفيض غروبها حنين أسير نازح شد قيده ... وأعوال نفس غاب عنها حبيبها وقالت وهو يروى لأم الضحاك المحاربة: وكيف يساوي خالدا أو يناله ... خميص في التقوى بطين من الخمر أم الخير ابنة الحريش بن سراقة البارقية كانت من المتكلمات الخطيبات البليغات من نساء العرب وفدت على معاوية كما قال عبد الله بن عمر الغساني عن الشعبي أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير ابنة الحريش ورحلها وأعلمه أنه مجازيه بالخير خيرا, وبالشر شرا بقولها فيه, فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه فقالت: وأما أنا فغير زائغة عن طاعته, ولا معتلة بكذب. ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه مجازيني بالخير خيرا, وبالشر شرا فما عندك؟ قالت: يا هذا, لا يطعمك برك بي أن أسرك بباطل ولا يؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية, فأنزلها مع الحرم. ثم أدخلها في اليوم الرابع وعنده جلساؤه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته, قال لها: وعليك السلام يا أم الخير بحق ما دعوتني بهذا الاسم. قالت: يا أمير المؤمنين, لكل أجل كتاب. قال: صدقت, فكيف حالك يا خالة وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين في خير وعافية حتى سرت إليك فأنا في مجلس أنيق عند ملك رفيق, قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم. قالت: يا أمير المؤمنين, يعيذك الله من دحض المقال وما تخشى عاقبته. قال: ليس هذا أردنا, أخبريني كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن زورته قبل ولا رويته بعد وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة فإن أحببت أن أحدثك مقالا غير ذلك فعلت, فالتفت إلى جلسائه فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير المؤمنين. قال: هات. قال: كأني بها بين بردين زائرين كثيفي النسيج وهي على جمل أرمك, وبيدها سوط منتشر الضفيرة, وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: "يا أيها الناس, اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة في عمياء مدلهمة, فأين تريدون رحمكم الله إفرارا عن أمير المؤمنين أم فرارا من الزحف, أم رغبة عن الإسلام, لأم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله جل شأنه يقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجهدين منكم والصبرين ونبلوا أخباركم) (محمد: 31) . ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرغبة وبيدك يا رب أزمة القلوب فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى وألف القلوب على الهدى واردد الحق إلى أهله هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل والرضي التقي, والصديق الأكبر إنها إحن بدرية وأحقاد جاهلية وسببها واثب حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبد شمس, ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لهم لعلهم ينتهون صبرا, يا معاشر المهاجرين والأنصار قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة لا تدري أيا يسلك بها من فجاج الأرض باعوا الآخرة بالدنيا, واشتروا الضلالة بالهدى وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل بهم الندامة فيطلبون الإقالة ولات حين مناص إن من ضل والله عن الحق وقع في الباطل, ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا فرفضوها واستطابوا الآخرة فسعوا لها, فالله الله أيها الناس قبل أن تبطل الحقوق, وتعطل الحدود, وتقوى كلمة الشيطان فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وأبي سبطيه خلق من طينته وترفع من نبعته وجعله باب دينه, وأبان ببغضه المنافقين, وها هو ذا مفلق الهام ومكسر الأصنام صلى والناس مشركون, وأطاع والناس كارهون فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزيه وأفنى أهل أحد وهزم الأحزاب وقتل الله به أهل خبير وفرق به جمع أهوائهم فيا لها من وقائع زرعت في القلوب نفاقا, وردة, وشقاقا, وزادت المؤمنين إيمانا. قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله. فقال معاوية: يا أم الخير ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي, ولو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني أن يجري قتلي على يد من يسعدني الله بشقائه. قال: هيهات, يا كثيرة الفضول ما تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟ قالت: وما عساني أن أقول في عثمان, استخلفه الناس وهم به راضون, وقتلوه وهم له كارهون. قال معاوية: يا أم الخير, هذا ثناؤك الذي تثنين؟ قالت: لكن والله يشهد وكفى بالله شهيدا ما أردت بعثمان نقصا, ولكن كان سابقا إلى الخير وإنه لرفيع الدرجة غدا. قال: وما تقولين في الزبير؟ قالت: وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأنا أسألك بحق الله يا معاوية فإن قريشا تحدثت أنك أحلمها أن تعافيني من هذه المسائل وتسألني عما شئت من غيرها قال: نعم ونعمة عين قد عفيتك منها. ثم أمر لها بجائزة رفيعة وردها مكرمة إلى الكوفة وبقيت في عز إلى أن توفاها الله. أم سلمة زوجة السفاح هي ابنة يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكانت ذات أدب وجمال ومال تزوج بها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك فهلك عنها, ثم كانت عند هاشم فهلك عنها, وسبب زواجها بالسفاح هو أنها بينما كانت ذات يوم جالسة في منزلها إذ مر بها أبو العباس السفاح وكان جميلا وسيما فسألت عنه, فنسب لها, فأرسلت له مولاة لها تعرض عليه أن يتزوجها. وقالت لها: قولي له هذه سبعمائة دينار أوجه بها إليك وكان معها مال عظيم وجوهر وحشم فأتته المولاة فعرضت عليه ذلك فقال: أنا مملق لا مال عندي, فدفعت إليه المال فأنعم لها وأقبل إلى أخيها فسأله التزويج بها فزوجه إياها فأصدقها خمسمائة دينار وأهدى لها مائة دينار ودخل عليها من ليلته وإذا هي على منصة فصعد عليها فإذا كل عضو منها مكلل بالجوهر فلم يصل إليها فدفعت بعض الجواري فنزلت وغيرت لبسها ولبست ثيابا مصيفة وفرشت له فرشا على الأرض دون ذلك فلم يصل إليها فقالت: لا يغرك هذا كذلك كان غيرك يصيبه مثل ما أصابك فلم تزل به حتى وصل إليها من ليلته, وحظيت عنده وحلف أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فولدت له محمد وريطة, وغلبت على أمره غلبة شديدة حتى إنه كان لا يقطع أمرا إلا بمشورتها حتى آلت الخلافة إليه فلم يكن يدنو من غيرها لا حرة ولا أمة, ووفى لها بما حلف أن يغيرها فبينما كان ذات يوم في خلافته إذ خلا به خالد بن صفوان فقال: "يا أمير المؤمنين, إني فكرت في أمرك وسعة ملكك وقد ملكت نفسك امرأة واحدة فإن مرضت مرضت, وإن غابت غبت, وحرمت نفسك التلذذ واستطراف الجواري ومعرفة أخبارهن وحالاتهن والتمتع بما تشتهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 منهن فإن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء, والغضة البيضاء, والعقيقة الأدماء, والدقيقة السمراء, والبربرية العجزاء, من مولدات المدينة تفتتن بمحادثتهن وتلذ بخلوتهن, وأين أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن وحسن الحديث منهن, ولو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء, والسمراء اللعساء, والصفراء العجزاء, والمولدات من البصريات, والكوفيات ذات الألسن العذبة, والقدود المهفهفة والأوساط المخصرة, والأصداغ المظرفنة, والعيون المكحلة, والثدي المحققة, وحسن زيهن وزينتهن وشكلهن لرأيت شيئا حسنا". وجعل خالد يجيد في الوصف ويجد في الإطناب بحلاوة لفظه, وجودة وصفه, فلما فرغ كلامه قال له أبو العباس: ويحك يا خالد ما حك مسامعي والله قط كلام أحسن مما سمعته منك فأعد علي كلامك فقد وقع مني. فإعاد عليه خالد أحسن من الأول ثم انصرف وبقي أبو العباس مفكرا فيما سمع منه, فدخلت عليه أم سلمة امرأته, فلما رأته مفكرا مغموما قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين فهل حدث أمر تكرهه أو أتاك خبر فارتعت منه؟ قال: لم يكن من ذلك شيء قالت: فما قصتك أخبرني عنها؟ فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد فقالت: فما قلت لابن الفاعلة؟ قال لها: سبحان الله ينصحني وتشتميه؟ فخرجت من عنده مغضبة وأرسلت إلى خالد عشرة من الخدم ومعهم العصي وأمرتهم أن لا يتركوا منه عضوا صحيحا. قال خالد: فانصرفت إلى منزلي وأنا في غاية السرور بما رأيت من أمير المؤمنين وإعجابه بما ألقيت إليه ولم أشك أن صلته ستأتيني فلم ألبث حتى صار أولئك الخدم وأنا قاعد على باب داري, فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوي أيقنت بالجائزة واصلة حتى وقفوا علي فسألوا عني فقلت: ها أنا ذا خالد فبادر إلي أحدهم بهراوة كانت معه. فلما أهوى بها إلي وثبت فدخلت منزلي وأغلقت الباب علي واستترت ومكثت أياما على تلك الحال لا أخرج من منزلي ووقع في خلدي أني أوتيت من قبل أم سلمة وطلبني أبو العباس طلبا شديدا فلم أشعر ذات يوم إلا بقوم قد هجموا علي وقالوا: أجب أمير المؤمنين, فأيقنت بالموت فركبت وليس علي لحم ولا دم, فلما وصلت إليه أومأ إلي بالجلوس ونظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أرخيت, وحركة خلفها فقال: يا خالد لم أرك منذ ثلاث! قلت: كنت عليلا يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك وصفت لي في آخر دخلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق سمعي قط كلام أحسن منه فأعده علي. قلت: نعم يا أمير المؤمنين, أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضرة من الضر, وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا كان في جهد فقال: ويحك لم يكن هذا في الحديث قلت: بلى والله يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأنهن في قدر يغلي عليهن. قال أبو العباس برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعت منك هذا في حديثك الأول. قال: وأخبرتك أن الأربعة من النساء شر صريح لصاحبهن يشيبنه ويهرمنه ويسقمنه قال: ويلك, والله ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت! قال خالد: بلى والله. قال: ويلك أتكذبني؟ قال: أو تريد أن تقتلني؟ قال: مر في حديثك. قال: وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال, ولكن لا خصي لهن قال خالد فسمعت الضحك من وراء الستر قلت: نعم وأخبرتك أيضا أن بني مخزوم ريحانة قريش وأنت عندك ريحانة من الرياحين وأنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء وغيرهن من الإماء قال خالد فقيل لي من وراء الستر: صدقت, والله يا عماه بهذا حدثت أمير المؤمنين, ولكنه بدل وغير ونطق بما في ضميره عن لسانك فقال له أبو العباس: ما لك قا تلك الله وأخزاك وفعل بك وفعل. قال: فتركته وخرجت وهو يشتم وقد أيقنت بالحياة فلما وصلت منزلي أخذت راحتي وصرت أفكر فيما حصل فما أشعر إلا ورسل أم سلمة قد صاروا إلي ومعهم عشرة آلاف درهم وتخت وبرذون وغلام فأخذتها وانصرفوا وبقيت أم سلمة عند السفاح إلى أن توفاه الله وهي مالكة قلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أم سنان ابنة جشمة كانت من شاعرات العرب الموصوفات بالأدب اللائي لهن اليد الطولى بالنظم والنثر مع رقة المعنى ودقة المبنى والحماسة الزائدة التي تقصر عنها حماسة الرجال وناهيك ما قالته في مدح آل البيت وتحريض آل مذحج على نصرتهم, وقد وفدت على معاوية كما قال سعيد بن أبي حذافة قال: إن مروان بن الحكم وهو والي المدينة حبس غلاما ليس في جناية جناها فأتته جدة الغلام وهي أم سنان ابنة جمشة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان فخرجت إلى معاوية, فدخلت عليه, فانتسبت فعرفها فقال لها: مرحبا يا ابنة جشمة ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتمينا وتحضين علينا عدونا؟ قال: إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة وأحلاما وافرة لا يجهلون بعد علم, ولا يسفهون بعد حلم, ولا ينتقمون بعد عفو, وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤنا لأنت قال: صدقت نحن فكيف قولك: عذب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد يا آل مذحج لا مقام فشمروا ... إن العدو لآل أحمد يقصد هذا علي كالهلال تحفه ... وسط السماء من الكواكب أسعد خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا مازال مذ شهر الحروب بمظفر ... والنظر فوق لوائه ما يفقد قالت: كان ذلك يا أمير المؤمنين, وأرجو أن تكون لنا خلفا, فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة: أما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديا مهديا فذهب عليك سلام ربك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا قد كنت بعد محمد خلفا كما ... أوصى إليك بنا فكنت وصيا قالت: يا أمير المؤمنين, لسان صدق وقول حق ولئن تحقق ما ظننا فحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأضحد مقالتهم وأبعد منزلتهم إنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا. قال: وإنك تقولين ذلك قالت: سبحان الله والله ما مثلك مدح بباطل ولا أعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا كان والله علي أحب إلينا منك, وأنت أحب إلينا من غيرك. قال: فمن قالت من مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. قال: وبما استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة حلمك وكريم عفوك. قال: إنهما يطعمان في ذلك. قالت: هما والله من الرأي على غير ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله. قال: والله لقد قاربت ما حاجتك؟ قالت: يا أمير المؤمنين إن إثارات المسلمين, ويكشف عورات المؤمنين حبس ابن ابني فأتيته. فقال: كنت وكنت, فأسمعته أخشن من الحجر, وألقمته أمر من الصبر, ثم رجعت إلى نفسي بالملامة, وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا. قال: صدقت لا أسألك عن ذنبه والقيام بحجته اكتبوا بإطلاقه قالت: يا أمير المؤمنين وأنى لي بالرجعة وقد نفد زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة وخمسة آلاف درهم وانصرفت إلى قومها. أم عقبة زوجة غسان بن جهضم كانت ابنة عمه وكان مفتونا بها لأنها كانت من أجمل النساء وأحسنهن وأفضلهن خصالا وكان لما حضرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الوفاة جعل ينظر إليها ويبكي, ثم قال لها: إني منشدك أبيات أسألك فيها عما تصنعين بعدي وأعزم عليك أن تصدقيني فقالت: قل فو الله لا أكذبك. فأنشد: أخبري بالذي تريدين بعدي ... ما الذي تضمرين يا أم عقبه تحفظين من بعد موتي لما قد ... كان مني من حسن خلق وصحبه أم تريدين ذا جمال ومال ... وأنا في الترب رهن سجن وغربه فأجابته: قد سمعنا الذي تقول وما قد ... خفته يا خليل من أم عقبه سوف أبكيك ما حييت شجوا ... ومراث أقولها وبندبه فقال: أنا والله واثق بك لكن ... ربما خفت منك غدر النساء بعد موت الأزواج يا خير من عو ... شر فارعي حقي بحسن وفاء إنني قد رجوت أن تحفظي العه ... د فكوني إن مت عند رجائي فلما مات توافد عليها الخطاب فقالت: سأحفظ غسانا على بعد داره ... وأرعاه حتى نلتقي يوم نحشر وإني لفي شغل عن الناس كلهم ... فكفوا فما مثلي من الناس يغدر سأبكي عليه ما حييت بعبرة ... تجري على الخدين مني فتكثر فلما طالت الأيام وكثر إلحاح الناس أجابت الخاطب فلما كانت الليلة التي زفت فيها جاءها غسان في النوم فأنشد: غدرت ولم ترعى لبعلك حرمة ... ولم تعرفي حقا ولم تحفظي عهدا ولم تصبيري حولا حفاظا لصاحب ... حلفت له يوما ولم تنجزي وعدا غدرت به لما ثوى في ضريحه ... كذلك ينسى كل من سكن اللحدا فانتبهت مرعوبة كأنما كان معها فقالت النساء لها: ما دهاك؟ قالت: ما ترك غسان لي في الحياة أربا ولا في السرور رغبة أتاني في المنام فأنشدني هذه الأبيات, ثم جعلت ترددها وتبكي فشاغلنها بالحديث فلما غفلن عنها أخذت شفرة فذبحت نفسها ووفت لزوجها. أم عمران ابنة وقدان كانت من النساء المتحمسات في الجاهلية وكلامها يغلب عليها الهيجان بين العرب, قيل: إنها حينما قتل بعض رجال قومها قالت تحرضهم على أخذ ثأره وتوبخهم على تغافلهم عنه: إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... نقب النساء فبئس رهط المرهق ألهاكم أن تطلبوا بأخيكم ... أكل الخزير ولعق أجرد أمحق أم قيس الضبية لها في ابن سعد زوجها مراث روى منها صاحب الحماسة قولها: من للخصوم إذا الضجاج بهم ... بعد ابن سعد ومن للضمر القودومشهد قد كفيت الغائبين به في مجمع من نواصي الناس مشهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مذؤد إذا قناة امرئ أزرى بها خور ... هز ابن سعد قناة صلبة العود أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب أمها فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت قبل وفاة النبي خطبها عمر بن الخطاب إلى أبيها علي فقال: إنها صغيرة. فقال عمر: زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لم يرصده أحد. فقال له: علي أنا أبعثها إليك فإن رضيتها فقد زوجتكها فبعثها إليه ببرده فقال لها: قولي له: هذا البرد الذي قلت لك عليه. فقالت: ذلك لعمر. فقال لها: قولي له: قد رضيت رضي الله عنك ووضع يده عليها. فقالت له: أتفعل هذا؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك, ثم جاءت أباها فأخبرته وقالت له: بعثتني إلى شيخ سوء. قال: يا بنية, إنه زوجك فجاء عمر فجلس إلى المهاجرين في الروضة وكان يجلس فيها المهاجرون الأولون. فقال: ارفئوني فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل سبب ونسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري" وكان لي به صلى الله عليه وسلم النسب والسبب فأردت أن أجمع غليه الصهر فرفأوه, فتزوجها على مهر أربعين ألفا فولدت له زيدا ورقية, وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في وقت واحد وكان زيد قد أصيب في حرب كانت بين بني عدي خرج ليصلح بينهم فضربه رجل منهم في الظلمة فشجه وصرعه, فعاش أياما ثم مات هو وأمه وصلى عليهما عبد الله بن عمر وقدمه الحسن بن علي وذلك بعد وفاة عمر بن الخطاب, ولما قتل عنها عمر تزوجها عون بن جعفر. وقيل لما تأيمت أم كلثوم بنت علي من عمر بن الخطاب دخل عليها الحسن والحسين أخواها فقالا لها: إنك ممن قد عرفت سيدة نساء المسلمين وبنت سيدتهن وإنك والله إن أمكنت عليا من رمتك لنكحك بعض أيتامه, ولئن أردت أن تصيبي بنفسك مالا عظيما لا تصيبينه فو الله ما لبثا حتى طلع علي يتكئ على عصا فجلس فحمد الله وأثنى عليه وذكر منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد عرفتم عندي يا بني فاطمة, وآثرتكم على سائر ولدي لمكانكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتكم منه. قالوا: صدقت رحمك الله فجزاك عنا خيرا. فقال: أي بنية, إن الله عز وجل قد جعل أمرك بيدك, وأنا أحب أن تجعليه بيدي. فقالت: أي أبت إني امرأة أرغب فيما يرغب فيه النساء وأحب أن أصيب مما تصيب النساء من الدنيا, وأنا أريد أن أنظر في أمر نفسي. فقال لها: لا يا بنية ما هذا من رأيك وما هو إلا رأي هذين قام فقال: والله لا أكلم رجلا منهما أو تفعلين, فأخذا بثيابه فقالا: اجلس يا أبانا فو الله ما على هجرتك من صبر. فقالا لها اجعلي أمرك بيده. فقالت: قد فعلت. قال: فإني قد زوجتك من عون بن جعفر وإنه لغلام. وبعث لها بأربعة آلاف درهم وأدخلها عليه وبقيت معه حتى ما عنها قتيلا في وقعة كربلاء وهي مع أخيها الحسين ورجعت مع السبايا من العراق إلى الشام ثم إلى المدينة وذلك في قصة مشهورة وتوفيت في المدينة. أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط أسلمت وهاجرت وبايعت الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت هجرتها سنة 7 هجرية وتزوجها زيد بن حارثة فقتل عنها يوم مؤتة, ثم تزوجها الزبير بن العوام فولدت له زينب وطلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولد إبراهيم وأحمد وغيرهما. ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده وكانت أول مهاجرة من مكة إلى المدينة. قيل: مشت على قدميها من مكة إلى المدينة ولما عزمت على المهاجرة أتى أخواها عمارة والوليد يطلبانها فنزلت الآية: (فإن علمتموهن مؤمنت فلا ترجهوهن إلى الكفار) (الممتحنة: 10) وكانت أم كلثوم أخت عثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ابن عفان لأمه وقد نزلت فيها (يأيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنت مهجرت فامتحنوهن الله أعلم بإيمنهن) (الممتحنة: 10) إلى آخرها. أم كلثوم ابنة عبدود كانت أحسن نساء زمانها جمالا, وأوفرهن عقلا وكمالا. ذات أدب وفصاحة, وكياسة, وملاحة. ولها باع طويل في الشعر. ولما قتل أخوها يوم الخندق وكان قد خرج في نفر من القرشيين إلى المسلمين وقال لهم: من يبارز فبرز له علي بن أبي طالب له: يا عمرو إنك آليت على نفسك أنه لا يدعوك أحد إلى ثلاث إلا أجبته وإني أدعوك إلى الإسلام. فقال: لا حاجة لي بذلك. فقال: أدعوك إلى الانصراف فإن كان محمد صادقا تقربت عنده بذلك, وإن كان كاذبا فما عليك من كذبه شيء ويقع بيد غيرك. فقال: كيف تقول عني نساء قريش إن تركت النزال ورجعت. فقال له: إني أدعوك إلى النزال. فقال: هذه. ما كنت أظن أحدا من العرب يتجاسر أن يدعوني إليها, ولكن يا بن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك. فقال له علي: لكنني أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه, ثم أقبل على علي فتنازلا وتجولا فقتله علي 5 للهجرة أو 627 للميلاد وذلك في خبر طويل. ولما نعي عمرو إلى أخته أم كلثوم سألت من قاتله فقيل لها علي بن أبي طالب فقالت لم يأت يومه على يد كفء كريم وأنشدت: أسدان في ضيق المكر تجاولا ... وكلاهما كفؤ كريم باسل فتخالسا سلب النفوس كلاهما ... وسط المجال مجالد ومقاتل وكلاهما حسر القناع حفيظه ... لم يثنيه عن ذاك شغل شاغل فاذهب علي فما ظفرت بمثله ... قول سديد ليس فيه تحامل وأنشدت أيضا: لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكي عليه آخر الأبد لكن قاتله من لا يعاب به ... من كان يدعى أبوه بيضة البلد من هاشم في ذراها وهي صاعدة ... إلى السماء تميت الناس بالحسد قوم أبى الله إلا أن يكون لهم ... مكارم الدين والدنيا بلا لدد يا أم كلثوم ابكيه ولا تدعي ... بكاء معولة حرى على ولد ولما بلغت أبياتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم وفور عقلها وأنها مائلة إلى الإسلام فدعاها إلى ذلك فلبت طلبه وكان ذلك يوم فتح مكة وبقيت إلى أن توفيت في حياته. أم موسى الهاشمية هي امرأة أديبة عاقلة حكيمة ذات مكر ودهاء وفطنة قد جعلها المقتدر كهرمانة داره سنة 298 هجرية فكانت تؤدي الرسائل من المقتدر وأمه إلى الوزير, وكان لها كلمة نافذة وهي التي تسببت في عزل علي بن عيسى عن وزارة المقتدر سنة 304 هجرية, وذلك أنها أرادت الدخول عليه لتتفق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية من الكسوات والنفقات, فوصلت إليه وهو نائم فقال لها صاحبه: إنه نائم فلا أحد يوقظه فاجلسي في الدار ساعة حتى يستيقظ فغضبت من هذا وعادت, فاستيقظ علي بن عيسى في الحال وأرسل إليها حاجبه وولده يعتذر لها فلم تقبل ودخلت على المقتدر وتحرشت على الوزير عنده وعند أمه, فعزله وأعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أبو الحسن علي بن الفرات ثم عزلها المقتدر سنة 310 هـ, وذلك لأنها زوجت ابنة أختها من أبي العباس أحمد بن محمد بن إسحاق بن المتوكل وأكثرت من النثار والدعوات وخسرت أموالا جليلة فسعى بها أعداؤها إلى المقتدر وقالوا: إنها قد سعت لأبي العباس في الخلافة وحلفت له القواد وكثر القول عليها فقبض عليها المقتدر وأخذ منها أموالا جسيمة وجواهر نفيسة. أم ندبة زوجة بدر بن حذيفة كانت عقيلة قومها كريمة بيتها مسموعة كلمتها وكان ولدها ندبة يكنى أبا قرافة قد قتله قيس بن زهير العبسي في حرب داحس والغبراء فقالت ترثيه وتلوم زوجها بقبول الدية: حذيفة لا سلمت من الأعادي ... ولا وقيت شر النائبات أيقتل ندبة قيس وترضى ... بأنعام ونوق سارحات أما تخشى إذا قال الأعادي ... حذيفة قلبه قلب البنات فخد ثأرا بأطراف العوالي ... أو البيض الحداد المرهفات وإلا خلني أبكي نهاري ... وليلي بالدموع الجاريات لعل منيتي تأتي سريعا ... وترميني سهام الحادثات أحب إلي من بعل جبان ... تكون حياته أردى الحياة فيا أسفي على المقتول ظلما ... وقد أمسى قتيلا في الفلاة ترى طير الأراك ينوح مثلي ... على أعلى الغصون المائلات وهل تجد الحمائم مثل وجدي ... إذا رميت بسهم من شتات فيا يوم الرهان فجعت فيه ... بشخص جاز عن حد الصفات ولا زال الصباح عليك ليلا ... ووجه البدر مسود الجهات ويا خيل السباق سقيت سما ... مذابا في المياه الجاريات ولا زالت ظهورك مثقلات ... بصمان الجبال الراسيات لأن سباقكم ألقى علينا ... هموما لا تزال إلى الممات أمالتونسا ابنة ثيودوريك وأمها "اوديفليد" أخت "كلوفيس" ملك فرنسا, وكانت "امالتونسا" بيدها أزمة أحكام البلاد الإيطالية, وذلك لأنه لم يكن "لثيودوريك" ابن يرث ملكه من بعده, فزوج ابنته هذه بفتى, سليل أحد أعضاء العائلة الملكية, الذي فر هاربا إلى إسبانيا فرقاه الملك الفوثي إلى رتبة قنصلية وأمير, ولكن ذلك الفتى لم يتمتع زمانا طويلا بلذة ارتقائه واقترانه ب "أمالتونسا", بل مات مخلفا طفلا يدعى "أثالاريك" فتولت زوجته بعد وفاته وموت أبيها أحكام البلاد بالنيابة عن ابنها القاصر, واشتهرت هذه بجمالها البديع وحسنها الباهر وذكائها العظيم, وسعة معارفها, وكثرة عوارفها, وكان لها القدم الأولى في المباحث العلمية والفلسفية. قيل: إنها درست اللغة اليونانية, واللاتينية, والفوثية, وتضلعت منها حتى أصبحت قادرة أن تتكلم بكل منها بفصاحة ورشاقة ولا ريب أنها كانت حسنة المبادئ كريمة النفس لأنها عاملت الرومانيين سكان روميا وإيطاليا الأصليين معاملة رعاياها وأشفقت عليهم خلافا للفوثيين الذين لم يزالوا يعتبرونهم أعداء وعبيدا. وكان ابنها "أثالاريك" خملا يبغض العلوم والمعارف, ويتأوه من الدرس ومشقاته وإجهاد العقل في سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 التحصيل وينفر من والدته لإكراهها إياه على المواظبة والاجتهاد فحدث ذات يوم أن الفوثيين كانوا مجتمعين في قصر "رافنا" ففر هذا الأمير الفتى من غرفة أمه, وانتصب بين الجميع وهو يذرف عبرات الغضب والكبرياء وشكا إلى الحاضرين قساوة أمه وضربها إياه بسبب عصيانه وعناده فأثر هذا الكلام بأولئك المتوحشين وتوهموا أن الملكة راغبة في إهلاك ابنها واختلاس سرير ملكه وطلبوا خلاص الفتى وتربيته كأجداده ورجال أمته في ميادين القتال والعراك لينشأ بطلا, وقدروا بفظاظتهم وإلحاحهم أن يحرموا الغلام وسائل التمدن والتهذيب فتركوه وشأنه يقضي أوقاته في السكر والملاهي وارتكاب الفواحش ولما رأت الملكة عصيان ابنها وزيغه وإحاطة الأعداء بها من كل جانب خابرت "بوستنيان" بقصد السكن في بلاده, وأرسلت إلى مدينة "دار خيوم" في إقليم "أبيروس" 40 ألف دينار غير أن حب التسلط على الناس كان متسلطا على فؤادها فأعارت صبوة الطمع أذنا صاغية وقلبا واعيا, وحينما أومعت على مبارحة إيطاليا نجحت بدسائسها وقدرت أن تهلك بعضا من كبار الرؤساء الثائرين عليها, وتمكنت بموت هؤلاء من الاستبداد بالأحكام والقبض على أزمة البلاد بالنيابة عن ابنها كما كانت أولا غير أن هذا الفتى الجاهل لم يعش زمانا طويلا لأن الفسق والفواحش واللذات أضنته, فمات يافعا لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر فاضطرت إذ ذاك إلى مشاركة ابن عمها "سيبودونس" الجبان البخيل فثار الفوثيون عليها ونفوها إلى جزيرة صغيرة في بحيرة "بوليسنا" وهناك قتلوها سنة 538 ق. م بالحمام خنقا, وهكذا انتهت حياة هذه الملكة الفاضلة. أمامة ابنة أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد مناف القرشية الهاشمية أمها زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت على عهد جدها صلى الله عليه وسلم وكان يحبها وحملها في الصلاة وكان إذ ركع أو سجد تركها, وإذا قام حملها. وروي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جزع فقال: "لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي". فدعا أمامة ابنة زينب فعلقها في عنقها ولما كبرت أمامة تزوجها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد موت فاطمة -عليها السلام- وكانت فاطمة أوصت عليا أن يتزوجها, فلما توفيت فاطمة تزوجها من الزبير بن العوام لأن أباها قد أوصاه بها, فلما جرح علي خاف أن يتزوجها معاوية فأمر المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن يتزوجها بعده, فلما توفي علي وقضت العدة تزوجها المغيرة فولدت له يحيى وبه كان يكنى فهلكت عند المغيرة. أمامة ابنة حمزة بن عبد المطلب أمها سلمى بنت عميس وهي التي اختصم فيها علي وجعفر وزيد -رضي الله عنهم- لما خرجت من مكة وسألت كل من مر بها من المسلمين أن يأخذها فلم يفعل, فاجتاز بها علي فأخذها فطلب جعفر أن تكون عنده لأن خالتها أسماء ابنة عميس عنده وطلبها زيد بن حارثة أن تكون عنده, لأنه كان قد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر لأن خالتها عنده, ثم زوجها رسول الله من سلمة ابن أم سلمة وسماها الواقدي عمارة وأخوها لأمها عبد الله وعبد الرحمن ابنا شداد وهي من الصحابيات المحدثات اللاتي أخذ عنهن جملة من مشاهير المحدثين. أمامة المريدية كانت شاعرة من شاعرات نساء العرب إلا أن شعرها قليل ولم يكن في وقتها من يجمع الشعر وكانت صحابية محدثة أخذ عنها جملة من المحدثين. ومما يروى عنها أنها قالت: لما قتل سالم بن عمير أبا عتيك - أحد بني عمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 عوفز وكان من المنافقين وظهر نفاقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لي من هذا الخبيث؟ " فخرج إليه سالم بن عمير فقتله- فقالت في ذلك" تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمري الذي أمناك أن بئس ما يمني حباك حنيف آخر الدهر طعنة ... أبا عاتك خذها على كبر السن أمامة ابنة ذي الأصبع أبوها ذو الأصبع العدواني الشاعر الفارس المشهور. كانت أمامة شاعرة مشهورة يشار غليها بالبنان, أخذت العلم والشعر عن والدها وهي اصغر أولاده, وكان يحبها محبة عظيمة ولمحبته أحبها جميع قبيلتها ولها يقول ورأته قد نهض وسقط وتوكأ على العصا فبكت فقال: جزعت أمامة إذ مشيت على العصا ... وتذكرت إذ نحن ملفتيان فلقبلما رام الإله بكيده ... إرما وهذا الحي من عدوان بعد الحكومة والفضيلة والنهى ... طاف الزمان عليهم بأوان وتفرقوا وتقطعت أشلاؤهم ... وتبددوا فرقا بكل مكان خربوا البلاد فأعقمت أرحامهم ... والدهر غيرهم مع الحدثان حتى أبادهم على أخراهم ... صرعى بكل نقيرة ومكان لا تعجبين أمام من حدث عرا ... فالدهر غيرنا مع الأزمان ومن شعرها قولها ترثي قومها: كم من فتى كانت له منعة ... أبلج مثل القمر الزاهر قد مرت الخيل بحافاتهم ... مر غيث بجبل عاطر قد لقيت فهم وعدوانها ... قتيلا وهلكا آخر الغابر كانوا ملوكا سادة في الورى ... دهرا لها الفخر على الفاخر حتى تساقوا كأسهم بينهم ... بغيا فيا للشارب الخاسر بادوا فمن يحلل بأوطانهم ... يحلل برسم مقفر داثر أمة العزيز ابنة دحية الأندلسية الشريفة الحسينة كانت ذات قناع, تفرعت من دوحة سناء أصلها ثابت وفرعها في السماء, وتجردت من سلالة أكابر وأشراف رقاة أسرة منابر من بني عبد مناف. تصرفت في أثناء شبيبتها بين دراسة معارف وإفاضة عوارف لها أشعار رائقة معناها, بديعة مبناها, منها ما قاله الحافظ أبو الخطاب بن دحية في "المطرب من أشعار المغرب" قال: أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الحسنية لنفسها: لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود قال العلامة المقري في كتابه "نفح الطيب": هذا السؤال يحتاج على جواب وقد رأيت للقاضي غلإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني -رحمه الله تعالى- جوابه والغالب أنه من نظمه وهو قوله: أوجبه مني يا سيدي ... جرح بخد ليس فيه جحود وأنت فيما قلته مدع ... فأين ماقت وأين الشهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أمة ابنة خالد بن سعيد أمة ابنة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية الأمكوية تكنى أم خالد مشهورة بكنيتها ولدت بأرض الحبشة مع أخيها سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس, وأمها أميمة بنت خلف تزوج أم خالد الزبير بن العوام وولدت له عمرو بن الزبير وخالد بن الزبير وبه كانت تكنى وهي من المحدثات المشهورات بالصدق وقد روى عنها جملة من التابعين منهم موسى وإبراهيم ابنا عقبة وكريب بن سليمان الكندي وغيرهم ويروى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عذاب القبر. أميمة ابنة رقيقة أميمة ابنة رقيقة ابنة خويلد بن أسد أخت خديجة بنت خويلد فأميمة ابنة خالة أولاد النبي من خديجة, وهي أميمة بنت عبد بن بجاد بن عمير بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة وكانت من المبايعات المحدثات روى عنها محمد بن المنكدر وابنتها حكيمة بنت أميمة. وروي عن محمد بن المنكدر أنه سمع أميمة بنت رقيقة تقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال لنا: "فيما استطعتن وأطقتن" قلت: الله ورسوله ارحم بنا منا بأنفسنا. ومما روته حكيمة بنت أميمة عن أمها بنت رقيقة قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه يضعه تحت السرير, فجاءت امرأة اسمها بركة فشربته فطلبه فلم يجده فقيل شربته بركة فقال: "لقد احتظرت من النار بحظار". أميمة ابنة قيس بن أبي الصلت الغفارية كانت عابدة زاهدة محبة للخير صانعة للمعروف ناهية عن المنكر لها صحبة حسنة, وروت أحاديث كثيرة وروى عنها جملة من التابعين, وكانت شفيقة على المجاهدين ودائما تحضر الوقائع وتداوي الجرحى وتدور بين القتلى وكانت تحث الناس على ذلك فقالت يوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءته في نسوة من غفار: إنا نريد أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على بركة الله" وكان ذاهبا إلى خيبر فذهبن معه وصرن يداوين الجرحى ويوارين القتلى وهي تهديهن لما يلزم لذلك حتى انتهت الحرب ورجع المسلمون منصورين فنالت بذلك رضا ربها ومدح قومها. أم جعفر ابنة عبد الله بن عرفطة أم جعفر ابنة عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن نداح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن مالك بن جشم بن الأوس. كانت ذات عقل وأدب وعفة وكان يشبب بها الأحوص ولم يرها قط فلما كثر تشبيبه وشاع ذكره توعده أخوها أيمن وهدده ولم ينته, فاستعدى عليه والي المدينة فربطهما في حبل ورفع إليهما سوطين, وقال لهما تجالدا, فتجالدا, فغلب أخوها الأحوص وأتبعه أيمن حتى فاته الأحوص هربا وقد كان الأحوص قال فيها: لقد منعت معروفها أم جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير وقد أنكرت بعد اعتراف زيارتي ... وقد وغرت فيها علي صدور أدور ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور أزور البيوت اللاصقات ببيتها ... وقلبي إلى بيت الحبيب يزور وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بد أن سيزور أزور على أن لست أنفك كلما ... أتيت عدوا بالبنان يشير فقال السائب بن عمر يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويعيره بفراره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقد منع المعروف من أم جعفر ... أخو ثقة عند الجلاد صبور علاك بمتن السوط حتى اتقيته ... بأصفر من ماء الصفاق يفور فقال الأحوص: إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه ... فمن ذا الذي يغفر له ذنبه بعدي أريد انتقام الذنب ثم تردني يد لا يدين مباركة عندي ولما اكثر الأحوص من ذكرها جاءت متنقبة عليه وهو في مجلس قومه ولا يعرفها فقالت له: اقض ثمن الغنم التي ابتعتها مني. قال: ما ابتعت منك شيئا فأظهرت كتابا قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وفاقة وقالت: يا قوم كلموه, فلامه قومه وقالوا: اقض المرأة حقها فحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها, فكشفت عن وجهها وقالت: ويحك, أما تعرفني فجعل يحلف أنه ما يعرفها ولا رآها قط حتى إذا استفاض قولها وقوله واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار وكثر لغطهم وأقوالهم قامت, ثم قالت: أيها الناس, اسكتوا فسكت الناس, ثم أقبلت عليه وقالت: يا عدو الله صدقت والله ما لي عليك حق ولا تعرفني, وقد حلفت على ذلك وأنت صادق, وأنا أم جعفر وأنت تقول: قلت لأم جعفر, وقالت لي أم جعفر: فمن أين قلت لك وقلت لي وأنت لم ترني إلا هذه الساعة, فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرأت عندهم. أميمة أم تأبط شرا وهي من بين القين بطن من فهم ولدت خمسة نفرا تأبط شرا, وريش لغب, وريش نسر, وكعب جدر, والأتراكي. وقيل: إنها ولدت سادسا واسمه عمر, وتأبط شرا لقب به لأنه كان رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه, فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول, قالوا: لقد تأبطت شرا فسمي بذلك. وقيل: بل قالت له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك. فقال لها: سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه ووضعهن في جراب وذهب متأبطا به فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي: ماذا أتاك به ثابت؟ فقالت: أتاني بأفاعي في جراب. قلن: كيف حملها؟ قالت: تأبطها. قلن: لقد تأبط شرا فلزمه هذا اللقب. وكانت شاعرة من شاعرات العرب وقولها منسجم وله طلاوة وأغلبه مراث في ولدها تأبط شرا وخلافه ومن ذلك قولها فيه: طاف يبغي نجوة ... من هلاك فهلك ليت شعري ضلة ... أي شيء قتلك أمريض لم تعد ... أم عدو ختلك أم تولي مارد ... غال في الدهر السلك والمنايا رصد ... للفتى لم يك لك أي شيء حسن ... لفتى لم يك لك كل شيء قاتل ... حين تلقى أجلك طالما قد فادحا ... غير كد أملك إن أمرا فادحا ... عن جوابي شغلك سأعزي النفس إذ ... لم تجد من سألك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ليت قلبي ساعة ... صبره عنك ملك ليت نفسي قدمت ... بالمنايا بدلك ولها فيه أيضا: بثابت ابن جابر ابن سفيان ... نعم الفتى غادرته بئر خمان يحدو ويروي ظمأ الندمان ... رواء من يحمي حمى الإخوان ولها مراث وأشعار كثيرة غير ذلك. أميمة ابنة خلف بن أسعد أميمة ابنة خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو بن ربيعة الخزاعية. وهي عمة طلحة بن عبد الله بن خلف الملقب طلحة الطلحات وهي زوجة خالد بن سعيد بن العاص هاجرت معه إلى أرض الحبشة وكانت من السابقات إلى الإسلام. وقيل: اسمها أمينة. قيل: همينة وولدت بالحبشة سعيد بن خالد وأمة بنت خالد ولها صحبة حسنة وعشرة لطيفة ورجعت مع من رجع من مهاجري الحبشة على المدينة. أميمة ابنة عبد شمس الهاشمي بن عبد مناف القرشي وأمها تفخر بنت عبيد بن دوس بن كلاب كانت ذات مجد أثيل وبيت أصيل وباع طويل. تزوجها حارثة بن الأوقص السلمي فولدت له أمية بن حارثة وقتل أبو سفيان بن أمية بن عبد شمس أخاها في يوم عكاظ من حرب الفجار وكان يعد أبو سفيان وإخوته من العنابس وهي الأسد فقالت أميمة ترثيه وترثي من قتل في حرب الفجار من قريش: أبى ليلى أن يذهب ... ونيط الطرف بالكوكب ونجم دونه الأهوا ... ل بين الدلو والعقرب وهذا الصبح لا يأتي ... ولا يدنو ولا يقرب يعقر عشيرة منا ... كرام الخيم والمنصب أحال عليهم دهر ... حديد الباب والمخلب فحل بهم وقد أمنوا ... ولم يقصر إذا يشطب وما عنه إذا ما حل ... من منجى ولا مهرب ألا يا عين فابكيهم ... بدمع منك مستغرب فإن أبكي فهم عزي ... وهم ركني وهم منكب وهم أصلي وهم فرعي ... وهم نسبي إذا أنسب وهم مجدي وهم شرفي ... وهم حصني إذا أرهب وهم رمحي وهم ترسي ... وهم سيفي إذا أعضب فكم من قائل منهم ... إذا ما قال لم يكذب وكم من ناطق فيهم ... خطيب مصقع معرب وكم من فارس منهم ... كمي معلم مجرب وكم من مدره فيهم ... أريب حوله مغلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكم من جحفل فيهم ... عظيم النار والموكب وكم من خضرم فيهم ... نجيب ماجد منجب أميمة ابنة عبد المطلب الهاشمية كانت صاحبة جمال وجلال, وفصاحة وذكاء وبلاغة, وسخاء وشعر ونثر, ونسب وفخر. قال لها أبوها يوما مع إخوتها أسمعيني شعرك رثاء بي كأني ميت. فقالت له: أعيذك من ذلك: فقال: لا بد من أن تقولي فقالت: ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي حجيج الله حامي عن المجد ومن يألف الضيف الغريب بيوته ... إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفك تزداد يا شيبة الحمد أبو الحارث الفياض خلى مكانه ... فلا تبعدن إذ كل حي إلى بعد فإني لباك ما بقيت وموجع ... وكان له أهلا لما كان من وجد سقاك ولي الناس في القبر ممطرا ... وسوف أبكيه وإن كنت في اللحد وقد كان زينا للعشيرة كلها ... وكان حميدا حيثما كان من حمد أم هارون رضي الله عنها كانت من الخائفات العابدات وكانت تأكل الخبز وحده وكانت تقول: ما أنشرح إلا بدخول الليل فإذا طلع النهار اغتممت, وكانت تقوم الليل كله فتقول: إذا جاء السحر دخل قلبي الروع وصرخت مرة فسمعت قائلا يقول: خذوها فوقعت مغشيا عليها وما دهنت رأسها بدهن مدة عشرين سنة, وكانت إذا كشفت رأسها وجد شعرها أحسن من شعر النساء, وكانت إذا عرض لها الأسد في البرية قالت له: إن كان لك في شيء فكل فيولي راجعا عنها -رضي الله عنها. أمة الجليل رضي الله عنها كانت من العابدات الزاهدات, واختلف مرة العابدون في تعريف الولاية على أقوال فقالوا: امضوا بنا إلى أمة الجليل. فقالوا لها: ما الذي عندك من تعريف الولاية؟ فقالت: ساعات الولي ساعات شغل عن الدنيا ليس لولي في الدنيا ساعة يتفرغ منها لشيء دون الله عز وجل, ثم قالت لواحد منهم: من حدثكم أن أولياء الله تعالى لهم شغل بغير الله تعالى فكذبوه رضي الله عنها. إنياس خليلة شارل السابع ملك فرنسا ولدت في قرية "فرومنتو" من "تورين" نحو سنة 1409 م, وتوفيت نحو سنة 1450م وهي ابنة "سوريل دوسان جيرار" أحد أعوان الكونت" دوكليرمون". كانت في أول أمرها رفيقة ل "إيزابو دو سورينه" دوقة "أنجو". وسنة 1431 م صبحت سيدتها إلى باريس وزارت بلاط "شارل الرابع", فلما رآها "شارل" المذكور فتن بجمالها وسحر بمحاسنها فأبقاها لديه وجعلها رفيقة للملكة, ثم اتخذها عشيقة بعد أن ماطلته وردت مطاليبه وبلته بهيام شديد. وثقال: إنها لم تستخدم ما كان لها عليه من السطوة إلا لإنهاض همته وإثارة الحمية في صدره لأنه كان قد استغرق في اللذات بينما كان الإنكليز يفتحون بلاده, وبذلك أنقذت فرنسا من وبال عظيم, وخطر جسيم فتمكن جبها من قلب "شارل" فأجزل لها العطاء وفتح لها كفه ضفة نهر ال "مرن" بقرب "سانمور" ولذلك لقبت بمدام "لوبوتي" ومعناه سيدة "بوتي" أو الجمال, وفي ذلك من التورية ما لا يخفى وكانت الملكة نفسها تحبها وتكرم مثواها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 إلا أن غناها وتنعمها حملا رجال البلاط والأمة على كرهها. وسنة 1445 م أساء إليها ابن الملك "شارل السابع" فتركت البلاط الملكي وأقامت في قصر كان قد بناه لها الملك في "لوس". وسنة 1450 م سارت على "جومياك" لمقابلة عاشقها فتوفيت هناك فجأة وظن الناس أن ابنه دس إليها السم في بعض المشروبات وكان قد ولد لها من "شارل السابع" ثلاث بنات فاعترف بهن ورباهن وكن يعرفن ببنات فرنسا. أولغا امرأة إيفور دور يكوفتش ثالث غراندوق روسي وكانت تلقب بالقديسة "أولغا" ولدت من عائلة فقيرة في قرية قرب "بسكوف" وكانت ذات جمال بارع وذكاء سام, فتزوجها "إيفور" سنة 903 م, وجلس معها على كرسي الملك سنة 912 م, ومات عنها سنة 945 م, فحكمت بعده بالنيابة عن ابنها "سفياتوشيلاف" وقد انقسمت حياتها من ذلك الوقت إلى حين وفاتها إلى قسمين ممتازين خصص أحدهما بالسياسة والآخر بالدين والتعبد. وسبب وفاة زوجها هو أنه جمع عسكرا وخرج به ليغزو قبيلة "الدريفليان" ويجمع منهم الضريبة السنوية وبعد أن جمعها رجع ظافرا وبينما هو على الطريق خطر له أن ما جمعه يسير فأمر عسكره بالرجوع ليجمع ضريبة أخرى, فأبت العسكر أن ترجع معه, فعاد بشرذمة يسيرة, فلما رأته تلك القبيلة سألته ماذا يطلب فأمرها بجمع الجلود والعسل والمال فلما سمعوا ذلك احتدوا غيظا وهجموا عليه وقتلوا من معه, وأما هو فمسكوه وأحنوا شجرتين وربطوه بطرفيهما وتركوهما فرجعتا إلى مكانهما فتمزق الأمير إربا إربا ومات شهيد الطمع فلما قتله "الدريفليان" انتخبوا منهم عشرين رجلا وأرسلوهم إلى امرأة "إيفور" يطلبون إليها أن تتزوج أميرهم, فلما أتى إليها الرسل سألتهم ماذا يطلبون فأجابوا: إننا قتلنا زوجك لأنه خرب أرضنا, والآن نطلب أن تقبلي أميرنا زوجا لك. فقالت: حسنا تقولون أجيب طلبكم, وإنما أريد أن أعظمكم في أعين شعبي فارجعوا إلى سفينتكم وعندما يأتيكم رسلي اطلبوا إليهم أن يحملوكم على أكتافهم, وبعد انصراف الرسل أمرت "أولغا" أن يحفروا خندقا وراء قصرها, وأرسلت رسلها وأمرتهم أن يحملوهم ويطرحوهم في الحفرة, فلما أتى رسل "أولغا" إليهم قال لهم أولئك: لا نذهب مشاة, ولا نمتطي صهوات الجياد, ولا نركب العجلات احملونا على أكتافكم. فأجابوا طلبهم, وعندما أتوا القصر طرحوهم في الحفرة المعدة لهم وواروهم التراب وبعد ذلك أرسلت "أولغا" تقول لهم: إذا كنتم ترغبون حقيقة أن أكون امرأة لأميركم فأرسلوا رؤساء قومكم لأحضر معهم, فلما أتوا أمرتهم أن يغتسلوا في الحمام فلما دخلوه أمرت بإحراقه فماتوا عن بكرة أبيهم, وعند ذلك أرسلت تقول "للدريفليان" استعدوا لاستقبالي وهيئوا المشروبات على قبر زوجي فإني عازمة على أن أبكي هناك ومن ثم أتزوج بأميركم فأجابوا طلبها, ولما قدمت إليهم سألوها أين رجالنا فأجابتهم سيحضرون مع عسكر زوجي وبعد ذلك أولمت وليمة عظيمة, وعندما لعبت الخمر في رؤوس "الدريفليان" بطش بهم رجال "أولغا" وقتلوا منهم خمسة آلاف رجل ورجعت على الأعقاب إلى مدينتها, وبعد مضي سنة جمعت عسكرا وأخذت ابنها وغزت "الدريفليان" وحاصرت عاصمتهم, ولما لم تقدر أن تأخذها أرسلت تقول لهم: أعازمون أن تموتوا جوعا وعطشا؟ اجمعوا لي جزية وأنا أرحل عنكم, وأنا أطلب منكم جزية خفيفة وهي: ثلاث حمامات وثلاثة عصافير من كل بيت فسروا سرورا عظيما وحالا جمعوا المطلوب وأرسلوه على جناح السرعة فأمرت "أولغا" عساكرها بأن يربطوا بأذنابها خرقا ملوثة بمواد ملتهبة وعندما يبدو لهم الظلام يشعلون الخرق ويطلقون الحمام والعصافير ففعلوا ذلك ورجع كل طير إلى عشه فالتهمت النار البيوت وفرارا من الحريق هرب سكان المدينة فألقتهم "أولغا" بعسكرها وفرقتهم أيدي "سبأ", ونهبت أرضهم, ودوخت عدة قبائل, وضربت عليهم الضرائب الثقيلة ورجعت إلى "كييف" ثم سافرت إلى "نوفوغودود" فاستمالت بحكمتها كل القلوب. وسنة 655 م سلمت زمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الملك لابنها المذكور وتفرغت لأمور العبادة فاعتنقت المذهب المسيحي وعمدها في القسطنطينية في السنة المذكورة البطريرك بحضور الإمبراطور "قسطنطين بورفيرو جينيتوس" وحاولت إقناع ابنها بالاقتداء بها فلم يغن اجتهادها شيئا وماتت سنة 968 م فأسف عليها الناس جدا واحترمها الروس احترام قديسة. وفي أيامها ذاع اسم روسيا في الأقطار الأوربية الشاسعة. أولمبياس ابنة نيو بتوليمس أولمبياس ابنة نيو ليمس ملك أبيروس وامرأة فيلبس المكدوني وأم إسكندر الكبير. اشتهرت بكثرة قبائحها وتسليمها نفسها إلى شهواتها, فهجرها "فيلبس" فمضت إلى "أبيروس" ودست إلى زوجها من قتله وهو في "بوسانياس", ثم رجعت إلى "مكدونيا" وأعلنت فرحها بقتل زوجها. واحتفلت بجنازة "بوسانياس" قاتله بلا وجل ولا خجل, ولما ملك أبنها الإسكندر حاولت أن تشاركه في الملك غير أن حكمته حالت دون مطامعها. ولما مات إسكندر طمعت في الستيلاء على المملكة غير أن ثبات "أنتيباتر" وزيره اضطرها إلى الرجوع إلى "أبيروس" فدعا بها "بوليسيرخون" الذي خلف "إنتيباتر" ولقبها نائبة الملك فلم تلبث أن قتلت "أدخيدوس" -وهو ابن "فيلبس" من امرأة أخرى- وعددا كثيرا من أعوانه فكانت مثالا لسفك دم عائلة الإسكندر, وقتلت: نيكانور" -أخي "كاسندروس"- فأتى إليها "كاسندروس" وحاصرها في "بدنا" وحصرت معها حفيدها "إسكندر أيفوس" ابن الإسكندر الأكبر أملا في معاونة الأمة لها إذا رأوه معها فلم يلتفت إليها أحد فاستسلمت فلم يجسر "كاسندروس" أن يقتلها بنفسه وهي أم سيده, فوكل بقتلها جماعة من الضابطة المكدونيين غير أن هيبتها وتذكرهم مجد ابنها منعاهم عن إتمام العمل فدعا "كاسندروس" الذين قتلت "أولمبياس" أبناءهم وأقرباءهم, فذبحوها بدون تردد وذلك سنة 317 قبل المسيح. أوجين ملكة الفرنسيس هي حليلة "شارل لويس" بن "لويس نابليون" الذي تولى سدة الملك باسم "نابليون الثالث" كانت في صباها المشار إليها بالبنان. والمثنى عليها بكل شفة ولسان, ولما أودعها الله من الحسن واللطف وحسن التربية مع الكياسة والرقة والظرف رقت في عصر زوجها مقاما تحسدها عليه السبع الطباق, وبلغت شأوا أطار ذكرها في الآفاق, وناهيك أنها تصدرت في مائدة جمعت ملوك الأرض, وكلهم يحسب احترامها كالسنة, وتعظيمها كالفرض. وحسبك أنها لما أتت مصر عام الاحتفال بفتح خليج السويس كان عزيز مصر في خدمتها ولفيف من أمراء الشرق والغرب في عداد حاشيتها. ولما قدمت القسطنطينية استقبلها ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حتى المرفأ وأبدى لها في أمره, وتقضي في حالتي خله وخمره, وخرج قائدا للجيش يصدم به العدو ولسان حالهما يقول: هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشي وقتكي فلا يغرركم مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي فإن الدهر بعد أن سقاها سلسبيلا, ودار عليها من الصفو أكوابا كان مزاجها زنجبيلا في سدر مخضود, وطلح منضود, وظل ممدود عاضها بالزقوم والغسلين, وهبط بها من أعلى عليين, إلى أسفل السافلين, فغادرها سموم وحميم, وظل من يحموم لا بارد ولا كريم, وذلك أن زوجها بعد أن كان حالفه النصر في معركة "سادبروك" وأمل العالم لأمة الفرنسيس بالفتح المبين, والفوز المكين, خالفه التوفيق في سائر المعارك فقهره أعداؤه أي قهر وكسره مساجلوه أي كسر حتى إذا زاغت الأبصار, وبلغت القلوب الحناجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 دخل إلى الاسئمان بعد واقعة "سيدان" التي حدثت في أربعة أيلول عام 1870 م, فاخترط حسامه وسلمه إلى الملك "غليوم" عدوه الألد مكتفيا من النصر بالأسر مع ثمانين ألفا من جيشه, وما برح مأسورا في "فاستافاليا" من بلاد الألمان حتى حميت لظى الحرب بين الفريقين. ثم لم يأت حين من الدهر ألم به داء في المثانة عياء ذهب به إلى دار الفناء بعد أن أذاقه صنوف الويل وأفانين البرحاء تاركا وراءه المسكينة "أوجين" على فراش من القتاد ووسادة من الرمضاء, ولم يكتف بهذا الدهر الظالم حتى نكلها في وحيدها وبقية آمالها البرنس "أميربال" شهيدا في بلاد "الفرولوس" الأفريقية مطعونا بأسنة أمة بربرية وهو يافع في نضارة العمر وريعان الشباب وبقيت بعده كالغزالة النافرة من زرود جزعا على خشفها العزيز تنثر لآلئ الدمع على يواقيت الخدود وتغرس عقيق الشفاه ببرد الثغر البرود, ولسان حالها يقول: لقد جئت يا دهر شيئا فريا يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. تحاول الاعتصام بالصبر على ما انتابتها به الأيام. وهو بعيد عنها بعد المسجد الأقصى عن المسجد الحرام وبقيت على ذلك إلى هذه الأيام. أيريني إمبراطورة بيزنظة ولدت في أثينا سنة 753 م وتوفيت في جزيرة "لسيوس" سنة 803 م واشتهرت بالعقل والجمال, فاختارها "قسطنطين كويردنيموش" زوجة لابنه المعروف ب "لاون" الرابع, فاستولت على قلبه كل الاستيلاء ولما مات عهد إليها وصاية ابنه "قسطنطين الخامس" سنة 780 م فقامت بأعباء الملك حق القيام حتى إذا ساعدها القدر وخدمها السعد بطرت واستكبرت وداخلها الطمع فعقدت مع هاورن الرشيد صلحا غير موافق لانتفاعها به. وسنة 787 م عقدت مجمعا في "نيقية" أمرت فيه بعبادة الأيقونات وألغت انشقاق الكنيسة الشرقية فلما رشد ابنها سنة 790 م نفاها وهجرها في قصر لكنها تخلصت بعد خمس عشرة سنة واتصل بها الأمر لكي تستبد بالمملكة إلى أن سلمت عيني ابنها بلا خوف ولا خجل ولكي تنسي الناس هذا العمل الفظيع شرعت بأعمال عظيمة فقيل: إنها عرضت نفسها على "شارلمان" ليتزوجها أو قبلت بالأقل أن تزوج إحدى بناتها بأحد أولاده لكن قبل أن يتم لها ذلك حجر عليها "نيقيفورس" خازنها الأكبر سنة 802 م ونفاها إلى جزيرة "لسيوس" فحط بها الدهر هناك حتى احتاجت أن تأكل من غزل يدها وهناك ماتت سنة 803 م فتأثر اليونان لمصائبها وجعلوها قديسة وأقاموا عيد تذكار لها في 15 آب من كل سنة. واسمها في بعض كتب العرب "أريني". إيزابيلا الأولى الملقبة بالكاثوليكية ملكة قسطيلة ولاون ولدت سنة 1450 م, وتوفيت 1504 م كانت بنت "يوحنا الثاني" ملك قسطيلة من "إيزابيلا" البرتوغالية زوجته الثانية وفي السنة الرابعة من عمرها توفي أبوها فخلفه في الملك ابنه "هنري" من "ماريا" الأراغونية زوجته الأولى واستمرت "إيزابيلا" مع أمها إلى سنة 12 من عمرها وكانتا منفردتين في بلدة "أريقالوا" فلما ولدت "جوانا" نقلها "هنري" إلى بلاطه محاولا بذلك أن يمنع تألف حزب يمكنها إرث الملك من بعده بدل البرنسيس "جوانا" المذكورة وكان حصولها على تاج الملك أمرا مستبعدا لأن أخاها البكري كان ملكا وله بنت وكان لها أيضا أخ أصغر منها في قيد الحياة غير أن أكابر ملوك أوروبا أتوها خاطبين أملا بمستقبلها. قال "برسكوت": وكان "فردينندو" أول من خطبها وهو الذي تزوجها بعد أن حال دون ذلك مصاعب شتى فإنها خطبت في السنة الحادية عشرة من عمرها لأخيه "كارلوس" وكان قد بلغ الأربعين فدفع عنها ذلك المكروه بموت "كارلوس" بالسم. وسنة 1464 م وعد بها أخوها "هنري ألفونس" ملك البرتوغال فعارضته في ذلك مدعية أن بنات ملوك "قسطيلة" لا يتزوجن إلا بموافقة أشراف المملكة ثم حدثت ثورة تحت رياسة مركيز "فلينا" وعمه رئيس أساقفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 "طليطلة" وكان من بواعثها اعتقاد كثيرين من الأشراف أن البرنسيس "جوانا" التي أقسم لها أكابر الدولة بالطاعة بناء على طلب الملك لم تكن من صلبه بل من صلب "بلتران دولا كوبيا" عشيق الملكة فأعلن الثائرون انتقال الملك من "هنري" إلى أخيه "ألفونس" وجمعوا جيشا لإجراء ذلك فحاول الملك إسكان رؤسائهم بتزوج "إيزابيلا" بالدون "بدرو جيرون" الفاسق أخي مركيز "فلينا". أما هي فقالت لأخيها: إن زوجتني به أشق صدره بخنجر وأرفع عن نفسي العار. غير أن الدون المذكور مات في طريقه إلى العرس وبعد ذلك بسنتين أي سنة 1468 م توفي "ألفونس" فعرض الثائرون تاج الملك على "إيزابيلا" فرفضته وآثرت أن تجعل وارثة لأخيها فعاهد العصاة "هنري" على أن يطلق الملكة ويعترف بأن "إيزابيلا" وارثة لمملكتي "قسطيلة" و"لاون" وأن لها حقا في اختيار بعل تتزوجه برضاها ولم يلبث المجلس العالي أن قرر حق "إيزابيلا" في الإرث. أما "هنري" فلا يبالي بشروط المعاهدة وحاول إكراه أخته على الاقتران بملك البورتغال غير أن السياسة والحب استمالاها على "فردينندو" برنس "أرغون" فتهددها أخوها بالحبس فلم تعبأ به وعزمت على أن تباشر الأمر بنفسها فردت الرسول الأرغوني بجواب مرض ووقع "فردينندو" على عقد الزواج في "سرفيرا" وذلك سنة 1469 م وضمن لعروسه جميع حقوقها الملكية الأصلية في "قسطيلة" و"لاون" فأنفذ" "هنري" في الحال فرقة من العساكر لإلقاء القبض على شقيقته, فهربت على بلاد الوليد وأرسلت إلى "فردينندو" تحثه على أن يوافيها بسرعة لإتمام الزواج فلم يتمكن "فردينندو" من يسير بخفر, لأن أباه كان يحارب عصاة "قطالونيا" وكان بيت المال فارغا فلبسس ثوب خادم وسار متنكرا مع ستة رفقاء استأمنهم فلم يعرفه العساكر الذين أقامهم "هنري" لمنعه المرور وخرج من تلك المدينة بزي لائق فأغذوا السير على بلاد الوليد وتزوج "إيزابيلا" سنة 1469 م. فأعلن "هنري" أن أخته أضاعت جميع الحقوق التي تقررت لها بموجب المعاهدة, وجعل "جوانا" ولية عهده, فانقسمت البلاد إلى قسمين كبيرين متحاربين, وعضدت فرنسا الملك غير أن "إيزابيلا" كانت بحكمتها وفضائلها تستميل إليها أهالي "قسطيلة" شيئا فشيئا وتكتسب طاعتهم وأمانتهم. وفي سنة 1474 م توفي "هنري" وبعد يومين من وفاته أقيمت "إيزابيلا" ملكة في "سيروفيا" فأقسم لها كثيرون من الأشراف بالطاعة إلا أن حزب "جوانا" كان قويا فلم تعترف البلاد كلها بالملكة إلا بعد حرب جرت لها مع "الفونس" ملك البرتوغال, وكان قد خطب "جوانا" ومن ثم شرعت في أعمال تحلى بها تاريخ إسبانيا فأصلحت قوانين البلاد وأدارت الملكة الشؤون الداخلية وعضدت الآداب والصنائع وبذلت جهدها في تغير تصرفات زوجها فإنها كانت قرينة القساوة والخداع ومع أنها كانت روح الحرب التي شهرت على العرب وكانت تحارب فيها بنفسها وتلبس درعا لم يزل محفوظا إلى الآن في مدريد كانت تقاوم القساوة التي اتخذها الإسبانيول في تلك الأيام سياسة نحو الأمة المذكورة ولم تأمر بطرد اليهود من "قسطيلة" ولا سلمت على ذلك وزادها شهرة مساعدتها "كرستوفورس" كولومبوس" فاتح أميركا على إنفاذ مقاصده فإن الأسطول الذي اكتشف به أميركا جهز على نفقتها وضادت استرقاق الهنود الأميركان. فلما وصل الأسرى الذين أرسلهم إليها "كرستوفورس" المذكور أمرت بإرجاعهم إلى بلادهم وبمساعدة الكردينال "كسيمنس" أصلحت الراهبات وبذلك جعلت للكنيسة في إسبانيا نظاما ثابتا راهنا كالنظام الذي سنته للدولة ولم يكن المال ولا علو المرتبة يشفعان عندها بالمذنبين, بل كان سيف العدل يعلو رقاب المجرمين من الأكابر والأصاغر والإكليروس على حد سواء, وكانت "إيرابيلا" جامعة بين عقل الرجال ومحاسن النساء وفضائل ناضرة عديمة النظير فباتت موضوعا محبوبا للمؤرخين في الأعصر التالية والإسبانيول الآن يحبون ذكرها كما كان رعاياها منهم يحبون شخصها. أما الموت الفجائي الذي أصاب كلا من الدون "كارلوس" والدون "بدروجيرون" وأخيها "ألفونس" فلم يوقع عليها أقل شبهة مع أنه نالها ربح عظيم وكانت تحب زوجها حبا شديدا لا يعتريه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فتور ألبتة غير أنه لم يكن يقابلها دائما بمثل ذلك, وكانت تقواها الطبيعية تزين كل أعمال حياتها, وكان جمال خلقها يعادل حسن خلقها, وكانت صافية اللون ذات عينين زرقاوين وشعر أسمر وولد لها خمسة أولاد وهم: "إيزابيلا" التي تزوجت "عمنوئيل" ملك البرتوغال و"جوان" وكان أميرا فاضلا. توفي سنة 1497 م وله من العمر 20 سنة و"جوانا" التي تزوجت "فيليب" أرشيدوق"أوستريا" وولد لها منه الإمبراطور "كارلوس الخامس" و"ماريا" التي تزوجت "عمنوئيل" بعد وفاة أختها, و"كاترينا" زوجة" هنري الثامن" ملك إنكليزا. إيزابيلا الثانية ملكة إسبانيا ولدت في مدينة "مدريد" سنة 1830 م وهي بكر بنات "فردينندو" السابع" من "ماريا كرسنين" رابع زوجاته نشأ عن مسألة إرثها الملك بعد أبيها حرب أهلية شديدة لأنه لم يكن لأبيها ولد ذكر يخلفه. ففي 29 آذار (مارس) سنة 1830 م أبطل القانون الذي وضعه "فيليب الخامس" ومآله حرم الإناث تخت الملك وجعل بنته خليفة له وبذلك حرم أخاه الدون "كارلوس" ولي ما كان له من الحق المقرر بموجب القانون المذكور. وفي سنة 1833 م توفي "فردينندو" وكانت "إيزابيلا" في السنة الثالثة من عمرها فأقيمت ملكة فشهر الدون "كارلوس" السلاح وعضده حزب كبير سمي بالكارلوسي نسبة إليه ولم تلبث دائرة الخلاف أن اتسعت وصارت إلى حرب أهلية ردئية وانحاز الإكليروس إلى الدون "كارلوس" أما حزب الملكة فسمي بحزب الحرية أو بالحزب النظامي لأن أم الملكة التي استولت على زمام الملك بالنيابة عن ابنتها تعهدت بوضع قانون أساسي لإسبانيا وكان معظم الشعب من حزب إيزابيلا. وفي سنة 1834 م أجمع أكثر أعضاء المجلس العالي على حرمان الدون "كارلوس" ونسله الملك. وفي سنة 1839 م عقد الصلح بين الجنرال "ماروكي" الكارلوسي والجنرال "إسبرتيرو" النظامي وهرب الدون "كارلوس" على فرنسا وفي أثناء الحرب كانت الملكة النائبة تتردد بين حزب المحافظين أو المعتدلين وحزب الحرية أما وزارة "منديزابال" فغيرت النظام ووسعت دائرة قانون الانتخاب وقامت بإصلاحات أخرى غير أن ديوان المشورة الكبير لم يكتف بذلك وطلب إعادة النظام الذي تقرر سنة 1812 م فحصل عليه أخيرا حدثت في "مدريد" سنة 1837 م. وفي سنة 1839 م حدثت ثورتان في "برشلونا" و"مدريد" فأكرهت أم الملكة على الفرار إلى فرنسا. وفي سنة 1840 م تولى "إسبرتيرو" زمام البلاد. وفي سنة 1841 م جعل وكيلا للملك غير أن أصدقاء "كرستينا" والمحافظين ثاروا عليه واضطروه إلى الاستعفاء وكانت الملكة قد ناهزت سن الرشاد ولم يبق إلا 11 شهرا لبلوغها السن القانونية فضرب عنها المجلس العالي صفحا وأجلسها على تخت الملك في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1843 م. وفي سنة 1844 م وجهت رياسة الوزارة إلى الجنرال "زفايز" الذي كان قد تولى رياسة الثائرين. وفي السنة التالية غير النظام تغييرا غير موافق لأهل الحرية. وفي سنة 1846 م تزوجت "إيزابيلا" بابن عمها الدون "فرنشسكوداواسبس" وفقا لمشورة الملك "لويس فيليب" وفي الوقت نفسه زوجت أختها "ماريا فردينند لويزا" بدوق "منينسيا" غير أن زواج الملكة أدى على تأويلات مستهجنة ووقع الخلاف بين الزوجين وكثرت الإشاعات فذهب قوم إلى أن الملك ليس كفؤا للملكة. وكان آخرون يتهمون الملكة بخيانة زوجها وعقدت "إيزابيلا" الصلح مع النمسا وبروسيا. وفي سنة 1849 م أنفذت جيشا لمساعدة البابا. وفي سنة 1852 م حاول بعضهم قتلها فحملها الحزب المحافظ على فض المجلس العالي واتخاذ وسائل مشددة ونفي كثيرين من جنرالية الحزب النظامي. وفي سنة 1854 م قام الجنرال "لودونل" والجنرال" دلشي" بثورة عسكرية ومدنية في "مدريد" وتمكن من إقامة حكومة محلية فهربت أم الملكة ثانية إلى فرنسا أما "إيزابيلا" فصرحت بالعفو التام وفتحت مجلسا عاليا جديدا وأباحت بيع الأوقاف. وفي سنة 1856 م حاول "أودونل" أخذ القوة بالبطش وأخمدت الملكة ثورات حدثت في جنوب إسبانيا فتوطد سلطانها وأعادت النظام الذي تقرر سنة 1845 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 فأدى إلى نهج سياسة مضادة لأهل الحرية. وكانت نتيجة ذلك سقوط وزارة "ترفايز" في السنة التالية وقيام وزارة أخرى تميل على الحزب النظامي وذلك في سنة 1857 م وتولى "اودونل" قيادة العساكر التي أنفذت لمحاربة مراكش فاستظهر على المراكشيين وانتهت الحرب سنة 1860 م. ثم تداخلت "إيزابيلا" مع فرنسا في أمور المكسيك وأرسلت إليها جيشا تحت قيادة الجنرال "بريم" سنة 1861 م, وسنة 1862 م, إلا أن الجنرال المذكور لم يلبث أن قصر حبل المداخلة وحاولت الملكة الاستيلاء على "سنتود" و"منفو" و"بيرو" و"شيلي" ففشلت. وفي سنة 1866 م استعفى وزراؤها فاضطر الأمر على تقرير قرار مبطل نظام سنة 1861 م الذي بموجبه ضمت جمهورية "دومينيكا" إلى الملكة وفي السنة نفسها أمرت ببيع جميع الأملاك المختصة بأفراد البيت المذكور وصرفت أثمانها في أمور نافعة للأمة. وفي سنة 1866 م حملها الإكليروس والوزارة الجديدة التي تألفت تحت رياسة "ترفايز" على إبطال حرية المطبوعات وجعل التعليم العمومي في إيدي خدمة الدين فحدثت ثورات تولى قيادة بعضها "بريم" وذلك في السنة نفسها والسنة التالية. وكان الثائرون منتشرين في جهات مختلفة من البلاد غير أن مساعيهم هبطت لعدم انتظامهم. وخلف "ترفايز" في رياسة الوزارة "غنزالز برافو" فضاد أهل الحرية أكثر من سلفه غير أنه سنة 1868 م ابتدأت الثورة في قادس فانتشرت في الحال في إسبانيا كلها ونشأ عنها فرار الملكة على فرنسا مع أولادها وعشيقها "مرفوري" وقسيسها "كلاريت" فقدم لها "نابليون الثالث" قصر "بوفاه" صدرت منه إعلانا على الشعب الإسبانيولي فأقامت به الحجة على الثورة. وفي سنة 1868 م صرح في "مدريد" بخلعها فاستوطنت "باريس" غير أنها أقامت مدة في "جنيفا" في أثناء الحرب التي جرت بين فرنسا وجرمانيا. وفي 25 حزيران (جون) سنة 1870 م, تنازلت عن تخت الملك لابنها "ألفونس" فسمى نفسه "ألفونس الثاني عشر" في إسبانيا. إيزابيلا فيليب لوبل الملقبة بالفرنساوية ملكة إنكلترا والدها "فليب ملك فرنسا, ولدت سنة 1292 م, وتوفيت سنة 1358 م, وتزوجت "إدورد الثاني" ملك إنكلترا سنة 1307 م. غير أنه أهملها لأن ندماءه الأشرار كانوا قد ملكوا قلبه فكان يوافقهم في جميع آرائهم ومشوراتهم فصرحت بخلعه بمساعدة أخيها "شارل لوبل" واستولت على زمام الملك بالوكالة عن ابنها "إدورد الثالث" سنة 1362 م إلا أن عشيقها "روجر مرتيمر" أهلك "إدورد الثاني" في السنة التالية بعد أن أذاقه أمر العذاب فاغتاظ ابنها وخلع نيرها وأمر بقتل "مرتيمر" سنة 1330 م أما هي فحسبها في سجن ماتت فيه بعد 28 سنة. وقد زعم "إدورد الثالث" وحلفاؤه أن لهم حقا في ملك فرنسا لأن "إيزابيلا" المذكورة كانت من البيت الملكي الفرنساوي. وقيل: إنها لما توجهت إلى فرنسا لتسوية الخلاف الذي وقع بين أخيها وزوجها رأت كثيرين من الإنكليز الهاربين وهم من أصحاب "أرل لنكستر" وكان أكثرهم إقداما ونشاطا شاب اسمه "روجر مرتيمر" فجمعتهم غليها وقر رأيهم على خلع "إدورد". وفي شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1326 م وصلت الملكة إلى ساحل "سفلك" بعساكر أجنبية مؤلفة من 3000 مقاتل تحت قيادة "روجر مرتيمر" و"جون منهينو" فأسرع لملاقاتها أكابر الأشراف والقسوس واستنجد "إدورد" برعاياه فلم ينجده أحد ففر هاربا على تخوم "ولس" فاقتفت الملكة أثره وقبضت عليه في دير "نيت" من "كونتيه كلامرغان", وأرسلته إلى قلعة "كبتلورس". وفي تلك الأثناء ألقي القبض على "هدلود سنسر" وقتل خنقا واجتمع المجلس العالي بأمر "إيزابيلا" و"مرتيمر" فأصدر قرارا في شهر يونيو سنة 1327 م يؤذن بسقوط "إدورد أف كرنارفون" ونقله على قلعة "بيركلي" وكان حرسه من الأوباش فبقي فيها إلى أن وجد في 31 أيلول عند الصباح ملقى ميتا على فراشه. وكان قد سمع صراخ وأنين من غرفته ولم تبق جثته على حالها الطبيعية فدل ذلك على أنه قتل قتلا ذريعا والمظنون أن أمعاءه أحرقت بحديد محمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بالنار. ولم بلغ "إدورد الثالث" من العمر اثنتي عشرة سنة أخذته والدته الملكة "إيزابيلا" المذكورة إلى فرنسا ولبثت ملكية "شارل الرابع" وفي ولا يتي "غينا" و"نبتيو" اللتين وهبه إياهما أبوه "إدورد الثاني" وهناك عقدت الملكة "إيزابيلا" بين "إدورد" وبين "فيليب" عقد زواج فتزوجها في 24 يونيو سنة 1328 م. ولما اسر "إدورد الثاني" وسمي "إدورد الثالث" ملكا لإنكلترا أمرت الملكة "إيزابيلا" بتعيين أربعة أساقفة وعشرة أشراف لكي يقرروا وكالة الملك وكان أكثرهم من حزبها فقرروا لها ول "مورتيمر" الذي صار آرل "مرنش" حق إدارة المملكة من تلك الأثناء فقضى "روبرت تروسل" شروط الهدنة التي كانت بينه وبين مملكة إنكلترا وأنفذ جيشا عظيما تحت قيادة "رندولف" و"زغلاس" فحملوا في كتيبة "كمبرلانه" وألقوا فيها الخراب والدمار فأرسلت "إيزابيلا" ولدها "إدورد" إلى "انشيمال" بجيش يزيد عن الأربعين ألف مقاتل وهناك حصل بينه وبين الأسكوتسيين وجرى له معهم موقعتان وهم في مراكز منيعة جدا فلم يتمكن من التغلب عليهم ويقال: إنه بكى لما رأى جماعة يسيرة قد استظهروا عليه وإنها تلك الحرب المشؤومة. فعقد معاهدة اعترف فيها باستقلال "أسكوتسيا" تماما وهذه الحالة ألقت المسؤولية على "إيزابيلا" و"مرتيمر" وكانا قد غاظا الشعب بأفعالهما ضد "أرل أف مونت" فإنهما سعيا في قتله لخيانة كبرى اتهمته بها وذلك سنة 1330 م. وفي السنة نفسها استبد "إدورد" بالسلطة وتخلص من طاعة أمه ومحبيها وقتل " مرتيمر" لخيانة بدت منه وأما "إيزابيلا" فأمر بحبسها طول حياتها في قصر "رشتتغ" حتى توفيت كما تقدم. إيزابيلا البافارية ملكة فرنسا وهي ابنة دوق "بابريا" ولدت سنة 1371 م, وتوفيت سنة 1435 م تزوجت "شارل السادس" سنة 1385 م فلما جن سنة 1392 م جعلت رئيسة لمجلس الوكالة الملكية وكان من أعضائه دوق "أوليان" أخو الملك و"جان" دوق "بورغونيا" الملقب بعديم الخوف فحصل بين هذين الأميرين منظرة شديدة نشأ عنها الخصام الذي جرى بين البورغونيين والأرمنياكيين, وكانت "إيزابيلا" تميل إلى دوق "أورليان". ويقال: إنه كان بينهما علائق حبية فأضمر لها دوق "بورغونيا" الشر وقتل خصمه سنة 1407 م رغبة في الانتقام منها فغمها الأمر جدا ولكنها رضيت بمعاهدة القاتل لتحفيظ لنفسها السلطان, ولما قتل دوق "بورغونيا" نفسه سنة 1419 م واطأت خلفه "فيليب لوبون" على تسليم فرنسا ليد أجنبية حارمة بذلك من الملك نفس ابنها "شارل السابع" ووقعت على معاهدة "تروا" التي بموجبها وجه تخت فرنسا إلى "هنري الخامس" ملك إنكلترا وذلك سنة 1420 م وقلت أهميتها بعد وفاة "شارل السادس" و"هنري الخامس" سنة 1422 م فلم تكن تتداخل في الأحكام وفي سنة 1435 م, توفيت مصحوبة باحتقار الشعب غير مأسوف عليها. ألمس المغنية الشهيرة التي فاقت كافة أرباب الألحان وآلات الطرب, وحازب شهرة عظيمة لا مزيد عليها وقد جمعت أموالا كثيرة حتى قيل فيها إنها سلبت أموال القطر المصري برقة صنعتها وحلاوة صوتها الشاجي وكانت ابنة رجل فقير يتعاطى صنعة الصباغة, وكان ظهورها في أواخر أيام سعيد باشا وأوائل حكم إسماعيل باشا الخديوي وكانت في ذلك الوقت سائدة على مغنيات مصر لاسيما "ساكنة" المغنية الشهيرة وكانت قد أسنت وكانت "ألمس" صغيرة لا تتجاوز على مابلغني الثانية عشرة من سنيها وكان اسمها الحقيقي "سكينة" ولكنها في مبادئ ظهورها لقبت باسم "ألمس" وقد غلب على الاسم الأصلي فشهرت به, وفي أول ظهورها قد طلبت إحدى سيدات العائلة الخديوية جملة بنات من بنات الأهالي حسنات الأصوات لأجل نعليمهن الألحان فجاءتها إحدى أتباعها بما طلبت ومن جملتهن "ألمس", فاختبرت أصوات الجميع فلم يرق لها سوى صوت المترجمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فطلبت إليها الإقامة عندها فامتنعت واعتذرت أنها لا تقدر على ترك والدها الفقير فقبلت عذرها بكل أسف وأنعمت عليها بشيء من النقود وانصرفت ثم بعد ذلك اشتهرت بين سيدات مصر وذواتها فكثر طلبها وتحدث بذكرها الرجال والنساء. ولما رأت "ساكنة" المغنية ذلك خافت على مركزها وشهرتها أن تسترها "ألمس" بما منحها الله من حسن الصوت ورقة الصنعة فضمتها إليها وصارت "ساكنة" لا يعبأ بها فداخلها الحسد والحقد, فساءت معاملتها ولما رأت المترجمة ذلك انفصلت عنها وجعلت لها تختا خصوصيا وكبر شأنها وطلبها ولاة مصر وذواتها وتركت "ساكنة" ونسي أمرها فزاد الحقد والحسد لها من جميع مغنين ومغنيات مصر وكان عبده الحمولي المغني الشهير هو المشهور بين الرجال في ذلك الوقت فأخذه الخوف على شهرته وارتعب من إطفاء اسمه كما حصل ل "ساكنة" فأظهر ل "ألمس" في بادئ الأمر العداوة ووقع الخلاف حتى صار إذا أراد أن يزين أفراحه ويجعل لها رونقا جمع ما بينهما في سامر واحد فيظهر كل منهما ما عنده من حسن الصنعة ورقة الصوت فيطرب السامعين ويصح فيهم المثل السائر: "تشاحنت المراكبيه بسعد الركاب". ولما رأى عبده الحمولي وأن الأهالي متجهة أفكارها إلى جهة "ألمس" وكثر مادحوها, وقل الالتفات إلى جهته عمد إلى الحيلة والمكر اللذين يتهم بهما النساء وأظهر لها الحب والود الذي لا يشك فيه, وطلب إليها الاقتران وبذل جهده في إتقان الحلية حتى قبلت اقترانها به وكانت من قبل تزوجت برجل إيراني وانفصلت منه لا أعلم إن كان بموت أو بالحياة. ولما دخلت على عبده كان آخر العهد بها فمنعها عن الغناء وتقدم هو فرجعت له شهرته الأولى إذ لم يبق غيره في القطر المصري وأسف الأهالي جميعا من غياب سناء "ألمس" عن عيونهم وحزن الكثير من هذا الاقتران. ولما صارت تحت حكمه سلمت له كل مالها وما تملكه ففتح محل تجارة وحيث إنه كان مسرفا في بذل الأموال لم تدم تجارته إلا قليلا فقفل محله التجاري. وكانت المترجمة جملت منه ولم تلد, بل توفاها الله بحملها وهي في نضارة الشباب وعنفوان الصبا فأسف عليها المصريون مل الأسف وكان لها يوم مشهود جمع أكابر مصر وأصاغرها واحتفل بمشهدها تقله أعناق الرجال وتسقى الأرض بأنهر من الدمع المدرار. وحزن عبده عليها الحزن الشديد وحاقه الندم على ما فرط منه في معاملتها بالقسوة حيث إنه كان يعاملها بكل فظاظة وهجر حتى قيل: إنه كان يقصد خسارة أموالها فيركب العربة تقلها الخيل الجياد من خليها فلا يحملانه أكثر من الأسبوع وخسرت التجارة وما ينوف عن الثلاثين ألف جنيه وغير ذلك من الخسائر الباهظة غير ما عاملها به من الهجر والإعراض فلحقها الغم وندمت من حيث لا ينفع الندم حتى قيل: إن ذلك سبب موتها لما لحقها من الكدر. فأثر هذا الأمر في عبده بعد موتها وثابر على الحزن مدة من الزمن وغنى عليها بألحان محزنة نذكرها على سبيل الاستئناس وهو: مذهب: شربت الصبر من بعد التصافي ... ومر الحال ما عرفتش أصافي يغيب النوم وأفكاري توافي ... عدمت الوصل آه يا قلبي علي دور: يقضي لوم يكفاني ملامه ... وزاد بي الحال يا الله السلامه مضت بهجة فؤادي يا ندامه ... عدمت الوصل آه يا وعدي علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 دور: على عيني بعاد الحلو ساعه ... ولكن للقضا سمعا وطاعه لأن الروح في الدنيا وداعه ... عدمت الوصل آه يا قلبي علي دور: زمان الأنس راح عني وودع ... وصرت اليوم من ولهي مولع وبعد الهجر هو الصبر ينفع ... عدمت الوصل آه يا قلبي علي هذا ما بلغني من ترجمة "ألمس" ولم أجد من يطلعني على شيء من نوادرها وملحها الكثيرة. حرف الباء الموحدة باقو الملقبة بالطاهرة زوجة السلطان مراد الثالث هي امرأة من البندقية كانت ذات فكر ثاقب وجمال بارع أسرها لصوص البحر سنة 1580 م وهي سائرة مع أبيها من البندقية على "كورفو" فسقيت إلى القسطنطينية وصارت فيها من جواري السلطان مراد الثالث ثم تزوجها وجعلها سلطانة وأخذ حبها بمجامع قلبه كلمتها وكانت لها سطوة عجيبة في أيام ابنها السلطان محمد الثالث فكان يستشيرها في مصالح السلطنة غير أن حفيدها السلطان أحمد تغير عليها سنة 1603 للميلاد ووضعها في السرابة القديمة إلى أن ماتت. بثينة حبيبة جميل بن معمر العذري هي بثينة بنت حبا بن ثعلبة بن لهوذ بن عمر بن الأصب بن حر بن ربيعة, كذلك نسبها صاحب الأغاني وهي من بني عذرة هام بها وذكرها في شعره جميل بن عبد الله بن معمر فعرف بها حتى إنه لا يعرف إلا بجميل بثينة. تزوجها رجل يقال له: نبيه بن الأسود وبقي جميل يتردد عليها بلا ريبة وكانت بثينة من أحسن النساء وأكملهن أدبا وظرفا وأطيبهن حديثا ولها مع جميل نوادر وأشعار ومغازلات كثيرة كلها مستورة بالعفة والأدب فمنها أن سبب ما علق بها جميل أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له: بغيض فاضطجع وأرسل إبله ترعى وأهل بثينة يومئذ في جانب الوادي فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء, فمرتا على فصال له بروك فنفرتهن بثينة (أي انتهرتهن) فقال: قد نفرتهن وكانت إذ ذاك جويرية صغيرة فسبها جميل, فبادلته السب وشتمته هي أيضا فاستحسن سبابها وهام بها من ذاك الحين, وفي ذلك يقول: وأول ما قاد المودة بيننا ... بوادي بغيض يا بثين سباب وقلنا لها قولا فجاءت بمثله ... لكل كلام يا بثين جواب وخرجت بثينة في يوم عيد وكانت النساء إذ ذاك يتزين ويجتمعن ويدنو بعضهن لبعض ويبدون للرجال في كل عيد فجاء جميل فوقف على بثينة وأختها أم الحسين في نساء من نبي الأحب فرأى منهن منظرا لطيفا فقعد معهن ثم انصرف وكان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول: عجل الفراق وليته لم يعجل ... وجرت بوادر دمعك المتهلل طربا وشاقك ما لقيت ولم تخف ... بين الحبيب غداة برقة محول وعرفت أنك حين رحت ولم يكن ... بعد اليقين وليس ذاك بمشكل لن تستطيع إلى بثينة رجعة ... بعد التفرق دون عام مقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ولما سمعت بثينة أن جميلا شب بها حلفت بالله أن لا يأتيها على خلوة إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث معها ومع أخواتها حتى نمى إلى رجالها أنه يتحدث إليها, وكانوا أصلافا (أي غيارى) , فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف ب بثينة وأم الحسين وهما تحدثانه وهو ينشدهما قوله: حلفت برب الراقصات إلى منى ... هوي القطا تجتزن بطن دفين لقد ظن هذا القلب أن ليس لا قيا ... سليمى ولا أم الحسين لحين فليت رجالا فيك قد ندروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني فبينما هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فأطلق عنان الناقة, فخرجت من بينهم كالسهم ووعدت جميلا يوما أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها, وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم, فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا ب بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده, فلما أسفر الصبح انصرف كئيبا سيئ الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بوصلها فقال في ذلك: فلرب عارضة علينا وصلها ... بالجد تخلطه بقول الهازل فاجبتها في القول بعد تستر ... حبي ب بثينة عن وصالك شاغلي لو كان في صدري كقدر قلامة ... فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي ويقلن إنك قد رضيت بباطل ... منها لك في اجتناب الباطل ولباطل ممن أحب حديثه ... أشهى إلي من البغيض الباذل ليزلن عنك هواي ثم يصلنني ... وإذا هويت فما هواي بزائل أبثين إنك قد ملكت فاسحجي ... وخذي بحظك من كريم واصل وفي وعدها بالتلاقي وتأخرها يقول أيضا قصيدته الرائبة التي أولها: يا صاح عن بعض الملامة أقصر ... إن المنى للقاء أم المسور ومنها: وكأن طارقها على علل الكرى ... والنجم وهنا قد دنا لتغور يستاف ريح مدامة معجونة ... بذكي مسك أو سحيق العنبر ومنها: إني لأحفظ غيبكم ويسرني ... إذ تذكرين بصالح أن تذكري ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه علي كأشهر يا ليتني ألقى المنية بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر أو أستطيع تجلدا عن ذكركم ... فيفيق بعض صبابتي وتفكري لو قد تجن كما أجن من الهوى ... لعذرت أو لظلمت إن لم تعذري والله ما للقلب من علم بها ... غير الظنون وغير قول المخبر لا تحسبي أني هجرتك طائعا ... حدث لعمرك رائع أن تهجري فلتبكني الباكيات وإن أبح ... يوما بسرك معلنا لم أعذر يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت ... يتبع صداي صداك بين الأقبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إني إليك بما وعدت لناظر ... نظر الفقير على الغني المكثر يعد الديون وليس ينجز موعدا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر ما أنت والوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم يمطر قلبي نصحت له فرد نصيحتي ... فمتى هجرتيه فمنه تكثري والتفت بجميل بعد طول تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا ثم قالت له: ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت القائل: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح فأطرق طويلا وهو يبكي وينتحب ثم رفع رأسه وقال: بل أنا القائل: ألا ليتني أعمى أصم تقودني ... بثينة لا يخفى علي كلامها فقالت: ويحك, ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا؟ وسعت جارية من جواري بثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين سيفهما, فرأياه جالسا إليها يحدثها ويشكو إليها وجده بها وشوقه لها, ثم قال لها: يا بثينة, أرأيت ودي لك وشغفي بك ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه, ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي بعدها أبدا فضحك من كلامها وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه, ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي أو هجرتك إن استطعت على الأبد أو ما سمعت قولي: إني لأرضى من بثينة بالذي ... لو أبصره الواشي لقرت بلابله بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالأمل المرجو قد خاب أمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوئله فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما. وقال جميل يوما لأحد أترابه: هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة, فمضى معه حتى كمن له في الوادي وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه غليه فمضى به غليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما جن الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته وهي باركة قالت له بثينة ادن مني يا جميل فدنا منها وقال: إن المنازل هيجت أطرابي ... واستعجمت آياتها بجوابي فترى تلوح بذي اللجين كأنها ... أنضاء رسم أو سطور كتاب لما وقفت بها القلوص تبادرت ... مني الدموع لفرقة الأحباب وذكرت عصرا يا بثينة شاقني ... وذكرت أيامي وشرخ شبابي وقال كثير: لقيني جميل مرة فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من عند ابي الحبيبة -أعني بثينة- فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة -أعني عزة- فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة. فقال: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع. فقال: لا بد من ذلك. فقلت: فمتى عهدك بها؟ قال: في أول العيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها, فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به تسترا, وعرفتني الجارية فأخبرتها, فتركت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس, وسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون. وما وجدت أحدا غيرك يا كثير حتى أرسله غليها فقال له كثير: فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها. قال: ذلك الصواب: فأرسله إليها فذهب, وقال: انتظرني حتى أعود, ثم سار حتى أناخ بهم فقال له أبوها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ما ردك يا كثير؟ قال: ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هاتها. قال كثير: فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر: فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... إليك رسولا والموكل مرسل بأن تجعلي بيني وبينك موعدا ... وأن تأمريني بالذي فيه أفعل وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الروم والثوب يغسل فضربت بثينة صدرها وقالت: اخسأ اخسأ، فقال أبوها: مهم يا بثينة؟ قال: كلب يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية، ثم التفتت إلىالجارية وقالت: أبغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونسويها له. فقال كثير: أنا أعجل من ذلك وخرج وراح إلى جميل فأخبره. فقال له جميل: الموعد الدومات بعد أن تنام الناس. وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين، وليلى ونجيا بنات خالتها: إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جملا معه وكانت قد أنست إليهن واطمأنت بهن وكاشفتهن بأسرارها فخرجن معها، وكان جميل وكثير خرجا حتى أتيا الدومات (اسم محل) وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح فكان كثير يقول: ما رأيت عمري مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ولم أدر أيهما كان أفهم. ولما ندر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد الليل كثيب رمل ويتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول: أيا ريح الشمال أما تريني ... أهمي وإنني بادي النحول هبي لي نسمة من ريح بثن ... ومني بالهبوب إلى جميل وقولي يا بثينة حسب نفسي ... قليلك أو أقل من القليل فإذا ظهر الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن، إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران فيقلن لها: اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له، واجتمع كثير بجميل وما فقال له: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك: يقيك جميل كل سء أماله ... لديك حديث أو إليك رسول وقد قلت في حبي لكم وصبابتي ... محاسن شعر ذكرهن يطول فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي ... هبوب الصبا يا بثن كيف أقول فما غاب عن عيني خيالك لحظة ... ولا زال عنها والخيال يزول فقال جميل أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك: يقول العدا ياعز قد حال دونكم ... شجاع على ظهر الطريق مصمم فقلت لها والله لو كان دونكم ... جهنم ما راعت فؤادي جهنم وكيف يروع القلب يا عز رائع ... ووجهك في الظلماء للسفر معلم وما ظلمتك النفس ياعز في الهوى ... فلا تنقمي حبي فما فيه منقم قال: فبكيا ليلتهما إلى أن بزغ الصباح، ثم انصرفا وخرج جيمل لزيارة بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أنه لبثينة، أو راعية ليتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأمة حبشية معها قربة واردة على الغدير لتملأها، فكانت عارفة به، ولما تبينها وتبينته سلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق، ويحملها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه وسألها أن تدفعه لها وأخذ عليها موعدا ترجع إليه فيه، ومكث ينتظر رجوعها وذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها فالتوت عليهم ولم تخبرهم من شيء مما حصل لها مع جميل، فتعللت عليهم فضربوها ضربا مبرحا، ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، وصدف أنه مر بها في تلك الحالة فتيان من بني عذرة فسمعا القصة جميعها وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر فقالا للقوم إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه وكان أهل بثينة أعز بني عذرة فدعوا الأمة وأعطوها الخاتم وأمروها أن توصله إلى بثينة وحذروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلا وقالا تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب، ثم تبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما. فقال: أما الآن فابعثا إليها من ينذرها فأتياه براعية لهما وقالا له: قل بحاجتك فقال: ادخلي إليها وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها ففهمتها تماما فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدها فلم تبرح من مكانها ومضوا يقتفون أثره فوجدوا ناقته فعرفوا أنه د فاتها وفي ذلك يقول جميل: خليلي عوجا اليوم حتى تسلما ... على عذبة الأنياب طيبة النشر ألما بها ثم اشفعا لي وسلما ... عليها سقاها الله من سائغ القطر وقال: ابي القلب إلا حب بثنة لم يرد ... سواها وحب القلب بثنة لا يجدي إذا ما دنت زدت اشتياقا وإن نأت ... جزعت لنأي الدار منها وللبعد سلي الركب هل عجنا لمغناك مرة ... صدرو المطايا وهي موقرة تخدي وهل فاضت العين لاشروق بمائها من أجلك حتى أخضل من دمعها بردي وإني لأستجري لك الطير جاهدا ... لتجري بيمن من لقائك من سعدي وإني لأستبكي إذا الركب غردوا ... بذكراك أن يحيا بك الركب إذا تحدي فهل تجزيني أم عمرو بودها ... فإن الذي أخفى بها فوق ما أبدي وكل محب لم يزد فوق جهده ... وقد زدتها في الحب مني على الجهد ولما ضاقت برهط بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها: أم منظور فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتمنوني عليها فقال: أما والله لا أضرنك فقالت: المضرة والله في أن أريكها فخرج من عندها وهو يقول: ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت ... بالحجر يوم جلتها أم منظور ولا استلابها خرسا جبابرها ... إلي من ساقط الأوراق مستور قال فما كان غلا قليل حتى انتهى إلهم هذان البيتان فتعلقوا بأم منظور فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها وعاقبوها على ذلك هكذا رواه صاحب الأغاني عن الأغاني عن الزبير بن بكار. وفي رواية أخرى أن رجلا أنشد مصعب بن الزبير البيت الأول من البيتين المذكورين فقال مصعب: لوددت أني عرفت كيف جلتها فقيل له: إن أم منظور هذه حية فكتب في حملها غليه مكرمة فحملت إليه فقال لها: أخبريني عن قول جميل. ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت ... بالحجر يوم جلتها أم منظور كيف كانت هذه الجلوة؟ قالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح في وسطها تفاحة وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئا من الجلوة ومر بنا جميل راكبا على ناقته فجعل ينظر غليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة ففعلت، وركب مصعب ناقته وجعل ينظر على عائشة بمؤخر عينه مثل ما فعل جميل ويسير حتى غاب عنهما ثم رجع. وجاء جميل إلى بثينة ليلة وقد تزيا بزي راع لبعض الحي، فوجد عندها ضيفان لها فانتبذ ناحية وجلس فيها فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين مكاتب فعشت ضيفانها وعشته وحده ثم جلست هي وجارية لها تجاه النار تصطليان واضطجع القوم منتحين فقال جميل: هل البائس المقرور دان فمصطل ... من النار أو معطى لحافا فلابس فقالت لجاريتها: صوت جميل والله اذهبي فانظري فذهبت ثم رجعت وقالت: هو والله جميل فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون، وقالو: ما لك فطرحت بردا لها من حبرة في النار وقالت: احترق بردي، فرجع القوم وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به فحبسته عندها ثلاث ليال ثم ودعها وخرج. ورصدها ليلة في نجع لبني عذرة حتى إذا صادف منها فرصة وهي مارة مع أترابها في ليلة ظلماء ذات رعود وأمطار فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت: والله ما حذفني في مثل هذا الوقت إلا الجن فقالت لها بثينة -وقد فطنت-: انصرفي على منزلك حتى نذهب إلى النوم، فانصرفت وبقي مع بثينة أم الحسين وأم منظور فقامت إلى جميل فأخذته إلى الخباء معها وتحدثا طويلا ثم اضطجع واضطجعت إلى جانبه فذهب بهما النوم حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها زوجها (يظهر من تواريخ العرب أنهم كانوا على الطريقة التي اتخذها الإفرنج في وقتنا هذا بأن الزوج لا يرقد وزوجته في محل واحد بل كل منهما في محل) فلما رآها نائمة مع جميل مضى لوجهه حتى يخبر سيده فرأته ليلى والصبوح معه وكانت قد عرفت خبر بثينة وجميل فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارتها لها وقالت: حذري بثينة وجميلا، فجاءت الجارية فنبهتهما، فلما تبنيت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين أرتاعت وقالت: يا جميل نفسك نفسك فقد جاءني غلام زوجي بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين فقال لها وهو غير مكترث لما خوفته منه: لعمرك ما خوفتني من مخافة ... بثين ولا حذرتني موضع الحذر فأقسم لا يلفي لي اليوم غرة ... وفي الكف مني صارم قاطع ذكر فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت: إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك, ففعل ما أمرته به ونامت كما كانت, وأضجعت أم الحسين إلى جانبها, وذهبت خادمة ليلى وأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيده فمضى والصبوح معه وقال: إني رأيت جميلا مع بثينة في فراش واحد مضطجعا إلى جانبها فمضى إلى أخيها وأبيها وأخبرهم الخبر وأخذهما وأتى بهما إلى خباء بثينة وهي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الحسين إلى جانبها نائمة, فخجل زوجها وسب عبده وقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح قبحه الله, وقبحكما معه. وجعلا يسبان زوجها ويقولان له كل قول قبيح وأقام جميل عند بثينة حتى جن الليل ثم ودعها وانصرف وخافت بثينة مما جرى فتحامت منه مدة فقال في ذلك: أإن هتفت ورقاء ظلت سفاهة ... تبكي على جمل لورقاء تهتف فلو كان لي بطرم يا صاح طاقة ... صرمت ولكني عن الصرم أضعف لها في سواد القلب بالحب منعة ... هي الموت أو كادت على الموت تشرف وما ذكرتك النفس يا بثن مرة ... من الدهر إلا كادت النفس تتلف وإلا اعترتني زفرة واستكانة ... وجادلها سجل من الدمع يذرف وما استطرفت نفسي حديثا لخلة ... أسر به إلا حديثك أطرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وهي قصيدة طويلة منها قوله: ولست بناس أهلها حين أقبلوا ... وجالوا علينا بالسيوف وطوفوا وقالوا جميل بات في الحي عندها ... وقد جردوا أسيافهم ثم وقفوا ولما اشتهرت بثينة بحب جميل إياها اعترضه عبيد الله بن قطنة بني الأحب وهو من رهطها الأقربين فهجاه وبلغ ذلك جميلا فأجابه وتطاولا فغلبه جميل وكف عنه ابن قطنة واعترضه عمير بن رمل رجل من بني الأحب أيضا وإياه عنى جميل بقوله: إذا الناس هابوا خزية ذهبت بها ... أحب المخازي كهلها ووليدها لعمر عجوز طرقت بك إنني ... عمير بن رمل لابن حرب أقودها بنفسي فلا تقطع فؤادك ضلة ... كذلك حزني وعثها وصعودها قال: فاستعدوا عليه عامر بن ربعي وكان الحاكم على بلاده عذرة وقالوا: يهجونا ويغشى بيوتنا وينسب بنسائنا فأباحهم دمه وطلب فهرب, وغضبت عليه بثينة لهجائه أهلها جميعا فقال جميل: وما صائب من نائل قذفت به ... يد وممر العقدتين وثيق له من خوافي النسر جم تطاير ... ونصل كنصل الزاعبي فتيق على نبعة زوراء أما خطامها ... فمثن وأما عودها فعتيق بأوشك قتلا منك يوم رميتني ... نوافذ لم تظهر لهن خروق تفرق أهلانا بثين فمنهم ... فريق أقاموا واستمر فريق فلو كنت خوارا لقد باح مضمري ... ولكنني صلب القناة عريق كان لم يحارب يا بثين لو أنه ... تكشف غماها وأنت صديق وبعد ذلك بمدة وقع الصلح بينه وبينها وأخذ منها موعدا للقائه فوجدوه عندها فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا قتله خوفا من أن ينشب بينهم وبين قومه حرب بدمه وكان قومه أشد بأسا من قوم بثينة فأعادوا شكواه إلى السلطان فطلبه طلبا شديدا فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة. ومن شعره وهو في اليمن: ألو خيال من بثينة طارق ... على النأي مشتاق إلي وشائق سرت من تلاع الحجر حتى تخلصت إلي ودوني الأشعرون وعافق كأن فتيت المسك خالط نشرها ... تقل به أردافها والمرافق تقوم إذا قامت به عن فراشها ... ويغدو به من حضنها من تعانق ولم يزل في اليمن على أن عزل ذلك الوالي وانتقل أهل بثينة إلى ناحية الشام فرجع إليهم فشكا أكابر الحي إلى أبيه وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله فناشدوه الله والرحم وسألوه كف ابنه عن فتاتهم وعن تشببه بها وما يفضحهم به بين الناس فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا فدعا به وقال له: يا بني حتى متى أنت أعمى في ضلالك ألا تأنف من أن تتعلق في ذات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزل تغرك بأقوالها وخداعها, وتريك الصفاء والمودة, وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها فيكون قولها لك تعليلا وغرورا فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة إن هذا لذل وضيم وما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك فأنشدك الله ألا كففت وتأملت في أمرك فإنك تعلم أن ما قلته حق ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها, ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له وفي النساء عوض؟ ! فقال له جميل: الرأي ما رأيت والقول كما قلت, ولكن هل رأيت قبلي أحد قدر أن يدفع هواه عن قلبه أو ملك أن يسلي نفسه أو استطاع أن يدفع ما قضى عليه والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي, أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ولا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي, ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو مت كمدا, وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه, وقام وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعا لما رأوا منه حب بثينة ثم أنشد: ألا من لقلب لا يمل فيذهل ... أفق فالتعزي عن بثينة أجمل سلا كل ذي ود علمت مكانه ... وأنت بها حتى الممات موكل فما هكذا أحببت من كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها ... وإن كنت تهواها تضن وتبخل وقد أيأست من نيلها وتجهمت ... ولليأس إن لم يقدر النيل أمثل وإلا فسلها نائلا قبل بينها ... وأبخل بها مسؤولة حين تسأل وكيف ترجى وصلها بعد وقد جد حبل الوصل ممن تؤمل وإن التي أحببت قد حيل دونها ... فكن حازما والحازم المتحول ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلة ... وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل بدا كلف مني بها فتثاقلت ... وما لا يرى من غائب الوجد أفضل هبيني برئيا نلته بظلامة ... عفاها لكم أو مذنبا يتنصل فتاة من المران ما فوق حقوها ... وما تحته منها نقا يتهيل والتقى جميل بعمر بن أبي ربيعة فقال له: يا جميل, قم بنا نذهب على زيارة بثينة. قال: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها وهاتيك أبياتها فاذهب غليها, فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها فقال: يا جارية, أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني فأعلمتها فخرجت إليه في مباذلها وقالت: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك, فانكسر عمر وقال لها قول جميل: وهما قالتا لو أن جميلا ... عرض اليوم نظرة فرآنا بينما ذاك منهما وأتاني ... أعمل النص سيرة زفيانا نظرت نحو تربها ثم قالت ... قد أتانا وما علمنا منانا فقال إنه استملى منك فما أفلح, وقد اربط الحمار مع الفرس فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه فخجل من قولها وانصرف. ولما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام هجم ليلا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف؟ فقال لها: هذا وجهي إلى الشام وإنما جئتك مودعا فحادثها طويلا ثم ودعها وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكى بكاء طويلا وبكت, ثم قال وهو يبكي: ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا ... لنا منك رأي يا بثين جميل وما لم تطيعي كاشحا أو تبدلي ... بنا بدلا أو كان منك ذهول وإني وتكراري الزيارة نحوكم ... بثين بذي هجر بثين يطول وإن صبابتي بكم لكثيرة ... بثين ونسيانيكم لقليل وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها, ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه فسار غليها وحدثها وبث غليها أشواقه وأخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما فوثب جميل, وانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة الله ألا انصرف وقالت له: إن أقمت فضحتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ولعل الحي أن يلحقوا بك. فأبى وقال: أنا مقيم, وامض أنت وليصنعوا بي ما أحبوا فلم تزل تنشده حتى انصرف وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة وفي ذلك يقول: ألم تسأل الربع الخلاء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق وقفت بها حتى تجلت عمايتي ... ومل الوقوف إلا رحبي المنوق تعزو إن كانت عليك كريمة ... لعلك من رق لبثينة تعتق لعمركم إن البعاد لشائقي ... وبعض بعاد البين والنأي أشوق لعلك محزون ومبد صبابة ... ومظهر شكوى من أناس تفرقوا وبيض غريرات تثني خصورها ... إذا قمن أعجاز ثقال وأسوق عزائز لم يلقين بؤس معيشة ... يجن بهن الناظر المتنوق وغلغلت من وجد إليهن بعدما ... سريت وأحشائي من الخوف تخفق معي صارم قد أخلص القين صقله ... له حين أغشيه الضريبة رونق فلولا احتيالي ضقن ذراعا بزائر ... به من صبابات إليهن أولق تسوق بقضبان الأراك مفلجا ... يشعشع فيه القارسي المروق أبثينة للوصل الذي كان بيننا ... نضا مثل ما ينضو الخضاب فيخلف أبثينة ما تنأين إلا كأنني ... بنجم الثريا ما نأيت معلق وأقام مرة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعد فشكا غليهما ما به وأنشدهما قوله: زورا بثينة فالحبيب مزور ... إن الزيارة للمحب يسير إن الترحل أن تلبس أمرنا ... وإعتاقنا قدر أحم بكور إني عشية رحت وهي حزينة ... تشكو إلي صبابة لصبور غراء مبسام كأن حديثها ... در تحدر نظمه منثور مخطوطة المتنين مضمرة الحشا ... ريا الروادف خلفها ممكور لا حسنها حسن ولا كدلالها ... دل ولا كوقارها توقير إن اللسان بذكرها لموكل ... والقلب صاد والخواطر صور ولئن جزيت الود مني مثله ... إني بذلك يا بثين جدير فقال له روق: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها وإنك منها بين فجور أرفعك عنه أو ذل لا أحبه لك, أو كمد يؤديك على التلف, أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعذرت لهم بعد إعذارهم إليك, وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم وتصير نفسك عليها طائعة له أو كارهة ألفت ذلك وسلوت. فبكى جميل وقال: يا أخي, لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا ولكني لا أملك لي اختيارا, ولا أنا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا, وقد جئتك لأمر أسألك أن لا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم, وأن تحمل على نفسك في مساعدتي. فقال له: فإن كنت لا بد مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا فإنها تخرج مع بنات عم لها على ملعب لهن فأجيء معك حينئذ سرا ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب نأوي عنده نهارا فأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده أياما نهارك وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك. فشكره ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه وسأله مساعدته فيه فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم ويحك إن في هذا معاداتي الحي جميعا إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فطن به فقال: أنا أتحرز في أمره من أن يظهر فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره بالقصة فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده وأرسل على بثينة بوليدة له بخاتم جميل فدفعته إليها فلما رأته عرفت فتبعهتا وجاءته فتحدثا ليلتهما وأقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودعها وقال لها: عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك ولمني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه, وقد أقمت عنده ثلاثا ولا مزيد ذلك, ثم انصرف وقال في عذل روق له: لقد لامني فيها أخ ذو قرابة ... حبيب إليه في ملامته رشدي وقال أفق حتى متى أنت هائم ... ببثينة فيها قد تعيد وقد تبدي فقلت له فيها قضى الله ما ترى ... علي وهل فيما قضى الله من رد فإن يك رشدا حبها أو غواية ... فقد جئته ما كان مني على عمد لقد لج ميثاق من الله بيننا ... وليس لمن لم يوف لله من عهد فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها ... ولا لي علم بالذي فعلت بعدي وما زادها الواشون إلا كرامة ... علي وما زالت مودتها عندي أفي الناس أمثالي أحب فحالهم ... كحالي أم أحببت من بينهم وحدي وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما ... لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي قيل: وقع بين بثينة وجميل هجر في غيرة كان غار عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها, فكان جميل يتحدث إلى غيرها, فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل, وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه, فدخل يوما وقد غلب عليه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة, فلما رأته جاءت إلى البيت ولم تبرز له, فجزع لذلك وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ فأنشأ يقول: لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة ... وفي النفس حاجات غليك كما هيا وإني لتثنيني الحفيظة كلما ... لقيتك يوما أن أبثك ما بيا ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني ... أظل إذ لم أسق ريقك صاديا فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله. ثم اصطلحا فقالت له: أنشدني قولك: تظل وراء الستر ترنو بلحظها ... إذا مر من أترابها من يروقها فأنشدها إياها فبكت وقالت: كلا يا جميل ومن ترى أنه يروقني غيرك. وروى بعضهم عن عجوز من بني عذرة قالت: كنا على ماء لنا بالجناب وقد تجنبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثا فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون على جوار منهم فلم يبق غيري وغير بثينة إذا انحدر علينا منحدر من هضبة تلقانا فسلم ونحن مستوحشون وجلون فتأملته ورددت السلام فإذا جميل فقلت: أجميل؟ قال: أي والله, وإذا به لا يتماسك جوعا فقمت على قعب لنا فيه أقط مطحون وإلى عكة فيها سمن ورب, فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت: أصب من هذا فأصاب منه وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه, وتراجعت نفسه فقلت له لقد بلغت ولقيت شرا فما أمرك؟ قال: أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم, وأنا عامد إلى مصر فتحدثنا ساعة, ثم ودعنا وشخص فلم تطل غيبته أن جاء ناعيه. روي عن رجل كان شاهد جميلا لما حضرته الوفاة بمصر قال: إنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك؟ قال: فقلت: اللهم نعم, قال: إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا, ثم كل شيء سواها لك, وارحل على رهط بني الأحب من عذرة - وهم رهط بثينة- فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 صرت غليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم ثم أنشدني هذه الأبيات: صدع النعي وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول ولقد أجر الذيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كل خليل قال: فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل, فما استتمت الأبيات حتى برزت إلي امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولا, وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت: يا هذا والله لئن كنت صادقا لقد قتلتني, ولئن كنت كاذبا لقد فضحتني. قلت: والله ما أنا إلا صادق وأخرجت حلته فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول: وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها وقيل: إنها كررت هذين البيتين حتى ماتت بعد ثلاثة أيام من سماعها بموت جميل, وله فيها أشعار كثيرة ولو أنه لم يقل فيها سوى البيتين لكفاها شهرة وفخرا وهما قوله من قصيدة طويلة هي من ضمن أشعاره: هي البدر حسنا والنساء كواكب ... وشتان ما بين الكواكب والبدر لقد فضلت بثن على الناس مثل ما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر بثينة ابنة المعتمد بن عباد أمها الرميكية كانت بثينة هذه نحوا من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر, ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت في جملة من سبي ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما وكان أحد تجار "إشبيلية" اشتراها على أنها جارية ووهبها لابنه فنظر في شأنها وهيئت له فأراد الدخول عليها فامتنعت وأظهرت نسبها, وقالت: لا أحل لك إلا بعقد وإن أذنت بمخاطبة والدي بذلك فعلت وإني أحب أن أكون قرينتك في سنة الله تعالى, فوقع عنده كلامها موقعا عظيما وداخله سرور زائد لكونه صاهر المعتمد بن عباد وإن كان في نكبته وأذن لها بما أرادت فكتبت لأبيها تستأذنه وكان الذي كتبته بخطها ما صورته: اسمع كلامي واستمع لمقالتي ... فهي السلوك بدت من الأجياد لا تنكروا أني سبيت وأنني ... بنت لملك من بني عباد ملك عظيم قد تولى عصره ... وكذا الزمان يؤل للإفساد لما أراد الله فرقة شملنا ... وأذاقنا طعم الأسى من زاد قام النفاق على أبي في ملكه ... فدنا الفراق ولم يكن بمرادي فخرجت هاربة فأعجزني امرؤ ... لم يأت في إعجازه بسداد إذ باعني بيع العبيد فضمني ... من صانني إلا من الأنكاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأرادني لنكاح نجل طاهر ... حسن الخلائق من بني الأنجاد ومضى غليك يسوم رأيك في الرضا ... ولأنت تنظر في طريق رشادي فعساك يا أبتي تعرفني به ... إن كان ممن يرتجى لوداد وعسى رميكية الملوك بفضلها ... تدعو لنا باليمن والإسعاد فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات واقع في شراك الكروب والأزمات سر هو وأمها بحياتها, ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها إذ علما ما آل إليه أمرها, وجبر كسرها, إذ ذاك أخف الضررين, وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب وأشهد على نفسه بعقد إنكاحها من الشاب المذكور وكتب إليها أثناء كتابه: بنيتي موني به برة ... فقد قضى الدهر بإسعافه وأخبار المعتمد بن عباد تذيب الأكباد وقد أضربنا عنها خوف الخروج عن الموضوع. بدور وقيل قدور الساحرة هي امرأة مصرية ساحرة كانت في زمان دلوكة, وكانت السحرة تعظمها وتقدمها ولما حل ما حل بفرعون والمصريين من الغرق في البحر الأحمر عند اتباعهم بني إسرائيل ولم يعد في مصر من الرجال المقدمين من يقدر على حفظ البلاد بعثت دلوكة على بدور تقول لها: إننا قد احتجنا على سحرك وفزعنا إليك ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك, فاعلمي لنا شيئا نغلب به من حولنا وقد كان فرعون يحتاج غليك فكيف وقد ذهب أكابرنا وبقي أقلنا. فبنت بدور بربي من حجارة في وسط مدينة منف وجعلت لها أربعة أبواب على جهة القبلي والبحري والشرق والغرب, وصورت فيه صور الخيل والبغال والحمير, والسفن والرجال وقالت لهم: قد عملت لكم عملا يهلك به كل من أرادكم من أي جهة تؤتون منها برا وبحرا وهذا يغنيكم عن الحصن ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة فإنهم إن كانوا في البر على خيل, أو بغال, أو إبل, أو في سفن, أو رجالة تحركت هذه الصور فيصيبهم في أنفسهم قيل: ولم تزل تلك العجوز تدبر مصر نحو أربعمائة سنة وكلما انهدم من تلك البربي شيء لم يقدر على إصلاحه إلا هي أو ولدها أو ولد ولدها, ولما انقرض بيتها تهدمت البربي ولم يقدر أحد على إصلاحها -ذكر ذلك المقريزي. بديعة ابنة السيد سراج الدين الرفاعي كانت ذات عرفان ويقين وبكاء أخذت عن أبيها وسمع منها الإمام محمد الوتري وغيره, وحدثت ولها شعر عجيب ومنه قولها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: رسول الهدى أدعوك والقلب خاشع ... هلوع فيا للغارة الأحمدية عليك تحياتي ولو أن همتي ... حطيطة حد عن مقام التحية فإنك مصباح الوجودات كلها ... وشمس أسارير الهدى للبرية ولها كرامات ومناقب وأحوال ظاهرة وكانت من الحياء والدين وعلم الشريعة بمنزلة رفيعة, وتوفيت -رضي الله عنها- سنة 890 هجرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بذل المغنية هي من مولدات المدينة ربيت بالبصرة وهي من المتقدمات الموصوفات بكثرة الرواية للأغاني. قيل: كانت تغني ثلاثين ألف صوت ولها كتاب في الأغاني يشتمل على 12 ألف صوت وكانت ظريفة الوجه لطيفة المحاضرة, وأخذت عن أبي سعيد مولى فائد ورحمانة وفليح وابن جامع وإبراهيم الموصلي وطبقتهم, وقرأت على جحظة البرمكي, واشتراها جعفر بن محمد الهادي فوصفت لمحمد الأمين بن الرشيد فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها فأبى, فزاره محمد على بيته فسمع شيئا لم يسمع مثله فقال لجعفر: يا أخي بعني هذه الجارية. فقال: يا سيدي, مثلي لا يبيع جارية. قال: فهبها لي. قال: هي مدبرة منزلي فاحتال عليه محمد حتى أسكره وأمر ببذل فحملت معه على الحراقة وانصرف بها فلما انتبه جعفر سأل عنها فأخبر بخبرها فسكت, فبعث إليه محمد من الغد فجاءه وبذل جالسة فلم يقل شيئا فلما أراد جعفر أن ينصرف قال محمد: أوقروا حراقة ابن عمي دراهم فأوقرت. قيل: كان مبلغ المال ألف ألف درهم وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل, ثم خرجت, فكان ولد جعفر وولد محمد يدعون ولاءها, فلما ماتت ورثها عبد الله بن محمد الأمين. وقيل: وهب لها محمد من الجواهر شيئا لم يملك أحد مثله فكانت تخرج منه الشيء بهد الشيء فتبيعه بالمال العظيم فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء على أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة, ولم تقبل أن تتزوج. وقد رغبت إليها وجوه القواد والكتاب والهاشميين, وكان يهواها علي بن هشام ويكتم ذلك وهجرته مدة فاسترضاها, وكان إبراهيم بن المهدي يعظمها ويتوافى لها ثم تغير بعد ذلك استغناء بنفسه عنها فسارت غليه فدعت بعود وغنت في طريقة واحدة وإيقاع واحد وأصبع واحدة مائة صوت لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا, ثم وضعت العود وانصرفت فلم تدخل داره بعد ذلك حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه. وقيل: إن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنته بحضرة المأمون فأمسكت عنه ساعة ثم غنت ثلاثة أصوات وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه فقالت: والله يا أمير المؤمنين هي لأبيه أخذتها من فيه فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره فاشتد ذلك على إسحاق حتى رؤي في وجهه. برقا جارية علاء الدين البصري قال الرياشي: اشترى علاء الدين البصري جارية على ارفع ما يكون من الجمال والفصاحة فكلف بها وكان مسرفا فأنفق ماله عليها ولم يبق شيئا, فأشارت عليه بأن يبيعها شفقة عليه, فلما حضر بها على السوق أخذت على ابن معمر وكان عاملا على البصرة فاشتراها بمائة ألف درهم فلما قبض المال وهم بالانصراف أنشدت: هنيئا لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي غير التذكر أقول لنفسي رهن غم وكربة ... اقلي فقد بان الحبيب أو أكثري إذا لم يكن للأمر عندي حيلة ... ولم تجدي شيئا سوى الصبر فاصبري فاشتد بكاء مولاها, وأنشد: فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاصبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلبا طويل التفكر عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر فقال ابن معمر: قد شئت خذها ولك المال فانصرفا راشدين فو الله لا كنت سببا لفرقة محبين (انظر إلى كرم هذا الأمير) وبقيت عند مولاها إلى أن ماتت وهما في نعمة وأمان, وقد أعاد الله لهما سعدهما وبقيا أحسن مما كانا عليه حين اشتراها. بربارة القديسة كانت عذراء ذات شهرة معتبرة في الكنيسة اليونانية والرومانية يقال: إنها نالت إكليل الشهادة في "إليوبوليس" سنة 1306 للميلاد وفي "نيقومديا" من "بشينيا" سنة 1235 م وإنها ولدت في "إليوبوليس" من مصر من أبوين وثنيين وإن أباها حبسها في برج خوفا من أن تؤخذ منه لجمالها البارع, فبينما كانت في الحبس سمعت بوعظ "أوريجانوس" فكتبت غليه طالبة منه أن يعلمها الديانة المسيحية فأرسل إليها أحد تلاميذه فعلمها الديانة المسيحية وعمدها. وقيل: إنه لما بلغ أباها ذلك سلمها على الوالي فعذبها عذابا مبرحا فتهيأ لها الهرب على أحد الجبال فجد في طلبها والدها إلى أن أدركها فاحتز بالسيف رأسها. ويقال: إنه أصيب وهو راجع بصاعقة مات بها قصاصا له, ومن ثم اتخذت محامية للملاحين في النوء وللطبجية وتصور غالبا وبجانبها برج ولها عيد يحتفل به في 4 كانون الأول ومن عادة أهالي الشرق أن يتخذوا ليلة عيدها حلويات من قطائف وعوامات ونحوها وأن يطوفوا على البيوت مساخر مؤلفة من أولاد ورجال قد غيروا زيهم وصبغوا وجوههم بالسواد ولا يعلم بالتحقيق أصل هذه العادة وربما كانت تذكار سعي أبيها مع جماعة من الشرط في طلبها, وربما كان الشرط من السودان فيكون ذلك أصلا لصبغ الوجوه بالسواد. برنيقة ابنة لاغوس وأنتيفونه كانت من أجمل وأعقل نساء زمانها صاحبة رأي صائب, وفكر ثاقب. ولما تزوج "بطليموس الأول" ب "أورديفي" بنت ملك سوريا توجهت في موكبها "برنيقة" وكان لها احتفال عظيم, ومن جمالها ومهارتها وإتقانها تزوج بها "بطليموس" وصارت زوجة ثالثة له وأقنعته بأن يجعل ابنها "بطليموس فيلازلفوس" خليفة له دون ابن آخر له أكبر منه من "أورديفي" وقد شهر حكمتها وفضلها كل من "جلوترخوس" و"شيوكرأتوس" وبعد وفاتها قضى بها بإكرامات إلهية. برنيقة ابنة بطليموس الثاني الملقب "فيلازلفوس" وزوجته, "أنطيوخس الثاني", ملك سوريا الملقب ب "توس" فإن "أنطيوخس" عقد معاهدة سنة 294 قبل الميلاد قيل بموجبها: أن يطلق زوجته "لبوديكة" ويتزوج "برنيقة", لكن عند موت "فيلازلفوس" بعد ذلك بسنتين أرجع "أنطيوخس" "لبوديكة" وطلق "برنيقة" في دورها ولكن "لبوديكة" لم تركن إلى "أنطيوخس" فدست إليه سما مات به, وهربت طبرنيقة" من وجه "لبوديكة" على دفنى فقتلها هناك مع ابنها وأتباعها قوم من حزب "لبوديكة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 برنيقة ابنة ماغاس ملك القيروان هي زوجة "بطليموس الثالث" ملك مصر الملقب "أفرجيتس" وعذبها أبوها "بطليموس" هذا ومات بعد ذلك بقليل وأما أمها فكانت راغبة جدا عن اتخاذ هذا القرين لابنتها ولكي تمنع تزويجها به عرضتها على "ديمتريوس بوليورستس", ولكن عند وصول "ديمتريوس" على القيروان ليتخذها زوجة علق قلب أمها به فغاظ "برنيقة" تفضيل "ديمتريوس" لأمها عليها فسعت في قتله وهو على ذراعي الملكة وحينئذ ذهبت إلى مصر وتزوجت ب "أفرجيتس" وعند رجوع زوجها من سفره على سوريا, فإيفاء لنذر كانت نذرته قدمت شعرها على الزهرة, ولما علم "بطليموس الرابع" الملقب ب "فيلوباتر" هذه التقدمة أمر بقتلها فقتلت وذلك عند جلوسه على سرير الملك. برنيقة ابنة بطليموس الثامن الملقب "لاسيروس" ملك مصر وتسمى أيضا "كليوباترة" وهي زوجة إسكندر الثاني أي "بطليموس العاشر" أجلسها أهل الإسكندرية على تخت الملك بعد وفاة أبيها سنة 81 قبل الميلاد, فقبل إسكندر الذي جعل ملكا ل "سلابان" بأن يتخذها زوجة ويشاركها في الملك إلا أنه بعد أن تزوج بها بتسعة عشر يوما سعي في قتلها ويقال: إن ذلك غاظ أهالي الإسكندرية جدا فخرجوا عليه وقتلوه. برنيقة ابنة بطليموس الحادي عشر المقلب ب "أفليتس" وهي أكبر أخت ل "كليوباترة" المشهورة نودي باسمها ملكة عند خلع أبيها سنة 58 قبل الميلاد, وكانت تحب أن تتزوج بأمير من دم ملكي فأرسلت إلى سوريا في طلب "سلوقس كببوساكتس" الذي كان يدعي أنه من سلالة السلوقين الملكية, ولما وجدت ما كان عليه من الدناءة أمرت بخنقه بعد ذلك بأيام قليلة, ثم تزوجت ب "أرخيلاوس" من "كومونا" الذي كان يدعي أنه ابن "متريداتس أوباتور" وإن "افلوس غابينوس" الذي كان يحاول رد "أفليتس" على تخت الملك حاربها فكسرها هي وزوجها في ثلاث معارك متوالية سنة 55 قبل الميلاد, وقتل "أرخيلاوس" وأول أعمال "افليتس" بعد جلوسه على تخت الملك أنه أمر بقتل ابنته المذكورة. برنيقة ابنة كوستوبارس وسالومي هي أخت "هيرودس" الكبير ملك اليهودية تزوجت بابن عمها "أرسطو بولس" فعيرها "أرسطو بولس" بدناءة أصلها فشكته إلى أمها فزاد بذلك العدوان على زوجها وبعد أن قتل سنة 6 قبل المسيح تزوجت ب "ثوربون" خال "أنتيياتر" وهو اكبر ابن ل "هيرودس" وبعد وفاة "ثوربون" ذهبت مع أمها إلى رومية وبقيت هناك على أن أدركتها المنية وهي أم "أغريبال الأول". برنيقة ابنة أغريبال الأول تزوجت "هيرودس" ملك "كلخيدة" فرزقت منه ولدين وعند موته سنة 47 بعد الميلاد بقيت مع أخيها "أغريبا" مدة, ثم تزوجت ب "وليمون" ملك "كليكية", ثم تركته وكانت مقيمة في بيت أخيها عندمااحتج "بولس" الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أمامه في قيسريا وفي حصار أورشليم رآها "نيطس" فسباه حسنها، فأخذها معه إلى رومية، فرغب أن يتزوج بها ولكن اضطره الرأي العام في رومية إلى إرجاعها إلى اليهودية ضد إرادته وإرادتها وقد بنى "راسين" على فراقهما تراجيدية مشهورة. بريجيتا القديسة ولدت في "أسوج" سنة 1302 للميلاد، وتوفيت في "رومية" في 23 تموز سنة 1373م، ويظن أنها ابنة "برجر" وهو برنس أسوجي من سلالة ملوك الغطيط، ولما كان عمرها 16 سنة تزوجت ب "أولغو" فكان لها منه ثمانية أولاد والكبيرة منهم جعلت في درج القديسين الروماني باسم القديسة "كاترينا" الأسوجية، ثم نظر الوالدان العفة وبنيا مستشفى خيرية كانا يخدمان فيه بنفسهما وسافرا لزيارة "سنتياغوري كومبستلا"، وبينماكانا راجعين عزم "أولغو" على دخول دير "الفستري"، وتوفي سنة 1344م وحينئذ قسمت زوجته الأملاك بني أولادها وبنت ديرا كبيرا في "ورستينا" جعلت فيه 25 راهبا وستين راهبة وذلك على قانون مار "أوغسطنيوس" فصرفت هناك سنتين منفردة لا تقابل أحدا، ثم ذهبت إلى رومبة فبنت هناك منزلا للمسافرين والطلبة من الأسوجيين وذهبت إلى أورشليم لزيارة الأماكن المقدسة، ثم رجعت إلى رومية فثبتها البابا "بونيفاشيوس التاسع" سنة 1391م، والكنيسة الرومانية تعيد لها في 8 تشرين الأول، وكانت "بريجيتا" مشهورة في "رومية" على الأكثر بواسطة إعلاناتها وعلى الخصوص المتعلقة بآلام يسوع المسيح، والحوادث التي كانت مزمعة أن تجري في بعض الممالك وقد كتبت عن لسانها ولكن طعن "برسون" في تلك الأخبار بعبارات قاسية إلا أن مجمع باسل ثبتها بعد أن فحصها بالتدقيق "جون دوترا كريماتا" ومن جملة كتاباتها: خطاب في مدح مريم العذراء، وصلوات عن أم المسيح ومحبتها. بريرة مولاة عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- وكانت مولاة لبعض بني هلال. وقيل: كانت مولاة لأبي أحمد بن جحش. وقيل: كانت مولاة أناس من الانصار فكاتبوها ثم باعوها من عائشة فأعتقها ولما أرادت عائشة أن تشتري بريرة اشترطوا عليها الولاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم::الولاء لمن أعطى الثمن" أو "لمن ولي النعمة". وكان اسم زوجها مغيثا وكان مولى فخيرها رسول الله فاختارت فراقه، وكان يحبها فكان يمشي في طرق المدينة وهو يبكي واستشفع إليها برسول الله فقال لها فيه فقالت: أتأمر؟ قال: "بل أشفع"، قالت: فلا أريده، وكان عبدا وقد جعل النبي عدة بريرة حين فارقها زوجها عدة المطلقة. وروي عن عبد الملك بن مروان أنه قال: كنت أجالس بريرة بالمدينة فكانت تقول لي: يا عبد الملك، إني أرى فيك خصالا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر فإن وليته فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق". بركة خوند والدة السلطان الأشرف كانت أمة مولدة، فلما أقيم ابنها في مملكة مصر عظم شأنها وحجت سنة 770م بتجمل كثير وبرج زائد وعلى محفتها العصائب السلطانية والكؤوسات تدق معها ومعها ما يجل وصفه من ذلك قطار جمال محملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 مخائر قد زرع فيه البقل والخضراوات وعند قدومها خرج السلطان بعساكره إلى لقائها، وسار إلى البويب حتى تقابل معها وسار بركابها حتى وصلت لى مصر، وكانت خيرة عفيفة لها بر كثير ومصروف تحدث النسا بحجتها عدة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة في تلك المشاهد الكريمة، وكان لها اعتقاد في أهل الخير ومحبة في الصالحين. ومن مآثرها المدرسة المشهورة بمدرسة أم السلطان خارج باب زويلة بقرب القلعة بمصر يعرف خطها الآن بخط التبانة وكان مضعها مقبرة أنشأتها سنة إحدى وسبعين وسبعمائة وعملت بها درسا للشافعية ودرسا للحنفية، وعلى بابها حوض ماء للسبيل وهي من المدارس الجليلة وفيها دفن الملك الأشرف بعد قتله وبقيت مدة تجتمع فيها الطلبة والمدرسون يدرسون فيها جميع العلوم حتى صارت أخيرا جامعا بمعرفة أحد ولاة مصر مقام الشعائر لغاية الآن. وتوفيت الست المشار إليها سنة 774 هجرية، ودفنت بمدرستها المذكورة واتفق حين ماتت أنه أنشد الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى الأعرج هذين البيتين: في ثامن العشرين من ذي القعدة ... كانت صبيحة موت أم الأشرف فالله يرحمها ويعظم أجرها ... ويكون في عاشور موت اليوسفي فكان كما قال وغرق الحائل يوسف في شهر محرم سنة 775هـ. برة ابنة عبد المطلب الهاشمية كانت من الشاعرات الأديبات ذوي المعاني الرائقة، والألفاظ الموزونة المتناسقة رثت أباها عبد المطلب في حال حياته مع أخواتها بناء على طلبه بقولها: أعيني جودا بدمع درر ... على طيب الخيم والمعتصر على ما جد الجد وارى الزناد ... جميل المحيا عظيم الخطر على شيبة الحمد ذي المكرمات ... وذي المجد والعز والمفتخر وذي الحلم والفضل في النائبات ... كثير المكارم جم الفخر له فضل مجد على قومه ... منير يلوح كضوء القمر أتته المنايا فلم تشوه ... بصرف الليالي وريب القدر بصيص جارية ابن نفيس كانت أعجوبة وقتها في الحسن والغناء ويتمنى كل من سمع بها رؤيتها ولو بذهاب نفسه ولشدة رغبة الناس في سماع صوتها قال بعضهم فيها هذه الأبيات: بصيص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبدلت فأنا الهلال سبحانك اللهم ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال إذا دعت بالعود في مشهد ... وعاونت يمنى بيد الشمال غنت غناء يستفز الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدلال وتذاكروا بخل مزيد أبي إسحاق في مجلسها وما وكان من جملتهم ابن مصعب فقالت: أنا آخذ منه درهما فقال مولاها: إن فعلت جعلتك حرة وكسوتك ثوب وشي، وأولمت لك يوما فقالت: ارفع الغيرة، فقال: إن رفع رجليلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لم أقل شيئا فخرج ابن مصعب فرأه في مسجد بالمدينة فقال له: يا أبا إسحاق أما تحب أن ترى "بصيص" جارية ابن نفيس؟ فقال: امرأتي طالق إن لم يكن الله ساخطا علي فيها، وإن لم أكن أسأله أن يرينيها منذ سنة فما يفعل. فقال له: اليوم إذا صليت العصر فوافني ههنا. قال: امرأتي طالق إن برحت من هنا حتى تجيء صلاة العصر. قال: فانصرفت في حوائجي حتى العصر فدخلت المسجد فوجدته فيه فأخذته بيده وأتيتهم به فأكلوا وشربوا وتساكر القوم وتناوموا، فأقبلت "بصيص" على مزيد فقالت له: يا أبا إسحاق كأن نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة: لقد حثا الجمال ليه ... ربوا منا فلم ينلوا فقال: امرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ. قال: فغنته، ثم سكتت ساعة وقالت: يا أبا إسحاق، كأن نفسك تشتهي أن تقوم فتجلس إلى جانبي وتقرصني قرصات وأغنيك: قالت وأبثثتها وجدي فبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستر الست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري فقال: امرأتي طالق إن لمت كوني تعلمين ما في الأرحام وما تكسب الأنفس غدا وبأي أرض تموت، فغنته ثم قالت: برح الخفاء أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني وأغنيك هزجا: أنا أبصرت بالليل ... غلاما حسن الدل كغصن البان قد أصب ... ح مسقيا من الطل فقال: ا، ت نبية مرسلة فقبلها وغنته، ثم قالت: يا أبا إسحاق أرأيت أسقط من هؤلاء يدعونك ويخرجونني إليك ولا يشترون ريحانا بدرهم؟ يا أبا إسحاق هلم درهما أشتري به ريحانا، فوثب وصاح: واحرباه، أي زانية أخطأت إستك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحى إليك، وغطغط القوم وعلموا أن حيلتها لم تنفذ فيه، ثم خرج ولم يعد إليهم وأعاد لاقوم مجلسهم فكان أكثر شغلهم في حديث مزيد، والضحك منه وبقيت "بصيص" في عز وإقبال مدة حياتها وهي تتفنن في ضروب الألحان حتى فاقت أهل زمانها. بلقيس ملكة سبأ المشهورة قصتها مع النبي سليمان بن داود ورد ذكرها في الكتب المنزلة واشتهرت في كتب التواريخ وضرب بها المثل في المجد والسلطان والجمال، وقد شرح العلماء تفاصيل سيرتها وسبب ورودها إلى سليمان بأقوال متباينة مرجعها إلى ما يأتي: قال المؤرخون في نسب بلقيس: إنها يلقمة بنت يشرع بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقيل: أبوها يشرح بن تبع ذي الأذعار بنتبع ذي المنار بن تبع الرائش، ويلقب "هاددأ" و"هداد". وقيل: اسمه الحارث بن سبأ. وقيل: الشيبصان. وقيل: شراحيل. وقال كثير من الرواة إن أمها كانت جنية ابنة ملك الجن واسمها رواحة أو ريحانة بنت السكن. وقيل: يلقمة بنت عمرو بن عمير الجني، وسبب اتصال أبيها بالجن أنه كان ملكا عظيم الشأن آخر أربعين ملكا من ملوك اليمن وملك كل تلك الأقاليم ولم يكن في ملوك الأرض من هو كفؤ له فكان يقول لهم: ليس أحد منكم يدانيني. وأبى أن يتزوج من الإنسا لرفعه شأنه فكان يخرج إلى الصيد ويصطاد الجان بصورة الظباء فيخلي عنها فظهر له ملك الجن وشكره على صنيعهن فاغتنمها فرصة وخطب ابنته فأجابه. وقيل: بل خرج مرة فوجد حيتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 سوداء وبيضاء تقتتلان، وقد ظفرت السوداء على البيضاء، فأمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصب علها ماء حتى أفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره فجلس منفردا، وإذا بجانبه شاب جميل فذعر منه فقال له: لا تخف أنا الحية التي أنجبتها وإني مكافئك بالمال أو علم الطب. فقال: أما المال فلا حاجة لي به وأما الطب: فقبيح بالملوك ولكني أختار إن كان لك ابنة أن أخطبها إليك فأجابه بشرط أن لا يغير عليها شيئا تعمله فإذا غير عليها فارقته وشرط أيضا أن تعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن فأذعن لذلك، ثم تزوج بالجنية فولدت له غلاما وألقته في النار فجزع لذلك، ولكنه سكت للشرط، ثم ولدت جارية فألقتها إلى كلبة فعظم عليه الأمر ولكنه صبر، ثم عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار ليقاتله وهي معه، فلما صاروا في مفازة رأى جميع مامعهم من الزاد يخلط بالتراب والماء ينصب من أفواه القرب فأيقن بالهلاك وعلم انه فعل الجن بأمر زوجه فضاق ذرعا عن حمل الجور فأتى وجلس أمامها وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرت لك على إحراق ابني وإطعام ابنتي للكلب، ثم الآن قد فجعتنا بالزاد والماء حتى أشرفنا على الهلاك فقالت له: لو صبرت لكان خيرا لك فإن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الزاد والماء وتحقيق ذلك أنه يمتنع من شرب شيء من الماء الفاضل، فأمر وزيره بالشرب، فامتنع، فقتله، ثم دلته على نبع وميرة يمتارها ثم قال: وأما ابنك فقد سلمته إلى حاضنة تربيه وقد مات، وأما ابنتك فهي باقية وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس وفارقته زوجته وسار إلى عدوه فظفر به وفوض إليها أبوها الملك فملكت بعده. وقيل: بل مات بلا وصية. فاختلف النسا بعد موته، وافترقوا فرقتين: فرقة بايعتها، وفرقة بايعت ابن أخ أبيها. فساء السيرة في الرعية وكان فاحشا خبيثا فاسقا لا يبلغه عن بنت جميلة إلا أحضرها وهتكها، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا، فلما رأت بلقيس ذلك أخذتها الغيرة وقد طلب منها الحضور غليه فقال له: بل احضر أنت عندي واعدت له رجلين يقتلانه إذا دخل قصرها، فلما حضر قتلاه فأحضرت وزراءه ووبختهم وقالت: أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته، ثم أترهم إياه قتيلا وقالت: اختاروا رجلا تملكونه فقالوا لا نرضى بغيرك. وقيل: بل هي عرضت نفسها عليه فقال: ما منعني إلا اليأس منك فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ففعل فسألوها فقالت: قد أجبت فلما زفت إليه سقته الخمر حتى سكر، فحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها، وأمرت أن تعلق رأسه على باب دارها، فلما رأى الناس ذلك علموا الحيلة فملكوها عليهم وقال قوم: إن أباها لم يكن ملكا بل وزير، وكان الملك قبيحا -يفعل ما تقدم ذكره- فقتلته بلقيس فملكوها عليهم فعظم شأنها وكثر جندها واتسع نطاق ملكها حتى قال بعضهم: إنه كان تحت يديها أربعمائة ملك، كل ملك منهم على كورة وله 40000 مقاتلا وكان لها 300 وزير يدبرون ملكها، وكان لها 12 قائدا يقود كل واحد 12 ألف مقاتل وبالغ بعضهم في ذلك. وأما عرشها الوارد ذكره في القرآن الحكيم فقيل: كان سريرا ضخما من ذهب وفضة مرصعا بالجواهر النفيسة، وكان في جوف سبعة بيوت عليها سبعة أغلاق كل بيت داخل الآخر وهو في آخرها. وقيل: كان مقدمه من الذهب منضدا بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ومؤخره من فضة مكللا بأنواع الجواهر واللالئ، وله أربع وقائم قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زبرجد أخضر، وقائمة من در أبيض، وصفائح السرير من ذهب، وقيل: أنفقت بلقيس على الكوة التي تدخل منها الشمس فتسجد لها ثلثمائة ألف أوقية من الذهب. قال ابن الأثير: فد تواطأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 على الكذب والتلاعب بعقول الجهال حتى يصدقوا المحال لأن أوصاف عرشها، وعدد جيوشها من الأمور التي لا يمكن تصديقها. وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها على يده فروي أن سليمان رأي يوما رهجا قريبا منه ولم يكن يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فسأل عن ذلك الرهج فقالوا: هو عرش بلقيس. فقال: (يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين) (النمل: 38-39) قال: أريد أسرع من ذلك فقال آصف ابن برخيا: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) (النمل: 40) ، وقيل: إن أحد بني إسرائيل قال لسليمان: أنت أقرب النسا إلى الله فلو طلت غليه لأحضره بأسرع ما يكون فصلى سليمان وإذا بالأرض انشقت وظهر العرش يتلألأ. وقيل: إن سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء من تحت الأرض فطلب الهدهد فلم يره. وقيل: بل أصابت الشمس سليمان فنظر ليرى من أين نفذت إليه لا، الطير كانت تظله فرأى موضع الهدهد فارغا فقال: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو لأتيني بسلطان مبين) (النمل: 21) . وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستانا لها خلف القصر فمال إلى الخضرة فرأى هدهدا فقال له: أين أنت من سليمان؟ وما تصنع هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله. فقال: وأين أنت من هذه الدنيا الواسعة والحدائق الأنيقة، والقصور الشاهقة، والرياض البهجة؟ فقال: ولمن هذا كله؟ فقال: هو لبلقيس صاحبة العرش العظيم ووصف له عرشها فأتى الهدهد إلى سليمان وأخبره بخبره فكتب لها سليمان كتابا وقال له: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) (النمل: 28) . فوافاها وهي في قصرها فرمى الكتاب في حجرها فقرأته وأرسلت أع لمت قومها بذلك وإذا بالكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي أتوني مسلمين) (النمل: 30-31) فقال قومها: (نحن أولا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) (النمل: 33) قالت: إني مرسلة إليهم بهدية فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى وإن لم يقبلها فهو نبي من الله وإني أمتحنه بها، ثم وجهت إليه الهدية وكانت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن وخمسمائة جارية على زي الغلمان كلهم على سروج الذهب والخيل الموسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالياقوت والمسك والعنبر وحقا فيه درة يتيمة، وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وأرسلتها مع أشراف رجالها المنذر بن عمرو وآخر ذي رأي عقل وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك غضبا فهو ملك فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئا لطيفا فهو نبي، فأعلم الله سليمان بذلك فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا مشرفة شرفة من ذهب وشرفة من فضة وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر أن يربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن فأقيموا على اليمين واليسار ثم قعد على كرسيه والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين والجن والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم منهم نظروا قرأوا الدواب تروث على الذهب فرموا بما معهم منها فلما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق، ثم قال: (أتمدونن بمال فما أتان الله خير مما أتاكم) (النمل: 36) ثم قال: أين الحق الذي فيه كذا وكذا فقدموه بين يديه، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء وقد جعل خيطا بفيها فمرت في ثقب الخرزة، ثم دعا بالماء وأمر الغلمان والجواري أن يغسلوا أيديهم ووجوههم فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله ف الأخرى وتضرب به وجهها والغلام كان يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية فرجع القوم وأخبروها بما شاهدوا فعلمت أنه نبي وأرادت الشخوص إليه في اثنى عشر ألف فيل. فلما قربت من مكانه قال حينئذ: من يأتيني بعرشها قبل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يأتوني مسلمين فأتى به - كما تقدم- وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد فلما علم الجن أنها آتية وأن سليمان ربما تزوجها فتفشي له أخبار الجن لأنها تربت عندهم، وانها إذا ولدت ولدا انتقل الملكإليه فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده أساءوا فيها القول وقبحوها له وقالوا: إنها غير عاقلة ولا تميز وإن رجليها كحافر الفرس وهي شعراء الساقين، فأراد سليمان أن يمتحن ذلك فنكر عرشها بأن جعل تبديلا في الجواهر حتى ينظر هل تعرفه وأمر أن يبنى له صرح من زجاج وأجرى تحته الماء وجعل فيه من دواب البحر حتى إذا رأته حسبته ماء فتكشف عن ساقيها فيتحقق الأمر. وقيل: بل بنى الصرح من قوارير زجاج وجعل له طريق من قوارير زجاج أبيض وتحت الطوابق صور دواب فصار كأنه البحر، وجلس سليمان على سرير في صدر المكان فلما وصلت بلقيس قيل لها: (أهكذا عرشك قالت كأنه هو) (النمل: 42) . ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء ههنا وقيل: إنها عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها فلم تقل نعم خوفا من الكذب ولا خوفا من التنكيت فعلم سليمان كمال عقلها ثم (قيل لها ادخلي الصرح فلما راتهحسبته لجة وكشفت عن ساقيها) (النمل: 44) ، لتخوضها وقد قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون علي من هذا فلما رآها سليمان صرف نظره عنها (قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي) (النمل: 44) ثم دعاها سليمان إلى الإسلام فأجابت فأراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها فسأل عن شيء يزيله ولا يضر الجسد فعلمت له الشياطين النورة وأشاروا بالحمام. قيل: فكان ذلك أول ظهور النورة فتزوجها وأحبها حبا شديدا وردها إلى ملكها باليمن وكان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، فولدت له غلاما سماه داود ومات في حياة سليمان. وقيل: أمرها سليمان أن تتزوج برجل من قومها فأنفت من ذلك وفقال: لا يكون في الإسلام إلا ذلك فقالت: إن لم يكن بد فزوجني ذا تبع ملك همذان فزوجه بها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها على الملك وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته فاستعملتهم ذا تبع في بناء عدة قصور حصينة منها (صلخين) . وقيل: (سلجين) و (مرواح) و (قليون) و (هنيدة) و (بنون) وقصر (غمدان) أشهرها فلما مات سليمان لم يطع الجن ذا تبع فانقضى ملكه وملك بقليس بموت سليمان. وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنه دفنها بتدمر وأخفى قبرها عن الناس. بكارة الهلالية كانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة، والإقدام، والفصاحة، والشعر، والنثر والخطابة حضرت مع علي بن أبي طالب حرب صفين ولها هناك مقالات حماسية جعلت كل من سمعها يقدم على الهلاك بدون مبالاة بالعواقب وقد دخلت على معاوية يوما وهو يومئذ بالمدينة وكانت قد أسنت وغشي بصرها وضعفت قوتها ترتعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال: كيف أنت يا خالة، قالت: بخير يا أمير المؤمنين قال: غيرك الدهر؟ قالت: كذلك هو ذو غير من عاش كبر، ومن مات فقد. فقال عمرو بن العاص هي والله القائلة يا أمير المؤمنين: يا زيد دونك فاحتقر من دارنا ... سيفا حساما في التراب دفينا قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا وقال مروان وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أترى ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وإن أراد بعيد منتك نفسك في الخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد وقال سعيد بن العاص وهي القائلة: قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى ... فوق المنابر من أمية خاطبا فالله أخر مدتي فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا في كل يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا ثم سكتوا فقالت: يا معاوية، كلامك أغشى بصري وقصر حجتي أنا والله قائلة ما قالوا وما خفي عليك مني أكثر فضحك. وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك اذكري حاجتك قالت: أما الآن فلا وانصرفت، فوجه إليها معاوية بجائزة سنية. بلنش ملكة فرنسا ولدت سنة 1187 م، وتوفيت سنة 1252 م وهي ابنة ألفونس التاسع ملك قسطيلة من زوجته ألينورا الإنكليزية ابنة هنري الثاني وكانت مقتدرة في الأمور السياسية ولما دعا الأمراء المتحالفون زوجها سنة 1216 م للجلوس على تخت إنكلترا ألحت عليه بإجابة طلبهم وأرسلت إليه مالا ونجدات ولكن نشأ عن موت الملك يوحنا وجلوس ابنه على تخت الملك خضوع الأمراء للحكومة وعند وفاة فيليب أوغسطوس وجلوس زوجها على التخت باسم لويس الثامن، كانت تقوده بحكمتها وحسن إدارتها وقد رافقته في الحرب الصليبية التي أقيمت على الألبيجوا وعند وفاته جعلت نائبة للملك في مدة قصر ابنها لويس التاسع. وسنة 1234 م زوجت ابنها وهو في سن 19 بمرغريتا البروفنسية وكان عمرها 12 سنة. وسنة 1236 م تنازلت عن نيابتها لابنها المذكور وكانت المملكة في أيامها زاهرة زاهية وقد ألحق بها أرض كبيرة مهمة وكان ابنها يعتمد رأيها ولا يدعها تفارقه إلا أنه دخل ضد إرادتها فيا لحرب الصليبية لإنقاذ الأرض المقدسة، وفي مدة غيابه تسلمت نيابة الأحكام وقابلت بحكمتها وإقدارها المعتادين الصعوبات الجديدة التي حدثت في تلك الأيام وكانت على الدوام ترسل المال والنجدات إلى ابنها لتساعده في تلك الحركة المشؤومة ولما انكسر هو وإخوته وأسروا في مصر التزمت أن تقوم بدفع فدية بليغة لإنقاذهم فنشأ عن ذلك ضرائب جسيمة خسرت بها البلاد ثروتها، ومع ارتباكاتها وتقواها تقاوم تعديات خدمة الدين بنشاط عظيم، وقد حمت منهم بنجاح حقوق التاج الملكي. وقد ناحت البلاد عموما ولبست الحداد عند موتها وهي تحسب من أشهر من حكم فرنسا. بمبادور خليلة لويس الخامس عشر ولدت سنة 1721 م وفي باريس، توفيت في فرساليا سنة 1794 م، وهي ابنة جزار قد ربتها أمها تربية حسنة وزوجها سنة 1741 م بملتزم أعشار، وبعد ذلك بقليل رآها الملك وهو يتصيد في غابة سنبرت فعلق قلبه بها ولكن لم يظهر ذلك إلا بعد وفاة مادام ده شانور. وسنة 1744 م وقد رافقت لويس في حرب فونتنوا في أيار سنة 1745 م وعند رجوعها عرفت بمركيزة بمبادور وكانت تعضد العلوم والصنائع وبمساعدة فولتر وبربي رتبت أعيادا زاهرة حتى أنها بعد أن ضعف حبا لملك لها حافظت على سطوتها بجعلها نفسها ضرورية لراحته ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بعد قليل أخذت تريحه من أتعاب الأحكام وكانت تتداخل في المالية وتعزل وتولي الوزراء وتقرب إليها الجنسينين والكوبتبين والكفار والمجلس كلا في دوره لكي يكون لها عضد من جميع الأحزاب، وقد تملقتها مريا تريزا بإرسالها لها كتابا بخط يدها، وغضبت من فردريك الثاني لطعنه في حكومتها فعقدت محالفة بين فرنسا والنمسا ضد بروسيا، نشأ عنها حرب السبع سنين المهلكة. وسنة 1757 م حاول داميان قتل الملك فاضطرها الأمر أن تخرج من البلاط ولم يمض إلا قليل حتى دعيت إليه ثانية فسعت في معاقبة الوزراء الذين أشاروا بطردها وكانت سطوتها في تعيين المأمورين العسكريين من أعظم أسباب قتلا لعساكر في الحرب، فتوفيت مصحوبة ببعض الشعب وعدم أسف الملك، وكان لها زيادة على مرتبها السنوي الباهظ مداخيل جسيمة فيا لعقارات، وكانت تعطي الفقراء بسخاء وتساعد المخترعين والصناع، وأصحاب المعارف. وجمعت كمية عظيمة من أعمال الصناعة والتحف. وكانت ماهرة في التصوير والنقش وقد كتب كثيرون سيرة حياتها وينسب إليها ترجمات ورسائل ليست لها. بنلوبا زوجة عولس اليوناني هي أم تلبماك ابنة أبكاريوس وقد خطبها كثيرون ولكن أباها وعد بها من يغلب في سباق العدو فغلب عولس. ولما ألح عليها أبوها أن تبقى معه ولا ترافق زوجها إلى أنباكي سمح لها زوجها بأن تفعل كما تشاء فأظهرت عزمها على مرافقته بسترها وجهها بمنديل خجلا ولما كان عولس في حصار تروادة أحاط بها عشاق كثيرون ألحوا عليه بإجابة طلبهم فخدعتهم بقولها إنه يجب أن تكمل كفنا كانت تنسجه لعمها الشيخ قبل أن يقر رأيها إلا أنها كانت تحل ليلا كل ما كانت تنسجه نهارا فلما عرف عشاقها بمكيدتها كان عولس قد رجع بعد أن غاب 20 سنة فقتلهم جميعا. وقد أشاع بعض المضادين لها ولدت بنتا من عشاقها فطلقها زوجها عند رجوعه من تروادة، فذهبت عند ذاك إلى إسبرطه ومنها إلى منتينا وقد استدل قوم على قبرها هناك بعد ذلك بزمان طويل. بهية ابنة عبد الله البكري من بكر بن وائل وفدت مع أبيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايع الرجال وصافحهم وبايع النساء ولم يصافحهن قالت: فنظر إلي ودعاني ومسح رأسي ودعا لي ولولدي، ولما رجعت وتزوجت كثرت علي الأولاد وامتلأ المنزل، وخشيت الفقر من كثرة العيال وكان عدد أولادي ستين ولدا، وأربعون رجلا وعشرون امرأة، فاستشهد منهم عشرون في الجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولم يعلم بامرأة ولدت ستين ولدا غير هذه فسبحان الخالق الرازق. بوديسيا ملكة ألايسينه هي أم قبيلة بريطانيا كان موطنها ما يدعى الآن ببلاد كمبردج وسفولك ونورفولك وهردفرد، توفيت نحو سنة 62 بعد المسيح ولما توفي زوجها بارسوتغوس ملك ألايسينه جعل ابنتيه مع الإمبراطور نيرون ورثة لثروته العظيمة لأنه كان يأمل أنه بذلك يحفظ عائلته ومملكته من تعديات الغزاة ولكن حالما مات أخذ قائد المائة الروماني مملكته وجلدت الملكة البريطانية جهارا لذنب حقيق أو وهمي، وتركت بناتها لشهوة العبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فاستغنمت بوديسيا فرصة غياب سويتونيوس باولينوس الحاكم الروماني من تلك الجهة من إنكلترا وجمعت كل القوة العسكرية من شيعتها البرابرة وثارت في مقدمتهم على مستعمرة لندن الرومانية وقتلت بالسيف في تلك المستعمرة والأماكن المجاورة لها سبعين ألفا على الأقل من الرومان والتجار والإيطاليان، وغيرهم من رعايا الملكة، فبادر سويتونيوس إلى محل تلك القطائع، وكان تحت قيادة ملكة ألايسينه 120 ألف جندي وكان عددهم يتزايد شيئا فشيئا حتى بلغوا 230 ألفا حال كون سويتونيوس لم يكن قادرا أن يأتي إلى ميدان القتال بعشرة آلاف جندي فانتشبت نيران القتال، وأظهرت بوديسيا شجاعة عظيمة، ولما قهرت العساكر الرومانية المنتظمة عساكرها أخذت سما وابتلعته فماتت به، وأما الغالبون فلم يعفوا عن شيء فإنهم قطعوا الأولاد والدواب والكلاب جميعا إربا. ويقال: إنه ذبح في ذلك اليوم ثمانون ألف بريتوني وأما العساكر الرومانية فلم يقتل منها إلا 400 شخص وجرح بقدرهم. بوران ابنة أبرويز بن هرمز كانت من أحسن نساء بني الترك والفرس وملكت الناس بعد شهريار بن أبرويز وأصلحت القناطر والجسور، وردت خشبة الصليب إلى ملك الروم، ولما جلست على السري قالت: ليس ببطش الرجل تدوخ البلاد، ولا بمكايدهم ينال الظفر وإنما ذلك بعون الله وقدرته وأقامت سبعة أشهر ويقال: إن فيروز بن رستم صاحب خراسان خطبها فقالت: لا ينبغي للملكة أن تتزوج علانية وواعدته أن يقدم عليها سرا في ليلة عينتها له فجاءها في تلك الليلة فقتلته، فسار إليها رستم فقتلها، وذلك بخبر طويل في تاريخ الفرس. بوران ابنة الحسن بن سهل كانت أحسن نساء زمانها وأجملهن وأكرمهن أخلاقا، وأفضلهن أدبا وأوفرهن عقلا، لها إلمام بصناعة الطرب. تربت في بيت أبيها أحسن تربية، وخالطت نساء الرشيد، واكتسبت من آدابهن. ولما ولي المأمون الخلافة افتتن بها وخطبها من أبيها الحسن، وكان وزيره بعد أخيه الفضل بن سهل، وقد زفت إليه بناحية فم الصلح (بلدة من العراق) في شهر رمضان سنة 210 هجرية. فلما دخل عليها كانت عنده حمدودة بنت الرشيد وزبيدة بنت جعفر وأم الفضل والحسن جدة بوران فنثرت عليه أم الفضل ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون فأمر بجمعها فجمعت فأعطاها لبوران وقال: هذه نحلتك وسلي حوائجك، فأمسكت فقالت لها جدتها: سلي سيدك، فقد أمرك أن تسأليه، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي فقال: قد فعلت وسألته الإذن لزبيدة في الحج فأذن لها وبنى بها في ليلته وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عبروا وزنها أربعين منا، وأنفق الحسن على المأمون مالا جزيلا قيل: إنه أقام عند الحسن تسعة عشر يوما يعد له في كل يوم ولجميع من كان معه ما يحتاجون إليه، فكان مبلغ النفقة عليه خمسين ألف ألف درهم، وأمر له المأمون عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم، وأقطعه فم الصلح - المذكورة - فجلس الحسن وفرق المال على قواده وحشمه وعسكره. وقيل: احتفل أبوها بأمرها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من الأعصر فإنه نثر على الهاشميين والقواد والوجود بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وجوار ودواب وغير ذلك فكانت النبدقة إذا وقعت بيد رجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة فإذا علم ما فيها ذهب إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويستلم ما فيها، ثم نثر على سائر الناس الدنانير والدراهم، ونوافج المسك، وبيض العنبر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المأمون وقواده وجميع أصحابه وأجناده وأتباعه وكانوا خلقا لا يحصون وعلى الحمالين والمكارية والملاحين وكل من ضمه عسكره فلم يكن في العسكر من يشتري شيئا لنفسه أو لدابته وقد قالت الشعراء والخطباء في ذلك الزفاف أشياء كثيرة ومما يستطرف في ذلك قول محمد بن حازم الباهلي: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من وبقيت "بوران" عند المأمون إلى أن توفي سنة 218هـ، وتوفيت هي سنة 271 هـ وعمرها 80 سنة. بيلمون زوجة السلطان أوزبك قال ابن بطوطة في "رحلته": اسمها "بيلون" - وهي ابنة ملك القسطنطينية العظمى السلطان "تكفور"- قال: لما مررنا ببلاد السلطان "أوزبك" ودخلنا عليه التزمنا بعد خروجنا من عنده أن ندخل على الملكة "بيلون" زوجته حسب عادة تلك الديار أنه متى زار أحد الملك يلزم أن يزور أزواجه وعائلته، وأكابر مملكته، فدخلنا على هذه الخاتون وهي قاعدة على سرير مرصع قوائمه فضة وبين يديها نحو مائة جارية، روميات، وتركيات، ونوبيات منهن قائمات وقاعدات، والفتيات على رأسها، والحجاب بين يديها من رجال الروم. فسألت عن حالنا ومقدمنا وعن بعد أوطاننا وبكت ومسحت وجهها بمنديل كان في يدها رقة منها وشفقة، وأمرت بالطعام فأحضر وأكلنا بين يديها، ولما أردنا الانصراف قالت: لا تنقطعوا عنا وترددوا علينا، وطالبونا بحوائجكم وأظهرت مكارم الأخلاق وبعثت في أثرنا بطعام وخبز كثير وسمن وغنم ودراهم وكسوة جيدة وثلاث من جياد الخيل وعشرة من سواها -قال-: وبقيت هذه الخاتون عند السلطان "أوزبك" مدة طويلة وهي تتفقدنا بخيراتها ومبراتها حتى قصدت الذهاب إلى القسطنطينية فذهبت معها وكان ذهابها لأجل زيارة أهلها ومكثت ولم ترجع لزوجها إلى أن ماتت. حرف التاء تحفة الزاهدة هي جارية لبعض تجار بغداد كانت بارعة في الجمال تحسن صنعة العود وكان سيدها صرف عليها ماله وزاد في تعليمها وتهذيبها وكان شراؤها عليه بعشرين ألف درهم وغايته الربح فيها مثل ثمنها لحسن صنعتها وكمال أدبها واستقامتها فبينما هي يوما جالسة والعود في حجرها وهي تغني وتقول: وحقك لانقضت الدهر عهدا ... ولا كدرت بعد الصفو ودا ملأت جوانحي والقلب وجدا ... فكيف ألذ أو أسلو أو أهدأ فيا من ليس لي مولى سواه ... تراك تركتني في الناس عبدا ثم كسرت العود وقامت وبكت وانتحبت فاتهمها سيدها بمحبة إنسان فاستقصى عن ذلك فلم يجد له أثرا فحار سيدها في أمره ولم يجد لها سلوى عن الاكتئاب والهيام وقيام الليل ومناشدة الأشعار وطول التذكار وتشتت الأفكار فسألها عما أصابها فأنشدت تقول: خاطبني الحق من جناني ... فكان وعظي على لساني قربني منه بعد بعد ... وخصني الله واصطفاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أجبت لما دعيت طوعا ... ملبيا للذي دعاني وخفت مما جنيت قدما ... فأوقع الحب بالأمان ولما أعيته الحيل ذهب بها المارستان راجيا أن تشفى مما أصابها ولما دخلت البيمارستان أودعوها في حجرة مغلولة اليدين مقيدة الرجلين فلما رأت ذلك بكت بكاء مرا وأنشدت تقول: أعيذك أن تغل يدي ... بغير جريمة سبقت تغل يدي إلى عنقي ... وما خانت وما سرقت وبين جوانحي كبد ... أحس بها قد أحترقت وحقك يا منى قلبي ... يمينا برة صدقت فلو قطعتها قطعا ... وحقك عنك ما رجعت ويروى عن السري السقطي أنه قال: دخلت يوما على تحفة في المارستان فوجدتها أنضر الناس وجها وعليها أطمار حسنة، فشممت منها رائحة عطرية وهي تفوح شذاها إلى خارج المارستان، فسألت القيم عنها فقال: هي جارية مملوكة قد اختل فحبسها مولاها لعلها تنصلح، فلما سمعت كلامه اغرورقت عيناها بالدموع، ثم أنشدت: معشر الناس ما جننت ولكن ... أنا سكرانة وقلبي صاحي أغللتم يدي ولم آت ذنبا ... غير جهدي في حبه وافتضاحي أنا مفتونة بحب حبيب ... لست أبغي عن بابه من براح فصلاحي الذي زعمتم فسادي ... وفسادي الذي زعمتم صلاحي ما على من أحب مولى الموالي ... وارتضاه لنفسه من جناح قال السري: فسمعت ما أقلقني وأشجاني، وأحرقني وأبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري، هذا بكاؤك من الصفة فكيف لو عرفته حق معرفته ثم أغمي عليها، فلما أفاقت جعلت تقول: ألبستني ثوب وصل طاب ملبسه ... فأنت مولى الورى حقا ومولائي كانت بقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء قلبي حزين على ما فات من زللي ... والنفس في جسدي من أعظم الداء والشوق في خاطري مني وفي كبدي ... والحب مني مصون في سويداء إليك منك قصدت الباب معتذرا ... وأنت تعلم ما ضمته أحشائي فقال لها السري: يا جارية سمعتك تذكرين المحبة فلمن تحبين؟ قالت: لمن تعرف إلينا بنعمائه وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب، مجيب لطلب المحبوب، سميع عليم، بديع حكيم، جواد كريم، غفور رحيم، ثم أنشأت تقول: قلبي أراه إلي الأحباب مرتاحا ... سكران من راح حب بالهوى باحا يا عين جودي بدمع خوف هجرهم ... فرب دمع أتى للخير مفتاحا ورب عين رآها الله باكية ... بالخوف منه تنال الروح والراحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لله عبد جنى ذنبا فأحزنه ... فبات يبكي ويذري الدمع سفاحا مستوحش خائف مستيقن فطن ... كأن في قلبه للنور مصباحا قال السري: فبينما نحن كذلك إذا بسيدها أقبل فقال للقيم: أين تحفة؟ قال: هي في الداخل، وعندها السري السقطي -رضي الله عنه- ففرح سيدها ودخل وسلم عليه وعظمه فقال له السري: هي أولى بالتعظيم مني فما الذي تكرهه منها حتى حبستها ههنا؟ فقال: أمور كثيرة، وجعل يعدد له خصالها فقال له السري: علي الثمن وأزيدك فصاح سيدها وا فقراه! من أين لك ثمن هذه الجارية وأنت رجل فقير؟ فقال له: لا تعجل دعها في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم ذهب باكي العين رأفة على الجارية حتى طرق باب أحمد بن المثنى فأخبره بالخبر، فدفع له ثمنها ومثله معه، فلما كان الغد أقبل إلى المارستان فقال له: قد جئتك بثمن الجارية ومثله معه فقال: لا والله لو أعطيتني الدنيا ما قبلت بل هي حرة لوجه الله تعالى فلما سمعت ذلك بكيت بكاء مرا وأنشأت تقول: هربت منه إليه ... بكيت منه عليه وحقه هو مولى ... لا زلت بين يديه حتى أنال وأحظى ... بما رجوت لديه وتوجهت إلى مكة وهناك دخلت الكعبة وجعلت تقول: محب الله في الدنيا سقيم ... تطاول سقمه فدواه داه سقاه من محبته بكأس ... فأرواه المهيمن غذ سقاه فهام بحبه وسما إليه ... فليس يريد محبوبا سواه كذاك من ادعى شوقا إليه يهيم بحبه حتى يراه ثم مكثت على ذلك مدة وهي بين الخوف والرجاء إلى أن توفاها الله بمكة المكرمة وبعدما خرجت من المارستان سأل السري السقطي مولاها عن سبب عتقه لها وعدم قبوله ثمنها بعدما كان مشددا على لزوم استلام الثمن إن وجد من يدفعه إليه ولما عرض عليه ازدراه واستهزأ بقوله ظانا أنه لا يقدر على ثمنها فقال له مولى الجارية أنه بعدما حصل منه ذلك راجع صوابه وقال: إن السري السقطي مع ضيق ذات يديه وعدم اقتداره على ثمن جارية مثل هذه تعهد بأن يستحضر ثمنها ولا بد ذلك أن يكون من أهل الخير وليس هم بأكرم مني حالة كوني قادرا على عمل الخير بدون أن يحصل لي ضرر وغلب على الكرم ففعلت ما فعلت وأرجوك الدعاء فدعا له السري بإصلاح حاله، وبزيادة البركة في ماله، وتصدق بثمن الجارية الذي استحضره من أحمد بن المثنى المار ذكره. تذكارباي خاتون هي ابنة الظاهر "بيبرس" كانت تقية صالحة محبة للخير مقربة للفقراء، وأخصهن النساء الصالحات حتى إنها من محبتها لهن بنت لهن رباطا وسمته برباط البغدادية، وصفه المقريزي بقوله: إن هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه "بيبرس" حيث كان المتجر ومن الناس من يقول: رواق البغدادية وهذا الرباط بنته الست الجليلة "تذكارباي خاتون" ابنة الملك الظاهر "بيبرس" في سنة 684 هـ للشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية فأنزلتها به، ومعها النساء الخيرات وما برح إلى وقتنا هذا (أي وقت المقريزي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يعرف سكانه من النساء بالخير وله دائما شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن، وآخر من أدركنا فهي الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها زينب بنت فاطمة بنت عباس البغدادية، توفيت سنة 714 هـ في ذي الحجة، وقد أنافت على الثمانين وكانت فقيهة، وافرة العلم، زاهدة، قانعة باليسير، عابدة، واعظة حريصة على النفع والتذكير ذات إخلاص وخشية وأمر بالمعروف. انتفع بها كثر من نساء دمشق ومصر وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس وصار بعد كل من قام بمشيخة هذا الرباط من النساء يقال لها البغدادية أقامت به عدة سنين على أحسن طريقة إلى أن ماتت يوم السبت لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة 796 هـ، وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلقن أو هجرن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن لما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات. ثم لما فسدت الأحوال في عهد حدوث المحن بعد سنة 806 هـ تلاشت أمور هذا الرباط ومنع مجاوروه من إقامة النساء المتعبدات فيه، وهذا الرباط قد زال بالكلية وبني في محله الآن الحوانيت المتسعة على باب الدرب الأصفر. تركان خاتون الجلالية ابنة طغفاج خان من نسل فراسياب التركي هي زوجة السلطان "ملكشاه" ووالدة السلطان "محمود بن ملكشاه" كانت من النساء العاقلات الدينات والحكيمات المدبرات. شهدت لها التواريخ وألسنة الأقلام بالحكمة والتدبير وعلو الهمة والإقدام، وكانت مطاعة في أوامرها، مسموعة الكلمة عند أمراء المملكة، محبوبة لديهم. وكانت تبذل لهم العطايا والإقطاعات وكان زوجها لا يرد لها طلبا وهي المالكة والمشاركة له في الملك، وكانت من حسن سياستها وتدبيرها، توصلت لأن تصاهر الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي، وذلك من كثرة ترددها على حريم الخلافة ومعها ابنتها "خاتون" وهي كانت من الجمال على جانب عظيم وصفوها للمقتدي فأحبها على الوصف وأرد الاقتران بها، فأرسل الوزير فخر الدولة أبا نصر بن جهير إلى السلطان يخطب منه ابنته للخليفة فقال له: إن ذلك مما يزيدني شرفا، ولكن الأمر في ذلك إلى والدتها "تركان خاتونه" فيجب أن تذهب إليها. وأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى "تركان خاتون" ويتكلم معها في هذا المعنى فمضيا إليها فخاطبها فقالت: إن ملك غزنة وملوك الخانية، وما وراء النهر طلبوها وخطبوها لأولادهم وبذلوا أربعمائة ألف دينار فلم أرض، فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم، فبلغ الخبر "أرسلان" والدة الخليفة فتأثرت من ذلك وأرسلت إلى "تركان خاتون" تقول: إن ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة لم يحصل لأحد غيرها وكلهم عبيده وخدمه، ومثل الخليفة لا يطلب منه مال فأجابت إلى ذلك وشرطت أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار وأنه لا يبقى له سرية ولا زوجة غيرها ولا يكون مبيته إلا عندها، فأجيبت إلى ذلك، فأعطى السلطان يده فعاد فخر الدولة إلى بغداد. وفي محرم نقل جهازها إلى دار الخليفة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي وكان أكثر الأحمال من الذهب والفضة وثلاث عماريات وعلى أربعة وستين بغلا مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسا من الخيل الرائعة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجواهر ومن عظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 إكسير الذهب، وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة "كوهرائين" والأمير "برسق" وغيرهما. ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب وكان السلطان خرج من بغداد متصيدا، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى "تركان خاتون" وبين يديه نحو الثلمائة موكبه ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم غرفة إلا وقد شعلت فيها الشمعة والاثنتان، وأكثر من ذلك، وأرسل الخليفة مع "ظفر" خادمه محفة لم ير مثلها. وقال الوزير لما وصل ل "تركان خاتون": إن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره، فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل شيء كثير، وجاء نساء الأمراء والكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشموع الموكبات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان، ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفة مائة جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة وكانت ليلتهم مشهودة لم ير ببغداد مثلها، فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطنة وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر وأرسل الخلع مدة في دار الخليفة وولدت منه ولدا لم يطب لها المقام معه فأخبرت والدتها بذلك وهي أرسلت إلى الخليفة تطلب ابنتها طلبا لا بد منه، وسبب ذلك أن الخليفة أكثر الاطراح لها والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول سنة 482 هـ وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله ومعها سائر أرباب الدولة، ومشى مع محفتها سعد الدولة "كوهرائين" وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد وسارت الخاتون إلى أصبهان فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد وبعسكر السلطان. وسار "ملكشاه" بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة 485 م لقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير واتفق أن السلطان خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضا وأنشب الموت أظفاره فيه، وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد ولم يصر إخراج الدم فثقل مرضه، وكانت حمته محرقة فتوفي ليلة الجمعة في النصف من شوال سنة 485هـ. ولما ثقل نقل أرباب الدولة أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته "تركان خاتون" موته وكتمته وأعادت جعفر بن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله وسارت إلى بغداد والسلطان معها محمولا وبذلت الأموال للأمراء سرا، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة "كربوقا" إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة وتسلمها وأظهر أن السلطان أمره بذلك ولم يسمع بسلطان مثله ولم يصل عليه أحد ولم يلطم عليه وجه. وكان مولده سنة 476 هـ، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام من أقصى بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن وحمل إليه ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل وعدل مطرد وما ذلك إلا باتحاده مع "تركان خاتون"، وعدم إتيانه أمرا إلا برأيها ومشورتها حتى دانت لهما العباد، وذلك لسلطانهما البلاد. ولما مات "ملكشاه" وفعلت زوجته كما ذكر أرسلت إلى الخليفة المقتدي في أمر الخطبة بأن يخطب لولدها محمود فأجابها بشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها والخطبة له ويكون مدير زعامة الجيوش الأمير "أنز" يصدر عن رأي تاج الملك وهو الذي يدبر الأمر بين يدي "تركان خاتون" فلما جاءت رسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الخليفة إلى "خاتون" بذلك امتنعت من قبوله فقيل لها: إن ولدك صغير ولا يجيز الشرع ولايته، وكان مخاطبها الغراني، فأذعنت له وأجابته إليه ولقب ناصر الدنيا والدين وأرسلت "تركان خاتون" إلى أصبهان في القبض على "بركيارق" أكبر أولاد السلطان خيفة أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت "ملكشاه" وثبت المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان فأخذوه وساروا من البلد وأخرجوا "بركيارق" من الحبس وملكوه بأصبهان وكانت والدته زبيدة بنت ياقوتي بنت عم "ملكشاه" خائفة على ولدها من "تركان خاتون" أم محمود فأتاها الفرج بالمماليك النظامية وسارت "تركان خاتون" من بغداد إلى أصبهان فطالب العسكر تاج الملك بالأموال فوعدهم، لما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على "تركان خاتون" ولم ينزل خوفا من العسكر فساروا عنه ونهبوا خزائنه فلم يجدوا شيء، ولما وصلت "تركان خاتون" إلى أصبهان لحقها تاج الملك واعتذر لها بأن مستحفظ القلعة حبسه وأنه هرب منه إليها، فقبلت عذره. واما "بركيارق" فإنه لما قاربت "تركان خاتون" وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية وساروا نحو الري فلقيهم "أرغش" النظامي في عساكره وصاروا يدا واحدة، فلما اجتمعوا حاصروا قلعة "طبرق" وأخذوها عنوة، وسيرت "تركان خاتون" العساكر إلى قتال "بركيارق" فالتقى العسكران بالقرب من "بروجرد"، فاجتاز جماعة من الأمراء والذين في عسكر "خاتون" إلى "بركيارق" منهم الأمير "يلبرد": و"كمشتكين الجاندار" وغيرهما فقوى بهم وجرى الحرب بينهم، وآخر ذي الحجة اشتد القتال فانهزم عسكر "خاتون" وعادوا إلى أصبهان وصار "بركيارق" في أثرهم فحصرها بأصبهان. وكان تاج الملك في عسكر "خاتون وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي "بروجرد" فأخذ وحمل إلى عسكر "بركيارق" وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفاءته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض فزال ما في قلوبهم، فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم ففعلوا فانفسخ ما دبره تاج الملك وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوه أجزاء وكان كثير الفضائل جم المناقب، وإنما غطى جميع محاسنه ممالاته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعلم المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاشي، وكان عمره حين قتل سبعا وأربعين سنة. وفي شعبان سنة 486 أرسلت "تركان خاتون" إلى إسماعيل بن ياقوتي بن داود خال "بركيارق" وابن عم "ملكشاه" تطمعه أن تتزوج به وتدعوه إلى محاربة "بركيارق"، فأجابها إلى ذلك وجمع خلقا كثيرا من التركمان وغيرهم أصحاب "سرهنك ساوتكين" في خيله، وأرسلت إليه "تركان خاتون" "كروبقا" وغيره من الأمراء في عسكر كثير، ممدا له، فجمع "بركيارق" عساكره وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج فانحاز الأمير "يلبرد" إلى "بركيارق" وصار معه فانهزم إسماعيل وعسكره وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته "تركان خاتون" وخطبت باسمه وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود بن "ملكشاه" وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء عند ذلك لاسيما الأمير "أنز" وهو مدبر الأمر ورئيس الجيش وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه وخاف هو أيضا منهم، ففارقهم وأرسل يستأذن أخته "زبيدة" والدة "بركيارق" في اللحاق بهم فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم وأقام عندهم أياما يسيرة، فخلا به "كمشتكين الجاندار" و"آقسنقر" و"بوزوان" وبسطوا له في القول فأطلعهم على سره وأنه يريد السلطنة وقتل "بركيارق" فوثبوا عليه فقتلوه وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وفي سنة 486 هـ أرسلت "تركان خاتون" جيشا مع الأمير "أنز" لقتال "توران شاه بن قاورت بيك" حاكم بلاد فارس فسار إليه وحاربه وأخذ أكثر بلاده وبقي حاكما عليها، ولما لم يحسن الأمير "أنز" تدبير بلاد فارس استوحش منه الأجناد واجتمعوا مع "توران شاه" وهزموا "أنز"، ومات "توران شاه" بعد الكسرة بشهر من سهم أصابه فيها. وبقيت "تركان خاتون" في عز ورفعة ومنعة لم يقدر عليها أحد من الملوك والسلاطين، وطالما حاول "بركيارق" إذلالها وأخذ السلطنة منها فلم يقدر عليها، وذلك من كثرة حكمتها وكرمها وحسن إدارتها فإن جميع الأمراء كانت تحبها وتسعى في خدمتها إلى أن توفيت في رمضان سنة 487 هـ بأصبهان. وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة "تتش" لتتصل به فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير "أنز" وإلى الأمير "سرمز" شحنة أصبهان بحفظ المملكة على ابنها محمود ولم يكن بقي بيدها سوى قصبة أصبهان ومعها عشرة آلاف فارس أتراك وكان لها جملة آثار مثل: بناء مساجد وأضرحة، ومدارس، وبيمارستانات وخلاف ذلك في جميع أنحاء المملكة، وأسف الناس عليها أسفا شديدا تغمدها الله برحمته. تقية ابنة أبي الفرج ذكرها الحافظ السلفي في تعليقه وأثنى عليها وأخذت عنه العلم بثغر الإسكندرية وفاقت الرجال فيه ولها زيادة على ذلك الباع الطولى في الشعر والأدب ولطائفها الأدبية مع الحافظ المذكور كثيرة منها أنه كان مارا بمنزله، فعثر فجرح قدمه فقطعت جارية من الدار قطعة من خمارها وعصبت بها قدمه فأنشأت تقية تقول: لو وجدت السبيل جدت بخدي ... عوضا عن خمار تلك الوليدة كيف لي أن أقبل اليوم رجلا سلكت دهرها الطريق الحميدة ومن غرائبها في الأدب أنها مدحت الملك المظفر بن أخي السلطان صلاح الدين بقصيدة خمرية، فقال ممازحا: أتعرف الشيخة هذه الأحوال من صباها؟ فبلغها ذلك فنظمت قصيدة أخرى حربية وصفت فيها الحرب وما تتعلق به أحسن وصف وبعثتها إليه وقالت: علمي بهذا كعلمي بذاك وهي في القرن السادس من الهجرة. تماضر الشهيرة بالخنساء هي ابنة عمرو بن الحارث ابن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة. وقيل تهبه بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر، وتكنى أم عمرو، وإنما الخنساء لقب غلب عليها وهي الظبية وكان دريد بن الصمة رآها يوما وهي تهنا جملا فعلق بها وقال فيها: حيوا تماضر وأربعوا صحبي ... وقفوا فإن وقوفكم حسبي أخناس قد هام الفؤاد بكم ... وأصابه تبل من الحب وخطبها بعد ذلك إلى أبيها فقال له أبوها: مرحبا يا أبا قرة إنك لكريم لا يطعن في حسبه واليد لا ترد عن حاجته ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها وإنما أذكرك لها ثم دخل عليها وقال: يا خسناء، أتاك فارس هوزان وسيد بني جشم دريد بن الصمة يخطبك وهو ممن تعلمين، ودريد يسمع قولها فقالت: يا أبت، أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح وناكحة بني جشم هاته اليوم أو غدا وأنشأت تقول: أتخطبني هبلت على دريد ... وتطرد سيدا من آل بدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 معاذ الله ينكحني خبر كي ... يقال أبوه من جشم بن بكر ولو أمسيت في جشم هديا ... لقد أمسيت في دنس وفقر فخرج إليه أبوها فقال: يا أبا قرة، قد امتنعت ولعلها أن تجيب فيما بعد فقال دريد: سمعت ما دار بينكما وانصرف غضبان وقال يهجو الخنساء: لمن طلل بذات الخمس أمس ... عفا بين العقيق فبطن خرس أشبهها غمامة يوم دجن ... تلألأ برقها أو ضوء شمس وهي طويلة اضربنا عنها فقيل للخنساء: ألا تجيبيه؟ فقالت: لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه، ولما ردت دريدا خطبها رواحة بن عبد العزيز السلمي فولدت له عبد الله، ثم خلف عليها مرداس بن أبي عامر فولدت له يزيد ومعاوية وبنتا اسمها عمرة. حكى بعضهم أنه لما كانت ليلة زفاف عمرة كانت أمها جالسة ملتفة بكساء أحمر وقد هرمت وهي تلحظ ابنتها لحظا شديدا فقال القوم: يا عمرة، ألا تحرشت بأمك فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه، فقامت عمرة تريد شيئا، فوطأت على قدمها وطأة أوجعتها فقالت لها وقد اغتاظت: حسن إليك يا حنفاء كأنما تطئين أمة ورهاء أنا كنت أكرم منك عرسا، وأطيب ورسا، وذلك زمان إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، لا أذيب الشحم ولا أرعى البهم، كالمهرة الصنع لا مضاعة ولا عند مضيع، فضحك القوم من غيظها. وكانت الخنساء من شواعر العرب المعترف لهن بالتقدم وهي تعد من الطبقة الثانية في الشعراء، وأكثر شعرها في رثاء أخويها معاوية وصخر. وكان معاوية أخاها لأمها وأبيها، وكان صخر أخاها لأبيها وأحبهما إليها واستحق صخر ذلك منها لأنه كان موصوفا بالحلم مشهورا بالجود معروفا بالتقدم والشجاع، محظوظا في العشيرة وأجمل رجل في العرب، فلما قتل جلست الخنساء على قبره زمانا طويلا تبكيه وترثيه وفيه جل مراثيها، وكانت في أول أمرها تقول البيتين أو الثلاثة حتى قتل أخوها معاوية وصخر وقد أجمع الشعراء على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وقيل لجرير: من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا هذه الخبثية -يعني الخنساء- قال بشار: لم تقل امرأة شعرا إلا تبين الضعف في شعرها. فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. وكان الأصمعي يقدم ليلى الأخيلية عليها. قال المبرد: كانت الخنساء وليلى فائقتين في أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول، وكان النابغة الذبياني يجلس للشعراء في سوق عكاظ وتأتيه الشعراء فتنشده أشعارها فأنشدته الخنساء في بعض المواسم قصيدتها الرائية التي في أخيها صخر، فأعجبه شعرها وقال له: اذهبي فأنت أشعر من كانت ذات ثديين، ولولا هذا الأعمى أنشدني قبلك -يعني الأعشى- لفضلتك على شعراء هذا الموسم فإنك أشعر الإنس والجن وكان ممن عرض شعره في ذلك الموسم حسان بن ثابت فغضب وقال: أنا أشعر منك ومنها. فقال: ليس الأمر كما ظننت، ثم التفت إلى الخنساء. وقال: ياخناس خاطبيه، فالتفتت إليه الخنساء وقالت: ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفا؟ قال قولي فيها: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فقالت: ضعفت افتخارك وأندرته في ثمانية مواضع في بيتك هذا. قالت: قلت لنا: الجفنات والجفنات مادون الغر، ولو قلت: الجفان لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة: بياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا، وقلت: يلمعن، واللمع: شيء يأتي بعد شيء، ولو قلتك يشرقن لكان أكثر لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت بالضحى ولو قلت: بالدجى لكان أكثر إطراقا، وقلت: أسياف، والأسياف: ما دون العشرة، ولو قلت: سيوفا لكان أكثر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن لكان أكثر، وقلت: دما، والدماء: أكثر من الدم. فسكت حسان ولم يرد جوابا وكان في أثناء ذلك ظهور الإسلام، فقدمت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت واستنشدها فأنشدته فأعجب بشعرها وهو يقول: "هيه يا خنساء". ثم انصرفت. وقيل: إن عمر بن الخطاب سألها ما أقرح مآقي عينيك؟ قالت: بكائي على السادات من مضر. قالك يا خنساء، إنهم في النار. قالت: ذاك أطول لعويلي عليهم إني كنت أبكي لهم من الثأر، وأنا اليوم أبكي لهم من النار. وقيل: إنها أقبلت في خلافته حاجة، فنزلت بالمدينة بزي الجاهلية فقام إليها عمر في أناس من الصحابة فدخل عليها فإذا هي كما وصفت له فعذلها ووعظها، وقال لها: إن الذي تصنعين ليس صنع الإسلام، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية وهم أعضاء اللهيب وحشو جهنم. فقالت: اسمع مني ما أقول في عذلك إياي ولومك لي فقال: هات: فأنشدته من شعرها في أخويها فتعجب من بلاغتها. وقال: دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدا. وقيل: إنها أتت عائشة فنظرت إليها وعليها الصدار وهي محلوقة الرأس تدب من الكبر على عصي فقالت لها عائشة: أخناس؟ فقالت: لبيك يا أماه، قالت: أتلبسين الصدار وقد نهي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه. قالت: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قالت: موت أخي صخر. قالت عائشة: ما دعاك إلى هذا صنائع من جميله، فصفيها لي. قالت: نعم، إن لشعري سببا، وذلك أن زوجي كان رجلا متلافا للأموال يقامر بالقداح، فأتلف فيها ماله حتى بقينا على غير شيء فأراد أن يسافر فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخرا فأسأله، فأتيته، فشكوت إليه حالنا وقلة ذات أيدينا فشاطرن ماله، فانطلق زوجي فقامر به فقمر حتى لم يبق لنا شيء فعدت إليه في العام المقبل أشكو غليه حالته فصار لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة أو في الرابعة خلت بصخر امرأته فعذلته ثم قالت: إن زوجها مقامر وهذا ما لا يقوم به شيء فإن كان ولا بد من صلتها فأعطها خمس مالك فإنما هو متلف والخير فيه والشر سيان، فأنشأ يقول لامرأته. والله لا أمنحها شرارها ... وهي حصان قد كفتني عارها ولو هلكت مزقت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا اخلف ظنه ولا اكذب قوله ما حيت. وكان للخنساء أربعة بنين فلما ضرب البحث على المسلمين بفتح فارس صارت معهم وهم رجال، وحضرت وقعة القادسية سنة 16 هجرية وسنة 638 ميلادية وأوصتهم من الليل بقولها: يا بني، إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما إنكم بنو امرأة واحدة ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم وأعلموا إن الدار الآخرة خير من الدار الفانية (اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) (آل عمران: 200) ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رسيسها تظفروا بالغنم والكرامة في الدار الخلد والمقامة، فلما أضاء لهم الصبح باكروا إلى مراكزهم فتقدموا واحدا بعد واحد ينشدون أراجيز يذكرون فيها وصية العجوز لهم حتى قتلوا عن آخرهم فبلغ الخبر إليها فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة، وكان عمر بن الخطاب يعطها أرزاق بنيها الأربعة، وكان لكل منهم مائة درهم حتى قبض. وأخبار الخنساء كثيرة وهي أشهر من أن تذكر، ومن شعرها قولها في أخويها معاوية وصخر وأبيها عمرو: أبكي أبي عمرا بعين غريرة ... قلل إذا نام الخلي هجودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وصنوي لا أنسى معاوية الذي ... له من سراة الحرتين وفودها وصخرا ومن ذا مثل صخر إذا غدا ... بسلهبة الآطال قرم يقودها وقولها في أخويها: من حس بالأخوين كال ... غصنين أو من رآهما قرمين لا يتظالما ... ن ولا يرام حماهما ويلي على الأخوين وال ... قبر الذي واراهما رمحين خطيين في ... كبد السماء ثناهما ما خلفا إذ ودعا ... في سودد ثرواهما سارا بغر تكلف ... عفوا بفيض نداهما وقولها ترثي أخاها معاوية: ألا لا أرى في الناس مثل معاوية ... إذا طرقت إحدى الليالي بداهيه بداهية يصغي الكلاب حسيسها ... وتخرج من سر النجي علانيه ألا لا أرى كالفارس الورد فارسا ... إذا ما علته جهرة وعلانيه وكان لزاز الحرب عند شبوبها ... إذا شمرت عن ساقها وهي ذاكيه بلينا وما تبلى نضار وما ترى ... على حدث الأيام إلا كما هيه فأقسمت لا ينفك دمعي وعولتي ... عليك بحزن ما دعا الله داعيه وقولها أيضا فيه وكان مقتله في بني مرة: ألا ما لعينك أم مالها ... لقد أخضل الدمع سربالها أبعد ابن عمرو من آل الشري ... د حلت به الأرض أثقالها وأقسمت آسي على هالك ... وأسأل نائحة ما لها سأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها ورجراجة فوقها بيضها ... عليها المضاعف أقتالها ككر فئة الغيث ذات الصبي ... ر ترمي السحاب ويرمي لها وقافية مثل حد السنا ... ن تبقى ويهلك من قالها نطقت ابن عمرو فسهلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها تزول الكواكب من فقده ... وجللت الشمس إجلالها وأما مراثيها في أخيها صخر فكثيرة جدا كما قلنا وأشهر ما قالت فيه قولها عندما مات: اذهب فلا يبعدنك الله من رجل ... دراك ضيم وطلاب بأوتار قد كنت تحمل قلبا غيره مؤتشب ... مركب في نصاب غير خوار فسوف أبكيك ما ناحت مطوقة ... وما أضاءت نجوم الليل للساري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 شدوا المآزر حتى تستعاد لكم ... وشمروا إنها أيام تشمار وابكوا فتى الحي لاقته منيته ... وكل حي إلى وقت ومقدار وقولها: يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولي ... على موتاهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي وقولها: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندا ألا تبكيان الجرئ الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع العم ... د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا فنال الذي فوق أيديهم ... إلى المجد ثم مضى مسعدا يحمله القوم ماعالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا ترى المجد يهدي إلى بيته ... يرى أفضل المجد أن يحمدا وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى وقولها: قذى بعينيك أم بالعين أعور ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار تبكي لصخر العبرى وقد ذرفت ... ودونه من جديد الترب أستار لا بد من موته في صرفها غير ... والدهر في صرفه حول وأطوار يا صخر وارد ماء قد تناذره ... أهل الموارد ما في ورده عار مشى السبنتي إلى هيجاء معضلة ... له سلاحان أنياب وأظفار فما عجول على بو تطيف به ... لها حنينان إصغار وإكبار ترعى إذا نسيت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار لا تسمن الدهر في أرض وإن رتعت ... فإنما هي تحنان وتسجار يوما بأوجد مني يوم فارقني ... صخر وللدهر إحلاء وإمرار فإن صخرا لوالينا وسيدنا ... وإن صخرا إذا نشتو لنحار وإن صخرا التأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجار ولا تراه وما في البيت يأكله ... لكنه بارز بالصحن مهمار مثل الرديني لم تنفذ شبيبته ... كأنه تحت طي البرد أسوار في جوف رمس مقيم قد تضمنه ... في رمسه مقمطرات وأحجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 طلق اليدين لفعل الخير ذو فخر ... ضخم الدسيعة بالخيرات أمار في رفقة حار حاديهم بمهلكه ... كأن ظلمتها في الطخية القار كان دمعي لذكراه إذا خطرت ... فيض يسيل على الخدين مدرار تبكي خناس على صخر وحق لها ... إذ رابها الدهر إن الدهر إن الدهر ضرار وتوفيت الخنساء في البادية في خلافة معاوية بن ابي سفيان رحمه الله عليها. تماضر زوجة زهير كانت من بنات بني عبس الأكابر الذين ورثوا المجد كابرا عن كابر، تزوجت بالملك زهير العبسي على محبة ووفاق وزادت به شرفا ومقاما، وإجلالا وإكراما، وولدت له جملة أولاد نجباء، منهم: قيس، ومالك ابنا زهير، وزوجها زهير ملك بني عبس، ولها رثاء قليل في ولدها مالك قتله حذيفة بن بدر، ومن قولها: كأن العين خالطها قذاها ... لغيبتكم فلم تعط كراها على ولد وزين النسا طرا ... إذا ما النار لم تر من صلاها لئن حزنت بنو عبس عليه ... فقد فقدت بنو عبس فتاها فمن للضيف إن هبت شمال ... مزعزعة يجاوبها صداها أسيدكم وحاميكم تركتم ... على الغبراء منهدما رحاها نرى الشم الجحاجح من بغيض ... تبدد جمعها يوما رآها فيتركها إذا اضطربت بطعن وينهبها إذا اشتجرت قناها حذيفة لا سقيت من الغوادي ... ولا روتك هاطلة نداها كما أفجعتني بفتى كريم ... إذا وزنت بنو عبس وفاها فدمعي بعده أبدا هطول ... وعيني دائم أبدا بكاها تنوسة جارية علية بنت المهدي العباسي كانت ذات حسن وجمال، وبها وكمال، وأدب ما له مثال. تعلمت الغناء حتى صارت أحسن المغنين والمغنيات، وساعدها على ذلك صوتها وحدة ذهنها وشدة استحضارها. وكانت تختلف إلى الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر وترتاح لمنادمته، وهو يشتاق لسماع صوتها. وقيل: إن محمد بن عبد الله جلس يوما في مجلس أنسه وكان عنده صديقه الحسن بن محمد بن طالوت، وكان أخص الناس به فقال له: لا بد لنا في يومنا هذا من ثالث نطيب بمعاشرته، ونلتذ بصحبته ومؤانسته حتى نسمع صوت "تنوسة" فمن ترى أن يكون طاهر الأعراق غير دنس الأخلاق، فأعمل فكره الحسن وأمعن نظره وقال: أيها الأمير قد خطر ببالي رجل ليست علينا في مجالسته كلفه قد خلا من إبرام المجالسة وبرئ من ثقل المؤانسة خفيف الوقفة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أمرت. قال: ومن ذاك؟ قال: "مان الموسوس". قال: أحسنت والله فتقدم إلى أصحاب الأرباع بطلبه، فما كان بأسرع من أن اقتنصه صاحب ربع الكرخ فسار به إلى باب بالأمير فأدخل الحمام وأخذ من شعرهن وألبس ثيابا نظافا، ثم ادخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير. فقال: عليك السلام يا "مان"، ألم يأن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 تزورنا على حين توقان منا إليك، ومنازعة قلوبنا نحوك. فقال "مان": الشوق شديد، والمزار بعيد، والحجاب عتيد، والبواب فظ عنيد ولو سهل الإذن لسهلت علينا الزيارة. قال: لقد ألطفت في الاستئان، فلا تمنع في أي وقت جئت من ليل أو نهار، ثم أذن له فجلس، ثما دعا له بالطعام فأكل، ثم غسل يديه وأخذ مجلسه. وكان محمد قد تشوق إلى السماع من "تنوسة" جارية ابنة المهدي، فأحضرت فكان أول ماغنت: ولست بناس إذا غدوا فتحملوا ... دموعي على الأحباب من شدة الوجد وقولي وقد زالت بليل حمولهم ... بواكر تخدى لا يكن آخر العهد فقال "مان": أحسنت والله، ألا زدت فيه: أقمت أناجي الفكر والدمع حائر ... بمقلة موقوف على الجهد ولم يعدني هذا الأمير بعزه ... على ظالم قد لج في الهجر والبعد فاندفعت تغنيه، فرق محمد بن عبد الله له وقال: أعشاق أنت يا "مان"؟ قال: فاستحيا وغمزه ابن طالوت أن لا يبوح له بشيء فيسقط من عينه فقال: بل هلع، وطرب اعز الله الأمير وشوق كان كامنا فظهر وهل بعد المشيب من صبوة، ثم اقترح محمد على "تنوسة" هذا الصوت من شعر أبي العتاهية: حجبوها عن الرياح لأني ... قلت يا ريح بلغيها السلاما لو رضوا بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرحيل الكلاما فغنته فطرب محمد، ثم دعا برطل فشربه فقال "مان": ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه: فتنفست ثم قلت لطيفي ... آه لو زرت طيفها إلماما خصها بالسلام سترا وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما فكان أبعث للصبابة بين الأحشاء وألطف تغلغلا على كبد الظمآن من زلال الماء مع حسن تأليف نظامه وانتهائه إلى غاية تمامه قال محمد: أحسنت والله يا "مان"، ثم أمر "تنوسة" بإلحاقها هذين البيتين بالأولين ففعلت ثم غنت هذين البيتين من شعر أبي نواس: يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابة فأقيما ما مررنا بدار زينب إلا ... فضح الدمع سرنا المكتوما فاستحسنه محمد فقال "مان": لولا رهبة التعدي لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع ذي لب إلا صد استحسانه لهما. فقال محمد: الرغبة فيما تأتي به حائلة دون كل رهبة فهات ما عندك فقال: ظبية كالغزال لو تلحظ الصخ ... ر بطرف لغادرته هشيما وإذا ما تبسمت خلت ما تبدى ... من الثغر لؤلؤا منظوما قال محمد: أحسنت والله فأجز: لم تطب اللذات إلا لمن ... طابت له لذات تنوسة غنت بصوت أطلقت عبرة ... كانت بحسن الصبر محبوسة فقال "مان": وكيف صبر النفس عن غادة ... تظلمها إن قلت طاووسه وجرت إن شبهتها بانة ... في جنة الفردوس مغروسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ثم سكت، فقال محمد، فأعد لي وصفك لها، فقال: وغير عدل إن قرنا بها ... جوهرة في التاج مغروسه جلت عن الوصف فما فكرة ... تلحقها بالنعت محسوسة فقالت "تنوسة": وجب علينا يا "مان" شكرك، فساعدك دهرك، وعطف عليك الفك، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله تعالى يديم لنا السرور ببقاء من ببقائه اجتمع شملنا فأنشأ يقول: ليس لي إلف فيقطعني ... فارقت نفسي الأباطيل أنا موصول بنعمة من ... حبلة بالحمد موصول أنا مشمول بمنة من ... منه في الخلق مبذول أنا مغبوط بزورة من ... ربعه بالمجد مأهول فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام فنهض وهو يقول: ملك عز النظير له ... زانه الغر بالبهاليل طاهري في مركبه ... عرفه للناس مبذول دم من يشقى بصارمه ... مع هبوب الريح مطلول فقال محمد: وجب جزاؤك لشكرك على غير نعمة سلفت منا إليك، ثم أقبل على ابن طالوت فقال: يا هذا، ليس خساسة ثوب المرء واتضاع المنظر ونبو العين بمذهب جوهر الأدب المركب فيه ولله در صالح بن عبد القدوس حيث يقول: لا يعجبنك من يصون ثيابه ... حذر الغبار وعرضه مبذول فلربما افتقر الفتى فرأيته ... دنس الثياب وعرضه مغسول ثم قال وهو واقف: مدمن التحقيق موصول ... ومطيل اللبث مملول فأنا أستودعكم الله، ثم انصرف فأمر له محمد بن عبد الله بصلة سنية قال ابن طالوت: فما رأيت أحدا أحضر ذهنا منه إذ تقول له الجارية عطف عليك الفك فينفيها بقوله: ليس لي إلف فيقطعني البيت. قال: ولم يزل محمد مجريا عليه رزقا سنيا إلى أن مات، وبقيت "تنوسة" معززة مكرمة في منزل علية ابنة المهدي إلى أن ماتت بعدما عمرت ولم يتغير شيء من صوتها وجمالها. حرف الثاء ثبيتة ابنة الضحاك بن خليفة الأنصارية الأشهلية ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت على جانب عظيم من الجمال والكمال، واللطافة والأدب، وعزة النفس. وكان يضرب بها المثل في الجمال بين نساء العرب، وكانت كلما خرجت من منزلها تتمايل إليها الأنظار وتهوى إليها القلوب بالأبصار وكان مرة بن سهل بن أبي حثمة مارا فيا لطريق فرأى محمد بن مسلمة يطار ثبيتة بنظره فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: نعم، إني سمعت رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله عز وجل في قلب رجل خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) . ومن ذلك يتضح أن من أراد الخطبة فله أن ينظر مخطوبته قبل زواجه بها، وبقيت ثبيتة محط أنظار شبان الصحابة حتى تزوجت وهي في غاية العفة والصيانة ولم يمدد إليها أحد يده بسوء، ولها صحبة حسنة وأحاديث نبوية. ثبيتة ابنة مرداس بن قحفان العنبري كانت من شاعرات العرب وكرمائهن اللاتي يضرب بهن المثل، وكان زوجها كريما لم يوجد أكرم منه في زمانه. قيل: إنه أتاه أخو امرأته فأعطاه بعيرا من إبله وقال لامرأته: هاتي حبلا يقرن به ما أعطيناه إلى بعيره، ثم أعطاه بعيرا آخر، وقال: هاتي حبلا، ثم أعطاه ثالثا فقال: هاتي حبلا. فقالت ما بقي عند حبل. فقال: علي الجمال، وعليك الحبال. فرمت إليه خمارها وقالت اجعله حبلا لبعضها فأنشأ يقولل: لا تعذلينيفي العطاء ويسري ... لكل بعير جاء طالبه حبلا فإني لا تبكي علي إفالها ... إذ شبعت من روض أوطانها بقلا فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن ... ولا مثل أيام الحقوق لها سبلا فأجابته فورا: حلفت يمينا يا ابن قحفان بالذي ... تكفل بالأرزاق في السهل والجبل تزال حبال المحصدات أعدها ... لها ما مشى منها على خفه جمل فأعط ولا تبخل لمن جاء طالبا ... فعندي لها خطم وقد زالت العلل ثبيتة ابنة يعار بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف الأنصارية كانت من المهاجرات الوائل ومن فاضلات النساء الصحابيات وهي امرأة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهي مولاة سالم مولى أبي حذيفة قتل سالم يوم اليمامة. وكانت ثبيتة من النساء الأديبات العابدات الزاهدات الصابرات على العبادة مشهورة بحسن صحبتها ولها رواية مثبوتة عند المحدثين. الثريا ابنة عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر كانت من شهيرات نساء قريش وأبرعهن جمالا وكمالا، وكان عمر بن أبي ربيعة مستهاما بها وكانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو إليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه فيسائل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن أخبارها فلقى يوما بعضهم فسأل أحدهم عن أخبارهم فقال: ما استطرفنا خبرا إلا أنني سمعت عند رحيلنا صوتا وصياحا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم من السماء، وقد سقط علي اسمه فقال عمر: الثريا. قال: نعم، وقد كان بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة فوجه فرسه على وجهه إلى الطائف يركضه ملء فروجه وسلك طريق كداء وهي أحسن الطرق وأقربها حتى انتهى إلى الثريا وقد توقعته وهي تتشوق له وتتشوف، فوجدها سليمة ومعها أختها رضيا وأم عثمان، فأخبرها الخبر، فضحكت وقالت: والله أنا أمرتهم لأختبر ما لي عندك في ذلك فقال هذا الشعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 تشكي الكميت الجري لها جهدته ... وبين لو يستطيع أن يتكلما فقلت له أن ألق للعين قرة ... فهان علي أن تكل وتسأما لذلك أدني دون خيل رباطه ... وأوصي به أن لا يهان ويكرما عدمت إذا وفري وفارقت مهجتي ... لئن لم أقل قرنا إن الله سلما وسأل مسلمة بن إبراهيم أيوب بن مسلمة: أكانت الثريا كما يصف عمر بن أبي ربيعة فقال: وفوق الصفة، كانت والله كما قال عبد الله بن قيس: حبذا الحج والثريا ومن بال ... خفيف من أجلها وملقى الرحال يا سليمن إن تلاقي الثريا ... تلق عيش الخلود قبل الهلال درة من عقائد البحر بكر ... لم يشنها مثاقب اللآلي وحجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها عمر: أصبح القلب فيا لحبال رهينا ... مقصدا يوم فارق الظغينا قلت من انتم فصدت وقالت ... أمبدي سؤالك العالمينا نحن من ساكني العراق وكنا ... قبله قاطنين مكة حينا قد صدقناك إذ سألت فمن أن ... ت عسى أن يجر شأن شؤونا وترى أننا عرفناك بالنع ... ت بظن وما قبلنا يقينا بسواد الثنيتين ونعت ... قد تراه لناظر مستبينا وبلغت الأبيات الثريا فبلغتها إياها أم نوفل فقالت: إنه لوقاح صنع بلسناه، ولئن سلمت له لأردن من شأوه ولأثنين من عنانه، ولأعرفنه نفسه، وهجرت عمر فلما هجرته قال في ذلك: من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعا بهجرها والكتاب سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها ماذا أحل اغتصابي وهي مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب أبرزوها مثل المهاة تهادي ... بين خمس كواعب أتراب ثم قالوا تحبها قلت بهرا ... عدد القطر والحصا والتراب فلما سمع ابن عتيق قوله: " من رسولي إلى الثريا فإني" قال: إياي أراد وبي نوه، لا جرم والله لا أذوق أكلا حتى أشخص فأصلح بينهما ونهض. قال بلال مولى ابن أبي عتيق: فركب وركبت معه فسار سيرا شديدا فقلت: أبق على نفسك فإن ما تريد ليس يفوتك. فقال: ويحك. أبادر حبل الود أن يتقضبا وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا، فقدما مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه وسلم عليه ولم ينزل عن راحلته فقال له: اركب، وأصلح بينك وبين الثريا فأنا رسولك الذي سألت عنه، فركب معه وقدموا الطائف وقد كان عمر أرضى أم نوفل، فكانت تطلبت له الحيل لإصلاحها فلم يمكنها فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جمشني المسير من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه معتذرا من إساءته إليك فدعيني من التعداد والترداد فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، ورجعوا إلى مكة فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل وزاد عمر في أبياته فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 أرهقت أم نوفل إذ دعتها ... مهجتي ما لقاتلي من متاب حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني قالت أبو الخطاب فاستجابت عند الدعاء كما ... لبى رجال يرجون حسن الثواب وكانت أم نوفل دعتها لابن أبي عتيق ولو دعتها لعمر ما أجابت: وأتى عمر الثريا يوما ومعه صديق له كان يصاحبه ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت فقال لها: إنه ليس ممن أحتشمه ولا أخفي عنه شيئا واستلقى فضحك، وكان النساء إذا ذاك يتختمن في أصابعهن العشرة، فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها فأصابت الخواتم ثنيتيه العليين وكادت أن تقلعهما، فعالجهما، فشفيتا واسودتا، وكان يفتخر بهما ويعده أثرا عزيزا عنده، وواعدت الثريا عمر أن تزوره فجاءت في الوقت الذي ذكرته فصادفت أخاه الحارث قد طرقه، وأقام عنده ووجه به في حاجة له ونام مكانه وغطى وجهه بثوب فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله فانتبه وجعل يقول: اغربي عني فلست بالفاسق، أخزاكما الله. فلما علمت بالقصة انصرفت ورجع عمر فأخبره الحارث بخبرها فاغتم لما فاته منها وقال: أما والله لا تمسك النار أبدا وقد ألقت نفسها عليك. فقال الحارث: عليك وعليها لعنة الله. وتزوجها سهيل بن عبد العزيز بن مروان، وكان عمر بن أبي ربيعة أخرجه مسعدة بن عمر والي اليمن في أمر عرض له وتزوجت الثريا وهو غائب، فلما رجع وجدها نقلت في ذلك اليوم إلى الشام فأتى المنزل الذي كانت فيه وسأل عنها فأخبر أنها رحلت من يومئذ فخرج في أثرها فلحقها في مرحلتين وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه، فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه ومشى متنكرا حتى مر بالخيمة، فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته فقالت لحاضنتها: كلميه، فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه فاعتذر وبكى فبكت الثريا وقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل فحادثها إلى طلوع الفجر، ثم ودعها وبكيا طويلا، وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون ثم أتبعهم بصره حتى غابوا وانشأ يقول: يا صاحبي قفا نستخبر الطللا ... عن حال من حله بالأمس ما فعلا فقال بالأمس لما أن وقفت به ... إن الخليط أجدوا البين فاحتملا وخادعتك النوى لما رايتهم ... فيا لفجر يحتث حادي عيسهم رحلا لما وقفنا نحييهم وقد صرخت ... هواتف البين واستولت بهم أصلا صدت بعادا وقالت للتي معها ... بالله لوميه في بعض الذي فعلا وحدثيه بما حدثت واستمعي ... ماذا يقول ولا تعي به جدلا حتى ترى أن ما قال الوشاه له ... فينا لديه إلينا كله نقلا وعرفيه به كالهزل واحتفظي ... في بعض معتبة أن تخطئ الرجلا فإن عهدي به والله يحفظه ... وإن أتى الذنب ممن يكره العذلا لو عندنا اعتيب أو نيلت نقيصته ... ما آب معتابه من عندنا جذلا قلت اسمعي فلقد أبلغت في لطف ... وليس يخفى على ذي اللب من هزلا هذا أرادت به بخلا لأعذرها ... وقد أرى أنها لن تعدم العللا ما سمي القلب إلا من تقلبه ... ولا الفؤاد فؤادا غير أن عقلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أما الحديث الذي قالت أتيت به ... فما عتبت به إذ جاءني تبلا ما إن أطعت بها بالغيب قد علمت ... مقالة الكاشح الواشي إذا محلا إني لأرجعه فيها بسخطه ... وقد يرى أنه قد غر بي زللا وهي قصيدة طويلة وقال فيها أيضا: أيها الطارق الذي قد عناني ... بعدما نام سامر الركبان زار من نازح بغير دليل ... يتخطى إلي حتى أتاني أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان وكتب إليها يوما وقد غلبه الشوق: كتبت إليك من بلدي ... كتاب موله كمد كئيب وأكف العينين ... بالحسرات منفرد يؤرقه لهيب الشو ... ق بين السحر والكبد فيمسك قلبه بيد ... ويمسح عينه بيد وكتبه في قوهية وشنفه وحسنه وبعث به إليها فلما قرأته بكت بكاء شديدا ثم تمثلت: بنفسي من لا يستقل بنفسه ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع وكتبت إليه تقول: أتاني كتاب مل ير الناس مثله ... أمد بكافور ومسك وعنبر وقرطاسة قوهية ورباطة ... بعقد من الياقوت صاف وجوهر وفي صدره مني إليك تحية ... لقد طال تهيامي بكم وتكري وعنوانه من مستهام فؤاده ... إلى هائم صب من الحزن مسعر ولما مات عنها سهيل خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في قضاء دين عليها فبينما هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إذ دخل عليها لوليد فقال: من هذه؟ فقالت: الثريا جاءتني أطلب ليك قضاء دين عليها وحوائج لها فأقبل عليها الوليد فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا؟ قالت: نعم، يرحمه الله كان عفيفا أروي قوله: ما على الرسم بالبليين لو بي ... ن رجع السلام أو لو أجابا فإلى قصر ذي العشيرة فالطا ... ئف أمسى من الأنيس يبابا إذ فؤادي يهوى الرباب وإني ال ... دهر حتى الممات أنسى الربابا وبما قد أرى به حي صدق ... ظاهري العيش نعمة وشبابا وحسانا جواريا خفرات ... حافظات عند الهوى الأحسابا لا يكثرن في الحديث ولا يت ... بعن يبغين بابهام الظرابا فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت، فلما خلا الوليد بأم النبين قال لها: لله درك الثريا أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟ قالت: لا. قال: إني لما عرضت لها به عرضت لي بان أمي أعرابية وأم والوليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وسليمان ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي، فلما ماتت الثريا أتى الغريض المغني إلى كثير بن كثير السهمي فقال له: قل لي أبيات شعر أنح بها على الثريا فقال له هذين البيتين: ألا يا عين ما لك تدمعينا ... أمن رمد بكيت فتكحلينا أم أنت حزينة تبكين شجوا ... فشحوك مثله أبكى العيونا ثيودورا زوجة الملك بوستينان هي ابنة أكساسيو القبرصي، حارس الأدباب في الملعب، فلما مات أبوها باتت مع أختيها كومينو وأنسطاسيا في حالة فقر يرثى لها وجميعهن صغيرات فيالسن لا يتجاوز عمر الكبرى سبع سنوات، وكانت ثيودروا جميلة حسناء فقيرة فلم تجد سبيلا للكسب إلا الانخراط في سلم الممثلات، فأعجبت الناس بمهارتها واتخذت خلانا وبدلت أحبة لتعيش في راحة وهناء. قيل: إنها كانت في بلاد بافلاغونيا فحلمت أنها ستصير امرأة ملك قوي فعادت إلى القسطنطينية مسرعة وتابت واتخذت لها بيتا عاشت به بالبر والطهارة والتقوى تشتغل الليل والنهار بأشغال يدوية لتعيش وتساعد المساكين فعلم بها بوستينان ونظرها فتيمه هواها وشغفه جمالها والباهر وأعجبه نشاطها وعفتها، فاقترن بها على رغم مضادة أمه ونسبائه والشرائع القديمة التي تحظر على الشريف أن يقترن بعبيده أو ممثلة أو غريبة وأغرى عمه بستين على إصدار أمر يخالف القانون ويبطله ويفتح سبيلا لتوبة بنات الهوى وأملهن بالارتقاء إلى أعلى الدرجات وذروة المجد والفخار ولما تولى بوستينان العرش شارك امرأته بالملك وأجلسها على عرشه ووضع التاج القيصري على هامته وهامة ثيودورا الممثلة بنت أكاسيوس حاري الأدباب ولم تنج هذه الملكة بتوبتها من هجو العالمين، فرشقتها ألسنة المبغضين المضادين بسهام الاحتقار والتنديد وجهدوا في تذكيرها حالتها الأولى ونكايتها بكل أوان فهجرت لذلك مدينة القسطنطينية وعاشت بقصورها وجناتها الواقعة على شاطئ البوسفور، واعتزلت الناس، وانتقمت منهم ما استطاعت وكان زوجها في ابتداء ملكها مريضا فبذلت جهدا في جمع الموال ليمكنها أن تعيش بها عزيزة بعده مكرمة. والحق يقال: إن ثيورودا كانت امرأة ذكية فاضلة أتت أعمالا عظيمة مبرورة مشكورة وساعدت زوجها في السياسة أشد المساعدة بآرائها وحكمتها ولكن الشعب اليوناني أبغضها لاتباعها مذهب أفتيس ومضادتها بعض الأساقفة. وفي حزيران سنة 548 م ماتت بعلة رديئة كست جسمها بثورا فتكون مدة ملكها 22 سنة. ومن أعمالها السديدة ما كان في وقت الثورة المشهورة التي حصلت في القسطنطينية في أيام ملك بوستينان وقد اجتمع الملك والوزراء والعظماء حائرين مضطرين يرجون بالهرب خلاصا فنهضت الملكة ثيودورا. وقالت: إنني أحتقر الفرار إلا من الراحة والسلام فإلى الموت مصير الإنسان وحياة الأمراء المالكين كالعدم بعد فقدهم العز والملك فأطلب إلى الله أن لا يجعلني يوما واحدا عارية من التاج وأدوات الزينة الملكية بل يميتني قبل خلعي وسقوطي عن منصة الفخر والمجد، وإذا اعتمدت أيها الملك على الهرب فجميع وسائله ميسورة لك فهذه خزائنك ملأى بالذهب والجواهر، وهذا البحر مغطى بالسفن المواخر ولكن خف من يوم تعيش به عيشة دنيئة محتقرة في المنفى. أما أنا فناهجة منهج القدماء القائلين: إن العرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ضريح مجد، وأحيت هذه المرأة بكلامها وشجاعتها شجاعة زوجها فرفض الفرار وعاد إلى التفكير والتدبير، فتيسرت له وسائل إقناع الأقوام بخطئهم فأذعنوا إليه خاضعين وبخضوعهم ذل الآخرون فتمكنت الحكومة من قهرهم وراق الوقت للملك بوستينان بسبب مشورة هذه الفاضلة وحسن آرائها. حرف الجيم جان دارك وتسمى "لابوسل" وتعرف بالسيدة "أوريان" هي فتاة فرنساوية كانت نقية البشرة، مهفهفة القوام، دعجاء العينين، ذات شعر فاحم مسترسل على كتفيها، يلوح على محياها الصبيح سيما الحياء واللطف والدعة، وتبدو من مخايلها أمارات مضاء العزيمة، وبعد الهمة، وثبات الجأش، ولطالما امتطت الفرس فسابقت عليه وهو غير مسرج ولا مشكوم جراءة وفروسية، وكانت ذات كلام بالغ بين الرشد وأفعال دائرة على محور الاستقامة والصلاح. ولدت في "دومرمي" من مقاطعة "لورس" سنة 1411 للميلاد من راع يدعى "جان" وكان قد رباه الفقر وهذبه الدين، فنشأت كثيرة الهواجس الدينية، ولما بلغت الخمس سنوات أخذت ترى في هجعتها رؤيا علوية زاعمة أن الملائكة والأولياء تتجلى عليها بمظهر نوراني، فلما أنس أبوها منها ذلك أراها من القسوة والعنف ما حداها إلى الفرار والانطواء إلى أرملة من ربات الفنادق، فأقامت في خدمتها زمناً تبذل عندها من الإخلاص في السعي والإقدام في العمل والعفاف في المسلك ما تذكر به فتشكر، ثم عادت إلى أبيها زمان إذ كان فرنسا على شفا حفرة من النار والإنكليز يذيقونها من حروبهم ضريع الويل الممزوج بالشنار. وكان قد مر بقريتها فريق من الأعداء فاكتسحوها واستافوا أموالها فاقتسموها وتركوها خاوية على عروشها يندبها لسان الخراب، ويأوي إلى أطلالها البوم والغراب، فصدع فؤادها الشفاف ذل قومها وبوارهم وانكسارهم للعدو المفضي إلى دمارهم، فعاودتها الأحلام والرؤيا وزعمت أنها مأمورة بالإلهام بإنقاذهم وبلادهم من الهلكة والمعرة، وانتشال قومها من هوة الحيف والمضرة. وبعد تردد وإعمال روية سارت إلى "شارل" ملك فرنسا، وذلك في شهر شباط سنة 1429 ميلادية وكان عليها أن تقطع مسافة 150 فرسخاً في أقطار مشحونة بدبابة الإنكليز ومحفوفة بالمكاره والأهوال حتى تبلغ مدينة "لوزين" حيث يقيم الملك فتزيت بزي فارس وعلت جوادها بعد أن تقلدت حساماً بتاراً، واخترقت تلك المهامة حتى إذا أشرفت على مقر الملك بعثت تنبئه بقدومها وتخبره بأنها ستكون منقذة العرش ورافعة الحصار عن "أوليان" وأنها ستمهد سبيل تتويجه في "رام"، فلما قدم عليه البشير بذلك النبأ ابتسم ذرياً عن قلب مشحون بالغيظ، ثم استمر مع وزرائه في شأنها ثلاثة أيام، فكان فريق يسخر منها ويضحك عليها، وفريق يذود عنها ويرى إلقاء المقاليد إليها والملك بين ذلك من حزب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء حتى أسفر الرأي عن لقائها فلبس الملك ثياب أحد أتباعه وألبسه ثوبه الملكي اختباراً لأمرها، ثم أذن لها فجاءت تخترق صفوف الحشم والحاشية حتى وقفت بإزائه فانحنت جاثية لديه قائلة له: بلسان ذرب حييت وحبيت أيها الملك الحليم؟ فقال لها: أخطأت فإن الملك هو ذاك مشيراً إلى من ألبسه ثوبه فقالت: ما الملك إلا أنت وما أنت إلا الملك وإني لمأمورة أنا العذراء المسكينة من الروح الأمين بشد أزرك والدأب لأسباب نصرك وما على الرسول إلا البلاغ، فخلا بها الملك حيناً من الدهر ثم ناجى وزراءه فقال لهم: لقد أحاطت لعمر الله بما في سرائري وأدركت مما لا يدركه بعد الله إلا ضمائري وإني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لا أشك أن أكون من أمرها على ثقة ولكن لا بأس من التأني ريثما تمتحن. ثم أتاها برهط من مهرة الأطباء وأساطنة العلماء وحاولوا أن يفقروها بمسائل مشكلات وغوامض حتى إذا أعيتهم الحيل وعادوا بالخيبة والفشل عززها الملك بكتيبة من خواص فرسانه فبرزت أمام الجيش شاكة السلاح، معتقلة بيدها رمحاً وبالأخرى راية وأخذت تعدو على جوادها متفننة في أنواعالفروسية حتى سحرت الناظرين فهتفوا ترحيباً بها واستحساناً لها وتعجباً منها. ثم صارت بجيشها تنهب الأرض هملجة وخبباً حتى بلغت العسكر في "أورليان" وإذا بأرواح القوم تكاد تبلغ التراقي والعدو محيط بالمدينة إحاطة الهالة بالبدر وأهلها في شدة من ضيق الخناق، فأمرت بادئ بدأة بتطهير العسكر من عواهر النساء، وحضت الرجال على الاستمساك بالتقوى والاعتصام بالرجاء، ثم زحفت على البلد، فاستول ىالرعب على قلوب الإنكليز وقالوا: ما هذه بشر إن هي إلا ملك كريم، أو ساحر أثيم، وكانت ترتدي بحلة بيضاء وتركب جواداً أشهب وتنشر فوقها راية بيضاء فإذا بصر بها الإنكليز وهي في هذا الهندام فروا من أمامها كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. وما برحت تصدق الحملة وتتابعها وتبلي بالعدو البلاء الحسن وهي تتجرع من انحراف جيشها عنها وعدم انقياده لها أنواع الغصص واضروب الإحن حتى استتب لها الفوز فضعف الإنكليز واستكانوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا فألجأوا إلى الجلاء على "أورليان" فكفوا عن حصارها في 18 أيار سنة 1429م، وانهزموا لا يلوون على شيء فسارت "جان دارك" إلى "بلوا" لتهنئ الملك بما أوتيه على يدها من النصر، وكان القرويون في تلك الأصقاع يتسابقون لمرآها، ويتزاحمون على لثم أقدامها وملس ثراها، فأكرم رجال البلاد وفادتها، ودعاها الملك إلى وليمة فأبت قائلة: إن الوقت وقت جهد وثبات لا وقت قصف ولذات، وإن الروح أنبأني بأن الموت قد دنا فتدلى حتى صار على قاب قوسين، وإنه لم يبق بيني وبينه أكثر من عامين فاذهب بحقك إلى "رام" حيثما أتوجك بيدي وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء، وصارت أمامه بفصيلة من الجيش حتى إذا بلغت "جارجوا" اعترضها العدو فهاجمته، ورقت سلماً نصب لها على السور فرميت من أعلاه بما جند لها من الخندق، فصرعت، ولكنها أفاقت بعد قليل، وجعلت قائد الجيش يستثير حمية العساكر بكلام أرق من السحر وأفعل في الرؤوس من نشوة الخمر، وهي تعاني آلاماً مبرحة فدبت النخوة في صدور الرجال وحملوا حملة صادقة أذاقت العدو الأزرق بلاء أسود، وأرته من بريق النصل الأبيض موتاً أحمر، فاستولت على البلد عنوة بعد أن أسرت، ولما طار الخبر إلى الأمير "تلبوت" قائد الإنكليز العام أخلى سائر المدن وكر قافلاً إلى باريس وما برحت "جان دارك" آخذة في سيرها، وكلما عثرت بشرذمة فتكت بها حتى بلغت مدينة "رام"، وهناك تم تتويج "شارل" في 17 تموز سنة 1429م، وكانت "جان دارك" ممسكة بسيفه وعليها أثواب الكماة. وبعد انقضاء الحفلة جثت عند قدميه وعانقتهما باكية ثم قالت: اليوم أكملت لكم نصركم وأنجزت كل ما وعدتكم فأطلقوا سراحي فأعود إلى أبي قريرة العين حيثما أرعى الماشية وأغزل الصوف جرياً على سنة بيت ربيت فيه، ونشأت عليه فامتنع الملك قائلاً: كيف أغادر من بها نجاة الزة وإليها يرجع أمر استتبات راحتها، وعليها يتوقف استكمال سعادتها، ذلك لأن الناس كانوا قد ازدادوا بها اعتقاداً وعلقوا على بسالتها وإقدامها آمالاً طوالاً حتى كانوا يرون حول رايتها أرواحاً من الفراش البراق، فساءها امتناع الملك وعرتها من تلك الساعة الكآبة والحزن وفارقها ذلك الرشد والنشاط، وذهبت عنها تلك الحمية والبسالة، وانقطعت عنها أحلامها الروحانية حتى أصبحت أعمالها رهينة الحيرة والفشل وأقوالها قرينة الوهم والركاك، وكانت تُرى أبداً حائرة النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 دائمة البكاء. ولما لم يُجدها الإلحاح نفعاً استعادت من معبد "رام" سلاحها وبرزت ثانية في زي الأبطال غير أن كبراء القادة وأمراء الجيش كانوا قد أشربوا بغضها وأضمروا لها الحسد والضغينة فصاروا يشنعون عليها ويسيئون معاملتها، ويغرون العساكر على نبذ طاعتها، ويلقبونها بالألقاب المستهجنة، ويتهمونها بهتك حجابها، ويفضحونها أمام العموم، فكانت تردهم أقبح الرد ولا تجالس إلا حرائر النساء ومصونات الأبكار، ولا تنام إلا مع امرأة تخفرها، فلم يجد أحد فيها محلاً للوم والقذف، ومع أنها جرحت جراحات لم يثبت كونها سفكت بيدها دم أحد، ثم أشارت على الملك بالشخوص إلى باريس ليستخلصها من يد الإنكليز فساروا و"جان دارك" سائرة في ركابه حتى إذا بلغها بعد شق الأنفس أمرها بالهجوم على "قويورسنت" أو ترى حيث يقيم الأعداء فأثخنت في تلك الواقعة جرحاً، وصرعت صرعات، ولما استعادت رشدها قامت فعلقت درعها وسألت الملك الانصراف فأبى ووعدها بإعفاء قريتها من الضرائب ومنحها رتبة جليلة، فعاودت الخدمة مرغمة. وفي سنة 1430م انتدبها الملك إلى إجلاء الإنكليز عن "كوبيين" فسارت متدرعة بالإقدام بيد أنها لما أرادت الإيقاع بالحاضرين خذلها أتباعها فرميت بسهم، فصرعت واستسلمت إلى الأمير "فندوم". وذلك في 24 أيار سنة 1430م، فذاع خبر أسرها في تلك الأصقاع، وأقبل الناس لرؤيتها ثم بويعت للإنكليز وخذلها الملك "شارل" جاحداً جميلها، كافراً نعمتها، لؤماً منه وخسة أصل، وخاض الناس في حديثها، وكان أهل باريس يشدون عليها النكير، ويغرون الإنكليز على إتلافها، فلبثت مسجونة في قعلة "جان دولكسنبرغ" حتى أقيمت عليها الدعوى في 13 شباط سنة 1431م تحت رياسة "كوشون مترنه بوفه"من صنائع "هنري السادس" عامل الإنكليز فسيقت إلى المحكمة ست عشرة مرة أبدت في خلالها ثباتاً عجيباً، ودفاعاً مفحماً على أنهم حكموا أخيراً بأنها مبتدعة ساحرة وبأن تجازى بالحبس الأبدي مقصوراً قوتها على الخبز والماء، ثم أرغموها على الحلف بأن لا ترتدي بعد ذلك بلباس الرجال، ثم نصبوا لها شركاً بأن بدلوا ثيابها ليلاً بثياب رجل. فلما أرادت ترك فراشها لم تجد سوى تلك الثياب، فلبستها مضطرة، فهوجمت وسيقت إلى الحاكم بهذا الزي فحكم بأنها حانثة تستحق الإحراق فقالت بثبات وجلال: إنني أستأنف حكمك إلى عرش الحكيم العظيم، ولكنها لما أخرجت إلى حيث استوقدت النار خارت قواها فأتت متأوهة، ولما حمي الوطيس ولعلع اللهيب فيه جعلت تدعو وتبتهل بلسان أبكى أعداءها، وحير الكردينال "بوفور" فحول وجهه عنها تألماً والدموع تنهدر من مآقيه كالسواقي وقد تم هذا المشهد الأثيم في 21 أيار 1430م في ساحة تسمى "موضع البكر"، وذرى رمادها بالهواء فوق نهر السين، ثم بعد عشرين عاماً نقض مطران باريس ومطران "رام" هذا الحكم وأثبتا براءتها. وفي سنة 1820م أقيم لها تمثال في موطنها "دومرمي" وآخر في محل إحراقها "دون" ثم آخر في باريس وهو أجمل تماثيلها. وفي سنة 1851م نصب لها أهل "أورليان" تمثالاً في مدينتهم وهم يعيدون تذكارها في 8 أيار في كل عام وقد عاب الرأي العام "فوليت" بقصيدته التي أودعها ذم "جان دارك" وتسويد صحيفتها بأنواع السب الظالم والقذف الغادر، ولكنه لا يستغرب ذلك ممن أوقف حياته على تقويض عمد الديانات، وتزييف أوليائها، وقد ألف كتبة الإفرنج بموضوع قصتها عدة روايات محزنة من النوع المعروف "بالتراجيدي" أي الفاجعة وهي مما يذيب تمثيلها القلوب ويشق المرائر فيا قاتل الله الإنسان إنه لكافر. ليت السباع لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا إن السباع لتهدا عن فرائسها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 جليلة بنت مرة الشيباني هي أخت "جساس" قاتل كليب بن ربيعة أخي المهلهل. وكانت جليلة تزوجت ب"كليب"، فلما قتل "جساس" أخوها "كليباً" زوجها، اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت "كليب": اخرجي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب. فقالت لها: يا هذه، اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا، وشقيقة قاتلنا، فخرجت وهي تجر أعطافها فلقيها أبوها مُرّة فقال لها: ما وراءك يا جليلة، فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد، وفقد حليل وقتل أخي عن قليل، وبين ذلك غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد فقال لها: أوَ كيف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات؟ فقالت جليلة: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبالبدن تدع لك تغلب دم ربها! قال: ولما رحلت جليلة قالت أخت "كليب": رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويلٌ غداً لآل مُرّة من الكرة بعد الكرة، فبلغ جليلة قولها فقالت: وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقب وترها أسعد الله خيراً أختي أفلا قالت نفرة الحياة وخوف الاعتداء، ثم أنشدت تقول: يا ابنة الأقوام إن لمت فلا ... تعجلي باللوم حتى تسألي فإذا أنت تبينت الذي ... يوجب اللوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئ ليمت على ... شغف منها عليه فافعلي جل عندي فعل جساس فيا ... حسرتي عما انجلى أو ينجلي فعل جساس على وجدي به ... قاطع ظهري ومدن أجلي لو بعين فديت عيناً سوى ... أختها فأنفقأت لم أحفل تحمل العين أذى العين كما ... تحمل الأم أذى ما تفتلي يا قتيلاً قوّض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من علِ هدم البيت الذي استحدثه ... وانثنى في هدم بيتي الأول ورماني قتله من كثب ... رمية المصمى به المستأصل يا نسائي دونكن اليوم قد ... خصني الدهر برزء معضل خصني قتل كليب بلظى ... وأراني ولظى من أسفل ليس من يبكي ليومين كمن ... دائماً يبكي ليوم ينجلي يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي الثأر لثكل المثكل ليته كان رمى فاحتلبوا ... درراً منه برمي بالحلي إنني قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي جميلة الخزرجية هي مولاة بني سليم التي قيل فيها: إن الدلال وحسن الغناء ... وسط بيوت بني الخزرج وتلك الجميلة زين النساء ... إذا هي تزدان للمخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كانت جامعة بين أجلّ طبقات الغناء والجمال وأسمى مراتب العفاف والكمال، وقورة السمت، رخيمة الصوت، بهية الشارة، فتانة الملامح، رزينة الحصاة، عذبة الكلام، وجيزة العبارة. أجمع مجيدو عصرها - مثل: الغريض وابن سريج وابن محرز ومعبد بن جامع وحيابة وابن عائشة وسلامة وزمين وخليدة وعقيلة العقيقية - على كونها إمام هذا الفن ومجلي مضمار السبق فيه شرقاً وغرباً بين الإنس والجن. وكان معبد يقول: لم لم تكن جميلة لم نكن نحن مغنين، ولطالما تحاكم لديها أولو الفن المجيدون من مكيين ومدنيين وبصريين، فقضت بينهم قضاءً آخذاً بناصية الأنصاف مأموناً به جانب الحيف والإجحاف، قيل: حجت ذات سنة فخرج إلى لقائها كبراء مكة وساداتها، ومشاهير مغنيها وقيناتها فكثر الزحام وازدحمت في أرجاء الحرم الأقدام، والتفت الساق على الساق، حتى كأنه يوم التلاق، ولما انقضى الحج اقترح عليها الأمراء وعقد مجلس للغناء فقالت: ما كنت يا ذوي الفضل لأخلط الجد بالهزل. ثم عادت إلى يثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها سراتها وأشرافها يتقدهم الأطفال والنساء، وكان قد صحبها قوم من غزز مكة وأعيانها، فلما حلت دارها أتاها الجميع مهنئين باللطف والإيناس فغصت الساحات والسطوح بتخليط الناس، واصطف المغنون طبقتين متناوحتين، فكان كلما دمدمت وشدت علا من الخلق ضجيج ينطح به عنان السماء، وأذن السمع صماء الكل يقول: ما رأينا ولا سمعنا بمثل هذا، ثم اقترحت على المغنين أن يهذبوا شفعاً ووتراً، ففعلوا، فكانت تصلح لكل أغلاطه وتريه وجه الإصابة من الطرب طريقاً حتى أبهتت الناس عجباً، وحيرتهم وأبكتهم طرباً وصبابة، فانصرفوا يقولون: اللهم غفراً، فسبحان من جعلها في كل معنى غاية إنه ولي التوفيق. جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية هي أخت عاصم بن ثابت امرأة عمر بن الخطاب تكنى أم عاصم بابنها عاصم بن عمر بن الخطاب سمته باسم أخيها وكان اسمها عاصية، فلما أسلمت سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة، تزوجها عمر سنة 7 من الهجرة فولدت عاصماً، ثم طلقها عمر بتزوجها يزيد بن حارثة، فولدت له الرحمن بن يزيد فهو أخو عاصم لأمه. وقيل: إن عمر ركب إلى قبيلتها فوجد ابنه عاصماً يلعب مع الصبيان فحمله بين يديه، فزدركته جدته الشموس بنت أبي عامر فنازعته إياه حتى انتهى إلى أبي بكر الصديق فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها فما راجعه وسلمه إليها لكونها حاضنته وكانت جميلة إذ ذاك متزوجة بيزيد بن حارثة. جنان جارية عبد الوهاب الثقفي كانت بمنزلة عظيمة من الحب عند أبي نواس ويقال: إنه لم يصدق بحب امرأة غيرها وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار. رآها أبو نواس بالبصرة عند مولاها المذكور فاستحلاها وقال فيها أشعاراً كثيرة، وقيل له يوماً: إن جنان عزمت على الحج فقال: إني سأحج على هذا إن أقامت على عزيمتها فلما علم أنها خارجة سبقها، وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها وقال لما عاد من حجه: ألم تر أنني أفنيت عمري ... بمطلبها ومطلبها عسير فلما لم أجد سبباً إليها ... يقربني وأعيتني الأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 حججت وقلت قد حجت جنان ... فيجمعني وإياها المسير وقد أرسل إليها أبو نواس حين عاد من حجه بهذه الأبيات: إلهنا ما أعدلك ... مليك كل من ملك لبيك قد لبيت لك ... لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك ... والليل لما أن حلك والسابحات في الفلك ... على مجاري المنسلك ما خاب عبد أملك ... أنت له حيث سلك لولاك يا رب هلك ... كل نبي وملك وكل من أهل لك ... سبح أو لبى فلك يا مخطئاً ما أغفلك ... عجل وبادر أجلك واختم بخير عملك ... لبيك إن الملك لك والحمد والنعمة لك ... والعز لا شريك لك وقيل: كانت جنان قد شهدت عرساً في جوار أبي نواس فانصرفت منه وهو جالس، فلما رآها أنشد بديهاً: شهدت جلوة العروس جنان ... فاستمالت بحسنها النظاره حسبوها العروس حين رأوها ... فإليها دون العروس الإشاره وغضبت يوماً جنان من كلام كلمها به، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له لا برح الهجران ربعك ولا بلغت أملك من أحبتك، فرجع الرسول إليه فسأل عن جوابها فلم يخبره فقال: فديتك فيم عتبك من كلام ... نطقت به على وجه جميل وقولك للرسول عليك غيري ... فليس إلى التواصل من سبيل فقد جاء الرسول له انكسار ... وحال ما عليه من قبول ولو ردت جنان مرد خير ... تبين ذاك في وجه الرسول قيل: ولم تكن جنان تحبه أولاً، فما عاتبها به حتى استمالها بصحة حبه لها فصارت تحبه بعد بغضها له قوله: جنان إن جدت يا مناي بما ... آمل لم تقطر السماء دما وإن تمادى ولا تماديت في ... منعك أصبح في قفرة رمما علقت من لو أتى على أنفس ... الماضيين والغابرين ما ندما لو نظرت عينه إلى حجر ... ولد فيه فتوره سقما وقال الجماز: كنت عند أبي نواس جالساً إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين فسألها عن جنان وألحف في المسألة فاستقصى، فأخبرته خبرها وقالت: قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أني أسمع، ويحك قد آذاني هذا الفتى وأبرمني، وأحرج صدري وضيق علي الطرق بحدة نظره وتهتكه فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته، ثم التفتت فأمسكت عن الكلام ففرح أبو نواس بذلك فلما قامت المرأة أنشأ يقول: يا ذا الذي عن جنان ظل يخبرنا ... بالله قل وأعد يا طيب الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قال اشتكتك وقالت ما ابتليت به ... أراه من حيثما أقبلت في إثري ويعمل الطرف نحوي إن مررت به ... حتى ليخجلني من حدة النظر وإن وقفت له كيما يكلمني ... في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر مازال يفعل بي هذا ويدمنه ... حتى لقد صار من همي ومن وطري وقيل: أرسلت جنان تقول لأبي نواس: قد شهرتني فاقطع زيارتك عني أياماً لينقطع بعض القالة، ففعل وكتب إليها: إنا اهتجرنا إذ فطنوا ... وبيننا حين نلتقي حسن ندافع الأمر وهو مقتبل ... فشب حتى عليه قد مرنوا فليس يقذى عيناً معاينة ... له وما إن تمجه أذن ويح ثقيف ماذا يضرهم ... لو كان في ديارهم سكن أريب ما بيننا الحديث فإن ... زدنا فزيدوا فما لذا ثمن وقيل: كتب إليها من بغداد: كفى حزناً أن لا أرى وجه حيلة ... أزور بها الأحباب في حكمان وأقسم لولا أن تنال معاشر ... جناناً بما لا أشتهي لجنان لأصبحت منها داني الدار لاصقاً ... ولكن ما أخشى فديت عداني فوا حزناً حزناً يؤدي إلى الردى ... فأصبح مأسوراً بكل لسان أراني انقضت أيام وصلي ... منكم وآذن فيكم بالوداع زماني وقيل: بلغه أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر، فقال في ذلك: وا بأبي من إذا ذكرت له ... وطول وجدي به تنقصني لو سألوه عن وجه حجته ... في سبه لي لقال يعشقني نعم إلى الحشر والتنادي نعم ... أعشقه أو ألف في كفني أصيح جهراً لا استسر به ... عنفني فيه من يعنفني يا معشر الناس فاسمعوه وعوا ... إن جناناً صديقة الحسن فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره، فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالحته فكتب لها: إذا التقى في النوم طيفانا ... عاد لنا الوصل كما كانا يا قرة العين فما بالنا ... نشقى ويلتذ خيالانا لو شئت إذا أحسنت لي في الكرى ... أتممت إحسانك يقظانا يا عاشقين اصطلحا في الكرى ... وأصبحا غضبى وغضبانا كذلك الأحلام غدارة ... وربما تصدق أحيانا وقيل: رآها يوماً في ديار ثقيف فقابلته بما كره، فغضب وهجرها مدة فأرسلت إليه تصالحه، فرده ولم يصالحها، فرآها في النوم تطلب صلحه فقال: دست له طيفها كيما تصالحه ... في النوم حين تأبى الصلح يقظانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فلم يجد عند طيفي طيفها فرجاً ... ولا رثى لتشكيه ولا لانا حسبت أن خيالي لا يكون لما ... أكون من أجله غضبان غضبانا جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا ... فلم يكن هيناً منك الذي كانا ومن قوله: أما يغني حديثك عن جنان ... ولا تبقى على هذا اللسان أكل الدهر قلت لها وقالت ... فكم هذا أما هذا بفان جعلت الناس كلهم سواء ... إذا حدثت عنها في البيان عدوك كالصديق وذا كهذا ... سواء وإلا باعد كالأداني إذا حدثت عن شأن توالت ... عجائبه أتيتهم بشأن فلو موهت عنها باسم أخرى ... علمنا إذ كنيت من أنت عاني ومن ظريف ما كتبه إليها قوله: أكثري المحو في كتابك وامحيه ... إذا ما محوته باللسان وامرري بالمحاء بين ثاناياك ... العذاب المفلجات الحسان إنني كلما مررت بسطر ... فيه محو لطعته بلساني تلك تقبيلة لكم من بعيد ... أهديت لي وما برحت مكاني ورآها يوماً في مأتم سيدها تندبه باكية وهي مخضبة فقال مرتجلاً: يا قمراً أبرزه مأتم ... بندب شجواً بين أتراب يبكي فيذرى الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب لا تبكي ميتاً حل في حفرة ... وابكي قتيلاً لك بالباب أبرزه المأتم لي كارهاً ... برغم دايات وحجاب لازال موتاً دأب أحبابه ... ولا تزل رؤيته دأبي ودخل على أبي نواس بعض أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوا به خفة قالوا: فانبسط معنا فقال: من أين جئتم؟ فقلنا من عند جنان. فقال: أو كانت عليلة؟ قلنا: نعم، وقد عوفيت الآ. فقال: والله أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سبباً غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعاً أن يكون الله عافاه منها قبلي ثم دعا بدواة وكتب إلى جنان: إن حممت ولم أشعر بحماك ... حتى تحدث عوادي بشكواك فقلت ما كانت الحمى لتطرقني ... من غير ما سبب إلا بحماك وخصلة قمت فيها غير متهم ... عافاني الله منها حين عافاك حتى إذا انقضت نفسي ونفسك في ... هذا وذاك وفي هذي وفي ذاك وقيل: إن أبا نواس حاول مراراً أن يتزوج بها ولم ينل ذلك، وتوفي قبلها وبقيت هي في منزل سيدها معززة مكرمة إلى أن ماتت بعد أبي نواس بمدة قليلة. ويقال: إن سبب وفاتها حزنها على أبي نواس لكونها لم تتصل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 جنفياف ابنة دوق براينت من أعمال فرنسا ولدت في فرنسا سنة 680 ميلادية وكانت من أبدع نساء عصرها جمالاً ورقة، وأكثرهن لطفاً ورزانة، وأبدعهن حديثاً ومعاشرة. أحبها "شغفريد" - كونت "بالتين" - وأحبته، فاقترنا سنة 700 م. وقبل أن يمضي على قرانهما عام انتدب "شارل مارتل" زوجها لقيادة كتيبة من جيشه المعد لمهاجمة العرب في المغرب، فأجاب سؤلاه وغادر "جنفياف" إلى عناية "ألكافلير غولو" وكيل أملاكه الذي لمه خلا له الجو زين له الخناس مراودة سيدته ومطارحتها الوجد فألفى من عفافها سوراً من حديد لا تخرقه هجمات الماكرين ولا تفعل به مجانيق المحتالين. ولما قنط وأعيته الحيلة عمد لؤماً وخبث طينة إلى اتهامها بالفحشاء زاعماً أنها حملت بعد ترحال زوجها خيانة، ولما كان بعلها ساذج القلب نزيه الضمير دخلت عليه وشاية أمينه الخائن وحدثت به الحمية والأنفة إلى توقيع أمر بإتلافها مع وليدها الطفل على زعمه بيد أن "غولو" خدع من عهد إليهم قتلها فتركت مع طفلها في توغاب لرحمة الله تعالى فحنت على ولدها وأخذت ترضعه وتدأب على تربيته حتى ترعرع، ولما عاد زوجها من غزوته علم أنها برئىة من الوصمة والعار فندم على فعلته ندم الفرزدق على طلاق نوار، فخرج ذات يوم متجولاً في ذلك الغاب للقنص ترويحاً لكربه وإفراجاً عن قلبه، فلقي "جنفياف" عرضاً فخيل له أن روحها مثلت لديه لتشد النكير عليه، ولم يبد له أنها حية حتى ناجته بما يعهد من رقتها، وأزاحت له الستر عما يعلم من مسألة قتلها ودخيلتها، فتجلت له الدنيا إذ ذاك بثوب بهج وغمر الفرح أهداب أماقيه، فأسبلت الدموع وضم محبوبته وابنها إلى صدره ضمة كادت تستفرشهما الفؤاد لو لم تحل دونه حناا الضلوع، وذهب بهما إلى قصره الجميل القائم بين مرج أفيح وماء سلسبيل وقال لهما: كلا منها رغداً حيث شئتما لا جناح بعد اليوم عليكما، فبنت "جنفياف" حيث كانت في الغاب معبداً حمداً لله على حياتها وشكراً وهو لايزال حتي اليوم عبرة للمارين وذكرى. قد شيد فيه أخيراً مذبح نقش عليه خلاصة ما كان وضريح دفن به بعد ذلك العروسان، وقد نظم بلغاء الإفرنج المهم من حوادث "جنفياف" المجيدة شعراً، وألف كتبتهم في أنبائها روايات تترى، عرب إحداها وطبعت ونشرت للعالم وهي على علاتها تثير الأشجان، وتهيج الأحزان، وتتلو على قارئها (كل من عليها فان) (الرحمن: 26) . جنفياف القديسة سميت محامية لباريس ولدت في بلدة "تنشر" نحو سنة 422 ميلادية، وتوفيت في باريس سنة 512م حس أشهر التقاليد كان أبواها "سفيروس" و"جيرونتيا" فقيرين جدا، وكان عملها وهي صغيرة أن ترعى المشاية على قمة جبل "فالريان" حقل يدعى باسمها، وكذلك نبع ومغارة عند حضيضه، ولما كان عمرها 15 سنة أقامها للخدمة الدينية القديس "جرمانوس الأوستري". وقد نبأت سنة 449م بمهاجمة الهونة تحت قيادة "أطيلا"، ولما تهدد هذا القائد سنة 451م أن يهاجم باريس يقال: إن شجاعتها وبراعتها خلصت المدينة وكذلك في أثناء حصار الفرنكة لباريس تحت قيادة "كلوفيس" كانت تقوي الأهالي وتشجعهم، واتخذت طريق لإدخال المؤنة إلى المدينة، ولما أخذت باريس خلصتها شفاعة "جنفياف" من الاعمال القاسية، وكان "كلوفيس" يعتبرها وقد دفنت بالقرب منه في كنيسة القديسين "بطرس" و"بولس" التي بنياها، وقد سميت تلك الكنيسة مع الدير المجاور لها باسمها، وتابوتها الذي يقال إنه من عمل "سان ألدا" جعل مكانه في القرن الثالث عشر تابوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أكبر وأثمن وكان يحسب زمانا طويلا ملجأ أهل باريس، وقد أرسل إلى دار الضرب سنة 1391م، وأحرقت الذخائر التي كانت فيه. جنوب أخت عمرو ذي الكلب النهدي كانت شاعرة فصيحة لبيبة بليغة المعاني ذات ألفاظ رائقة، ومعان فائقة، لها في أخيها مراث قالتها لما قتله بنو كاهل منها ما رواه الجوهري: أبلغ بني كاهل عني مغلغلة ... والقوم من دونهم سعيا ومركوب والقوم من دونهم أين ومسبغة ... وذات ريد بها رضع وأسكوب أبلغ هذيلا وأبلغ من يبلغها ... عني حديثا وبعض القول تكذيب بان ذا الكلب عمرا خيرهم حسبا ... ببطن شريان يعوي حوله الذيب وقالت تمدحه في خلال رثائها: فأقسم ياعمرو لو نبهاك ... إذا نبها منك داء عضالا إذا نبها منك ليث عرين ... مغيثا مفيدا نفوسا ومالا وخرق تجوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكي الكلالا فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا لقد علم الضيف والملرملون ... إذا أغبر أفق وهبت شمالا تخلت عن أولادها المرضعات ... ولم تر عين لمزن بلالا بأنك ربيع وغيث مريع ... وأنك هناك تكون الثمالا وحرب رددت وثغر سددت ... وعلج شددت عليه الحبالا وما حويت وخيل حميت ... وضيف قربت يخاف الوكالا جهان والدة السلءان شمس الدين ملك "دهلى" في بلاد الهند وأم السلطان، تدعى المخدوعة "جهان" وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر وهي مكفوفة البصر وسبب ذلك أنه لما ملك ابنها جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي وهي على سرير الذهب المرصع بالجواهر، فخدمن بين يديها جميعا، ومن شدة فرحها بولدها ذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع وولدها أشد الناس برا بها، ومن بره أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها وترجل عن فرسه وقبل رجلها وفي في المحفة بمرأى من النسا أجمعين. قال ابن بطوطة في "رحلته": "إننا لما انصرفنا من عند السلطان شمس الدين المذكور خرج الوزير ونحن معه على باب الصرف وهم يسمونه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدوعة "جهان"، فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله ودخل معنا قاضي قضاة الممالك، كمال الدين بن البرهان فخدم الوزير والقاضي عند بابها وخدمنا كخدمتهم، وكتب بابها هدايانا، ثم خرج من الفتيان جماعة وتقدم كبارهم على الوزير فكلموه سرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثم عادوا إلى القصر. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر ونحن وقوف، ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام وأتوا بقلال من الذهب يسمونها السبني (بضم السين والياء آخر الحروف) وهي مثل قدور ولها مرافع من الذهب تجلس عليها يسمونها السبك (بضم السين والباء الموحدة) ، وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب وجعلوا الطعام سماطين وعلى كل سماط صفان ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين، ولما تقدمنا للطعام خدم الحجاب والنقباء وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: باسم الله ووقف الوزير ووقفنا معه، ثم خرجوا من داخل القصر ثيابا غير مخيطة من حرير وكتان وقطن فأعطي كل واحد منا نصيبه منها، ثم أتوا بتيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وتيفور مثله فيه الجلاب، وتيفور ثالث فيه التبنول، ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك يأخذ التيفور بيده ويجعله على كاهله، ثم يخدم بيده الأخرى إلى الأرض فأخذ الوزير التيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناسا منه وتواضعا ومبرة جزاه الله خيرا ففعلت كفعله. ثم انصرفنا على الدار المعدة لنزولنا بمدينة "دهلى" وبمقبرة من "دروازة" وبعد وصولنا بعثت لنا الضيافة وهي مع جزار وطحان، وأمرتهما أن يعطونا مقدارا معينا كل يوم، وذلك مدة إقامتنا في بلادها، وكان وزن اللحم بمقدار وزن الدقيق، ومكثنا نستلم ضيافتها إلى أن انصرفنا من بلادها ولم أر مثلها في نساء الملوك لما حوته من العز والجاه والكرم العديم المثال". جورج سند دوفان كانت صاحبة روايات فرنساوية، سمت نفسها "جورج سند" ولدت في باريس سنة 1804 ميلادية، وتوفي أبوها "موريس دوين" ولم يكن لها من العمر سوى أربع سنوات فربتها جدتها الكونتس "دوهدن"، وبعد أن صرفت نحو سنتين في مدرسة يومية في باريس رجعت إلى "توهان" سنة 1820م. وعند وفاة جدتها بعد ذلك بأشهر قليلة سكنت مع أصحاب عائلتها في "ملون" حيث تعرفت ب "كزمير دوفان" فتزوجت به سنة 1822م وسكنت في "توهان" ولم يمض إلا قليل حتى ظهر لهما ما بينهما من الاختلاف في الطباع والأخلاق والذوق وزاد النفور بينهما الارتباك المالي الذي وقع في سنة 1831م. ولما كانت هي راغبة في امتحان حظها في التأليف حصلت رخصة من زوجها بأن تصرف ثلاثة أشهر من كل ستة أشهر في باريس، فنشرت بضع نبذ في جرنال "الفيقارو" فظهر لها أنها غير قادرة على الكتابة في الجرائد لما يلزم لذلك من سرعة الخاطر والعمل، وكان زوجها قد عين لها 1500 فرنك سنويا، فطلبت الاقتصاد، ورغبة في الدخول على المكاتب والملاعب العمومية دون ملاحظة لبست لبس رجل. وفي تلك الأثناء كتبت بمساعدة صديقها "جول سند" رواية عنوانها "روزه وبلانش" تحت اسم "جول سند" فصادفت قبولا، فقوى ذلك عزمها على نشر رواية أخرى من القلم نفسه، ولكن لم تجد عند "جول" -المذكور- رواية مجهزة إلا أنها كانت قد أكملت رواية عنوانا "أن بانا" نشرت في أيار سنة 1832م تحت اسم "جورج سند" فصادفت قبولا تاما، ومما زادها قبولا ما شاع من أنها من قلم امرأة، ثم أردفتها بعد قليل برواية عنوانها "فالنتين" وهي أحسن من الأولى وصادفت قبولا، ثم صارت بعد ذلك كاتبة روايات الجريدة "الريفودي ردموند". وسنة 1833م نشرت رواية عنوانها "ليلا" أثرت في العموم تأثيرا بليغاً لمحافظتها عن مبادئ الكفر والخلل في الهيئة الاجتماعية، ومن ذلك الوقت أخذ كثيرون من الذين كانوا يعتبرون مؤلفاتها ينظرون إليها بعين استخفاف فذهبت حينئذ على إيطاليا طلبا لتبديل الهواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ورافقها "أكفرت دومست" الشاعر، ولكنهما افترقا في البندقية فرجع إلى فرنسا وبقيت هي وكتبت هناك عدة كتابات، وعند رجوعها إلى فرنسا في أوائل سنة 1835م التقت بالمتشرع الفصيح "ميشال دوبرج" فساقها إلى الأمور السياسية ومع "لامني" الذي وقع جدال بينه وبينها في أمور دينية ومع "بيرلورو" الذي علمها المبادئ الاشتراكية، وظهر تأثرهم فيها في كثير من مؤلفاتها وكان حينئذ قد ازداد النفور بينها وبين زوجها فحصلت على أمر يؤذن لها بتركه ويولجها إدارة أمورها بنفسها وتربية أولادها وبعد ذلك جعلت "توهان" مكانا لاجتماع أصدقائها، واعتنت بتربية أولادها. وسنة 1838م صرفت الشتاء في جزيرة "ميورقة" حيث رافقها "شوبن" معلم البيانو فبقيت فيها إلى سنة 1847م حين اضطرتها ثورة سنة 1848م أن تعود ثانيا إلى ميدان السياسة ويقال: إنها عضدت بكاتاباتها كثيرا من الأعمال التي اتخذها "لدورولن" وكان حينئذ عضوا للحكومة المؤقتة ثم رجعت على "توهان". وسنة 1854م نشرت في جريدة "جرس" ترجمة حياتها محتوية على بعض الحوادث التي تخللتها وهي تاريخ لأفكارها وحاسياتها ونشرت نحو 60 رواية منها كتب ومنها نبذ في الجرائد ولها تآليف أخرى كثيرة مطبوعة باللغات الإفرنجية. جوزفين ابنة الكونت تشاوي لاباجرى الفرنسوي من مقاطعة بالقرب من "بلو"، وأمها فرنسوية الأصل أيضا من مستعمرات جزيرة لاقديس "رومينيكو" التابعد لفرنسا عرفها الكونت "تشاوي" لما هاجر إلى تلك الجزيرة سنة 1760م ليكون مأمورا بحرا تحت قيادة المركيز "بواهرني"، وإلى الجزيرة وقتئذ، فتزوج بها ورزق منها "جوزفين" المذكورة آنفا. وتوفي والدها بعيد ولادتها ثم ماتت زوجته وتركا "جوزفين" طفلة يتيمة الوالدين فاعتنت بها عمتها القاطنة في تلك الجزيرة وكانت هي وزوجها من أصحاب الأملاك الكثيرة والثروة الطائلة وعلى جانب عظيم من اللطف والدعة حتى أكرمهما أهالي الجزيرة واشتهرا بكل منقبة ومحمدة حتى كان خدمهما ينظرون إليهما نظر الآلهة وأحبهما جميع معارفهما حبا عظيما. فهذان اعتنيا ب "جوزفين" وربياها على المبادئ الأدبية منذ الصغر وغرسا في قلبها الحنو واللطف فكانت تعامل بمثل ذلك العبيد القاطنين في ذاك المكان فأحبوها كثيرا وكانوا يعدونها كملكة عليهم ولم يكن لها في تلك الجزيرة من تلعب معه من الأولاد سوى أولاد العبيد فهؤلاء كانوا أصدقاءها في الصغر أما أصحاب عمتها وزوجها فكانوا من خاصة الفرنسويين القاطنين في تلك الجزيرة وهم جماعة من المهذبين العرافين بالآداب والفنون المتمسكين بعوائد بلادهم واصطلاحاتها الحسنة، ومن السياح الأوربيين الذين يأتون الجزيرة ويجولون في أقطار العالم وكانت "جوزفين" تسمع أحاديثهم وتستوعبها في عقلها النير وتحفظ منها أمورا كثيرة لمستقبل الأيام، ولذلك ظن الناس بعد اقترانها ب "نابليون" ومطالعة رسائلها الأنيقة أنها تعلمت في أحسن المدارس ودرست كل الفنون على أنها لم تدرس شيئا منها درسا قانونيا ما عدا الموسيقى والتصوير والرقص، وأما ما بقي فاكتسبته اكتسابا بجدها واجتهادها وتوقد ذهنها وشدة ميلها إلى الدراسة. وكانت تضرب الغيثار بحذاقة غريبة وتغني بصوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وإذا قرأت أثرت في عقول السامعين وسحرتهم بحسن بيانها ورقة كلامها. وقد اشتهرت بمحبة الأزهار ودرس علم النبات والرقص وبرعت في الخياطة وسائر فنون النساء غير أنها لم تكن تهتم بأمر الملبس اهتماما خاصا، ولا كانت تباهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 بحسن قوامها وجمال محياها شأن كثيرات من النساء وكانت صديقتها الحميمة في الصغر إحدى النبات الحبشيات اللون. ويقال: إنها ابنة الكونت "تشاوي" والد "جوزفين" قبل اقترانه الشرعي وهي أكبر منها بسنتين ولم تفارقها لفرط محبتها لها وتعلقها بها. وبينما هما ذاهبتان للنزهة ذات يوم وجدتا عددا من العبيد حول امرأة سوداء طاعنة في لاسن تزعم أنها من أهل الكرامات الذين ينبئون بالغيب فوقفت "جوزفين" مع البنات، ودنت إلى المرأة وسألتها أن تنبئها بمستقبل أمرها، فقبضت المرأة على يدها وهزتها فقالت "جوزفين": أظنك اطلعت على شيء من مستقبلي. فقالت المرأة لها: نعم، قالت "جوزفين" مبتسمة: هل تصيبني السعادة أم التعاسة؟ فأجابتها المرأة: التعاسة، ثم سكتت وقالت: ثم تتلوها السعادة. فقالت "جوزفين": أظنك غلطت فانظري ثانية فرفعت المرأة نظرها إلى السماء وعلامات الكدر تلوح علة وجهها وقالت: لا يسوغ لي أن أقول أكثر من ذلك، فسألتها "جوزفين" بإلحاح أن تنبئها بمستقبلها فأجابتها المرأة: أخاف أن لا تصدقيني فألحت عليها، فقالت: إنك تتزوجين عن قريب ثم لا يمضي إلا القليل حتى يموت زوجك ولكنك ستصيرين ملكة فرنسا عدة سنين، ثم تموتين في مستشفى وسط اضطرابات أهلية. وفي تلك الأثناء هاجر إلى تلك الجزيرة عائلة إنكليزية وسكنت بالقرب من بيت عمة "جوزفين". وبين أفراد هذه العائلة شاب اسمه "وليم" يقارب عمره عمر "جوزفين" فأحب كل منهما الآخر حتى صار أهلهما يلمحون إلى ذلك وطنوا أنهما سيتزوجان عند بلوغهما سن الرشد إلا أن الفتى عاد إلى بلاده مع عائلته لأسباب قضت بذلك فشق لعيه فراق "جوزفين" وشعر أن حياته منغصة فتعاهد معها على المحبة والثبات على المودة إلى حين اللقاء. وكان عمر "جوزفين" وقتئذ أربع شعرة سنة وهي في معظم البهاء والجمال أسيلة الخد معتدلة القد واتفق في ذلك الحين أن رجلا فرنسويا يلقب ب "الكونت فيس إسكندربواهرني" زار عم "جوزفين" لأشغال له وهذا الرجل مولود في جزيرة "دومينيكو" وقد نال الوسامات وألقاب الشرف على شجاعته في الحرب التي نشبت بني المستعمرات والممالك الأصلية، وهو من المشهورين بالبسالة والنخوة ومساعدة المستعمرات فصيح اللسان ثابت الجنان، أنيس المعشر، لطيف المحضر وقد حضر وقتئذ إلى الجزيرة لإثبات حق له على أملاك من جملتها قسم في حوزة عم "جوزفين" واضطر على البقاء عدة أيام في بيت عم "جوزفين" لإنجاز أشغاله، وهناك علق قلبه ب "جوزفين" وسحرت عقله بلطفها وكمالها حتى لم يعد يستطيع فراقها، ولما رأت عمتها وزوجها ميل هذا الشاب إليها ورغبته فيها وهما يعلمان عظم منزلته وغناه سرا من ذلك وصارا يمسكان عنها كل الرسائل الواردة عليها من خطيبها الأول والمرسلة منها إليه مدة سنة من الزمان. أما "جوزفين" فحارت في عدم وصول رسائل خطيبها، ولم تنثن عن محبته وولائه مع ما أظهره لها الكونت "بواهرني" من شديد المحبة، وكانت تنظر إليه كضيف كريم في بيت عمتها. وفي بعض الأيام كلمها عمها في أمر زواجها ب "بواهرني"، ولما كانت تعلم أنه لا قبل لها برفض ذلك وليس لها إلا إبداء رأيها في الأمر حسب عادة تلك الأيام قالت: وكيف ذلك وقد وعدت "وليم" بأن تزوجه بي؟ فأجابها بأن "وليم" نسيك و"بواهرني" أفضل منه، ثم ذكر لها بعض مناقبه، فاضطرت إلى الصمت والتسليم. وبعد أيام رجع "بواهرني" إلى "رايس" ثم بعد أشهر قليلة عزمت "جوزفين" أيضا على الذهاب إلى فرنسا، وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 في تلك المدة تفتكر ب "وليم" وتؤمل أن تسمع عنه شيئا، ولكنها قطعت آمالها منه قبل وصولها إلى باريس ولما وصلت إلى باريس وجدت "بواهرني" في انتظارها مع بعض رفقائه ومعارفها فذهبت برفقتهم وعلمت وقتئذ أن "وليم" وأباه في ذلك المكان ثم أتيا بعد وصولها بقليل لزيارتها. وفي اليوم التالي أتى "وليم" وحده لزيارتها فرفضت مقابلته فأرسل إليها رسالة يلومها على عدم محافظتها على العهد ويذكر لها الرسائل العديدة التي أرسلها إلهيا وعدم إجابتها عن شيء منها ويطلب الإفادة عن كل ذلك، فلما قرأت الرسالة ساءها ذلك كثيرا وتأكدت أنه لا يزال يحبها كما كان، وأن عمتها وزوجها خدعاها ليزوجاها ب "بواهرني"، وقد أخذ منها الغيظ كل مأخذ فطلبت إلى أصحابها أن يسمحوا لها بالذهاب إلى دير تقضي فيه مدة من الزمن فأجابوا طلبها، وتوجهت إلى دير قضت فيه بضعة أشهر بالحزن والقلق. وكان "وليم" في تلك المدة يترقب الفرص ليراها ولو مرة فلم ينل مرامه فيئس منها وقطع الرجاء من الاقتران بها، فتزوج بفتاة غنية قضى وإياها حياة تعيسة. أما "بواهراني" فقصدها إلى الدير وسمح له أن يكلمها من نوافذ غرفتها، ولما رأت انه لا سبيل لها إلا الاقتران به حسب رغبة عمتها وزوجها وأن "وليم" تزوج بغيرها طلبت الرجوع من الدير، واقترنت بالقسيس كونت "إسكندر بواهرني" المذكور ولها من العمر ست عشرة سنة، وكانت الهيئة التي تجتمع بها عبد زواجها مؤلفة من أعلى طبقة من الأمراء والأشراف وكانت ترضي جميع الناظرين إليها برقة حديثها وجودة أخلاقها. أما زوجها فكان معجبا بجحمالها وقد عرفها بالبلاط الملكي وبالملكة "ماري أنتوانت" هناك في قصر "فرسالية". وقضت "ماري أنتوانت" و"جوزفين الأولى" ابنة "ماريا تريزا" إمبراطورة النمسا من سلالة قياصرة "أستوريا" وقد أتت من وسط البلاط النمسوي لتكون ملكة فرنسا وزينة البلاط الفرنسوي، والثانية "جوزفين" ابنة رجل مزارع مولودة في جزيرة بعيدة عن العالم وقد ربيت بين الزنوج ومن كان يظن أو يخظر له ببال أن "ماري انتونت" تنحط على أسفل دركات الذل وتقتل بالسيف و"جوزفين" تستوي على عرش لم يجلس عليه القياصرة في أيامهم. وفي تلك الأيام بدأت الثورة وعم الكفر والإلحاد بلاد فرنسا، واستخفوا بالديانة المسيحية، فكثر الفساد وزاد البلاء، ولم يعد للزواج الشرعي أقل احترام بل شاع الطلاق إلى درجة مستهجنة، ولما رأت "جوزفين" أن زوجها "بواهرني" لا يعتقد بالدين ولا يراعي حرمة الآداب، وقد تلطخ بالمفاسد على أنواعها بخلاف ما كانت تعتقده فيه، كبر علهيا الأمر وأظهرت له مكدرها بلطيف العبارة خوفا من غيظه منها. وفي سنة 1780م ولدت ابنة وسمتها "هورتنس" فحببت ولادتها "جوزفين" إلى زوجها، ولما كان "بواهرني" على ما تدم نمن الأوصاف لا يعرف من الإنصاف والطهارة إلا اسمهما كان يلوم "جوزفين" لإنكارها عليه سوء تصرفه حاسبا إنه ليس لها حق في الكلام معه في هذا الشأن ما دام يعاملها باللطف والمعروف، ومن ثم لم تعد "جوزفين" ترى يوما سعيدا وزادت تعاستها يوما بعد يوم ولم تجد لها سلوا سوى ابنتها الصغيرة. وفي سنة 1783م ولدت ابنا وسمته "أيوجين" فصار لها ولدان تعزت بهما عن جفاء والدهما الذي لم يزل عاكفا على المنكرات، ومما زاد "جوزفين" غيظا فساد المرأة التي يميل إلهيا "بواهرني" فإنها جاءت مرة إلى "جوزفين" وهي غير عالمة أنها عشيقته وأرتها أنه لا يستحق محبتها، ثم ذكرتها بمحبة "وليم" لها، وما زالت تكلمها بمثل ذلك حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 اضطرتها لكتابة رسالة إلى عمها وعمتها ذكرت فيها أنها لولا الأولاد لتركت فرنسا إلى الأبد، وأن واجباتها تقضي عليها بأن تسلو "وليم"، ولكنهما لما زوجاها به لم تكن تعيسة كما هي الآن إلى عير ذلك من مثل هذا الكلام، فاختلست تلك المحتالة الكتاب وارتدت ل "بواهرني" مبرهنة له أن بين "وليم" و"جوزفين" مثل ما بينه وبينها فكره "جوزفين" من أجل ذلك كرها عظيما، وحاولت أن تبرئ نفسها مما اتهمها به ظلما وعدوانا فلم يصغ إليها بل طرها وأخذ ابنها منها، وطلب من المجلس طلاقها فأخذت ابنتها وذهبت إلى دير هناك لتقضي مدة من الزمان ريثما تنتهي محاكمتها ويا لها من مدة قضتها بالعزلة، ومرارة العيش والقلق الذي ما عليه من مزيد على أن المجلس برأها من كل ما اتهمت به بعد محاكمة طالت سنة من الزمان وحكم عليه "بواهرني" أن يقوم بنفقتها ونفقة ابنتها وأن تنفصل عنه انفصالا. وحدث في ذلك الوقت أنها تلقت رسالة من عمها وعمتها من "مرتينيكو" يسألانها فيها الذهاب إليهما فأخذت ابنتها معها وتوجهت إلى هناك فقابلاها بالمحبة والإعزاز، وقضت ثلاث سنين في "مرتينيكو" مغمومة حزينة لا سلوى لها سوى المطالعة وتعليم ابنتها، والتصديق على من حولها، وكان يغلب عليها الافتكار بولدها وما جرى لها مع زوجها فتذهب إلى الأماكن المنفردة وتبكي بكاء مرا نادبة حظها سوء حالها. أما "بواهرني" فانغمس في السرور، وانهمك في الشهوات محاولا نسيان امرأته وابنته فجلب ذلك له عارا وكثر تحدث الناس بأمره حتى صار مضغة في الأفواه، ولم ير من يمدحه على أعماله فتذكر زوجته الأمينة وحنوها وكمالها وجمالها فندم على قسوته وسوء معاملته لها، وأحب أن ترجع إليه ثانيا، فكتب لها مظهرا أسفه على ما فرط منه في الماضي واعدا أن يسلك معها بالمحبة والأمانة، ولا يعود في المستقبل إلى ما كان عليه مؤكدا لها احترامه لصفاتها الشريفة راجيا أن ترجع إلهي مع ابنتها لتجمع شمل تلك العائلة المشتتة. فلما اطلعت "جوزفين" على رسالة زوجها جذبها الوجد والشوق إلى ابنها البعيد عنها وتصورت أنها ستضمه إليها فابتهجت بمجرد التصور والفكر ولكنها لم تكن قد نسيت الأتعاب والأحزان التي قاستها فذكرت أمرها لأصدقائها وأظهرت لهم أنه لولا شوقها إلى ولدها ما كانت تترك الجزيرة طول عمرها فألح عليها أصدقاؤها بالبقاء فلم ترض، بل ودعتهم ورجعت إلى فرنسا، ولما وصلت إليها قابلها زوجها بالترحاب وكان قد اختبر قيمة العيشة الأهلية، والمحبة الطاهرة النقية، وفرحت "جوزفين" بزوجها وابنها وسر زوجها من اجتماع الشمل بعد التفرق وتناسيا الأيام التعيسة الماضية وصمما على المعيشة بالصفاء والسعادة، ولكن الدهر في الناس قلب فإن صفاءهما لم يطل لما حدث من الاضطرابات عند شبوب نار الثورة الفرنساوية فإن البلاد كانت وقتئذ قائمة قاعدة، والملك والملكة كانا في السجن، وكان "بواهرني" في ابتداء الثورة من أشد أنصار حزب الحرية وانتخب معتمدا للجمعية التي أقامها ذلك الحزب فكان له إلمام بكل متعلقاتها، ثم انحل عقد الجميع فرجع إلى الجيش، ولما انتظمت جمعية اتفاق الأمة انضم إلى عضوية هذه الجمعية وانتخب رئيسا لها مرتين. وانقسمت فرنسا في ذلك الوقت إلى حزبينن حزب مؤلف من العوام وآخر من الأشراف، وقوي حزب العوام على حزب الأشراف وكان قائده رجلا قاسيا يدعى "دوبس بير" فقبضوا على جمهور غفير من حزب الأشراف وأودعوهم السجن ليقتلوهم بعد المحاكمة، وكان في الجملة "جوزفين" وزوجها فإنهم قبضوا عليهما بعنف وساقوهما إلى السجن ووضعوا كلا منهما في مكان مظلم بعيدا عن الآخر، ولم يرثوا لحالة ولديهما الصغيرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وكانا في صباح اليوم الذي سجنت "جوزفين" فيه أتتها رسالة من بضع الأصدقاء يخبرونها بما سيجري عليها ويحضونها على الهرب وطلب النجاة، فلما اطلعت "جوزفين" على الرسالة جعلت تتأمل في أمر نجاتها ونجاة أولادها ولكنها لم تر بابا للهرب حتى سمعت قرع الباب الخارجي والضوضاء أمامه ففهمت سبب ذلك وأسرعت إلى الغرفة التي كان الولدان نائمين فيها ودنت منهما وهما نائمان والدموع تتساقط على وجنتيها، ثم أكبت عليهما وقبلتهما قبلة الوداع وخرجت من الغرفة وأغلقت الباب لئلا يستيقظا ودخلت غرفة الاستقبال، فرأت فيها عصبة من العساكر المسلحة، فأغلظوا لها الكلام، ثم سلبوا ما في بيتها وساقوها إلى السجن الذي قتل فيه ثمانية آلاف شخص منذ اشهر قليلة. أما الولدان، فلما استيقظا ووجدا انفسهما منفردين في البيت مع الخدم سألا عن أمهما فأجابهما واحد أنه قد قبض عليها وأخذت إلى السجن فبكيا وانتحبا، وطلبا أن يهذبا إلى السجن ويقيما مع أبيهما وأمهما وكان لهما عمة فلما علمت بسجن "جوزفين" أخذتهما إليهما. أما "بواهرني" و"جوزفين" فكان كل منهما في سجن مظلم من سجون القتلى وقد تلطخ كل منهما بآثار الذين قتلوا في تلك السجون وكانا لا ينفكان عن الافتكار والبكاء بسبب ما جرى لهما وما سيؤل إلهي أمرهما وما آل إليه بيتهما من الخراب ويتشوقان إلى استماع شيء عن ولديهما وأحوالهما وبينما هما في السجن إذ وصلت الأخبار إلى "جوزفين" عن أمر سلامتهما ففرح قلبها بتلك الأخبار السارة. وأما "بواهرني" فلم يمكنه أن يسمع شيئا وكان هذا الحادث الهائل هو العاصف الثاني الذي لاقته "جوزفين" في بحر هذه الحياة العجاج. أما السجن الذي كانت الذي كانت "جوزفين" مسجونة فه فكان دير "الكرملين" وقد اشتهر في تلك الأيام بكونه مصرح الظلم والعدوان وكان متسعا وفيه عدة غرف وله أسراب مظلمة حتى لقد وجد داخل جدرانه عشرة آلاف مسجون في وقت واحد وكان كل قسم من هذا البناء العظيم ملطخا بدماء القتلى الذين قتلوا في تلك الأثناء وكانت الرجال والنساء الهائجون يجرون الناس إلى السجون بالمئات والألوف، وكان كثير منهم من الكهنة الذين ساقوهم أمام مذبح الكنيسة للاستهزاء برسوم الدين وهناك قتلوهم. وكان في سجون فرنسا حيئذ نحو ثلثمائة ألف مسجون وكلهم من الأبرياء ينتظرون ساعة قتلهم، ولم يكن فيهم أحد من سوقة الناس وجهالهم بل كانوا جميعا من أشراف فرنسا ومهذبيها، أما سجن "جوزفين" فكان في كنيسة هذا الدير مع مائة وستين نفسا من الرجال والنساء وكانت تظهر البشاشة بقدر الإمكان بين هؤلاء الرفاق وهي موقنة أنه لا ينال زوجها سوء، وراجية أنهما سيخرجان قريبا ويرجعان على بيتهما وكانت تكتب إلى زوجها وأولادها تشجعهم وتشدد عزائمهم وتجذب جميع من في السجن إليها بحسن أخلاقها، ورقة شمائها حتى امتلكت قلوب المسجونين في زمن قصير فاختاروها لتقرأ لهم الجريدة اليومية لمهارتها في القراءة وكونها ذات صوت رخيم يأخذ بمجامع القلوب، وكانوا يرون العجلات من نوافذ السجن مشحونة بالمسجونين المسوقين إلى الذبح كل يوم فالبعض يرين رجالهن والبعض أولادهن وغيرهم من الأعزاء فيقعون على الأرض فاقدي الشعور. وف صباح يوم الأيام حلمت "جوزفين" أنها خرجت من السجن وجلست مع زوجها وأولادها، فسمعت مناديا يناديها للحضور أمام الحكام فتأكدت من ثم قرب أجلها لأنها علمت أن لا راد للعدو في تلك الشدة العديمة الشفقة والرحمة، وأن خداع هذه المحكمة ليس إلا الخطوة الأولى لإعدام حياتها وليس بعدها إلا المذبحة فسقطت أمالها في الخلاص من قمة الرجاء إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الحضيض واليأس وجذبها الوجد إلى ووجها وأولادها وغلب إلى هنيهة حنو المرأة على شجاعتها، ولكنها رجعت إلى نفسها واستعدت على المحاكمة بقدر ما يمكن من الهدو والسكينة، ثم سيقت من سجنها إلى دار المحكمة الملطخة بدماء القتلى وأدخلت إحدى غرفها هي وآخرون أيضا لكي ينتظرون نوبتهم للمحاكمة التي نتيجتها إما الحياة, إما الموت العاجل. وبينما كانت "جوزفين" جالسة في هذه الغرفة تنتظر نوبتها إذ فتح باب من الجهة المقابلة ودخل منه فرقة من العساكر المتسلحة ومعهم عدد من الأسرى، وكانوا قد أتوا بهم من سجن آخر، وكانت عيون الجميع محدقة بهم وهم داخلون واحدا بعد آخر ونظرت "جوزفين" فرأت رجلا مهزولا ذكرها بزوجها فأعادت النظر إليه والتقت العين بالعين فعرف كل منهما الآخر فركض وركضت مسرعين وتذكر "بواهرني" عند ذلك عدم أهليته لكرم أخلاق "جوزفين" ومحبتها له فحنى رأسه المنصدع على كتفها وبكى بكاء الندامة والتوبة فبعد أن قضيا بعض دقائق على تلك الحالة أتى الجنود وجروا "بواهرني" إلى المحكمة، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأى فيها "جوزفين" ورأته ثم أرجعوه إلى السجن ولم يثبت عليه شيء إلا أنه كان من الأشراف والأكابر وعلى ذلك استحق الموت. ثم أدخلت "جوزفين" في نوبتها ولم يثبت عليها شيء أيضا سوى أنها مكانت امرأة رجل من الأشراف وصاحبة "ماري انتوانت"، وكانت ذات امتيازات خاصة بها في القصر الملكي وعلى ذلك استحقت الذبح هي أيضا فردت إلى السجن، ولكنها لم تعلم بشيء من الحكم الذي صدر عليها ولا على زوجها، وكانت واثقة أنهما سيخرجان قريبا إذ لم يدر في خلدهما أنه يحكم عليهما بالموت من غير أن يثبت عليهما ارتكاب جريمة، وكانوا يأتون إلى السجن في كل مساء بجريدة أسماء الذين نصيبهم الذبح في الصباح التالي وحدث بعد محاكمة "جوزفين" وزوجها بأيام قليلة في مساء أربعة وعشرين يوليو سنة 1794م أن "بواهرني" رأى اسمه بين أسماء الذين سيساقون إلى الذبح عند الصباح. فلما علم ذلك وتذكر "جوزفين" وأولاده حزن وعزت عليه الحياة، ولكنه تجلد واستعد للذبح، ثم أخذ وكتب رسالة طويلة إلى "جوزفين" مفعمة بعواطف المحبة، وأكد لها اعتقاده القلبي بطهارتها وسمو صفاتها وشكرها مرارا لأجل مسامحتها إياه القلبية عن كل ما صدر منه عندما كان مذنبا حيث رجع وطلب محبتها، وطلب منها أيضا أن تربي ولديها وتعلمهما محبة أبيهما حتى يبقى ذكره بينهما ومحبته في قلوبهما بعد الممات، وبينما مكان يكتب الرسالة أتى الجلادون وقصوا شعره لكيلا يبقى شيء معارض للسيف عن قطع رأسه فالتقط خصلة ضفيرة منه لكي يرسلها على "جوزفين" تذكارا أخيرا فمنعه الجلادون القساة، ولم يسمحوا له بذلك ولكنه اشترى منهم بضع شعرات وأرسلها ضمن الرسالة. وفي الغداة كانت عجلات المذنبين واقفة على باب السجن وكان قد حكم في ذلك لايوم بإعدام عدد كثير من المسجونين، ولما كانت العجلات مارة في أسواق باريس مشحونة بالأبرياء المحكوم عليهم كانت عيون الشعب شاخصة إليهم وقد اشمأزت من هذه المظالم، ولما وصلوا إلى المكان المعين لقتلهم قتلوهم جميعا بلا شفقة حتى إذا أفضت النوبة إلى "بواهرني" صعد إلى المذبحة وهو رابط الجاش ثابت الجنان، فضربوه بالسيف ضربة كانت القاضية. جوزفين فلم تكن موقنة بما سيقع على بعلها ولا عارفة بشيء من ذلك, ولما أتت جريدة الأخبار اليومية إلى السجن اجتهد بعض السيدات العالمات بذلك أن يخفينها عنها, أما هي فلم تنفك عن طلب الجريدة حتى استلمتها وأول شيء حول نظرها إليه أسماء الذين قتلوا فلما وجدت اسم زوجها بينهم سقطت إلى الأرض كميتة وبقيت مدة فاقدة الحواس, ولما استفاقت صرخت في وسط حزنها: آه. يا إلهي, أمتني أمتني لأنه لا سلام إلا في القبر, فاجتمع أصدقاؤها حولها وجعلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يعزونها ويسألونها الحرص على حياتها إكراما لولديها, ولكنها لم تجد للسلوى سبيلا, ولا غمض لها جفن في تلك الليلة, ولما بزغ الفجر أتى عصبة من الثائرين القساة العديمي الشفقة إلى السجن بالأخبار التي كانت تفرح "جوزفين" لولا محبتها لولديها وتعلقها بهما وكان مآل تلك الأخبار أنهم استاقوها هي أيضا إلى القتل فجاء الجلادون وقصوا شعرها استعدادا للقضاء المبرم كما كانوا يفعلونه بالمحكوم عليهم وقالوا لها: إنك لا تحتاجين إلى هذا الشعر فيما بعد فاجتمع أصدقاؤها حولها وطفقوا يبكون وينوحون. أما هي فكانت رابطة الجأش ليس عليها شيء من ملامح الحزن والخوف والرعب, ولما رأت أصدقاؤها وما هم عليه من الحزن والغم التفتت إليهم وقالت لهم: ما بالكم تنوحون وتبكون فأنا لم أقتل كما تظنون بل إنني سأصير ملكة فرنسا لأن ذلك مكتوب لي في صحف الحوادث, فلما سمع أصحابها ذلك ازدادوا بكاء وعويلا ظانين أنها أصيبت بالجنون ونظرت إليها إحدى السيدات. وقالت: إذا لماذا لا تهيئين الحواشي والحشم لقصرك؟ فقالت لها "جوزفين": صدقت فإنك أنت تكونين وصيفتي في القصر, وكان كذلك بعد إذ, ولما أرخى الليل سدوله على ذلك السجن شمل الهدو والسكون داخله, ثم بزغت شمس الظهيرة في وسط قتام الليل وعلا هتاف الفرح والسرور بين المسجونين من كل جانب, ووقع كثيرون على الأرض فاقدي الشعور غير مصدقين بما سمعوه من البشرى وذلك أن "دوبسير" القاسي القلب كان قد أمسك وقتل وقام حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون التي كانت مفعمة بالأسرى وأطلقوا سبيل الجميع. أما سبب إمساك "دوبسير" وقتله, فهو أن رجلا يقال له "تاليان" من المقتدرين مع ذوي الجاه والسطوة كان يحب مدام "فانشاي" وهي سيدة بارعة الجمال وكانت مسجونة مع "جوزفين" وكان يذهب كل يوم إلى السجن ليراها فحدث ذات يوم أنه اتصل بها سرا وأنه قد قربت محاكمتها, فلما علمت ذلك انتظرت وقت حضور "تاليان" إلى دار السجن ولما حضر اقتربت هي و"جوزفين" من نافذة السجن المشبكة بالحديد ورمت ورقة ملفوفة (كرمب) كتبت عليها قد دنت محاكمتي والموت مؤكد فإذا كنت تحبني كما تقول فابذل كل ما تستطيعه لإنقاذي وإنقاذ فرنسا, ثم جعلتا تشيران إليه حتى فهم قصدهما والتقط الورقة الملفوفة من الأرض ولما قرأها ثار ثائره ونبض نابضه وذهب حالا إلى أصدقائه وجعل يهيجهم ضد "دوبسير" وأتباعه, وكان الشعب قد مل من مظالم "دوبسير" فوافقه على ذلك حزب كبير منهم وأثاروا ثورة عظيمة في باريس على "دوبسير" فدارت الدائرة عليه وعلى أتباعه فقبضوا عليهم وقتلوهم وخلصوا البلاد من ظلمهم وعدوانهم ثم فتحوا أبواب السجون, وأخرجوا جميع الذين كانوا فيها وعددهم نحو خمسمائة ألف مسجون فأي قلم أو أي لسان يستطيع أن يعبر عما شمل الفرنساويين من الفرح والابتهاج لما انتشرت الأخبار في البلاد بإعدام ذلك الظالم الغشوم وإنقاذ أحبائهم من يده, وتخلصت "جوزفين" بهذه الواسطة من سجنها مثل كثيرين, ولكنها لم تخرج من ظلام السجن إلا إلى عالم أشد ظلاما وأكثف غماما فإن زوجها كان قد قتل, وبيتها قد نهب, وأملاكها اغتالها الناس, وكثيرون من أصدقائها قد هلكوا, فأمست وهي أرملة فقيرة ليس عندها شيء ولا لها من تذهب إليه وتطلب معونته, ولم تستطع أن تتعاطى عملا من الأعمال يمكنها به القيام بمعاشها ومعاش ولديها السبب توقف الحال بالاضطرابات الكثيرة فلم تر بدا هي وولداها من بسط كف السؤال وكان ما تجشمته في هذه المدة من أمر ما ذاقت وأصعب ما لاقت في كل أيام حياتها فمن هذه الدرجة ترقت "جوزفين" إلى أسمى درجة لا يمكن أحدا من الناس أن يتصورها ولا في منامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قلنا: إن "دوبسير" قتل وقام مكانه حكام آخرون وفتحوا أبواب السجون للأسرى إلا أن دم القتلى لم يزل جاريا كما كان لأن هؤلاء الحكام قصدوا قطع شأفة الأشراف من البلاد, فكانوا يجرون الناس للقتل ذكورا وإناثا, كبارا وصغارا حتى إنهم كانوا يذهبون إلى المدارس ويجرون تلامذتها صبيانا وبنات ويقتلونهم. فلما رأت "جوزفين" ذلك ارتعدت فرائصها جزعا على ابنها وحاولت إخفاءه فأرسلته إلى أحد النجارين وظل يعمل عنده بمهنة عدة أشهر, وهو فرح بذلك. أما "جوزفين" فلم تبق على هذه الحالة وحشا لسيدة كبيرة النفس, كريمة الأخلاق, حميدة السجايا مثل "جوزفين" أن تترك بين جماعات البشر ولا يلتفت إليها, بل تفتح صدور المنازل وتعطى كل ما تحتاج إليه فإن كل أحد كان يشعر أن ينال شرفا عظيما بمصاحبتها, وكانت امرأة تدعى "دوميلين" وهي سيدة عظيمة ذات ميراث عظيم وقد اتفق خلاصها وخلاص أموالها من جور فرنسا فهذه دعت "جوزفين" إلى بيتها وبذلت لها كل ما تحتاج إليه, وكذلك مدام "فانشاي" وهي السيدة التي خلصت نفسها وعددا كبيرا معها بكتابتها إلى "تاليان" على ورقة الملفوف, وكان بعد خلاصها من السجن أنها اقترنت ب "تاليان" وهي أيضا كانت من أعز صديقات "جوزفين", وكانت تبذل لها ما تحتاج إليه مع كثيرين من غيرها. ثم إن جوزفين قامت تطالب بحقوقها مع جمعية اتفاق الأمة وهي استرجاع أملاكها المحجوزة وذلك على يد "تاليان" فنجح مسعاها بعد مدة طويلة وأتعاب جسيمة واسترجعت جانبا من أملاكها التي استولوا عليها, فرجعت بذلك ثانية على بيتها الخاص وجمعت إليها ولديها "هورتنس" و"أيوجين" وكانت محاطة بأصدقائها المخلصين, وصفت لها الأيام وسالمتها الليالي رويدا, وحدث ذات يوم أنها دعت ابنها على غرفتها وأعطته صورة أبيه المقتول وقالت له: خذ هذه يا ولدي إلى غرفتك واجعلها غاية تأملك, ونموذج حياتك الدائم فإن صاحبها كان أول محبوب بين الناس, ولو بقي حيا لكان أحسن والد, فأخذ "أيوجين" الصورة من أمه وخرج وهو يقبلها والدموع تتساقط من عينيه, ثم عاد في المساء على والدته وبصحبته ستة من أصدقائه وقد وضعوا على أعناقهم شرائط بيضا وسودا على مثال صورة "بواهرني" فنظر "أيوجين" إلى أمه وقال: انظري يا أماه, إلى مؤسسي نظام جديد في الفراسة وهذا قديسنا الحافظ لنا وأشار على صورة والده وهؤلاء هم أعضاؤها الأولون. ثم عرفها بكل منهم وقال: إن اسم هذا النظام نظام المحبة البنوية فإذا كنت تحبين أن تكوني شاهدة على افتتاحها فادخلي المجلس الصغير مع هؤلاء الشبان, فدخلت "جوزفين" معهم وإذا جدران الغرفة مزينة تزيينا جميلا بأكاليل الورد والغار وكانوا قد أخذوا نسق ذلك من مقالات ل "بواهرني" كانت قد طبعت قبلا, وكانت الغرفة مستنيرة أيضا بالشموع المضيئة. وفي أحد حيطانها مذبح كبير وعليه صورة "بواهرني" التي كانت بقدر جسمه تماما, وقد زين بالأزهار الجميلة, وعلق بإطار الصورة أكاليل معقودة من الورد الأبيض والأحمر وأمامها حنجوران من الطيوب. ثم رتبوا أنفسهم حول المذبح بكل هدو واستلوا سيوفهم من أغمادها عند إبداء شارة معينة ثم تعاهدوا على محبة والديهم ومساعدة بعضهم بعضا, والمحاماة عن بلادهم. ولما فرغوا من معاهدة بعضهم بعضا تقدمت "جوزفين" غليهم ودموع الفرح من صنيعهم ممزوجة بالتبسمات الوالدية. ثم أخذت يد كل منهم وأظهرت فرحها بتأسيس هذه الجمعية. وكانت "جوزفين" مع كل ما أصابها لا تزال على ما كانت عليه من اللطف والبشاشة, والنزاهة والفكاهة وذلك ما جذب كثيرين من الأصدقاء إليها, وكانت هيئات باريس الاجتماعية قد انقلبت من التقلبات السياسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقد ابتدأ ذاك في إقالتها من عثرتها, ولكنها انقسمت إلى دائرتين عظيمتين: الواحدة: مؤلفة من بقايا الأشراف الذين رجعوا إلى باريس وجمعوا بقايا عيالهم وأموالهم وعاشوا بالاقتصاد. والثانية: من التجار والصيارفة الذين حصلوا ثروة عظيمة في وسط زوابع الثورة. وكانت نيران الحرب قد استعرت وقتئذ بين فرنسا وبقية دول أوربا إذا تحالفت جميع دول أوروبا على محاربة فرنسا واقتسامها فيما بينهم وذلك على تلك الحرب الأهلية التي أثارها الأهالي بسبب سوء سياسة جمعية اتفاق الأمة فحار رئيس الجمعية في أمره, ولكنه قال: أنا أعرف من القادر على المحاماة فهو ذلك الشاب الكورسيكي "نابوليون بونابرت" الذي طرد جيوش الإنكليز من "طولون" واسترجع المدينة. فدعوا "نابوليون" على مواجهة الجمعية وكان بمدينة "فالنس" في بداية الثورة في رتبة قائم مقام. وكان حاد الطبع, قليل الكلام والحركة, كثير التفكير, شديد الميل على المطالعة. فلما دعته جمعية اتفاق الأمة أجاب الدعوة ومثل لديها. فسأله الرئيس إذا كان يقبل أن يأخذ على نفسه المحاماة عن البلاد فقال نعم. ثم سأله أنه كان يعلم عظم هذه الشيعة. فأجاب: إنه يعلم ذلك حق العلم فذاعت أخبار ذلك على البلاد على داخل باريس, وشهر الحرب على العصاة وأرجعهم على الطاعة, فذاع اسم "نابوليون بونابرت" في أطراف باريس وتحدثوا به وبأعماله في كل قصر, وبيت, وحانوت, وفي الأزقة, وعلى الطرقات. ولقبه البعض بمخلص "الكونفانيسيون" أي اتفاق الأمة, والبعض بعفريت الحرب. وفي مساء يوم من الأيام كانت "جوزفين" في بيت أحد أصدقائها وبينما هي تنظر من نافذة إلى بعض أزهار البنفسج إذ دخل "نابوليون" ولم تكن تعرفه ولكن قد سمعت عنه إذ كانت شهرته قد ملأت الحاضرة, ولما دخل سر الجميع به وأحدقت العيون إليه فسلم على الجميع, ثم تقدم وأخذ مكانا بالقرب من "جوزفين" وجعلا يتحدثان في أمر المعركة الجندية التي جرت في أسواق باريس, وهذه كانت أول مواجهة بينهما ولم يمض على ذلك مدة قصيرة حتى أمر "نابوليون" بجمع كل الأسلحة من الأهالي وأخذ بالجملة سيف "بواهرني" فلما علم "أيوجين" بذلك ذهب من الغد إلى "نابوليون" وكان من العمر حينئذ اثنتا عشرة سنة وطلب منه استرجاع سيف والده فسر" نابليون" من جراءة الولد وحماسته وسمح له به في الحال, وأرادت "جوزفين" إظهار شكرها "لنابوليون" فذهبت إليه بنفسها وشكرته على ذلك فسر منها أضعاف سروره من الولد. ومن ثم صارا يلتقيان كثيرا ولم يخف عن "جوزفين" ميله إليها وحدثته نفسه من ذلك الوقت بالاقتران بها وأحبها حبا عظيما, وكانت هي المرأة الوحيدة التي أحبها في حياته, ولم يحل عن حبها مع كثرة ما طرأ عليه من الحوادث والغير. أما "جوزفين" فكانت في ريب من أمر اقترانها به وقد قالت ذات مرة لبعض أصدقائها: إنها لم تر في زمانها إنسانا محبوبا مثله, وإنها شغفة بشجاعته وسعة اختياره, ولكنها لم تكن تحبه مقدار ما كان يحبها, بل كانت ترهبه وترتعد من ننظره إليها, وقد قالت مرة لإحدى صديقاتها: ألا تخاف امرأة جعلها "نابوليون" السرية الخفية التي لا يفهمها حتى مديرونا وكتبت مرة إلى أخرى تقول: قد تقضى شرخ شبابي وهل يوجد رجاء بعد في المطل لكثرة رغبة "نابوليون" في على غير استحقاق مني لها أولا يعيرني بما يكون قد احتمله من أجلي إذا كان يترك محبتي بعد اقتراننا, ماذا أصنع؟ وبماذا أجيب؟ اكتبي إلي حالا ولا تخافي أن توبخيني إذا وجدت أنني مخطئة وأنت تعرفين أن كل ما يخطه يراعك مقبول إن "باراس" أكد أني إذا اقترنت ب "نابوليون" يوليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 على إيطاليا فماذا تقولين عن هذا النجاح؟ انتهى. وكانت عواصف الثورة قد خمدت وقتئذ ولكن أوروبا كلها كانت لم تزل شاهرة السلاح علة فرنسا, وكان الحكم غير ثابت والشرائع غير محترمة فوقف هذا القائد الحديث السن كل أيامه لمصلحة الجمهور, ولكنه كان يخصص كل مساء ل "جوزفين", ولم يذق في أيامه شيئا من أفراح الشبان ومسراتها, لأن رغبته في حب الارتقاء غلبت على كل شيء ولكن لم يكن عنده مع كل ذلك شيء أسعد وأبهج من الساعات التي كان يقضيها وحده مع "جوزفين" إما بالأحاديث المفيدة, وإما بالمطالعة النافعة وكانت محبته لها ورغبته فيها تزداد يوما فيوما, ولم تكن صفات النساء في فرنسا وقتئذ تعد في منزلة عالية, وكان "نابوليون" قلما يحترم هذا الجنس ويقول: " إن كل النساء لا يقسن بجوزفين". وقد كان معتادا أن يرى في بيت "جوزفين" بعضا من الأصدقاء المخلصين الذين كانوا يحبونها محبة خالصة, ويرغبون في ترقية "نابوليون" إكراما لها. أما "نابوليون" فكان ذا عواطف قوية ولكن حبه للارتقاء والارتفاع كان أقوى. وأما "جوزفين" فكانت قانعة بخلوص محبته لها وشدة غرامه بها وما زالا يظهران الحب والتودد لبعضهما حتى كان التاسع من آذار (مارس) سنة 1796 للميلاد فاقترن "نابوليون" ب "جوزفين". وفي تلك الأثناء تولى "نابوليون" قيادة العساكر الفرنساوية في إيطاليا فترك عروسه بعد زفافه باثني عشر يوما, وأسرع إلى الجيش وكان كأنه لم يشعر بتعب ولا بجوع ولا نعاس وهو على ظهر جواده نهارا وليلا ولم يمض على توليته قيادة الجيش خمسة عشر يوما حتى أحرز الغلبة في ست وقائع وغنم إحدى وعشرين راية وخمسة وخمسين مدفعا, وعدة أماكن حصينة, وأغنى جهات أرض "بيارمونت", وأسر خمسة عشر ألف أسير وقتل وجرح عشرة آلاف جندي, وطرد النمساويين من إيطاليا وأرجعهم إلى بلادهم فإن إيطاليا كانت في تلك الأيام مقسومة على عدة ممالك وولايات صغيرة مستقلة, أكثرها خاضع للنمسا ولما علمت "جوزفين" بانتصار زوجها أتت إليه لكي تشاركه في أفراحه فأخذ قصر "منتبلو" في "ميلان" مسكنا لهما فقضت "جوزفين" هناك عدة من الشهور في سعادة ورخاء, فكان لها كل معدات الثروة والغنى بعدما كانت أرملة فقيرة أصبحت زوجة قائد ظافر قد طبقت شهرته آفاق أوروبا وبعدما كانت أسيرة محكوما عليها بالموت وجدت نفسها محاطة بالأشراف والأمراء, وكان لها منزلة عالية في قلب كل ميلاني وقد قال "نابوليون" ذات مرة مشيرا إلى ذلك: "إنني تسلطت على الممالك وأما جوزفين فقد تسلطت على القلوب". ولما أخضع "نابوليون" كل إيطاليا ضرب عليها الضرائب, ووضع لها النظامات الجمهورية وعقد العهود مع دولها وتقدم على محاربة النمسا في أراضيها فانتصر هناك أيضا انتصارا عظيما, وفتح أكثر مدنها, ثم طلبت دولة النمسا الصلح فعقد "نابوليون" معها صلحا عاد على فرنسا بالفوائد العميمة ثم قفل راجعا على باريس تاركا "جوزفين" وأولادها في "ميلان" لكي تحفظ له انقيادهم إليه بأنسها وبشاشتها, وحسن معاملتها. فكانت تدعوهم غالبا إلى بيتها وتفتح أنديتها لهم فعدها أهل "ميلان" ملكة بينهم وكثيرا ما كانت تتعب من أجلهم, ولكنها لم تكن تعبأ بالتعب إكراما لزوجها وحبا له, وكان "نابوليون" يكتب غليها يوميا وهي كذلك وقد قال في نهاية حياته: "إنه مديون لها في كل دقيقة سعيدة حصل عليها على وجه هذه البسيطة". وكانت "جوزفين" في أثناء إقامة "نابوليون" بباريس تسهر على مصالح الجمهور وتجهد أيضا في المحافظة على مصلحة "نابوليون" وتؤيد سطوته, وكانت معجبة بتقدمه راغبة في ازدياد شوكته ومع أن حاشيتها كانت من الأمراء والأشراف, فإن العامي لم يشعر أنها بعيدة عنه ولا الفقير أنها لا تلتفت غليه, بل شعروا جميعا بقربها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 منهم والتفاتها غليهم الفقير كالغني والصعلوك كالأمير, وكانت إذا صادفت صديقا أقام على صداقتها مدى العمر, والذي مكنها من ذلك قواها العقلية وخلوص محبتها وسهولة الاقتراب منها, ولولا مساعدتها ل "نابوليون" ما أوصلته بسالته إلى الدرجة التي وصل إليها فإنه لما كانت "جوزفين" رفيقته ومعينته كان ظافرا منصورا, ولما تركها كسر وخذل. وأقامت "جوزفين" سنة ونصفا في ميلان", ثم رجعت إلى فرنسا حيث " نابوليون" كانت حكومة "الديكرنوا" خائفة منه فأرادت أن تبعده عنها, فعرضت عليه أن يتقلد قيادة الأسطول المعين بغزو الأساكل الإنكليزية, فذهب "نابوليون" يتعهد أحوال تلك الأساكل, وقضى عشرة أيام ثم رجع على باريس وقال: "إن النجاح غير مؤكد". ولكنه أبدى رأيا بفتح الديار المصرية والسورية لتكون بابا للهند ثم يتقدم إلى فتح الهند وطرد الإنكليز منها وتجنيد عساكر من الأهالي وجعل ضباطا من الأوروبيين عليهم, ففرحت الحكومة بهذا الرأي وأجابت طلبه حالا لا رغبة في فتح البلدان, بل في إبعاد "نابوليون" عن فرنسا متوقعين أن يهلك ويتخلصوا منه لأنهم أمسوا جميعا خائفين سطوته, فجهزت الحكومة له ثمانية وعشرين بارجة وأربعمائة سفينة لنقل مهمات الحرب وأربعين ألف جندي. وفي صباح التاسع عشر من أيار (ماي) سنة 1798 م كان في ميناء "طولون" طالبا الديار الشرقية, وطانت "جوزفين" قد رافقته إلى "طولون" وقد رغبت كل الرغبة في الذهاب معه إلى مصر, ولكنه لم يسمح لها ووعدها إنه إذا نجح يبعث ليأخذها, ولما اقلعوا كانت "جوزفين" واقفة في شرفة البيت وعيناها مغرورقتان بالدموع محدقتان بذلك المنظر البهيج المحزن, ثم حولت عينها وتفرست في المركب الكبير الذي كان ينقل زوجها وابنها سائرا بهما وسط المخاطر, وصار المركب يبعد عنها ويصغر أكثر فأكثر حتى اختفى أخيرا بين مياه البحر المتوسط فدخلت غرفتها وشعرت بانفرادها ووحدتها وكان "نابوليون" قبل ذهابه على مصر قد عين "بلومبيا" مسكنا ل "جوزفين" ريثما يرسل في طلبها. ولما رأت "جوزفين" أنها منفردة أرسلت فطلبت ابنتها من المدرسة لتقيم معها مدة بعدها عن زوجها وابنها, وكانت تأمل أنه حالما يفتح بلاد مصر ينجز وعده لها وينقلها على وادي النيل ولم يمض زمان طويل حتى كتب إليها بأن تتأهب للسفر فعما قريب تصل غليها البارجة المسماة "بومونا" لتعبر بها البحر المتوسط إلى مصر ولكن اتفق في صباح يوم من الأيام أنها كانت جالسة وإبرتها في يدها, وحولها عدد من السيدات صديقاتها وابنتها "هورتنس" فخرجت إحدى السيدات إلى الشرفة خارجا فأبصرت كلبا قريبا مارا في الزقاق ودعتهن ليرينه فتراكضن على الشرفة, ولما وصلن إليها هبطت بهن على الأرض وألقتهن جميعا, فاضطر كثير منهن إلى ملازمة الفراش مدة طويلة وفي جملتين "جوزفين" فإنه مضى عليها مدة أشهر ما أمكنها الخروج من البيت ولكن هذه الحادثة من عظمها كانت قد نجتها من أخرى أعظم منها فإن البارجة التي كان قد أرسلها "نابوليون" لتأخذها إلى مصر كانت قد أخذت في البحر وأرسلت إلى لندن. فلما علم: نابوليون" بما وقع ل "جوزفين" وإنه لا يمكنها الحضور بعد إلى مصر كتب إليها بأن تشتري مسكنا خارجا عن باريس وتنتقل إليه وإنه إذا لم يعقه عائق يصل إليها قريبا, فاشترت "جوزفين" قصرا جميلا يبعد عشرة أميال عن باريس وخمسة أميال عن "فارساليا" اسمه "ملمازون" بمائة ألف ريال وأضافت إليه أراضي واسعة من كل الجهات وكانت مولعة به لكثرة ما يشرف عليه من المناظر الطبيعية ولما حضر "نابوليون" سر به هو أيضا وكان من أحب المساكن إليهما. وفي أول فصل الخريف أخذت "جوزفين" تتعافى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مما أصاب فتركت "بلوم بيار" وأتت على "ملمازون" مع ابنتها وعدد من السيدات, وكان بيتها غاصا بالأشراف والأدباء, وكانت تكتب على "نابوليون" بكل ما يجري في القصر حتى الأحاديث التي تدور بينها وبين زوارها فيسر بأخبارها ويطلب منها أن تجتهد في توثيق رباطات المحبة والمودة بينه وبين أصدقائه القدماء, وأن تبذل جهدها في مصادقة آخرين غيرهم, وكان ل "جوزفين" تأثير عظيم في أعضاء "الديركتوار" وقد خلصت كثيرين من الضيق وردت إلى كثيرين آخرين الأملاك التي أخذت منهم, ولما رأى البعض تأثير "جوزفين" في "نابوليون" أرادوا أن يحولوا بينهما لغايات سياسية فاستعملوا لذلك نفس الأسباب التي كانت هي تستعملها لكي تكتسب له أصدقاء ونسبوا إليها الخفة والطيش, وكان لهؤلاء الأعداء تأثير عظيم في "نابوليون" فجعلوا يوسوسون في صدره ويهيجونه عليها فأثر كلامهم فيه لحدة مزاجه وقام من فوره فكتب إليها رسالة ضمنها قوارص الكلم فلما اطلعت "جوزفين" عليها تأثرت تأثرا عظيما, وقامت فكتبت إليه كتابا لطيفا رقيقا لم يسبق له نظير في الخلوص والرقة, وكانت محبتها وصفاء قلبها يظهران في خلال كل سطر من سطوره, ولكن حجزت هذه الرسالة بمساعي المحتالين فلم تصل على "نابوليون" وكانت المراكب الإنكليزية وقتئذ مراقبة لفرنسا وقد منعت كل مراسلة بينها وبين الجيوش في مصر. وكانت كل يوم تصل إلى "جوزفين" أخبار سيئة عن أحوال الجيوش في مصر, ومرة وصل إليها خبر أن زوجها مات فاشتغل بالها وأمست في قلق وبلبال, وقد كانت تخاف دائما أن زوجها ربما يترك محبتها بعد رجوعه محمولا على ذلك بسعي المفسدين والوشاة, ولكنها لم تزل تبذل غاية جهدها في كل ما يؤل إلى خيره ونجاحه ومع أن قلبها كان تعبا وخاطرها مكسورا. كانت تفعل كل ما تقدر عليه لكي تظهر البشاشة للجميع حسب عاداتها, وكانت تسلي نفسها بالأزهار والرياحين فتقضي جانبا من وقتها مع ابنتها "هورتنس" في الحديقة ومعولها ومرشتها في يدها, ثم كانت تقضي جانبا كبيرا من وقتها في زيارة بيوت الفلاحين حواليها, وكان كفها دائما مفتوحا لسد عوز المحتاجين, فتتصدق عليهم وتفرح لأفراحهم, وتحزن لأحزانهم. ولما توجت إمبرطورة على فرنسا ابتهج هؤلاء الفلاحون ابتهاجا عظيما ودعوا لها بطول البقاء, وحسبوها من أجدر النساء بهذا المقام وهكذا قضت "جوزفين" عدة أشهر بعضها في الجولان بين هؤلاء الفلاحين وبعضها في القصر بين الأشراف والأمراء في انتظار استماع الأخبار من " نابوليون". وفي ذلك الوقت ابتدأت سنة 1799 ميلادية فلاح أنها من بدأتها سنة شؤم على فرنسا فإن الفرنساويين كانوا قد تعبوا من مظالم الثورة وكانت حركة الأشغال واقفة, والجوع عاما في البلاد, وكان النمساويون قد دخلوا إيطاليا ثانية, وأوقعوا بالفرنساويين من كل جانب, وكانت الصلات بين الجيوش في مصر وبين فرنسا مقطوعة وأخبار موت "نابوليون" ذائعة في كل البلاد, وأما حكومة "الديركتوار" فكانت مؤلفة وقتئذ من خمسة قد نشأوا في غصون الثورة من بين عامة الناس واستلموا زمام الحكم وكانوا قساة ظالمين لا يعرفون شيئا من العدل والإنصاف, وكان الشعب قد سئم منهم وكره الاستمرار على هذه الحالة وتمنى مد يد قوية لإصلاح الأحوال السياسية وإرجاع الحكم والنظام إلى البلاد. وفي المساء التاسع من تشرين الثاني (أكتوبر) من تلك السنة دعا رئيس "الديركتوار" إلى بيته أكابر باريس ووجهاءها, وكانت "جوزفين" في جملة المدعوين وبينما هم جالسون على المائدة عند نصف الليل إذ وصلت رسالة برقية إلى الرئيس حاوية أخبار وصول "نابوليون" إلى "فريجي" (وهي مدينة صغيرة على شاطئ البحر المتوسط) فلما سمعت "جوزفين" ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أسرعت إلى بيتها وركبت مركبها وسارت مسرعة لملاقاة زوجها, وكانت راغبة في الوصول إليه قبل أن يصل إليه الأعداء ويسمعوه التهم والوشايات الباطلة, فسارت نهارا وليلا بلا أكل ولا نوم حتى إذا وصلت إلى "ليون" أخبرت أن "نابوليون" ترك المدينة إلى باريس منذ يومين فساءها ذلك كثيرا, وجعلت تضرب أخماسا لأسداس وتقول: "ما عسى أن يقول الأعداء عني إذا وصل "نابوليون" إلى باريس ولم يجدني في البيت". وكان من أخص هؤلاء الأعداء إخوة "نابوليون" ونساؤهم وذلك لما رأوا النجاح الذي وصل إليه "نابوليون" بتأثير "جوزفين" فيه زمام الأمور سيصبح في قبضة يده عما قريب ويكون هو الحاكم المطلق حسدوه وحاولوا أن يقفوا في سبيله فلم يجدوا سوى إلقاء البغض والفساد بينه وبين "جوزفين", ولما وصل إلى باريس في العاشر من تشرين الثاني (أكتوبر) اجتمعوا حواليه وصاروا يشكون إليه أعمال "جوزفين" وينسبون غليها الخفة والطيش والإسراف وعدم الافتكار به وغير ذلك. فلما سمع "نابوليون" ذلك هاج غضبه وقال بصوت عال" "إنني لأطلقنها". فالتفت غليه أحد الحضور وقال له: الآن تأتيك معتذرة بلسانها الفصيح وكلامها العذب فتصفح عنها وتعودان على ما كنتما عليه. فأجاب: نابوليون" وهو يتمشى في الغرفة ذهابا وإيابا: "لن أصفح عنها وأنت تعرفني ولولا خوف العاقبة لنزعت هذا القلب وألقيته في النار". وبمثل ذلك عزم "نابوليون" أن يلاقي "جوزفين" بعد غيابه عنها زهاء سنة ونصف من الزمان. ولما كان اليوم الثالث من وصوله عند منتصف الليل وصلت "جوزفين" وكان "أيوجين" ينتظر وصولها بإفراغ صبر, ولما علم بذلك لاقاها إلى الدار السفلى, ثم صعد بها إلى القسم العلوي حيث كان مجتمع أهل البيت وكان "نابوليون" جالسا هناك مع أخيه يوسف فأخذت "جوزفين" ترتجف وهي صاعدة على السلم خوفا من "نابوليون", ولما وصلت على الباب رآها "نابوليون" قبل أن تدخل الغرفة فالتفت إليها مغضبا وقال لها: "ارجعي حالا على ملمازون". فلما سمعت "جوزفين" ذلك غابت عن الرشد وأوشكت أن تسقط إلى الأرض فأمسكها ابنها وذهب بها على غرفتها وهو في حال الكدر الشديد, ولم يمض ربع ساعة حتى سمع صوت "أيوجين" وأمه وأخته نازلين على السلم قاصدين الذهاب جميعا إلى "ملمازون" فلما شعر "نابوليون" بنزولهم أسرع من غرفته وصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع وهو لم يكن متوقعا هذه الطاعة الغريبة في "جوزفين" وكان قلبه لم يزل يحبها وطلب رجوعها, ولما وجدها تاركة البيت وذاهبة أراد إرجاعها, ولكن أنفته منعته من أن يدعوها صريحا ويرجعها, فصار يكلم "أيوجين" ويلح عليه بالرجوع حتى اضطر ان يرجع بأمه وأخته, ولما رجعوا لم يكلم أحد منهم الآخر بل دخلت "جوزفين" غرفتها وطرحت نفسها علة مقعد كان فيها ودخل "نابوليون" غرفته أيضا وبقيا يومين لم ير أحدهما الآخر وأخذت محبة "نابوليون" ل "جوزفين" ترجع تدريجا في هذه المدة, من مائدة ورسائل "نابوليون" المرسلة إليها مفتوحة أمامها على المائدة, فلما دخل "نابوليون" وقف هنيهة ثم نادى بصوت خفيف: "يا جوزفين". فرفعت "جوزفين" رأسها وقد غسل الدمع وجهها وأجابت بصوت كئب, ونغمة حنونة جرحت قلبه ولم ينسها كل أيام حياته فمد يده إليها ومدت يدها إليه ثم حنت رأسها عليه وبكت بكاء شديدا وقضيا بضعة ساعات في إيضاح الأمور وإزالة الشكوك, ومن ثم عادت ثقة "نابوليون" الأولي ب "جوزفين ولم يعد شيء يغيره عنها. وكان "نابوليون" و"جوزفين" مقيمين وقتئذ في "دي شنتراين", وكانت أنديتهما دائما غاصة بالقواد والأدباء والأشراف -شأن أندية الملوك والعظماء- وهم يتباحثون في أحوال البلاد وكيفية إصلاحها ويقولون: إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لا رجاء لفرنسا غلا إذا مد "نابوليون" يده. ولم يمض شهر على رجوعه إلى باريس حتى انقلبت سياسة فرنسا وأبدلت الحكومة المديرية بالقنصلية وكانت الحكومة القنصلية مؤلفة من ثلاثة قناصل وخمس وعشرين عضوا و"نابوليون" أحد هؤلاء الثلاثة قناصل ورئيسهم أيضا, ولما أخذ "نابوليون" على نفسه عهد هذه الخدمة التي دعي إليها لم يفه لأحد ألبتة بذلك حتى ذهب أولا إلى "جوزفين" القوي في أهالي باريس مدة غياب "نابوليون" في مصر, وقد شعر نابوليون" نفسه بعظم مساعدة "جوزفين" له في هذا فشكرها على ذلك. وفي غد ذلك نقل "نابوليون" و"جوزفين" من "دي شنتراين" إلى "لوكزمبرج" وكان هذا القصر عتبة "التوبلمري". وفي صباح التاسع عشر من شباط (فبراير) سنة 1800 م انتقل "نابوليون" إلى التوبلري" بموكب عظيم كان انتقاله إليه تبوأه تخت ملك فرنسا. وفي مساء ذلك اليوم نفسه انتقلت "جوزفين" أيضا في مركب خاص بها, ولما وصلت إلى "التوبلري" وجدت زوجها بين سفراء الدول وعظماء المملكة وأشرافها فدخلت عليهم, وعرفها بهم فتلقاها الجميع بإجلال واحترام يلقيان بملكة وأشرافها عظيمة الشأن, وكان ل "جوزفين" في ذلك الوقت نحو ثلاث وثلاثين سنة من العمر وقد زادتها هذه السنون حسنا وجمالا عوضا عن أن تذهب بنضارة صباها فإنها كانت معتدلة القوام, وضاحة الحسن, ذات عينين زرقاوين, ومحيا تقرأ عليه آيات اللطف والكمال وكأن ما جرى لها في حياتها من الأتعاب والأحزان قد زاد اختبارها لهذه الدنيا ووسع نطاق معارفها وثقف عقلها, وكانت قد بلغت أوج عزها وإيناع مجدها, وطارت شهرتها في أنحاء البلاد كما طارت شهرة "نابوليون" في ذلك الحين. وكان رجال الثورة وقتئذ قد غيروا تقسيم الوقت إلى أسابيع, وأبطلوا حفظ الآحاد إلا أنهم جعلوا يوما واحدا من كل عشرة أيام للراحة من عناء الأعمال وكان "نابوليون" يقضي هذا اليوم هو و"جوزفين" في "ملمازون", وقد كان من أسعد أيامهما لأنهما سئما من عيشة البلاط وازدحامه وكثرة تكلفاته ورسمياته, فإذا أتت ساعة رجوعهما إلى "التوبلمري" ذكر "نابوليون" ذلك ل "جوزفين" فتنهدا وكان النمساويون مدة غياب "نابوليون" في مصر قد رجعوا إلى إيطاليا وطردوا الفرنساويين من كل الأملاك التي كان "نابوليون" قد رفع فيها راية الجمهورية. فلما حسن "نابوليون" أحوال البلاد الداخلية وجه أفكاره إلى الجيوش المهزومة التي كان قد أوصلها النمساويون إلى الألب فأخبر "جوزفين" بأفكاره وقال لها: إن ذهابه ضروري ولكنه لا يغيب طويلا فودعها في السابع من أيار (ماي) سنة 1800م في "التوبلمري" وفي الثاني من تموز (يوليو) عاد إليها ظافرا منصورا, فإنه كان في هذه المدة الوجيزة التي لم تزد على الشهرين قد طرد النمساويين وزينوا المدينة ليلة بعد أخرى وإظهارا لفرحهم وحبهم له كانوا حيثما يجدونه يتجمهرون ويدعون له بالنصر. وكانت "جوزفين" قد قضت هذه المدة من غياب "نابوليون" في "ملمازون", وكانت تكاتبه يوميا, وهو كذلك وكان كثيرا ما يكتب إليها وهو على ظهر جواده, وأحيانا وهو في ساحة القتال, وأحيانا كان يملي على كاتبه من وسط المعركة وطبول الحرب تقرع وجثث القتلى تتساقط فكان يكتب الكاتب الجمل الوجيزة التي يلقنه إياها, ويرسلها إلى "جوزفين". فهذه الالتفاتات من "نابوليون" إلى "جوزفين" في مثل هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الأوقات الحرجة تمثل أبهج صورة من حسن معاملته إياها تؤكد سمو أخلاق "جوزفين" وآدابها وإلا لم يكن رجل نظير "نابوليون" يحسب الكتابة إليها يوميا فرضا واجبا عليه, وخصوصا في أحرج أوقاته, وقضيت "جوزفين" أكثر مدة غياب "نابوليون" في إصلاح الأشياء التي كانت تظن أن "نابوليون" يسر بإصلاحها, ولما رجع من الحرب صارا يقضيان جانبا من الوقت في "ملمازون" أكثر مما كانا يقضيان فيه قبلا وفتحا الأندية للزوار كما في "التوبلمري", وكان لهذه الأوقات التي تقضي فيه شهرة عظيمة, وكانت من أبهج أوقاتهما وقد كانا يقضيان جانبا منها في بعض الملاهي والألعاب اللطيفة ويشاركهما في ذلك ولدا "جوزفين" وبعض الأصدقاء الخصوصيين من ملوك وملكات وأمراء وأشراف وغيرهم من القواد المشهورين والضباط المميزين. ولكن "جوزفين" لم تغفل في وسط هذه الأفراح واللذات عن مساعدة الذين كانوا يحتاجون على مساعدتها بل كانت تساعد كل من كان في طاقتها مساعدته, وخصصت جانبا معينا من دخلها لمساعدة المهاجرين وكانت أحيانا تتهم بالإسراف, وبعد تبؤ "نابوليون" القنصلية بقليل أمر برجوع المهاجرين إلى أوطانهم وبذل غاية جهده في إرجاع أملاكهم المحجوزة ولا شك أنه وجد صعوبات كثيرة من جهات بعض الأرامل والأيتام الذين كان لهم ما يكفيهم من المال وأصبحوا فقراء مساكين ليس لهم شيء فكانوا يأتون إلى "جوزفين" ويقصون عليها قصصهم المحزنة فتسعى إليهم وترثي لأحوالهم, وتمدهم بالمساعدة التي تمكنها, وكانت دائما تفي بوعدها معهم شأن الكريم. وكان عمر "هورتنس" وقتئذ نحو ثمان عشرة سنة وعمر "لويس" أحد إخوة "نابوليون" أربعا وعشرين سنة فاتفق "نابوليون" و"جوزفين" على أن يزوجا "هورتنس" ب"لويس". وكان "لويس" شابا عالما كثير التأمل, قليل الكلام مثل أخيه "نابوليون", وكان في كل شيء أشبه سائر إخوته به, ولما كان "نابوليون" في إيطاليا يحارب النمساويين تعرف "لويس" بقتاة من سلالة أحد الملوك القدماء فأحبها وتعلق قلبه بها, ولكن لما رجع "نابوليون" وعلم بذلك لم يسر به لأنه خاف أن اقترانهما ربما يضر به فأبعد "لويس" مع العساكر عن باريس ولم يسمح برجوعه حتى تزوجت الفتاة. فلما رجع "لويس" وعلم أنها تزوجت تكدر كدرا عظيما ومن ثم تكدر صفو أوقاته ولم تعد الحياة تطيب له. أما "نابوليون" فشعر بهذا الجرح البالغ في قلب أخيه وكان دائما يجتهد في مرضاته, وأراد أن ينسيه تلك الفتاة, فعزم أن يزوجه ب "هورتنس" ولكن "لويس" لم يقبل ذلك -أولا- غير أنه قبل أخيرا, وكذا "هورتنس" لم ترغب من أول الأمر لأنها كانت تحب أحد القواد وكان من (أصدقائها) المقربين, وكان يتكل عليه أكثر من سائر القواد, ولكنها اغترت أخيرا بمواعيد رابها وقبلت أن يكون "لويس" بعلا لها, ولكنهما قضيا بعد اقترانهما حياة تعيسة إذ لم يكن أحدهما يحب الآخر وفي ساعة زفافهما لاحظ كل من الحاضرين أثر الغم على وجه من العروسين ولم تخف (بعدئذ) تعاستهما التي أدت إلى انفصال أحمدهما عن الآخر. أما "جوزفين" فرافقت "نابوليون" في سنة 1802 م عند طوافه ببعض جهات المملكة ورافقته أيضا في ذهابه إلى "ليون" لأجل ملاقاة نواب إيطاليا, وكانت حيثما ذهبت تدهش الجميع أيضا في ذهابه إلى "ليون" لأجل ملاقاة نواب إيطاليا, وكانت حيثما ذهبت تدهش الجميع بمزاياها الطبيعية وتأثيرها في زوجها وفي كل من عرفها, ومن ثم رجعت هي و"نابوليون" على قصرهما المحبوب في "ملمازون" وقضيا هناك عدة أسابيع في أفراح وسور لا يوصف, ثم عاد إلى الجولان في أطراف المملكة الشمالية لاستطلاع أحوال تلك القطائع, وكان الشعب يستقبلهما بالفرح والترحاب في كل مكان, ويثنون على "نابوليون" مزيد الثناء لإخماد نيران الثورة, وإرجاع النظام إلى المملكة, وتوطيد السلام فيها. وكان حيثما توجه يشعر باستعداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الشعب لتسليمه صولجان فرنسا في أقرب وقت, ولما رجع من سفره استلم قصر القديس "كلود" وكانت هذه خطوة أخرى إلى عرش "البوربون" فإن الشعب كان قد مل من سكينة الجمهورية, وأحب العودة إلى البهجة والأبهة الملكية فجدد هذا القصر وجعل "جوزفين" وأربع سيدات معها للقيام بواجباته, وحينئذ سمي "نابوليون" قنصل كل حياته. وكانت "جوزفين" في ذلك الوقت باذلة غاية جهدها لتقنع "نابوليون" بوجود الله وبإرجاع الديانة المسيحية إلى البلاد لأن الكفر كان قد مد أعراقه في فرنسا و"جوزفين" نفسها لم تكن تعرف كثيرا من التعاليم الدينية, ولا كانت من ذوات التقى إلا أنها كانت قد رأت الكفر وتعاسة البلاد الناشئة عن رفض الديانة المسيحية والأتعاب الأهلية المسببة عن عدم اعتبار الزواج اعتبارا دينيا, وكانت تميز فضائل الدين المسيحي واقتداره على ردع الشعب عن عمل الشر وحملهم على عمل الخير, فاقتنع "نابوليون" بكلامها وأعلن إرجاع الديانة المسيحية على البلاد, وفي غد صدور الإعلانات أقيمت الاحتفالات الدينية المرة الأولى في كنيسة "نوتردام" وأرجعت الديانة المسيحية على المملكة, ولم يمض بعد ذلك مدة طويلة حتى كثرت الإشاعات في شأن تتويج "نابوليون" ملكا على فرنسا, وكان كثيرون راغبين في ذلك. أما "جوزفين" فكانت ترتعد كلما سمعت ذلك, لأنها رأت احتياج "نابوليون" إلى ولد يخلفه إذا توج ملكا وكانت تسمع البعض يلحون عليه بأن يطلقها ويتزوج بغيرها من الأسرة الملكية قائلين: إن مصالح فرنسا تستلزم أن يكون له ابن يخلفه في الملك, وقد كانت متأكدة شدة محبة "نابوليون" لها إلا أنها كانت خائفة من إنفاذ هذا الأمر لأنها كانت قد عرفت أنه ليس لدى "نابوليون" تقدمة لا يمكنه تضحيتها لأجل مجده وتقدمه في هذه الدنيا. وفي يوم من الأيام دخلت "جوزفين" غرفة زوجها فوجدته جالسا مع رجل آخر من أصحاب السياسة يتحدث معه في الأمور السياسية, فلما دخلت جلست قليلا, ثم قالت: إنها لا ترغب ألبتة في تتويج "نابوليون" ملكا بل تفضل بقاءه قنصلا كما هو. فضحك "نابوليون" وقال" "لماذا هذا الجنون يا جوزفين إلى متى تصدقين كلام هؤلاء العجائز". وكان كلما قال أحد أمام "جوزفين" إنها ستكون إمبراطورة فرنسا عما قريب تجيب أنها مكتفية أن تكون امرأة القنصل "نابوليون" فقط. وفي الثاني من (ماي) سنة 1804 م قرر المجلس القضائي أن "نابوليون" سيكون إمبراطور فرنسا وأرسل التقرير إلى كل جهات فرنسا, فوافق عليه أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من الشعب ولم يزد عدد المضادين على ألفين وخمسمائة. وفي غد تبوء "نابوليون" تخت إمبراطورية فرنسا صنع احتفالا عظيما في "التوبلمري" لكل العظماء والأشراف, وبرزت بينهم طجوزفين" في ذلك الاحتفال إمبراكورة لفرنسا, ولكن مخاوف بعض المتوحيات نزعت كل أفراح تلك الساعة منها, ولم تكد تتمالك إظهار غمها وحزنها, وذلك لأن المجلس قرر أيضا أن الإمبراطورية ستدوم في أسرة "نابوليون", وقد حضر ذلك الاحتفال عدد عظيم من أكابر أوروبا وعظمائها فوجدت "جوزفين" نفسها حينئذ في درجة لم يصل إليها أعظم ملكات أوروبا, وكانت شهرة زوجها قد عمت كل أوروبا, وقوته قد فاقت أعظم ممالكها. وفي الثاني من تشرين الثاني (أكتوبر) من السنة المذكورة حضر البابا من رومية لكي يتوجهما إمبراطورا وإمبراطورة على فرنسا في كنيسة "نوتردام" ولم يحصل على هذا الشرف أحد من ملوك أوروبا قبل "نابوليون" منذ عشرة قرون وكان الهواء في ذلك اليوم رائقا, والكنيسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 مزينة بأفخر الزين والعجلات أمامها تلمع بعدد خيولها الذهبية والأرجوانية, والقواد والأبطال في ثيابهم الرسمية الموشاة بالذهب. ولما كان وقت التتويج دخلت "جوزفين" في حلة من الأطلس الأبيض موشاة بالذهب, وموشحة بالخرز الذهبي, ومزينة بالحجارة الكريمة, ومشمل من المخمل القرمزي مبطن بالأطلس الأبيض, وفرو القاقم على أكتافها حلي التتويج, تاجين, الواحد لأجل التتويج ولتضعه على رأسها في احتفالات المملكة الخصوصية فقط والآخر لأجل باقي الأوقات الرسمية, ومنطقة أيضا. أما التاج الأول فكان له ثمانية فروع ذهبية, أربعة منها على شكل النحل, والأربعة الأخرى على شكل روق الريحان وكانت حجارة الألماس البرلنتية منثورة عليها كنقط الندى وقد أحاطت بها حلق ذهبية مرصعة بحجارة من الزمرد والجمشت والتاج الثاني كان مصنوعا من أربعة صفوف من اللؤلؤ ومفصلا لحجارة ألماس ومن الأمام عدة حجارة من ألماس بلغ وزن واحدة منها مائة وتسعة وأربعين قمحة, وكانت المنطقة من الذهب الأبريز وقد رصعت بتسعة وثلاثين حجرا من ألماس الفلمنكي الملون. أما "نابوليون" فدخل في حلة من المخمل الأبيض موشاة بالذهب ومزرورة بحجارة ألماس وجبة ومشمل من المخمل القرمزي موشيين بالذهب ومرصعين بحجارة ألماس أيضا، وكانت المركبة المكلية على غاية ما يكون من الإتقان والجمال فإن ألواحها كانت من الزجاج النقي ويجرها ثمانية رؤوس خيل حمر الألوان. وكانت المسافة بين "التوبلمري" و"نوتردام" نحو ميل ونصف، وكان عشرة آلاف خيال في ثيابهم الرسمية ملازمين العجلات، وبلغ عدد الناظرين نصف مليون، إذ كانت النوافذ والسطوح وشرف البيوت المطلة على الطريق التي مر عليها الموكب غاصة بالوقوف، وكانت الموسيقى تصدح بألحانها المطربة، والمدافع تضرب في الهواء وعشرات الألوف من العساكر تهتف معاً. وكانت تلك الساعة مما لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم، وكان العرش في كنيسة "نوتردام" مغطى بأغطية من المخمل القرمزي وعليه مقعد من المخمل أيضاً يرقى إليه باثنين وعشرين درجة مستديرة، وكانت مغطاة بالجوخ الازرق ومحلاة بالخرز الذهبي، فجلس "نابوليون" بجانب "جوزفين" على العرش ووقف كبار القواد على الدرج ثم ابتدأ التتويج وطالت مدته أربع ساعات وكانت تتخلله الموسيقى العسكرية ولما أزف الوقت لأن يضع البابا التاج على رأس "نابوليون" أخذه بيده واقترب إلى "نابوليون"، وقبل أن يضعه على رأسه أخذه "نابوليون" من يده ووضعه هو نفسه على رأسه ثم نزعه عن رأسه ووضعه على رأس "جوزفين"، ثم نزعه عن رأسها حالاً لثقله ووضعه على مسند بجانبه وتوجها بآخر أصغر منه ثم جثت "جوزفين" والتاج على رأسها ويداها مكتوفان وصلت لله والتفتت إلى زوجها التفاتة عبرت عن شكرها ومحبتها له، وبقي "نابوليون" يتذكر هذه الالتفاتة كل أيامه. ولما تم التتويج وأزف وقت الانصراف ارتجل "نابوليون" خطبة تناسب المقام ذكر فيها أن نسله سيجلس على هذا العرش من بعده فأثر هذا الكلام تأثيرا عظيما في "جوزفين" ونشب كحربة في قلبها خصوصا لما تعهده في "نابوليون" والشعب الفرنساوي أيضا من الرغبة في أن يكون له ولد ولما عادت إلى "التوبلمري" كان الليل قد أرخى سدوله وأسواق المدينة مزينة بالأنوار و"التوبلمري" يتلألأ بها أيضا، ودخلت "جوزفين" مخدعها وجثت على ركبتيها وطلبت الإرشاد من ملك الملوك والدموع منسجمة على خديها. أما أهالي باريس فخصصوا الشهر الأول من تتويج "نابوليون" و"جوزفين" بكل أنواع الأفراح والملاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 العمومية وكانت المدينة تزين كل ليلة بالأنوار. وفي صباح أحد الأيام دخلت "جوزفين" إحدى غرفها فوجدت ناصلة ذهبية مع كل أدواتها وكانت من الذهب أيضا وقد أهداها إليها مجلس بلدية باريس. وفي مساء تتويجها أطلق الشعب منطادا كبيرا في الجو مصنوعا على هيئة التاج الملكي، فبقي مدة ظاهرا فوق باريس ثم سار نحوالجنوب. وفي مساء اليوم التالي وقع في مدينة رومية -وهي تبعد مسافة تسعمائة ميل عن باريس- ثم حدث على أثر تتويج "نابوليون" أن مديري جمهورية إيطاليا كتبوا إلى "نابوليون" -وكان وقتئذ رئيسهم- يطلبون إليه أن يرافقهم على "ميلانو" ويتوج ملكا عليهم إذ كان هو المنقذ لهم من أيدي أعدائهم النمسويين، وكان من عوائد "نابوليون" السفر بغير أن يعلم أحدا من قبل، ففي مساء يوم من الأيام بعد عماد الابن الثاني لأخيه "لويس" أمر بإعداد الخيل للسفر إلى إيطاليا الساعة السادسة من الصباح فرافقته "جوزفين" في هذا السفر، وكانا حيثما يصلان يستقبلهما الشعب بالترحاب ويزين لهما المدن ويدعو لهما بالنصر، وكانت "جوزفين" حاصلة حينئذ على كل ما من شأنه أن يجعلهما أسعد البشر لولا أمر واد وهو عدم وجود ولد ل "نابوليون"، ولكنها لما وصلت إلى إيطاليا نسيت غمها وقضت هنالك عدة أيام بغبطة وهناء، وكان بينهما وبين البابا "بيوس السابع" صداقة قوية وقد رافقهما بنفسه إلى "تورين"، ولما افترق عنها أهدت إليه كاسا من فخار (سافراس) ومن "تورين" أخذها "نابوليون" إلى ساحة "مارنفو" حيث نشبت أعظم وقائعه وهناك لبس ثيابه الحربية ووقف في وسط ثلاثين ألف جندي ومثل لها واقعة القتال. وفي الثامن من (ماي) سنة 1805م دخلا ميلانو، وكانت المدينة مزينة والفرح والطرب قائمين فيها. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه توج "نابوليون" ملكا على إيطاليا في كنيسة "ميلان" ولم يكن هذا الاحتفال أقل من الاحتفال في كنيسة "نوتردام" والذي زاد هذه الحفلة عظمة وأبهة أنه أخضر ل "نابوليون" -سوى التاج المعد لتتويجه- تاج "شارلمان" الحديدي ولم يكن هذا التاج قد علا رأس الملوك منذ أيام "شارلمان" من ألف سنة، وهنا أيضا كما في "نوتردام" لم يدع أحدا يضعه على رأسه بل وضعه هو بنفسه ثم توج "جوزفين" هو أيضا وأقاما مدة شهر في "ميلانو" وذهبا منها إلى "جنوى" ثم رجعا على باريس، وكان "نابوليون" قد أعطى "جوزفين" لائحة عن سفرهما وعن جميع الأماكن التي سيقفان فيها والخطب والأجوبة التي سيخطبها ويجيب بها، والهدايا التي كان يجب عليها تقديمها، والمبالغ التي يمكنها أن تنفقها، فكانت "جوزفين" تقضي قسما من كل صباح في درس هذه المثالات وقد أظهر "نابوليون" ل "جوزفين" في هذا السفر ما لا مزيد عليه من البشاشة والأنس، وكانا دائما مسرورين. وذكرت "جوزفين" فيما بعد أن هذا السفر من أسر أسفارها مع "نابوليون"، وكانا حيثما يصلان يتلاقهما الشعب بالترحاب، ويقيم لهما الأفراح، ويولم الولائم. وبعد وصولهما إلى باريس بمدة وجيزة سمعا أن قصد "أيوجين" ابن "جوزفين" الاقتران بابنة ملك "بافاريا" فذهبا على "ميونخ" ليحضرا الزفاف فاجتمعت "جوزفين" بابنها وفرحت له بعروسه خصوصا لأنها كانت في كل شيء كما تشتهي، ثم رجعا من هناك إلى باريس مشيعين بجمهور كبير من أمراء "جرمانيا" وأميراتها، وكانت "جوزفين" وقتئذ في ذروة من المجد التي لا يمكن هذا العالم أن يمنحها لأحد من البشر فإن كل أوروبا كانت عند قدمي زوجها، وابنتها "هورنتس" كانت ملكة "هولاندا" وابنها "أيوجين" كان نائب ملك إيطاليا، وصهر ملك "بافاريا". وكان "نابوليون" قد نزع من فكره طلاقها وقرر أن ابن أخيه "لويس نابوليون الأكبر" سيكون وارث ملكه فزالت كل الارتباكات في ذلك الوقت من هذا القبيل، وكان "نابوليون" دائما معجبا ب "جوزفين" حتى كان يقول في غالب الأوقات "إنه لا نظير لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بين نساء العالم". أما هي فلم تكن تنسى المحتاجين والحزانى مع ما وصلت إليه من السلطنة والسؤدد، بل كانت دائما مستعدة لمساعدة كل من طلب مساعدتها سواء كان بمالها أو بكلامها حتى كانت تتهم أحيانا بالتبذير والإسراف، وكانت تحب مرافقة "نابوليون" في أسفاره، وهو أيضا كان يرغب مرافقتها لا، ها كانت الشخص الوحيد الذي يوثق به، ومرة وعدها بمرافقته في إحدى سفراته ولكن الأحوال أحوجته إلى الذهاب سرا فأمر بإعداد لوازم السفر. وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل وهو الوقت الذي ظن أن "جوزفين" تكون فيه مستغرقة في النوم قصد الذهاب، ولكنه لم يصل إلى العجلة حتى كانت "جوزفين" بين يديه، فأمر بإعداد لوازمها في الحال وذهبا معا إلى إسبانيا، فأخضع "نابوليون" إسبانيا تحت طاعته وملأها من العساكر الفرنسوية وولى أخاه "لويس" عليها، ثم قفل راجعا على فرنسا، ولكن لم يلبث طويلا حتى أتته الاخبار أن الإسبانيين طردوا أخاه من العاصمة بمساعي الإنكليز وقتلوا كثيرين من الفرنسويين القاطنين هناك. فرجع مسرعا إلى إسبانيا وفي هذا الوقت أيضا طلبت "جوزفين" الإتيان معه، ولكنه لم يسمح لها ذلك بل دخل مدريد عاصمة البلاد وأرجع أخاه إلى مقامه وثبت حكمه فيها ورجع ثانيا إلى فرنسا. وكانت آمال "نابوليون" و"جوزفين" في ذلك الوقت معلقة بالاير الصغير ابن "لويس" و"هورتنس"، وشاع في كل فرنسا وهولندا أنه سيكون صاحب الملك من بعد عمه. ولكن في ربيع سنة 1807م بينما كان "نابوليون" يحارب "بروسيا" وهو منتصر عليها انتصارا عظيما أصاب الولد داء الخناق ومات في ساعات قليلة وكان له من العمر خمس سنوات فحزنت "جوزفين" لفقده حزنا عظيما ورجعت إلى مخاوفها القديمة لأنها كانت تعرف "نابوليون" وتعرف رغبته في أن يكون له وارث يترك الملك له وكانت فرائصها ترتعد كلما افتكرت مرارة تلك الكأس التي كان لا بد لها من تجرعها، وقد بقيت مدة ثلاثة أيام منفردة في غرفتها بلا أكل ولا نوم، تسكب الدموع على عظم مصيبتها. أما "نابوليون" فلما وصلت إليه هذه الأخبار المحزنة كان في أوج انتصاره إذ كان قد قهر جميع أعدائه وأخضع "بروسيا" تحت طاعته وكان جميع ملوك أوروبا مستعدين لإتمام أوامره، فلما سمع هذه الأخبار جلس ساكتا وارتفق بيده على وجهه، وسمع وهو في حزنه الشديد يقول لنفسه المرة بعد الأخرى: "لمن أترك كل هذا؟ " وكان يتنازع أفكاره عاملان قويان محبة "جوزفين" من جانب ومحبة المجد واشتهاء أن يكون له ولد يرث اسمه وشهرته من جانب آخر. وبقي مدة على هذه الحال ولا يذوق طعاما ولا يغمض له جفن، ولكن رغبته في كسب المجد واعتقاده أنه أوصل فرنسا إلى درجة لم تصل إليها مملكة على وجه الأرض فينبغي أن يخلف من يرثها من نسله جعلاه يضحي بكل سعادته وراحته ويفقد سلامة الذوق، ويحل قوى ربط المحبة وكانت "جوزفين" تعرف زوجها جيداً، فكانت بالخوف والرعب تنتظر قدومه وكانت تقضي أكثر أوقاتها بالنوح والبكاء، وكان أحيانا كثيرة يصدر في الجرائد كلاما في شأن طلاقها واقتران "نابوليون" بإحدى بنات الأسرة الملكية. وفي تشرين الأول "أكتوبر" سنة 1807م رجع "نابوليون" من (فيينا) فسلم على "جوزفين" بمزيد اللطافة. أما هي فلاحظت في الحال أنه كان قلقا في فكره، وأنه كان حينئذ يشتغل بهذه المسألة وكثيرا كان يجتمع بوزرائه سرا، فلاحظ رجال البلاط ذلك وكانوا قليلي الكلام، وكان "نابوليون" لا يكثر أن يلتفت إلى امرأته لأنه خاف أنه إذا التفت إلى التي أحبها هذا الحب العظيم يتغير فكره، وكانت "جوزفين" قلقة جدا من هذا القبيل ولكنها اجتهدت في اخفاء عواطفها، وكانت تلاحظ حركات "نابوليون" وسكناته، فترى في كل يوم أمرا جديدا يؤكد لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ما كانت تخافه. أما هو فكان يتجبنها ويبتعد عنها وقد قفل الباب الذي بين غرفته وغرفتها، وكانت قليلا ما يدخل مخدعها وإذا أراد ذلك قرع الباب كل ذلك ولم تكن جرت كلمة واحدة بينهما في هذا الشأن، وكانت "جوزفين" عندما تسمع وقع أقدام "نابوليون" ترتجف وتظن أنه آت إليها بالاخبار المخيفة. ولم تعد تقدر أن تصل من مكانها إلى الباب من غير أن تتمسك بالحائط أو بشيء آخر، ولكنه مضى كلا شهري تشرين الأول والثاني (أكتوبر ونوفمبر) ولم يكلم "نابوليون" "جوزفين" بشيء من هذا القبيل مع أنه كان في المذاكرة مع وزرائه في أمر الزواج الجديد والأسرة التي يصاهرها فإنه يستصعب مفاتحتها بهذا الشأن، غير أن هذه الصعوبة لم تغير مقاصده الثانية البتة، وكانت شهرته وسلطته عظيمتين إلى حد أنه لم يوجد أسرة في أوربا لم تكن تحسب شرفا لها أن تعطي بناتها زوجة ل "نابوليون"، فأشار عليه وزرائه أولا أن يأخذ زوجة من أسرة "البربون" لأنهم افتكروا أنه إذا فعل ذلك يرضي حزب الملكية في فرنسا ويكون ملكه أثبت بهذه الواسطة. ثم أشاروا عليه أن يأخذ سيدة سكسونية, ولكنهم ظنوا بعد طول التأمل أن يكون الأنسب أن يصاهر جلالة ملك "روسيا" ولكن بعد أن جرى كلام بين البلاطين في ذلك قر الرأي أن يأخذ "ماريا لويزا" ابنة إمبراطورة النمسا وكان في ذلك الوقت قد آن ل "نابوليون" أن يخبر "جوزفين" بما كان قاصدا أن يفعله, وكان في اليوم الأخير من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1809 م دخل الإمبراطور والإمبراطورة لكي يتعشيا ولم يدخل معهما أحد, وكانت "جوزفين" كل النهار في غرفتها تسكب الدموع بغزارة كأنها عرفت أن ذلك اليوم كان يومها المحزن, ولكنها لما أتت ساعة العشاء غسلت عينيها ودخلت غرفة المائدة وبذلت غاية جهدها لكي تضبط نفسها عن البكاء, ولذلك لم تتجاسر أن تفتح فمها بكلمة واحدة. أما "نابوليون" فكان تائها في بحر الأفكار ولم يكلمها بكلمة واحدة فكان حول تلك المائدة حينئذ سكوت تام ولم يذق أحدهما شيئا بل كانت أنواع الطعام تتبدل بغير أن تمس, وكان اصفرار الموت على وجه كل منهما, ولما انتهى تقديم العشاء صرف "نابوليون" الخدم, ثم نهض وأغلق الباب بيده على نفسه و"جوزفين" وحينئذ أتت تلك الدقيقة التي كان كل منهما هالعا منها, فاقترب "نابوليون" إلى "جوزفين" وأخذ يدها وقال لها بصوت منقطع: "يا جوزفين, يا عزيزتي جوزفين أنت تعلمين كيف أحببتك وإني لك وحدك شاكر على الدقائق القليلة التي بك عرفت فيها السعادة على الأرض, والآن أخبرك أن واجباتي أقوى من إرادتي, وأن عواطفي القوية نحوك يجب أن تخضع لمصلحة فرنسا". فلما سمعت "جوزفين" ذلك خفق قلبها ونضب الدم في عروقها ووقعت على الأرض مغشيا عليها, فلما رأى "نابوليون" ذلك فتح حالا الباب ونادى من يساعده, فأتى إليه حالا عدد من الخدم من الغرفة المجاورة وكان هناك أيضا الكونت "بومون" فأومأ إليه "نابوليون" وهو مرتجف, ووجهه ممتقع بأن يأخذها على يده إلى غرفتها وأخذ هو مصباحا بيده وذهب أمامه, ولكن لما وصل إلى السلم سلم المصباح إلى أحد الخدم وساعد الكونت في حملها وكانت تقول في غشيتها: "آه لا يمكنك أن تفعل ذلك لأنك لا تحب قتلي". ولما وصلا بها وضعاها على فراشها صرف "نابوليون" الكونت وقرع الجرس في طلب خادمتها الخصوصية وقضى الوقت بجانبها حتى أخذت تستفيق, ولما ظهر له أنها ابتدأت ترجع إلى نفسها تركها ومضى إلا أنه لم ينم طول ذلك الليل, بل كان يتمشى في غرفته ويأتي على باب غرفة "جوزفين" ويسأل الطبيب عن أحوالها, أما الطبيب فلم يفارقها كل ذلك الليل. وفي مدة الأسبوعين الأولين بعد ذلك لم ير الواحد منهما إلا قليلا مما يتعلق بالآخر, واتفق أنه في تلك المدة كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عيد التتويج ونصرة "أوسترليتز" الشهيرة فكانت المدينة في ذلك الوقت مشتعلة بالأنوار وصوت قرع الأجراس ملأ الفضاء وفي هذين الاحتفالين كانت "جوزفين" مضطرة أن تحضر أمام الشعب وكانت مؤكدة أن كل الملوك والأمراء الذين كانوا حينئذ في باريس عالمون بالإهانة المقبلة عليها, وكانت كل أصوات الطرب والابتهاج في مسامعها قرع أجراس حزن مؤذنة بمصيبتها, ومع ذلك فإنها بذلت جهدها في تسليتها لكي تظهر أمام الناس كعادتها غير أن اصفرار وجهها واغريراق عينيها بالدموع كانا ينبئان عما تحاول إخفاءه, وكانت ابنتها "هورتنس" دائما معها باذلة غاية جهدها في تسليتها وابنها "أيوجين" ترك إيطاليا وأتى باريس إليها, وبعد مواجهتها ذهب إلى "نابوليون" وطلب الاستعفاء من خدمته قائلا له: إن ابن التي ليست إمبراطورة لا يقدر أن يكون نائب الملك وأنا قصدي أن أتبع أمي في انحطاطها لأنه يجب الآن تعزية في أولادها. أما "نابوليون" فلم يكن خلوا من العواطف بل تساقطت العبرات من عينيه وصار يكلم "أيوجين" بصوت مرتعش ويبين لزوم ذلك ويوضح له الأمور فتأثر "أيوجين" من كلامه, وأما أمه فطلبت منه أ، يبقى في خدمة "نابوليون" ويبقى من أصدقائه المخلصين كما كان أولا. وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة 1809 م جمع "نابوليون" جميع الملوك والأمراء من أسرة الإمبراطورة وأكثر القواد المشهورين في منتدى "التوبلمري" العظيم حتى يقص عليهم خبر انفصاله من "جوزفين" وكان كل واحد من الحاضرين منذهلا من غرابة هذا الاجتماع فنهض "نابوليون" في أثناء ذلك وخاطبهم قائلا: "أن مصالحي السياسية ورغبة شعبي الذي كان دائما يدرب أعمالي تستدعي أن يكون لي وارث يرث محبتي للشعب الذي وضعتني العناية عليه. وقد مضى علي عدة سنوات مع الإمبراطورة "جوزفين" حتى قطعت الأمل من أن يكون لي أولا منها, وهذا هو الداعي الذي حملني على التضحية بأشد عواطف قلبي ومراعاة مصالح رعيتي وطلب انفصالنا. وقد بلغت الآن الأربعين من العمر وآمل أ، أعيش طويلا بعد وأن أحتضن في أفكاري الأولاد الذين تسر العناية بأن تباركني بهم, والله وحده يعلم كم كلفت قلبي هذا المقصد ولكن ليس من أمر مهما كان عزيزا علي إلا وأنا أضحيه طائعا مختارا لمصلحة فرنسا, وليس لي سبب أشكو منه ولا شيء أقوله سوى مدح محبة امرأتي المحبوبة وحنوها, فإنها زينت خمس عشرة سنة من حياتي فيبقى ذكرها منقوشا على صفحات قلبي إلى الأبد وأنا بيدي توجتها إمبراطورة ستبقى إمبراطورة في القلب والرتبة وأحب فوق كل ذلك أن لا تشك مطلقا بعواطفي من نحوها ولا تعتبرني إلا أعز صديق لها". فأجابت "جوزفين" بصوت منقطع وعينين مغرورقتين بالدموع: "إني أجيب على آمال كلام الإمبراطور من جهة انفصالنا بالقبول لأن اجتماعنا كان حائلا دون مسيرة فرنسا بسبب عدم وجود من يسوس يوما ما هذا الشعب من نسل هذا الإنسان العظيم الذي أقامته العناية لكي يطفئ شرر الثورة المخيفة, ويرجع المذبح والعرش والهيئة الاجتماعية, ولكن هذا الانفصال لا يغير عواطف قلبي بل سيجد الإمبراطور في أحسن صديقة له, وأنا أعلم ماذا كلف هذا العمل السياسي قلب الإمبراطور, ولكن نحن الاثنان نفتخر بهذه التضحية التي ضحيناها لأجل خير المملكة, وأشعر أنين التعظيم والمجد بإيرادي بإعطائي أعظم برهان على محبتي". هذا ما أظهرته "جوزفين" جهارا, وأما في الخفاء فإنها استسلمت للحزن والكآبة وقضت ستة أشهر بالبكاء والنحيب حتى قاربت العمى من شدة الحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفي اليوم المعين لإنهاء نظام الانفصال اجتمع المحفل ثانية في نادي الإمبراطور العظيم ليشهدوا تمام نظام الانفصال, فدخل الإمبراطور بحلته الرسمية واصفرار الموت على وجهه, وعلامات اليأس والقنوط تلوح عليه واستند إلى أحد الأعمدة مكتوف اليدين لا يفوه بكلمة وبقي برهة غائصا في بحور الافتكار كالصنم لا يبدي حراكا, وكان في وسط النادي مائدة جميلة وعليها كل أدوات الكتابة من الذهب الإبريز, أمامها كرسي أعد ل "جوزفين" وكان جميع الحاضرين صامتين لا يفوهون بكلمة وكلهم شاخص إلى المائدة وما عليها كأنهم ينظرون إلى مذبحة أو مشنقة معلقة, ففي وسط هذا فتح باب من جانب المنتدى, ودخلت منه "جوزفين" مستندة إلى يد ابنتها "هورتنس" واصفرار الموت يلوح على وجه كل منهما ولما دخلا غلب البكاء على "هورتنس" ولم تنفك عن ذلك كل مدة الاجتماع. ولما دخلت "جوزفين" نهض الجميع إجلالا لها وتساقطت العبرات من عيونهم لشدة تأثرهم من منظرها. أما هي فتقدمت بحركاتها اللطيفة إلى المكان المعد لها, وارتفقت بيدها على وجهها وأصغت إلى قراءة نظام الانفصال والدموع تسكب من عينيها, وكان ابنها "أيوجين" جالسا على مقربة منها وبعد نهاية قراءة النظام حسمت "جوزفين" دموعها وانتصبت واقفة وأخذت على نفسها عهد الانفصال بصوتها الرائق العذب الاعتيادي, ثم جلست وأخذت قلما ووقعت اسمها بفك أمتن ربط المحبة والوداد التي لا يمكن للعقل البشري أن يتصورها, أو للقلب الإنساني أن يشعر بها, ثم استندت ثانية إلى يد ابنتها وخرجت من المكان أما "أيوجين" فوقع على الأرض مغمى عليه. أما شدة ذلك اليوم وآلامه فلم تكن قد انتهت, بل كان على "جوزفين" وهي في وسط توهانها في بحور الأحزان ما كان آلم وأشد عذابا من الأول وهو وداع من كان زوجها الوداع الأخير, فانتظرت في غرفتها وهي حزينة القلب مكسورة الخاطر لا تفوه بكلمة, فلما حان الوقت أتى "نابوليون" إلى غرفته قلقا كئيبا بسبب ما جرى ورمى بنفسه على فراشه. وفي الساعة نفسها فتح الباب الذي بين غرفته وغرفة "جوزفين" ودخلت هي منه وهي ترتجف وعيناها وارمتان من البكاء وشعرها مسدول على أكتافها وعلامات الحزن والغم الشديدين تلوح على وجهها فتقدمت إلى وسط الغرفة ودنت من سرير "نابوليون", ثم وقفت بغتة وغطت وجهها بيديها وصارت تبكي بكاء شديدا, وكان ذلك لأنها افتكرت حينئذ أنه لا حق لها بعد في الدخول إلى غرفة "نابوليون" ولكن محبتها الشديدة له حالا تهيجت وأنستها كل ذلك, فتقدمت إليه وطرحت نفسها بجانبه وغمرته بيدها وصارت تدعوه باكية منتحبة, فتهيجت عواطف "نابوليون" وجعل يؤكد لها محبته الصحيحة الصادقة وهو يبكي وينتحب ويثبت لها أنه سيبقى كذلك إلى يوم موته واجتهد لكي يسليها ويعزي قلبها وبقيا على ذلك برهة من الوقت, ثم قامت "جوزفين" وودعت زوجها الذي أحبته كل هذه السنين الوداع الأخير وافترقت عنه إلى الأبد. وفي اليوم الثاني ودعت "جوزفين" البلاط وأهله وفي الساعة الحادية عشرة اجتمع كل حاشية "التوبلمري" على أعلى السلالم وفي الشبابيك والمماشي ليروا افتراق سيدتهم المحبوبة التي كانت زينة ذلك القصر وبهجته, فنزلت على السلالم مغطاة بمنديل من قمة رأسها على قدمها والدموع ملء عينيها فصارت تلوح بمنديلها علامة الوداع للأصدقاء الباكين حولها إلى أن وصلت على الباب, وهناك وجدت عجلة مطبقة باستنظارها يجرها ستة من الخيول الجياد فدخلتها وسارت بها وتركت وراءها "التوبلمري" إلى الأبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أما محل إقامتها الجديد فكان قصر "ملمازون" الذي كانت تفضله على سائر قصور الإمبراطور, وكانت قد قضت فيه هي و"نابوليون" أسعد أوقاتها فإن "نابوليون" كان يعرف محبتها لهذا القصر وقد أعطاها إياه لكي تقضي فيه باقي حياتها, وكان قد أجرى عليها راتبا سنويا قدره ستة آلاف ريال وأبقى لها اسمها ومقامها هناك, ومكثت "جوزفين" عائشة كما يعيش الملوك وكانت محبوبة عند كل شعب فرنسا ومعتبرة ومكرمة عند كل أهالي أوروبا وكان "نابوليون" يزورها غالبا ويستشيرها في أعماله, وقد أدرك الناس أن الذي يريد أن يرضي الإمبراطور ويكون من المقربين إليه هو الذي يلتفت إلى "جوزفين" ويحسن معاملتها وإكرامها ومن ثم أصبح قصر "ملمازون" محل اجتماع كل أعضاء بلاط "نابوليون" يأتون إليه دائما بحللهم الرسمية الملوكية, وكانت تدعو منهم كل يوم عشرة أو اثني عشر نفسا ليفطروا معها صباحا. وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر كانت تمر أمام الجميع إلى غرفة المائدة يتبعها المدعون حسب رتبهم ومقامهم, وكانت تفرز اثنين منهم للجلوس عن يمينها وعن يسارها, ويقف وقت الطعام خمسة من الخدم وراءها وخادم واحد وراء كل من المدعوين, وسبعة أفواج من رتب مختلفة كانوا يخدمون على المائدة. أما مدة الفطور فلم تكن تزيد عن ثلاثة أرباع الساعة إلا فيما ندر وكانت تذهب بعد الفطور مع سيداتها وضيوفها إلى قاعة التحف. أما أوقات "جوزفين" فكانت تقضي في أعمال الرحمة مع المساكين حواليها والمطالعة واستقبال أعضاء بلاط "نابوليون" فإن منتداها كان دائما غاصا بهم, وكان "نابوليون" دائما يزورها ويقضي عندها ساعات كثيرة يتمشى بها معها في الجنينة أو في محل آخر أخذا بيدها, وكان يفعل كل ما في وسعه كي يعوض لها عن معاملته السالفة, وعن الحزن والغم اللذين سببهما لها, وكان قلبه باقيا متعلقا بها ويحبها محبة شديدة, ومحبته واعتباره لها يزدادان يوما فيوما, وكانت "جوزفين" تقضي أوقاتها يوميا على وتيرة واحدة فتنزل في كل يوم الساعة العاشرة صباحا إلى قاعة الاستقبال وتستقبل زوارها الذين كانوا من أعيان باريس, وكانوا يشتغلون ببعض الأمور المسلية مثل الصور الجميلة والنقوش البديعة والتحف الغربية والذي كان لا يرغب في ذلك, يذهب مع "جوزفين" لاستماع تلاوة بعض الكتب المفيدة من الموكل على بيتها وكانوا يقضون الوقت في ذلك إلى الساعة الثانية بعد الظهر فتأتي إذ ذاك ثلاث عجلات يجر كلا منها أربعة من جياد الخيل فتركب "جوزفين واحدة منها وتذهب مع اثنتين من خادماتها الخصوصيات وبعض الأصدقاء وتقضي مقدار ساعتين من الزمان: أحيانا في التنزه, وأحيانا في الجولان بين سكان القرية والتحدث معهم, ثم ترجع في الساعة الرابعة إلى القصر ويذهب كل في طريقه ويفعل ما يشاء إلى الساعة السادسة بعد الظهر ساعة العشاء بالمؤانسة والألعاب المختلفة إلى الساعة الحادية عشرة وحينئذ كانت تقدم الحلواء والشاي, وبعد ذلك الانصراف. وفي شهر آذار (مارس) سنة 1810 م وصلت "ماريا لويزا" إلى باريس وجرى احتفال إكليلها على "نابوليون" في "سنت كلود", وكان حافلا جدا, وبعد الإكليل دوت باريس بأصوات الطرب فأخذ "نابوليون" عروسه إلى "التوبلمري" من حيث خرجت "جوزفين" منذ ثلاثة أشهر وكانت أصوات المدافع وقرع الأجراس وابتهالات الشعب ثقيلة جدا على قلب "جوزفين" واجتهدت في إخفاء حزنها وغمها, ولكن عبثا تفعل ذلك فإن اصفرار وجهها واغريراق عينيها لم يخفيا أمرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أما "نابوليون" فبقي يكاتبها ولم تمنع غيرة "ماريا لويزا" زيارته لها وبعد اقترانهما بأكثر من سنة ولد ملك لرومية. وفي نفس المساء الذي وصل هذا الخبر إلى "جوزفين" كتبت رسالة لطيفة إلى "نابوليون" تهنئه بالمولود وهذه خلاصتها: " سيدي, هل يمكن صوت امرأة ضعيفة أن يصل أذنيك في وسط التهاني الكثيرة الآتية إليك من كل جهات أوروبا ومدن فرنسا وأفراد جيشك, وهل تتنازل للإصغاء إلى التي طالما سلت أحزانك وخففت أوجاعك فتتكلم معك عن الفرح العظيم الذي به تحققت كل أمانيك أو تتجاسر التي ليست بعد امرأتك أن تهنئك بأنك صرت والدا. نعم سيدي, لا شك أن من القلب إلى القلب دليلا وأنا أعرف قلبك ولا أظلمك كما أنك أنت تعرف قلبي وأنني أقدر أن أحس معك كما أنك أنت الآن تحس معي ونحن الآن مشتركان بتلك المعاطفة التي تفوق كل شيء وإن كنا مفترقين. كنت أشتهي أن أسمع منك أنت ميلاد ملك رومية, وليس من أصوات المدافع أو والي المقاطعة غير أني أعلم أن واجباتك الأولى هي للمملكة ولسفراء الدول الأجانب ولعائلتك, وعلى الخصوص للأميرة السعيدة التي بلغتك أمانيك. نعم, إنها لا تقدر أن تكون محبة لك أكثر مني ولكنها تمكنت من إتمام سعادتك أكثر مني إذ ولدت هذا الولد لفرنسا, ولذلك كان لها الحق الأول لعواطفك الأولى ولكل اعتنائك. وأما أنا فلم أكن إلا رفيقة لك في أيام الصعوبات, ولذلك فلا أطلب من فؤادك إلا مكانا بعيدا جدا عن المكان الذي تحله الإمبراطورة "لويزا" وغاية ما أؤمله الآن تأخذ قلمك وتتحادث قليلا مع أعز صديقة لك, ولكن ليس قبلما ينتهي سهرك بجانب سرير امرأتك, ولا قبلما تتعب من معانقة ولدك وها أنا ذا بالانتظار. أما أنا فيعتذر علي الإبطاء في إخبارك بأني أفرح لفرحك أكثر من كل إنسان في العالم وأنت لا تشك في خلوص محبتي وصدق كلامي وأنا آسفة على شيء واحد وهو أني لم أفعل حتى الآن ما به الكفاية لأبين لك مقدار حبي لك، وأني لم أسمع شيئاً عن صحة الإمبراطورة سأتجاسر أن أتكل عليك يا سيدي بقدر أملي بك أن اسمع منك عن هذه الحادثة العظيمة التي حصلت دوام الاسم الشريف الذي أنت تمثله وأن "أيوجين" و"هورتنس" سيكتبان لي مفصلا عن ذلك، ولكني منك أشتهي أن أسمع إذا كان ابنك حسناً أو إذا كان يشبهك أو إذا كان يؤذن لي في رؤيته يوما ما، وبالاختصار إني انتظر منك ثقة غير محدودة وعلى ذلك سيدي لي حقوق بالنظر إلى محبتي غير المحدودة التي لا تتغير ما دمت حية". فلما انتهت جوزفين من كتابة هذه الرسالة أرسلتها إلى "نابوليون" ولكنها لم تفتح الباب لترسل رسالتها حتى وقف أمامها رسول "نابوليون" وبيده رسالة منه يبشرها فيها بالمولود فأخذتها "جوزفين" منه وذهبت بها إلى غرفة منامها وبعد نصف ساعة رجعت إلى أصحابها وقد احمرت عيناها من البكاء ورسالة "نابوليون" في يدها ملطخة الدموع، فدفعت إلى رسول الإمبراطور رسالة أخرى كانت قد كتبتها جوابا للإمبراطور على رسالته وأعطته دبوسا من ألماس وألف ريال من الذهب علامة على اعتبارها قيمة البشرى التي حملها إليها، وبعد أن صرفت الرسول أخذت رسالة الإمبراطور وتلتها على أصحابها الحاضرين. ولم ينقطع الإمبراطور بعد ذلك عن زيارة "جوزفين" بل كان يذهب إليها كالأول، ودبر طريقة تمكن بها من تقديم الولد على يديه لها حتى تراه، وكان ذلك في المضرب الملوكي قرب باريس وقد ذكرت "جوزفين" بعد ذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 إحدى رسائلها إلى "نابليون" أن تلك الدقيقة التي رأته فيها حاملا ولده على يديه كانت أسعد ما لاقته في حياتها لأنها كانت أوضح علامة أظهر فيها محبته الأكيدة لها. أما الغرفة التي كانت منام "نابوليون" في "ملمازون" قبل انفصاله عن "جوزفين" فبقيت كما كانت، وكان مفتاحها مع "جوزفين" وكانت هي تذهب إليها يوميا وتنزع الغبار عن أداوتها وأثاثها ولم تسمح ألبته بتغيير شيء أو نقل شيء من مكانه، وكانت في ألو مدة إتيانها إلى "ملمازون" حزينة كئيبة، وعلامات الكدر والغم تلوح على وجهها على الدوام فأعطاها "نابوليون" قصر "نافار" كان حواليه منتزهات فسيحة تجري فيها الأنهار الصافية وتغرد في أشجارها الطيور الجميلة. وكان هذا القصر أحد القصور الملكية وهو قائم في وسط غابة "إفري" الشهيرة وكان قد تعطل قليلاً في مدة الثورة فأعطى "نابوليون" "جوزفين" 300 ألف ريال لترميمه وإصلاحه فرممته وأصلحته وحسنت فيه أشياء كثيرة حسب ذوقها حتى جعلته كجنة عدن، وصارت تفضله على "ملمازون" وبعد أن نقلت إليه بأيام قليلة كتبت إلى "نابوليون" الرسالة الآتية: "سيدي، تشرفت هذا الصباح برسالتك العزيزة التي كتبتها إلي مساء اليوم الذي تركت فيه "سنت كلود" وقد بادرت إلى إجابتك عما فيها من المواضيع اللطيفة الحبية. والحق أن هذه المواضيع تدهشني، ولكن ما أدهشني غير سرعتها، فإنه ليس لي هنا سوى خمسة عشر يوماً فتأكدت فيها أن محبتك لي تطلب تسليتي وتعزيتي حتى في الوقت الذي نحن فيه منفصلان الانفصال الذي كان لا بد منه لراحتنا كلينا ويقيني أن حسن اعتنائك بي والتفاتك إلي يتبعاني حيث كنت ويعزياني. والآن لم يعد لي شيء أشتهيه بعد اختيار محبة كانت مشتركة وآلام محبة ليست بعد مشتركة، وبعد التمتع بكل السرور الممكن للقوة غير المتناهية أن تمنحه، وبعد أن نلت كل السعادة بنظري على الإنسان الذي أحبه فوق جميع الناس. نعم، إنني لا أشتهي شيئا سوى السكون والراحة وهكذا فإني الآن لا أرى أن لي شيئا من دواعي الحياة سوى عواطفي الحبية نحوك ومحبتك لأولادي والأمل أنه ربما يمكنني أن أفعل بعد شيئا من الخير يؤل على راحتك وسعادتك، لذلك لا تأسف معي لأني هنا بعيدة عن البلاط الذي يظهر أنك تظن أني أتحسر عليه فإني هنا في "نافار" محاطة بأحباء أعزاء وحرية لا تباع أميالي في الفنون وإني أجد نفسي أحسن مما لو كنت في أي مكان آخر. وعندي هناك كثير للعمل لأني أرى حوالي علامات الخرائب التي أحدثتها الثورة الهائلة وسأبذل جهدي لأزيل آثارها من هذا البناء، كما أن سعادتك علمت الناس أن ينسوها، وإصلاح هذه الخرائب ومساعدة المساكين حولي يسراني أكثر من تملق سكان البلاط وما يظهرونه من التصنع والتكلف. إني أخبرتك سابقا عن كل أعضاء هذا البيت ولكني لم أخبرك ما به الكفاية عن سيادة المطران "بورليايرفاني" كل يوم أتعلم منه أمورا جديدة تجعل اعتبار الإنسان الذي يقرن عمل الخير بالسيرة الممدوحة يعظم في عيني، وسأتكل عليه في توزيع صدقاتي في "إفري"، ولما كان هو سيوزعها على الفقراء كنت على ثقة أنها ستوزع على الجميع بالسواء. سيدي، إني لا أقدر أن أقوم بالشكر الواجب لك لأجل الحرية التي متعتني بها في انتخاب أعضاء بيتي الذين يزيدون جميعا في بهجة عيشي البيتية، وليس ما يحسرني ألبتة سوى شيء واحد وهو رسمية اللباس هنا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 البرية إلى أن تقول، وإني الآن ألقب بشريفة ليس لأني توجت إمبراطورة لفرنسا بل لأني كنت مختارتك وليس لي قيمة من دون ذلك وحسبي هذا الفخر لتخليد اسمي أما زواري في هذه المدة المتأخرة فأكثر مما كانوا قبلا ويسرني منهم إعجاهم وافتخارهم ب "نابوليون" وبالجملة فإني أجد نفسي كأني في بيتي وأنا في وسط هذا الغاب، لا تنسى صاحبتك، واذكر لها أحيانا أنك حافظ لها جزءا من محبتك لتنتعش روحها به وكرر لها الكلام عن سعادتك، وتأكد أن مستقبلها سيكون مستقبل سلام كما أن الماضي كان مشؤوما بالأحزان والأكدار. وقبل ذهاب "نابوليون" إلى ساحات "روسيا" المهلكة ذهب إلى "جوزفين" وقضى معها ساعتين من الزمان في الجنينة يحادثها بما كان أمامه، وكانت "جوزفين" تحذره من مباشرة هذا العمل الخطير، ولكن ثقته بالنجاح أقنعتها وجعلتها تسلم معه. وفي الختام قبل يدها ونهض للذهاب فرافقته إلى العجلة ولكن لم يمض طويل من الزمن حتى رجع "نابوليون" من "موسكو" فوجد أن كل أوروبا متجندة عليه ومتقدمة نحو عاصمته فذهب في وسط هذه المخاطر إلى "جوزفين" وطلب مواجتها وكانت هذه المواجهة الأخيرة. وفي نهاية هذه الزيارة الأخيرة شخص إليها برهة ساكتا وعلامات الحزن على وجهه ثم قال: "يا جوزفين إني كنت سعيدا كأسعد الناس عاش على وجه الأرض، ولكني في هذه الساعة عندما أرى عواصف تتجمع فوق راسي ليس لي في كل هذا العالم الواسع أحد إلا أنت التي ألتفت إليها وأستريح". وفي أعظم هذه الاضطرابات والانزعاجات الهائلة التي لم يسطر أعظم منها في تاريخ البشر كانت أفكار "نابوليون" دائما عند "جوزفين" رفيقة صباه، وكان يكتب إليها كل يوم تقريرا ويعلمها بالحوادث الجارية ويخبرها عن أحواله والرسائل التي كتبها إليها من مبادئ تلك الحروب، ومن ساحات القتال كانت ألطف وأرق ما كتب لها في حياته فإن المصائب والنكبات كانت قد دمثت أخلاقه حتى في تلك الأيام المضطربة عندما كان يحارب الجيوش الجرارة وكان عرشه آخذا في التقلقل تحت قدميه كانت رسالة من "جوزفين" تنعش روحه مهما كانت شواغله عظيمة. أما الجيوش المتحالفة فكانت آخذة في الاقتراب من باريس وكانت "جوزفين" مهمومة مغمومة بسبب ما حل ب "نابوليون" وكانت هي وكل سيداتها في "ملمازون" يقضين أكثر أوقاتهم في إعداد خيوط الكتان للجرحى الذين ملأوا المستشفيات، وأخيرا لما اقتربت جيوش الدول المتحالفة من "ملمازون" وصار بقاء "جوزفين" هناك من الأمور الخطيرة ركبت عجلتها وسارت إلى "نافار" وذعرت من أصوات العساكر ثلاث مرات في طريقها إذ كانت على مسافة غير بعيدة منها، وبعد أن قطعت نحو ثلاثين ميلا من طريقها انكسرت عجلتها وفي نفس ذلك الوقت رأت أمامها عصبة من الخيالة أتت نحوها فظنتها من عساكر الأعداء، ومن شدة خوفها تركت عجلتها وصارت تركض مع سيداتها في الحقول وكان المطر يهطل حينئذ وعبد أن سرن مسافة أدركن غلطهن ووجدن أن هؤلاء الفرسان فرنسيون، وبعد أن أصلحت العجلة ركبت ثانية وهكذا حتى وصلت "جوزفين" بالسلامة إلى "نافار" وكانت ساكتة في معظم الطريق لا تفوه ببنت شفة. وبعد أن أقامت عدة أيام في "نافار" قلقلة مضطربة البال تنتظر الأخبار عن "نابوليون" أرسل إليها الإمبراطور "إسكندر" إمبراطور الروس خفراء يحرسونها من الاعتداء عليها لأن مئات الألوف من العساكر كانت حينئذ منتشرة في كل تلك الجهات، وقد ألقت الرعب في قلوب سكان تلك النواحي. وكانت جوزفين حينئذ مغمومة حزينة لما الم ب "نابوليون" كانت تقضي كل أوقاتها إما بالكلام عنه، وإما بتلاوة رسائله فإنه كان يكتب إليها بلا انقطاع ويخبرها بأحوال الحرب وبفراره من مكان إلى آخر، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 كثيرا من هذه الرسائل لم يصل إليها لأن العساكر المحتلة التي كانت تمسكها عنها وآخر رسالة وصلت إليها قبل الأخيرة كانت من "بريان" يخبرها فيها بما جرى له وبالعصبة القليلة من العساكر الباقية له وأرسل في كتاب آخر يقول: "إني عندما أتذكر أيام شبابي وأقابل سلام تلك الأيام التي مرت علي بالأتعاب والمخاوف التي أتجرعها الآن أركه الحياة وقد سبق لي مرارا كثيرة أنني طلبت الموت بطرق مختلفة ولا يجب أن أخافه الآن وأنا أرى أن موتي الآن يكون بركة، ولكني أريد ثانية أن أرى جوزفين". فلما وصلت هذه الرسالة إلى "جوزفين" لم تقطع الأمل من نجاح "نابوليون" بل أملت أن الإنسان الذي كان كيفما توجه يلاقي النصر والنجاح لا بد من أن يفوز أخيرا ولو كان حينئذ متقهقرا، وكان ذلك رجاءها إلى أن وصلت إليها الرسالة الآتية: "عزيزتي جوزفين -كتبت إليك في الثامن من هذا الشهر ولكن ربما لم يصل كتابي إليك. القتال قائم على ساق وقدم، وربما كان إبطاله ممكنا، وينبغي تجديد المفاوضات والمراسلات الآن، وقد دبرت كل أموري ولا شك أن هذه التذكرة تصل إليك ولا أحتاج أن أكرر ما ذكرت لك سابقا وقد رثيت وقتئذ لحالي، وأما الآن فإني أهنئ نفسي لأجلها. إن راسي وقلبي قد تخلصا من ثقل عظيم، سقطتي عظيمة، ولكن ربما تكون مفيدة - كما قال البعض- وسأبدل القلم بالسيف في تقهقري، وسيكون تاريخ ملكي غريبا. العلام إلى الآن لم يرني كما أنا ولكنني سأريهم نفسي تماما، ولكن ماذا فعل هؤلاء لي إنهم خانوني جميعا إلا "أيوجين" الذي يستحقك ويستحقني -والآن أستودعك الله يا عزيزتي جوزفين، سلمي كما أني أنا أيضا مسلم ولا تنسي الذي لا ينساك ولن ينساك مدى العمر أستودعك الله ثانية يا جوزفين". فلما وصلت هذه الرسالة إلى "جوزفين" تكدرت كدرا عظيما وسكبت دموعا غزيرة حتى إذا سكن روعها قليلا قالت: "لا يجب أن أبقى هنا فإن حضوري لازم للإمبراطور. نعم، إن ذلك من واجبات "ماريا لويزا" أكثر مما هو من واجباتي ولكن الإمبراطور وحده ولا يجب أن أتخلى عنه. نعم، إنه كان في غنى في أوقات سعادته، وأما الآن فلا بد أن يكون في انتظاري". ولما فرغت من هذا الكلام سكتت وتأملت قليلا، ثم التفتت إلى الموكل على بيتها وقالت له: "ربما أعوق الإمبراطور عن أعماله إذا ذهبت، وربما يضطر أن يغير مقاصده لأجلي، أنت ستقيم معي هنا حتى أستخبر من الملوك المتحالفين فإنهم سيحترمون المرا' التي كانت زوجة ل "نابوليون". نعم، إن الملوك المتحالفين ذكروا "جوزفين" وعرفوها فإن سمو تصرفها عند طلاق "نابوليون" لها كان قد ملأ أوروبا حيرة واندهاشا، وقد كتب إليها الملوك المتحالفون يظهرون شعائر احترامهم وطلبوا منها أن ترجع إلى "ملمازون"، ووكلوا عددا وافرا من الحراس بوقايتها، ومن ذلك الوقت كان منتداها مزدحما بالملوك والأشراف الذين أتوا ليقدموا لها الاحترام على فضائلها الكثيرة، وأول من فعل ذلك كان الامبراطور "إسكندر" إمبراطور الروس، فإنه قال عند أول مواجهة لها: "يا سيدة إني كنت ملتهبا بنار الشوق لمعرفتك فإني من يوم دخلت فرنسا لم اسمع اسمك يذكر إلا بالبركة وقد سمعت خبر أعمالك الملائكية من أحقر البيوت إلى أعظم القصور ويسرني أن أقدم لجلالتك احترامات الجمهور التي أنا حاملها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أما "ماريا لويزا" فلم تكن مفكرة إلا بنفسها وقد أبت أن تصحب "نابوليون" في انحطاطه، وأما "جوزفين" فكتبت إليه رسالة تقول فيها: "إني أقدر أن أتصور الآن مقدار مصيبة انفكاك اتحادنا الذي فكته الشريعة وإني الآن أندب حظي ويشق علي أنني لست صديقة لك. ومن لا يحزن ويقطر قلبه دما عند حلول مصيبة هذا مقدارها. آه يا سيدي، حبذا لو كان بوسعي أن أطير غليك وأؤكد لك أن البعد لا يغير إلا ذوي العقول السخفية ولا يستطيع أن يلاشي محبة خالصة زادت المصائب قوتها. لقد أوشكت أن أترك فرنسا وأتبع خطواتك وأخصص لك بقايا حياة أنت زينتها لو كنت أعلم أني أنا الوحيدة التي ستتم واجباتها باتباعك لكنت أذهب على ذلك المكان الوحيد الذي فيه سعادتي وأسليك في وحدتك وتعاستك، قل كلمة واحدة وأنا أذهب حالا، وأما الآن فأستودعك الله يا سيدي لأني مهما زدت على ذلك قليلا جدا، وعواطفي بعد الآن لا تبرهن لك بالكلام بل بالعمل وأرجو أن تسلم بذلك لأنه ضروري". وبعد كتابة هذه الرسالة بأيام قليلة تناول الإمبراطور "إسكندر" وبعض أصحاب الألقاب والرتب طعاماً مع "جوزفين" وفي أول المساء خرج الجميع بنور الشفق إلى خارج وخرجت "جوزفين" معهم، وكانت صحتها منحرفة بسبب الأحزان والأكدار فشعرت بزكام شديد وجعل يزداد يوما فيوما وتنحط معه صحتها وقوتها حتى حكم الطبيب بدنو أجلها، وكان ولداها "أيوجين" و"هورتنس" لا يفارقانها ليلا ولا نهارا، وأخبراها بكلام الطبيب فتلقت تلك البشرى بفرح وسرور وسألت حضور قسيس فحضر وأتم الفروض الدينية، ثم دخل عليها الإمبراطور "إسكندر" فرأى ولديها "أيوجين" و"هورتنس" جاثيين عند فراشها وقد غسلتهما الدموع فأومأت "جوزفين" إلى الإمبراطور أن يقرب منها، فلما اقترب قالت له ولأولادها: "كنت دائما أشتهي سعادة فرنسا وقد فلت كل ما في طاقتي لأجل ذلك وها أناذا أقول لكم في الدقيقة الأخيرة من حياتي أيها الحاضرون الآن إن امرأة "نابوليون الأول" لم تسبب مطلقا انسكاب دمعة واحدة من عين واحدة". ثم طلبت صورة الإمبراطور، فلما أحضروها التفتت إليها وعلامات الرقة والمحبة تلوح على وجهها ثم أخذتها وقربتها إلى صدرها ووضعت يديها فوقها وصلت قائلة: "اللهم أحرس الإمبراطور مدة بقائه في صحراء هذه الدنيا واأسفاه إنه ارتكب غلطات فاحشة ولكنه لم يعوض عنها بآلام عظيمة، وأنت وحدك أيها الإله قد عرفت قلبه وعلمت أنه كان في نفسه أميال شديدة على صلاح أشياء كثيرة، فتنازل واصغ إلى تضرعي الأخير. واجعل هذه الصورة صورة زوجي تشهد أن رغبتي وصلاتي الأخيرة كانتا لأجله ولأجل أولادي". وكان ضلك في التاسع والعشرين من شهر أيار (مايو) سنة 1814م، وكانت الشمس قد قاربت الغروب فألقت بعض أشعتها المذهبة من نوافذ غرفة "جوزفين" المفتوحة، وكان النسيم اللطيف يتلاعب بالأشجار والطيور تغرد فيها. وبين حفيف الأشجار وتغريد الأطيار القت "جوزفين عينيها على صورة "نابوليون" وأسلمت الروح، فلما رأى الإمبراطور "إسكندر" أنها قد فارقت الروح قال والدموع تتساقط من عينيه: "ليست بعد تلك المرأة التي سمتها فرنسا: "محبة الخير، وملاك الصلاح"، وكل هؤلاء الذين عرفوا "جوزفين" لا ينسونها فإنها ماتت وتركت الأسف الشديد لأولادها ولأصدقائها ومعارفها". وبعد موتها بأربعة أيام احتفل بجنازتها، وكان ذلك في الثاني من حزيران (يونيو) عند الظهيرة فأخذوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 من "ملمازون" إلى "رويل" وواروها بالتراب في دار الكنيسة وقد شهد احتفال الجنازة أعظم ملوك أوروبا وأشرافها، وبعد تمام كل الواجبات ورجوع الجميع بقي ولداها "أيوجين" و"هورتنس" هناك ثم جثوا على قبرها وبقيا برهة يمزجان الصلاة بالدموع، وقد جاء أكثر من عشرين ألف نفس من الأهالي وشاهدوا جثتها وبقولا يترددون عليها مدة أربعة أيام متوالية قبل دفنها. وقد أقام ولدها بعد ذلك نصبا من الرخام الأبيض مثلاها به، وهي لابسة الحلة التي توجت فيها، وقد جثت للتتويج أقامها فوق قبرها وكتبا عليه هذه الكلمات: "أيوجين وهورتنس لأجل جوزفين". حرف الحاء الحارثية ابن زيد هي بنت زيد بن بدر العرائي والغداني، وكانت من النساء المشهورات بالحماس والافتخار ولها أشعار مقبولة حسنة ومراث بديعة منها ما قالته: صلى الإله على قبر وطهره ... عند الثوبة تسفى فوقه المور زفت إليه قريش نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبور أبا المغيرة والدنيا مغيرة ... وإن من غرت الدنيا لمغرور قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير لم يعرف الناس مذ كفنت سيدهم ... ولم يجل ظلاما عنهم نور لو خلد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلدك الإسلام والخير قد كنت تخشى وتعطي المال من س ... عة إن كان بيتك أضحى وهو مهجور والناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الاعصاير حبابة جارية يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي هي مولدة مدنية كانت صبيحة الوجه، مليحة النادرة، لطيفة المحاضرة، خفيفة الروح، غردة الصوت، شجية الغناء، ضاربة بالعود أخذت أصواتها عن ابن سريج وابن محرز ومالك وكان يزيد مغرما بالنساء شدد الكلف بهن فهام بها ولا هيام قيس بليلى، وعلقها ولا علوق أبي نواس بجنان، فتهتك وخلع عذاره، وانقطع إليها ليله ونهاره تاركا بين أيديها أزمة دينه ودنياه، فكانت تعزل من تشاء وتولي من تشاء وتحول بينه وبين الصوم والصلاة حتى اشتهر أمره وساء ذكره، ولوقائعه معها فكاهات ونوادر تركناها لكثرة تداولها بين الناس: قيل: إنه نزل معها يوما ببيت راس (وهي قرية من قرى الشام) . فقال: زعم السلف أن الدهر لا يصفو لأحد يوما كاملا، وماذا علي لو غادرت كلامهم نجما آفلا، ثم قال لغلامه: ويحك، لا تمكن أحدا من الوقوف ببابي، ولا تدع إنسانا يخرق حجابي. ثم خلا بحبابة وما برح معها في لهو وطرب، وهزل ولعب، حتى استقام قسطاس النهار فدعا بطبق رمان كأنه شعلة نار أو باقوت تحته بلار أو حب آس غاص بالجلنار فشرقت حبابة بحبة منه ذهبت بروحها إلى عالم العدم، فصاح يزيد صيحة الألم وطارت نفسه بأثرها شعاعا وطفق يعض أنامله جزعا والتياعا، وما فتئ يقبلها وينوح وهو على مثل شوك القتاد حتى سطع ريحها وأدركها الفساد فأودعهوها الثرى حتف أنفه وهو يدمي بثناياه باطن كفه، ومازال يذري بعدها العبرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ويردد الأنين والسحرات، حتى نزلت به منيته بعدأسبوعين وهو معانق ضريحها فدفن حذاءها ولسان حاله يقول: أموت على إثر الحبيبة ظاعنا ... ليجتمع الروحان في عالم الخلد وكان ذلك في سنة 105 للهرجة. ومن شعره فيها: أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر ... ما الفؤاد سوى ذكراكم وطر إن سار صحبي لم أملك تذكرهم ... أو عرسوا فهموم النفس والهسر ومن شعرها له: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا فما لاعيش إلا ما تلذ وتشتهي=وإن لام فيه ذو الشنان وفندا وكان سبب شراء حبابة أن يزيد قد حج أيام أخيه سليمان فاشترى حبابة بأربعة آلاف دينار وكا اسمها غالية. وقال سليمان: لقد هممت أن أحجر على يزيد فردها يزيد فاشتراها رجل من أهل مصر فلما أفضت الخلافة إلى يزيد قالت له امرأته سعدة: هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: حبابة، فأرسلت فاشترتها ثم صيغتها وألبستها وأتت بها يزيد فأجلستها من وراء الستر، وقالت: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟ قال: قد أعلمتك، فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة، وقامت وتركتها عنده، فحظيت سعدة عنده، وأكرمها وسعدة هذه بنت عبد الله بن عمر بن عثمان. قيل: وغنت حبابة يوما: وبين التراقي واللهاة حرارة ... وما ظمئت ماء يسوغ فتبردا فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة. فقال: والله لأطيرن. فقالت: على من تخلف الأمة والملك؟ قال: عليك والله، ثم قبل يدها. فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك. حبيبة هانم بنت علي باشا الهرسكي من أديبات الأستانة وشاعرات هذا العصر. ولدت سنة 1262 هجرية في مدينة "هرسك" وهي نادرة زمانها حازت من الفصاحة والآداب الجزء الاعظم ولها أشعار رائقة ومعان فائقة: ومن بديع شعرها ما وجدته في كتاب مشاهير النساء لمحمد أفندي ذهني باللغة التركية فأدرجته بحروفه: جكردة تبغ غمزه زخمى واركن آثمة يبكانك ... تيراي فاشي باي أرتق تيرد بريميه من كانك نكاه مسكنه جاناكة شابان كوردك اغيارى ... بنه نوباره لرآجدي دونه تبغ هجرانك أو غافل بل خبر نادان عدو به همدم أولمشين ... وصالكدن يزي دورايلدك واراولسون احانك اميدمرحمت قلمق عبثدرسندن أي كافر ... سني بي ذين ديمشلردي ازلدن بوقدر آيمانك حبيبه يى دوادرددن خلاص أولمقده مشكدر ... اميدا يتمز اسيردرد أولانلر غيرى درمانك حبوس ابنة الامير بشير بن محمد الشهابي ابن حيدر بن سليمان بن فخر الدين بن يحيى بن مذحج بن محمد بن جمال الدين ا؛ مد لاذي شهد وقعة "مرج دابق" بين السلطان سليم وقانصوه الغوري. ولدت سنة 1182 هجرية في الشونصات، وكانت حاذقة، سديدة الرأي، ثابتة الجنان، عالية الهمة، كريمة اليد والنفس. تزوجت بالأمير عباس بن فخر الدين وكانت تجالس الرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وتقودهم بفصاحة خطابها وكانت تعول من يلتجئ إليها وتعامله معاملة القريب والصديق وتجاهد في إقامة الحقوق لهم، وإن لم تكن، وأما من لم يكن على غرضها فلم يجد راحة في معيشة، ولو كان صاحب حق وما ذلك غلا لنفوذ سطوتها عند الحكام. وفي سنة 1208 هـ جعلها الأمير بشير حاكمة على مقاطعة العرب فأدارت الحكم بفطنة لا مزيد عليها، ولما سجن الأمير بشير وأخوه الأمير حسن والشيخ بشير جنبلاط في سجن أحمد باشا الجزار بعكا أرسلت إلى الأمير بشير أموالا جزيلة، وقامت بأمر عياله، وأخذت تجتهد في استمالة الناس إليه. ولما ولى عبد الله باشا على الجبل الأمير حسن والأمير سليمان الشهابيين إذ تعهد له بزيادة المرتب من المال على الجبل سارت هي برفقة الأمير بشير والشيخ بشير إلى حوران، وكانت تخابرهما في شأن أحوال البلاد. ويروى أنها حاربت العرب إذ تعدوا على دروز حوران واستظهرت عليهم، ثم رجع الأمير بشير إلى ولايته فعادت إلى منصبها، ثم وقع الاختلاف بينها وبين الأمير بشير سنة 1237 هـ بعد اعتقال عبد الله باشا وتوسط الأمير بشير أمره في مصر وعوده ظافراً، وكانت متحدة مع الشيخ بشير في مقاومة الأمير بشير فصادره الأمير بشير بعد رجوعه وأتعبه، فلما غلب الشيخ بشير سنة 1240 هـ توجهت إلى بشامون فأتى الأمير بشير قاسم التهامي بامر الامير بشير عمر الحاكم ليصادرها في أموالها، وشدد عليها فما لبثت أن ماتت في تلك الأثناء. قيل: حتف أنفها. وقيل: بدسيسة من الأمير بشير وكان عمرها 58 سنة. ودفنت ببشامون وخلفت أولادها الأربعة وهم: الأمير منصور، والأمير أحمد، والأمير حيدر، والأمير أمين. وكانت اعتنت بتربيتهم بعد موت زوجها اعتناءا حتى نبغوا بين الأمراء الشهابيين. حبيبة بنت مالك بن بدر كانت عقل ثاقب، وفكر صائب، ترجع إليها رؤساء قبيلتها بالرأي ويشاورونها في مهام الأمور وكانت بهية الطلعة، حسنة الهيئة، لها بعض أشعار رائقة، ومقالات فائقة. وكان أبوها مالك بن بدر قتل في حرب داحس والغبراء بسبب الرهان المشهور قتله جنيدب أحد بني رواحة فقالت ترثيه: لله عينا من رأى مثل مالك ... عقيرة قوم إن جرى فرسان فليتهما لم يشربا قط قطرة ... وليتهما لم يرسلا لرهان أحربه أمس الجنيدب ندرة ... فأي قتيل كان في غطفان إذا سجعت بالرقمتين حمامة ... أو الرس فابكي أنت فارس كنعان حبيبة بنت عبد العزى العوراء كانت من كرماء النساء المشار إليهن في ذاك الزمان وشاعراتهم الموصوفات، ولقبت بالعوراء لكونها كانت ذات حول في عينها. ومن شعرها في ذلك قولها: أإلى الفتى بر تلكأ ناقتي ... فكسا مناسمها النجيع الأسود إني ورب الراقصات على منى ... بجنوب مكة هديهن مقلد أولى على هلك الطعام ألية ... أبدا ولكني أبين وأنشد وصى بها جدي وعلمني أبي ... نفض الوعاء وكل زاد ينفد فاحفظ يمينك لا أبا لك واحترس ... لا تخرقنه فأره أو جد جد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 حدقة جارية الملك الناصر بن قلاون تربت في دار الملك الناصر وتعلمت الغناء والأدب وتدبير المنزل، وتخرجت على "مسكة" القهرمانية، وتعلمت منها جميع ما يلزم للمنازل الملوكية من التدبير. ولما توفيت "مسكة" تولت وظيفتها وقامت مقامها وصارت قهرمانية البيت السلطاني وصاروا يرجعون غليها في الأمور المتعلقة بالأعراس والمهمات وتربية الأولاد وعمرت زيادة عن "مسكة" وبذلك صار لها حظوة عند السلطان وحريمه مسموعة الكلمة منهما، ومن كثرة إحسانها وبرها تقاطر عليها المحتاجون لقضاء حوائجهم، سواء كان عند السلطان أو حرمه أو عندها، وهي لا ترد طالبا ولا ترجع أحدا خائبا. وتقدمت لها هدايا كثيرة من الأمراء والأعيان وكل منهم كان يتمنى رضاها. وقد بنت جملة بنايات خيرية أوقفتها لصرف ريعها في وجوه الخير، وعلى الجامع الذي بنته بخط المريس في جانب الخليج الكبير مما يلي الغرب بالقرب من قنطرة السد التي هي خارج مدينة مصر، وكان انتهاء بناء هذا الجامع في 20 جمادى الآخرة سنة 737. ولما توفيت "حدقة" دفنت فيه وقبرها معروفللآن. وأما الجامع فإنه تخرب ولم يبق غير آثاره، وهو غير مقام الشعائر الآن. حسانة النميرية ابنة أبي الحسين الشاعر الأندلسي كانت أحسن نساء زمانها، وأفصحهن مقالا، وأجملهن فعالا، تأدبت وتعلمت الشعر من أبيها، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم أمير الأندلس -وهي غذ ذاك بكر لم تتزوج- بهذه الأبيات: إني إليك أبا العاصي موجعة ... أبا الحسين سقته الواكف الديم قد كنت أرتع في نعماه عاكفة ... فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم أنت الإمام الذي انقاد الأنام له ... وملكته مقاليد النهى الأمم لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفا ... آوي إليه ولا يعروني العدم لا زلت بالعزة القعساء مرتديا ... حتى تذل إليك العرب والعجم فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه وأمر لها بإجراء مرتب وكتب إلى عامله على "ألبيرة" فجهزها بأحسن جهاز. ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرحمن متشكية من عامله جابر بن لبيد والي "ألبيرة"، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى أوصلتها إليه، وهو في حال طرب وسرور، فانتسبت إليهن فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدت: إلى ذي الندى والمجد سارت ركائب ... ي على شحط تصلى بنار الهواجر ليجيز صدعي إنه خير جابر ... ويمنعني من ذي المظالم جابر فإني وأيتامي بقبضة كفه ... كذي ريش أضحى في مخالب كاسر جدير لمثلي أن يقال بسرعة ... بموت أبي العاصي الذي كان ناصري سقاه الحيا لو كان حيا لما اعتدى ... على زمان باطش بطش قادر أيمحو الذي خطته يمناه جابر ... لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينه وقال: تعدى ابن لبيد طوره حتى رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ونحفظ بعد موته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عهده انصرفي فقد عزلته لك، ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم فقبلت يده وأمر لها بجائزة، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها: ابن الهشامين خير الناس مأثره ... وخير منتج يوما لرواد إن هز يوم الوغى أثناء صعدته ... روى أنابيبها من صرف فرصاد قل للإمام أيا خير الورى نسبا ... مقابلا بين آباء وأجدا جودت طبعي ولم ترض الظلامة لي ... فهاك فضل ثناء رائح غادي فإن أقمت ففي نعماك عاكفة ... وإن رحلت فقد زودتني زادي وبقيت على ذلك مدة حياتها وهي مغمورة بخيراتها ومشهورة بالجود والكرم والأدب والحكم. حفصة ابنة حمدون كانت فاضلة، روض فضلها أريج، وحدائق معلوماتها وأدبها بهيج، وشاعرة رقت وكثر اختراعها للمعاني وإبداعها، تسترق القلوب بألفاظها الزاهرة، وتسكر العقول بمعانيها الساحرة تنظم فتأتي بكل عجيبة وتشنف الأسماع بكل غريبة، وتنثر فتفتض أبكار الدقائق بنظرها الثاقب، وتجلى غياهب المشكلات بفكرها الصائب هي من وادي الحجارة بالأندلس، وهي من أهل المائة الرابعة. ومن شعرها: رأى ابن جميل أن يرى الدهر مجملا ... فكل الورى قد عمهم صيب نعمته له خلق كالخمر بعد امتزاجها ... وحسن فما أحلاه من حين خلفته بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره ... عيونا ويغشيها بإفراط هيبته ولها أيضا: لي حبيب لا ينثني بعتاب ... وإذا ما تركته زاد تيها قال لي هل رأيت لي من شبيه ... قلت أيضا وهل ترى لي شبيها ولها تذم عبيدها: يا رب إني من عبيدي على ... جمر الغضا ما فيهم من نجيب أما جهول أبله متعب ... أو فطن من كبر لا يجيب ومن قولها أيضا: يا وحشتي يا وحشتي ... يا وحشة متمادية يا ليلة ودعته ... يا ليلة هي ماهية حفصة ابنة الحجاج الركونية كانت أديبة في زمانها, أبلغ شعراء أوانها شعرا وأدقهم نظرا. شعرها جيد ذات رونق فائق, وديباجة حسنة. وكان لها اليد الطولى في سبك المعاني, واستعمال الألفاظ الشائقة. ولم يكن شعرها مع جودته مقصورا على أسلوب واحد, بل كانت تتفنن فيه وتدخل في أساليب مختلفة, وكانت غزيرة المادة من الأدب مطلعة على شعر العرب الخلص وغيرهم. وكانت تكتب الخط الجيد وهي من أذكياء العرب المشهود لهم بالتفوق والبراعة في مبدأ أمرها كثيرا, وحفظت كثيرا, ولما كبرت وشبت ظهر لها جمال بارع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كانت تبهر العقول به, وكانت حسيبة نسيبة غنية, ذات مال وافر, هويها جملة من أجلاء عصرها وأدباء زمانها, ولم تلتفت لأحد منهم سوى أبي جعفر بن سعيد, وكانت معه على عفة زائدة. وقالت يوما ارتجالا بين يدي أمير المؤمنين عبد المؤمن: يا سيد الناس يا من ... يؤمل الناس رفده أمنن علي بطرس ... يكون للدهر عده تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحدين فإنها كانت بكتب السلطان بيده بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده. ومن قولها أيضا في الغزل: ثنائي على تلك الثنايا لأنني ... أقول على علم وأنطق عن خبر وأنصفها لا أكذب الله إنني ... رشفت بها ريقا أرق من الخمر وولع بها السيد أبو سعيد عبد المؤمن ملك غرناطة، وتغير بسببها على أبي جعفر بن سعيد حتى أدى عليه أن قتله، وطلب أبو جعفر منها الاجتماع فمطلته قدر شهرين فكتب إليها: يا من أجانب ذكر اس ... مه وحسبي علامه ما إن أرى الوعد يقضي ... والعمر أخشى انصرامه اليوم أرجوك لا أن ... يكون لي في القيامة لو قد بصرت بحالي ... والليل أرخى ظلامه أنوح شوقا ووجدا ... إذ تستريح الحمامة صب أطال هواه ... على الحبيب غرامه لمن يتيه عليه ... ولا يرد سلامة إذ لم تنيلي أريحي ... فاليأس يثني زمامه فأجابته تقول: يا مدعي في هوى الحس ... ن والغرام الإمامة أتى قريضك لكن ... لم أرض منه نظامه أمدعي الحب يثني ... يأس الحبيب زمامه ضللت كل ضلال ... ولم تفدك الزعامه ما زلت تصحب مذ كن ... ت في السباق السلامه حتى عثرت وأخجل ... ت بافتضاح السآمه بالله في كل وقت ... يبدي السحاب انسجامه والزهر في كل حين ... يشق عنه كمامه لو كنت تعرف عذري ... كففت غرب الملامة ووجهت هذه الأبيات مع موصل أبياته بعدما لعنته وسبته وقالت له: لعن الله المرسل والمرسول فما في جميعكما خير ولا برؤيتكما حاجة، وانصرف بغاية من الخذلان، ولما أطال على أبي جعفر وهو قلق لانتظاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قال له: ما وراءك يا عصام؟ قال: ما يكون وراء من وجهه خلق إلى فاعلة تاركة. اقرأ الأبيات تعلم، فلما قرأ الأبيات قال للرسول: ما أسخف عقلك وأجهلك: إنها وعدتني للقبة التي في جنت المعروفة بالكمامة، سر بنا. فبادرا إلى الكمامة فما كان إلا قليل وإذا بها قد وصلت وأراد عتبها فأنشدت: دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لان عد ولا تعدي وجلسا على أحسن حالة، وإذا برقعة الكندي الشاعر لأبي جعفر وفيها: أبا جعفر يا ابن الكرام الأماجد ... كتوم عليم باختفاء المراصد يبيت إذا يخلو المحب بحبه ... ممتع لذات بخمس ولائد فقرأها على حفصة فقالت: لعنة الله قد سمعنا بالوارش عليهما فقال لها: بالله سميه لنكتب له بذلك. فقالت: أسميه الحائل لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه فكتب له في ظهر رقعته: يا من إذا أتاني ... جعلته نصب عيني نراك ترضى جلوسا ... بين الحبيب وبيني إن كان ذاك فماذا ... تبغي سوى قرب حيني والآن قد حصلت لي ... بعد المطال بدين فإن أتيت فدفعا ... منها بكلتا اليدين أو ليس تبغي وحاشا ... ك أن ترى طير بيني وفي حنينك في الخم ... ر كل قبح وشين فليس حقك إلا ... الخلو بالقمرين وكتب له تحت ذلك ما كان منهما من الكلام وذيل ذلك بقوله: سماك من أهواه حائل ... إن كنت بعد العتب واصل مع أن لونك مزعج ... لو كنت تحبس بالسلاسل فلما رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمتمورة النجاسة وصار هتكة، فلما قرأ الأبيات قال للرسول: ارجع وأعلمهما بحالي، فرجع الرسول وأخبرهما بذلك، فكاد أن يغشى عليهما من الضحك وكتبا إليه ارتجالا كل واحد بيتا، وابتدأ أبو جعفر فقال: قل للذي خلصنا ... من الوقوع في الخرا ارجع كما شاء الخرا ... ابن الخرا إلى الورا وإن تعد يوما على ... وصالنا سوف ترى يا أسقط الناس ويا ... أنذلهم بلا مرا هذا مدى الدهر تلا ... قي لو أتيت في الكرا يا لحية تشق في ال ... مخرا وتنشا العنبرا لا قرب الله اجتما ... عا بك حتى تقبرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فلما وصلته الرقعة علم أنه ليس مقبولا لديهما، فانصرف من حيث أتى وبقيا يومهما ينتهبان اللذات ويتعاطيان المسرات بدون ريبة تقع من أحدهما حتى آن أوان الانصراف، فانصرفا ولك منهما له نحو صاحبه انعطاف. ومن شعرها: سلام يفتح في زهرة ال ... كمام وينطق ورق الغصون على نازح ثوى في الحشا ... وإن كان تحرم منه الجفون فلا تحسبوا العبد ينساكم ... فذلك والله ما لا يكون وقولها من أبيات: ولو لم يكن نجما كان ناظري ... وقد غبت عنه مظلما بعد نوره سلام على تلك المحاسن من شج ... تناءت بنعماه وطيب سروره وقولها: سلوا البارق الخفاق والليل ساكن ... أظل بأحبابي يذكروني وهنا لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة ... وأمطرني منهل عارضة الجفنا ونسب إليها البيتان المشهوران: أغار عليك من عيني ومني ... ومنك ومن زمانك والمكان ولو أني خبأتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني وكتبت إلى أبي جعفر: رأست فما زال العداة بظلمهم ... زجهلهم النامي يقولون لم رأس وهل منكر أن ساد أهل زمانه جموح إلى العليا حرون عن الدنس وقال ابن رحبة: حفصة من أشراف غرناطة رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر. ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئه بيوم عيد وكتبت بذلك إليه: يا ذا العلا وابن الخلي ... فة والإمام المرتضى يهنيك عيد قد جرى ... فيه بما تهوى القضا وأتاك من تهواه في ... قيد الإنابة والرضا ليعيد من لذاته ... ما قد تصرم وانقضى وسألتها امرأة من أعيان غرناطة أن تكتب لها شيئا بخطها فكتبت إليها: يا ربة الحسن بل يا ربة الكرم ... غضي جفونك عما خطه قلمي تصفحيه بلحظ الود منعمة ... لا تحفلي برديء الخط والكلم واتفق أنه بات أبو جعفر معها في بستان بحوز مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم من طيب النفحة والنضارة، فلما حان الانفصال قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق: رعى الله ليلا لم يرح بمذمم ... عشية وارانا بحوز مؤمل وقد خفقت من نحو نجد أريجة إذا نفحت هبت بريا القرنفل وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يرى الروض مسرورا بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف مقبل وكتب بها إليها بعد الافتراق لتجيبه على عادتها بمثل ذلك فكتبت إليه قولها: لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد ولا صفق النهر ارتياحا لقربنا ... ولا غرد القمري إلا لما وجد فلا تحسن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... بأمر سوى كيما يكون لنا رصد وكتبت حفصة إلى بعض أصحابها: أزورك أمتزور فإن قلبي ... إلى ما تشتهي أبدا يميل فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذوائبي ظل ظليل وقد أملت أن تظمأ وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل فعجل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل وقال أبو جعفر بن سعيد: أقسك ما رأيت ولا سمعت بمثل حفصة، ومن بعض ما أجعله دليلا على تصديق عزمي وبر قسمي أني كنت يوما في منزلي مع من أحب أن أخلو معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام، فلم اشعر إلا بالباب يضرب فخرجت جارية تنظر من الضارب فوجدت امرأة فقالت لها: ما تريدين؟ قالت: ادفعي لسيدك هذه الرقعة فجاءت برقعة فيها: زائر قد أتى بجيد الغزال ... مطلع تحت جنحه للهلال بلحاظ من سحر بابل صيغت ... ورضاب يفوق بنت الدوالي يفضح الورد ما حوى منه خد ... وكذا الثغر فاضح للألي ما ترى ف دخوله بعد إذن ... أو تراه لعارض في انفصال قال: فعلمت أنها حفصة وقمت مبادر للباب وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به، وتفضله بزيارة من دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به وفضلنا ليلة لم يسمح لنا بمثلها الزمان ولا لقيصر ولا لكسرى أنوشروان، وبقيت حفصة محافظة على وداد أبي جعفر إلى أن نكب وقتل. وقد رثته بمرات كثيرة لم ير مثلها، ولكون قتل أبي سعيد كان من أجلها لم تتمكن من نشرها، وبقيت بعده مدة طويلة وهي حزينة عليه لا تلتفت إلى السمرات ولا تألف الاجتماعات حتى دعاها داعي المنون فلبت وهي ذات شجون حليمة الحضرية كانت من نساء بني عبس الموصوفات بالعقل والحكمة ولها شعر رائق وروى لها الزبير بن بكار من أبيات رثاء في زوجها: يقر لعيني أن أرى لمكانه ... ذرى عقدات الأجرع المتفاود وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وإن مل السرى كل واحد وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسم الأساود لقد كنت أخشى لو تمليت خشيتي ... عليك الليالي مرها وانفتالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فأما وقد أصبحت في قبضة الردى ... فشأن المنايا فلتصب من بدا لها حمدونية بنت عيسى بن موسى كانت ذات حسن وجمال، وصيانة وأدب. حجت إلى بيت الله الحرام في زمن المتوكل العباسي. قال محمد بن صالح العلوي: لما خرجنا على المتوكل أخذت أنا وأصحابي قافلة الحاج فجمعنا أموالا ومتاعا لا يحصى، وكنت قد جلست على كرسي في بعض المراحل وقت نزولنا وأصحابي يجمعون المال، وإذا أنا بامرأة قد رفعت سجاف هودج فأضاء منها المكان ولا إضاءة الشمس، فقالت: أين الشريف صاحب السرية فلي إليه حاجة؟ قلت: إنه يسمع كلامك. فقالت: أنا حمدونية بنت عيسى بن موسى، تعلم مكاننا عند الخليفة وأنا أسألك أن تأخذ مني ثلاثين ألف دينار مع أني أعطيتك ما في يدك، ولكن أسألك بفضلك أن لا يكشف لي أحد وجها. فناديت أصحابي، فلما اجتمعوا قلت: من أخذ منكم من هذه القافلة عقالا أذنته بحرب. فردوا حتى الأطعمة وخفرتهم إلى المأمن، فلما ظفر بي الخليفة وحبسني بسر من رأى دخل علي السجان يوما وقال: إن بالباب امرأتين من أهلك تريدان الدخول عليم ولوا أن دفعنا إلي دملج ذهب ما أذنت لهما، فقد منع الخليفة أن يدخل عليك أحد، فخرجت فإذا أنا بها مع امرأة وجارية تحمل شيئاً فلما بصرت بي قالت: أي والله هو، وبكت لما أنا فيه، ثم قبلت قدمي وقالت: لو استطعت أن أقيك بنفسي لفعلت، ولكني لا أقصر في خلاصك ودونك هذه النفقة ورسولي يأتيك في كل يوم بما تريد حتى يفرج الله عنك، ودفعت إلي بخمسمائة دينار وثيابا وطيبا وطعاما وانصرفت وقد أضرمت بقلبي نارا قدحتها النظرة الأولى، فأنشدت: طرب الفؤاد وعاودت أحزانه ... وتشعبت بشعابه أشجانه وبدا له من بعدما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنعا أركانه يبدو فينظر أي لاح فلم يطق ... نظرا غليه وصده سبحانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه يا قلب لا يذهب بحلمك باخل ... بالنيل باذل تافه منانه واقنع بما قسم الإله فأمره ... ما لا يزال على الفتى إتيانه والبؤس ماض لا يدوم كما مضى ... عصر النعيم وزال عنك أوانه ولم يزل رسولها يعاودني بالإحسان وملاطفة السجان إلى أن خرجت وعظم أمري عند الخليفة، فخطبتها، فامتنع أبوها فكان سجن هواها أعظم علي من السجن، فلم أر إلا أن أتيت إبراهيم بن المقتدر فأخبرته بذلك، وكان أبوها في ضيعته، فركب إليه فلم يفارقه حتى زوجني بها وبقينا متمتعين بنعيم عيشنا إلى أن توفيت وأصابني بعدها الحزن والشجون ولابن صالح فيها أشعار كثيرة لم تصل إلي معرفتها. حمد بنت زياد من وادي أشن بالأندلس، وهي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس أديبة زمانها، وغريبة أوانها. كان الأدب نقطة من حوضها، وزهرة من روضها، لها المنطق الذي يقوم شاهدا بفضل لسان العرب، ويفتح على البلغاء أبواب العجز، ويسد عليهم صدور الخطب، فإن ا, جزت أعجزت بالمقال، وإن أطالبت كاثرت الغيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الهطال، مع مطارحة تذهب في الاستفادة مذهب الحكم، وأخلاق تحدث عن لطف الزهر غب الديم مرمى الترنم بذكرها المتعطر بنشر حمدها وشكرها، والنسيم نم بمرآها على الحدائق، والصبح يشرق بنور الشمس الشارق. روت عن العلماء الأفاضل ورووا عنها، ومنهم: العالم العلامة، البحر الحبر الفهامة، أبوالقاسم بن البراق. ومن عجيب شعرها البديع قولها: ولما أبى الواشون إلا افتراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار والبعض يزعم أن هذه الأبيات لبهجة بنت عبد الرزاق، ولكنها لحمد أثبت وأشهر والله أعلم. وخرجت حمد مرة للوادي مع حبيبة لها فرأت الأزهار في جوانبه تتلألأ كأنها نجوم تساقطت من كبد السماء والماء في النهر يتماوج كأنه قطع من لجين ترمقه عيون ذكاء فأعجبها ذلك المنظر البهج، وأحبت أن تخوض بذلك النهر إتماما لترويح النفس خصوصا لخلوه من الناس فنضت عنها الثياب وعامت، ثم قالت: أباح الدمع أسراري بوادي ... له للحسن آثار بوادي فمن نهر يطوف بكل أرض ... ومن روض يروق بكل وادي ومن بين الظباء مهاة أنس ... سبت لي وقد ملكت فؤادي لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت الأمر يمنعني رقادي كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد وقولها هذه الأبيات الشهير بالبلاد المشرقية وهي: وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم حللنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظما زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم حميدة ابنة النعمان بن بشير كانت من جميلات نساء العرب، وأعلمهن بفنون الأدب. وكانت في القرن الأول للهجرة ربيت في حجر أبيها مع أختيها: هند وعمرة، فنشأت هي على عز النفس، وصارت لا يرى لها من قرين يقوافها. ومن عزة نفسها كانت كلما تزوجت برجل ورأت فيه عيبا تهجوه بالشعر حتى خافت من لسانها العرب. ومن ذلك أن الحارث بن خالد لما قدم من المدينة على عبد الملك وهو إذ ذاك بدمشق والنعمان بن بشير وال على حمص فخطبها الحارث من أبيها، فزوجه بها ولم تمكث معه غير قليل حتى أساء معاملتها فقالت فيه: فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه ترى زوجة الشيخ مغمومة ... ولا تمسي بصحبته قاليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فلا بارك الله في عرضه ... ولا في غضون إسته البالية نكحت المديني إذ جاءني ... فيا لم من نكحة غاوية كهول دمشق وشبانها ... أحب إلينا من الجالية صنانهم كصنان التيو ... س أعيا على المسك والغالية وقمل يدب دبيب الجرا ... د أعيا على الغال والغالية فقال الحارث يجيبها: أسنا ضوء نار ضمرة بالقف ... رة أبصرت أم سنا ضوء برق قاطنات الحجون أشهى إلى قل ... بي من ساكنات دور دمشق يتضوعن لو تضمخن بالمس ... ك صنانا كأنه ريح مرق ولما استحكمت بينهما النفرة طلقها الحارث فخلف عليها روح بن زنباع وعليه كانت الطامة الكبرى. قال صاحب الأغاني: إن قولها: (أحب إلينا منالجالية) تعني الجالية أهل الحجاز، وكان أهل الشام يسمونهم بذلك لأنهم كانوا يجلون عن بلادهم إلى الشام ولما بلغ عبد الملك قولها قال: لولا أنها قدمت الكهول على الشبان لعاقبتها. قال عمر بن شبة: لما تزوجها روح بن زنباع نظر غليها يوما تنظر على قومه بني جذام وقد اجتمعوا عند فلامها فقالت: وهل أرى إلا جذام فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام وقالت تهجوه: بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف وقال العبا قد كنت حينا لباسكم ... وأكسيه كرديه وقطائف فقال روح: إن يبك منا يبك ممن يهنينا ... وإن يهوكم يهوى اللئام المقارقا واجتمعت يوما بمجلس فصارت تهزأ به وتضحك عليه ووقعت بينهما مناظرة كان البادئ فيها هو بقوله: أثنى علي بما علمت فإنني ... مثن عليك لبئس حش المنطق فقالت: أثني عليك بأن باعك ضيق ... وبأن أصلك من جذام ملصق فقال: أثني علي بما علمت فإنني مثن عليك بمثل ريح الجورب فقالت: فثناؤنا شر الثناء عليكم ... اسوأ وأنتن من سلاح الثعلب فسكت روح عند ذلك فقالت هي: وهل أنا إلى مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل فإن أنتجت مهرا كريما فبالحرا ... وإن يك إقرافا فما أنجب الفجل فقال روح: فما بال مهر رائع عرضت له ... أتان فبالت عند جحفلة البغل إذا هو ولى جانبا ربخت له ... كما رخت قمراء في دمث السهل وقالت فيه أيضا سميت روحا وأنت الغم قد علموا ... لا روح الله عن روح بن زنباع لا روح الله عمن ليس يمنعنا ... مال رغيب وبعل غير ممناع فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كبائع جونة نجل مخاصرها ... دبابة شثنة الكثين خنباع وقال فيها -وقد دخل عليها وهي في غاية الزينة والطيب-: تكحل عينيك برد العشى ... كأنك مومسة زانيه وآية ذلك بعد الخفوق ... تغلف راسك بالغاليه وإن بينك لريب الزما ... ن أمست رقابهم خاليه فلو كان أسو حاضرا ... لقال لهم إن ذا ماليه وإن كان من قد مضى مثلكم ... فأف وتف على الماضيه وما إن يرى الله فاستبقين ... هـ من ذات بعل ومن جاريه شبيها بك اليوم فيمكن بقي ... ولو كان في الأعصر الخالية فبعدا لمحياك غذ ما حييت ... وبعدا لأعظمك الباليه وقالت له حميدة يوما -وكان أسود ضخما: كيف تسود وفك ثلاث خصال؟ أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور. فقال: أما جذام: فأنا في أرومتها وبحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه، وأما الجبن: فإنما لي نفس واحدة ولو كان لي نفسان لجدت بإحداهما. وأما الغيرة: فهو أمر لا أحب أن أشارك فيه، وإن المرء لحقيق بالغيرة على المرأة مثلكالحمقاء الورهاء لا يأمن أن تأتي بولد من غيره فتقدمه في حجره. وكان روح يتنارع معها يوما بمثل هذه المنافسات فظهرت عليه فلم يكن يسعه إلا أن قال: اللهم إن بقيت بعدي فابتلها ببعل يلطم وجهها ويملأ حجرها قيئا، فتزوجها بعد الفيض بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وكان شابا جميلا يصيب من الشراب فأحبته فكان ربما أصاب من الشراب مسكرا فيلطم وجهها ويقيئ في حجرها فتقول: يرحم الله أبا زرعة قد أجيبت دعوته في. وكان السبب في زواجها فيضا هو أنها لما خلعت من روح بن زنباع بقيت زمنا عزبا لا يقدم عليها أحد من أقرانها نظرا لما اشتهرت به من عزة نفسها على الرجال، وبما أن آدابها كانت مشهورة في ذلك الزمان كان الأدباء يتمنون الاقتران بها ويمنعهم من ذلك تسلط لسانها على أزواجها إلى أن قيض الله لها فيض بن محمد الحكم المذكور ولجماله وأدبه تزوجت به، ولم تعلم تهتكه وخلاعته، ولما اتصلت به رأت منه رجلا بخلاف ما رأت من الرجال من سوء خلق وزيادة تهتك وإدمان على شرب المسكرات حتى صار يهينها ويلطم وجهها ويقيء في حجرها، وهناك هجرته وقلته وقالت فيه الأشعار الهجائية وأظهرت مساويه حتى صار عبرة لغيره. ومن أشعارها فيه قولها: سميت فيضا وما شيئا تفيض به ... إلا سلاحك بين الباب والدار فتلك دعوة روح الخير أعرفها ... سقى الإله صداه الأوطف الساري وقالت: ألا يا فيض كنت أراك فيضا ... فلا فيضا أصبت ولا فراتا وقالت: وليس فيض بفياض العطاء لنا ... لكن فيضا لنا بالقيء فياض ليث الليوث علينا باسل شرس ... وفي الحروب هيوب الصدر حياض وولدت من فيض ابنة فتزوجها الحجاج بن يوسف، وقد كان قبلها عند الحجاج أم أبان بنت النعمان بن بشير فقالت حميدة للحجاج: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 إذا تذكرت نكاح الحجاج ... من النهار أو من الليل الداج فاضت له العين بدمع ثجاج ... وأشعل القلب بوجد وهاج لو كان نعمان قتيل الأعلاج ... مستوي الشخص صحيح الأوداج لكنت منها بمكان النساج قد كنت أرجو بعض مايرجو الراج ... أن تنكحيه ملكا أو ذا تاج ثم قدمت حميدة بعد ذلك على ابنتها زائرة فقال لها الحجاج: يا حميدة، إني كنت أتجمل مزاحك مدة وأما اليوم فإني بالعراق وهم قوم سوء فإياك فقالت: سأكف حتى أرحل، وكانت وفاة حميدة بالشام بآخر ولاية عبد الملك بن مروان. حنة ألبرت هي "دو ألبرت" ملكة نواره من أعمال فرنسا. ولدت في ناحية "بو" سنة 1528م، وتوفيت في باريس سنة 1572م كانت ابنة وحيدة ل "هنري الثاني" ملك نواره من زوجته "مرغريتا دو انفوليم" شقيقة "فرانسوا الاول" زفت في 15 تموز (يوليو) سنة 1540م ولها من العمر 12 سنة. تزوجها "غيليوم" روق "كليق","جوليه" وكان ذلك على غير إرادتها وإرادة أبويها فأبطل البابا "بولس الثالث" هذا الزواج. وسنة 1548م تزوجت ب "أنتون دو بوربون" دوق "قندوم" وجلست معه على تخت الملك في "نواره السفلى" و"بيرن" عند وفاة أبيها. وكانت مشهورة بجمالها وحذقها، واتبعت مذهب "كلفينوس". بعد وفاة زوجها سنة 1562م حافظت على أملاكها ولم تبال بدسائس إسبانيا ورومية ووعيدهما. وسنة 1567م أعلنت أن مذهب "كفينوس" هو المذهب القانوني في مملكتها، وانضمت سنة 1569م مع ولديها "هنري" و"كاترينا" على كولوني في "لاروشيل" وكانت رياسة فرقة من اللهو ال "هوغنو" وبعد أن قتل "برنس كوندي" كانت تعتبر سندا وحيدا للبروتستانت، وقد بالغ "أوبيني" وغيره من المؤلفين في مديحها بما كان لها من السطوى على الجنود ب "هوغنو" وسلمت رغما عنها بزواج ابنها "هنري" (هنري الرابع ملك فرنسا) ب "مرغرنيا دو فالو" وكان قد سعى في ذلك الزواج كل من "كترنياد" و"مديشي" و"شارل التاسع". وفي تلك الأثناء دعين إلىالبلاط الفرنسوي، فتوفيت فيه وذلك قبل حدوث مذبحة "سنت برتلي" بشهرين وظن جماعة أن سبب موتها سم دسته إليها "كترنياد" و"مديشي" والأرجح أنه اصباها حمى خبيثة قضت بها نحبها ولم تشهد زواج ابنها وكانت كلفت بالآداب والمعارف فبرعت فيها كثيرا ولها تآليف في الشعر والنثر وطبع بالآي بعض أشعارها. حنة اليصابات زوجة ألنبرو ولدت نحو سنة 1807م. وهي ابنة الأميرال "دغبي" تزوجت بأرل "ألنبرو" سنة 1824م. وسنة 1830م هجرت زوجها وهربت على انكلترا مع البرنس "فلكس شورنيرغ" وكان حينئذ سفيرا للنمسا في إنكلترا فصدر قرار من المجلس العالي الإنكليزي بطلاقها من زوجها ولكن لم يدم لها حب عاشقها لأنه تركها وشأنها بعد مدة وجيزة غير أن المجلس العالي عين لها بقراره الصادر بطلاقها مرتبا سنويا وافرا، فصرفت عدة سنين في إيطاليا وغيرها في رغد وانشراح وتزوجت "كنتا" يونانيا، ثم طلقت وصارت إلى الشرق فجعلت تجول فيه. قيل: وبينما كانت سائرة من تدمر إلى دمشق رافقها شيخ من البدو اسمه مجول مع قوم من عربه لحراستها فأغار عليهم وهم في الطريق جماعة من البدو قاصدين غزوهم فصدهم مجول ببسالة لا مزيد عليها فأحبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لبسالته وأمانته، وطرح نفسه في الخطر حبا فيها ومدافعة عنها فاتخذته زوجا لها على طريقة البدو وبقيت هي على مذهبها تذهب إلى الكنيسة وهو مذهبه يذهب إلى الجامع، ثم اشترت في دمشق بستانا بنت فيه بيتا ظريفا تصرف فيه بعض السنة بعيشة حضرية. وأما البعض الآخر فتصرفه في بيت الشعر لزوجها المذكور بين عربه بعيشة مرضية (وذكر مستر "يريم" في رحلته المعنونة بما ترجمته للسكنى في الخيمة بالأرض المقدسة) إذ زارها سنة 1855م، وقد طبع تلك الرحلة في "نيوبرك" من أميركا سنة 1857م، وبها تفاصيل لا محل لها هنا ويقال: إنها كتبت سيرتها بيدها ولا بد أن الذين وقفوا على خبرها يميلون إلى مطالعتها. حنة إسكو خاتون إنكليزية من "كنتيه لتلكن" أحرقت في "سمتفلد" في 12 تموز (يوليو) سنة 1546م كانت ذات عقل ثاب وتعلمت الكتاب المقدس، ثم انحازت إلى "البروستانت"، وكان زوجها "كيم" من أشد الناس تمسكا بالمذهب الكاثوليكي فطردها من بيته، فسارت إلى لندن لتطلب إلى الحكومة أن تقرر انفصالها عنه فأجابتها الملكة "كترنيابار" وكثير من خواتين البلاط الملكي إلا أن نكرانها حضور المسيح بالجسد في الافتخار حمل الحكومة على القبض عليها وإيداعها السجن، وذكر "برنت" أنها بعد عذاب مبرح كتبت محررا نقضت فيه مقالها الأول ولكن ذلك لم ينجها لأنها حبست مرة ثانية في "بنوغات" وطلب إليها أن تشهر أسماء مكاتبيها في البلاط الملكي فلم تفعل مع أنها كانت تعذب على مرأى من حامل أختام الدولة، ولم تستطع الوقوف بعد ذلك العذاب فوضعت في كرسي وطرحت في النار فكان صبرها على عذابها هذا وغيره يذهل الناظرين إليها. حنة ملكة بريطانيا وإرلانده هي آخر من جلس على عرش إنكلترا من عائلة "ستورس". ولدت سنة 1664م مسيحية، وتوفيت سنة 1714م وهي ثاني بنت ل "جيمس الثاني" دوق بورك من امرأته الأولى حنة "هترنيا كلارنيدن" الشهيرة، وكان ولداها كاثوليكيين، وأما هي فتربت على مبادئ كنيسة إنكلترا الأسقفية، وتزوجت سنة 1683م بالبرنس "جورج" أخي "كرستيان الخامس" ملك الدنمرك وجعلتها دوقة "مرلبورد" التي كانت تحبها محبة شديدة واتحدث مع الحسب الفائز فكفل لها ولأولادها إنكلترا بأنه لم يكن ل "وليم" و"ماري" عقب، فولدت 17 ولدا ولكن ماتوا في سن الطفولية إلا أكبرهم فتوفي وله من العمر إحدى عشر سنة، فلما توفي "وليم" جلست على عرش إنكلترا وذلك سنة 1702م. ومع ضعف عزمها تبعت سياسة سلفها في كبح مطامع "لويس الرابع عشر" فتجددت يوم تتويجها المعاهدة الثلاثية لين إنكلترا وهولاندا ضد فرنسا، وأعظم الحوادث السياسية التي زينت ملك حنة هو اتحاد إنكلترا وسكوتسيا وذلك في أيار سنة 1707م. وسنة 1710م أخذت شهرة "مرلبورط" في الانحطاط بعد أن بقي ثماني سنوات في أعلى درجة من الاعتبار والحب عند الملكة، والشعب والمجلس العالي وخسرت أمرأته فقوي حزب السوريين الذين كان منهم في ذلك الوقت أقدر رجال السياسة وأحذق الكتاب ووكل حزب الهويفر قبل سقوطه بمقاومتهم اللاهوتي "ساسيفمر" بل لأنه صرح في وعظه بأن حق الملوك هو من الله وانتصر السوريون في الانتخابات الجديدة، فأقيمت وزارة جديدة تحت رياسة "هرلي"، وصارت "ماشام" ابنة أحد تجار لندن نديمة للملكة، ومدبرة لبلاطها، فعزموا على عقد الصلح وأهملوا الانتفاع بنتائج الحرب وتركوا حلفاء إنكلترا في معاهدة "أسرخت" التي وقع عليها في "أنيسيان" سنة 1713م، ولم تكن الوزارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الجديدة متقفة، وكان قد تقرر أن يكون تاجر إنكلترا بعد موت حنة بدون عقب لسوقيا أكبر بنات "جمس الأول"، وحاول جماعة أن يرروا ذلك لاخيها ابن "جيمس الثاني" فساءت الملكة أعمال وزرائها واختلافاتهم فماتت فجأة، وإذا كان موتها قبل أن أكمل "بلولفبروط" تدابيره نشأ عنه تقرير سلالته بروتستنتينية لإكلترا بسلام ولم تكن حنة شديدة الحزم، ولكنها كانت وديعة وامتاز ملكها بحروب متوالية انتصرت فيها إنكلترا وقد أطلق على أيام ملكها اسم الا'صر الأوغسطي للآداب الإنكليزية وتزين ذلك العصر بكتابات أدبيون وبوب وسوقف وريفوار. وجرائد مشهورة بتلك الأيام. حنة النمساوية ملكة فرنسا هي ابنة "فيليب الثالث" ملك إسبانيا ولدت سنة 1601م، وتوفيت سنة 1666م، تزوجها "لويس الثالث عشر" سنة 1615م فبقيت 22 سنة لا تلد. وروى بعض المؤرخين أنه عندما هجرها زوجها "لويس" اخترعت إطاراً كانت تلبسه تحت ثيابها لتستر به حملها عن الملك إلى أن ولدت ولدا ذكرا، وكثيرا ما كان زوجها يسيء معاملتها ويعذبها. ويقال: إن الكردينال "رشليو" كان يهيج الملك إلى كرهها ومقاومتها، فاتفقت مع حماتها "ماري دي موليسي" على عزله، ولكن هبط مسعاهما لأن "ريشليو" كان ذا سطوة وحذق لا مزيد عليهما فاتهمها بأنها كانت متفقة ع أخيها ملك إسبانيا ودوق "لوران" وإنكلترا وكل أعداء فرنسا، وضد مصلحة الكردينال المذكور وإنها كانت تساعد الشاب التعيس "هنري روتلبر فيدبرنس كاني" في مؤامرته، وتنقاد إليه انقياد أعمى. فأمر الملك بتفتيش عرق قصر المقال "دوغراس" الذي كانت فيه مع حماتها وكان الملك قد حكم عليها بالخروج من البلاط فخرجت حنة أيضا من القصر ورجعت إلى البلاط الملكي في اللوفر حيث كانت تحتمل غضب زوجها وتضادده، ثم شاع بعد ذلك حملها "بلويس الرابع عشر" سنة 1638م. وولدت سنة 1640م، "فيليب" دوق "دورليان"، وبعد موت زوجها "لويس الثالث عشر" سنة 1643م، أقامها البرلمان رغما عن إرادته نائبة عن "لويس الرابع عشر" مدة قصره، فكان الكردينال "مازارين" يحكم باسمها. ويقال: إنه كان متزوجا بها سرا فتزينت الايام الأولى من نيابتها بانتصارات البرنسا "كوندي" ولكن رفعها لمقام الكردينال "فراريل" وجعلته رئيسا للوزارة هيج بعض عائلة كوندي وبعض عيال من السلالة الملكية وآخرين من عيال فرنسا الشريفة، فنشأت عن ذلك الحرب الأهلية التي تدعى حرب الفرنده (أي حرب القلاع) ومع ذلك كانت تدبر ملكها إدارة جيدة. حنة يولين ملكة إنكلترا وهي إحدى نساء "هري الثامن" قطع رأسها في 19 أيار سنة 1536م، وأما تاريخ ولادتها فمجهول وبعضهم قال: إنها ولدت سنة 1500م، وآخرون سنة 1507م. وهي ابنة الأرل "توماس بولن" كانت من السيدات اللواتي رافقن "ماري" شقيقة "هنري الثامن" إلى فرنسا عند تزوجها "بلويس الثاني عشر" سنة 1514م. ولما رجعت ماري بعد موت زوجها إلى إنكلترا بقيت حنة في فرنسا عند "كلور" زوجة "فرنسيس الألو"، ثم دعيت على إنكلترا سنة 1522م أو سنة 1527م، ودخلت في خدمة "كاترين" الأراغونية" وقد ظهر منها وهي هناك من الحذاقة والهمة والظرف ما لا مزيد عليه، وأما ما قيل من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سلوكها في البلاط الفرنسوي كان محلا للشبهة، فلم يزل من دون دليل كاف ولم يمض إلى زمن قليل حتى أحبها "هنري الثامن" فألزم الكردينال "ولسي" أن يتوسط في فسخ خبطبتها من اللورد "برسي" ابن أرل "نرثمدلند"، وكانت تزداد محبة "هنري" لها وتقل ثقته بصحة تزوجه ب "كاترين" الأراغونية، فصرح في أواخر سنة 1527م الكردينال "ولسي" بقصده أن يتزوج بحنة حالما طلق "كاترين" فغلبت إرادة "هنري" ورغبته الشديدة مقاومة الكردينال "ولسي" على أن حنة كانت تحسب الكردينال -المذكور" ضدها فقاومته إلى أن اقتنعت من الملك بعزله فتزوج "هنري" بحنة في "هويتهل" في 25 كانون الثاني سنة 1533م بعد هياج استمر خمس سنين نشأ عن طلاق "كاترين". وكانت قد صرفت ثلاث سنوات في القصر قبل تزوجه بها فكانت في تلك المدة دائما مع "هنري" وجعلها قبل تزوجه بها ببضعة أشهر مركيزة "بمبروك" وعند ذلك أحيلت مسألة طلاق "كاترين" إلى مجلس "كانتريبري" الأكليريكي وحكم "كرانمر" في ألو شهر أيار من تلك السنة بفساد تزوج الملك ب "كاترين" من أوله وأن حنة هي امرأته الشرعية. وفي أول حزيران أقيم تتويجها باحتفال عظيم ثم بعد ذلك بثلاثة أشهر ولدت البرنسيس "أليصابات" التي تزين التاريخ الإنكليزي فيما بعد بأخبار ملكها، ولما ابتدأ "هنري" بكرهها ويميل على "جين سيمور" لم يكن أميرا صعب الحكم على حنة بارتكاب أمور منكرة، فأقيمت لجنة من الوردن كان والدها من جملتها للفحص عن سيرتها وذلك سنة 1536م، فقررت تلك اللجنة أنها أتت المنكرات مع "بريرتن" و"نرس" و"رستن" من الحشم الخاص وسميت صاحب موسيقى الملك حتى مع أخيها اللورد "رتشفرد" فأرسل الملك كل المتهمين إلى السجن وحوكت حنة أمام لجنة من الأمراء تحت رياسة عمها دوق "ترفلك" فثبت أنها مذنبة، وكان ممن أثبته إقرار سميتن مع أنها أقامت الحجة مع باقي المسجونين على براءتها وحكم بفساد تزوجها ل "هنري الثامن" وأبطله كما حكم بفساد تزوج "كاترين" فكانت تقضي ساعات سجنها بين السكينة والقلق وكان تصرفها عند قطع رأسها بجلال ملكي، وأما "سميتن" فعلق وقتل خنقا. وأما الأربعة الباقون المتهمون فقطعت رؤوسهم. حنة البريطانية ملكة فرنسا ولدت في "تنست" سنة 1476م. وتوفيت في قلعة "بلوى" سنة 1514م. كانت ابنة "فرانسيس الثامن" دوق بريطانية وولية لعهده. أعطاها أبوها دوقية بريطانية مهرا لما تزوجت "شارل الثامن" ابن "لويس الحادي عشر" سنة 1491م، فصارت الدوقية المذكورة من جملة أملاك فرنسا، وكان قد خطبها قبل ذلك الملك "مكسيميليان" من "أستوريا" ولكن حل هذه الخطبة "لويس الحادي عشر" وزوجها لابنه ووسع بذل في أملاكه، وتزوجت بعد موت "شارل الثامن" بخلفه "لويس الثاني عشر" سنة 1498م. وكان لها سطوة قوية عليه وعلى كل رجال البلاط فكانت قدوة للفضيلة والاجتهاد في أشغالها، وكانت تدير المملكة حق الإدارة مدة غياب زوجها في الحروب التي قام بها ضد إيطاليا. حنة ملكة نابولي وهي ابنة "شارل" دوق "كليريا" وحفيدة "روبرت أنجو". ولدت سنة 1327م، وقتلت في حصن "مورو" في ولاية "باسيليكانا" في 22 أيرا سنة 1382م، وكان أبوها يحاول أن يجعل اتحادا بين فرعي عائلة "أنجو" التي كانت تدعى "بتخت نابلي" لتزويجه حنة هذه في سن سبع سنوات بابن عمها "أندرو" المجري إلا أن تدبيره لم يأت بالغرض المقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لأنه لما كبر الزوجان كان يبغض أحدهما الآخر بغضا شديدا، وكان الحزبان المتضادان من أقاربهما يهيجان دائما تلك الحاسة، وتوفي الدوق "شارل" قبل أبيه "روبرت" ولذلك خلفت حنة أباها عند موته سنة 1343م، فانقسم بلاطها بسرعة إلى حزبين حزب معها وحزب مع زوجها فبقي الخصام مدة سنتين إلى أن انتهت سنة 1345م، بأن قتل الملك قوم من الثائرين أخرجوه بحيلة من مخدعه وعلقوه في ممشى من مماشي القصر وقد اتهمت حنة بالاشتراك في تلك المؤامرة والسعي، وتدبير كل ما يتعلق بها. والظاهر أنها غير بريئة من هذه التهمة. وأما ما قيل من أنها كانت تلبس الحبل الذهبي الذي خنق به زوجها "أندرو" فلا يخلو من المبالغة، ثم بعد وفاة زوجها بقليل تزوجت من دون حل من البابا "لويس دو ثارنتو" وهو أحد أقاربها، ويظن أنه كان عشيقها وإذا كان "لويس" الكبير، صاحب "هنكريا" يطلب فرصة للأخذ بثأر أخيه اتخذ ذلك حجة وأغار سنة 1347م، على الأراضي النابولية وإذ كانت حنة غير مستعدة للدفاع هربت إلى "أفبنيون" التي كانت حينئذ موطنا للتابوت وبينما هي هناك إ'ذ أحضرت أمام مجلس حر أقرت بكونها قاتلة زوجها بشرط دفع ثمانين ألف فلوريني ذهبا وإعلان البابا رسميا بكونها برئت وتثبت زواجها الحديث. وفي تلك الأثناء رجع ملك "هنكريا" عن نابلي" تاركا فيها حامية قوية خرجت منها بعد قليل بتوسط البابا، ثم إن "لويس دو ثارنتو" توفي سنة 1362م، فتزوجت حنة سنة 1363م، "بجمسيس" الأراغوني ملك "نيورقة" إلا أنه لم يمض غلا قليل حتى تركها ورجع إلى بيته في إسبانيا وتوفي هناك سنة 1376م، فتزوجت بزوج رابع وهو "أونو برنسويك" فغاظت بذلك الدوق "شارك دورنسوا" الذي كانت زوجته تدعي وراثة التخت. وسنة 1378م، لما اختلف البابوان المتناظران وهما "إكليمنفس السابع" و"أوريانوس السادس" تحزبت حنة "لإكليمنفس" فغاظت بذلك "أوريانوس" فاستحضر حالا الدوق "دورنسوا" وأعلن أن له الحق في تخت "نابلي"، أما حنة فاتباعا لرأي "إكليمنفس" كتبت وصية مخصوصة جعلت بموجبها ابن ملك فرنسا الثاني وارثا لها ونزعت بالكلية حق الملك عن الدوق وزوجته فاتخذ "شارل دورنسوا" هذه الحوادث حجة كان يطلبها بعد زمان طويل فأغار على بلاد حنة ولم يصادف من الشعب إلا مقاومة قليلة وتقدم إلى "نابلي" وأسر الملكة وأرسلها تحت الحفظ ل "أمور" فكانت هناك تحت رحمة الملك "هنكاريا" فأمر بقتلها حالا، فقطعت بالوسائد أخذا بثأر "أندرو" على الطريق التي قتلته بها. حنة ملكة نابلي ابنة شارل دورتو ولدت نحو سنة 1370م، وتوفيت سنة 1435م. تزوجت وهي صغيرة ب "وليم" ملك "أستوريا" وترملت بعد ذلك عدة سنين، وخلفت أخاها "لاوس لاس" سنة 1414م بعد موت زوجها وكان بينها وبني "كنت سازونفلوا لوبو" اتصال سري وقد حافظت على ذلك الاتصال بعد موت زوجها ولم تحاول سترها فإنها وجهت إلى عشيقها -المذكور- أعلى المأموريات وجعلت مصالح المملكة بيده فعلاً إلا أن أصدقاءها أقنعوها أخيراً بأن تتزوج ثانياً فاختارت " جاكور دويورلون كنت لامرش" زوجا لها إلا أن تزوجها لم يكن واسطة لتغير سيرتها ذات الخلاعة، فلما اطلع زوجها على خيانتها نظف البلاط من كل أصدقائها وقطع رأس عشيقها جهارا وأرسلها إلى مكان منفرد. ثم إنه صالحها بعد ذلك مصالحة ظاهرة إلا أنها حالما رجعت إلى مركزها في البلاط نجحت بحيلة في سجن زوجها في إحدى قلاع " نابلي"، ولم يخرج من ذلك السجن إلا بصعوبة، وعند خروجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 خرج من البلاد ودخل ديرا في " برغونيا" حينئذ ابتدأت سلطة المقربين إليها في الرجوع إلى البلاد· فكان تاريخ ملكها مدة بضع سنين عبارة عن حيل ومكائد وذلك مع بعض الشعب الذي لها في كل الممكلة الذي نشأ عنه متأخرات دائمة في البلاط، وتوارث في البلاد، ومما زاد خصام الأحزاب قوة النزاع الذي جرى بين " لويس الثالث أنجو" و" ألفونسو دو أراغون" اللذين كانا يدعيان حق الخلافة· أما حنة فحكمت به أولا ل " ألفونسو" ثم عكست حكمها وعند وفاة " لويس الثالث" حكمت لرجل آخر من بيت " أنجو" أما " ألفونسو" فقبض على صولجان الملك رغما من الوصية التي حرمته إياها· حنة مورندي منزوليني كانت أبرع نساء زمانها بفن التصاوير والتماثيل، لأنها أخذته عن زوجها " منزوليني" وكان ماهراً في التشريح والرسم والتصوير، وفي نقش الشمع لعمل التماثيل، ولكنه ضعيف الرأي عصبي المزاج سوداويه، وكانت زوجته على جانب عظيم من النباهة والفطنة فتعلمت منه عمل التماثيل الشمعية، وأتقنته غاية الإتقان، وكانت تساعده في أعماله· وكان " منزوليني" ملازماً ل " للي" المصور الشهير في أعماله ويساعده على أشغاله، فوسوس شيطان الظنون في أذني " منزوليني" وظن أن " للي" عازم على أن يستأثر بالاسم والشهرة من عمل تلك التماثيل ولا يبقى له اسم فيها، فعزم على تركه· وكان " للي" دائما يعترف بفضله ويقول: إنه لولا مساعدة " منزوليني" لم يستطع عمل تلك التماثيل، فلما رأت حنة خطأ زوجها عزمت أن تتعلم منه فن التشريح وتتم العمل الذي أحجم عنه حفظا لصيته فأجابها إلى طلبها لشدة تعلقه بها وعلمها هذا الفن فدرسته برغبة شديدة، وقرأت أحسن المصنفات فيه وشرحت الأجساد البشرية بيدها رغما عما وجدته في نفسها من الكراهة الشديدة لذلك فإنها كثيرا ما كانت تمرض من رؤية الأجساد المشرحة ولكنها كانت تتغلب على ما بها من الضعف الطبيعي حتى أتقنت هذا الفن واكتشفت فيه اكتشافات كثيرة· وفي غضون ذلك أنشأ أحد الأطباء مدرسة لتعليم فن الولادة وطلب إليها أن تصنع له أجنة من الشمع متفاوتة في النمو فصنعت له الأجنة المطلوبة على غاية الإتقان، ثم جعلت تقدم خطابا في فن التشريح العلمي وتشريح المقابلة وأتقنتها أشد الإتقان فذاع صيتها حتى عم أوروبا لغزارة معارفها وحسن أسلوبها في التعليم· وفي سنة 1755م توفي زوجها عن ولدين صغيرين فحزنت عليه حزنا شديدا لأنها كانت تحبه حبا مفرطا مع كثرة عيوبه ولكنها لم تنفك عن خدمة العلم· وفي السنة الأولى من ترملها انتخبت عضوا في المجمع العلمي ب " بولونيا" ثم في مجامع أخرى كثيرة وجعلتها حكومة " بولونية" أستاذة تشريح في مدرسة " بولونية" الطبية ولكن الانتظام في سلك هذه الجمعيات كان نفعه معنويا لا ماديا لأنها كانت في حالة يرثى لها من الفقر، ولم تزد أجرتها في مدرسة الطب عن ثلثمائة فرنك في السنة، وكانت على جانب عظيم من الجمال، ولكنها كانت عفيفة النفس طاهرة السيرة والسريرة لأن العلم يعصم ذويه عن ارتكاب الدنايا· وفي سنة 1765م طلبت من الحكومة أن تزيد راتبها وتجعله خمسمائة فرنك في السنة فلم تجبها إلى طلبها ولكن أحد أرباب الحكومة وهوالكونت " أنوزي" أباح لها أن تقيم في بيته آكلة شاربة بشرط أن تعطيه بدل ذلك كل كتبها واستحضاراتها التشريحية، فأقامت عنده لأن الفقر كان قد أذلها· ولكن الكونت أكرم مثواها وأبقى لها كتبها واستحضاراتها فوهبا للمجمع العلمي حيث هي إلى يومنا وفيها الأجزاء الصغيرة من جسد الإنسان كالأوعية الشعرية التي ترى بالعين، وهي في غاية الضبط والإحكام· وكانت كغيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 من مشاهير الأرض وإذا تعبت من عمل ترتاح بمزاولة آخر فصنعت أوقات الراحة تماثيل كثيرة لزوجها ولبعض أصدقائها ومثلت نفسها قابضة على الجمجمة وأخذت تشريح الدماغ ومما يكاد يفوق التصديق أن هذه المرأة الفاضلة التي توسلت إلى حكومة " بولونية" لكي يزيد راتبها السنوي مائتي فرنك ولم تجبها إلى طلبها عرض عليها مراراً كثيرة أن تأتي إلى مدينة " لورندة" براتب كبير جدا، وأرسلت إمبراطورة روسيا تدعوها إليها ووعدتها أن تعطيها مهما طلبت وأرسلت مدرسة " ميلان" تدعوها إلهيا وفوضت إليها أن تختار الأجرة التي تريدها وتشترط الشروط التي تختارها وطلبت منها مدارس أخرى نفس هذا الطلب· فأجابت كل هؤلاء أنها تفضل البقاء في مدرسة " بولونية" على ما سواها وأرسلت لكل منهم مجموعا كاملا من مصنوعاتها التشريحية وشرحا كافيا وافيا يغني عنها، ولثبت بين الدفاتر والمحابر والدرس والتدريس إلى أن وافتها المنية سنة 1774م ولها من العمر 68 سنة· حرف الخاء خديجة ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره بل أول إنسان أسلم لم يسلم قبلها أحد لا ذكر ولا أنثى· وقيل: كانت تسمى في الجاهلية الطاهرة وكنيت بأم هند وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر ابن لؤي تزوجها عتيق بن عائذ المخزومي، فمات عنها وله منها ولد، ثم تزوجها أبو هالة هند بن زرارة· وقيل: تزوجها قبل عتيق فما مات عنها أبو هالة وله منها هند· والظاهر أنه خلف لها ثروة عظيمة وكانت هي ذات ثروة وافرة فكانت تستأجر الرجال للتجارة في مالها، وتضاربهم بشيء تجعله لهم منه وكانت قريش تكثر التجارة في بلاد الشام، فلما بلغها عن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحديث وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجرا مع غلامها ميسرة وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره· وفي رواية: أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة قال له عمه أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرها فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، فبلغ ذلك خديجة فأرسلت إليه وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطي غيرك من قومك· وفي رواية أخرى: أن أبا طالب أتاها فقال لها: هل لك أتستأجري محمدا فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات· فقال: لو سألت ذلك لبعيد بغيض لفعلنا فكيف وقد سألت لحبيب قريب! فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة حتى بلغ بصرى من الشام فنزل في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب فقال الراهب لميسرة: من هذا الرجل؟ فقال: رجل من قريش· فقال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، ثم باع الرسول واشترى وعاد وقد ربح ضعف ما كان يربح غيره، فلما كانوا بمر الظهران تقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر خديجة بالربح ثم قدم ميسرة وقد أحب النبي وأخبرها بما سمع من الراهب فأضعفت للنبي صلى الله عليه وسلم ماوعدته وقد رأت ربحا وافرا، وكانت امرأة حاذقة عاقلة شريفة من أوساط نساء قريش نسبا وأكثرهن مالا وشرفا، وكان كل من قومها يتمنى أن يتزوج بها فلم يقدروا، فلما رأت ذلك من محمد صلى الله عليه وسلم أرسلت وعرضت نفسها عليه فأتى مع أعمامه إلى أبيها خويلد وخطبها إليه· ثم تزوجها وكان عمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 إذ ذاك 25 سنة، وعمرها 40 سنة·وقيل: خمسة وأربعون· وقيل: غير ذلك· فولدت له أولاده كلهم إلا إبراهيم· وقيل: الذي زوجها عمها عمرو بن أسد لأن أباها مات قبل الفجار، ولما ابتدأ الوحي يبدو للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل كان متخوفاً من ذلك، وأخبر خديجة فقالت: أبشر فلن يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق· ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل فأعلمته بشأنه وسألته خديجة بعد ذلك قائلة: يا ابن العم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك· قال: نعم· فجاءه جبرائيل فأعلمها· فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، ففعل· فقالت: هل تراه· قال: نعم، قالت: فتحول على فخذي اليمنى، ففعل· فقالت: هل تراه· قال: نعم، فألقت خمارها· ثم قالت: هل تراه· فقال: لا، قالت: يا ابن العم أثبت وأبشر فإنه ملك وماهو بشيطان فكانت خديجة أول من آمن به وصدقه· ولما علمه جبريل الوضوء والصلاة أتى إلى خديجة وعلمها ذلك فتوضأت كوضوئه وصلت كصلاته، وبقيت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم 24 سنة وأشهراً، ولم يتزوج عليها· وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام· وقيل: بخمسة وخمسين يوماً وعمرها خمس وستون سنة ودفنت بالحجون وحزن النبي عليها ونزل في حفرتها وعظمت عليه المصيبة بوفاة أبي طالب، ثم وفاتها· وكانا من أشد المعضدين له وبعد ثلاث سنين من وفاتها تزوج بعائشة· وقيل: بسودة بنت زمعة· وروي أنه قال: " أفضل نساء الجنة خديجة وفاطمة ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون" · وقيل: إن معاوية اشتري المنزل الذي كانت فهي خديجة وجعله مسجداً· وقال ابن الوردي: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة فحكي لها ما رأى فقالت: أبشر فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم أتت خديجة ابن عمها ورقة بن نوفل بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي وكان شيخا كبيرا، وكان قد عمي وتنصر في الجاهلية وكتب في التوراة والإنجيل، فلما ذكرت خديجة أمر جبريل وما رأى ميسرة فقال ورقة: إنه ليأتيه الناموس الأكبر، وهذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني أكون فيها جذعا حين يخرجه قومه فأخبرت النبي بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: " أومخرجي هم؟ " · فقالت: سألته ذلك قال: نعم لم يأت أحد قط بمثل ما جاء به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومه أنصره نصرا مؤزرا في ذلك، وإن رأيت أن ترسليه لي فأخبره عن ذلك· وقال أبياتا منها: ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا بما أخبرته من قول قس ... من الرهبان يكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا ألا يا ليتني إن كان ذاكم ... شهدت وكنت أولهم ولوجا رجائي في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمنكبها عجيجا ولما انتهى من أبياته قال: أرسلي لي محمدا فإني مخبره بما أريد ولما ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أخبره ما قاله لخديجة، وأنشد: يا للرجال لصرف الهم والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس عن أثر فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الناس والعصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إنك مبعوث إلى البشر فقلت إن الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري وأرسليه لنا كيما نسائله ... عن أمره ما يرى في لنوم والسهر فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة كملت من زهيب الصور ثم استمر وكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر والله أعلم بالصواب· خديجة ملكة جزائر زيبة المهل من بلاد الهند وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر بن السلطان صلاح الدين البنجالي وكان الملك لجدها، ثم لأبيها فلما مات أبوها ولي أخوها شهاب الدين وهو صغير السن فتزوج الوزير عبد الله بن محمد الحضرمي أمه وتغلب عليه وهو الذي تزوج أيضاً هذه الملكة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين· فلما بلغ شهاب الدين مبلغ الرجال أخرج ربيبة الوزير عبد الله ونفاه إلى جزائر السويد واستقل بالملك واستوزر أحد مواليه يسمى علي كلكلي، ثم عزله بعد ثلاثة أعوام ونفاه إلى السويد· وكان يذكر عن السلطان شهاب الدين -المذكور- أنه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم " هلدتني" وبعثوا من قتله بها ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة فقدموا خديجة ملكة في سنة 740 للهجرة وكانت متزوجة بخطيبهم جمال الدين فصار وزيرا غالبا على الأمر وعين ولده محمدا للخطابة عوضا عنه ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف، وكتب العلم· ويذكرها الخطيب يوم الجمعة وغيرها فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترها على علم على العالمين وجعلتها رحمة لكافة المسلمين ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين بن السلطان صلاح الدين، ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم ومضى إلى الدار فلا بد له أن يستصحب ثوبين فيقدم لجهة هذه السلطانة ويرمي بأحدهما، ثم يقدم لوزيرها وهو زوجها جمال الدين ويرمي بالثاني وعسكرها نحو ألف إنسان من الغرباء وبعضهم بلديون يأتون كل يوم إلى الدار فيخدمون وينصرفون ومرتبهم الأرز يعطى لهم من البندر في كل شهر، فإذا تم الشهر أتوا الدار وخدموا وقالوا للوزير: بلغ عن الخدمة، واعلم بأنا أتينا نطلب مرتبنا في أمر لهم به عند ذلك ويأتي أيضاً إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطب وهم الوزراء عندهم فيخدمون ويبلغ خدمتهم الفتيان وينصرفون وأن النساء ليفتخرن بمثل هذه الملكة حيث إنها كانت مالكة نحو ألفي جزيرة من جزائر الهنود التي تزيد عن الأربعين مليونا من العالم وجميعها من المسلمين· وبقيت مالكتها مدة من الزمن بالعدل والإنصاف وقد طال ملكها نحو الثلاثين سنة، وفي مدتها كانت جوائزها في غاية الرونق والبهاء من كثرة الخيرات والأرزاق والزمن، وكان جميع الأهالي مكبين على الأشغال ملتفين للأعمال، محافظين على جزائرهم من الأعداء، وبارتباطهم هذا كانوا مهابين لا يدخلون أحداً من عدوهم ساحتهم وبقيت على ذلك إلى أن توفاها الله وأهل مملكتها راضون عنها آسفون عليها· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 خرقاء بنت النعمان بن المنذر كانت أحسن نساء زمانها جمالا، وأفصحهن مقالا، وأكملهن عقلا، وأعظمهن أدبا، وكانت معتنقة الديانة المسيحية ومتعبدة بها تعبدا زائدا وكانت إذا خرجت إلى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مغشى الخز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها وبقيت على ذلك وهي في غاية العز والإجلال إلى أن هلك النعمان فكلمها الزمان، فأنزلها من الرفعة إلى الذلة، ولما نزل سعد بن أبي وقاص بالقادسية أميرا عليها وهزم الله الفرس، وقتل رستم أتت خرقاء بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهن في زيها عليهم المسموح والمقطعات السود مترهبات تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه أنكرهن سعد فقال: أيكن خرقاء؟ قالت: ها أنا ذا· قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، فما تكرارك في استفهامي، ثم قالت: إن الدنيا دار زوال ولا تدوم على أهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالا، كنا ملوك هذا المصر يجبي لنا خراجه ويطيعنا أهله مدى الإمرة وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فشق عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد أنه ليس يأتي قوما بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر حيث يقول: إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الدهورا قد يبيت الفتى معافى فيرزا ... ولقد كان آمنا مسرورا فبينما هي واقفة بين يدي سعد إذ دخل عمرو بن معد يكرب وكان زوارا لأبيها في الجاهلية فلما نظر إليها قال: أنت خرقاء؟ قالت: نعم، قال: فما دهمك فأذهب بجودات شيمك أين تتابع نعمتك وسطوات نقمتك· فقالت: يا عمرو، إن للدهر عثرات وعبرات تعثر بالملوك وأبنائهم فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزان، هذا الأمر كنا ننتظره فلما حل بنا لم ننكره· فأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه قالت: حي أختك بتحيات ملوكنا لا نزع الله من عبد صالح نعمة إلا جعلك سببا لردها عليه، ثم خرجت من عنده فلقيها نساء المدينة فقلن لها: ما فعل بك الأمير؟ قالت: أكرم وجهي وإنما يكرم الكريم كريم· حزانة ابن خالد بن جعفر بن قرط كانت من الأدب على جانب عظيم ومن الفصاحة والبلاغة على جانب أعظم، والفروسية كانت عندها زائدة، حضرت فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص وخاضت معه المعامع والمعارك وقد حضرت فتوح الحرة حينما استشهد من المسلمين خمسمائة وثلاثون فارسا فقالت ترثيهم في أبيات كما جاء في الحبرة للواقدي في " فتوج الشام": أيا عين جودي بالدموع السواجم ... فقد شرعت فينا سيوف الأعاجم فكم من حسام في الحروب وذابل ... وطرف كميت اللون صافي الدعائم حزنا على سعد وعمرو ومالك ... وسعد مبيد الجيش مثل الغمائم هم فتية غر الوجوه أعزة ... ليوث لدى الهيجاء شعث الجماجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ومن قولها أيضا: طوى الدهر ما بيني وبين أحبة ... بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع فلا يحسب الواشون أن قناتنا ... تلين ولا أنا من الموت نجزع ولكن للآلاف لا بد لوعة ... إذا جعلت أقرانها تتقطع خماني ابنة أردشير بن بهمن ملكت بعد أبيها " بهمن" ملوكها حبا في أبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقب ب " نهرزاد" وقيل: إنها ملكت لأنها حين حملت من " دارا الأكبر" سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك ففعل " بهمن" وعقد التاج عليه حملا في بطنها، وكان " ساسان بن بهمن" رجلا يتصنع للملك فلما رأى فعل أبيه لحق بإصطخر وتزهد ولحق برؤوس الجبال وهلك " بهمن" و" دارا" في بطن أمه فملكوها ووضعته بعد شهر من ملكها فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر المكر من إصطخر وسار التابوت إلى طحان من أهل إصطخر ففرح بما فيه من الجوهر فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شب فأقرت " خماني" بإساءتها فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون من أبناء الملوك، فحولت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وكانت قد أوتيت ظفرا وأعزت الروم وشغلت الأعداد عن تطرق بلادها وخففت عن رعيتها الخراج وكان ملكها ثلاثين سنة· خولة بنت الأزور الكندي وهي أخت ضرار بن الأزور· كانت مشهورة بالشجاعة والجمال، خرجت مع أخيها إلى الشام حين فتحها في خلافة أبي بكر الصديق وكانت تفوق الرجال بالفروسية والبسالة، ولها وقائع مشهورة لا يسعها المقام إذا أحببنا إيرادها ولكنا نقتصر علي البعض منها· قال الواقدي في " فتوح الشام": إنه لما أسر ضرار بن الأزور في وقعة أجنادين توجه خالد بن الوليد بطليعة من الجيش لخلاصه فبينما هو في الطريق إذ مر به فارس على فرس طويل وبيده رمح، وهو لا يبين منه إلا الحدق وقد سيق أمامه الناس كأنه نار، فلما نظره خالد قال: ليت شعري من هذا الفارس، وأيم الله، إنه لفارس ثم اتبعه خالد والناس وسار إلى أن أدرك المشركين وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، فما كانت إلا جولة جائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد قتل رجالا وجندل أبطالا وقد عرض نفسه للهلاك ثانية، واخترق القوم غير مكترث وكثر قلق الناس عليه ولا يعلمون من هو منهم رافع بن عميرة ومن معه ظنوا أنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد، وبينما هم ومنهم رافع بن عميرة ومن معه ظنوا أنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد، وبينما هم على ذلك إذ أشرف خالد بمن معه فقال له رافع: من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته؟ فقال خالد: والله إنني أشد إنكارا منك أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله· فقال رافع: أيها الأمير، إنه منغمس في عسر الروم ويطعن يميناً وشمالا· فقال خالد: معاشر المسلمين، احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة، وخالد زمامهم إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار، والخيل في إثره، وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل، فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس -المذكور- إلى جيش المسلمين فتأملوه ورأوه قد تخضب بالدماء، فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر شجاعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 على الأعداد، اكشف لنا عن اسمك، وارفع لثامك· فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت الروم من كل جانب، وكذلك المسلمون وقالوا: أيها الرجل الكريم أميرنا يخاطبك وأنت تعرض عنه أظهر لنا اسمك لنزداد تعظيما، فلم يرد عليهم جوابا· فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال: ويحك، لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك، من أنت؟ فلما ألح عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه قال: إنني أيها الأمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور وإنما حملني على ذلك أني محرقة الكبد، زائدة الكمد· فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور أخت ضرار المأسور بيد المشركين وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن أسير، فركبت وفعلت ما رأيت، وعند ذلك حمل المسلمون وحملت خولة وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة، وأما خولة فإنها جعلت تجول يمينا وشمالاً، وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثرا، ولا وقعت له على خبر وجعلت تسأل عنه لم يجبها أحد ولم تر من المسلمين من يخبرها أنه نظره أورآه أسيرا أو قتيلا فلما أيست منه بكت بكاء شديدا وجعلت تقول: يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك، أم بأي حسام قتلوك· يا أخي أختك لك الفداء لو أني أراك أنقذتك من أيدي الأعداء. ليت شعري أتري أني أراك بعدها أبدا، فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ سعيرها· ليت شعري ألحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء· فبكي الناس من قولها عند سماعها ونياحها· ومن وقائعها أيضا ما ظهر من بسالتها يوم أسر النسوة في وقعة صحورا من أعمال الشام وقد جمعت النساء وقامت فيهم خطيبة وكانت هي من ضمن المأسورات فقالت: يا بنات حمير وبقية تبع، أترضين لأنفسكن علوج الروم ويكون أولادكن عبيدا لأهل الشرك! فأين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب ومحاضر الحضر؟ وإني أراكن بمعزل عن ذلك وإني أري القتل عليكن أهون من هذه الأسباب وما نزل عليكن من خدمة الروم· فقالت لها عفراء بنت غفار الحميرية: صدقت والله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت، وفي الرباعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت وإنما دهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح· فقالت خولة: يا بنات التبابعة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم فنستريح من معرة العرب· فقالت عفراء بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمودا وسعت من ورائها عفراء أم أبان بنت عتبة ومسلمة بنت زارع ولبنى ومزروعة بنت عملوق وسلمة ابنة النعمان ومثل هؤلاء فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت واحطمن رماح القوم واسكرن سيوفهم، وهجمت خولة وهجم النساء وراءها وقاتلن قتالا شديدا حتى استخلصت النسوة من أيدي الروم وخرجت وهي تقول: نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر ومن قولها حين أسر ضرار في المرة الثانية في " مرج دابق": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ألا مخبر بعد الفراق يخبرنا ... فمن ذا الذي يا قوم أشغلكم عنا فلو كنت أدري أنه آخر اللقا ... لكنا وقفنا للوداع وودعنا ألا يا غراب البين هل أنت مخبري ... فهل بقدوم الغائبين تبشرنا لقد كانت الأيام تزهو لقربهم ... وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا ألا قاتل الله النوى ما أمره ... وأقبحه ماذا يريد النوى منا ذكرت ليالي الجمع كنا سوية ... ففر قناريب الزمان وشتتنا لئن رجعوا يوما إلى دار عزمهم ... لثمنا خفاقا للمطايا وقبلنا ولم أنس إذ قالوا ضرار مقيد ... تركناه في دار العدو ويممنا فما هذه الأيام إلا معارة ... وما نحن إلا مثل لفظ بلا معنى أرى القلب لا يختار في الناس غيره ... م إذا ما ذكرهم قلبي المضنى سلام على الأحباب في كل ساعة ... وإن بعدوا عنا وإن منعوا منا ثم بكت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون فوالله لأخذنا بثأره إن شاء الله تعالى، ولما زحفت عساكر الإسلام إلى أنطاكية لأجل خلاص ضرار سار معهم النساء اللاتي لهن أسرى وفي مقدمتهن خولة بنت الأزور وهي تنشد قولها من المراثي المبكيات: أبعد أخي تلذ الغمض عيني ... فكيف ينام مقروح الجفون سأبكي ما حييت على شقيق ... أعز علي من عيني اليمين فلو أني لحقت به قتيلا ... لهان علي إذ هو غير هون وكنت إلى السلو أرى طريقا ... وأعلق منه بالحبل المتين وإنا معشر من مات منا ... فليس يموت موت المستكين وإني إن يقال مضى ضرار ... لباكية بمنسجم هتون وقالوا لم بكاك فقلت مهلا ... أما أبكي وقد قطعوا وتيني ولما أسر ضرار المرة الثالثة في وقعة " دير المسيح" من أرض البهنسا وسار المسيب ورافع وجماعتهما في طلبه تهللت فرحا، وأسرعت في لبس سلاحها، وأتت إلى خالد تستأذنه في المسير معها فقال لهما خالد: أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها فخذاها معكما فقالا: السمع والطاعة، ثم ساروا حتى بلغوا منتصف الطريق وكمنوا قبل مرور القوم فبينما هم كامنون وإذا بالقوم قد أتوا محدقين بضرار وهو متألم من كتافه وهو ينشد ويقول: ألا بلغوا قومي وخولة أنني ... أسير رهين موثق اليد بالقيد فيا قلب مت هما وحزنا وحسرة ... ويا دمع عيني كن معينا على خدي فلو أن أقوامي وخولة عندنا ... لألزم ما كنا عليه من العهد ولو أنني فوق المجمل راكبا ... وقائم حد العضب قد ملكت يدي لأذللت جمع الروم إذلال نقمة ... وأسقيهم وسط الوغى أعظم الكد فنادته خولة من مكمنها قد أجاب الله دعاءك وقبل تضرعك أنا خولة ثم كبرت وحملت وكبر بقية العسكر وحملوا حتى خلصوا ضرار من الأسر ووقائعها كثيرة وقد أبلت بلاء حسنا في فتوح الشام ومصر، عمرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 طويلا وكانت وفاتها في أواخر خلافة عثمان بن عفان -فعلى مثل هذه يأسف الدهر رحمها الله رحمة واسعة. خولة ابنة منظور بن زبان كان والدها منظور مكث أربع سنوات في بطن أمه ولذلك سمي منظورا، وكانت أنها مليكة بنت خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري تحت زبان أبي منظور ولما توفي زبان خلفه عليها منظور وكان ذلك قبل الإسلام ولما أسلم بقيت تحته إلى خلافة عمر بن الخطاب ففرق بينهما وكانت مليكة ولدت له هشاما وعبد الجبار وخولة. وكانت خولة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال وقد واعتدال فتنت فيها شبان قريش وقد خطبها جملة من رجالهم وأبوها يردهم قولا منه أنهم ليسوا كفؤا لها، وبقيت على ذلك حتى تزوج طلحة بن عبيد الله مليكة والدة خولة بعد طلاقها من منظور بن زبان، فزوج خولة من ولده محمد بن طلحة، فولدت له إبراهيم وداود وأم القاسم ابني محمد بن طلحة -وكان أعرج- وقتل محمد عنها يوم الجمل فتزوجها الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان سبب زواجها به أنها حينما تكاثر عليها الخطاب بعد قتل زوجها محمد جعلت أمرها بيد الحسن بن علي بن أبي طالب فتزوجها، فبلغ منظور بن زبان ذلك فقال: أمثلي يفتات عليه في ابنته. ثم قدم المدينة وركز راية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق قيسي في المدينة إلا رخل تحتها فقيل لمنظور: أين يذهب برك تزوجها الحسن بن علي وليس مثله أحد؟ فلم يقبل، وبلغ الحسن ذلك فقال: شأنك لها، فأخذها وخرج بها، فلما كانت بقباء جعلت خولة تندمه وتقول له: الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة! فقال: البثي ههنا فإن كان للرجل فيك حاجة سيلحقنا ههنا، فلحقه الحسن الحسين وابن جعفر وابن عباس، فلما وصلوا قابلهم بما يليق بهم ثم أرجعها على الحسن فتزوجها، ورجعوا جميعا، وفي ذلك يقول جبير العبسي: إن الندى في بني ذبيان قد علموا ... والجود في آل منظور بن سيار والماطرين بأيديهم ندى ديما ... وكل غيث من الوسمي مدرار تزور جاراتهم وهنا قواضبهم ... وما فتاهم لها سرا بزوار ترى قريش به صهرا لأنفسهم ... وهم رضا لبني أخت وأصهار وبقيت خلوة تحت السحن بن علي حتى أسنت وقد مات عنها فكشفت قناعها وبرزت للرجال وصارت تجالسهم. قال معبد: جئتها يوما أطالبها بحاجة فقالت: غنيني يا معبد. فقلت لها: أو بقي بالنفس شيء؟ قالت: النفس تشتهي كل شيء حتى تموت، فغنيتها لحني في شعر قاله بعض بني فزاره وكان خطبها فلم ينكحها إياه أبوها وهو: قفا في دار خولة فاسألاها ... تقادم عهدها وهجرتماها بمحلال كأن المسك فيه ... إذا هبت بأبطحة صباها كأنك مزنة برقت بليل ... لحران يضيء لها سناها فلم تمطر عليه وجاوزته ... وقد أشفى عليها أو رجاها وما يملأ فؤادي فاعلميه ... سلو النفس عنك ولا غناها وترعى حيث شاءت من حمانا ... وتمنعنا فلا نرعى حماها فطربت خلوة وقالت: أيا عبد بني قطن أنا والله يومئذ أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقيل: إنها تزوجت بعبد الله بن الزبير بعد وفاة الحسن وقد دخلت عليها النوار زوجة الفرزدق مستشفعة بها فشفعتها عند عبد الله. وفي ذلك يقول الفرزدق. أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا الخيرزان ابنة عطاء أم الهادي والرشيد كانت ذات جمال وبهاء وكمال. اشتراها محمد أبو عبد الله المهدي بمائة ألف درهم واستحظى بها وقدمها على جميع نسائه لما لها من الأدب واللطف، وقد أخذت بقلبه مكانة عظمى، وولدت له موسى الهادي وهارون الرشيد، وقد تقدمت في خلافة ولدها موسى الهادي حتى إنها شاركته في الأحكام من كثرة تداخلها معه في أمور المملكة وكان كثير الطاعة لها مجيبا لما تسأله من الحوائج للناس، فكانت المواكب لا تخلو من بابها. ففي ذلك يقول أبو المعافى: خيرزان هناك ثم هناك ... إن العباد يسوسهم ابناك وكانت يوما جالسة إذ دخلت عليها جارية من جواريها فقالت: أعز الله السيدة بالباب امرأة ذات جمال وخلقة حسنة، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية تستأذن في الدخول عليك، وقد سألتها عن اسمها فامتنعت أن تخبرني، فالتفتت الخيرزان على زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس -وكانت في مجلسها: ما تقولين في أمرها؟ قالت لها: أدخليها فإنه لا بد من فائدة أو ثواب، فدخلت امرأة من أجمل النساء لا تتوارى بشيء، فوقفت بجانب عضادتي الباب، ثم سلمت متضائلة، ثم قالت: أنا مزنة بنت مروان بن محمد الأموي. فقالت الخيرزان: لا حياك الله وال مرحبا بك، فالحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلك. أتذكرين يا عدوة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الإذن في دفن إبراهيم بن محمد فوثبت عليهم وأسمعتيهن ما لا سمعن قبل وأمرت فأخرجن على تلك الحالة، فضحكت مزنة قهقهة حتى علا صوت ضحكها، ثم قالت: السلام عليك، ثم ولت مسرعة فنهضت إليها الخيرزان لتعانقها فقالت: ليس في ذلك موضع مع الحالة التي أنا عليها. فقالت الخيرزان لها: فالحمام إذا وأمرت جماعة من جواربها بالدخول معها إلى الحمام. فلما خرجت من الحمام وافتها الخلع والطيب فأخذت من الثياب ما أرادت ثم تطيبت، ثم خرجت إليها فعانقتها الخيرزان وأجلستها في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي، ثم قالت الخيرزان: هل لك بالطعام؟ قالت: والله ما فيكن أحوج مني إليه فعجلوه، فأتي بالمائدة، فجعلت تأكل غير محتشمة إلى أن اكتفت، ثم غسلن أيديهن وقالت لها الخيرزان: من ورائك ممن تعنين به؟ قالت: ما خارج هذه الدار من بيني وبينه نسب فقالت: إذا كان الأمر هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصورة من مقاصيرنا وتحولي لها جميع ما تحتاجين إليه، ثم لا نفترق إلى الموت. فقامت ودارت بها في المقاصير فاختارت أوسعها وأنزهها ولم تبرح حتى حولت إليها جميع ما تحتاج غليه من الفرش والكسوة، ثم تركتها وخرجت عنها. فقالت الخيرزان: هذه المرأة قد كانت فيما كانت فيه وقد مسها الضرة وليس يغسل ما في قلبها إلا المال فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم فحملت غليها وفي أثناء ذلك وافى المهدي فسألها عن الخبر، فحدثته حديثها وما لقيتها به، فوثب مغضبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال للخيرزان: هذا مقدار شكر الله على نعمة وقد أكنك من هذه المرأة مع الحالة التي هي عليها، فوالله لولا محلك بقلبي لحلفت أن لا أكلمك أبدا فقالت: يا أمير المؤمنين، قد اعتذرت إليها ورضيت وفعلت معها كذا وكذا فلما علم المهدي ذلك قال لخادم كان معه: احمل إليها مائة بدرة وادخل إليها وأبلغها مني السلام وقل لها: والله ما سررت في عمري كسروري اليوم وقد وجب على أمير المؤمنين إكرامك ولولا احتشامك لحضر إليك مسلما عليك وقاضيا لحقك. فمضى الخادم بالمال والرسالة فأقبلت على الفور وسلمت على المهدي بالخلافة وشكرت صنيعة وبالغت في الثناء على الخيرزان، وقالت: ما على أمير المؤمنين حشمة أنا في عداد حرمه. ثم قامت إلى منزلها وأقامت عند الخيرزان إلى أن قضى المهدي. وأيام الهادي وصدر من أيام الرشيد وماتت في خلافة الرشيد وكان لا يفرق بينها وبين نساء بني هاشم فلما قضيت جزع عليها الرشيد والخدم جزعا شديدا وأخرجها بمشهد يليق بمثلها. وكلمت الخيرزان ولدها الهادي ذات يوم في أمر فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلا، فاعتل عليها بعله فقالت: لا بد من إجابتي. قال: لا أفعلن قالت: فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب الهادي وقال: ويل لابن الفاعلة، قد علمت أنه صاحبها لا قضيتها لك. قالت: إذا والله لا أسألك حاجة أبدا. قال: إذا والله لا أبالي. وقامت مغضبة فقال: مكانك فاستوعي كلامي والله وإلا نفيت من قرابتي من رسول الله لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من وادي أو من خاصتي أو من خدمي أو من خدمي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك، ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي. فانصرفت وما تعقل ما تجيب فلم تنطق وما تعقل ما تجيب فلم تنطق بحلو ولا مر بعدها، ثم إنه قال لأصحابه: أيما خير أنا أم أنتم وأمي أم أمهاتكم قالوا: بل أنت وأمك خير. قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقال: أم فلان فعلت وصنعت. قالوا: لا نحب. قال: فما بالكم تأتون منزل أمي فتتحدثون بحديثها فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها وبعد مدة من الزمن تناست هذه الحادثة فبعث الهادي بأرز إلى الخيرزان. وقال لها: قد استطبتها فكلي منها فقيل لها: أمسكي حتى تنظري فجاءوا بكلب فأطعموه فسقط لحمه فأرسل إلهيا كيف رأيت الأرز؟ قالت: طيبا. قال: ما أكلت منها ولو أكلت منها لاسترحت منك. متى أفلح خليفة له أم؟ وكان سبب وفاة الهادي من قبل أمه الخيرزان كانت أمرت الجواري بقتله للسبب عينه وقيل: كان السبب في أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيرزان على الرشيد فوضعت جواريها عليه لما مرض وأمرتهن بقتله فقتلوه بالغم والجلوس على وجهه فمات فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته وبعد ذلك بقيت معززة في خلافة المأمون وأخرجت باحتفال عظيم لم ينله غيرها من نساء الخلفاء. رحمها الله تعالى. حرف الدال دارمية الجونية كانت فصيحة اللسان بليغة البيان، غير هيابة في المقال لا يسألها أحد سؤالا إلا جاوبته بأحسن جواب وأقنع خطاب. قال أبوس هل التميمي لما حج معاوية سأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجونية يقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لها: دارمية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها فقال: ما جاء بك يا ابنة حام؟ فقالت: لست بابنة حام أنا امرأة من بني كنانة وأنت طلبتني. قال: صدقت أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله. قال بعثت إليك أسألك علام أحببت عليا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أو تعفيني. قال: لا أعفيك. قالت: أما إذا أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمته بالسوية، وأبغضك على قتال من هو أولى منك بالأمر وطلبك ما ليس لك به حق، وواليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الولاء وحبه المساكين وإعظامه لأهل بيته، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. قال: فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك. قالت: يا هذا! بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي سفيان وهند. قال معاوية: يا هذه! اربعي فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروي رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها. فلما سمعت ذلك رجعت وسكن غضبها ثم قال لها: يا هذه! هل رأيت عليا؟ قالت: نعم رأيته. قال: فكيف رأيته؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك. قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم، والله فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الصدأ من الطست. قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال: نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء جملها وراعيها قال: ماذا تصنعين بها؟ قالت: أغذوا بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر. قال: فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: سبحان الله أو دونه. فأنشأ معاوية يقول: إذا لم أعد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحمل خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطى منها شيئا. قالت: ال والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين ثم أخذتها وانصرفت. دختنوس ابنة لقيط بن زرارة بن عباس الدرامي تزوجها عمرو بن عمرو بن عدس وكانت ابنة عمه وكان عمرو تزوجها بعدما أسن وكان أكثر قومه مالا وأعظمهم شرفا فلم تزل تولع به وتؤذيه وتسمعه ما يكره وتهجوه حتى طلقها فتزوجها من بعده ابن عمها عمير بن معبد بن زرارة، وكانت "دختنوس" شاعر لها شعر كثير منه هجو ومديح ورثاء وكانت ذات شجاعة عظيمة وحكمة غريبة ورأي صائب وكان أبوها لقيط يرجع إلى رأيها ويأخذها في غزواته لكي تهديه إلى الصواب عند الخطأ. وكان أخذها معه في يوم "شعب جبلة" بينه وبين عامر وعبس وكان وجد في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي وكان شريفا فطلب منه الصحبة فأبى محتجا بالبحث عن إبل له فقال: لا أدعك تذهب فتخبر بي القوم فحلف له أن لا يخبرهم ثم سار عنهم وهو مغضب. فلما دنا منهم أخذ خرقة وصر فيها حنظلة وترابا وشوكا وخرقتين من يمانية وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود، ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم فوصلت إلى قيس بن زهير العبسي فقال: هذا من صنع الله بنا هذا رجل قد أخذ عليه عهد أن لا يكلمكم فأخبركم أ، أعداءكم قد غزوكم وهم بنو حنظلة، وصاحب بن زرارة، وقبيلتان من اليمن، وفي عشرة أيام يكونون عندكم فخذوا حذركم ولما عاد كرب بن صفوان قال له لقيط: قد أنذرت القوم فأعاد الحلف أنه لم يكلم أحدا فأطلقه فقالت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 "دختنوس": ردني على أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة فاستحمقها وساء كلامها وردها وسار إلى بني عامر وعبس وتحاربا وانكسر قومه وأبلى بلاء حسنا حتى اندك الجرف بفرسه فهجم عليه عنترة فطعنه وعند ذلك تذكر ابنته "دختنوس" فقال" يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاك الخبر المرسوس أتحلق القرون أم تميس ... لإبل تميس إنها عروس فلما بلغها موته قالت ترثيه: ألا أيها الويلات ويلة من بكى ... لضرب بني عبس لقيطا وقد مضى لقد ضربوا وجها عليه مهابة ... ولا تحفل الصم الجنادل من توى فلو أنكم كنتم غداة لقيتم ... لقطا ضربتم بالأسنة ولاقنا عذرتم ولكن كنتم مثل ظبية ... أضاءت لها القناص من جانب الثرا فما ثأره فيكم ولكن ثأره ... شريح أرادته الأسنة والقنا فإن تعقب الأيام من فارس تكن ... عليكم حريقا لا يرام إذا سما ليجزيكم بالقتل قتلا مضعفا ... وما في دماء الخمس يا مال من بوا وقالت ترثيه أيضا: عثر الأغر بخير خن ... دف كهلها وشبابها وأضرها لعدوها ... وأفكها لرقابها وقريعها ونجيبها ... في المطبقات ونابها ورئيسها عند الملو ... ك وزين يوم خطابها وأتمها نسبا إذا ... رجعت إلى أنسابها يرعى عمودا للعش ... يرة رافعا لنصابها ويعولها ويحوطها ... ويذب عن أحسابها ويطأ مواطن للع ... دو وكان لا يمشي بها فعل المدل من الأسو ... د لحينها وتبابها كالكوب الدري في ... لا يخفى بها عبث الأغر به وكل ... منية لكتابها فرت بنو أسد فرا ... ر الطير عن أربابها وهوازن أصحابهم ... كالفأر في أذنابهم ولها مراث كثيرة لم نعثر إلى على هذه منها. دلوكة بنت زباء ملكة من ملوك القبط الأولين بمصر كانت أول امرأة ملكت بعد هلاك فرعون وجنوده في البحر وكان ملكها عشرين سنة وعملت أعمالا عظيمة أشهرها الجدار المعروف بحائط العجوز. قالوا عنه: إنه أحد العجائب العشرين التي بمصر يحيط بمصر شرقا وغربا من العريش إلى أسوان ويقال له: جدار العجوز أيضا. وسبب بناء هذا الحائط على ما قيل: إن مصر لما خلت من الأشراف والأبطال بعد غرق فرعون وجنوده بالبحر الأحمر اجتمعت النساء، وملكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 عليهن دلوكة وكانت ذات شرف وحكمة ودراية وكان عمرها مائة وستين سنة، فخافت أن يتناولها الملوك فجمعت نساء الأشراف وقالت لهن: إن بلادنا لم يكن يطمع فهيا أحد ولا يمد عينه إليها وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم وقد رأيت أن أبني حصنا أحدق به جميع بلادنا فأضع عليه المحارس من كل ناحية فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس. فبنت هذا الحائط، وأحاطت به جميع أرض مصر المزارع والمدائن والقرى وجعلت دونه خليجا يجري فيه الماء وأقامت القناطر والترع وجعلت فيه المسالح المجالس على كل ثلاثة أميال مجرس ومسلحةن أي محل للسلاح والمجارس صفان على كل ميل وجعلت في كل مجرس رجالا وأجرت عليهم الأرزاق وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس فإذا أتاهم آت يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس فيأتيهم الخبر بأي وجه كان في ساعة واحدة فينظرن في ذلك فمنعت بذلك مصر ممن أرادها وفرغت من بنائه في ستة أشهر على ما قيل. وقيل: إنها بنته خوفا على ولدها لا، هـ كان كثير القنص فخافت عليه من سباع البر والبحر واغتيال من جاور أرضهم من الملوك والبوادي فحوطت الحائط من التماسيح وغيرها. قال المقريزي: وقد بقي من حائط العجوز بقايا كثيرة في بلاد الصعيد وهو مبني من اللبن الكبار. دليلة الفلسطينية امرأة فلسطينية من وادي "سوريف" أحبها "شمشون" فعرف أقطاب الفلسطينيين بحبه لها وقالوا لها: أنظري بماذا قوته العظيمة وبماذا نتمكن منه حتى نوقعه أو نقهره ونحن ندفع إليك كل منا ألفا ومائة درهم من الفضة فقالت: ل "شمشون": أخبرني بماذا قوتك العظيمة وبماذا توثق لتقهر؟ فقال لها: إذا أوثقوني بسبعة أوتار طرية لم تحف بعد فإني أضعف وأصير كواحد من الناس، فدفعوها إليها فشدته بها والكمين رابض عندها في المخدع. ثم قالت له: قد دهمك الفلسطينيون فقطع الأوتار كما يقطع خيط المشاقة إذا أشيط فقالت له: لقد خدعتني فأخبرني بماذا توثق فقال: إن أوثقوني بحبال جديد لم تستعمل قط فإني أضعف وأصير كواحد من الناس ففعلت كما فعلت في المرة الأولى فقطع الحبال كالخيط فكررت السؤال فقال لها: إذا ضفرت سبع خصل من شعر رأسي وربطت بها كالوتد فإني أصير كباقي الرجال فأخذت منه سبع خصل من السرى فمكنتها بالوتد وقالت له: قد دهمك الفلسطينيون فاستيقظ من نومه وقلع الوتد والنسيج والسرى فعاتبته على مخادعتها وكانت تضايقه كل يوم بكلامها وتضاجره حتى تاقت نفسه إلى الموت فأطلعها على ما في قلبه وقال لها: لم يعل راسي لأني ناسك لله من بطن أمي فإن حلقت رأسي فارقتني قوتي. ورأت "دليلة" أنه قد كاشفها بكل ما في قلبه، فأرسلت ودعت أقطاب الفلسطينيين وقالت: اصعدوا هذه المرة فأضجعته على ركبتيها ودعت رجلا فحلق سبع خصل رأسه ثم قالت له: دهمك الفلسطينيون فاستيقظ ووجد أن قوته قد فارقته فقبضوا عليه وتلقبت "دليلة" بالمحتالة لاحتيالها على "شمشون" -كما مر- وخبرها في سفر القضاة "الإصحاح السادس عشر" منالتوراة. دنانير جارية يحيى بن خالد البرمكي كانت جارية صفراء من مولدات المدينة كان مولاها قد أدبها وخرجها في الأدب والشعر والغناء حتى صارت أدرى الناس بالغناء القديم وأكمل الجواري آدابا، وأكثرهن رواية للغناء والعشر، وأحسنهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وجها وأظرفن عشرة. فلما رآها خالد بن يحيى البرمكي شغف بها واشتراها، وكان الرشيد يسير إلى منزله ويسمعها حتى ألفها واشتد بها فكان أكثر مسيرة إلى مولاها ويقيم عندها ويبرها ويفرط حتى إنه وهبها في ليلة عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، وعلمت زبيدة بحاله فشكته على أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك فقال: مال ي في الجارية أرب في نفسها وإنما أربي في غنائها، فاسمعوها فإن استحقت أن يؤلف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم. فأقاموا عنده ونقلهم إلى يحيى فلما سمعوها عذروه وعادوا إلى زبيدة، وأشاروا عليها أن لا تلح في أمرها فقبلت ذلك وأهدت إلى الرشيد عشر جوار، وكان اعتماد "دنانير" في غنائها على ما أخذته من بذل المغنية، وهي التي خرجتها وأخذت أيضا من الأكابر الذين أخذت البذل عنهم مثل: فليح وإبراهيم الموصلي وابن جامع وإسحاق ونظارئهم. ولها كاب مجرد في الأغاني مشهور، وكانت تناظر ابن جامع وأمثاله فتغلبهم. وقيل: إنها عملت يوما صوتا أعجب به مولاها يحيى جدا، وأتى إلى إبراهيم الموصلي وطلب إليه أن يسمعه منها لينظر هل هو كما وقع في نفسه. فأتى إبراهيم وغنت "دنانير" الصوت فطرب له إبراهيم واستعاده منها ثلاث مرات لعله يجد موضوعا فيه قابلا للإصلاح يصلحه فينسب غليه فلم يجد. وقال بعضهم: إنها كانت تغني غناء إبراهيم فتحكيه حتى لا يكون بينهما فرق، وكان إبراهيم يقول ليحيى: متى فقدتني و"دنانير" باقية فما فقدتني؟ وقامت "دنانير" عند البرامكة دهرا طويلا لم تخرج من عندهم ولا كفرت نعمة مولاها. وشغف بها عقيل مولى صالح بن الرشيد فخطبها، فردته فاستشفع مولاها صالحا وابن محرز وغيرهما فلم تحبه، فكتب إليها: يا دنانير قد تنكر عقلي ... وتحيرت بين وعد مطل شغفي شافعي إليك وإلا ... فاقتليني إن كنت تهوين قتلي ما أحب الحياة يا أخت إن لم ... يجمع الله عاجلا بك شملي فكان كالكاتب على صفحات الماء، ومات ولم يجد لعلته من دواء، وأقامت على الوفاء لمولاها وأصابتها علة الجوع الكلبي وهي عند البرامكة فكانت لا تصبر عن الأكل ساعة واحدة فكأني يحيى يتصدق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لا، ها كانت لا تصومه. وحكي أن الرشيد دعا بها بعد نكبة البرامكة وأمرها أن تغني فقالت: يا أمير المؤمنين، آليت أن لا أغني بعد سيدي أبدا. فغضب وأمر بصفعها، فصفعت، وأقيمت على رجليها وأعطيت العود فأخذته وهي تبكي أحر بكاء وغنت صوتا يفتت الجلمود حزنا فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها، فانصرفت. دهيا بانة ثابت بن تيفان وقومها جرادة من زنانة، كانت تلقب الكاهنة ملكة البربر في جبل "أوراس". قال ابن خلدون: وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدت عليهم وعلى قومهم بهم، وربما كان لها من المهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم، فملكت 35 سنة وعاشت 127 سنة، وكان قتل عقبة بن نافع بإغرائها وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. قيل: وكان مذهبها ومذهب قومها وقبائل تفوسة اليهودية وكانت تدعى خطاب الشياطين فلما انقضى أمر البربر وقتل "كسيلة" رئيس "أوراس" عندما غزاهم العرب انضم برابرة "أوراس" ومن جاورهم إلى "دهيا" هذه لما كان لها من السيادة والسلطة والدهاء، فلما غزا أفريقيا حسان بن النعمان الغساني من قبل عبد الملك بن مروان استولى على قيروان و"قرطجنة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثم سار إلى الكاهنة وحاربها عند نهر "مسكيني" على مرحلة من "باغابة" و"محانة"، فانكسر المسلمون أمامها وقتلت منهم جما غفيرا، وأسرت جماعة منهم: خالد بن يزيد القيسي، فأطلقتهم جميعا ماعدا خالد بن يزيد أبقته عندها واتخذته لها ولدا لشجاعته وشرفه. ففارق حسان أفريقيا وكتب إلى عبد الملك أن يمده بالجيوش، وأقام بعمل برقة خمس سنوات ينتظر ورود الإفادة. وفي هذه المدة ملكت "دهيا" افريقيا كلها وبعد الخمس سنوات سير عبد الملك إلى حسان الجنود والأموال، وأمره أن يناجز "دهيا" الكاهنة، فأرسل حسان رسولا سرا إلى خالد بن يزيد، فكتب إليه خالد يعرفه تفرق البربر بظلم الكاهنة ويأمره بالسرعة فسار حسان وعلمت الكاهنة فقالت: إن العرب يريدون البلاد والذهب والفضة ونحن إنما نريد المزارع والمراعي ولا أرى إلا أن أخرب أفريقيا حتى ييأسوا منها، قم فرقت أصحابها فخربوا البلاد وهدموا الحصون ونهبوا الأموال فلما قرب حسان من البلاد لقيه جم من أهلها من الروم يشكون إليه ظلم الكاهنة فسار إلى "فانيس" فلقيه أهلها بالأموال والطاعة، فجعل فيها عاملا، فسار على قعصة فأطاعه من بها، واستولى عليها وعلى "قسطيلة" ونفذ أمره وبلغ الكاهنة قدومه، فأحضرت ولديها وخالد بن يزيد وقالت لهم: إني مقتولة هذه المرة فامضوا إلىحسان وخذوا لأنفسكم منه آمانا. فساروا إليه وبقوا معه، وسار حسان نحوها فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم البربر وقتلوا قتلا ذريعا، وأدركت الكاهنة فقتلت، ثم استأمن البربر إلى حسلان فأمنهم وشرط عليهم أن يكون منهم عسكر مع المسلمين عدتهم اثنا عشر ألفا فأجابوا فجعل على هذا العسكر أحب ابني الكاهنة المذكورين. ديدرون ابنة الملك بقلوس هي ملكة "سورو" زوجة "سيته" كاهن "هركليس" الذي كان أغنى الفينيقيين على بكرة أبيهم وأجملهم خلقا وخلقا ثار أخوها "بكاليون" بزوجها فقتله طمعا في استلاب كنوزه فجزعت عليه "ديدون" جزعا عظيما، ولم تطق بعده المكث في صور ففرت مع أخيها "برقا" وثوم ممن تغيروا على أخيها زاعمة أن زوجها المقتول قد أمرها بالرؤيا أن تبارح صور وكانت قد نقلت خفية على محل اسمه "كرنا" واقع بني صور وصيدا قسما جليلا من أمتعتها وثروتها فركبت من هناك سائرة إلى شمال فينيقية فعاجت بسيرها لجزيرة قبرص، وكان يوم عيد، فرأت على الشاطء ربربا من أجمل بنات الجزيرة مجتمعا هناك للهو والمرح، فاختطف رجالها منهم وأقلعوا حتى إذا بلغوا سواحل "زوجيتا" تجاه جزيرة صقلية، استأذنت "ديدون" ملكها "برياس" في بناء قلعة فأذن لها على شريطة أن تبذل له خراجا فرضيت وبنت هناك قلعة بصرة ومعناه حصن باللغة الفينيقية فحرفه اليونان فسموها "برسا" أي جلد الثور. ثم اشترت منن ملك "موريطانيا" أرضا أنشأت فيها مدينة قرطاجنة الأفريقية، وذلك سنة 860 قبل المسيح وكان "أيارياس" قد شغف بها حبا فخطبها من نفسها ولما لم تسعها مخالفته حرصا على حياة قومها، وكانت مرتبطة مع زوجها المقتول بقسم أن لا تستبدله بآخر، طلبت مهلة ثلاثة أشهر لكي تستعد للزفاف عليه فلباها، ولكنها في نهاية المدة المذكورة علت رابية هناك وطعنت نفسها بخنجر فماتت. فكانت سيرتها موضوعا جميلا لكتبة الإفرنج يبنون عليها رواياتهم المفجعة وقد عثر المتأخرون على تمثلا ل "ديدون" منحوت بيد "كيرين" الشهير. قيل: إنه محفوظ الآن بدار الآثار في لندن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 حرف الذال ذات الخال هي في الأصل لقرين مولى العباسة بنت المهدي ويكنى بأبي الخطاب وكان يعشقها إبراهيم الموصلي وله فيها أشعار كثيرة منها قوله: ما بال شمس أبي الخطاب قد حجب ... ت يا صاحبي لعل الساعة اقتربت أولا فما بال ريح كنت آنسها ... عادت علي بصر بعد ما جنبت إليك أشكو أبا الخطاب جارية ... غريرة بفؤادي اليوم قد لعبت وأنت قيمها فانظر لعاشقها ... يا ليتها قربت مني وما بعدت وما زال يقول فيها الشعر ويغني فيه حتى شهرها بشعره وغنائه وبلغ الرشيد خبرها فاشتراها بسبعين ألف درهم. ودعت الرشيد يوما فوعدها أن يصير غليها وخرج يريدها فاعترضته جارية أخرى، فسألته أن يدخل إليها فدخل وأقام عندها، فشق ذلك على "ذات الخال" وقالت: والله لأطلبن له شيئا أغيظه به، وكانت من أحسن النساء وجها، ولها خال على خدها فقطعته وبلغ ذلك الرشيد فشق عليه وبلغ منه فخرج من موضعه وقال للفضل بن الربيع: انظر من الباب من الشعراء؟ فقال: رأيت الآن الأحنف. فقال: أدخله. فعرفه الرشيد الخبر، وقال: اعمل في هذا شيئا على معنى رسمه له، فقال: تخلصت ممن لم يكن ذا حفيظة ... وملت إلى من لا يغيره حال فإن يك قطع الخال لما تعطفت ... على غيرها نفسي فقد ظلم الخال فنهض الرشيد إلى "ذات الخال" مسرعا مسترضيا وجعل لها هذين البيتين سببا وأمر للعباس بألفي دينار وأمر إبراهيم الموصلي فغناه في هذا الشعر وغضب الرشيد عليها يوما وقال في مجلسه: أيكم يأخذ "ذات الخال" حتى أهبها له فبكر حمويه الوصيف فقال: أنا يا أمير المؤمنين فوهبا له، فقال إبراهيم: أتحسب ذات الخال راجية ربا ... وقد سلبت قلبا يهيم بها حبا وما عذرها نفسي فداها ولم تدع ... على أعظمي لحما ولم تبقي لبا ثم اشتاقها بعد ذلك الرشيد فقال لحمويه: ويلك يا حموية، وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك قال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا فمضى فاستعد لذلك واستأجر لها من بعض الجوهر بين زينة وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار، فأخرجها على الرشيد وهو عليها، فلما رآه أنكره فقال: ويلك يا حمويه من أين لك هذا وما وليتك عملا تكسب فيه مثله، ولا وصل إليك مني هذا القدر؟ فصدقه عن أمره فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرت واشترى الجوهر منهم ووهبه لها، ثم حلف أ، لا تسأله في يومه ذلك حاجة إلا قضاها فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك، وكتب له عهده به وشرط على ولي عهده أن يتمها له إن لم تتم في حياته وضموا يومهم في أحسن ما يكون، ومن قول إبراهيم فيها: أبد لذات الخال يا ثعلب ... قول امرئ في الحب لا يكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 إني أقول الحق فاستيقني ... كل امرئ في حبه يلعب وقال فيها أيضا: جزى الله خيرا من كلفت بحبه ... وليس به إلا المموه من حبي وقالوا قلوب العاشقين رقيقة ... فما بال ذات الخال قاسية القلب وقالوا لها هذا محبك معرضا ... فقالت أرى إعراضه أيسر الخطب فما هو إلا نظرة بتبسم ... فتنشب رجلاه ويسقط للجنب وقال فيها أيضا. ولكن فلنذكر السبب وهو أن إبراهيم الموصلي لعب الشطرنج يوما مع ابن زيدان صاحب البرامكة فدخل عليهما إسحاق فقال أبوه: ما أفدت اليوم؟ فقال: أعظم فائدة، رجل سألني ما أفخم كلمة في الفم فقلت: لا إله إلا الله. فقال أبوه: إبراهيم أخطأت، هلا قلت دنيا ودينا فأخذ ابن زيدان الشاه فضرب به رأس إبراهيم وقال: يا زنديق، أتكفر بحضرتي فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى وحدثه الخبر وعلم إبراهيم أنه قد أخطأ وجنى، فركب إلى الفضل بن يحيى فاستجار به فاستوهبه الفضل من جعفر فوهبه له فانصرف وهو يقول: إن لم يكن حب ذات الخال عناني ... إذا فحولت في مسك ابن زيدان فإن هذي يمين ما حلفت بها ... إلا على الصدق في سري وإعلاني ذبية بنت ثبية الفهمية كانت من أحسن بني فهم حسبا وأعرقهن نسبا، وأكثرهن أدبا، وأبهاهن جمالا، وألطفن كمالا، لها شعار لطيفة ورثاء مقبول منها: قولها ترثي قومها كانوا قتلوا بصورة وهو مكان بأراضي مكة: ألا إن يوم الشر يوم بصورة ... ويوم فناء الدمع لو كان فانيا لعمري لقد أبكت فريم وأوجعوا ... بجرعة بطن القيل من كان باكيا قتلتم نجوما لا يحول ضيفهم ... ولا يذخرون اللحم أخضر ذاويا عماد سمائي أصبحت قد تهدمت ... فخري سمائي لا أري لك بانيا ذؤابة امرأة رباح القيسي كانت -رضي الله عنها- تقوم الليل كله وكانت إذا مضى الربع الأول تقول له: قم يا رباح للصلاة، فلا يقوم، فتقوم ثم تأتيه وتقول له: قم يا رباح، فلم يقم، فتقوم الربع الآخر، ثم تأتيه وتقول: قم يا رباح فلا يقوم، فتقوم الربع الآخر، إلى تمام الليل ثم تأتيه وتقول: قم يا رباح قد مضى عسكر الليل وأنت نائم فليت شعري من غرني بك يا رباح ما أنت إلا جبار عنيد. وكانت تأخذ تبنة من الأرض وتقول: والله للدنيا أهون علي من هذه وكانت إذ صلت العشاء تطيبت ولبست ثيابها ثم تقول لزوجها: ألك حاجة فإن قال لا نزعت ثياب زينتها وصلت إلى الفجر -رضي الله عنها. حرف الراء راحاب الإسرائيلية امرأة مشهورة من "أريحاء" قبلت في بيتها الجاسوسين اللذين أرسلهما "يشوع" ليجسا الأرض وأخبأتهما عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أبناء بلدتها وأنقذتهما بحيلة كما هو مذكور في "الإصلاح الثاني من سفر يشوع" غير مطيعة لأمر الملك فكوفئت على ذلك بإنقاذها هي وكل عائلتها عندما فتح الإسرائيليون المدينة، ومن الاتفاق أن بيتها كان مبنيا على السور فأمرها الجاسوسان أن تربط خيطا من القرمز بالطاق فيكون علامة لهم على بيتها ثم صارت فميا بعد زوجة لسلمون وجدة للمسيح وقصتها مع الجاسوسين إلى غير ذلك من أخبارها مذكورة في "الإصحاح الثاني والسادس من سفر يشوع". وذكرت أيضا في "إنجيل متى" والرسالة إلى العبرانيين ورسالة يعقوب الرسول. راحيل ابنة لابان هي زوجية يعقوب وأم يوسف وبنيامين قصتها وردت في "الإصحاح تسعة وعشرين" إلى "الإصحاح ثلاثة وثلاثين". وفي "الإصحاح خمسة وثلاثين من سفر التكوين". وما جرى بينها وبين يعقوب هو من الأمور التي تلذ مطالعتها، فإن جمالها والحب الشديد الذي كان ليعقوب نحوها من حين التقيا أولا على بئر "حاران" حين قابلها على عادة أهل البادية وأخبرها بأنه ابن رفقة والخدمة المستطيلة التي خدم بها إياها بصبر حتى كانت السبع سنين عنده كأنها أيام قليلة صبا بها واتخاذه رياها زوجة أخيرا عوض أختها "لبتة" وموتها عند ولادتها ابنا ثانيا كل ذلك مما يزيد قصتها اعتبارا ولذة. ولما توفيت دفنت على طريق "أفراتة" -أي بيت لحم- وأقام يعقوب نصبا على قبرها وهو أول من نصب على قبر مذكور في التاريخ لأن أهالي تلك الأزمان كانت عادتهم إلى ذلك الوقت أن يتخذوا المقابر مدافن لهم وكان موقع قبرها معروفا في أيام "سموئيل" و"شاول" كما يستفاد من العدد الثاني من "الإصحاح" العاشر من سفر سموائيل الأول" وقد وصفها "إرميا" النبي بعبارات مؤثرة جدا: "راحيل" المدفونة تبكي على فقد بنيها وذلك لأن جماهير المسبيين الذين سيقوا إلى بابل اجتازوا بالقرب من قبرها. وقد أشار إلى ذلك "متى الإنجيلي" عند قتل "هيروس" الأطفال في بيت لحم. وأما موقع الرامة الوارد ذكرها هناك فهو من المسائل الواقعة تحت البحث عند جغرافي فلسطين ولكن موقع قبر "راحيل" على طريق بيت لحم بعيدا قليلا عن "أفراتة" في تخم بنيامين لم يقع فيه اختلاف وهو على بعد نحو ميلين إلى الجنوب من أورشليم ونحو ميل إلى الشمال من بيت لحم، وهو من الأماكن التي يزورها اليهود والمسلمون والمسيحيون تبركا به وزاره السائح "متدربل" سنة 1697م، ووصفه الدكتور "روبنصن" وصفا يتضمن ملخصة ما وصفه به السائحون الشرقيون قال: هو مزار إسلامي، أو مدفن شخص مقدس، حقير، مربع، مبني بالحجارة وله قبة وداخله قبر أشبه بقبور المسلمين المألوفة، وكله مطين بالطين من خارج، ومنظر البناء لا يدل على أنه قديم. وفي القرن السابع لم يكن هناك إلا شبه هرم من الحجارة، وأما الآن فهو مهمل وأخذ في السقوط على أن السائحين من اليهود لا يزالون يزورونه، وجدرانه مغطاة بأسماء من عدة لغات وكثير منها عبراني، واتفاق العموم على أن ذلك المقام هو قرب "راحيل" لا سبيل إلى الاعتراض عليه لأن ما ورد في الكتاب المقدس يعضده من كل وجه. وقد ذكره أيضا كثيرون من السائحين من سنة 333 للميلاد وذلك "ايرتبموس" وغيره في ذلك العصر. رادغنده ابنة برنير ملك تورتجه ملكة فرنسوية، ولدت سنة 521م، فلما قام أخوها "هرمنفدو" على أبيه وقتله واختلس الملك، نهض عليه "سيرى" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 و"كلوتيد الأول" ملك فرنسا وسلباه الملك، واقتسماه بينهما، فوقعت "رادغنده" في حصة "كلوتير" وكانت قد تربت على الوثنية وكان عمرها حينئذ عشر سنوات فأدخلها "كلوتير" في المذهب المسيحي حتى إذا تهذبت وترعرعت تزوجها سنة 538م، وألبست تاج الملك في "سواسون" وكان لها ميل شديد إلى العيشة الرهبانية، فلم تمض ست سنوات حتى استأذنت الملك في الاعتزال إلى بعض الأديرة فسمح لها ولم يكن له منها ولد وأقطعها أرضاً تعيش فيها إذا أرادت فأتت أولا إلى "بواتيه"، ثم انتقلت سنة 544م لما قاطعها فاشتهرت في "أكوتيانيا"بفضيلتها وتقواها حتى تقاطر إليها الناس وأشهر الأساقفة. وفي سنة 559م أنشأت ديرا في "بواتيه" على اسم الصليب وذلك لأن الإمبراطور "بوتينوس" كان قد أهدى إليها هدية من جملتها قطعة من خشبة الصليب ثم بنت كنيسة على اسم العذراء وأقامت تمارس الفضائل وأعمال القداسة والتقشف والزهد إلى أن توفيت في 13 آب (أغسطس) سنة 587م ودفنت تحت الخورس في الكنيسة التي بنتها ونسب إليها فعل عجائب كثيرة ونقلت جثتها إلى "ديجون" عند اكتساح العرب "أكوتيانيا" في القرن الثامن، ثم أعيدت إلى "بواتيه" بعد مدة طويلة. وقيل: لما فتح قبرها سنة 1412م كان جسدها باقيا لم يبل وبقي هناك إلى سنة 1562م ثم تلاشى وتفرقت أجزاؤه في الحروب الدينية. ولها عيد في 13 آب المذكور. وكتب كثيرون من الآباء سيرتها، ونظموا على اسمها قطعا كثيرة للترتيل، وحفظت من خط يدها رسالة بعثت بها قبل موتها بقليل إلى كل أساقفة فرنسا عنوانها وصية "راغندة". رادكليف مؤلفة إنكليزية ولدت في لندن سنة 1764م، وتوفيت سنة 1823م. وتزوجت رجلا من "أكسفرد" صاحب جريدة، واشتغلت في تصنيف قصص على طرز جديد فاشتهرت في وقت قليل بحذفها في الإنشاء وحسن أساليبها وكان مدار مواضيع هذه القصص بث انفعالات شديدة في النفس كالرعب والهول وغوامض الأسرار والأمور العجيبة الذي يقرؤها يتوهم نفسه محاطا بالخيالات والأشباح الوهمية والأرواح الجهنمية أو السماوية، ثم يظهر سرها وينكشف أمرها في آخر القصة فتنطبق على أسباب طبيعية. وقيل: إنها هي نفسها كانت تتخيل مثل هذه الخيالات المطبوعة في مخيلتها أفضى بها الأمر إلى اختلال عقلها في أواخر حياتها، ولما شاعت قصصها وتطلبها الناس برغبة صار بعض الكتبة ينشر قصصه تحت اسمها من قلمه، وإذا لم تر هذه القصص المزورة لائقة بها انقطعت عن التصنيف ولم تكتب منذ ظهورها شيئاً ويقال: إن القصة التي عنوانها "أسرار أو دلف" اشتراها منها صاحب المطبعة بمبلغ 25 ألف فرنك وترجمت كل قصصها إلى الفرنساوية. راعوث امرأة موابيه كانت أولا زوجة ل "محلون" وبعد وفاته تزوجت ب"بوعز" فولد منها "عوبيد" جد داود النبي. وهي واحدة النساء الأربع اللواتي ذكرهن القديس متى في سلسلة "ميلاد المسيح" والثلاث الأخر هن "ثاماء" و"راجاب" وزوجة "أوريا" وما جرى ل "راعوث" مذكور بطريقة لطيفة في السفر المنسوب إليها وملخصة: أنه حدث جوع شديد في أرض "يهوذا" ربما نشأ من حلول الموآبيين تلك الأرض في أيام "عجلون" فأجئ أليملك من أهالي بيت لحم "أفراتة" أن يهاجر إلى أرض مداب هووزوجته نعمى وابناه "محلون" و"كلبون" وبعد مضي عشر سنين ترملت نعمى ومات ولدها وسمعت أنه قد زالت المجاعة من أرض "يهوذا" فرجعت "راعوث" وكنتها معها لأنها كانت تحبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 جدا وتحب ديانتها فوصلت إلى بيت لحم في أيام حصاد الشعير فذهبت "راعوث" لتلقط شعيراً للقيام بأمر حماتها واتفق أنها أتت حقل "بوعز" وكان رجلا غنيا وقريبا لحميها أليملك وكان القوم قد بلغهم ما كان من صنيعها مع حماتها وأمانتها لها وتفضيلها لأرض بعلها على وطنها فأحسن "بوعز" معاملتها وأعطاها ما التقطته ثم اتخذها له زوجة فرزق منها أولاداً كان من سلالتهم المسيح وإذا كانت "راعوث" جدة نبي الله داود يستنتج أنها كانت في أواخر حبرية "عالي" أو أول حبرية "صموائيل" ومن أراد تفاصيل قصتها فليراجعها في سفر راعوث. راحيل الممثلة الشهيرة ولدت هذه الشهيرة في الرابع والعشرين من شهر مارس سنة 1821م في قرية منف من أعمال سويسرا وكان أبوها يهوديا يحمل البضاعة ويطوف بها على البيوت وكان أسامها في الصغر "أليا" ثم دعيت "راحيل" بعد أن صارت مشخصة وكان لها أخ وأربع أخوات صاروا جميعهم مشخصين. وانتقلت هذه العائلة من "سويسرا" إلى "جرمانيا"، ثم جاءت فرنسا فاستوطنت أولا بهون، ثم انتقلت إلى باريس وكانت "راحيل" وأختها "سارة" تغنيان في القهاوي والأزقة، وكان الناس يتصدقون عليهما واتفق يوما أن رآهما أحد المحسنين فعجب بهما وبالأخص ب "راحيل" وسألها قائلا من علمك الغناء؟ فأجابته" قد تعلمته بنفسي. فقال لها: وأين سمعت هذه الأغنية؟ فأجابت: قد سمعتها وأنا في الشوارع أمام الشبابيك، فحفظت منها ما أمكن حفظه فأعطاها بعض الثياب وصرفها ومن ذلك الوقت لم تعد تظهر في الشوارع. وظهرت "راحيل" أول مرة في المرسح الفرنساوي في 12 يونيو سنة 1838م، ولم يكن في المرسح سوى أربعة أو خمسة أشخاص على الكراسي وبعض اليهود في أعلى التياترو، وهؤلاء كانوا قد أتوا ليسمعوا ابنة ملتهم وقد وصف الدكتور "فرون" تلك الليلية بقوله: ذهبت ذات يوم مساء للتنزه وكان الوقت حارا قليلا شأن أيام الصيف عندنا فدخلت المرسح الفرنساوي وإذا في محل التمثيل فتاة جديدة، وقد رأيت على وجه هذه الفتاة ملامح الحذق والذكاء حتى إن كل لفتة منها كانت تأتي بمعني جديد إلى أن قال: وما أخال أحداً من القراء يجهل هذه الفتاة التي ملأ ذكرها الأسماع -ألا وهي "راحيل" الممثلة الشهيرة- ولم يأت آخر (أغوسطوس) من تلك السنة حتى ملأ صيتها باريس، وأطنب بمدحها كثيرون من أرباب الأقلام، من جملتهم "جولجانن" الشهير. وفي مدة لاتزيد عن ثلاثة أشهر توجت ملكة التمثيل وأشغلت الناس عن سواها من ممثلات تلك الأيام واعتبرها الشعب الفرنسوي غاية الاعتبار، فكانت واسطة عقد جمعياتهم وزهرها، وكانت الدعوات تأتي إليها من كل صوب حتى إنها كتبت إلى أحد أصدقائها تقول: لا يمكن للإنسان أن يأخذ حريته في معيشته إذا كان ممثلا مشهورا لدى الشعب الفرنسوي وكانت الوزراء تتردد على التياترو لسماعها والملك "لويس فيليب" أتى التياترو مرات عديدة إكراما ولها وذلك خلاف عادته ولم ينسها النجاح أهلها بل كانت تودهم كثيرا، وكتاباتها لهم مملوءة من المحبة والحنو، وكانت تود أصحابها القدماء كثيرا، وبلغها ذات يوم وفاة أحدهم فأرسلت إلى عائلته مبلغاً هائلاً من المال. وقد أحيت بتمثيلها العوائد والمناظر الرومانية واليونانية التي كان قد مضى عليها مدة طويلة في زوايا النسيان، وقد وصفها "إسكندر دوماس" الراوي الشهير بأنها ذات سلطان قوي على عقول السامعين، فتؤثر فيهم حركاتها ونظراتها وصوتها المشجى حتى كانوا يملون من الفترة بين الفصول. وذهبت "راحيل" سنة 1840م إلى إنكلترا فأطنبت الجرائد بمدحها منها جريدة "التيمس" التي قالت: "إن تأثيرها في العقول ابتدأ من أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عبارة لفظتها". وذكر أحد الذين حضروا هناك أنها كانت تظهر أمامهم بجميع المظاهر وتبين لهم القلب البشري بكل أوصافه فكانت تظهر تارة بزي القتلة، فتبدو على وجهها علامات الغضب والشر حتى لا يشك الناظر أنها قاتلة ثم تمثل دورا لطيفا فتغلب عليها طبيعة النساء وتظهر من الرقة واللطف ما يخلب الألباب، وهكذا كانت تتلاعب بالحاضرين كأنهم آلة في يدها، ومما يدل على ثباتها وعزمها ما أظهرته في تمثيل رواية "بايزيد" فإنها مثلتها أول مرة في 23 (نوفمبر) سنة 1838م، ولم تنجح فعادت بالفشل. وفي اليوم الثاني نشرت الجرائد الخبر في المدينة كلها وقام الانتقاد عليها من كل صقع وناد، ولما رأت ذلك سارت إلى صديقها "جانن" الذي مر ذكره لعلها تلطف حكمه عليها ولو قليلا فقابلها بلطف وبين لها غلطها ونصحها أن لا تقدم على تمثيل هذه الرواية مرة أخرى فقالت له: إني سأمثل هذه الرواية بعد رغما عن كل أهل باريس ومثلتها، كما قالت، فنجحت النجاح التام حتى أذهلت الحاضرين، وكان "ألفردميست" من جملة المشهرين لها فإنه كان يمدحها في الجرائد ويحث الناس على الأخذ بيدها وتنشيطها. حكي أنه صادفها ذات ليلة خارجه من التياترو الفرنساوي فدعته مع بعض الأصدقاء إلى العشاء قال: لما وصلوا إلى البيت نظرت إلى يديها فرأت أنها نسيت أساورها وخواتمها في التياترو فأرسلت خادمتها تجيء بها إليها، ولما لم يكن في بيت أبيها غير هذه الخادمة قامت هي بنفسها وذهبت إلى المطبخ ثم عادت بعد ربع ساعة ووضعت أمامها صحناً من المرق وبعض اللحم المشوي وطلبت إلينا أن نأكل من الصحون الكبيرة إذ كانت الصحون الصغيرة في الخزانة، والمفتاح مع الخادمة، وكانت وهي على العشاء تحدثنا عن حالتها الأولى وما كان أبوها عليه من الفقر وكانت والدتها وأخواتها ينظرون إليها شزرا ويشيرون إليها بأن تسكت. أما هي فأجابتهم: أنه لا عيب في الفقر بل إنها تفخر بأنها نشأت من حال كهذه ووصلت إلى ما وصلت إليه بجدها. وبعد العشاء ذهب الأصدقاء وبقيت أنا وحدي فأخذت تقرأ لي أشعار "راسين" وقد رأيت أنها تفهمها جيدا، ودامت كذلك حتى مضى نصف الليل ورجع أبوها، فلما رآها انتهرها وأمرها بأن تنام حالا فقامت والدموع ملء عينها وسمعتها تقول وهي ذاهبة: سأشتري قنديلا وأضعه في غرفتي الخصوصية حتى لا يمنعني أحد من المطالعة، فذهبت متعجبا من اجتهادها وثباتها. وذكر في موضع آخر أنه تغدى عندها ذات يوم وكان على الغداء عدة من الأصحاب فنظر أحدهم إلى يدها وقال لها: ما أجمل خاتمك! فقالت له: إذا كان قد أعجبك فسأضعه تحت المزايدة فدفع أحد الحضور خمسمائة فرنك ودفع الآخر ألفا، وهكذا حتى بلغ ثلاثة آلاف، ثم التفتت إلي وقالت لي: وأنت كم تدفع؟ فأجبتها: إني أدفع محبتي فرمت بالخاتم إلي وطلبت مني إتمام وعدي بنظم دور كانت طلبته مني. وذهبت "راحيل" إلى إنكلترا مرة ثانية سنة 1855م فشخصت في قصر الملكة فأنعمت عليها الملكة بسوار قد كتبت عليه بالألماس إلى "راحيل" من الملكة "فيكتوريا"، وأرسل إليها "دوق ولنثون" رسالة يقول فيها" إني أرسل احتراماتي إلى الماداموازل "راحيل" وقد استأجرت "لوجن" في التياترو حتى أتمكن من حضور تمثيلها. وذهبت سنة 1855م إلى أمريكا ولكنها لم تنجح لأن الأميركان لا يهتمون كثيرا بالروايات الفرنساوية لأنهم لا يفهمونها واشتد عليها مرض الصدر في نيويورك فرجعت إلى فرنسا وأشار الأطباء عليها بالقدوم إلى مصر فأتت إليها ولكنها لم تستفد كثيرا فيها لأنها شعرت بنفسها أنها وحيدة بعيدة عن أصدقائها حتى إنها كتبت إلى فرنسا تقول: إني سأموت من الوحدة لا من فعل المرض، لأني أرى حولي سوى خرائب الهياكل وأنقاض الأبنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ورجعت إلى فرنسا وزارت الملاعب التي كانت تمثل فيها، وتوفيت في الثالث من يناير سنة 1858م والإجماع على أنها ملكت أمام التمثيل فانقاد لها طوعا ومع ما كانت من أمرها فقد أظهرت في عملها من الثبات والعزم رغما عن ضيق ذات اليد ما تقصر عنه همم الرجال، وقد قالت مرارا عديدة: "إني اتخذت الصبر والثبات دستورا بمعونة الله فوصلت إلى ما وصلت إليه". رابعة الاشمية هي زوجة أحمد بن أبي الحواري. كانت من العابدات الزاهدات، وكان فضلها لا يقدر، وكراماتها لا تنكر. قال أحمد بن أبي الحواري: كانت رابعة لها أحوال شتى، فمرة يغلب عليها الحب، ومرة يغلب عليها الأنس، ومرة يغلب عليها الخوف، فسمعتها في حال الحب تقول: حبيب ليس يعدله حبيب ... وما لسواه في قلبي نصيب حبيب غاب عن بصري وشخصي ... ولكن عن فؤادي ما يغيب وسمعتها في حال الأنس تقول: ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وسمعتها في الخوف تقول: وزادي قليل ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكي أم لطول مسافتي أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي فيك أين مخافتي قال: فقلت لها مرة -وقد قامت بليل-: ما رأينا من يقوم الليل كله غيرك. قالت: سبحان الله مثلك يتكلم بهذا! إنما أقوم إذا نوديت. قال: فجلست على المائدة في وقت قيامها، فجعلت تذكرني فقلت لها: دعينا نتهنا بطعامنا. فقالت: ليس أنا وأنت ممن ينغص عليه الطعام عند ذكر الآخر. وقالت: لست أحبك حب الأزواج إنما أحبك حب الإخوان. وقالت لزوجها: اذهب فتزوج. قال: فذهبت فتزوجت وكانت تطعمني الطعام وتقول: اذهب لأهلك، وكانت إذا طبخت قدرا قالت: كلها يا سيدي فإنها ما نضجت إلا بالتسبيح. وبقيت على عبادتها إلى أن توفاها الله. رابعة ابنة الشيخ أبي بكر التجاري قال في كتاب "الجلاء الغامض": الست الفاضلة العارفة الكاملة زوجة السيد أحمد أم السيد صالح ست الغفقراء رابعة كانت سليمة الصدر، نقية القلب، لها معرفة جاذبة وحزن دائم ولا تأخذها في الله لومة لائم كانت سيرة جميلة وأوصاف حميدة سماها السيد أحمد: ست الفقراء وكناها أم الفقراء. ويقول: طاعتك على الفقراء واجبة، بكت بين يدي السيد أحمد مرة وقالت: كيف حالي بعدك أبقى أنا وحيدة ويغلق باب المسرة والابتهاج في وجهي؟ فقال -رضي الله عنه-: أهل المملكة يحبونك، وقولك مسموع، والنعمة عليك باقية. فإنقاذ أهل البيت الأحمدي لها مدة حياتها، وكانت تقف على ضريح زوجها وتكلمه وتنتظر الجواب منه فيأتيها شبيه الحلم بالجواب، وما أكرم أحد بعد وفاة زوجها بالولاية إلا وهي كانت عارفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 به سألت ربها في خلافة السيد محمد الموت فتوفيت ليلة الجمعة النصف العاشر من شهر شوال سنة 613 هـ ودفنت في القبة المباركة. رابعة ابنة إسماعيل البصرية العدوية مولاة آل عتيك كانت -رضي الله عنها- كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانا، وكانت تقول: استغفارنا يحتاج إلى استغفار وكانت ترد ما أعطاه الناس لها وتقول: ما لي حاجة بالدنيا وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنها الخلال البالي تكاد تسقط إذا مشت، وكان كفنها لم يزل موضوعا أمامها، وكان موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها، وسمعت -رضي الله عنها- سفيان الثوري يقول: وا حزناه فقالت: واقلة حزناه ولو كنت حزينا ما هناك العيش. ومناقبها كثيرة -رضي الله عنها- ومشهورة. وجاء في ترجمتها لابن خلكان: أنها كانت من أعيان عصرها وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة، وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة أنها كانت تقول في مناجاتها: "إلهي تحرق بالنار قلبا يحبك". فهتف بها مرة هاتف ما كنا نفعل هذا فلا تظني بنا ظن السوء. وقال بعضهم: كنت أهدي لرابعة العدوية فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور، وكانت تقول: "ما ظهر من أعمالي لا أعده شيئا". ومن وصاياها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم". وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب عوارف المعارف هذين البيتين: إني جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحث جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي وكانت وفاتها في سنة 135 هـ ذكره ابن الجوزي في "شذور العقود". وقال غيره سنة 185 هـ رحمها الله تعالى. وقبرها يزار وهو بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمى الطور. وذكر ابن الجوزي في كتاب "صفوة الصفوة" في ترجمة رابعة المذكورة بإسناد له متصل إلى عبدة بنت أبي شوال. قال ابن الجوزي: وكانت من خيار إماء الله تعالى، وكانت تخدم رابعة. قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر فكنت أسمعها تقول: إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة: "يا نفس كم تنامين وإلى كم تنامين يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور". وكان ذلك دأبها دهرها حتى ماتت ولما حضرتها الوفاة دعتني وقالت: "يا عبدة لا تؤذني بموتي أحدا وكفنيني في جبتي هذه" وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون قالت: فكفنتها في تلك الجبة وفي خمار من صوف كانت تلبسه ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر شيئا قط أحسن منه فقلت: يا رابعة، ما فعلت بالجبة التي كفناك فيها والخمار الصوف؟ قالت: "إن الله نزعه عني وأبدلت به ما ترينه على فطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لي بها ثوابها ويم القيامة". فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا. فقالت: "وما هدا عندما رأيت من كرامة الله عز وجل لأوليائه" فقلت لها: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب. فقالت: "هيهات هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العلا" فقلت: وبم وقد كنت عند الناس أكبر منها. قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا أو أمست فقلت لها: فما فعل بشر بن منصور قالت: "بخ بخ، أعطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والله فوق ما كان يؤمل". قلت: فمريني بأمر أتقرب به من الله عز وجل؟ قالت: عليك بكثرة ذكره يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك رحمها الله تعالى. وكان الحسن البصري توفيت زوجته فأراد زوجة فقيل له عن رابعة العدوية فأرسل إليها يخطبها، فردته وقالت: راحتي يا إخوتي في خلوتي ... وحبيبي دائما في حضرتي لم أجد لي عن هواه عوضا ... وهواه في البرايا محنتي حيثما كنت أشاهد حسنه ... فهو محرابي إليه قبلتي إن أمت وجدا وما ثم رضا ... وإعناني في الورى واشقوتي يا طيب القلب يا كل المنى ... جد بوصل منك يشفي مهجتي يا سروري يا حياتي دائما ... نشأتي منك وأيضا نشوتي قد هجرت الخلق جمعا أرتجي ... منك وصلا فهو أقصى منيتي وكانت تقول مرة: "إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل حبا لك وقصد لقاء وجهك". وتنشد: أحبك حبين حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاك فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواك وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراك فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاك رابعة بنت إسماعيل كانت تقوم من أول الليل إلى آخره، وكانت تقول: "إذا عمل العبد بطاعة الله تعالى أطلعه الجبار على مساوئ عمله فيتشاغل بها دون خلقه". وكانت تصوم الدهر وتقول: "ما مثلي يفطر في الدنيا". وكانت تقول لزوجها: "لست أحبك حب الأزواج وإنما أحبك حب الإخوان". وكانت تقول: "ما سمعت أذانا قط إلا ذكرت منادي يوم القيامة، ورأيت أهل الجنة يذهبون ويجيئون وربما رأيت الحور العين يستترن مني بأكمامهن". ومناقبها كثيرة رضي الله عنها. الرباب بنت امرئ القيس ذكر في كتاب "نور الأبصار" ما ملخصه: إن الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن مرداس الكلبي، وكان نصرانيا فأسلم وجاء إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فدعا له برمح وعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة فتولى قبل أن يصلي صلاة، وما أمسى حتى خطب منه الحسين بنته الرباب فزوجه إياها فأولدها عبد الله وسكينة وكانت الرباب من خيار النساء وأفطنهن، وخطبت بعد قتل الحسين -رضي الله عنه- فقالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقيت بعده سنة لا يظلها سقف بيت إلى أن ماتت رحمها الله. رصفة بنت آية سرية أخذها "شاول" لنفسه من غير الإسرائيليين، فولدت له "أرموني" و"مغيبوشت" وهي من النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 المشهورات في العهد القديم مثل "راعوث" و"راجاب" و"إيزابلا". والراجح على ما جاء في قاموس التوراة أنها كانت غريبة عن شعب إسرائيل يتصل نسبها بإحدى العائلات الشريفة فإن "شاول" بأخذه لها وضع عادة جرى عليها ملوك بني إسرائيل من بعده إذ كانوا يتخذون لأنفسهم السراري من غير أبناء جنسهم، وحدث بعد وفاة "شاول" ونزول الفلسطينيين شرقي الأردن أن رصفة ذهبت مع رفيقاتها من عائلة الملك إلى مقرهن الجديد في "محتايم" فوقع لها في هذا المكان حادث ذكر في التوراة، وهو أن "أشبوشت" اتهم "إبيزيا" بالدخول على سرية أبيه فأنكر "إبيزيا" ذلك. وأقام الحجة عليه، ثم أعقبت هذه التهمة حادثة أخري وهي أن "إبيزيا" قتل بخيانة "يوآب" وانتحر "أشبوشت" بعد ذلك. والغالب على الظن بناء على ما يؤخذ من إنكار "إبيزيا" ومدلول الواقعة أن التهمة المذكورة كانت محض زور وبهتان، ولم يذكر في التوراة شيء غير ذلك عن رصفة سوى ما ذكر. وبالاختصار هو أن داود لما رغب إليه الشعب في اقتضاء حقه من عائلة "شاول" وذوي قرباه مقابل ما ناله بسببهم من ضربة الجوع قال لهم: مهما قلتم لي أفعل. فقالوا له: الرجل الذي أفتانا والذين أمروه علينا يبيدونا لكيلا نقيم في كل تخوم إسرائيل، فلنعط سبعة رجال من بنيه فنطلبهم للرب في جوعة "شاول" مختار الرب فأخذ داود ابني رصفة ابنة آية اللذين ولدتهما ل "الشاول" "أرموني" و"مغيبوشت|" وبني "ميراب" بنت "شاول" الخمسة الذين ولدتهم بعد "ريئيل بن برلاري المحولي" وسلمهم إلى يد الجبونيين فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معا وقتلوا في أيام الحصاد في أولها في ابتداء حصاد الشعير، فأخذت رصفة مسحا وفرشته لنفسها على الصخر من ابتداء الحصاد حتى انصب الماء عليهم من السماء، ولم تدع طيور السماء تنزل عليهم نهاراً ولا حيوانات الحقل ليلا. رضية ملكة دهلي في بلاد الهند ابنة السلطان شمس الدين كانت من أوفر نساء زمانها عقلا وأحسنهن وجها. تعلمت فنون السياسة من صغرها، ولما بلغت حد الكمال ازدادت رونقا، وبهاء وعقلا. ولما مات أبوها السلطان شمس الدين يلمش اجتمع الناس على أخيها ركن الدين وبايعوه بالملك فافتح أمره بالتعدي على أخيه معز الدين فقتله، فانكرت عليه شقيقته رضية ذلك فأراد قتلها وأحست بذلك، فلما كان بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم ولبست عليها ثياب المظلومين وتعرضت للناس ولكمتهم من أعلى السطح وقالت لهم: إن أخي قتل أخاه ظلما وهو يريد قتلي معه. وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم، فثاروا عند ذلك على السلطان ركن الدين، وهو في المسجد، فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم: القاتل يقتل، فقتلوه قصاصا بأخيه. وكان أخوها ناصر الدين صغيرا فاتفق النسا على تولية رضية الملك، فولوها، واستقلت بالملك أربع سنين، ثم إنها اتهمت بعبد لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها. فخلعت وتزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين. رفقة ابنة بتوئيل هي أخت "لابان" وزوجة إسحاق وفي "الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين" خبر ذهاب عبد إبراهيم بأمر سيده إلى أرام النهرين ليأخذ زوجة لابنه إسحاق وما جرى له مع رفقة، وهو واقف على عين الماء لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 خرجت بنات المدينة يستقين ماء وقال: إن الفتاة التي أقول لها ناوليني جرتك لأشرب فتقول: وأنا أسقي جمالك أيضا هي التي عينها الإله لعبده إسحاق، وإذ كان لم ينته كلامه خرجت رفقة التي ولدت ل "بتوئيل" ابن ملكة امرأة نحور أخي إبراهيم وجرتها على كتفها، وكانت الفتاة حسنة المنظر جدا عذراء، فنزلت إلى العين وملأت جرتها وطلعت، فرض العبد للقائها وقال: اسقيني قليل ماء من جرتك. فقالت: اشرب يا سيدي وأسرعت وأنزلت جرتها على يدها وسقته، ولما فرغت من سقيه، قالت: أتسق لجمالك أيضا حتى تفرغ من الشرب فأسرعت وأفرغن جرتها في المستقاة وركضت أيضا على البئر لتستقي فاستقت لكل جماله والرجل يتفرس فيها طامعا ليعلم أنجح الله طريقة أم لا وحدث عندما فرغن الجمال من الشرب أن الرجل أخذ خزامة ذهب وأنها نصف شاقل، وأعطاها إياها مع سوارين وزنهما عشرة شواقل ذهب. وقال: بنت من أنت أخبريني، وهل عند أبيك مكان لنا لنبيت؟ فقالت له: أنا بنت "بتوئيل" ابنة ملكة وعندنا كل ما تشتهي من القرى فخر الرجل وسجد لله تعالى وقال: تبارك الله الذي لم يمنع لطفه وحقه عن سيدي إذ كنت أنا في الطريق هداني إلى بيت أخوة سيدي، فركضت الفتاة وأخبرته أبويها عن هذه الأمور، فجاء "لابان" أخوها إلى الرجل وهو واقف عند الجمال على العين فقال: ادخل يا مبارك لماذا تقف خارجا وأنا قد هيأت البيت ومكانا للجمال. فدخل الرجل البيت وحل عن الجمل، فأعطي تبنا وعلفا للجمال، وماء لغسل رجليه، وأرجل الرجال الذين معه، ووضع أمامه الطعام ليأكل فقال: لا آكل حتى أتكلن كلامي. فقال: تكلم. فقال: أنا عبد إبراهيم وإن الله قد أكرم مولاي جدا، فصار عظيما وأعطاه غنما وبقرا وفضة وذهبا، وعبيدا وإماء، وجملا وحميرا، وولدت سارة امرأته ولدا له أعطاه كل ماله واستحلفني سيدي بقوله لي: لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن في أرضهم بل تذهب إلى بيت أبي وعشيرتي وتأخذ منهم زوجة لولدي. ثم قص عليهم ما جرى له مع رفقة عند العين، ثم قال: إني أحمد الله الذي هداني في طريق أمين لأخذ ابنة أخ سيدي لابنه والآن إن كنتم تصنعون معروفا وأمانة مع سيدي فأعطوني ما طلبت وإلا فأنصرف يمينا أو شمالا فأجاب "لابان" و"بتوئيل" وقالا: من عند الله خرج الأمر لا نقدر أن نكلمك بشر أو بخير، هذه رفقة أمامك خذها واذهب فلتكن زوجة لابن سيدك كما أمر الله فسجد العبد للأرض وأخرج فضة وذهبا وثيابا وأعطاها لرفقة، وأعطى تحفا لأخيها وأمها، وسألوها: هل تذهبين مع هذا الرجل؟ قالت: اذهب. فأخذها ومضى وسارت معها حاضنتها بعد أن ودعوا رفقة وقالوا لها: أنت بنتنا وأختنا مهما بعدت عنا. وجاء في التوراة ما يستفاد منه أن إسحاق أحب رفقة لا، ها كانت جميلة وصنيعة طائعة لطيفة. ولما مضى عليها تسع عشرة سنة وهي عاقر صلى إسحاق لله ودعاه لأجلها فحبلت وكان في بطنها توأمان وأحبت رفقة يعقوب ولدها الثاني ولما صار إسحاق هرما من مجاعة إلى الأرض الفلسطينية بات محفوفا بخطر من جمال زوجته رفقة كما سمعت إسحاق يقول ليعصوا بكرة: ائتني بعنز واصنع لي أطعمة لآكل وأدعو لك قبل وفاتي قالت ليعقوب: اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين من المعز فاصنع لهما أطعمة لأبيك كما يحب فتحضرها إليه ليأكل حتى يدعو لك قبل وفاته، فقال إن عيصو أشعر وأنا أملس فربما جسني فأجلب على نفسي لعنة لا بركة. فقالت له: لعنتك علي يا ابني، فأجابها فألبسته ثياب عيصو الفاخرة وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جدي المعز فنال يعقوب البركة فلما أخبرت بأن عيصو توعد يعقوب بالقتل بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وفاة أبيه لغيظه منه لأنه سبقه إلى بركة أبيه دعت يعقوب إليها وأخبرته بتوعد أخيه وقالت له: فالآن يا بني اسمع لقولي وقم اهرب إلى أخي "لابان" إلى "حاران" وأمم "غنده" أياماً قليلة حتى يرتد سخط أخيك وينسى ما صنعت به، ثم أرسل فآخذك من هناك لئلا أعدمكما في يوم واحد وقالت لإسحاق: مللت حياتي من أجل بنات "حث" إن كان يعقوب يأخذ زوجته من "حث" مثل هؤلاء من بنات الأرض فلما زال حياه وسار برضا أبيه إلى فزان أران" ولم تذكر رفقة عند عود يعقوب على أبيه ولا ذكر دفنها. رقية ابنة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ولدت له من أم حبيب الصهباء التغلبية كانت من سبي الذرية الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر فاشتراها علي -رضي الله عنه- واستحظى بها فأولدها عمرا ورقية المومى إليها، فعمرو الأكبر شقيق رقية. وفي الفصول المهمة كانا توأمين وعمر عمرو هذا خمسا وثمانين سنة، وحاز نصف ميراث علي - رضي الله عنه- وذالك أن إخوته أشقاءه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا مع الحسين بالطف فورثهم. وفي الباب العاشر من "المنن" لشعراني قال: وأخبرني الخواص أن رقية بنت الإمام علي -كرم الله وجهه- في المشهد الموجود بتكيتها المعروفة بتكية السيدة رقية بمصر. وهذه التكية في غاية الإتقان والخفة والنورانية وبداخلها ضريح السيدة رقية بعلوه قبة لطيفة الصنعة، وهناك مساكن للصوفية، وحنفيات للوضوء، وجنينة صغيرة ويعمل لها مقرأه وحضرة كل أسبوع، ومولد كل سنة وشعائر هذه التكية مقامة من أوقات السيدة رقية التي يبلغ مقدارها ثلاثة عشر ألف قرش وسبعمائة قرش وثمانية عشر قرشا، واثنين وثلاثين بارة بالعلمة الأميرية المصرية. رقية بنت الفيف عبد السلام بن محمد مزرع المدينة كانت عالمة عاملة، عاقلة كاملة، صادقة الرواية، حسنة الطوية. تعلمت العلم عن جملة من العلماء الأخيار وحدثت بالإجازة عن شيوخ مصر والشام كابن سد الناس من المصريين والمزي وغيره من الشاميين وأقامت في المدينة وفتحت درسا للحديث وانتفع بها أهل الحجاز وهي من مشاهير المحدثين بتلك الأصقاع ولم يوجد مثلها من نساء ذلك الزمان رحمهما الله رحمة واسعة. رقاش ابنة مالك بن فهم بن غنم بن أوس الأسدي رقاش ابنة مالك بن فهم بن غنم بن أوس الأسدي وقيل التنوخي أخت جذيمة الأبرش. كانت من أبدع نساء زمانها وأحسنهن جمالا، وكان عدي بن نصر نديما لجذيمة الأبرش فأبصرته رقاش فعشقته وراسلته ليخطبها إلى جذيمة، وكانت على غاية من الظرف والأدب. فقال لها: لم اجترئ على ذلك ولا أطمع فيه. قالت: إذا جلس على شرابة فاسقه صرفا، واسق القوم ممزوجا فإذا أخذت الخمرة فيه فاخطبني إلهي فلم يردك فإذا زوجك فاشهد القوم ففعل عدي ما أمره فأجابه جذيمة وأملكه إياها فانصرف إليها فأعرس بها في ليلته وأصبح بالخلوق فقال له جذيمة -وأنكر ما رأى به-: ما هذه الآثار يا عيد؟ قال: آثار العرس: قال: وأي عرس؟ قال: عرس رقاش. قال: من زوجك بها ويحك؟ قال: الملك زوجنيها. فندم جذيمة وأكب على الأرض متفكرا وهرب عدي فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر، فأرسل إليها جذيمة: خبريني وأنت لا تكذبيني ... أبحر زنت أم بهجين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون فقالت: لا بل أنت زوجتني أمرا عربيا حسيبا، ولم تستأمرني في نفسي، وأنشدت: أنت زوجتني وما كنت أدري ... وأتاني النساء للتزيين ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصبا والجنون فكف عنها وعذرها. ورجع عدي على إياد فكان فيهم فخرج معه فتية يوما متصيدين فرمى به فتى ومنهم فيما بين جبلين فتكسر، فمات، فحملت رقاش، فولدت غلاما فسمته عمرا فلما ترعرع وشب ألبسته وعطرته وأزارته خاله، فلما رآه أحبه وجعله مع ولده. وخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصبه فأقام في روضة ذات زهر وثمر فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها، فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمر يقول: هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه. فضمه جذيمة إليه والتزمه وسر بقوله وأمر له بحلي من فضة طوق به فكان أول عربي ألبس طوقا. وقصة عمرو مشهورة مع الزباء وغيرها. رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت رقية ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وثلاثون سنة وكان تزوجها عتبة بن ابي لهب وتزوج أختها أم كلثوم عتيبة أخوه فما نزلت: (تبت يد أبي لهب) (المسد: 111) قال أبو لهب لهمها: رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما، وتزوج رقية عثمان بن عفان رضي الله عنه بمكة وهاجر بها الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة وكانت ذات جمال بارع، وكان فتيان أهل الحبشة يتعرضون لها ويتعجبون من جمالها فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا. وولدت لعثمان بالحبشة ولدا سماه عبد الله وكان يكنى به وبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات، وتوفيت رقية بالمدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة بدر وكان عثمان قد تخلف عن بدر لأجلها فجاء زيد ابن حارثة بشيرا بفتح بدر وعثمان قائم على قبرها وكانت وفاتها لسنة وعشرة أشهر وعشرين يوما من الهجرة. رملة بنت الزبير بن العوام كانت أخت مصعب بن الزبير بن العوام لأمه، وكانت أمها أم الرباب بنت أليف بن عبيد بن مصار الكلبي تزوجها عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خويلد فولدت له عبد الله بن عثمان، وهو زوج سكينة بنت الحسين بن علي عليها السلام، ثم تزوجها خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكان قتل ابن الزبير. ولما حج خالد بن يزيد خطب رملة بنت الزبير فأرسل إليه الحجاج صاحبه عبيد الله بن موهب وقال: ما كنت أراك أن تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني وكيف خطبت إلى قوم ليسوا كفؤا وكذلك قال جدك معاوية وهم الذين قارعوا أباك على الخلافة، ورموه بكل قبيحة، وشهدوا عليه وعلى جدك بالضلالة؟ فنظر إليه خالد طويلا ثم قال له: لولا أنك رسول والرسول لا يعاقب لقطعتك إربا إربا، ثم طرحتك على باب صاحبك قل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك على أن أشاورك في خطبة النساء. وأما قولك لي: قارعو أباك وشهدوا عليه بكل قبيح فإنها قريش يقارع بعضها بعضا فإذا اقر الله عز وجل الحق قراره كان تقاطعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وتزاحمهم على قدر أحلامهم وفضلهم. وأما قولك: إنهم ليسوا بأكفاء فقاتلك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش أيكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هشام بتزوجه صفية، وبتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد ولا تراهم أهلا لأبي سفيان فرجع إليه فأعلمه ومن شعر خالد فيها: أليس يزيد السير في كل ليلة ... وفي كل يوم من أحبتنا قربا أحن إلى بنت الزبير وقد علت ... بنا العيس خرقا من تهامة أو نقبا إذا نزلت أرضا تحبب أهلها ... إلينا وإن كانت منازلها حربا وإن نزلت ماء وإن كان قبلها ... مليحا وجدناه ماء باردا عذبا تجول خلاخيل النساء ولا أري ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا أقلوا علي اللوم فيها فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قربا أحب بني العوام طرّا لحبها ... ومن حبها أحببت أخوالها كلبا ونشزت سكينة بنت الحسين عليها السلام على زوجها عبد الله بن عثمان فدخلت رملة على عبد الملك بن مروان وهو عند خالد بن يزيد بن معاوية فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا أنه يبتذ أمرنا ما كانت لنا رغبة فيمن لا يرغب فينا· سكينة بنت الحسين قد نشزت على ابني· قال: يا رملة إنها سكينة· قالت: وإن كانت سكينة فوالله لقد ولدنا خيرهم، ونكحنا خيرهم، وأنكحنا خيرهم -تعني بمن ولدوا ففاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم-، ومن نكحوا صفية بنت عبد المطلب، ومن أنكحوا النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رملة، غرني منك عروة بن الزبير، فقالت: ما غرك، ولكن نصح لك لأنك قتلت أخي مصعبا فلم يأمني عليك· ولم تزل به حتى أصلح بين سكينة وعبد الله بن عثمان. رميصاء بنت ملحان رميصاء بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية الخزرجية النجارية، وتلقب أم سليم أم أنس بن مالك· كانت عند مالك بن النضر والد أنس بن مالك في الجاهلية فغضب عليها وخرج إلى الشام ومات هناك، فخطبها أبو طلحة الأنصاري -وهو مشرك- فقالت: إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد ولكنك كافر وأنا مرأة مسلمة فإن تسلم فلك مهري ولا أسألك غيره· فأسلم وتزوجها وحسن إسلامه فولدت له غلاما مات صغيرا وهو أبو عمير وكان معجبا به فأسف عليه، وولدت له عبد الله بن أبي طلحة -وهو والد إسحاق- فبارك الله في إسحاق وإخوته، وكانوا عشرة كلهم حمل عنه العلم· وقيل: إن أبا طلحة لما خطب رميصاء قالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد زينة من الأرض يحبرها حبشي بني فلان؟ قال: بلى، قالت: أفلا تستحي تعبد خشبة؟ إن أنت أسلمت فإني لا أريد منك الصداق غيره· قال: حتى أنظر في أمري· فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله· فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة، فتزوجها· وكانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم· وروت عنه أحاديث· وروى عنها ابنها أنس وكانت من عقلاء النساء رضي الله عنها· رولاند الفرنساوية ولدت هذه الفاضلة في 17 اذار (مارس) عام 1754م، من أبوين فقيري الحال، مختلفي الأخلاق والآراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وكانت أمها دمثة الأخلاق لينة العريكة، قانعة بهبات الباري تعالى· وكان أبوها طماعا سيء الطباع كثير التذمر والحقد على المكارم والأشراف، زاعما أنهم علة تعاسته وسبب فقره· ولذلك كان يندد بهم ككثيرين غيرهم من الفرنسويين، وتعلمت القراءة والكتابة قبل بلوغها الرابعة من عمرها، وتعلقت بالمطالعة حين لم يكن لأبويها طاقة على ابتياع الكتب لها، فأرسلاها إلى دير من الأديرة لتقتبس العلوم عن راهباته فأظهرت فهي من النجابة والبراعة في كل علم تعلمته ما جعلها فخراً لمعلماتها وقدوة لرفيقاتها، وأجادت في الموسيقى والتصوير وطالعت كل ما عثرت عليه من التواريخ ودواوين الشعر والرحلات والمقالات الدينية والعلمية والفكاهية والسياسية وبالغت في استقصاء أحوال اليونان والرومان القدماء واشتد ميلها إليهم· قيل: إن أباها وجدها ذات يوم منخرطة في البكاء من أجل أنها لم تولد رومانية وكثيراً ما كانت تتصور أمامها اليونان في سلطتهم والرومان في أوجه عظمتهم وتقابل بين أحوال ذينك الشعبين العظيمين وأحوال بلادها التي كانت قد أفرطت في الملاهي والترقي، وتهافتت على الباطل· فتنفر نفسها الأبية من الدنيا التي انغمس فيها أكابر قومها وتتمنى أن يسود الإنصاف وتسن بها الشرائع العادلة أبناء وطنها· والظاهر أن ذلك رسخ في ذاكرتها منذ نعومة أظافرها لكثرة ما كان أبوها يلقي على مسامعها من الأحاديث عن الملوك والأشراف، وهو يجول بها في شوارع باريس، ويريها قصورها الشاهقة ومبانيها الفاخرة وأشراف المدينة، وسيداتها خارجين إلى المتنزهات العمومية في عجلاتهم المذهبة بالخدم والحشم، لا هين بالأحاديث الفارغة، وخيولهم تدوس المساكين والبائسين وهم لا يبالون، ثم يقول لها: انظري يا ابنتي أين العدل والإنصاف؟ أين الآخذون بناصر الإنسانية ليقتصوا من هؤلاء البرابرة القساة ألا ترين أنهم يتوسدون الحرير والديباج، ويعيشون بالترف والعشب غارق في بحار الهموم محاط بالأتعاب يصل الليل بالنهار في الكد والكدح ليحصل الخيرية التي يتمتع بها هؤلاء العتاة؟ وخرجت من المدرسة وهي في الرابعة عشرة فجعلت أمها تمرنها على أشغال البيت فتخضع لأوامرها خضوعا تاما علما منها أن الأشغال البيتية من أهم واجبات المرأة، وكانت تبتاع لوازم بيتها بنفسها، فأكرمها البائعون لنباهتها ورزانتها، ولما بلغت سن الزواج تقاطر عليها الطلاب من كل فج، فرفضت طلبهم قائلة لوالديها: إن الطبيعة والشرائع قد اتفقت على وجوب تفضيل الرجل على المرأة فأخجل أن أختار من لا يكون أهلا لهذا المقام السامي وحدث أن أحد الأشراف دخل مخزن أبيها ورأى إنشاءاتها فدهش من براعة أساليبها، وراعه إتقان قريحتها، فكتب إليها كتابا يحثها فيه على التأليف، فأجابته لذلك بأبيات شائقة دقيقة المعنى أظهرت فيها الموانع التي تحول دون وصول المرأة إلى مثل تلك المنزلة الرفيعة، ومن ذلك اليوم جرت المكاتبة بينهما وكان لهذا الشريف ابن من أهل الطيش والجهالة فأراد أن يزوجه بها ظنا منه أن حكمتها وعزمها يهديانه سواء السبيل، فأبت ومن معرفتها بهذا الرجل تمكنت من معاشرة الأشراف رغبة في الاطلاع على شؤونهم ولكنها لم تقتبس شيئا من عوائدهم القبيحة ولا شاركتهم في آرائهم، بل زادت بهم احتقارا إذ كان دأبهم الطرب والملاهي، وهمهم التأنق بالزينة والملابس· وفي 4 شباط (فبراير) سنة 1780م، تزوجت ب"رولاند" أحد مفتشي المعامل في مدينة "ليون" وكان رجلا من ذوي الوجاهة والبراعة في العلوم جامعا بين الفضائل والمكارم، مشهوراً بالفضل والمآثر، له كتابات عديدة تدل على جودة عقله، فأقاما سنة في باريس ثم انتقلا إلى مدينة "امبان"، ثم رجعا منها إلى "ليون" حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قضت أسعد أيام حياتها وأظهرت مناقب المرأة الكاملة، فرتبت بيتها على أحسن منوال، وعكفت على تربية ابنتها وتعليمها بنفسها، وكانت إذا انتقلت إلى مصيف زوجها (في لبلاتبيه) تخصص جانبا من وقتها لزيارة المرضى والمساكين المجاورين لها وتعالجهم بنفسها لعدك وجود طبيب يعالجهم، فأحبوها محبة تفوق الوصف واشتهرت بينهم بالفضائل والفواضل· ولها على زوجها الفضل الأعظم· قال أحد أصحابه: لا أرى بين المحدثين من يشابه كانون الرماني في أكثر من "رولاند"· والحق أن يقال: "رولاند" مديون لامرأته بشجاعته ومعارفه فإنها كانت متخذة أفكاره ومعنية بأعماله وكثيرا ما كانت تصلح كتاباته وتقوم براهينه بغزارة معارفها، وقوة بيانها، واتقاد تصوراتها حتى طار صيته في بلاغة الإنشاء وقوة الكتابة· ولما بلغها نبأ الثورة الفرنسوية تلقته بالترحاب زعما منها أن الثورة أقرب طريق لسعادة فرنسا وأحسن بشرى بتبديل أحوال هاتيك الأيام بأحسن منها، فبذلت كل قواها في تحريك الخواطر إليها فلم يمض طويل الزمان حتى أضرمت نار الغيرة والحماسة في قلوب أهل وطنها وحركت زوجها وأصحابها فأداروا دولاب الثورة بمدينتهم "ليون" وعلقت آمال الشعب"دولاند" وامرأته بخلع غل الظلم عن أعناقهم، فوقف لهما جماعة من الأشراف بالمرصاد ووضعوا عليهما العيون، فما ثناهما ذلك عن عزمهما وزاد الناس حبا في "رولاند" فاختاروه نائبا عن مدينة "ليون" في مجمع الأمة الذي استدعاه "لويس السادس عشر" في بادئ الثورة فتوجه هو وامرأته في 20 شباط (فبراير) سنة 1791م، إلى باريس وكتبت مدام "رولاند" مقالة في أحوال تلك الأيام كان لها وقع عظيم· وفي آذار (مارس) سنة 1792م، انتخب زوجها وزيراً لداخلية وأعد لسكنه قصرا مفروشا مشيدا بالأثاث الفاخر ومزينا بالزينة البهية فدخلته مدام "رولاند" وكأنها خلقت له، ولم يبن إلا لها، ثم لما طلب من زوجها أن يشير على الملك بإعلان الحرب على المهاجرين وحلفائهم كتبت باسمه كتابا للملك قوي الحجة، عظيم التأثير حتى دهش زوجها من جراءتها وقوة أدلتها، ولكن كانت نتيجته خلع "رولاند" عن وظيفته ولذلك أشارت امرأته عليه أن يعرض كتابه على المجمع لتعلم الأمة سبب خلعه، ففعل، فعد ضحية لحب الوطن ثم طبع الكتاب ووزع نسخا عديدة في كل أنحاء المملكة، فهاجت الأمة بأجمعها حتى التزم الملك أن يرجعه إلى منصبه، فكانت زوجته سبب خلعه ثم نصبه ثانيا· واتفق أم الجاكويين اجتهدوا أيام كانت العائة الملكية في السجن أن يهيجوا الشعب لينتقموا من مدام"رولاند" بدعوى أن لها دخلا في المكيدة التي كان يقصد بها تخليص الملك وإرجاعه إلى عرش الملك وتكلف بإتمام ذلك رجل لئيم يسمى "أشيل فيارد" لأظهر حزم "الجيرونديين" وهو يقصد باطنا أن يتجسس أعمالهم ويدبر على مدام"رولاند" مكيدة فكان حذراً حذرها منه فأوجست منه خيفة وأبعدته عنها احتقارا واستصغارا ومع ذلك فقد نجح باتهامها أمامك الجمع أنه كان بينها وبين أصحاب النفوذ في فرنسا وغيرها مراسلة سرية واتفاق على إنفاذ الملك فاستدعاها ديوان "الكونقاتسيون" لمرافعة خصمها والمدافعة عن نفسها فدخلت المحفل وكان غاصا بالجماهير وهم يحتدمون غيظا، وقد علا لغطهم، فلما جلست سكتت الضوضاء وأحدقت بها الأنظار، فدافعت عن نفسها وعن أصحابها دفاع أهل الحق والشيمة والشهامة، فبرأت نفسها وتلعثم لسان خصمها عن الكلام فرجع بصفقة خاسرة وأشار الرئىس أن يظهر الأعضاء علامات اعتبارهم لها، فهنأها الجميع وصفقوا لها استحسانا، وكان ذلك أمر من العلقم على أعدائها " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كدانتون" و"مارت" و"روبس بير"· أما "روبس بير" هذا فهو الذي خلصت حياته من القتل لما ثار الشعب وأرادوا قتله حنقا عليه ففر مذعورا وقصدته مدام "رولاند" وزوجها في منتصف الليل وخبأته في بيتها ثم استعانت على خلاصه بصديق لهما بعيد النفوذ والسطوة فبرأه قبل صدور الحكم عليه فما كان من "روبس بير" إلا أنه قابل الإحسان بالإساءة فصار أشد العاملين على مدام "رولاند" وقتلها حتى قال "لامرتين" الشهير في صدد ذلك: "لا شك أن مدام "رولاند" ذكرت في سجنها الليلة التي خلصت حياة "روبس بير" فيها فإن كان هو أيضاً ذكرها وهو في أعلى مجده وقوته فلا ريب أن ذكرها له كان عليه أشكى من وقوع السهام"· ولا يخفى ما ألم بحزب الجيروندين بعد ذلك وما كان نصيبهم من الثورة ففي 31 أيار سنة 1793م، أودعت مدام "رولاند" السجن فصبرت على مشاقه كما صبرت وثبتت على الأهوال، ورتبت أحوال معيشتها فيه جاعلة لكل ساعة من النهار شغلا خصوصيا فعنيت وقتا لدرس اللغة الإنكليزية وآخر لإنشاء مقالات سياسية وآخر للتصوير، وجعلت معظم همها تشجيع قلوب المسجونين ومساعدتهم بما كان يغض عن حاجاتها من المال· وفي تشرين الثاني (أكتوبر) حكم عليها بالقتل فسيقت للذبح مكتوفة اليدين وعلامات الشجاعة تلوح على وجهها، فلما صارت بمرأى من تمثال الحرية وكان منصوبا حيث المسلة المصرية اليوم التفتت إليه وقالت: أيتها الحرية كم من ذنب يرتكبه الناس باسمك اليوم أيتها الحرية انظري كيف يتلاعبون باسمك· ويقال: إنها طلبت قلما وقرطاسا لتخط ما جال في خاطرها وهي أمام الجلاد فلم تعطهما وضربت عنقها وهي في التاسعة والثلاثين من عمرها فكان موتها سبب انتحار زوجها كما عرف من ورقة وجدت في جيبه بعد موته وقد كتب عليها لم يعد لي صبر على البقاء بعد موت امرأتي في عالم ملوث بالآثام· رحمة زوجة نبي الله أيوب عليه السلام هي بنت أفرايم بن يوسف بن يعقوب عليهما السلام· كانت من النساء الصالحات، الطائعات لأزواجهن، وقد اتصفت من دون النساء بالصبر الجميل على بلاء زوجها أيوب عليه السلام حيث لم يبق له مال ولا ولد ولا صديق، ولا أحد يقر به غيرها فإنها صبرت معه على مضض ذام البلاء الشديد وكانت تسأل وتأتيه بطعام وشراب ويبيتان يحمدان الله سبحانه وتعالى ويرجوان منه عفوا على ما نالهما من البلاء، فلما كانت في بعض الأيام وهي تسأل كعادتها إذ تمثل لها إبليس في صورة رجل فقال لها: زين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذاك يحك قروحه، وتردد الديدان في جسده· فلما سمع منها طمع أن تكون كلمة جزع فوسوس لها وذكرها ما كانت فيه من النعيم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه اليوم من الضر وإن ذلك لا ينقطع عنه أبدا فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتى بسخلة وقال لها: ليذبح أيوب هذه لي وسيبرأ، فجاءت تصرخ وقالت: يا أيوب إلى متى يعذبك ربك ولا يرحمك أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين ثوبك الحسر قد تغير وصار مثل الرماد؟ وأين جسمك الحسن الذي قد بلي يتردد فيه الدود؟ اذبح هذه السلخة واسترح· فقال لها أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك فأجبته، أرأيت ما تبكين عليه مما كنا فهي من المال والولد والصحة من أنعم علينا به؟ قالت: الله· قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة· قال: فمنذ كم ابتلانا الله؟ قالت: منذ سبع سنين· قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك· ألا صبرت في هذا البلاء الذي ابتلانا به ربنا كما كنا في الرخاء، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة كما أمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وشرابك الذي تأتيني به على حرام لا أذوق مما تأتيني به بعد إذ قلت هذا، فاغربي عني لا أراك، فطردها· فما رأى أيوب امرأته وقد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق وخر لله ساجدا وقال: رب (أني مسني الضر) (الأنبياء: 83) ، ثم رد الأمر إلى ربه فقال: (وأنت أرحم الرحمين) (الأنبياء: 83) فأوحى الله إليه أن اركض برجلك فركض فنبعت عين ماء فاغتسل فلم يبق من دائه شيء ظاهر إلا سقط بأثره، وأذهب الله عنه وكل ألم وداء كل سقم وعاد عليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل مما مضى، وجعل يلتفت يميناً وشمالاً فلم ير شيئا مما كان من أهل وولد ومال إلا وقد ضاعفه الله تعالى، فخرج حتى جلس على مكان مشرف· ثم إن "رحمة" قالت: أرأيت إن كان قد طردني إلى من أكله أأدعه حتى يموت جوعاً وعطشاً ويضيع فتأكله السباع، فوالله لأرجعن إليه ثم رجعت فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت تعرف وإذا هي قد تغيرت فجعلت تطوف حول هذه الكناسة وتبكي وذلك بمرأى من أيوب فأرسل إليها أيوب فدعاها وقال لها: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت، وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على هذه الكناسة لا أدري أضاع أم ماذا فعل به؟ فقال أيوب عليه السلام: ماكان منك؟ فبكت، وقالت: بعلي، فهل رأيته؟ فقال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه ثم إنها جعلت تنظر إليه· وقالت: أما إنه أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فأنا أيوب آمرتيني أن أذبح لإبليس فإني أطعت الله وعصيت الشيطان فرد علي ما ترين فاعتنقته فقيل: إنها ما فارقته من عناق حتى مر بها كل ما كان لهما من المال والولد· فلما برأ أيوب أراد أن يبر يمينه بأمن يجلد "رحمة" فأمر هـ الله أن يأخذ من جماعة الشجر مبلغ مائة قضيب خفافا لطافا ويضبرها ضربة واحدة كما قال الله تعالى: (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) (ص: 44) · وقيل: كانت "رحمة" تكسب له ما تعمل للناس فتبيعه وتجيئه بقوته، فلما طال عليها البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها أحد، التمست يوما من الأيام تطعمه فما وجدت شيئا فجزت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته الخبر فحزن عليها وشكر صنيعها· روشنك ابنة الدهقاء أوزبرت كانت مشهورة بالجمال تزوجها إسكندر المكدوني، ولما مات كانت حاملا ووضعت لثلاثة أشهر من موته ولدها إسكندر الملقب "إيروس" واتفقت مع "برديكاس" وقتلا "ستايترا" زوجة إسكندر لأنها كانت تحاول منع تنصيب ابنها "إيفوس" فصفا له الملك بالإرث من أبيه، ثم اتحدت مع "أولبياس" على "فيليبس أرديوس" وامرأته "أوريدبكي" ثم جعلت نفسها تحت حماية "يوليسرخون"، ولما وصل "كاسندر" اعتصمت بمدينة "بيدنا"، ولما أخذت هذه المدينة وقتل "أولبياس" حبسها "كاسندر" في "أمغيبولبس" وبها قتلت هي وابنها سنة 311 قبل الميلاد· والمشهور في تواريخ العرب أن "روشنك" هي ابنة "دارن الأصغر" ملك الفرس ظفر به الإسكندر· قال ابن الأثير: إن الإسكندر لما وجد "دارن" وقد ضربه حاجباه الضربة القاضية أخذه وأسند رأسه إلى حضنه وكلمه كلاما باللطف والاحترام، وطلب أن يوصي بما يريد، فأوصاه بأن يتزوج ابنته "روشنك" ويرعى حقها ويعظم حقها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممن قتله، ففعل الإسكندر كل ذلك وبنى ل "روشنك" مدينة بالسواد وقيل: إنه جعل هيئة زفافها إليه على النسق الشرقي وإنها قالت بعد موته: ما كنت أظن أن قتل "دارن" يقتل· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ريا بنت الغطريف السلمي كانت ذات جمال باهر وأدب ظاهر ولها معرفة بأشعار العرب، وكانت تقول الشعر الجيد، عشقها عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري علقها بمسجد الأحزاب في المدينة المنورة يوم منتزه إذ هو جالس في المسجد ودخل عليه نسوة وفيهن جارية لم ير مثلها فوقفت وقالت: ما تقول في وصل من يطلب وصلك ثم مضت ولم يعرف لهاخبر، فلما كان في اليوم الثاني توجه إلى مسجد الأحزاب وجلس في المكان الذي كان فيه بالأمس وإذا بالنسوة قد أقبلن ولم ير الجارية فيهن فقلن له: ما ظنك بطالبة وصالك؟ فقال: وأين هي؟ قلن له: مضى بها أبوها إلى السماوة فأنشد: خليلي رياقد أجد بكورها ... وسارت إلى أرض السماوة عيرها خليلي قد غشيت من كثرة البكا ... فهل غيري عبرة أستعيرها وتوجه إلى أبيها هو وصاحب له فأكرم وفادتهما وسألهما عن أمرها وقال: اذكرا حاجتكما فأخبراه بخطبة عتبة إلى ابنته فقال: ذلك إليها فدخل وأخبرها بذلك فأجابت، وشكرت له عتبة، فقال: قد نمى إلى أمرك معه وأقسم لا أزوجك به فقال: إن الأنصار لا يردون ردا قبيحا فإن كان ولابد فاغلظ عليهم المهر فقال: نعم، ما أشرت به ثم خرج فقال: قد أجبت ولكن على ألف دينار وخمسة آلاف درهم خهجرية ومائة ثوب من الأبراء والخز، وخمسة أقراص من العنبر، فضمنا ذلك وقالا له: إذا أحضرناها لك أجبت؟ قال: أجبت· فأحضروا له ذلك فأولم أربعين يوما، ثم أخذخا ومضى، فلما قارب المدينة خرج عليه خيل كثيرة فقاتل عتبة حتى قتل فحين علمت ريا بموته جاءت وبكت بكاء مرا حتى أبكت عليه من كان حاضرا، وأنشدت: تصبرت لا أني صبرت وإنما ... أعلل نفسي أنها بك لاحقة ولو أنصفت روحي لكانت إلى الر ... دى أمامك من دون البرية سابقة فما أحد بعدي وبعدك منصف ... خليلا ولا نفس لنفسي موافقة ثم شهقت شهقة فماتت فوار وهما التراب في قبر واحد فنبت على قبرهما شجرة فسموها شجرة العروسين· ومن قول عتبة فيها: أراكم بقلبي من بلاد بعيدة ... تراكم تروني في القلوب على البعد فؤادي وطرفي يأسفان عليكم ... وعندكم روحي وذكركم عندي ولست ألذ العيش حتى أراكم ... ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد وقوله فيها أيضا: يا لرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النوى طربا ما إن يزال غزال فيه يظلمني ... يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا يخبر الناس أن الأجر هيمه ... أو أنه طالب للأجر محتسبا لو كان يبغي ثوابا أتى ظهرا ... مضمخا بفتيت المسك محتقبا ريا ابنة مسعود بن رقاش العشيري التغلبي من ربيعة كانت ذات ظرافة وفراسة ومعرفة وحسن· نشأت مع الصمة بن عبد الله بن مسعود صغيرين وكانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 يتذاكران الأدب وملح الأشعار، ونوادر السير والأخبار حتى صارت أعجوبة زمانها ونادرة أوانها، فأعجب بها وتمكنت منه محبتها، ولم يكن عندها منه مقدار ما عنده منها، فما شكا ما يجد منها إلى بعض أصدقائه أرشده إلى تزوجها فخطبها إلى عمه، فأنعم على مائة من الإبل، فمضى إلى أبيه فأعطاه تسعا وتسعين، فأبى مسعود إلا التمام وعبد الله إلا ذلك، وحلف كل على ما قال، وأوقفوا الأمر، فحملت الصمة الأنفة على أنه خرج عنها إلى العرا فقالت ريا: ما رأيت رجلا أضاعه أبوه وعمه بعير إلا الصمة -لما عندهما من العلم بحبه لها· وفد رجل يقال له: علي غاوي، فخطب منه ريا وأمهرها ثلثمائة ناقة برعاتها فزوجه بها فحملها إلى مذحج، فبلغ ذلك الصمة فلزم الوساد وقال: زمن ذكر دار بالرقاشين أعصفت ... به بارحات الصيف بدأ ورجعا حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وسعيا كما معا فما حسن أن يأتي الأمر طائعا ... ويجزع إن داعي الصبابة أسمعا كأنك لم تسمع وداع مفارق ... ولم تر شعبي صاحبين تقطعا بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق تحتي نزعا تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... رجعت من الرصغاء ألوي وأجزعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكراك ما كففت للعين مدمعا فقالت بلى والله ذكري لو أنه ... تضمنه صم الصفا لتصدعا وقد سمع امرأة تنادي ابنتها: يا ريا، فسقط مغشيا عليه، فاحملوه إلى بستان هناك وأضجعوه، فلما أفاق أنشد: يعز بصبر لا وجداك لا ترى ... سنام الحمى إحدى الليالي الغوابر كأن لساني من تذكري الحمى ... وأهل الحمى يهتف به ريش طائر ولم يزل يرددها حتى قضي عليه، ولما وصل خبره داخلها من الوجد ما أمسكت معه عن الطعام والشراب وجعلت تبكيه حتى ماتت· ومن لطيف شعره فيها قوله: ألا من لعين لا ترى قلل الحمى ... ولا جبل الآثال إلا استهلت ألا قاتل الله الحمى من محلة ... وقاتل دنيانا بها كيف ولت غنينا زمانا باللوى ثم أصبحت ... براق الهوى من أهلها قد تخلت فما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف اللوى من حيث لم تك ضنت تمنت أحاليب الرغاء وخيمت ... بنجد ولم يقدر لها ما تمنت إذا ذكرت نجدا وطيب ترابها ... وبرد الحصى من أرض نجد أرنت ريطة بنت عاصم بن عامر صعصة وكانت شاعرة فصيحة، جميلة المنظر، لطيفة المخبر، عذبة المنطق· لها رثاء مقبول لا بأس فيه منه ما قالته في قومها وكانوا قد أصيبوا في يوم من أيام العرب· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقفت فأبكتني ديار أحبتي ... على رزئهن الباكيات الحواسر غدوا بسيوف الهند وراد حومة ... من الموت أعيا وردهن المصادر فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا ... بدار المنايا والقنا متشاجر ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدت ولكن يحمل الرزء عامر ريطة بنت العجلات بن عامر بن برد منبه هي أخت عمرو بن العجلان بن عامر الهذلي قتله بنو فهم في بعض غزواته فقالت أخته ترثيه: كل امرئ لمحال الدهر مكذوب ... وكل من غالب الأيام مغلوب وكل حي وإن عزوا وإن سلموا ... يوما طريقهم في الشر عبوب أبلغ هذيلا وأبلغ من يبلغها ... عني رسولا وبعض الظن تكذيب بأن ذا الكلب عمرا خيرهم نسبا ... ببطن شريان يعوي حوله الذيب الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... معجز من نجيع الجوف أسلوب التارك القرن مصفرا أنامله ... كأنه من نجيع الجوف مخضوب تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب والمخرج العاتك العذراء مذعنة ... في السبي ينفح من أردانها الطيب وكانت ريطة هذه من نساء العرب الموصوفات بالأدب والفصاحة والحماسة، لم يكن في زمانها أحسن منها سيرة وأعذب منطقا، وألطف شارة· لها جملة مراث غير هذه ولم تمكث زمنا أخيها وذلك لحزنها عليه· حرف الزاي زبيدة بنت جعفر بن المنصور العباسي هي امرأة هارون الرشيد وأم ولده محمد الأمين· كانت ذات معروف وخير وفضل ونفقة واسعة على البر وأصحاب الحاجات وقصة حجها وما فعلته في طريقها من الإحسان مشهورة في كتب التواريخ شهرة عظيمة فوق ما كان لها من شهرة الشرف والثروة الواسعة فإنها جمعت شرف الخلافة من أطرافها فأبوها ابن خليفة، وعمها المهدي خليفة، وزوجها أشهر الخلفاء وابنها خليفة أيضا، ولذلك قد كثرت عنها الحكايات والأخبار في كتب العرب· قال ابن الجوزي: إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وإنها أسالت المياه عشرة أميال بحط الجبال ونحت الصخور حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة· فقالت: اعملها ولو كلفت مشربة الناس دينارا، وكان لها مائة جارية تحفظن القر ولكل واحدة ورد عشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن· وقيل: كان اسمها أمة العزيز فلقبها جدها المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها· قال ابن الأثير: وكان مولد زبيدة بقصر حرب وهو قصر بناه حرب بن عبد الله من أكابر قواد المنصور حينما وجهه المنصور مع ولده جعفر أبي زبيدة ليكون نائبا عن مالك بن الهيثم في ولاية الموصل وهذا القصر بأسفل الموصل وتزوج بها الرشيد سنة 165 هجرية، كان يحبها كثيرا ويكرمها غاية الإكرام، وكانت شديدة البر به والاحتفاظ على رضاه، ولم يكن يمنع عنها شيئا من كل ما تطلبه من نفقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وما يتعلق بها وبغيرها مما يسرها وينفعها غير أنها بعد تلك الكرامة والعزة والأبهة أصبحت بعد موت الرشيد في حالة سيئة من الكآبة والذل وخفض الجناح، وذلك لما وقع بين الأمين والمأمون من الفتن ولاسيما بعدما قتل ولدها الأمين في تلك الأثناء، وقد كتبت للمأمون بأبيات ترثي بها سوء حالها بعد فقد ولدها وهي: لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفون ومحجر وقد مسني ضير وذل كآبة ... وأرق عيني يا ابن عمي تفكري وهمت لما لاقيت قد مصابه ... فأمري عظيم منكر عند منكر سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المتضير المقهر وأرجو لما قد مر بي فقده ... فأنت لبيتي خير رب معمر أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر وذلك لأن طاهر بن الحسين هو الذي قام بحرب الأمين وكان السبب في قتله: فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... وأنهب أموالي وأخرب أدوري يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق أعور فإن كان ما أبدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر وقالت زبيدة أم جعفر ترثي ولها الأمين: أودي بألفين من لم يترك الناسا ... فامنح فؤادك عن مقتولك الياسا لما رأيت المنايا قد قصدن له ... أصبن منه سواد القلب والراسا فبت متكئا أرعى النجوم له ... أخال سنته بالليل قرطاسا والموت كان به والهم قارنه ... حتى سقاه التي أودى بها الكاسا رزئته حين باهيت الرجال به ... وقد بنيت به للدهر أساسا فليس من مات مردودا لنا أبدا ... حتى يرد علينا قبله ناسا فلما قرأها المأمون بكى وقال: أنا الطالب بثأر أخي قتل الله قتلته، ثم إن المأمون عطف على زبيدة فجعل لها مكانا في قصر الخلافة وأقام لها الوظائف والخدم والجواري، وكانت حاضرة عند دخوله الغرفة التي زفت إليه بها بوران بنت الحسن، وطلبت لها بوران منه الإذن بالحج فأجابها إلى طلبها، وألبست بوران بيدها قسما من ملابسها· وأما ححجتها المشهورة فقيل: أنفقت فيها في بناء المساجد والصدقات ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وأجرت الماء من دجلة إلى عرفات، ثم إلى مكة حتى سقت أهلها -كما مر- وهذه مبالغة عظيمة فالماء الذي أجرته إلى مكة ليس من دجلة قيل: وأجرت نبع العرعار من جبل لبنان إلى بيروت حتى وصل إلى وادي المكلس فبنوا له طبقات فناطر حتى جرى الماء فوقها إلى جانبه الآخر وتطرق إلى بيروت لأنها كانت قد مرت من هناك في حجتها -المذكورة- فوجدت الماء قليلا وإلى الآن يقال لهذه القناطر: قناطر زبيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والأرجح أن بانية هذه القناطر إنما هي زنوبية ملكة تدمر المعروفة باسم زبيدة أيضا ولها آثار كثيرة من مثل ذلك تدعى الزبيدية غالبا نسبت إليها منها بركة في طريق مكة بين العقيق والعذيب بها قصر ومسجد عمرتهما من مالها، ومحلات ببغداد مشهورة أيضا باسمها، ولكثرة مالها وسعة نفقتها ضرب المثل الحريري بقوله: "لو حبتك شيرين بجمالها وزبيدة بمالها"· ومما يحكى عن حلمها وحسن أخلاقها وفهمها أن أحد الشعراء مدحها بقصيدة يقول من جملتها: أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب فهم الخدم بضربه وطرده وكانت هي خلف الستارة تسمعه فقالت: دعوه لأنه لم يرد إلا خيرا، ولكنه أخطأ الصواب، فإنه سمع شمالك أندى من يمين غيرك وقفاك أحسن من وجه سواك فظن أن الذي ذهب إليه من ذلك القبيل أعطوه ما أمل، ونبهوه على ما أهمل· وأخبارها كثيرة منها: أنه حصل جفاء بينها وبين المأمون يوما فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره بأن يقول أبياتا تعطفه عليها فقال: ألا إن ريب الدهر يدني ويبعد ... ويؤنس الآلاف طورا ويفقد أصيبت بريب الدهر مني يدعلت ... فسلمت للأقدار والله أحمد وقلت لريب الدهر إن ذهبت يد ... فقد بقيت والحمد لله لي يد إذا بقي المأمون لي فالرشيد لي ... ولي جعفر لم يفقدا ومحمد فلما سمع المأمون هذه الأبيات حسن موقعها عنده وأحسن إليها وبكى وقام من وقته إليها، وأكب عليها وقبلت يديه وقال لها: ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لم يكن إغفاله؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها· قال الحسن بن إبراهيم بن رباح: كان مخارق المغني يهوى جارية لأم جعفر يقال لها: نهار ويستر ذلك عن مولاتها حتى بلغها ذلك فأقصته ومنعته عن المرور ببابها، وكان بها كلفا، فلما بلغه الخبر أن أم جعفر علمت حبهما قطعتها وتجافاها إجلالا لأم جعفر وطمعا في السلو عنها، وبقي على ذلك حتى ضاق ذرعه وبينما هو ذات ليلة راكب في زلال، وقد انصرف من دار المأمون وأم جعفر وكان يشرف على دجلة إذ جاز دارها فرأى الشمع يزهر فيها، ولما صار بمسمع منها ومرأى اندفع يغني: إن يمنعوني ممري قرب دارهم ... فسوف أنظر من بعد إلى الدار سيما الهوى اشتهرت حتى عرفت بها ... أني محب وما بالحب من عار ما ضر جيرانكم والله يصلحهم ... لولا شقائي إقبالي وإدباري لا يقدرون على منعي ولو جهدوا ... إذا مررت وتسليمي بأشعاري فقالت أم جعفر: مخارق والله ردوه فصاحوا به قدم، فقدم، وأمره الخدم بالصعود فصعد، وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها النبيذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنينه، ثم ضربت عليه فغنى وكان أول ما غنى به: أغيب عنك بود ما يغيره ... نأي المحب ولا صرف من الزمن فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهم والحزن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قد حسن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسنا ما ليس بالحسن ولما انتهى من غنائه اندفعت نهار فغنت كأنها تباين وإنما قصدها إجابته عن معنى ما عرض لها به: تعتل بالشغل عنا ما تلم بنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن ففطنت أم جعفر أنها خاطبت بما في نفسها فضحكت وقالت: ما سمعنا بأملح مما صنعتما ووهبتها له: ومنها ما قاله أبو العتاهية عن نفسه قال: لما جلس الأمين بالخلافة أنشدت أبياتا هي: يا ابن عم النبي خير البرية ... إنما أنت رحمة للرعيه يا أمين الهدى الأمين المصفى ... بلباب الخلافة الهاشميه لك نفس أمارة لك بالخي ... ر وكف بالمكرمات نديه أن نفسا تحملت منك ما حم ... لت للمسلمين نفس قويه وبعد فراغه من الأبيات ذهب لأم جعفر فقالت له: أنشدني ما أنشدت أمير المؤمنين، فأنشدها فقالت: أين هذا من مدائحك في المهدي والرشيد؟ فغضب وقال لها: أنشدت أمير المؤمنين ما يستملح وأنا القائل فيه: يا عمود الإسلام خير عمود ... والذي صيغ من حياء وجود والذي فيه ما يسلى ذوي الأح ... زان من كل هالك مفقود والأمين المهذب الهاشمي ال ... قرم محض الآباء محض الجدود إن يوما أراك فيه ليوم ... طلعت شمسه بسعد السعود فقالت لي: الآن وفيت المديح حقه، وأمرت لي بشعرت آلاف درهم· قال محمد بن الفضل: كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة مائة ألف دينار جددا، وألف ألف درهم فكانت تعطي أبا العتاهية منها مائة دينار وألف درهم فأغفلته سنة، فرفع رقعة إلى محمد بن الفضل وقال له: ضعها بين يديها فوضعه، وكان فيها: خبروني أن في ضرب السنه ... جددا بيضا وصفرا حسنه سككا قد أحدثت لم أرها ... مثل ما كانت أرى كل سنة فقالت: إنا والله أغفلناه فوجهت إليه بوظيفة على يدي ابن الفضل -المذكور- ولها أخبار كثيرة خلاف هذه وكانت وفاتها ببغداد في جمادى الأولى سنة 216 هجرية رحمها الله تعالى· زبيدة القسطنطينية يه ابنة أسعد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حمزة الحنيفية ذكرها المرادي من جملة مشاهير أبناء القرن الثاني عشر للهجرة وقال: هي أم الفطنة الشاعرة المشهورة وصاحبة الديوان، الأديبة الفاضلة، الكاملة الحاذقة· ولدت بالقسطنطينية ونشأت بكنف والدها شيخ الإسلام المولى أسعد مفتي الدولة العثمانية وقرأت القرآن واشتغلت بأخذ الفنون وقرأت الفقه واللغة والآداب ونظمت الشعر الفارسي والتركي، وتعلقت على الأدب، واشتهر ذكرها وشاع صيتها وكانت تخترع كل معنى مبتكر تحاربه الألباب، وامتدحت سلاطين وقتها ووزرائه، واشتغلت بمطالعة الكتب واتصل بها المولى الرئيس ودرويش عبد الله نقيب الأشراف وقائد العساكر، وتنافس الناس بشعرها وتداولته الأيدي - وكانت وفاتها في ذي القعدة سنة 1194م· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 زباء نائلة بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العمليقي ملك الجزيرة ومشارق الشام كان جذيمة الأبرش قتل أباها فملكت هي بعده ونهضت بالأخذ بثأره من جذيمة قيل: وكانت مملكتها من الفرات إلى تدمر وجنودها بقايا العمالقة وغيرهم، فلما استجمع لها الأمر واستحكم ملكها تأهبت لغزو جذيمة فقالت لها أختها -وكانت عاقلة-: إن غزوت جذيمة فإنما هو يوم له ما بعده والحرب سجال، ثم أشارت عليها بترك الحرب وإعمال الحيلة فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها، وقالت له: إن ملك النساء قبح في السماع وضعف في السلطان، وإنها لم تجد لملكها ونفسها كفؤا غيرك· فلما وصله الكتاب وهو ببقة من شاطئ الفرات استدعى خواصه واستشارهم في الأمر فأجمع رأيهم على أن يسيروا إليها ويستولي على ملكها ويتزوجها، وكان فيهم رجل يقال له: قصير بن سعد من قبيلة لخم وهو ابن جارية لجذيمة كان أبوه تزوجها، وكان أديبا حازما ناصحا لجذيمة، مقربا إليه فخالفهم فيما أشاروا به وقال: رأي فاتر، وعدو حاضر· وقال لجذيمة: اكتب إليها إن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تمكنها من نفسك، وقد وترتها وقتلت أباها فقال جذيمة: رأيك في الكن لا في الضح (أي في البيت لا في الخارج) ثم دعا بابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال: إن قومي مع الزباء فإذا رأوك صاروا معك· فأطاعه فقال: قصير لا يطاع لقصير أمر ثم إن جذيمة استخلف على الملك عمرو بن عدي وعلى خيوله عمرو بن عبد الجن وسار في وجوه أصحابه ومعهم قصير فلما أبعدوا قليلا قال لقصير: ما الرأي؟ قال: ببقة تركت الرأي، ثم استقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطر يسير وخطب كبير وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فإن المرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك فأحاطت بك فإن القوم غادرون فاركب العصا فإني راكبها ومسايرك عليها (والعصا فرس كانت لجذيمة لا تجاريها الخيل) · فلما لقيته الكتائب حالت بينه وبين العصا فركبها قصير ونظر إليه جذيمة موليا على متنها فقال: ويل أمه، حزما على متن العصا ما ضل من تحري العصا! فلما وصلوا به أدخلوه على الزباء فأجلسته على نطع وأمرت بطشت من ذهب وسقته الخمر بكثرة، ثم أمرت براهشية فقطعا وقدمت إليه الطشت وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطشت طلبه بدمه وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة تكرمه للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه خارج الطشت فقالت: لا تضيعوا دم الملك· فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله، ثم هلك جذيمة على هذا الحال· وأما قصير فقد جرت به العصا إلى غروب الشمس، وقد قطعت أرضا بعيدة، وقد سقطت به ميتة فدفنها وبنى عليها بناء وسار حتى دخل على عمرو بن عدي وقال له: تهيأ ولا تطل دم خالك فقال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو، وكانت الزباء قد سألت كهنتها عن أمرها وكيفية موتها فقالوا لها: نرى قتلك يكون على يد عمرو بن عدي فحذرت عمرا من ذلك اليوم واتخذت لنفسها سربا من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها حتى إذا فاجأها أمر دخلت السرب ومضت إلى الحصن، ثم دعت برجل مصور حاذق في صناعته وأرسلته إلى عمرو بن عدي متنكرا وقالت له: صوره قائما وجالسا ومتفضلا، ومتنكرا ومتسلحا بهيئته ولبسته ولونه وذلك حتى إذا رأته في أية حالة منها تعرفه ففعل المصور ما أمرته به، وأتى إليها بالصور· وأما قصير فقال لعمرو: اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها ففعل به عمرو ذلك وخرج قصير حتى قدم على الزباء فأدخل عليها، فلما رأته أجدع قالت لأمر ما جدع قصير أنفه، قم قالت: ما الذي أراه بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني غدرت بخاله وزينب له المسير إليك ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك وقد عرفت أني لا أكون مع أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 هو أثقل عليه منك فأكرمته ورأت ما أعجبها من حزمه وحذقه ودرايته ومعرفته بأمور الملك فلما عرف أنها قد وثقت به قال: إن لي بالعراق أموالا كثيرة ولي بها طرائف وعطر فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها ومن صنوف ما يكون بها من التجارة فتصيبين أرباحا وبعض ما لا يكون للملوك غنى عنه فأذنته ودفعت إليه أموالا، وجهزت معه الدواب، فسار حتى قدم العراق وأتي عمرو بن عدي مختفيا وأخبره الخبر· وقال: جهزني بصنوف البز والطرف لعل الله يمكننا من الزباء فتصيب منها ثأرك فأعطاه ما طلب وعاد به إلى الزباء فأعجبها ذلك كثيرا وزادت بقصير ثقتها ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته في المرة الأولى فسار إلى العراق ولم يدع طرفه الأقادم بها عليها حتى تعجبت منه، ثم عاد الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيئ لهم الغرائر (وهي كالصناديق كان هو أول من اخترعها) فلما تهيأت جعل كل رجلين في غرارتين على ظهر بعير وجعل معقد رؤوسهما من باطنهما وقال لعمرو: إذا وصلنا أقمتك على باب باب السرب، ثم أخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قاتلوه وإن أقبلت هي إلى سربها قتلتها أنت، فلما تم ذلك، سار قصير مجدا حتى إذا قرب سبق إليها وبشرها بكثرة ما حمل إليها من المال والتحف والثياب وكان المسير في الليل ويكمن في النهار لراحة القوم فأشرفت الزباء من قصرها أبصرت الإبل مثقلة بالأحمال تسير الهوينا وتكاد قوائمها تسوخ في الأرض فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا أم صرفانا تأرزا شديدا ... زم الرجال جثما قعودا ثم دخلت الإبل المدينة فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر ودخل عمرو على باب السرب ثم وضعوا السيف في أهل البلد وأقبلت الزباء تريد الخروج من السرب، فلما أبصرت عمرا عرفته بالصورة فمضت سما كان بخاتمها وقالت: بيدي لا بيد عمرو وتلقاها عمرو بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة، ثم رجع إلى العراق وجلس على سرير الملك بعد خاله جذيمة· الزرقاء جايرة بن رامين كانت من المشهورات بالجمال والحسن والغناء وافتتن بها غالب أهل زمانها، وكان الناس يقصدونها لسماع صوتها، ويبذلون لها مالا خطيرا فاشتد ولوع يزيد بن عون الصيرفي بها فدخل عليها ومعه لؤلؤتان فقال لها: قد بذل لي فيهما أربعون ألف درهم· فقالت: هبهما لي· فقال: افعل إن شئت· قالت: شئت، فحلف لا يعطيهما لها إلا من فمه إلى فمها، فغمزت الخادم، فخرج وكان يزيد واقفا متكسرا بين يديها كاتفا يديه فجلس أمامها وتقدم إليها، فأقبلت لتنالهما، فجعل يروغ بفمه ليستكثر من مقابلتها فانقضت عليه فأخذتهما وقالت: من هو المغلوب منا· فقال: والله لا يزال طيب هذه الرائحة في فمي ما حييت أبدا· ولما أفضت إلى جعفر بن سليمان وأبوه عامل المنصور على البصرة، فدخل على ابنه يعتبه على شرائها واشتغاله بها في هذه الأيام، وقد خرج عليهم خارجي فغمز جعفر الخادم فأخرجها إليه، فبهت من جمال طلعتها وحلاوة منطقها فرضي ولم يعتب بعدها أبدا، وقال للزرقاء يوما: هل تمكن أحد من محبيك منك بشيء؟ فخشيت أن تكتمه ما عساه أن يكون بلغه فأخبرته بموافقة الصيرفي، فاحتال عليه حتى حصل عنده فضربه حتى مات وبقيت الزرقاء عنده في عز وجاه إلى أن ماتت· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية كانت ذات شجاعة وبلاغة عظيمة، وكانت شهدت مع قومها صفين ولها جملة خطب ألقتها في مواقف القتال حتى خيل لمن يسمعها أنها أضغاث أحلام، وبينما معاوية بن أبي سفيان جالس في ديوانه بدمشق بعدما آل الأمر إليه واجتمع حوله حاشيته تذاكروا حرب صفين فقال أحدهم: إنه رأى الزرقاء وهي راكبة على بعير واقفة بين الصفين وهي تحرض الناس على القتال ولم ترهب أحدا من الفريقين· فقال معاوية: أو هي حية إلى الآن؟ فقيل له: نعم، هي مقيمة بالكوفة· فقال: يجب أن نستقدمها إلينا، ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوقرها مع ثقة من ذوي محارمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا ويسترها بستر حصين، ويوسع لها في النفقة·فأرسل إليها فأقرأها الكتاب· فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار لي فإني لا آتيه وإن كان حتما فالطاعة أولى، فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت علي معاوية قال: مرحبا وأهلا قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قال: بخير يا أمير المؤمنين أدام الله لم النعمة· قال: أتدرين فيم بعثنا إليك؟ قالت: إني لا أعلم ما أعلم· قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر الواقفة بين الصفين تحضين على القتال وتوقدين الحرب فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب ولم يعد ما ذهب والدهر ذو غير، من تفكر بصر، والأمر يحدث بعده الأمر· قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله لا أحفظه ولقد نسيته· قال: لكني أحفظه لله أبوك حين تقولين: زيها الناس ارعووا وارجعوا قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلاليب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها فتنة عميا صماء بكماء لا تسمع لناعقها ولا تنساق لقائدها· إن المصباح لا يضيء في الشمس ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، أيها الناس إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها فصبرا يا معشر المهاجرين على المضض فكان قد اندمل الشتات والتأمت كلمة الحق ودمغ الحق الظلمة، فلا يجهلن أحد فيقول: كيف وإني ليقضي الله أمرا كان مفعولا، الآن آن الأوان خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم بعده والصبر خير في الأمور عواقبا· أيها في الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد أشركت عليا في كل دم سفكه· قالت: أحسن الله شاركتك وأدام سلامتك مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه قال: أو يسرك ذلك؟ قالت: نعم والله سررت بالخبر فإني لك بتصديق الفعل، فضحك وقال لها: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته اذكري حاجتك· قالت: يا أمير المؤمنين آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا· ثم انصرفت وبعد ذلك أرسل لها معاوية جائزتها· زرقاء اليمامة ابنة مرة الطسمي هي أخت رياح بن مرة كانت حادة البصر ليس على وجه الأرض أبصر منها وكانت تبصر الراكب على مسيرة ثلاث ليال، فلما أغار على قومها الملك حسان أحد ملوم اليمن وكان أخوها مع القوم وذلك في خبر طويل، وحين قربوا من اليمامة حذرهم رياح من أخته وأخبرهم بأنها تنظر الراكب من مسيرة كذا ميلا وأمرهم أن يقلعوا الشجر وكل شخص يحمل أمامه شجرة ففعلوا، ثم ساروا، ولما أشرفت من منظرها قالت: يا جديس، لقد سارت إليكم الشجر قالوا لها: ما ذاك؟ قالت: أشجار يسير وراءها شيء وإني لأرى رجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا فكذبوها وكان ذلك كما ذكرت فغفلوا عن أخذ أهبة الحرب ففي ذلك تقول الزرقاء لجديس تحذرهم: إني أرى شجرا منخلفها بشر ... فكيف يجتمع الأشجار والبشر سيروا بأجمعكم في وجه أولهم ... فإن ذلك منكم فاعلموا الظفر فلم يسمعوا لها وهجم عليهم الملك حسان بحمير فأفناهم وشتت شملهم، فلما فرغ حسان من جديس دعا باليمامة بنت مرة فأمر بها، فنزعت عيناها، فإذا هي داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود -يقال له الإثمد- كنت أكتحل به فنشب إلى بصري وكانت أول من اكتحل به فاتخذوه بعد ذلك كحلا، وأمر الملك باليمامة فصلبت على باب خيمتها -وهو اسم البلد الذي كانت جديس مقيمة فيها- وسميت الزرقاء المذكورة باسمها. زليخا امرأة قطفير عزيز مصر قيل: 'نم اسمها راعيل ابنة عابيل، وقيل: اسمها بكا ابنة فيوش وأكثر التواريخ أن اسمها زليخا. كان والدها من أولاد ملوك القبط الذين حكموا مصر قبل دخول العرب الذين سماهم المؤرخون ملوك الرعاة. كانت زليخا رأت في نومها أنها ستكون ملكة على مصر وأن القمر صار تاجا لها ولبسته يوم توليتها على عرش المملكة فقيل لها: إنها ستتزوج بملك مصر، ومضى على ذلك أيام وليال، ولم يظهر لمنامها تأثير حتى إنها تزوجت بقطفير عزيز مصر الذي كان بذاك الزمان محافظا على البلد من قبل ملكها وظنت أن منامها كان أغاث أحلام فصرفت أفكارها عما رأت. وفي أثناء ذلك دخلت العرب إلى مصر واستولت عليها وأبقت من دخلوا تحت الطاعة في الأحكام مثل قطفير وخلافه، وبذلك صارت زليخا مسموعة الكلمة مطاعة الأوامر، مقبولة الرجاء عند ملوك الرعاة ولم تطلب أمرا إلا تجاب عليه وبقيت تحت قطفير حتى قيض الله لها يوسف بصفة عبد جاءت به التجار وصارت عليه المزايدة حتى رسا مزاده على قطفير زوج زليخا فأخذه إلهيا وأمرها بإكرامه، فأخذته إليها وأكرمت مثواه إكراما لا مزيد عليه حتى جعلته بمثابة أولاد الملوك وكانت تلبسه الديباج وقراطق الحرير وتوقفه على رأسها وتأمره بما تريد من أمرها، ولما تفرس العزيز في يوسف الخير والصلاح لم ينزله منزلة العبيد بل قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهو يومئذ ابن سبع سنين. وقيل: سبع عشرة سنة فكانت زليخا تمشط شعره بيدها وتخدمه بنفسها ومازالت زليخا في كل يوم تحسن إلى يوسف وتتولى أمره حتى مال قلبها إليه وتكاثر وجدها وهو مع ذلك لا يلتفت إليها بعينه حياء من ربه ولا ينظر إليها حتى تكاثر همها ودق عظمها وكابدها الشجون وواصلها النحول. فلما عيل صبرها وضاق صدرها دخلت حاضنتها. فقالت لها: يا سيدتي، أرى غصنك ذابلا وجسدك ناحلا، وقلبك مائلا فقالت لها: وكيف لا وأنا أخدم هذا الغلام منذ سبع سنين ألاطفه بلساني وأتحبب إليه بإحساني، وكلما زدت ميلا إليه زاد إعراضا عني وكلما قربت منه تباعد مني. فقالت الحاضنة: يا سيدتي، لو نظر إليك لكان أسرع إليك منك إليه، ولو نظر إلى حسنك وجمالك وصفاء لونك لما قر له قرار دونك فقالت لها: وكيف لي به؟ قالت لها: مكنيني من الأموال، فقالت: ها خزائني بين يديك خذي منها ما شئت ودعي ما شئت لا حساب عليك في ذلك، فتمكنت من الأموال ودعت أهل البناء والهندسة وقالت: أريد بيتا ترى الوجوه في سقفه وحائط كما ترى في المرآة المصقولة فأجابوا بالسمع والطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ثم بنوا لها بيتا سمته القيطوم، فلما تكامل بناؤه وتم إتقانه دعت بحضور مصور حاذق فصور في الحائط صورة يوسف وزليخا متعانقين ولم يبق من صورتهما شيء غلا صور، وأمرت بسرير من ذهب مرصع بالدر والياقوت واللؤلؤ، فوضعته في صدر البيت وجعلت عليه فرش الديباج والحرير الملون، ثم فرشت البيت وأرخت الستور، ثم ألبست زليخا من نوع من الحلي والحلل النفيسة ما لا يوصف ولا يقدر بقيمة وأجلستها على مرتبة عظيمة مما يليق بمثلها. ثم خرجت إلى يوسف وهي مستعجلة فقالت: يا يوسف أجب سيدتك زليخا فإنها تدعوك في بيتها القيطوم وكان سامعاً لها مطيعاً، وكان بيده قضيب من ذهب يلعب به، فرمى القضيب من يده وأسرع إلى الباب ليدخل فنادته زليخا مستعجلة له بالدخول فظن السوء في نفسه وأراد الرجوع بعد أن وضع رجله داخل العتبة، فتوقف عند ذلك وزاد إحساس قلبه بالشر فأسرعت إليه وجذبته إلى السرير وقالت: هيت لك، فأغمض عينيه وكف يديه ونكس رأسه حياء من الله تعالى فقالت له: يا يوسف، ما أحسن وجهك· قال: الله صوره في الأرحام· قالت: ما أحسن عينيك! قال: هما أول ما يسقطان مني في قبري· قالت: ما أحسن شعرك! قال: هو أول ما يبلى مني· قالت: يا يوسف: ما أطيب ريحك! قال: لو شممت رائحتي بعد ثلاث لفررت مني، قالت: يا يوسف أتقرب إليك فتتباعد مني! قال لها: أرجو بذلك التقرب من ربي· قالت: انظر إلي نظرة واحدة· قال لها: أخشى العمى من ربي في آخرتي· قالت: ضع يدك على فؤادي· قال لها: إذا تغل في النار يدي· قالت: أشتريك بمالي وتخالفني· فقال: الذنب لإخوتي إذ باعوني حتى ملكتيني· قالت: اصبر معي ساعة واحدة في البيت· قال لها: ليس فيه شيء يسترني من ربي قالت: يا يوسف، بأي وجه تخالفني وبأي حكم ترجع عن مرادي ولا ترعى صنعي؟ قال لها: حكم إلهي الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه وبطشه وإكراماً لسيدي الذي أكرم مثواي وأنزلني منزلة الأولاد· فقالت له: أما إلهك الذي في السماء فإني أفتح بيوت الأموال وأتصدق عنك بها وأهديها إليه حتى يرضى عنك ويغفر لك، ولا أبالي أنا فيما يفعل في حقي لمرادي وقضاء حاجتي، وأما سيدك الذي أكرم مثواك فأنا أطعمه السم حتى ينتثر لحمه ويسقط عظمه ويموت جهداً وكمداً، وأكون أنا وأموالي وما ملكت يداي ملكك وطوع يمينك· قال: إذاً فما يكون عذري يوم القيامة بين يدي ربي إذ أكون فضلاً عن ارتكاب المعصية سبباً في جريمة قتل سيدي الذي أحسن إلي. وبعد هذه المحاورة التفت يوسف إلى صنم داخل البيت وعليه ستر فقال لها: لماذا سترت هذا الصنم؟ قالت: استحيت منه، فقال: إذا كنت تستحين من هذا وهو لا يسمع ولا يدري ولا ينفع ولا يضر فكيف أنا لا أخاف من ربي وقام وبادر بالخروج من الباب من غير أن يكون بينهما سبب من الأسباب وقد شهد الحق له بذلك في كتابه العزيز بقوله تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) (يوسف: 24) . ولما رأته فر يريد الباب أدركته وجذبت قميصه من خلفه فتمزق القميص ووافق ذلك الوقت أن العزيز مر بالباب يريد قضاء حوائجه فإذا بوجبة فالتفت فإذا بالباب يحمل ويساق فدفع الباب وقال: من؟ فإذا يوسف مقدود الثوب باكي العين وإذا زليخا ناشرة الشعر محمرة الوجه باكية العين· فقال العزيز: فيم أنتما؟ فقالت زليخا: ياسيدي غلامك العبراني الذي ائتمنته على أهلك ومننت عليه بفضلك، وأحللته محل ولدك يريد بأهلك السوء· فأقبل العزيز على يوسف بوجهه وقال: يا يوسف، هذا جزائي منك ائتمنتك على أهلي وأحللتك محل الأولاد المكرمين، ورجوت الخير والانتفاع بك فصرت تخونني في أهلي· فقال يوسف: معاذ الله أن أخونك في أهلك وأرضى بذلك! بل هي راودتني عن نفسي· فوقف العزيز متحيراً ينظر إليها تارة وإليه أخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فقال يوسف: إن لي شاهداً يشهد ببراءتي· فقال العزيز: ما هو الشاهد ولم يكن معكما أحد في البيت؟ فقال: انظر هذا القميص كيف قد من دبر فلو كنت أنا المراود لكان القميص قد قد من قبل وهذا برهان محسوس على ذلك وكان مع العزيز ابن عم زليخا، فلما سمع هذا الدليل وجده قاطعاً فقال: انظر إلى قميصه إن كان قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فنظر العزيز إلى القميص فوجده ق د من دبر فقال لها: إن ذلك من كيدكن إن كيدكن عظيم ثم قال ليوسف: اكتم هذا ولا تبح به لأحد وقال لها: استغفر لذنبك إنك كنت من الخاطئين ثم تركها وانصرف· وبعد ذلك قالت ليوسف: قد فضحتني والله لأسلمنك للمعذبين يعذبونك حتى ينسل جسمك كما سللت جسمي· فقال لها: إن كنت احتقرتني لغربتي فالله حسبي ونعم الوكيل· واشتغلت عن ذلك بكلفها به وشاع الخبر بمصر أن امرأة العزيز راودت فتاها عن نفسه قد شغفها حباً، وقد اجتمع نساء الملوك والأمراء والقادة مرة وتذاكران أمرها قاستقبحنه وقلن: إنها في ضلال مبين، فبلغ ذلك زليخا وعظم عليها فأرادت أن تبين عذرها لهن فيه فصنعت لهن صنيعاً وأرسلت إليهن تدعوهن لضيافتها، وهيأت لهن مجلس أنس وأوجدت فيه كل معدات الطرب وكن عشرة نسوة من نساء الملوك والأمراء وعشر بنات أبكار من بنات الملوك والأمراء، وبعد أن تناولن الطعام قدمت لكل واحدة منهن صحفة من عسل وأترجة وسكيناً حاداً، وقالت لهن: ما حقي عليكن؟ فقلن لها: أنت سيدتنا وكبيرتنا والمطاعة فينا نسمع لك ونطيع· فقالت: لهن: بحقي عليكن إذا خرج عليكن فتاي يوسف إلا ما قطعتن له مما في أيديكن وأعطيتنه يأكل· فقلن لها حباً وكرامة· فتركتهن وذهبت إلى يوسف وقالت له: يا يوسف، أطعني اليوم واعصني أبداً· قال: أما مالم يكن فيه سخط ربي فلا أبالي · فقالت له: دعني حتى أزينك وإن كنت مزيناً قال: اصنعي ما بدا لك، فرصعت جوانبه بالدر والياقوت وكللت جبينه بالجوهر وألبسته قباء أخطر ومنطقته بمنطقة من ذهب أحمر، ووضعت على عاتقه منديلاً من السندس وكأساً من ذهب في يده وقالت: اخرج عليهن فلو رأين منك ما رأيت لذهبن عن أنفسهن ولتركن الطعام والشراب ولمن أنفسهم كما لمنني· فخرج عليهن وهن قعود يقطعن في الأترج فلما رأينه ظنن أن صنم زليخا الذي تعبده وكن يسمعن به ويحببن أن ينظرن إليه، فلما بدا لهن يوسف أكبرنه وصرن شبه السكارى والحيارى من كثرة تعجبهن من بهائه وكماله وأمعن في نظرهن إلى حسنه وجماله ورمن أن يقطعن ما في أيديهن كما شرطت زليخا عليهن فصرن يقطعن أيديهن وصارت الدماء تسيل في حجورهن ولا يجدن ألم القطع ولا حدة السكاكين ولا وقوع الدم على الأجسام، ويوسف يقول: ويحكن ماذا تصنعن بأنفسكن إنما أنا عبد من عبيد ربي، وزليخا تضحك مما تراه منهن من تقطيع أيديهن وذهاب عقولهن وأمرته بالانصراف، فلما غاب عن عيونهن رجعن إلى حسهن فقالت لهن زليخا: ويحكن من لحظة واحدة فعلتن بأنفسكن هذا وأنا منذ سبع سنين أقاسي منه ما أقاسي، وأخدمه على أطراف البنان وهو لا يعيرني طرفه ولا يلتفت نحوي فقلن لها: حاشى لله ما هذا بشراً أن هذا إلا ملك كريم فقالت لهن: ما هذا الذي فعلتنه بأنفسكن؟ فلما رأين ما نزل بهن أدركهن الخجل وذكرن ما لمنها به· فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وأبى ولئن لم يفعل ما آمره لأسجننه وأعذبنه حتى يكون من الصاغرين· وقد أقرت لهن بأمرها لكونهن عذالها ورأتهن وقعن بما وقعت به فقلن لها: إنك لمعذورة فمرينا أن نكلمه بشأنك عساه أن يطيع ويسمع عندما توبخه عن إعراض نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فأذنت لهن بالخلوة طمعاً في أن يملنه إليها، فجعلت كل واحدة منهن إذا خلت به تدعوه إلى نفسها وتشكو إليه وجدها فقال يوسف: يا ربي كانت واحدة لم أقدر عليها بعنايتك، وقد صرعن جماعة (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) (يوسف: 33) . ولما رأين أن لا حيلة لهن باستمالته قلن لها افعلي ما بدا لك فيه، فطاولته مدة من الزمن ولما يئست منه قالت لزوجها: إن هذا الغلام فضحني بين الناس ونكس رأسي بين نظرائي وقد شاع خبري وخبره في مصر ولا براءة لي عندهم إلا أن أحبسه في السجن· فقال لها زوجها: لا يحبسه إلا الملك الريان بن الوليد، وكان مراده أن يخرج أمره من يدها لأنه إذا كان مره بيدها ربما حنت عليه وأخرجته من السجن فلما سمعت ذلك لبست ثيابها وزينتها وجعلت تاجها على رأسها وخرجت حتى أتت إلى الريان بن الوليد وكان في بيته الأعظم وهو بيت من الحديد والنحاس فيه الزخارف بأنواع الجواهر والمعادن وكان يجلس في أعلى الباب حتى إذا دخل عليه أحد يراه قبل دخوله، فإن شاء أذن له وإلا ينصرف· ولما رأى زليخا مقبلة أذن لها بالدخول وأمر الغلمان بفتح الأبواب أمامها، وكانت ذات قدر عظيم عنده مسموعة الكلمة لأنها من بنات الملوك، ولما دخلت على الملك خرت له ساجدة فقال لها الملك: ارفعي رأسك فأنت المقربة المرضية وحاجتك عندي مقضية، فرفعت رأسها إليه وأخذت في الثناء عليه بقولها: أيها الملك دام لك العز والبقاء وألبست ثوب النعمة والرخاء لم تزل لي مكوماً ولقضاء حاجتي مسرعاً وأن عبدي العبراني قد استعصى عليّ وأحب أن تأذن لي بحبسه في سجن المجرمين حتى يتأدب ولو بعد حين فقال لها: قد أجبتك وجعلت أمر السجن بيدك فانطلقي فاطلقي من شئت واحبسي من شئت فأخذت إذنه ورجعت إلى منزلها وأمرت بإحضار الحدادين إليها فمثلوا بين يديها فقالت لهم: إني أريد أن تصنعوا لي قيداً محكماً لعبدي يوسف العبراني· فقالوا: أيتها الملكة المطاعة في أمرها العظيم في قومها إنا نرى بدناً ناعماً وساقاً رقيقاً ووجهاً أنيقاً، وإنه ربي بنعمة كاملة وعافية شاملة، فكيف يقوى على حمل القيد الحديد الثقيل· فقالت: قيدوه وهذا لا يعنيكم· فقال يوسف: افعلوا ما أمرتكم به فإني من أهل بيت البلاء فقيدوه وحملوه على الأكتاف وانطلقوا به إلى السجن وتسامح الناس به فأقبلوا عليه من كل مكان حتى غصت الطرقات وصاروا ينظرون إليه ويقولون: إنه عصى سيدته الملكة وهو منكس رأسه ويقول: هذا خير من عصيان رب العالمين، فلما وصلوا به إلى السجن قالوا للسجان: خذ هذا فإن سيدته غضبت عليه وأمرت أن يسجن في سجن المجرمين، فأدخله السجان إلى السجن ووضعه بين أصحاب الكبائر والجنايات، ودخل العزيز على زليخا وقال: ما فعلت بيوسف؟ قالت: قيدته وحبسته وكان كرادها أن تخرجه عن قريب· فقال لها: أقسمت عليك بالملك الريان ورأسه إلا ما أبقيت يوسف في السجن ما دام املك حياً فلم يمكنها إلا إبرار القسم وأدركها الندم، ولم تجد عذراً تخرجه به، وكانت تصعد إذا جن الليل إلى أعلى قصرها وتنظر إلى جهة السجن وتبكي وتقول: حبيبي يوسف ليت شعري أنائم أنت أم يقظان أجائع أنت أم عطشان، وتبقى على ذلك النحيب والبكاء حتى ينفجر الصبح وجداً عليه وشوقاً إليه وقد أنحلت الغرام وخالطها الهيام وداخلها السقام وهجرها المنام، وتعذر على ناعتها إثباتها ودامت على ذلك لا تشكو إلا بذكره ولا تسأل إلا عن أمره مدة اثنتي عشرة سنة حتى أذن الله ليوسف بالخروج من السجن كما جاء في قصته، ولم يشأ الخروج إلا بعد براءة ساحته، فجاء الملك بالنسوة اللاتي قطعن أيديهن وسألهن عن ذنب يوسف بقوله: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه وكيف دعوتنه إلى الفاحشة فأقررن عند ذلك· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وقلن: حاشى الله ما علمنا عليه من سوء، ولا كانت رغبة فينا ولا دعوة للزنا وإنه لبريء الساحة طاهر الذيل· فقالت زليخا: هذا وقت بيان الحق واضمحلال الباطل إن مراد حبيبي إقراري· فأنا أقر بذنبي، الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ولما ظهرت براءة يوسف وتبوأ الملك وحصل القحط في مصر نسي زليخا ولم يفتكر بها لكثرة أشغاله، وقد مات العزيز زوجها وهي لكثرة إسرافها نفذت أموالها خصوصاً في أيام القحط التي حصلت بمصر في مدة يوسف حتى صارت لا تملك شيئاً ومدة يدها للسؤال فقيل لها: تعرضت للصديق لرحمك وأعطاك شيئاً عن الناس يغنيك· وقيل لها من آخرين: لا تفعلي فربما يذكر ما كان منك إليه من المراودة وطول السجن والمخالفة فيسيء إليك ويعاقبك فقالت: أنا أعلم بحبيبي منكم وإن من خلقه الصفح والاحتمال والفضيلة والابتهال، ثم نهضت حتى جلست على ربوة بطريقه وكان ليوسف يوم يركب فيه في كل أسبوع وكان يركب معه من عظماء دولته ووزرائه وقواده وأرباب مملكته نحو المائة ألف نفس، فلما أقبل يوسف وأحست به قامت ونادت بأعلى صوتها سبحان من جعل العبيد ملوكاً بالطاعة، وجعل الملوك عبيداً بالمعصية· فأمسك العنان ونظر إليها وهي واقفة في ذلك المكان فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا التي كنت أخدمك دهراً وأرجل جمتك وكان مني ما كان في ذلك الزمان قد ذقت وباله ولقيت نكاله، وتغيرت كما ترى أحوالي، وصرت أسأل الناس الذين كانوا يسألوني فمنهم من يرحمني ومنهم من يعرض عني، وهذا جزاء من خالف مولاه واتبع هواه· فلما سمع الصديق كلامها بكى إشفاقاً عليها ثم قال لها: هل بقي بقلبك شيء مما كان؟ قالت: والله لنظرة فيك أحب إلي من الدنيا وما فيها ثم قال ت: ناولني سوطك فناولها إياه فوضعته على قلبها فأحس يوسف بانتفاض يده مع السوط من شدة انتفاض قلبها وقال لها: ما أصاب قلبك؟ فقالت: يا يوسف، هو كما ترى· فقال لها: اذهبي إلى منزلك وإننا سننظر في أمرك، ثم ذهب باكياً وبعد وصوله إلى مستقره أرسل إليها رسولاً فقال: يقول لك الملك إن كنت أيماً تزوجناك وإن كنت ذات بعل أغنيناك· فقالت للرسول: إليك عني فإن الملك أعرف بالله من أن يستهزئ بي فإن لم يلتفت إلي أيام شباب وجمالي فكيف يلتفت إلي الآن ولم تصدق قوله، فرجع الرسول وأخبر الصديق بما قالت وذكرت من شأنها، فعلم أنها غير واثقة تصدق قوله، فرجع الرسول وأخبر الصديق بما قالت وذكرت من شأنها، فعلم أنها غير واثقة بما قاله لها الرسول· فلما كان في الأسبوع الثاني مر الصديق عليها بموكبه فرآها على الحالة التي رآها بها أول مرة وقالت له كما قالت في الأول فقال لها: ألم يبلغك رسولي ما أرسل به إليك فما ترين؟ فقالت: ألم أقل إن نظرة إليك أحب إلي من الدنيا وما فيها· فلما سمع منها ذلك أمر بحملها إلى قصره وأحضر الشهود وتزوجها، فلما زفت عليه وأدخلت إليه نظر إليها فزاد إشفاقاً عليها فأكرمها إكراماً لا مزيد عليه، ورتب لها من يقوم بأودها ولم يمض زمن حتى عاد إليها جمالها ورونقها وبهاؤها وكمالها وذلك من سوروها بما نالت من حبيبها حلاً بعد الحرام، وانتقالها من دنيا إلى أخرى بقدرة الملك العلام· وقيل: إنها طلبت إليه أن يدعو الله أن يرد لها جمالها ففعل، وهنالك تذكرت المنام الذي كانت رأته قبل تزوجها بقطفير فرأت تفسيره قد حصل بزواجها بيوسف، أن لبست تاج مصر في مدته وصارت ملكة كعادة زمانهم ولما دخل عليها يوسف وجدها بكراً فتعجب من ذلك وقال لها: ما كنت تفعلين حين راودتني عن نفسي قالت: أيها الصديق اعذرني ولا تلمني فإن الله كساك حلة الجمال والبهاء والكمال وكان زوجي عنيناً لا يقرب النساء فغلب علي حب الشهوة ففعلت ما فعلت· ولما أتاها ولدت له "افراديم" وبعده"منشا" وذلك في مدة أربع سنوات ولم تلد له خلافهما مدة حياتها· الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 زوي امبراطورية المملكة الشرقية هي ابنة قسطنطين التاسع زفت إلى رومانوس الثالث سنة 1028م ثم عشق صائغاً يدعى ميخائيل وهو ميخائيل الربع البافلاغوني فأهلكت زوجها وتزوجته فرقي تخت الملك ولم يلبث أن زساء معاملتها فاتفقت مع أخيه وعلى رواية ابن أخيه يوحنا الملقب من ثم ميخائيل الخامس وخلعاه ورقي ميخائيل تحت الملك سنة 1035م فأساء معاملتها أيضاً فأثارت هيجاناً في القسطنطينة وخلعت ميخائيل ورقت مكانه مع أختها تيودورا فتزوجت وكانت في الثالثة والستين من عمرها قسطنطين العاشر مونوماخوس سنة 1042 فصفا لها الجو وحكمت كيف شاءت إلى أن هلكت سنة 1052 ميلادية· زينب ملكة تدمر كانت آية زمانها في الجمال ونادرة عصرها في الفضل المقرون بالجلال تعرف عند الرومان ب زنوبيا ملكة الشرق، تولت عرش تدمر بعد زوجها أذينه المقتول عام 267 للميلاد وكان أشتد ساعدها ورسخت في البلاد وطأتها في عاصمتها البناءات الباهية الأنيقة، وغرست في ضراحيها الرياض الزاهية حتى تركتها جنة من الجنان فيها فاكهة، والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان· ثم جنحت إلى المغازي والفتوحات ودانت لشدة بأسها العباد، وفتنت ببديع حسنها وسحر أساليبها الملوك، فأسكرها الفوز والنصر وبعثها على التمادي في طلاب العز والتماس الفخر فبعثت بالسرايا والصوائف إلى مصر فقهرتها ولقبت ذاتها بألقاب أهاجت عليها حسد مملكة الرومان، فنوتها وزحف عليها أورليان قيصر روم، فعبأت الجيوش وقابلته على مقربة من أنطاكية فحمص، فهزمها شر هزيمة حتى اعتصمت منه بقاعدة بلادها تدمر، فأدار عليها رحى الحرب حصاراً وقتالاً حتى تداعت له أسوارها عنوة فأعمل في أهلها السيف، وفي قصورها التخريب حتى غادرها قاعا صفصفاً يأوي إليها البوم والقطا، نادبة سالف مجدها المذكور، وقديم عزمها المأثور· وأما زنوبيا فأسرها أورليان وقادها إلى عاصمة الرومان ذليلة صاغرة حيثما دخلها بموكب حافل وهي ترسف بقيودها الذهبية أمام العواجل، وكان ذلك عام 272 للميلاد فسبحان الحي الباقي من لا عاصم من يديه ولا واقي· وأما تدمر فهي مدينة قديمة ذات آثار عظيمة كانت تعرف بمدينة النخل ويسميها الأقدمون بالميري واقعة بين نهري الفرات والعاصمة تبعد بنحو 90 ميلاً عن حمص إلى الشرق و 150 ميلاً عن دمشق إلى الشمال الشرقي· قيل: إنها سميت باسم تدمر بنت حسان التي بنت المدينة في أيامها والصحيح: أنها من بناء سليمان كما ورد في التوراة وقد زعم العرب أن الجن بنوها له وعلى ذلك يقول النابغة: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخبر الجن أني قد أمرتهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد· ولم تنل تدمر عزاً مثل ما نالته في مدة زنوبيا ولم يرجع إليها رونقها الأصلي أبداً حتى صارت خرائب في هذا الزمان يأوي إليها البوم والغربان· زينب ابنة عبد الله بن عبد الحليم كانت حنبلية المذهب وهي بنت أخي الشيخ تقي الدين · قال الحافظ ابن حجر: سمعت من ابن الحجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وغيره وحدثت وانتفع الناس بعلمها ولي منها إجازة· وهي من نساء الحديث المشهورات ذات لهجة صادقة ولذلك عدت من المحدثين· زينب ابنة محمد بن عثمان بن عبد الرحمن الدمشقية كانت أحسن نساء زمانها منظراً، وأعذبهن مقالاً، وأفصحهن منطقاً، وأعلمهن بالفقه والحديث وكان يعرف أبوها بابن العصيدة، حدثت بالإجازة العامة عن فخر الدين ابن الحجار وغيره· ومن تلامذتها: الحافظ ابن حجر وله منها إجازة وعمرت أكثر من مائة سنة وعشر سنين وكانت حلقة درسها لا تقل عن الخمسين طالباً للحديث ولم يسمع بامرأة مثلها فتحت حلقة درس واجتمع فيه طلاب مثل طلاب حلقة درسها· زينب ابنة عثمان بن محمد لؤلؤ الدمشقية كانت من أفاضل العلماء ولها اليد الطولى في علوم السنة سمعت من الحافظ ابن حجر وأخذ منها الحافظ ابن حجر· وتوفيت سنة ثمانمائة ولها رسائل في الفقه، والسنة استند عليها كثير من العلماء· زينب المرية هي ابنة أحد مشاهير العرب ولدت بالمرية من أعمال الأندلس ولم نقف على تاريخ ولادتها واسم أبيها والذي وصل إلينا أنها كانت ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، وأدب وظرف، وتهذيب ولطف· رقيقة المعاني جزلة الألفاظ حاضرة النادرة لها شعر بديع جالست الأدباء وساجلت الشعراء حتى أنها كان يشار إليها بالبنان في ذلك الأوان، ومن شعرها: يا أيها الراكب الغدي مطيته=عرّج أنبئك عن بعض والذي أجد ما عالج الناس من وجد تضمنهم=إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا حسبي رضاه وإني في مسرته=ووده آخر الأيام أجتهد وتوفيت بالمرية مأسوفاً عليها من ذوي الأدب وأهل العلم· زينب ابنة حدير كانت من عاقلات ذاك العصر وأطوعهن لأزواجهن وكان زوجها القاضي شريح كما روى عنه الشعبي فإنه قال: قال لي شريح: يا شعبي، عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء قلت: وكيف ذلك؟ قال: انصرفت من جنازة ذات يوم ظهراً فمررت بدور بني تميم فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وفي جانبها ذات يوم ظهراً فمررت بدور بني تميم فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وفي جانبها جارية كأنها البدر في الليلة الداجية، فاستقيت فقالت لي: أي الشراب أعجب إليك النبيذ أم اللبن أم الماء؟ قلت: أي ذلك تيسر عليكم فقالت: اسقوا الرجل لبناً فإني أخاله غريباً· فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني، فقلت: من هذه؟ قالت: ابنتي· قلت: وممن؟ قالت: زينب بنت حدير إحدى نساء تميم، ثم إحدى نساء بني حنظلة، ثم إحدى نساء بني طهية· قلت: أفارغة أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة· قلت: أتزوجينيها؟ قالت: نعم، إن كنت كفؤاً، لها عم فاقصده· فانصرفت إلى عمها فقال: يا أبا أمية ما حاجتك؟ قلت: إليك· قال: وما هي؟ قلت: ذكرت لي بنت أخيك زينب بنت حدير· قال: ما بي عنك رغبة ولا بك عنها مقصر وإنك لنهزة وزوجني بها وبارك القوم لي، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 نهضنا فما بلغت منزلي حتى ندمت فقلت: تزوجت إلى أغلظ العرب وأجفاها فهممت بطلاقها، ثم قلت: أجمعها إلي فإن رأيت ما أحب وإلا طلقتها، فأقمت أياماً ثم أقل نساؤها يهادينها· فلما أجلست في البيت أخلي لي البيت فقلت: يا هذه، إن من السنة رذا دخلت المرأة على الرجل أن يصلي وتصلي ركعتين ويسألا الله خيراً ليلتهما ويتعوذا بالله من شرها فقمت أصلي، ثم التفت فإذا هي خلفي فصليت فإذا هي على الفراش، فمددت يدي فقالت: على رسلك· فقلت: إحدى الدواهي منيت بها· فقالت: إن الحمد لله وحده أحمده وأستعينه إني امرأة عربية ولا والله ما سرت سيراً قط أشد علي منه وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك فحدثني بما تحب فآتيه وما تكره فأنزجر عنه· فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد قدمت خير مقدم على أهل دار زوجك سيد رجالهم، وأنت سيدة نسائهم أحد كذا وأكره كذا قالت: أخبرني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ فقلت: إني رجل قاضٍ وما أحب أن تملوني· قال: فبت بأنعم ليلة وأقمت عندها ثلاثاً، ثم خرجت إلى مجلس القضاء فكنت لا أرى يوماً إلا هو أفضل من الذي قبله حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي فإذا عجوز تأمر وتنهى، فقلت: يا زينب من هذه؟ فقالت: والدتي· قلت: حياك الله بالسلام· قالت: أبا أمية، كيف أنت وحالك؟ قلت: بخير والحمد لله· قالت: كيف زوجتك؟ قلت: كخير امرأة· قالت: إن المرأة لا ترى في حال أسوأ خلفاً منها في حالين إذا حظيت عند زوجها وإذا ولدت غلاماً فإن رابك منها ريب فالسوط، فإن الرجال والله ما جازت إلى بيوتهم شر من الورهاء المتدللة· قلت: أشهد أنها بنتك قد كفيتنا الرياضة، وأحسنت الأدب· قال: فكانت في كل حول تأتينا فتذكر هذا، ثم تنصرف· قال شريح: فما غضبت عليها قط إلا مرة واحدة كنت لها ظالماً فيها وذلك أني كنت إمام قومي فسمعت الإقامة، وقد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقرباً فعجلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء، فلما كانت عند الباب قلت: يا زينب، لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت فحركت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوي فقلت: ما لك؟ قالت: لسعتني العقرب، فبهذا السبب كان غضبي لتعجيلها رفعه، وكان لي جار يضرب زوجته فقلت في ذلك: رأيت رجالاً يضربون نساءهم=فشلت يميني يوم تضرب زينبا أأضربها في غير جرم أتت به=إلي فما عذري إذا كنت مذنبا فتاة تزين الحلي إن هي حليت=كأن بفيها المسك خالط محلبا زينب ابنة حجش أم المؤمنين بنت حجش بن الرئاب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، تكنى أم الحكيم، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي كانت قديمة الإسلام ومن المهاجرات مع الرسول وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت زيد بن حارثة ومضى النبي يوماً إلى بيته لغرض فرفعت باب الخباء فرأى زينب حاسرة فأعجبته ومن ثم كرهت إلى زيد فلم يستطع أن يقربها فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "أرابك فيها شيء؟ " قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله"· ففارقها زيد، واعتدت فحلت للرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه (فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها) (الأحزاب: 37 (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يبشر زينب أن الله قد زوجنيها" وقرأ عليهم: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) (الأحزاب: 37) الآية· فكانت زينب تفتخر على نسائه وتقول: زوجكن أهلكن وزوجني الله من السماء، وذلك سنة 5 للهجرة، فلما دخل عليها قال لها: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ما اسمك؟ "· فقالت: برة، فسماها زينب ولما تزوجها تكلم في ذلك المنافقون وقالوا: حرم محمد نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه لأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعى بابن محمد على سبيل التبني فأنزلت الآية وهي: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) (الأحزاب: 04) والآية الأخرى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) (الأحزاب: 5) · فدعي زيد من ثم بابن حارثة، وكانت زينب قصيرة جميلة، صناع اليدين، صوامة، قوامة، تشتغل وتتصدق من شغل يدها· وقالت عائشة: يرحم الله زينب بنت حجش لقد نالت في هذه الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله عز وجل زوجها بنيه ونطق القرآن وإن الرسول قال لنا ونحن حوله: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" فبشرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة وذلك لأنها أول من توفيت من نسائه بعده، وكان يريد بطول اليد كثرة الصدقة· وقال لعمر بن الخطاب: "إن زينب أواهة" أي خاشعة متصدعة· وتوفيت سنة 02 · وقيل: 12 للهجرة وكان عمرها حين تزوجها 53 سنة· زينب ابنة الحارث امرأة يهودية من خيبر كانت زوجة سلام بن مشكم، فلما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أهدت له شاة مصلية مسمومة فوضعتها بين يديه، فأخذ مضغة فلم يسغها ومعه بشير بن البراء بن معرور فأكل بشير منها وقال النبي: "إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة" ثم دعا المرأة، فاعترفت· فقال: "ما حملك على ذلك؟ "· قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبياً فسيخبر، وإن كان ملكاً استرحنا منه· فتجاوز عنها ومات بشير في تلك الأكلة أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤثر فيه السم إلا تأثيراً خفيفاً، فحجم بين كتفيه وقال في مرضه الذي مات فيه: "هذا وإني وجدت انقطاع أبهري من أكلة خيبر"· فكان المسلمون يرون أنه مات شهيداً مع كرامة النبوة وادعى ورثة بشير على زينب فقتلت· زينب ابنة الإمام أحمد الرفاعي لبست الخشن من الثياب، وتركت الطيب من الطعام والشراب، وكانت قد أرخت الحجاب وتملت بعبادة الملك الوهاب، وقنعت بدون اليسير مع القدرة ولزمت حنين أبيها وتبعت أثر طريقته بالذل والانكسار والسكينة والافتقار· كان السيد أحمد - رضي الله عنه - يقول: كأنها خلقت رجلاً والناس يظنون أنها خلقت امرأة، وقال السيد عمر الفاروثي: كنت ذات يوم عند السيد أحمد فأظهرني على كثير من أسراره، ثم أخذني بيده ودخل بيته على رابعة، فقال له: سلم عليها واخدمها واسألها أن تدعو لك· فجاءت زينب فقبل رأسها ثم قال لي: أي عمر سلم عليها واخدمها واسألها أن تدعو لك ولذريتك ففعلت ذلك ثم قلت في نفسي: الأولى إنه كان يأمرني بالخدمة والتعظيم لرابعة فإنها أكبر سناً، فالتفت إلى السيد أحمد - قدس الله سره العزيز - وقال لي: أي عمر، إن الله وعدني أن يحيي بها الآثار ويعمر بها الديار· فقالت زينب: أي سيدي تعيش أنت ويعيش السيد صالح ويجعلني الله فداءك ويحيي الله بك الآثار· فقال: بل فيك· فقالت: يا سيدي أأنا أقعد وأحدث الناس وأجلس معهم في المجالس؟ فقال لها: يا زينب، لا ولكن ذريتك يبقون إلى يوم القيامة· إلا أن صاحب الشفاء أورد هذه الحكاية في كتابه بغير هذا النسق· قالت مريم بنت الشيخ يعقوب: قد قالت لي زينب: نتعب قليلاً ونستريح طويلاً، السفر بعيد، والطريق طويل، والجسد ضعيف، والزاد قليل، وليس لنا بد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 هذا السفر لو ندركه قبل أن يدركنا ونستقبله قبل أن يستقبلنا لكان خيراً لنا· قال الزبرجدي: حفظت القرآن وتفقهت وسمعت الحديث من خالها الشيخ أبي البدر الأنصاري الواسطي وأخذ عنها أولادها الأئمة الأعلام، وسمع منه الشيخ الكبير عمر أبو الفرج الفاروثي الكازروني، وكانت عظيمة القدر رفيعة المنزلة أقبل على زروع أهل واسط، وأم عبيدة جيش الجراد فالتجأ الناس إليها فتقنعت وصعدت السطح وقالت: إلهي عبيدك ساقهم حسن الظن إلي، وأنت الذي ألقيت ذلك في قلوبهم وإني أقل من أن أسألك لذنوبي وسواد وجهي وأنت أكرم من أن ترد المنكسرين يا أرحم الراحمين· فزم الجراد زمة واحدة وكأنه إبل ساقها رعاتها حتى لم يبق منه جرادة واحدة· توفيت سنة ثلاث وستمائة (ستمائة وثلاثون) بأم عبيدة ودفنت بالمشهد الأحمدي المبارك رضي الله عنها· زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أكبر أولاده ولدت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة وماتت سنة ثمان للهجرة في حياة أبيها وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد· وقد قيل: إنها لم تكن أكبر بناته وليس بشيء إنما الاختلاف بين القاسم وزينب أيهما ولد قبل الآخر فقال بعض العلماء بالنسب: أول ولد ولد له القاسم، ثم زينب· وهاجرت بعد وقعة بدر، وقد تزوجت لقيطاً الملقب بأبي العاص بن الربيع، وولدت منه غلاماً اسمه علي فتوفي وقد ناهز الاحتلام، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وولدت له أيضاً بنتاً اسمها أمامة وأسلم أبو العاص وكان الإسلام قد فرق بين زينب وبين أبي العاص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما بمكة لعدم قوة الإسلام بها حينئذ· وقيل: إن أبا العاص لما أسلم رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب فقيل: بالنكاح الأول· وقيل: ردها بنكاح جديد· وتوفيت زينب بالمدينة في السنة الثامنة (للهجرة) ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها وهو مهموم محزون، فلما خرج سرّي عنه، وقال: "كنت ذكرت ضعفها" فسألت الله تعالى أن يخفف عليها ضمة ففعل وهون عليها· ثم توفي بعدها زوجها أبو العاص· وقال آخرون: إن زينب ولدت في سنة ثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم وأدركت الإسلام وأسلمت وهاجرت وكان أبوها يحبها وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع ففرق بينهما الإسلام، ثم لما أسلم زوجها جمع صلى الله عليه وسلم بينهما· قال بعضهم: ولم يفرق بينهما من أول البعثة لأن تحريم نكاح المشرك للمسلمة إنما كان بعد الهجرة· وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الإسلام فرق بين زينب وبين أبي العاص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما لأنه كان مغلوباً بمكة وولدت زينب لأبي العاص علياً وأمامة فأما علي فمات مراهقاً، وأما أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد خالتها فاطمة بوصية من فاطمة وتزوجها بعد موت علي المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بوصية من علي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أمامة وهي التي كان يحملها في الصلاة على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع رأسه من السجود أعادها· ولما أسر أبو العاص في وقعة بدر وكان مع الكفار أرسلت زينب في فدائه الربيع بمال دفعته إليه من ذلك قلادة لها كان أمها خديجة قد أدخلتها بها على أبي العاص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا"· فقالوا: نعم، وكان أبو العاص مصاحباً لرسول الله صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عليه وسلم مصافياً، وكان قد أبى أن يطلق زينب لما أمره المشركون أن يطلقها فشكر له صنيعه· ولما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من الأسر شرط عليه أن يرسل زينب إلى المدينة فعاد إلى مكة وأرسلها إلى المدينة فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثني فصدقني ووعدني فوفى"· ولم تزل زينب بالمدينة وأبو العاص بمكة على شركه، فلما كان قبيل الفتح خرج بتجارة إلى الشام ومعه أموال من أموال قريش ومعه جماعة منهم· فلما عاد لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أميرهم زيد بن حارثة، فأخذ المسلمون ما في تلك العير من الأموال، وأسروا أناساً وهرب أبو العاص بن الربيع، ثم أتى المدينة ليلاً فدخل على زينب فاستجار بها فأجارته· فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح صاحت زينب: يا أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس وقال: "هل سمعتم ما سمعت؟ " قالوا: "نعم· قال: "والذي نفسي بيده ما علمت بذلك حتى سمعتم"· وقال: "يجير على المسلمين أدناهم" ثم دخل على ابنته فقال: "أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له" قالت: إنه جاء في طلب ماله· فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك السرية· وقال: "إن هذا الرجل منا حيث علمتم وقد أصبتم له مالاً وهو مما أفاء الله عليكم وأنا أحب أن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإن أبيتم فأنتم أحق"· فقالوا: بل نرده عليه، فردوا عليه ماله أجمع فعاد إلى مكة وأدى إلى الناس أموالهم، ثم أسلم وحسن إسلامه· ثم قدم إلى المدينة ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ولم تزل معه حتى توفيت سنة ثمان من الهجرة· زينب ابنة جزيمة زينب ابنة جزيمة بن حارثة بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها: أم المساكين لكثرة إطعامها وصدقتها عليهم، وكانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: كانت عند الطفيل بن الحرث بن عبد المطلب بن عبد مناف، ثم خلف عليها أخوه عبيد بن الحارث كانت أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حفصة، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً - شهرين أو ثلاثة - حتى توفيت وكانت وفاتها في حياته صلى الله عليه وسلم لا خلاف فيه· وقال ابن منده: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" فكان نساء النبي يتذارعن أيتهن أطول يداً، فلما توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهن يداً في الخير، وهذا وهم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعكن لحوقاً" وهذه سبقته إنما أراد أول نسائه تموت بعد وفاته، وقد تقدم في زينب بنت حجش وهو لها أشبه لأنها كانت كثيرة الصدقة من عمل يدها، وهي أول نسائه، توفيت بعده والله أعلم· زينب بنت العوام أخت الزبير وهي أم عبد الله بن حكيم بن حزام أسلمت وبقيت إلى أن قتل ابنها يوم الجمل فقالت ترثيه وترثي الزبير أخاها: أعينيّ جودا بالدموع بأشرعا=على رجل طلق اليدين كريم زبير وعبد الله يدعي لحادث=وذي خلة منا وحمل يتيم قتلتم حواريّ النبي وصهره=وصاحبه فاستبشروا بجحيم وقد هدني قتل ابن عفان قبله=وجادت عليه عبرتي بسجوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وأيقنت أن الدين أصبح مدبراً=فماذا تصلي بعده وتصومي وكيف بنا أم كيف بالدين بعدما=أصيب ابن أروى وابن أم حكيم كانت شاعرة أديبة جريئة على القول والفعل ذات شهامة زائدة الجد، وكان لها ميل كلي إلى عثمان وأحزابه وطالما هيجت العبر على حرب علي وقد حضرت وقعة الجمل ولها فيها مشاركة، وتوفيت بعدها بقليل· السيدة زينب بنت الإمام علي كرم الله وجهه السيدة زينب بنت الإمام علي - كرم الله وجهه - بن أبي طالب وأمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي شقيقة الحسن والحسين عليهما السلام· تزوجها ابن عمها عبد الله بن جعفر الطيار ذو الجناحين ابن أبي طالب وولدت له علياً وعوناً ويدعى بالأكبر وعباساً، ومحمداً وأم كلثوم· وحضرت مع أخيها الحسين بكربلاء· ذكر ابن الأنباري: أنها لما قتل أخوها الحسين أخرجت رأسها من الخباء وأنشدت رافعة صوتها: ماذا تقولون إن قال النبي لكم=ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعترتي وبأهلي بعد فرقتكم=منهم أسارى ومنهم خضبوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم=أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي لكن في "كامل ابن الأثير": أن هذه الأبيات لابنة عقيل بن أبي طالب· وفي "نور الأبصار" عن خزيمة الأسدي قال: دخلنا الكوفة سنة إحدى وستين فصادفت منصرف علي بن الحسين -عليهما السلام- بالدربة من كربلاء إلى ابن زياد بالكوفة ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياما يندبن متهتكات الجيوب، وسمعت علي بن الحسين يقول: يا أهل الكوفة، إنكم تبكون علينا فمن قتلنا ورأيت زينب بنت علي فلم أر والله خفرة أنطق منها كأنما تنزع عن لسان أمير المؤمنين فأومأت إلى الناس أن اسكتوا فسكتت الأنفاس، وهدأت الأجراس فقالت: "الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين. أما بعد، يا أهل كوفة الختل والخذل أتبكون فلا سكنت العبرة ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا وإن فيكم الصلف والضعف وداء الصدر الشنف، وملق الأمة، وحجز الأعداء كمرعي على دمنة، أو كفضة على ملحودة أل ساء ما تزرون أي والله تدحضون قتل سلسل خاتم النبوة ومعدن الرسالة ومدار حجتكم، ومنار محجتكم، وسيد شباب أهل الجنة ويلكم يا أهل الكوفة ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم أ، سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون، أتدرون أي كبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فريتم، وأي دم له سفكتم، وأي كريمة له أبرزتم لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا، ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء طلاع الأرض. أفعجبتم إن أمرطت السماء دما فلعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تنصرون. فلا يستخفنكم المهل، فلا يحقره البدار، ولا يخفا عليه فوت الثأر، كلا إن ربي وربكم لبالمرصاد". ثم سارت، قال: فرأيت الناس حيارى واضعي أيديهم على أفواهمم ورأيت شيخا قد دنا منها وهو يبكي حتى اخضلت لحيته، ثم قال: بأبي أنتم وأمي كهولهم خير الكهول وشبابكم خير الشباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ونسلكم لا يبور ولا يخزى أبدا. وفي "كامل ابن الأثير" أنها سمعت الحسين وهو في كربلاء قبل مشهده يقول: يا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالشريف والأصيل من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إلى الجليل وكل هالك سالك السبيل فأعادها مرتين أو ثلاثا، فلما سمعته لم تملك نفسها أن وثبت تجر في ثوبها حتى انتهت إليه ونادت: "وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي، والحسين أخي يا خليفة الماضي وثمال الباقي" فذهب فنظر إليها وقال: أخية لا يذهبن حلمك الشيطان! قالت: لو ترك القطا لنام فلطمت وجهها وقالت: "وا ويلتاه أفتغصبك نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي واشد على نفسي". ثم لطمت وجهها وشقت جيبها وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين فصب الماء على وجهها وقال: اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أخل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وإن كل شيء هالك إلا وجه الله أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني ولي ولهم ولكل مسلك برسول الله أسوة حسنة فعزاها بهذا ونحوه. ولما حملوا السبايا إلى الكوفة اجتازوا بهن على الحسين وأصحابه صرعى فلطمن خدودهن وصاحت زينب أخته: "يا محمداه، صلى عليك ملائكة السماء. هذا الحسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسقى عليها الصبا". فأبكت كل عدو وصديق. فلما أدخلوهم على ابن زياد لبست أرذل ثيابها وتنكرت وحفت بها إماؤها فقال عبيد الله: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه فقال ذلك ثلاثا وهي لا تكلمه فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة. فقال لها ابن زياد -لعنه الله-: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت: "الحمد الله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا لا كما تقول إنما يفتضح الفاسق، ويكذب العاجز". فقال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: "كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده". فغضب ابن زياد وقال: قد شفي غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك فبكت وقالت: "لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرزت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي فإن يشفك هذا فقد اشتفيت". فقال لها: هذه شجاعة لعمري لقد كان أبوك شجاعا. فقالت: "ما للمرأة والشجاعة". فلما نظر ابن زياد إلى علي بن الحسين قال: ما اسمك؟ قال: علي بن الحسين. قال: أولم يقتل علي بن الحسين؟ فسكت. فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: كان لي أخ يقال له أيضا علي فقتله الناس. فقال اللعين ابن زياد: إن الله قتله. فسكت علي، فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: الله يتوفى الأنفس حين موتها (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) (آل عمران: 145) فقال: أنت والله منهم، ثم قال لرجل: ويحك، انظر هذا هل أدرك أني لأحسبه رجلا فكشف عنه مري بن معاذ الأحمر فقال: نعم، قد أدرك قال: اقتله. فقال علي: من يتوكل بهذه النسوة؟ وتعلقت به زينب فقالت: "يا ابن زياد حسبك منا أما رويت من دمائنا وهل أبقيت منا أحدا" واعتنقته، وقالت: "أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته أن تقتلني معه". وقال علي: يا ابن زياد إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهم رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام فنظر إليها ساعة ثم قال: عجبا للرحم والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أن أقتلها معه دعوا الغلام ينطلق مع نسائه، ولما دخلن الشام على يزيد بن معاوية والرأس بين يديه جعلت فاطمة وسكينة ابنتا الحسين تتطاولان لتنظرا إلى الرأس وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فلما رأين الرأس صحن فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية فقالت فاطمة وكانت أكبر من سكينة بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا يزيد؟ فقال: يا ابنة أخي أنا لهذا كنت كارها. قالت: والله ما ترك لنا خرص. فقال: ما أتي إليكن أعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من أهل الشام فقال: هب لي هذه -يعني فاطمة بنت الحسين- فأخذت فاطمة ثياب زينب وصرخت فقالت زينب: "كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا له" فغضب يزيد وقال: والله إن ذلك لي ولو شئت أن أفعله لفعلته قالت: "كلا والله ما جعل الله لم إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا". فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت زينب: "بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك". قال: كذبت يا عدوة الله قاتل: "أنت أمير تشتم ظلما وتقهر بسلطانك". فاستحى وسكت. وعلى اختلاف الروايات أن للسيدة زينب -رضي الله عنها- مقامين أحدهما: بدمشق وهو مقصود من كل الجهات خصوصا من أهل الشيعة. والثاني: بمصر وهو أشهر من الأول. ولها أوقاف وإيراد عموم الأوقاف المصرية، ولها مسجد في مصر لم يوجد مثله قد ذكر أوصافه الأمير علي باشا مبارك في خططه المسماة بالخطط التوقيفية. ولكون أوصافه جاءت مسهبة اقتصرنا عنها منوهين على محل وجودها. زينب ابنة الطثرية هي زينب بنت سلمة بن مرة من بين عامر بن صعصعة. والطثرية أمها قتل أخوها يزيد بن الطثرية الشاعر المشهور في خلافة بني العباس سنة 126 هجرية الموافقة لسنة 744 ميلادية قتله بنو حنيفة فقالت أخته ترثيه: أرى الأثل من وادي العقيق مجاوري ... مقيما وقد غالت يزيد غوائله فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وأباجله فتى لا ترى قد القميص بخصره ولكنه يوهي القميص مواهله فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دما فهو آكله يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله إذا نزل الأضياف كان عزورا ... على الحي حتى تستقل مراجله مضى وورثنا منه درعا مفاضه ... وأبيض هنديا طويلا حمائله وقد كان يرمى المشرفي بكفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله كريم إذا لاقيته مبتسما ... وإما تولى أشعث الرأس جافله إذا القوم أموا بيته فهو عامد ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله ترى جاذرية يرعدان وناره ... عليها عدا ميل الهشيم وحامله يجران ثنيا خيرها عظم جاره ... بصيرا بها لم تعد عنها مشاغله وكانت زينب ذات جمال وأدب وكمال، شاعرة مشهورة مطبوعة على الشعر والفضل والأدب، متجملة بالفصاحة التي هي حلية العرب، ولها مراث كثيرة في أخيها لم نعثر عليها الآن. زينب ابنة أبي القاسم الشهيرة بأم المؤيد عبد الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وهو ابن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرماني الأصل النيسابوري الدار، كانت فاضلة عالمة أدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة، فمن أخذت عنهم أبو محمد إسماعيل بن أبي القاسم النيسابوري القاري، وأبو المظفر عبد المنعم وهو ابن عبد الكريم بن هوزان القشيري صاحب "الرسالة القشيري"، وممن أجازها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسمايعل الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مؤلف "الكشاف"، وممن أجازتهم من أكابر العلماء العلامة المؤرخ شهاب الدين قاضي القضاة بان خلكان صاحب "التاريخ المشهور" وهي في القرن السابع من الهجرة. الأميرة زينب هانم أفندي هي أصغر كريمات المرحوم محمد علي باشا والي مصر أول مؤسس للحكومة الخديوية. ولدت في حدود سنة 1244 هجرية في مصر القاهرة ووالدتها شمع نور قادين أفندي من محاظي المرحوم محمد علي باشا وهي جركسية الأصل. وفي سنة 1264 هـ تأهلت بالمرحوم يوسف كامل باشا، وأقيمت لها الأفراح في مصر إلى الدرجة التي لم يسبق لها مثال وكان زفافها في سراي الأزبكية. ولما توفي محمد علي وتولى عباس باشا حكومة مصر واشتدت البغضاء بينه وبين الأمراء "المورهليين": باقي بك، وسامي باشا، وكامل باشا، وسائر العائلة الخديوية، واضطروا للهجرة من مصر. هاجرت المترجمة المرحومة مع زوجها كما هاجرت أختها الأميرة نازلي هانم أفندي إلى الأستانة وذلك في حدود 1268هـ، فأكرمت الدولة العلية مثوى الجميع وتقلب كامل باشا في مناصب الدولة حتى صار صدرا أعظم في مدة المرحوم السلطان عبد العزيز ثم توفي في حدود التسعين. وبقيت المترجمة في الأستانة في منزلها الكائن في يمدان السلطان بايزيد ومنزله الساحلي في بيتك الشهير داخل الخليج القسطنطيني. وتوفيت في ربيع سنة 1302 هـ ودفنت في مدفنها الخصوصي خارج "إسكدار" في الموقع المعروف بقره جه أحمد سلطان وكان لوفاتها وجنازتها شأن عظيم في عموم الأستانة. وخلفت من الأموال والجواهر والأراضي والعقارات شيئا قد لا يقل عن ثلاثة ملايين جنيه ولم تعقب ذرية لا هي ولا زوجها، وورث جميع ذلك أخوها المرحوم البرنس عبد الحليم باشا بن محمد علي باشا فمما تركت من العقارات الشهيرة سراي بيك وسراي ميدان السلطان بايزيد، ومن ذلك اسهم الشركة الخيرية، وهي شركة "وابورات البوغاز" في الأستانة ولا تقل عن أربعين "وابورا"، وسراي الأزبكية في مصر وسراي شبري الصغيرة. وكانت -رحمها الله- كثيرة الخيرات والمبرات، سخية اليد، علايةالنفس، محبة لإعانة الفقراء وإغاثتهم، كانت تصرف على كثير من البيوت حتى بلغ من كان يعيش بإحسانها في انفس الأستانة فقط أكثر من أربعمائة عائلة. ولها أوقاف عظيمة أوقفتها على نفسها وزوجها وذريتها، ثم جعلت ربع تلك الأوقاف لجملة محلات مباركة كالمسجد الحسيني في مصر ومساجد السيد نفيسة والسيدة زينب وغيرهما نحو 14 مسجدا وعدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 تكايا منها المولوية والنقشبندية والكاشنية وعلى ليلة المعراج وليلة القدر في قراءة القرآن بمسجد والدها في قلعة مصر. وجعلت من ذلك الربع قدرا لمدرسي الفقه الحنفي في الجامع الأزهر ومدرسي الفقه الشافعي والمالكي والحنبلي وخصصت لكل تخصيصات. ثم إنها خصصت ربعا من ذلك أيضا لكل من قرأ القرآن في سراياتها ولكل من خدمها أو لازمها إلى حين الوفاة من الرجال والنساء وجعلت لمن يبلغ زمن ملازمته لها أو قيامه بخدمتها عشر سنين فأكثر ضعف من كان زمنه أقل من ذلك وكذلك لعتقائها وعتقاء أمها وفقراء معتوقي والدها ومن خيراتها مساهمتها بالاشتراك مع زوجها في بناء مستشفى في مدينة "إسكدار" من دار الخلافة وسبيل في قصبة قرطال بقرب "إسكدار". وأوقفت عليها الأوقاف الكافية، كما أوقفت على قبرها وقبر زوجها وعلى بعض التكايا والزوايا في الأستانة ويغرها. وكانت المترجمة متوسعة في دائرتها مطموعا فيها لمالها وسخائها، ومحترمة جدا في جميع دوائر الدولة حتى إنها كانت معتبرة جدا في السراي السلطاني ولدى جلالة الخلفاء العظام عموما وجلالة سيدنا أمير المؤمنين خصوصا، وكان لها وقع سياسي في الأحوال المصرية في شأن العصبة العرابية. قيل: إنها صرفت من أربعين إلى خمسين ألف جنيه لمساعدة أخيها البرنس حليم باشا، حتى إن الحكومة قبضت على وكيل دائرتها في مصر عثمان باشا لتداخله بأمرها مع عصبة الأشقياء لتستميلهم إلى أخيها. وكان أخوها قد قل ماله وكانت تعينه كما تعين غيره من العائلة، ولما دنت وفاتها أوصت له بكثير من أموالها وعقاراتها. قال أهل الاطلاع على حقيقة حالها: إنها أصيبت بشيء من اختلال الشعور قبل موتها بمدة. وفي تلك المدة اهتم البرنس حليم باشا بتحوير الوقفيات وحصر قسمها الأعظم فيه وفي أولاده، واستغل الفائدة من ذلك الوقت على أن توفي في سنة 1312. وحينئذ قام بعض الناس وحرك أصحاب الحقوق بالمطالبة، ولا يزال النزاع فيها إلى الآن. حرف السين سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام كانت أحسن نساء زمانها جمالا وأوفرهن عقلا وكمالا، تزوجت بإبراهيم الخليل -عليه السلام- وكان يحبها محبة عظيمة وكانت لم تعصه في شيء وبذلك أكرمها الله تعالى. وكان قدم بها إبراهيم إلى مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى، وقد وصف له حسنها وجمالها، فأرسل إلى إبراهيم -عليه السلام- فجاءه فقال له: ما هذه المرأة منك؟ فقال: هي أختي وتخوف أن قال هي امرأتي أن يقتله. فقال له: زينها وأرسلها لي حتى أنظر إليها فرجع إبراهيم إلى سارة وقال لها: إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده فإنك أختي في كتاب الله -عز وجل- ثم أقبلت سارة على الجبار وقام إبراهيم عليه السلام يصلي. فلما دخلت عليه ورآها أهوى غليها يتناولها بيده فيبست يده إلى صدره، فلما رأى ذلك عظم أمرها وقال لها: سلي ربك أن يطلق يدي فوالله لا آذيتك. فقالت سارة: اللهم إن كان صادقا فأطلق له يده، فأطلق الله تعالى يده. وقيل: إنه فعل ذلك ثلاث مرات بقصد أن يتناولها فتيبس يده فلما رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ذلك ردها إلى إبراهيم ووهب لها هاجر وهي جارية قبطية فأقبلت إلى إبراهيم ومعها هاجر وهي تحمد الله تعالى على عصمتها من فرعون. وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت، فوهبت هاجر إلى إبراهيم بقولها: إني أراها امرأة وضيئة فخذها لعل الله تعالى يرزقك منها بولد، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت له إسماعيل -عليه السلام- وكانت سارة بنت تسعين سنة وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة وبشر إبراهيم بأنه سيرزفه الله بولد من سارة وقد كان وحملت سارة بإسحاق. وقيل: كان حملت هاجر بإسماعيل فوضعتا معا وشب الغلامان، فبينما هما يتناضلان ذات يوم وكان إبراهيم -عليه السلام- سابق بينهما فسبق إسماعيل فأخذه فأجلسه في حجره وأجلس إسحاق إلى جانبه وسارة تنظر إليه فغضبت. وقالت: عمدت إلى ابن الأمة فأجلسته في حجرك وعمدت إلى ابني فأجلسته إلى جانبك وقد كان أخذها ما يأخذ النساء من الغيرة فحلفت لتقطعن بضعة منها ولتغيرن خلقتها، ثم ثاب إليها عقلها فبقيت في ذلك. فقال إبراهيم -عليه السلام-: اخفضيها واثقبي أذنها ففعلت ذلك فصارت سنة في النساء. ثم إن إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- اقتتلا ذات يوم كما تفعل الصبيان فغضبت سارة على هاجر وقالت: لا تساكنني في بلد وأمرت إبراهيم -عليه السلام- أن يعزلها عنها فأوحى الله إليه أن يأتي بهما إلى مكة فذهب بهما. وتوفيت سارة ولها من العمر مائة واثنتان وعشرون سنة. وقيل: مائة وسبع وعشرين بالشام بقرية الجبابرة بأرض كنعان في جيرون في مزرعة اشتراها إبراهيم -عليه السلام- ودفنت بها. سارة القرظية الإسرائيلية كانت من يهود يثرب من بني قريظة. قيل: إن أبا جبلة أحد ملوك اليمن قصد المدينة في الجاهلية وكان أهلها يهود وبلغه عن ملكهم أمور فاحشة فأوقع في اليهود بذي حرض وهو واد بالمدينة عند أحد فقالت سارة القرظية وهي منهم تذكر ذلك وترثي من قتل من ومها: بأهلي رمت أم لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفيها الرياح كهول من قريظة أتلفتهم ... سيوف الخزرجية والرماح ولو أذنوا بأمرهم لحالت ... هنالك دونهم حرب رداح رزئنا والرزية ذات نغل ... يمر لأجلها الماء القراح سبيعة ابنة عبد اشمس بن عبد مناف هي زوجة مسعود بن مالك يتصل نسبه إلى ثقيف كان مكرمة عند زوجها وقومها مسموعة الكلمة لما لها من المكان والفضل، حتى إنه لما كان يوم الفجار الرابع في الجاهلية -وهو يوم عكاظ- ودارت الدائرة على بني قيس وانتصر زوجها وحرب بن أمية على أعدائهم فرآها تبكي حيت تداعى الناس فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: لما يصاب غدا قومي. فقال لها - وكان مسعود قد ضرب على امرأته سبيعة خباء-: من دخل خباءك من قريش فهو آمن، فجعلت توصل به قطعا ليتسع فقال لها: لا تتجاوزي في خبائك فإني لا أمضي إلى من أحاط به الخباء، فأحفظها. فقالت: أما والله إني لأظن أنك تود أن لو زدت في توسعته فلما انهزمت قيس دخلوا خباءها مستجيرين بها فأجار لها حرب بن أمية وقال لها: يا عمة، من تمسك بأطناب خبائك أو دار حوله فهو آمن. فنادت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بذلك فاستدارت قيس بخبائها حتى كثروا جدا فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها. فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، وكان زوجها مسعود بن معتب قد خرج معه يومئذ بنوه من سبيعة وهم عروة ولوحة ونويرة والأسود فكانوا يدورون وهم غلمان في قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم ليجيروهم كما أمرتهم أمهم أن يفعلوا فخرج وهب بن معتب حتى وقف عليها. وقال لها: لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت على ربطت به رجلا من بني كنانة فنادت بأعلى صوتها أن وهبا يحلف أن لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من بني كنانة فالجد الجد، فلما هزمت لجأوا إلى خبائها فأجارهم حرب بن أمية. ست الوزراء لقب حفيدة العلامة وجيه الدين الحنبلي. ولدت سنة 624 هجرية. وتوفيت سنة 717 هـ وهي محدثة مشهورة أخذت صحيح البخاري ومسند الإمام الشافعي عن أبي عبد الله الزبيدي وقرأت على أبيها بعض الحديث وكانت كما رواه صلاح الدين الصفدي محدثة عصرها واستقدمت إلى مصر فأخذ عنها الحديث الامير سيف الدين أرغون والقاضي كريم الدين، ودرست البخاري مرارا متوالية. وروى عنها كثير من مشاهير العلماء. ست الكرام بنت السيد سيف الدين عثمان الرفاعي أخت السيد علي مهذب الدولة والسيد عبد الرحيم ممهد الدولة والسيد عبد السلام أبناء عثمان -رضي الله عنهم- كانت وارثة محمدية ووليد علوية ذات أخلاق هاشمية وطباع مصطفوية، وأطوار فاطمية عدها خالها السيد الكبير سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الرافعي -رضي الله عنه- في طبقات ذكرها الإمام أحمد بن جلال- قدس -سره - في "جلاء الصدا". قال عند ذكرها: الست السعيدة الحميدة الشهيرة ذات السيرة الحميدة، والأوصاف السديدة، صاحبة الدرجات العاليات، والمقامات الثابتات، والمكاشفات الصادقة. ولية الله الملك القدير بنت السيد عثمان من أخت السيد أحمد الكبير بست الكرام. نور الله مضجعها وعطر بفضله مهجعها، كانت من أكثر الناس حياء وإيمانا وإيقانا ذات أسرار مخفية وأحوال مرضية تنفق على الفقراء كل ما تجد من الأموال قنعت من الدنيا بالدون وما وجد لها عن خدمة الله سكون، تنفق ما كان لها من الطعام وتبيت طاوية، وكانت بقاء الله تعالى وقدره راضية. كانت ذات شوق وحنين وحزن وأنين وأرق، ولباسها الصوف الخشن القصير. تطحن حتى يعلو غبار الدقيق على وجهها، وكان خالها يقربها ويدنيها منه وبغرائب الأمور والأسرار يسرها. كانت حافظة للعهود وبذلك كان يصفها ويعرفها لإخوتها ويقول: الحق يميل غليها ويرضى لرضاها ويقول لها: أي كرم وصل الله جناحك به كرمك. نقل أنها في صغرها كانت تصعد أمام خالها كل مرة فرأى ذلك أخوها السيد عبد السلام فنقم عليها فقال له: أما ترضون أم يكون منكم نساء لهن مقام الرجال كانت -قدس الله سرها- تقول علامة القبول والتوفيق المواظبة على الخيرات والمداومة عليها ما دام رمق من الحياة وإن أهل القبول جعلوا الصدق مطيتهم والتضرع إلى الله تعالى ديدنهم ووصلوا بهذه الصفات إلى واهب العطيات. قال الزبير: توفيت سنة 560 هـ، ودفنت بمشهد أم عبيدة ببغداد رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ست الملك بنت العزيز بالله ت الملك بنت العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله الفاطمي العلوي. كانت من أحسن نساء زمانها جمالا، وأوفرهن عقلا، وأثبتهن جنانا، وأعلاهن رايان وأشدهن حزما. شاركت أخاها الحاكم بأمر الله في الملك حتى إنه صار يقطع الامور عنم رأيها، وكلما خالفها في أمر تقوم عليه الرعية وينبذون طاعته، وهو يحسب ذلك من أخته ست الملك حتى إنه تغير عليها وأراد قتلها فصار يترقب الفرس وهي توجس منه خيفة إلى أن كثر ظلمه وزاد عسفه فكرهه الناس من سوء فعله ومن شدة كراهتهم له كانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبه وسب أسلافه والدعاء عليه حتى أنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة. فلما رآها ظن أنها تشتكي، فأمر بأخذ الرقة منها وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة وذكر حرمه بما يكره فأمر بطلب المرأة فقيل له: إنا من قراطيس فأمر بإحراق مصر ونهبها، ففعلوا ذلك، وقاتل أهلها أشد قتال مدة يومين. وفي اليوم الثالث انضاف إليهم الأتراك والمشارقة فقويت شوكتهم وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح ويعتذرون إليه فلم يقبل فعادوا إلى التهديد. فلما رأى قوتهم أمر بالكف عنهم وقد أحرق بعض مصر ونهب بعضها وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأولادهم فابتاعوهم منه، وقد فضحت نساؤهم فازداد غيظهم وحقنفم عليه فظن أن ذلك من أخته ست الملك لأنه بلغه أن الرجال يدخلون عليها، فأرسل يتهددها بالقتل، ولما رأت سوء تصرفه وأنه ربما يطيع هواه فيقتلها أرسلت على قائد كبير من قواد الحاكم يقال له ابن داوس-وكان يخاف الحاكم- فقالت له إني أريد أنألقاك، ثم حضرت عنده وقالت له أنت تعلم ما يعتقده أخي فيك وإنه متى تمكن منك لا يبقي عليك، وأنا كذلك وقد انضاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكره المسلمون ولا يصبرون عليه، وأخاف أن يثوروا به، فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع هذه الدولة فأجابها إلى ما تريد فقالت إنه يصعد إلى هذا الجبل غدا وليس معه غلام إلا الركاب وصبي وينفرد بنفسه فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه ويقتلان الصبي ونقيم ولده بعده وتكون أنت مدير الدولة وأزيد في إقطاعك مائة ألف دينار، ثم أعطته ألف دينار للرجلين، وانصرفت. فاختار اثنين من ثقاته وأخبرهما بالقصة فمضيا إلى الجبل. فلما انفرد الحاكم هجما عليه وقتلاه وأخفياه وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر, فملا أيقنت النسا بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك فأجلست على كرسي الولاية علي بن الحاكم وهو صبي لم يناهز الحلم وبايع له الناس ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وأنفذت الكتب إلى البلاد بأن البيعة له وفي الغد ضر ابن داوس بأمر من ست الملك ومعه قواده، فأمرت خادما لها أن يضربه بالسيف فقتله وهو ينادي يا لثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان وقامت ست الملك تدبر الدولة مدة أربع سنوات وهي تعدل بين الرغبة وتنصف المظلومين حتى أحبها جميع الأهالي وتنموا أن مدتها تدوم وتوفيت سنة 415 هجرية وقد حزن عليها جميع أهل مصر وتمنوا بقاءها تدبر المملكة حتى يكبر ابن أخيها ولكن لله في حكمه إرادة. سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية كانت من النساء العاقلات الحكيمات ذوات الفصاحة والبلاغة وأصالة الرأي حتى إنها قادت أكابر قومها إلى رأيها وتحت طاعتها وركبت على العرب في عساكر جرارة، ولما أقبلت من الجزيرة قاصدة المدينة لمحاربة أبي بكر وادعت النبوة كانت هي ورهطها في أخوالها من تغلب أفناء ربيعة، وجاء معها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الهذيل بن عمران من بين تغلب وكان نصرانيا فترك دينه وتبعها وعقبه بن هلال في النمر، وزياد بن بلال في أياد، والسليل بن قيس في شيبان فأتاهم أمر أعظم منا هم فيه لاختلافهم. وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر فأرسلت إلى ملك بن نويرة تطلب الموادعة فأجابها، وردها عن غزوها، وحملها على أحياء من بين تميم فأجابته وقالت: أنما امرأة من بني يربوع فإن كان ملكا فهو لكم وهرب منها عطارد بن حاجب وساده من بني مالك وحنظلة إلى بني العنبر وكرهوا ما صنع وكيع، وكان قد أودعها وهرب منها أشباههم من بين يربوع وكرهوا ما صنع مالك بن نويرة واجتمع مالك ووكيع وسجاح فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب. فساروا إليهم فلقيهم ضبة وعبد مناة فقتل بينهم قتلى كثيرة وأسر بعضهم من بعض ثم تصالحوا وقال قيس بن عاصم شعرا أظهر فيه ندمه على تخلفه عن أبي بكر بصدقته، ثم سارت سجاح في جنود الجزيرة حتى بلغت النباج، فأغار عليهم أوس ابن خزيمة الجهمي في بني عمرو فأسر الهذيل وعقبة، ثم اتفقوا على أن يطلق أسرى سجاح ولا يطأ أرض أوس ومن معه. ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة وقالت: عليكم باليمامة وزقوا زفيف الحمامة فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة. فقصدت بني حنيفة فبلغ ذلك مسيلمة فخاف إن هو شغل بها تغلب ثمامة وشرحبيل بن حسنة والقبائل التي حولهم على هجر وهي اليمامة فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها فأمنته فجاءها في أربعين من بني حنيفة فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض ولقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، وكان مما شرع لهم أن من أصاب ولدا واحدا ذكرا لا يأتي النساء حتى يموت ذلك الولد فيطلب الواحد حتى يصيب ابنا، ثم يمسك. وقيل: بل تحصن منها فقالت له: انزل، فقال لها: أبعدي أصحابك، ففعلت. وقد ضرب لها قبة وجمرها لتزكو بطيب الريح واجتمع بها. فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: ألم تري إلى ربك كيف فعل بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى بين صفاق وحشا. قالت: أشهد أنك نبي! قال: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب. فتزوجها بجوابها وأقامت عنده ثلاثا ثم انصرفت إلى قومها فقالوا لها: ما عندك؟ قالت كان على حق فتبعته وتزوجته قالوا: هل أصدقك شيئا؟ قالت: لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق فرجعت. فلما رآها أغلق باب الحصن، وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبيب بن ربعي الرياحي فدعاه وقال له: ناد في أصحابك إن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة فانصرفت ومعها أصحابها منهم عطارد بن حاجب وعمرو بن الأيهم وغيلان بن خرشة وشبيب بن ربعي فقال عطارد بن حاجب: أمست نبيتنا أنثى نطوف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وصالحها مسيلمة على غلات اليمامة سنة تأخذ النصف وتترك عنده من يأخذ النصف فأخذت النصف وانصرفت إلى الجزيرة وخلفت هذيلا وعقبة وزيادا لأخذ النصف الباقي فلم يفاجئهم إلا دنو خالد إليهم فارفضوا، فما زالت سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة وجاءت معهم وحسن إسلامهم وإسلامها وانتقلت إلى البصرة وماتت بها، وصلى عليها سمرة بن جندب وهو على البصرة لمعاوية قبل قدوم عبيد الله بن زياد من خراسان وولايته البصرة. وقيل: إنها لما قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها بذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سرى خانم شاعرة تركية مشهورة ولدت في ديار بكر سنة 1814 ميلادية و1230 هجرية أتت بغداد وزارت مدافن الأولياء ورجعت إلى ديار بكر ثم شخصت إلى الأستانة وتوفيت فيها. ولها أشعار شائقة ومنظومات رائقة جميعها باللغة التركية والفارسية أعراضنا عن إيراد شيء منها لأنه ليس من موضوع هذا الكتاب. سعدى معشوقة مالك بن عقيل العذري. كانت ذات فصاحة وأدب وجمال وكانت مع هذا الفتى على أعظم رتبة الحب من شدة تعلق كل منهما بصاحبه وكان في الحي رجل يحبها وهي لا تحبه فغار منهما فوشى به إلى أهلها فحجبوها عنه فتراسلا بالمحبة وبلغه، فأرسل زوجته عن لسانها إلى مالك بشتم وقطيعة، ولم يعرف أنها زوجة ذلك الرجل ولم تدر الزوجة تفصيل الأمر، وكان عند مالك أنفة، فخرج إلى مكة ناقضا للعهد. فلما بلغ زوجة الرجل وجه الحيلة وما أخفاه زوجها أخبرت سعدى بما تم فخرجت على وجهها إلى مكة حتى اجتمعت به. قال كعب بن مسعدة الغفاري: خرجت أنا ومالك نمشي في القمر إذا بنسوة تقول إحداهن: أي والله هو، ثم قربن منا. فقالت إحداهن: قل لصاحبك: ليست لياليك في حج بعائدة ... كما عهدت ولا أيام ذي سلم فقلت قد سمعت فأجب قال قد انقطعت فأجب أنت فقلت ولم يحضرني غيره. فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوما لها النفس ذلت وانصرفنا فما استقرينا إلا وجارية تقول: أجب المرأة التي كلمتك، فلما جئت إليها قالت: أنت المجيب. قلت: نعم، قالت: فما أقصر جوابك؟ قلت: لم يحضرني غيره. فقالت: لم يخلق الله أحب إلي من الذي معك. فقلت: علي أن أحضره إليك. فقالت: هيهات. فضمنته الليلة القابلة ورجعت فرأيته في منزلي فأخبرني بالقصة كالمكاشف فقلت له: قد ضمنت لها حضورك الليلة القابلة. فلما كان الوقت مضينا فإذا بالمجلس قد طيب وفرش فجلسا فتعاتبا، فأنشدته أبيات عبد الله بن الدمينة: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشملت بي من كان فيك يلوم وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لها غرضا أرمى وأنت سليم فلو كان قولا يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم فأجابها: غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ... وفي بعض هذا للحب عزاء جزيتك ضعف الود ثم حرمتني ... فحبك في قلبي إلي إذاء فالتفتت إلي وقالت: ألا تسمع؟ فغمزته فكف ثم أنشدت: تجاهلت وصلي حين لاحت عمايتي ... فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته ... نصيب ولا أرى وعقل موقر ولكنما آذنت بالصرم بغتة ... ولست على مثل الذي جئت أقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فأجابها: لقد كنت أنهى النفس عنك لعلها ... إذا وعدت بالنأي عنك تطيب ثم قبلها وأنشد: دمعي عليك من الجفون سكوب ... والقلب منك مروع مكروب لا شيء في الدنيا ألذ من الهوى ... إن لم يخن عهدا لحبيب حبيب فأجابته: خلوتم بأنواع السرور وهاكم ... وأقربتموني للصبابة والحزن وعذبتموني بالصدود وإنني ... لراض بما ترضونه لي من الغبن ولما أنشد (لقد كنت أنهى النفس) - البيت- قالت له: وكنت تفعل ما فيك خير بعدها وافترقا. فقالت لكعب: ما قلت لك إنك لا تفي بضمانك ولكن إذا كان السحر فاتني. قال كعب: فجئت فإذا بالصياح فسألت جارية عن الخبر فقالت: حين خرجتما جعلت في عنقها أنشوطة وخنقت نفسها، فلحقناها فخلصناها، فجلست ساعة تحادثنا وتفتكر فتقول: إنه لقاسي القلب، ثم شهقت فماتت وبلغ الشاب فلزم قبرها فجاءته في النوم فقالت: هلا كان هذا من قبل، فمات من وقته. سعدى الأسدية كانت مهذبة شاعرة فصيحة. علقها فتى من قومها فمنعه أبوه أن يتزوج إلا بأرفع منها وأبى الغلام إلا هي. فلما أيس أبوها زوجها من رجل آخر فاشتد وجد الغلام بها ولقيها يوما، فأنشد: لعمري يا سعدى لطال تأيمي ... وبغضي شيخاي فيك كلاهما وتركي للحيين لم أبغ منهما ... سواك ولم يربع هواي عليهما فأجابته سعدى تقول: حبيبي لا تعجل لتفهم حجتي ... كفاني ما بي من بلاء ومن جهد ومن عبرات تعتريني وزفرة ... تكاد لها نفسي تسيل من الوجد غلبت على نفسي جهارا ولم أطق ... خلافا على أهلي بهزل ولا جد ولم يمنعوني أن أموت بزعمهم ... غدا خوف هذا العار في جدث وحدي فلا نفس أن تأتي هناك فتلتمس ... مكاني فتشكو ما تحملت من جهد فقد أوضحت له أنها هالكة من الغد بعشقه فلما كان الغد جاء فوجدها ميتة فاحتملها إلى شعب بذرى جبل -يقال له: عرفات - ملتزما لها فمات واختفى أمرهما حولا حتى مر شخص من العرب فسمع شخصا على الجبل يقول: إنا الكريمان ذوا التصافي ... الذاهبان بالوفاء الصافي والله ما لقيت في تطوافي ... أبعد من غدر ومن إخلاف =من ميتين في ذرى أعراف فصعد الناس فوجدوهما على تلك الحالة فواروهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 سفانة ابنة حاتم الطائي كانت من أجود نساء العرب وأفصحهن مقالا وهي التي كانت سببا لنجاة قومها من الأسر من أيدي المسلمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن عدي بن حاتم كان يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليا إلى طيء فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام وخلف أخته سفانة فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: هلك الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني ويقتل الجاني، ويحفظ، الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جارية، هذه صفات المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق) . وقال فيها: (ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر وعالما ضاع بين جهال) فأطلقها ومن عليها بقومها، فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها، قال لأصحابه: (اسمعوا وعوا) فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه، فلما أطلقها رجعت إلى قومها فأتت أخاها عديا وهو بدومة الجندل فقالت له: يا أخي ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله فإني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة، رأيت خصالا تعجبني، رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير، ويرحم الصغير، ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه وإني أرى أن تلحق به فإنه بك نبيا فللسابق فضله وإن بك ملكا فلن تزل في عز اليمن. فقد عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأسلمت أخته سفانة وكانت على جانب عظيم من الكرم وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله فتهبها وتعطيها الناس فقال لها أبوها: يا بنية، الكريمان إذا اجتمعا في المال أتلفاه فإما أن أعطي وتمسكي وإما أن أمسك وتعطي فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت له: منك تعلمت مكارم الأخلاق. سكينة ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كانت سيدة نساء عصرها ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقا، تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها، ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له قريبا ومات عنها، ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان وفارقها قبلا لدخول، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فأمره سليمان ابن عبد الملك بطلاقها ففعل. وقيل: في ترتيب أزواجها غير ذلك والطرة السكينية منسوبة إليها. ولها نوادر وحكايات ظريفة مع الشعراء وغيرهم من ذلك أنها وقفت على عروة بن أذينة وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة فقالت له: أنت القائل: قالت وأبثثتها سري وبحت به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستتر ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطى هواك وما ألقي على بصري قال: نعم، قالت: لم يخرج هذا من قلب سليم وفي كتاب (الأغاني) كان اسم سكينة أميمة. وقيل: أمينة، ولقبتها أمها الرباب بسكينة وفيها وفي أمها يقول الحسين بن علي: لعمرك إنني لأحب دارا ... تكون بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس لعاتب عندي عتاب وكانت سكينة تحب الهزل واللهو والطرب وهي من الحذق على جانب عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 حكي أنها حضرت مأتما فيه بنت عثمان بن عفان فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد فسكتت سكينة حتى إذا أذن المؤذن وقال: أشهد أن محمدا رسولا لله، قالت لها سكينة: هذا أبي أم أبوك فقالت بنت عثمان: لا أفخر عليكم أبدا وكانت تجيء يوم الجمعة إلى المسجد فتقوم بإزاء ابن مطير فإذا شتم عليا شتمته هي وجواريها، فكان يأمر الحارث أن يضرب جواريها. وكانت سكينة عفيفة تجالس الأجلة من قريش وتجمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزاحة، وكانت من أحسن الناس شعرا، وكانت تصفف جمتها تصفيها لم ير أحسن منه. وحكي أنها أرسلت مرة إلى صاحب الشرط، إن دخل علينا شامي فابعث إلينا بالشرط، فركب وأتى، وأمرت بفتح الباب وخرجت جارية من جواريها وبيدها برغوث وقالت: هذا الشامي الذي شكوناه، فلما رأى الشرطي ذلك حصل هل الخجل وذهب هو ورجاله يخجله، وكانت قد اتخذت أشعب الطماع مسامرا لها ليمازحها وكانت تدر عليه العطايا وتنشرح لأخباره المضحكة. وقيل: إنها خرجت لها سعلة في أسفل عينها حتى كبرت ثم أخذت وجهها وعظم ما بها وكان دراقيس الطبيب منقطعا إليها وفي خدمتها فقالت له: إلا ترى ما وقعت فيه؟ فقال: أتصبرين على ما يمسك من اللم حتى أعالجك؟ قالت: نعم، فأضجعها وشق جلد وجهها وسلخ اللحم من تحته حتى ظهرت العروق وكان منها شيء تحت الحدقة فرفع الحدقة عنها حتى جعلها ناحية ثم سل عروق السلعة من تحتها وأخرجها ورد العين إلى موضعها وسكينة مضجعة لا تتحرك ولا تئن حتى فرغ وبرئت بعد ذلك وبقي أثر تلك الحزازة في مؤخر عينها. وقيل: إنه اجتمع في ضيافة سكينة يوما جرير والفرزدق، وكثير عزة، وجميل صاحب بثينة، ونصيب فمكثوا أياما، ثم أذ1نت لهم فدخلوا فقعدت بحيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم، ثم خرجت جارية لها وضيئة قد روت الأشعار والأحاديث فقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال لها: ها أنا ذا قالت: أنت القائل: هما دلتاني من ثماني قامة ... كما انحط باز أقتم الريش كاسرة فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي نرجي أم قتيل نحاذره فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا ... وأقبلت في أعجاز ليل أبادره قال: نعم، قالت: فما دعاك إلى إفشاء السر؟ خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك، ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت: أيكم جرير؟ قال: ها أنا ذا، فقالت: أنت القائل: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام لو كان عهدك كالذي حدثتنا ... لوصلت ذاك وكان غير ذمام إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام قال: نعم، قالت: أولا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف خذ هذه الألف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: أيكم كثير؟ قال: أنا: قالت: أنت القائل: وأعجبني يا عز منك خلائق ... كرام إذا عد الخلائق أربع دنوك حتى يدفع الجاهل الصبا ... ودفعك أسباب المنى حين يطمع وإنك لا تدرين صبا مطلته ... أيشتد إن لاقاك أو يتضرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وإنك إن واصلت عملت بالذي ... لديك فلم يوجد لك الدهر مطمع قال: نعم، قالت: قد ملحت وشكلت خذ هذه الألف دينار واذهب لأهلك، ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم نصيب؟ قال: أنا، قالت: أنت القائل: ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار بنفسي كل مهضوم حشاها ... إذا ظلمت فليس لها انتصار قال: نعم، قالت: ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا خذ هذه الألف دينا والحق بأهلك. ثم دخلت وخرجت فقالت لجميل: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: مازلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذا لسعيد لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل عندهن شهيد فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف دينا والحق بأهلك. ورويت، وكان عمرو بن عثمان لما تزوج نحو هذه ظهرت بها حذاقتها وانتقادها على أفحل الشعراء، وكان عمرو بن عثمان لما تزوج بها عتب عليها يوما وخرج إلى مال له فقالت لأشعب: إن ابن عثمان خرج عاتبا علي فاعلم لي حاله. فقال لها: لا أستطيع أن أذهب الساعة فقالت: أنا أعطيك ثلاثين دينارا قال أشعب: فأتيته ليلا فدخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا: أشعب، فنزل عن فرشه إلى الأرض. فقال: أشيعب؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك أتذكرت منها ما تذكرت منك، وأنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك إلى الأرض. قال دعني من هذا وغنني: عوجا به فاستنطقاه فقد ... ذكرني ما كنت لم أذكر قال: فغنيته، فلم يطرب ثم قال: ويحك غير هذا فإن أصبت ما في نفسي فلك حلتي هذه وقد اشتريتها آنفا بثلثمائة دينار فغنيته: علق القلب بعض ما قد شجاه ... من حبيب أمسى هوانا هواه ما ضراري نفسي بهجران من لي ... س مسيئا ولا بعيدا نواه واجتنابي بيت الحبيب وما الخل ... د بأشهى إلي من أن أراه قال: ما عدوت ما في نفسي، خذا الحلة، قال: فأخذتها ورجعت إلى سكينة فقصيت عليها القصة فقالت: وأين الحلة؟ قلت: معي. فقالت: وأنت الآن تريد أن تلبسها؟ لا والله ولا كرامة، فقلت: قد أعطانيها فأي شيء تريدين مني؟ فقالت: أن أشتريها منك فبعتها إياها بثلثمائة دينار. وقال بعضهم: كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة وآلى يمينا أن لا يغني ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي، ثم خرج فأتى المدينة ونزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة فأقام في المدينة حولا ثم أراد الشخوص إلى مكة، وبلغ ذلك سكينة فاغتمت لذلك غما شديدا وضاق به ذرعها وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره. فقات لأشعب: ويلك إن ابن سريج شاخص وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا ويعز علي ذلك فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جعلت فداك وأنى لك بذلك، والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه فارفعي طمعك وامسحي بوزك تنفعك حلاوة فمك، فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا، فخرج على أسوأ الحالات واغتم أشعب غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لا ينبغي له ذلك، فأتى منزل ابن سريج ليلا فرقه. فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق، ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له: ما هذا، ويحك؟ فقص القصة عليه. فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبدا. قال أشعب: فديتك هي مولاتي ولابد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تسير إليها وتغنيها فيكون ذلك سببا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته. قال أشعب: قد قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة علي، فالله الله في وأنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم في. فأبى عليه. فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة، فتحت آذان أهل المدينة لها ونبه الجيران من رقادهم وأقام النسا من فرشهم، ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن راعهم. فقال له ابن سريج: ويلط ما هذا؟ قال: لئن لم تسر معي إليه الأصرخن صرخة أخرى لا يبقى أحد بالمدينة إلا صار بالباب، ثم لأفتحنه ولرينهم ما بي ولأعلمنهم انك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه فقال ابن سريج: أعزب - أخزاك الله. قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو وإلا فما أملك صدقة وامرأتي طالق ثلاثا، وهو يخير في مقام إبراهيم والكعبة وبيت النار والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن ما قلت لك. فما أرى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه: ويحك، أما ترى ما وقعنا فيه! وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا. فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث؟ وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رجلي على رجلك فخرجا. فلما صار في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني. قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس ولأقولن إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها لتغنيها سرا وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه فقال: امض لا بارك الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج ففتح الباب لهما ودخل إلى حجرة خارجة عن دار سكينة فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء، قال: قد علمت بأبي أنت ما كان مني قالت: أجل، فتحدثا ساعة وقص عليها ما صنع به أشعب فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت؟ قالت: وأين، قال: إلى المنزل. قالت: برئت من جدي إن برحت من داري ثلاثا، وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحدا. فقال عبيد: واسخنة عيناه، واذهاب ديناه وافضيحتاه، ثم اندفع يغني: أسعتين الذي بكفيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولقد كنت قد عرفت وأبصر ... ت أمورا لو أنها نفعتني قلت إن أهوى شفا ما ألاقي ... في خطوب تتابعت فدحتني فقال سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر، ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا فرت به إليه ثم قالت: أقسمت عليك إلا ما أدخلته في يدك ففعل ذلك ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزة الميلاء فأقرئها مني السلام وأعلمها أن عبيدا عندنا فلتأتنا متفضلة بالزيارة، فأتاها أشعب فأعلمها فأسرعت المجيء فتحدثوا باقي ليلتهم، ثم أمرت عبيدا وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها، فلما أصبحت هيئ لهم غداؤهم وأذنت لابن سريج فدخل فتغدى قريبا منها مع أشعب ومواليها وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها فلما فرغوا من الغداء قالت: يا عزان رأيت أن تغنينا فافعلي فقالت: أي وعيشك فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي: حيي من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت ركابكم بليل مظلم فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته لها وقالت: صيري هذا في يدك ففعلت. ثم قالت لعبيد: هات غننا. فقال: حسبك ما سمعت البارجة. فقالت: لابد أن تغنينا في كل يوم لحنا، فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنى: قالت من أنت ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار قدحان منك فلا تبعد بك الدار ... بين وفي البين للمبتول إضرار ثم قالت لعزة في اليوم الثاني غني فغنت لحنها في شعر الحارث بن خالد: وقرت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثير البكاء مشفقا من صدودها وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظل النصارى حوله يوم عيدها قال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسنا ولا طيبا ثم قالت لابن سريج: هات، فاندفع يغني: أرقت فلم أنم طربا ... وربت مسهدا نصبا لطيف أحب خلق الله ... إنسانا وإن غضبا فلم أردد مقالتها ... ولم أك عاتبا عتبا ولكن صرمت حبلي ... فأمسى الحبل منقضبا فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا وقد شفعناك ولم نردك وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام فاذهب في حفظ الله وكلاءته، ثم قالت لعزة: إن شئت أقمت أو انصرفت ودعت لها بحلة، ولابن سريج بمثلها، وانصرفت وأقام عبيد حتى انقضت ليلته وانصرف فمضى من وجهه إلى مكة راجعا. واجتمع يوما نسوة عند سكينة بنت الحسين - عليهما السلام- وهن بالمدينة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه وتشوقن إليه وتمنينه فقالت سكينة: أتا آتي لكن به فبعثت إليه رسولا وهو يومئذ بمكة ووعدته أن يأتيها في الصورين في ليلة سمتها له فوافاها على رواحله ومعه الغريض فحدثهن حتى وافى الفجر وحان انصرافهن فقال لهن: إني والله مشتاق إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ألمم بزينب إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غدا قد خلفت ليلة الصورين جاهدة ... وما على الحر إلا الصبر مجتهدا لعمرك ما أراني إن نوى برحت ... وهكذا الحب إلا ميتا كمدا قال: وانصرف عمر والغريض معه فلما كان بمكة قال عمر: يا غريض، إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه لك ذكره، فهل لك فيه؟ قال: افعل من ذلك ما شئت، وما أنت أهله. قال: إني قد قلت في هذه الليلة التي كنا فيها شعرا فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك وأخبرهن أني وجهت بك فيه قاصدا. قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد سكينة وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي إن أبا خطاب - أبقاه الله - وجهني إليك قاصدا قالت: أوليس في خير وسور تركته. قال: نعم، قالت: وفيم وجهك أبو الخطاب - حفظه الله -؟ قال: جعلت فداك إن ابن أبي ربيعة حملني شعرا وأمرني أن أنشدك إياه. قالت: فهاته فأنشدها الشعر بتمامه قالت: فيا ويحه فما كان عليه أن لا يرجل في عدة فوجهت إلى النسوة فجمعتهن وأنشدتهن الشعر وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا. قال: قد غنيته ابن أبي ربيعة قالت: فهاته فغناه الغريض فقالت سكينة: أحسنت والله وأحسن ابن أبي ربيعة لولا أنك سبقت فغنيته عمر قبلنا لأحسنا جائزتك يا بنانة أعطه بكل بيت ألف درهم فأخرجت إليه بنانة أربعة آلاف فدفعتها إليه. وقالت له سكينة: لو زادنا عمر لزدتك، وكانت وفاة السيدة سكينة بمكة في ربيع الأول سنة 126 هجري. وقيل: سنة 117 هجري بالمدينة وهو الأرجح. سلمى الملقبة ب"قرة العين" كانت فتية بارعة الجمال، متوقدة الجنان، فاضلة عالمة. أبوها أحد المجتهدين في العجم، وكانت متزوجة بمجتهد آخر طلقت نفسها من زوجها على خلاف حكم شريعة الإسلام وأمت بالسيد علي محمد تلميذ الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي الذي مزج التصوف والفلسفة بالشريعة، وتسمى السيد علي - المذكور - بالبابي وطريقته تسمت به وكانت فرة العين تكاتبه ويكاتبها فكان يخاطبها في مكاتباته ب (قرة العين) فلقبت بذلك وكانت تناظر العلماء والفضلاء مكشوفة الوجه بدون حجاب. ثم لما وقعت المحاربة بين البابين وعساكر الدولة في مازندران جيشت جيشا وقادته مكشوفة الوجه وسارت أمامه إعانتهم، وفي أثناء الطريق قامت في الناس خطيبة وقالت: "أين أحكام الشريعة الأولى - أعني المحمدية - قد نسخت وإن أحكام الشريعة الثانية لم تصل إليها فنحن الآن في زمن لا تكليف فيه بشيء". فوقع الهرج والمرج، وفعل كل من الناس ما كان يشتهيه من القبائح، ثم قبض عليها ولبست البرقع جبرا، وحكم عليها بأن تحرق حية، ولكن الجلاد خنقها قبل أن تشتعل النار بالحطب الذي أعد لإحراقها. سلمى امرأة عروة بن الورد هي امرأة من بني كنانة، وتكنى أم وهب، وكان عروة بن الورد قد أغار عليهم فأصابها منهم وكانت بكرا فأعتقها واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضعة عشرة سنة، وولدت له ولدا وهو لا يشك في أنها أرغب الناس فيه وهي تقول له: لو حججت بي أمر على أهلي وأراهم، فحج بها فأتى إلى مكة ثم أتى إلى المدينة وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير وكان قومها يخالطون بني النصير فأتوهم وهو عندهم فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 قبل أن يخرج الشهر الحرام فتعالوا إليه وأخبروه أنكم لا تحبون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب مسبية، وافتدوني منه فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحد. فأتوه فسقوه الشراب، فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة وإنه عار علينا أن تكون مسبية فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك. فقال لهم: ذلك لكم، ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها، وإن اختارتكم انطلقتم بها قالوا: ذلك لك. قال: دعوني ألهو بها الليلة وأفاديها غدا. فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها. فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة وشهد عليه بذلك جماعة ممن حضر فلم يقدر على الامتناع وفاداها. فلما فادوه بها خيروها فاختارت قومها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة، إما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك وأغض طرفا وأقل فحشا، وأجود يدا وأحمى لحقيقة، والله إنك ما علمت لضحوك وقور، كسوب مدبر، خفيف على متن الفراش، ثقيل على ظهر العدو، طويل العماد، كثير الرماد، راضي الأهل والأجانب، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك لأني لم أكن أشأ أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدا فأرجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم. ثم فارقته، فقال عروة في ذلك: أرقت وصحبتي بمضيق عيق ... لبرق من تهامة مستطير سقى سلمى وأين ديار سلمى ... إذا كانت مجاورة السدير إذا حلت بأرض بني علي ... وأهلي بين زامرة وكير ذكرت منازلا من أم وهب ... محل الحي أسفل من نقير وأحدث معهدا من أم وهب ... معرسنا بدار بني النضير وقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الصباح أثرة ذي أثير بآنسة الحديث رضاب فيها ... بعيد النوم كالعنب العصير فتزوجها رجل من بني عمها فقال لها يوما من الأيام: يا سلمى، اثني علي كما أثنيت على عروة وكان قولها فيه اشتهر فقالت له: لا تكلفني ذلك. فإن قلت الحق أغضبتك وإلا واللات والعزى لا أكذب فقال: عزمت عليك لتأتين في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين. وخرج فجلس في ندي القوم وأقبلت فرماها القوم بأبصارهم فوقفت عليهم وقالت: انعموا صباحا إن هذا عزم علي أن أثني عليه بما أعلم، ثم أقبلت عليه فقالت: والله إن شملتك لالتحاف، وإن شربك لاشتفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجار، ثم انصرفت عنه فلامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها. سلامة القس هي جارية كانت لسهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فاشتراها يزيد بن عبد الملك بثلاثة آلاف دينار فأعجب بها وغلبت على أمره. وسبب ما قيل لها: سلامة القس أن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة أحد بني جشم بن معاوية بن بكر كان فقيها عابدا مجتهدا في العبادة، وكان يسمى القس لعبادته، مر يوما بمنزل مولاها فسمع غناءها فوقف يسمعه فرآه مولاها، فقال له: هل لك أن تنظر وتسمع؟ فأبى، فقال له: أنا أقعدك بمكان لا تراها وتسمع غناءها، فدخل معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فغنته فأعجبه غناؤها، ثم أخرجها مولاها إليه فشغف بها وأحبها هي أيضا، وكان شابا جميلا وكثر تردده على منزل مولاها. فقالت له يوما على خلوة أنا والله أحبك قال: وأنا والله أحبك. قالت: أحب أن أقبلك قال وأنا والله كذلك. قالت: أحب أن أضع بطني على بطن. قال: وأنا والله. قالت: فما يمنعك؟ قال: قوله تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) (الزخرف: 67) وأنا أكره أن تؤل خلتنا إلى عداوة، ثم قام وانصرف عنها وعاد إلى عبادته وله فيها أشعار منها: ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طربت في صوتها كيف تصنع تمد نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع وله فيها: ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر=وهل أنت يوما عن سلامة مقصر ألا ليت أني حيث سارت بها النوى ... جليس لسلمى كلما عج مزهر إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قلبه حين ينظر فلذلك قيل لها سلامة القس. وكانت أخذت الغناء عن معبد وتعلمت منه جملة أصوات وكان يريدها ويقدمها على غيرها من مولدات المدينة، ولذلك لما مات عظم موته عندها فجاءت في مشهده، وصارت تفرق الناس حتى قربت من النعش وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها وقد أخذت بعمود السرير وهي تبكي وتقول: قد لعمري بت ليلى ... كأخي الداء الوجيع ونجي الهم مني ... بات أدنى من ضجيعي كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي قد خلا من سيد كا ... ن لنا غير مضيع لا تلمنا إن خشينا أو هممنا بخشوع وكان يزيد أمر معبدا أن يعلمها هذا الصوت فعلمها إياه فندبته به يومئذ وكانت لها مناظرات ومحاورات ومجالس أنس مع حبابة، ويزيد لم يسبق لأمثالهم من الخلفاء والملوك ولم يصل أحد إلى ما وصلوا إليه. سميراميس ملكة أشور كانت أجمل أقرانها وأشجع أهل زمانها. وليت العرش بعد زوجها فينوس فكان من همها تحسين مدينة بابل، فشادت بها الهياكل العظيمة، وأنشأت القصور المزخرفة، وغرست الرياض والبساتين، واحتفرت الترع والخلجان، ومدت عليها المعابر والقناطر، وبنت في ساحة المدينة هيكل بور إله الأشوريين، وأقامت فيه تمثالا ذهبيا طوله 40 قدما، وكان هذا الهيكل أعظم بناء قام به البشر بلغ ارتفاعه 660 قدما أعلى من الهرم المصري الأكبر، قال عنه هيرودوتوس المؤرخ: إنه مربع الشكل مساحته 400 ذراع في وسطه برج يرتفع نحو 600 قدم ويعلوه سبعة أبراج علو كل منها 75 قدما، وفي البرج الخير مسجد فيه تمثال من ذهب وبقربه مائدة ومنصة ذهبيتان ثمنهما نحو 255 مليونا، وفي فناء هذا المسجد مذبحان أحدهما ذهبي يوقد عليه في كل عيد 3000 أقة بخور. وبالجملة فإن هذه الملكة هي التي أحيت لبابل رونقها المذكور، وبهاءها المأثور، وهي التي أولتها تلك العظمة والشهرة بيد أنها لم تكتف بما اكسبها سعيها هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 من الفخر، بل جمحت نفسها إلى الغارة فأثارتها شعواء على مصر، فالحبشة، ففلسطين، فالهند، فانتصرت في جميع غزواتها إلا الهند فإن أفيالها قد ألقت الرعب في قلوب العسكر ولم تطل حياتها. ولما بلغها خبر أفيل ملك الهند ارتابت وخافت من انتصار الهنود عليها وإذ لم يكن عندها قوة تضاهيها اجتهدت أن تدفع عنها هذه البلية بطريقة احتيالية فأمرت قواد العسكر بذبح ثلاثة آلاف بقرة من ذوات اللون الأسمر، وأن يسلخوها ويفصلوا جلودها على هيئة الأفيال، ويلبسوها للجمال، فامتثلوا ما أمرت وفعلوا ما ذكرت وعلى هذه الصورة أنزلتها إلى ميدان الحرب لتلقي الرعب في قلوب الأعداء بإظهارها لهم استعداداتها الحربية، وشوكتها القوية. فلما انتشب القتال بين الفريقين انعطف ملك الهند الحقيقية على عساكر الأشوريين، وتقدمت الملكة سميراميس بجمالها وفرسانها وجلود ثيرانها، ولما اقترن العسكران والتقى الجيشان انكشفت للهنود تلك الحيلة وتحقق عندهم انه لا يوجد عند العداء أفيال كافيا لهم، وإن ما يرى إنما هي حيلة وخداع فتشجعوا وهجموا على صفوف الأشوريين هجمة هائلة فالتقتهم الملكة سميراميس برجالها وأبطالها فاشتد القتال وعظمت الأهوال، ودخلت أفيال الهنود بين صفوف الأشوريين فكانت تخطف الرجال عن خيولها وتدوسها، فما لبثت الجمال المصطنعة أن ولت الأدبار وطلبت النجاة والفرار، ولم تكن إلا برهة يسيرة حتى انكسر جيش الأشوريين وانتصرت الهنود انتصارا عظيما وكسبت غنائم جسيمة. وكانت الملكة سميراميس قد انجرحت جرحا بليغا، ولكنها فازت بالهزيمة بسبب خفة فرسها ورجعت إلى بلادها مدحورة صاغرة. ومن ذلك الحين زهدت في متاع الدنيا ومالت إلى الخمول فقتلها بعد يسير ابنها تيناس وذلك سنة 2000 قبل الميلاد فأنزلها الأشوريين منزلة الإله، وأقاموا لها صورا منقوشة بهيئة حمامة زعما منهم أنها نقلت عقب موتها بجسم حمامة وهي في كل حال فخر نساء العصر القديم ونور مشكاته. سمية أم عمار بن ياسر هي سمية بنت خباط كانت أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي وكان ياسر حليفا لأبي حذيفة فزوجه سمية فولدت له عمار، فأعتقه أبو حذيفة. وكانت من السابقين إلى الإسلام. قيل: كانت سابع سبعة في الإسلام وكانت ممن يعذب في الله - عز وجل - أشد العذاب. قال احد رجال آل عمار بن ياسر عن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم على الإسلام وهي تأبى غيره حتى قتلوها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: "صبرا آل ياسر موعدكم الجنة". وروي أن أبا جهل ضربها في قلبها بحربة في يده فقتلها فهي أول شهيد في الإسلام. قال مجاهد: أول من اظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، وضباب، وصهيب، وعمار وسمية. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمنعهما قومهما وأما الآخرون فألبسوا أدراع الحديد، ثم صهروا في الشمس وجاء أبو جهل إلى سمية فطعنها بحربة فقتلها. سودة بنت زمعة ابن قيس بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشية العامرية، وأمها الشموس بنت يس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية. وسودة هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد وفاة خديجة قبل عائشة، وكانت قبله تحت ابن عمها السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان مسلما فتوفي عنها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تصب منه ولدا إلى أن مات. وعن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) (النساء: 128) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وروي عن سودة بنت زمعة قالت: جاء رجل إلى رسولا لله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يحج. قال: (أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه فبل منك) قال: نعم، قال: (فالله أرحم حج عن أبيك) . وتوفيت سودة آخر خلافة عمر. سودة ابنة عمار بن الأشتر الهمدانية كانت أديبة عاقلة شاعرة وفدت على معاوية بن أبي سفيان، فاستأذنت عليه، فأذن لها فلما دخلت عليه سلمت فقال لها: كيف أنت يا بنت الأشتر قالت: بخير يا أمير المؤمنين، قال لها: أنت القائلة لأخيك: شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخ النبي محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش وسر أمام لوائه ... قدما بأبيض صارم وسنان فقالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب فدع عنك تذكار ما قد نسي قال: هيهات ليس مثل مقام أخيك ينسى قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان ولكن كما قالت الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وبالله أسأل أميرا لمؤمنين إعفائي مما استعفيته قال: قد فعلت. فقولي حاجتك قالت: إنك للناس سيد ولأمورهم مقلد، واله سائلك عما افترض عليك من حقنا ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط بسلطانك فيحصدنا حصاد السنبل، ويسومنا الخسف ويسألنا الجليلة هذا ابن أرطاة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته فشكرناك وغما فعرفناك فقال معاوية: إياي تهددين بقومك والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك فسكتت، ثم قالت: صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا قال: ومن ذلك قالت: علي بن أبي طالب - رحمه الله تعالى - قال: ما أرى عليك منه أثر قالت: بلى أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائما يصلي فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبرا لرجل، فبكى ثم رفع يده إلى السماء فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة جلد من جراب فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: (قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 خير لكم إن كنتم مؤمنين) (الأعراف: 85) ، (وما أنا عليكم بحفيظ) (الأنعام: 104) ، إذا أتاك كتابي فاحتفظ بما في يديك حتى ياتي من يقبضه منك والسلام فعزله، فقال معاوية: اكتبوا لا بالإنصاف لها والعدل عليها فقالت: لي خاصة أم لقومي عامة؟ قال وما أنت وغيرك قالت: هي والله الفحشاء واللؤم إن كان عدلا شاملا وإلا يسعني ما يسع قومي قال لها: جرأكم ابن أبي طالب وغركم قالوه: فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام وقوله: ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سني فتحة الباب كالهند وإن لم يلفل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب اكتبوا لها بحاجتها فكتبوا لها وانصرفت. سوسن زوجة بواكيم ملكة بني إسرائيل من سبط يهوذا وقد ذكرت هذه القصة في التوراة بما في سفر دانيال - عليه السلام- إنه لما كان فيا لسنة الثالثة من ملك بواكيم قد بختنصر ملك بابل إلى أورشليم وسلمها الله سبحانه وتعالى. ثم نزل في بيت المقدس، ولما استقرت آراؤهم على الشريعة الناموسية الموسورية حكم شخصين قاضيين عرفا بالعبادة والزهد في بني إسرائي، فكانا يحكمان في الشعب ويأويان إلى بيت بواكيم الملك وكانت سوسن في أرفع رتبة من الجمال والحسن وبهجة المنظر والصلاح لأن والديها كان صديقين في بني إسرائيل. وكانت في كل يوم تنزل إلى بستانها للنزهة، فرآها القاضيان فوقعت منهما، فاشتغلا بها عن النظر في الحكومات وكتم كل عن الآخر حتى إذا كان منتصف النهار من يوم شديد الحر قال كل منهما لصاحبه: قد اشتد الحر فليذهب كل منا فيستريح وخرجا مضمري العود رجاء الظفر بالجارية. فلما التقيا فحص كل عن عود الآخر فأظهرا ما عندهما من حبها واتفقا عليها، وإنها دخلت مع جاريتين البستان فعزمت على الحموم وقد استخفيا، فأرسلت الجاريتين لتأتياها بما يلزم لها فظهر القاضيان وأغلقا الأبواب وقالا لها: لئن لم تجيبينا وإلا قلنا: إنا وجدنا معك شابا. ومن أجل ذلك أرسلت الجاريتين وأنت تعلمين مكانتنا من بين إسرائيل قالت سوسن: والله لا أغضب ربي أبدا وصرخت فصرخ القاضيان ومضى أحدهما، ففتح الباب، وجاء العبيد فأخبراهم بالقصة فبقوا مبهوتين لأنهم لا يعلمون عليها سوءا. ثم أتى بواكيم فأعلموه بالأمر وأنهما لم يقدرا على مسك الشاب فجمع الشعب وتقدم الشيخان فكشفا عن سوسن وقالا: نشهد على هذه أنها دخلت البستان ومعها جاريتان فأرسلتهما وأغلقت الأبواب، فجاء حدث من وراء شجرة، فضاجعها، فحين رأينا المعصية صحنا فانفلت الشاب فبكت سوسن ورفعت طرفها إلى السماء وقالت: يا الله يا دائم يا عالم الخفيات أنت تعلم أنهما كذبا علي. ثم أقاماها للقتل وكان دانيال عليه السلام شابا عمره ثلاث عشرة سنة فجاء وصاح عليهم أن قفوا فإنها بريئة بما رميت به، ثم أمر بالتفريق بينهما فقال لأحدهما: من أي شجرة جاء الحدث؟ فقال: من تحت شجرة بطم. فقال: كذبت وهذا ملاك الله شاهد عليك بالكذب، ثم أخره وقدم الآخر وقال له: من تحت أي شجرة جاء الحدث؟ فقال: من تحت شجرت زيت. فقال: كذبت، وأقامهما فنشرا ونزلت نار فأحرقتهما. تأمل. وحفظ الله الدم الزكي وعظم أمر دانيال عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حرف الشين شجرة الدر هي الملكة عصمت الدين أم خليل شجرة الدر محظية السلطان الصالح نجم الدين أبي الفتوح أيوب وأم ولده السلطان خليل. كان امرأة عاقلة مهذبة خبيرة بالأمور، وكان يرجع إليها بالرأي الملك الصالح أيوب ويستشيرها في مهمات الأمور. ومن أمرها أنه لما مات الملك الصالح نجم الدين أيوب بناحية المنصورة في قتال الفرنج قامت بالأمر وكتمت موته واستدعت ابنه (توران شاه) من حصن (كيفا) وسلكت إليه مقاليد الأمور، وتسلطن بقلعة دمشق في رمضان سنة 647 هجرية وقدم إلى الصالحية وأعلن يومئذ بموت الصالح ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوه بموته بل كانت الأمور على حالها والخدمة تعمل بالدهليز والسماط وشجرة الدر تدبر أمور الدولة وتوهم الكافة أن السلطان مريض ما لأحد إليه وصول. ثم أساء السلطان (توران شاه) تدبير نفسه فتقله البحرية بعد سبعين يوما من ولايته وبموته انقضت دولة بني أيوب من مصر، ثم اجتمع المماليك البحرية على أن يقيموا بعده في السلطنة محظية أستاذهم شجرة الدر فأقاموها وحلفوا لها في عاشر صفر ورتبوا عز الدين أيبك التركماني مقدم العسكر فسار إلى قلعة الجبل، وأنهى ذلك إلى شجرة الدر، فقامت بتدبير المملكة، وعملت على التوقيع بما مثاله والدة خليل، ونقش على السكة اسمها ومثاله المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل خليفة أمير المؤمنين وخلعت على المماليك البحرية، وأنفقت فيهم الأموال ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب، فسار إلى دمشق وملكها فانزعج العسكر بالقاهرة وتزوج الأمير عز الدين أيبك التركماني بشجرة الدر، ونزلت له عن السلطنة وكانت مدتها ثمانين يوما، ومن مآثرها الجامع الذي بنته بخط الخليفة بمصر بقرب مشهد السيدة سكينة بنت الحسين - رضي الله عنهما - ودفنت فيه حين موتها وهو مقام الشعائر لغاية الآن ولها جملة مآثر ومبان خيرية بمصر وخلافها من البلاد التي تملكت عليها. شعانين زوجة المتوكل الخليفة العباسي كانت ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، ولطف وظرف، واعتدال قد، واحورار طرف. مجيدة لضروب الغناء وفتونه، عالمة بأساليب الغرام وفتونه. قيل: إن سبب ائتلاف المتوكل بها أنه خرج يوما للنزهة في ضواحي الشام فبينما هو يتصفح الكنائس والرياض ويرى ما فيها من العجائب وحسن ثياب النصارى إذ أقبل راهب الكنيسة فجعل الخليفة يسأله عن كل من يمر حتى أقبلت جارية لم ير أحسن منها وبيدها مجمرة بخور فسأله عنها فقال: هي ابنتي. وما اسمها؟ قال: شعانين. فقال لها المتوكل: يا شعانين، اسقني ماء. فقالت: يا سيدي، ليس هنا إلا ماء الغدران، وأنا لا أستنظفه لك، ولو كانت حياتي ترويك لجدت لك بها، وأسرعت بكوز فضة. فأومأ إلى أحد ندمائه أن اشربه، فشربه، ثم قال لها: إن هويتك تساعديني؟ فقالت له: أنا الآن أمتك وأما إذا أصدق الحب في المحبة فما أخوفني من الطغيان أما سمعت قول الشاعر: كنت لي في أوائل الأمر حبا ... ثم لما ملكت صرت عدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أين ذاك السرور عند التلاقي ... صار مني تجنبا ونبوا فطرب حتى كاد أن يشق ثوبه ثم قال لها: هبي لي اليوم نفسك فصعدت به إلى غرفة مشرفة على الكنائس وجاء الراهب بخمر من أحسن الموجود وعاف المتوكل طعامهم فاستحضر أطعمة من عنده، فلما (أخد) منه الشراب أحضر آلة وغنت: يا خاطبا مني المودة مرحبا ... روحي فداؤك لا عدمتك خاطبا أنا عبدة لهواك فاشرب واسقني ... واعدل بكأسك عن جليسك إذا أبى قد والذي رفع السماء ملكتني ... وتركت قلبي في هواك معذبا فأرغبها حينئذ فأسلمت وتزوجها فكانت من أحظى النساء عنده. شعوانة رضي الله عنها كانت لا تفتر عن البكاء فقيل لها في ذلك قالت: (والله لوددت أن أبكي حتى تنقطع دموعي، ثم أبكي دما حتى لا يبقى جارحة من جسمي فيها دم) . وكانت تقول: (من لم يستطع البكاء فليرحم فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بنفسه وما جنى عليها وما هو صائر إليه) ، وكانت تبكي وتقول: (إلهي إنك لتعلم أن العطشان من حبك لا يروى أبدا) . وكانت التي تخدمها تقول من منذ ما وقع علي نظر شعوانة ما ملت قط إلى الدنيا ببركتها ولا استصغرت في عيني أحدا من المسلمين وكان الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - يأتيها ويتردد إليها ويسألها الدعاء. الشلبية الأندلسية اسم غلب على المترجمة نسبة إلى بلدها بالندلس كانت أديبة فاضلة شاعرة ناثرة واشتهر صيتها بالأندلس ونواحيها حتى إنها كانت تجالس الملوك وتناظر الشعراء، ولها جملة قصائد ومقطعات ولم يجمع شعرها بديوان حتى يظهر للعيان. ومن شعرها ما كتبت به إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلادها وصاحب خراجها، فقالت: قد آن أن تبكي العيون الآبية ... ولقد أرى أن الحجارة باكية يا قاصد المصر الذي يرجى به ... إن قدر الرحمن رفع كراهية ناد الأمير إذا وقفت ببابه ... يا راعيا إن الرعية فانية أرسلتها هملا ولا مرعى لها ... وتركتها نهب السباع العادية شلب كلا شلب وكانت جنة ... فأعادها الطاغون نارا حامية عاثوا وما خافوا عقوبة ربهم ... والله لا تخفى عليه خافية شهدة ابنة أبي نصر أحمد بن أبي الفرج الإبري الدينورية البغدادية كانت من العلماء الأكابر المحدثات الصادقات بالرواية تعلمت الخط الجيد وأخذت العلم عن كثير من العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وأجازوها إجازة لم تسبق لغيرها وأخذ عنها كثيرون، وكان لها النفس العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر وممن سمعت عنهم أبو الخطاب الطبراني وفخر الإسلام الشاشاني وغيرهما من أفاضل العلماء وألفت جملة رسائل في الحديث والفقه والتوحيد ومآثرها كثيرة في أصناف العلوم وكانت وفاتها ببغداد سنة 574 هجرية. شوكار قاضن هي معتوقة المرحوم عثمان (كتخدا القازد غلي) وزوجة المرحوم إبراهيم (كتخدا القازد غلي) كانت تقية صالحة من بنات الجركس، المتأدبات المطيعات لأزواجهن الصادقات في خدمتهن ولها مآثر عظيمة وإدرارات جسيمة كريمة محسنة على الفقراء والمساكين، قاضية لحوائج المحتاجين. فمن مآثرها السبيل الذي بنته بقرافة مصر الصغرى إغاثة للناس وقت المواسم ووقفت له أوقافا يصرف من ريعها عليه وهو منقوش من أعلاه برقم سنة 1170 هجرية، وهذا السبيل عامر إلى الآن ويملأ سنويا من ماء النيل على طرف ديوان الأوقاف المصرية. وفي حجة وقفيته المؤرخة سنة 1185 هجرية أن الست (شوكار) - المذكورة - وقفت جميع المكان بخط الأزبكية بدرب شيخ الإسلام بن عبد الخالق السنباطي وجميع الجنينة فيما بين بولاق والقصر العيني المعروفة قديما بغيط البحر. وجميع الرزقة الكائنة بناحية ديرك بالمنوفية، وجميع الرزقة الكائنة بناحية طمويه بالجيزة، وجميع خمسمائة عثماني وأربع عثمانية مرتب علوفة، وجميع المكان الكائن بالكعكيين تجاه حمام الجبيلي. وجميع علو بعض طبقات من وكالة الملح، وجميع المكان بخط الكراسين بين الحيطان بالقرب من قنطرة الخرنوبي وجميع المكان الكائن بخط الشوائين بداخل عطفة الفاكهاني. وجميع المكان الكائن بالخط - المذكور - في العطفة المتوصل منها الباب جامع الفاكهاني الشرقي، ومطبخ السكر وجميع الحانوتين الكائنين تجاه جامع الفاكهاني، وجميع ست قراريط من الوكالة الكائنة بخط قنطرة الموسكي، وجميع الحانوتي الكائنين بالدرب الأحمر. وجميع الحانوت الكائن بالخط - المذكور - تجاه جامع الصالح وجميع الحصة التي قدرها ثلاثة وعشرون قيراطا في الوكالة الكائنة بخط البندقانيين. وجميع الحصة التي قدرها نصف قيراط وسدس قيراط في كامل أراضي ناحية الأرجنوس وتوابعها بالبهنساوية، وجميع ثلاثة حوانيت كائنة بخط باب الزهومة. وجميع مرتب العلوفة وهو ثلاثة وستون عثمانيا. وشرطت لنفسها نظر وقفها هذا ومن بعدها للأولاد والعتقاء وأن يصرف في ثمن ماء عذب يصب في السبيل إنشاء الواقفة في كل سنة أربعة آلاف وتسعمائة وخمسون نصفا فضة (النصف الفضة عبارة عن بارة وكل أربعين منها بدرهم فضة أعني قرش أو كل أربعة منها بمليم من العملة المصرية التي كل ألف منها بدينار مصري) وفي ثمن حبال وبخور وغيره مائتان وخمسون نصفا فضة، وللمزملاتي سنويا سبعمائة وعشرون نصفا، ولغفير السبيل سنويا ثلثمائة وستون نصفا فضة وأجرة ملئه أربعمائة نصف، وشرطت أيضا به ثلثمائة وستون نصفا وأجرة النزح وثمن القلل والبخور مائتان وأربعون نصفا وثمن زيت وقناديل بمقام الشيخ الخرنوبي مائة وثمانون نصفا وأن يصرف في ثمن ماء يصب في السبيل الذي بالشوائين يوميا اثنا عشر نصفا وفي ثمن ضحايا ليوم العيد تفرق على الفقراء ثلاثون ريال حجر أبو طاقة ولسبعة قراء يقرأون من أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 رجب لليلة عيد الفطر سنويا أربعون دينارا ذهبا زر محبوب. ولناظر الوقف سنويا ثلاثون دينارا وللناظر الحسبي عشرة دنانير، وللمباشر مثله والجابي كذلك وأن يصرف في وجوه الخير على ترتبها في أيام الجمعة والعيدين سنويا شرة دنانير ذهبا. وللتربي عشرة ريالات حجر أبو طاقة، ولسبعة قراء بالحرم المكي عشرة ريالات أبو طاقة أيضا فلله در هذه الواقفة فإنها لم تدع بابا للخير إلا فتحته فرحمها الله رحمة واسعة وأكثر الله من أمثالها. شرفية ابنة سعيد قبودان ولدت في سنة 1260 هجرية وهي لغاية الآن على قيد الحياة، ولهذه المترجمة وقائع تشهد لها بالوفاء وتعتبر من العجائب المستغربة قد أخبرتني عنها إحدى السيدات الموثوق بقولهن، ولغرابة هذه الوقائع أحببت درجها في هذا التاريخ لكي تخلد لهذه المترجمة ذكرا مدى الأعصار، وهو أنه كان في مدينة (بولاق) مصر رجل (قبودان) يقال له: سعيد (قبودان) ، وكان قد اقترن بفتاة اسمها السيدة مخدومة شقيقة رائف باشا - أحد رؤساء البحر في الحكومة المصرية - فرزق منها سعيد (قبودان) بنتا فسماها شرفية ولم تمكث في حجر والدها سوى ثمان سنوات حتى توفاه الله. وكان ذلك سنة 1268 هجرية وهو مجاهد في حرب القرم الأخيرة. وكانت هذه البنت غاية في الرقة واللطف، وقد ربيت على مبادئ حسنة، وقد علمتها والدتها القراءة والكتابة والأشغال اليدوية، وجميع ما تختص به النساء من تطريز وغيره حتى فاقت بنات عصرها، وهي مطيعة لوالدتها منقادة لكلامها وكانت تلك الوالدة تحني عليها ضلوع الرأفة والحنو إلى أن بلغت الثامنة عشرة من سنيها، وكانت في مدينة (إزمير) امرأة متوسطة المقام، وكان قد تركها زوجها منسحبا من بلده ولم تعلم أين ذهب وترك لها ولدا صغيرا، ولكنه يضاهي البدر جمالا والغصن اعتدالا، وما زالت منتظرة تربي ولدها إلى أن فرغ منها المال المدخر معها، ولم تجد ما تقتات به هي وولدها. وقد تواترت الأخبار عن وجود زوجها في مصر فأخذت ولدها - وكان في سن الثالثة عشرة من سنيه - وحضرت به إلى مصر لتبحث عن والده كما خلد في فكرها وقد نزلت بالأمر المقدور على السيدة مخدومة، فتلقتها على الرحب والسعة وفتحت لها في قلبها فضلا عن منزلها أعظم محل، وكلمت شقيقها رائف باشا في أمرها فبحث عن زوجها فلم يعلم له خبرا. ولما لم يجده أخذ الغلام وسلمه إلى إحدى المدارس الأميرية، وكان رائف باشا عديم الولد لأنه لم يتزوج أبدا إلى أن بلغ الثمانين من العمر وكانت شرفية في ذلك الوقت لم تتجاوز الثامنة عشرة وكان محمد كمال في سن الثالثة عشرة، وكانت شرفية ربعة القوام ممتلئة الروح، سوداء الشعر والعيون، تخلب لب من يراها. وأما محمد كمال فإنه طويل القوام نحيل الجسم، أبيض اللون، أشقر الشعر، أزرق العيون مستدير الوجه يميل دمه إلى الخفة مع أنه أقل من كان بهذا الشكل أن يستحصل على هذا الجاذب. ولما دخل إلى منزل سعيد (قبودان) صارت شرفية تعتني بأمره كل الاعتناء من ملبس ومأكل، وكل ما يلزم له وجميع سد احتياجاته، وكانت والدتها تنظر إليها بعين الاستغراب وتفكر في أمرها وانشغالها بأمر هذا الغلام، ولكنها تراجع نفسها عن الظنون في ابنتها لأنها في هذا السن، ولما دخل المدرسة وبعد عن شرفية كثرت عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الأفكار وصارت تحب الخلوة بنفسها، ولكنها لم تضيع أوقاتها بدون أن تشغل بشيء يعود نفعه على الغلام مثل خياطة ملبوس وغيره مما يلزم له وكان لا يأتي إلا في كل ليلة جمعة على حسب أصول المدارس الداخلية في القطر المصري وكانت شرفية تنتظر ميعاد مجيئه كليا في الأعياد. وفي تلك الفترة تكاثرت عليهما الخطاب وكانت والدتها تحب أن تزوجها لأنها وحيدتها، وتفرح بها قبل وفاتها. وكلما جاءها خاطب تعرضه عليها والدتها وتحسنه في عيونها وهي لا تقبل منها ذلك ولا تجيبها إلا بالبكاء والنحيب حتى إنها صارت لا تقبل من يفاتحها بمثل هذا الكلام فكدر فعلها هذا والدتها، وظنت أن الذي يغريها على هذا الفعل هي أم الغلام، فكلمتها بهذا الخصوص وأغلظت لها القول حتى أخرجتها من منزلها. ولما خرجت زاد وجد شرفية وخافت أنها تحرم من رؤية حبيبها، فحزنت الحزن الشديد حتى حرمت النوم والطعام ومازالت في أكفار الدهشة والحيرة إلى أن كانت ليلة الجمعة فحضر محمد كمال على حسب العادة. ولما بلغه أن والدته خرجت من المنزل وتوجهت إلى منزل رائف باشا اغتم لذلك وكان الغلام أيضا قد أشرب حب البنت من حين طفوليته، وكلما نما سنه ينمو حبها معه، ولكنه كان ينظر إلة نفسه فيجدها حقيرة بالنسبة إلى شفرية، ولكنه صار يجتهد في الاستحصال على العلوم الكافية لأن تجعله أهلا لها، ولم يمض زمن يسير إلا وخرج من مدرسة المبتديان ودخل المدرسة الحربية بواسطة رائف باشا وبعد مضي مدة توفى الله والدتها السيدة مخدومة، وبقيت البنت في حجر خالها كأنها ابنته، وصارت تطلبها الخطاب منه فيعرض عليها ذلك فلم تقبل فاحتار في أمرها ولم يدر ما الذي يمنعها عن الاقتران. وكان كمال لم يزل في منزل رائف باشا مع والدته فإنها من حين ما خرجت من عند السيدة مخدومة دخلت إلى منزل الباشا المشار إليه ومكثت عنده إلى أن انضمت البنت إليه فصاروا كما كانوا جميعا في بيت واحد، وكان الباش لا يظن أن هذا التوقف من شرفية حاصل بسبب هذا الغلام لأنه يرى أن بينه وبينها بونا بعيدا من حيث الثروة والسن أيضا، وأما النسب فهو وإن كان لا يعلم نسبه إلا أنه كان يرى في خلال طباع الغلام ما يدل على صحة نسبه وأنه من نسل طيب، وأنه شريف النفس أبيها. ولما طال أمر شرفية بالامتناع عن الزواج خاف الباشا أن يتوفاه الله قبل أن يزوج هذه البنت اليتيمة، فشكا ذلك إلى بعض أصدقائه وقال له بأن يكلف قرينته لأنها كوالدتها أن تسألها في ذلك وتفهم ما سبب امتناعها عن الزواج. ففعل الباشا - المشار إليه - ما كلفه به صديقه وقد سألتها قرينته فأظهرت لها أنها لا تقدر على مخالفة الطبيعة حيث أن لها ميلا كليا إلى جهة محمد كمال، فاستنتجت منها تلك السيدة أنها يستحيل عليها الاقتران بغير هذا الغلام وأنها لا تقدر على مخالفة إحساساتها القلبية، فأخبرت زوجها بذلك وكان كمال في ذاك الوقت قد استحصل على رتبة ملازم وصار له جراءة على طلب شرفية فتقدم إلى الباشا - المشار إليه - والتمس منه أن يكلم رائف باشا في أمر شرفية، وأن ينعم عليه بها وأن يقبله عبدا له ما دام في هذه الدنيا لأنه على كل حال هو غرس نعمته فتقدم إليه صديقه بأمر الخطوبة وأخبره أنه اختبر أمر شرفية بلسان زوجته فوجدها تميل إلى الغلام. وهذا سبب امتناعها عن الاقتران بغيره ولما سمع رائف باشا هذا الخبر استعظمه وقال: هذا شيء لا يكون أبدا لأن الغلام لا يصلح لها، فكيف أزوجه بنت أختي وأنا مربيه بنوع الثواب وهو فقير ولا يقدر على أداء المهر ولا مصروف نفسه فضلا عن فتح المحل ومصاريفه مع كونه مجهول الأصل. فقال له: فأما كون فقيرا فسوف يتقدم شيئا فشيئا ويستحصل على الرتب حتى يصير بدرجتنا حيث إننا نحن كنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 في ابتداء أمرنا على أرفع الرتب اللائقة بمثلنا، وها هو مجتهد أيضا. وأما من جهة كونه مجهول الأصل فنحن أيضا لا نعلم أصلنا لأن الواحد منا لا يعلم أصل نفسه ولا من هم أهله، فمن هو جركسي، ومن هو مرلي، ومن هو كريدلي، وقد أخرجنا من بلادنا ما نعلم ماذا يؤل أمرنا إليه، وها نحن والحمد لله قد صرنا من خواص رجال الحكومة المصرية ولم يزل به حتى أنعم له رائف باشا بعد امتناعه جملة سنين وعقد للغلام على شرفية وشرعوا في أمر الجهاز وما يلزم للفرح وكأن شرفية في ذاك الوقت قد أحيي ميت آمالها وأدهشها الفرح الشديد عن كل ما في الكون. ولكنها وا أسفاه لم يسمح لها الدهر بإتمام تلك الأفراح حتى هجم عليها بجيوشه الجبارة وصدمها صدمة تزول من هولها الجبال والراسيات ويذوب لها الحجر الجلمود. وذلك أنه لما بقي لإقامة الفرح أسبوع واحد حم الغلام ووقع رهين الفراش ولم يمكث بعد ذلك سوى أيام قلائل حتى توفاه الله وقصف غصن شبابه النضر، وانزوى جماله تحت أطباق الثرى. سبحان الحي الباقي الذي لا يموت. فلينظر الرائي إلى حال شرفية التي يعجز القلم عن وصف حالها وما صارت إليه من الحزن والكدر حتى أنها دخلت إلى غرفتها التي سمتها بيت الأحزان وأسلبت عليها الستور وصارت تندب حبيبها وتبكيه إلى الآن وتوفي بعد ذلك خالها رائف باشا ولم تزل إلى هذا الوقت مدفونة تحت أطباق الحزن تطلب الموت لعلها تجتمع بحبيبها في العالم الآخر فلم تجد لذلك من سبيل. ولها مسجونة في بيت حزنها ما يزيد على الثلاثين سنة وقل من يصبر على هذا المصاب. شرين زوجة أبروزير بن هرمز من ولد كسرى أنوشروان. ان يتيمة في حجر رجل من الأشراف، وكان (أبرويز) صغيرا يدخل منزل ذلك الرجل فيلاعب شرين وتلاعبه فأخذت من قلبه موضعا فنهاها عن ذلك الرجل فلم تنته فرآها. وقد أخذت في بعض الأيام من (أبروزير) خاتما فقال لبعض خواصه: اذهب بها إلى الدجلة فغرقها، فأخذها الرجل ومضى فقالت له: وما الذي ينفعك من تغريقي؟ فقال: قد حلفت لمولاي. فقالت: اقذفني في مكان رفيق فإن نجوت لم أظهر وبرئت من يمينك ففعل وتوارت في الماء حتى غاب وصعدت إلى دير فترهبت فيه وأحسن إليها الرهبان. فلما تقرر الملك لأبرويز بعد أبيه هرمز مر بذلك الدير رسل قيصر أبرويز فدفعت الخاتم إلى رئيسهم وقالت: ابعث به إلى أبرويز لتحظى عنده فأرسله وعرفه مكان شرين فسر سرورا عظيما، وأرسل إليها فأحضرها، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن ففوض إليها أمره وهجر نساءه وجواريه وعاهدها أن لا تمكن منها أحدا بعده، وبنى لها القصر المعروف بقصر شرين بالعراق، فلما قتل (شيرويه) أباه (أبرويز) راودها عن نفسها فامتنعت، فضيق عليها واستأصلها ورماها بالزنا وتهددها بالقتل إن لم تفعل فقالت: افعل على ثلاث شرائط. قال: ما هي؟ قالت: تسلم إلي قتلة زوجي حتى أقتلهم، وتصعد المنبر وتبرئني مما قذفتني به وتفتح لي تاوس أبيك، فإن له عندي وديعة عاهدني إن تزوجت بعده رددتها إليه. فدفع إليها قتلة أبيه فقتلتهم وبرأها، وقيل: فتح لها تاوس أبيه وبعث الخادم معها فجاءت إلى (أبرويز) فعانقته ومصت فصا مسموما كان معها فممات من وقتها وأبطأت على الخدم فصاحوا فلم تكلمهم، فدخلوا فوجدوها معانقة لأبرويز ميتة فهذه ممن يفتخر لهن بالوفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 حرف الصاد صفية ابنة عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف الهاشمية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أم الزبير بن العوام وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وهي شقيقة حمزة والعوام وحجل بني عبد المطلب لم يختلف في إسلامها من عمات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في الجاهلية قد تزوجها الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس أخو أبي سفيان بن حرب فمات عنها فتزوجها العوام بن خويلد، فولدت له الزبير وعبد الكعبة وعاشت كثيرا وتوفيت بالبقيع ولما قتل أخوها حمزة وجدت عليه وجدا شديدا وصبرت صبرا عظيما، وقيل: إنها أقبلت لتنظر إلى حمزة بأحد، وكان أخاها لأمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: (القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها) . فلقيها الزبير وقال: أي أمي، إن رسول الله يأمرك أن ترجعي. قالت: ولم، قد بلغني أنه مثل بأخي وذاك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك لأصبرن ولأحتسبن إن شاء الله. فلما جاء الزبير إليه وأخبره بقول صفية فقال: (خل سبيلها) فأتته فنظرت واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن. وقيل: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت مع النساء والصبيان حيث خندق رسول الله. وقالت صفية: فمر بنا رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت) . قالت: (فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي يطوف بالحصن كما ترى ولا آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من اليهود فانزل إليه فاقتله) . فقال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا) . قالت صفية: (فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت وأخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب) . وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين. وكانت شاعرة فصيحة متقدمة عند جميع العرب بالقول والفعل والشرف، والحسب والنسب وكانت حين مات أبوها عبد المطلب جمعت أخواتها ونساء بني هاشم وصرن يرثينه بقصائد كل منهن بقدر طاقتها فكان ما قالته صفية من شعر ترثيه قولها: أرقت لصوت نائحة بليل ... على رجل بقارعة الصعيد ففاضت عند ذلكم دموعي ... على خدي كمنحدر الفريد على رجل كريم غير وغل ... له الفضل المبين على العبيد على الفياض شيبة ذي المعالي ... أبيك الخير وارث كل جود صدوق في المواطن غير نكس ... ولا شحب المقام ولا سنيد طويل الباع أروع شيظمي ... مطاع في عشيرته حميد رفيع البيت أبلج ذي فضول ... وغيث الناس في الزمن الجرود كريم الجد ليس بذي وضوم ... يروق على المسود والحسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 عظيم الحلم من نفر كرام ... خضارمة ملاوثة أسود فلو خلد امرؤ لقديم مجد ... ولكن لا سبيل إلى الخلود لكان مخلدا أخرى الليالي ... لفضل المجد والحسب التليد ومن قولها ترثي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا وكنت رحميا هاديا ومعلما ... لبيك عليك اليوم من كان باكيا فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وخالي ثم نفسي وماليا فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا ومن قولها أيضا في الحماس: ألا من مبلغ عني قريشا ... ففيم الأمر فينا والأمار لنا السلف المقدم قد علمتم ... ولم توقد لنا بالغدر نار وكل مناقب الأخيار فينا ... وبعض الأمر منقصة وعار صفية ابنة الخرع كانت من النساء المتحمسات اللائي إذا قلن تقوم العرب لمقالهن. ولها أشعار منها: ما قالته رثاء في النعمان بن جساس بن مرة وكان سيد قومه فقتل يوم الكلاب وقتلوا به عبد يغوث وهو: نطاقه هند وغني وجبته=فضفاضة كامنات النهى موضونة لقد أخذنا شفاء النفس لو شفيت ... وما قتلنا به إلا امرأ دونه صفية ابنة مسافر أبوها مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كانت أديبة فاضلة، ذات جمال وكمال وفصاحة، عربية ما لها مثال، ولها حسب ينتهي إلى عبد مناف. وشعر رائق مبني على أساليب البلاغة. قد حضرت يوم بدر ورثت أهل القليب الذين أصيبوا به من قريش بقولها: يا من لعين قذاها عائر الرمد ... حد النهار وقرن الشمس لم يعد أخبرت أن سراة الأكرمين معا ... قد أحرزتهم مناياهم إلى أمد وقر بالقوم أصحاب الركاب ولم ... تعطف غداة إذن أم على ولد قومي صفي ولا تنسي قرابتهم ... وإن بكيت فما تبكين من بعد كانوا سقوف سماء البيت فانقصفت ... فأصبح السمك منها غير ذي عمد وقالت أيضا: ألا يا من لعينايا ... لتبكي دمعها قاني كغربي دالج يسقي ... خلال الغيث للداني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وما ليث عرين ذو ... أظافير وأسنان أبو شبلين وثاب ... شديد البطش غرثان وبالكف حسام صا ... رم أبيض ذكران وأنت الطاعن النجلا ... ء منها مزبدان صفية بنت عمرو الباهلية كانت شاعرة قومها محبوبة عندهم، ذات مقام رفيع. وكان لها أخ من السراة المغاوير، وكانت تحبه ويحبها محبة شديدة ولا يرغبان الافتراق عن بعضها إلا للضرورة، وكان مرة غزا في قومه حيا من أحياء العرب فدارت عليهم الدائرة وقتل أخو صفية، ولما بلغها الخبر شقت عليه الجيوب ولطمت الخدود ونشرت الشعور، ورثته بمراث كثيرة منها قولها: كنا كغصنين في جرثومة سميا ... حينا بأحسن ما يسمو له الشجر حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... وطاب فيؤهما واستنظر الثمر أخنى علي واجدي ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيء ولا يذر كنا كأنجم ليل بينها قمر ... يجلو الدجى فهوى من بينها القمر صفية ابنة حيي بن أخطب ابن سعنة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ناخوم، وهم من بني إسرائيل من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ولد هارون بن عمران أخي موسى، وأم صفية برة بنت سموأل، وكانت زوجة سلام بن مشكم اليهودي، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق وهما شاعران، فقتل عنها كنانة يوم خبير. روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خبير وجمع السبي أتاه دحية بن خليفة فقال: أعطني جارية من السبي فقال: (اذهب فخذ جارية) . فذهب فأخذ صفية، قيل: يا رسول الله، إنها سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذ جارية من السبي غيرها) . وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفاها وحجبها، وأعتقها وتزوجها، وقسم لها وكانت عاقلة من عقلاء النساء. وعن إسحاق بن يسار أنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص حصن ابن أبي الحقيق أتى بصفية بنت حيي ومعها ابنة عم لها جاء بهما بلال فمر بهما على قتلى من قتلى اليهود، فلما رأتهم التي مع صفية صكت وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعزبوا هذه الشيطانة عني) وأمر بصفية فحيزت خلفه وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال حين رأى من اليهودية ما رأى: (يا بلال أنزعت منك الرحمة حتى تمر بامرأتين على قتلاهما) . وقد كانت صفية قبل ذلك رأت أن قمرا وقع في حجرها فذكرته لأبيها فضرب وجهها ضربة أثرت فيه وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها رسول الله فسألها عنه، فأخبرته الخبر. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. قالت صفية بنت حيي: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا قلت وكيف تكونان خيرا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 موسى) . وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله منها، نحن أزواج رسول الله، وبنات عمه. وعن صفية أن النبي صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان ببعض الطريق برك بصفية جملها فبكت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك فجعل يمسح دموعها بيده وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلما كان عند الرواح قال لزينب بن جحش: (يا زينب أفقري أختك جملا) وكانت من أكثرهن ظهرا قالت: أنا أفقر يهوديتك؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منها فلم يكلمها أيام منى حتى قدم مكة. وفي سفره حتى رجع إلى المدينة ومحرم وصفر فلم يأتها ولم يقسم لها، ويئست منه، فلما كان شهر ربيع الأول دخل عليها فلما رأت ظله قالت: هذا ظل رجل وما يدخل علي إلا رسول الله فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأته قالت: يا رسول الله، ما أصنع؟ قال: كانت لها جارية تخبؤها من النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: فلانة لك. قال: فمشى النبي صلى الله عليه وسلم إلى سريرها وكان قد رفع فوضعه بيده ورضي عن أهله. وروى عنها علي بن الحسين قالت: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتحدث عنده وكان معتكفا في المسجد فقام معي يبلغني بيتي فلقيه رجلان من الأنصار قالت: فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعا فقال: (تعاليا فإنها صفية) . فقالا: نعوذ بالله سبحان الله يا رسول الله! فقال: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم) . وتوفيت سنة ست وثلاثين. وقيل: سنة خمسين - رحمها الله تعالى. الملكة صفية والدة السلطان سليمان الثاني ابن السلطان إبراهيم كانت مولدة من بنات الجركس جاءت السراي الهمايونية وهي صغيرة وبعد مدة ظهرت نجابتها وبان رونقها وجمالها فاستحظى بها السلطان سليمان، وبقيت عنده مكرمة معززة حتى مات، وتولى الملك ولدها المشار إليه، فصارت أعز مما كانت عليه، وكثرت نفقاتها على فعل الخير والبر والإحسان. ومن مآثرها الجامع المنسوب إليها الكائن بمصر القاهرة. قال الأمير علي باشا مبارك في (خطط مصر التوفيقية) إن هذا المسجد بجهة الحبانية في حارة الداودية عن يسار الذاهب من شارع محمد علي إلى قلعة الجبل بمصر، وهو مرتفع الأرضية نحو أربعة أمتار وله بابان يصعد إلى كل منهما بعدة سلالم متسعة مستديرة، وله صحن متسع بدائرة، إيوان مسقف بقباب على أعمدة من الحجر والرخام وفي مقصورة الصلاة منبر خشب ودكة في دائرها شبابيك لها أبواب من الخشب عليها نقوش ومطهرته بمرافقها منفصلة عنه بالطريق، وشعائره مقامة بنظر ديوان الأوقاف المصرية، وهو من إنشاء عثمان أغاة بن عبد الله أغاة دار السعادة، ثم آل بطريق شرعي لسيدته الملكة صفية كما في كتاب وقفيته. وملخص ذلك أن الملكة علية الذات، صفية الصفات، والدة السلطان، قد وكلت عن نفسها، فخر الخواص والمقربين، وذخر أصحاب العز والتمكين عبد الرزاق أغا بن عبد الحليم أغاة دار السعادة وفي دعواه أن عثمان أغا - المذكور - هو عبدها ومملوكها إلى الآن، فحضر بالمحكمة الشرعية، وأشهد بوكالته شاهدين عدليين، وقرر دعواه بحضور فخر إلا ما جد داود أغا بن عبد الدائم المتولى على وقف الجامع الشريف بجهة الحبانية الذي بناه المرحوم عثمان أغا بن عبد الله فقال ذلك الوكيل في الدعوى أن عثمان - المذكور - هو عبد ومملوك موكلتي المشار إليها وأنه ليس مأذونا ببناء الجامع ولا بإيقاف بلده الملك له المعروفة بزاوية تميم من ولاية منوف المشتملة على أربعمائة فدان ولا بإيقاف المنزل المملوك له بطريق (بولاق) قرب قنطرة الدوادار المشتمل على أربعة مخازن وبيت وقهوة واثنين وثلاثين دكانا وخمس عشرة خزانة، وخمس طواحين وإصطبل وخمس آبار عذبة الماء ومدبغ بقر، ومدبغ غنم، ومسلخ بقر فذلك الإيقاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 غير صحيح وأريد ضبطه لموكلتي الملكة - المشار إليها - وسائر أمواله حيث إنه مملوكها. وأبرز فتوى من شيخ الإسلام بان الإيقاف - المذكور - غير شرعي، وكانت صورتها تملك عمرو عبد هند أملاكا، وبنى جامعاً ووقف ذلك عليه. ثم توفي قبل عتقه فهل لهند أن لا تقبل وقف عبدها عمرو، وأن تتملك جميع موقوفاته، فأجيب بأن وقف عمرو غير صحيح وأن لسيدته ضبط جميع أملاكه كسائر أمواله. ثم سئل حضرة داود أغا المتولي - المذكور - فأجاب بأن المرحوم عثمان أغا معتوق قبل وفاته وأنه بنى الجامع ووقف البلد وغيرها بإذن معتقه الست صفية وحسن رضاها فأنكر عبد الرزاق الوكيل - المذكور - عتق المتوفى، وأنكر إذنها له في بناء الجامع، ووقف تلك الأوقاف فطلبت البينة من داود أغا، فعجز عن إقامتها وطلب تحليفها اليمين الشرعي، فأرسل القاضي عدلين إلى حضرة الملكة لتحليفها. ثم رجع المندوبان وأخبر القاضي بأنها حلفت اليمين الشرعية بحضور المتولي على طبق دعواها منه، فحكم القاضي بان الجامع والقرية وجميع الأصقاع هي ملك لها ووقفها باطل، ونبه على داود أغا برفع يده وتحرر في أواخر شوال سنة 1101 هجرية. وبعد أن دخلت هذه الموقوفات من القرى والضياع والأصقاع والمزارع والرباع في ملك الملكة وتصرفاتها جددت وقفها وقفا صحيحا شرعيا مؤدبا مخلدا بحدودها وجعلت النظر على تلك الأوقاف لفخر الخواص عبد الرزاق أغا بن عبد الحنان الأمير بدار السعادة، وأطلقت له التصرف في الموظفين بالعزل والتولية وجعلت له عشرين قطعة ومن بعده لا يخرج النظر عن أغوات دار السعادة، واشترطت أن الناظر هو الذي يعطي تقريرات الموظفين، وأن يرتب لضبط الريع وصرفه رجلا أمينا، دينا عفيفا، ماهرا في الكتابة والحساب يوميا عشرون قطعة، ولكاتب أمين طاهر يقيد كل جزئية بالدفتر كل يوم خمس قطع ولجاب متصف بتلك وله اقتدار على التحصيل، ولا يترك بذمة أحد شيئا من حقوق الوقف، ولا يحتال بحيلة في أخذ حبة من حقوق الوقف كل يوم خمس قطع، ولواعظ صالح عالم ورع، فقيه بمذهب النعمان، عارف بأحكام القرآن، يعظ الناس في الجمع والمواسم، ويختم الوعظ بالفاتحة لأرواح الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، ولأرواح السلاطين الماضين مع الدعاء للسلطان بدوام دولة الخلافة ولحضرة الواقفة الجليلة بازدياد العمر ووفور الشوكة ولسائر المسلمين بحصول المرام كل يوم خمس قطع. واشترطت أن يكون الخطيب عالما مجودا زاهدا كريم الأخلاق حسن الفعال يخطب فيه على منوال الشرع الشريف في الجمع والأعياد خطبة تناسب الأيام والفصول، وتوافق الطباع، وليس له أن ينيب عنه أحدا بدون عذر شرعي، وله خمس قطع وأن يرتب إمامان عالمان عاملان بعلمهما لهما وقوف على التجويد ورسوم القراءات والروايات، وقدرة على آداب الإمامة يتناوبان الإمامة في أوقات الصلوات الخمس على طريق السنة والجماعة، ولا ينيبان أحدا بدون عذر شركي ولكل منهما خمس قطع وأن يرتب أربعة مؤذنون عارفون بعلم الميقات أصحاب عفة وديانة وأصوات حسنة وأخلاق مستحسنة يتناوبون الأذان على المنارة اثنين اثنين، ويجتمعون في أذان يوم الجمعة، ويقرأن التسبيح بعد صلاة الجمعة بالتهليل والتكبير، وفي الثلث الأخير من كل ليلة قرب الصبح يجتمعون على المنارة ويرفعون أصواتهم بالتسبيح والتحميد والدعاء، ولك منهم في اليوم ثلاث قطع، وأن يرتب موقت صالح أمين عارف بالميقات يحضر في كل وقت يعلم المؤذنين بدخول الوقت مع الاحتراس التام، وله في اليوم قطعتان. ويرتب عشرة من حملة القرآن يقرأ كل منهم عشرا في محفل الجماعة قبل صلاة الجمعة وأتقنهم للقراءة عليه البدء والختم، وله العزل فيهم والتولية بالامتحان على الوجه الحق، وله خاصة في اليوم قطعتان، ولك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 واحد من الآخرين قطعة واحدة وبعد ختم القراءة ينشد رجل حسن الصوت عارف بالموسيقى قصيدة نبوية، وله في اليوم قطعتان. ويرتب قارئ حسن الصوت يقرأ على الكرسي الذي في الجامع سورة (يس) بعد صلاة الصبح، وله في اليوم قطعتان. وآخر يقرأ سورة (عم) بعد صلاة العصر، وآخر يقرأ سورة (تبارك) بعد صلاة العشاء ولك منهما قطعة واحدة، ويترب رجلان لغلق أبواب الجامع وشبابيكه ليلا وفتحها صباحا مع الملاحظة والتعهد للجامع بالتنظيف ونحوه، ولكل منهما قطعتان. ويرتب رجل نظيف نزه لتبخير الجامع بلا تبذير ولا تقتير وله في اليوم قطعة واحدة، ولشراء البخور قطعتان، ورجل أمين لحفظ المصاحف الشريفة التي بالجامع وله في اليوم قطعة. ورجل زاهد يكون مراقبا وله في اليوم قطعة واحدة. ويرتب وقادان صالحان يحفظان الشموع والقناديل ويتعهدان بالنظافة للإيقاد والإطفاء بالأوقات المعلومة مع الاحتراس التام من تلويث الحصر والبسط، ولكل منهما قطعتان. ويترب رجلان قويان برسم الفرش والكنس والتنظيف في داخل الجامع، واثنان برسم تنظيف الميضأة والأخلية مع عدم التساهل ولكل واحد من الأربعة قطعة واحدة. ويتب رجلان عارفان بغرس الأشجار والرياحين وإصلاحها وسقيها برسم خدمة البستان الكائن أمام الجامع ولكل منهما في اليوم قطعتان. ويرتب رجلان قويان برسم سقي الأشجار ولكل منهما في اليوم ثلاث قطع. ويرتب رجل ماهر في التعمير والترميم يتولى إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه. ونصت الواقفة - المذكورة- على ترتيب شخص قارئ في مسجد المدينة المنورة يتلو كل صباح سورة (يس) ويدعو لها. وعلى ترتيب رجل صالح لخدمة قبر سيدنا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بالشام من إيقاد القناديل وغلق الأبواب وفتحها ونحو ذلك. وأن ترسل إلى القبر - المذكور - شمعتان من الإسكندري خمسة أوقات، ومثل ذلك إلى حرم مكة المشرفة، ومثله إلى الروضة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيات. حرف الضاد ضياء ابنة الوزير فرنان وزير جزيرة صقلية كانت ذات جمال بارع وعقل وأدب يفوق أهل زمانها وترجع على أقرانها بالظرف والرقة، وكان للملك المهرجان ملك تلك الجزيرة ابنا أخ يقال لأحدهما: (ألفونس) والآخر (دون لوزريق) فتوفي والدهما وتركهما تحت كفالة عمهما الملك المهرجان، فضم الأكبر إليه وعهد بالآخر - وهو ألفونس - إلى الوزير والد ضياء وكان للملك أخت يقال لها: (بوران) فتوفيت عن بنت يقال لها: (سلطانة) ، فأخذ يعتنبي بتأديبها، وأقام لها الخدم الكثير والمؤدبين من رجال ونساء، وكان للوزير (فرنان) قصر في ضواحي (بلرمة) حاضرة الدولة فأخذ (ألفونس) إليه وأحسن تأديبه، وتوسم فيه من الذكاء والنبالة ما حمله على استمرار التحفظ به، وكانت ضياء أصغر من (ألفونس) بسنة. فلما نشأت ضياء معه وصارت هي في صباها وصار هو في صباه وقع بينهما حب كأشد ما يكون وعملا الجهد كله على أن لا يدعا الوزير يفطن لشيء من أمروهما حتى اتفق أن الوزير سافر بأمر الملك يجول في أنحاء المملكة ليتفقد أحوال الرعية ورد المظالم إلى أهلها، فاغتنم (ألفونس) فرصة غيابه، وأخذ في فتح باب في الجدار الذي كان قائما بين مقصورته ومقصورة ضياء وجاء بنجار ودفع له مالا كثيرا حتى يحسن عمله ويبقي السر مكتتماً في صدره، فاتخذه بين الرسوم التي كانت تغشي الجدار على إحكام ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 في الإمكان أصح مما كان، بحيث إذا أغلق لم يفطن الرائي أن في ذلك الجدار بابا لكثرة ما هناك من النقوش والتخاريم. فلما حقق (ألفونس) بغيته فيما أراد من وصوله إليها سرا أصبح يدخل عليها في أكثر الأيام ويبيت معها في حديث وتقبيل وملاعبة ليس غير لأنها شرطت عليه حين أذنت له بفتح الحائط أنه يدخل عليها لمبادلة الحديث بينهما فقط لا لشيء غير ذلك. فلما دخلي عليها في بعض الأيام رآها ضيقة الصدر حزينة النفس فانكمش لذلك وسأل قهرمانتها عن الأمر الذي أوجب كدرها وكآبتها فقالت: وصل إليها يا سيدي أن الملك عمك انطرح على فراش الموت فقدرت أنك إذا توسدت الملك وصار إليك أمر الأمة فقد أشغلك العز والنعيم وأسكرتك العظمة والقدرة عن التفطن لها والقيام بعهودك إليها فلم يدعها تختم كلامها حتى دخل على بنت الوزير وقال لها: يا سيدتي، كأني أرى الكدر مرسوما على وجهك الفتان، فبالله إلا صدقتيني. فلما رأته هيج الشوق بكاها، واغرورقت عيناها بالدموع، وكاد لا يأتيها الكلام، فسكتت قليلا، ثم قالت: لا شيء يوجب لي الكدر غير أني يا سيد وأمير الناس عمك المهرجان قد احتضرته الوفاة فإذا تبوأت الأريكة موضعه أشغلك أمر الأمة دوني، وصرفك اقتدارك عن النظر إلي لأني سمعت عن الأمراء أنهم إذا راموا حال ولاية عهدهم أشياء تطلبها أنفسهم ونالوها فإنهم يغضون عنها بعد جلوسهم على أريكة الملك وإني لو أمنت من وجهتك على وفائك بحق الوداد، فلم آمن من وجهة طالعي أن لا يخون سعادتي بك. فلما سمع كلامها كادت تنفطر مرارته رحمة عليها وقال لها: يا سيدة الملاح إن تمكن اليأس منك على غير موجب لمما يفتت قلبي شفقة عليك وإن تصورك الخيانة في بصرف قلبي عن حبك لمما يزيل ذل العشق ويجرح خاطري، ولكن رجائي إليك أن تصرفي هذا الحزن وتعلمي أن سعادتي وفخري لا يتمان إلا بك. فقالت: أيها الأمير لا يبعد أنك إذا علوت السرير طلب إليك الوزراء والأشراف أن تتأهل بأميرة من بنات الملوك لتزيد عظمتك افتخارا ومجدا، ربما خانني دهري بأن يجعلك مجيبا لمسائلهم، فانتفض عرق الحدة بين عينيه وقال: لم تجلبين الكدر والقنوط لنفسك يا حبيبتي على غير طائل، فإني أقسم بالله إني إذا وليت الملك تزوجت بك على محضر من الأمراء والملوك. فلما سمعت ضياء قسمه هدأ روعها واطمأنت نفسها وأخذا يتجاذبان أذيال المذاكرة عن مرض الملك المهرجان، وكان يظهر من كلام (ألفونس) أنه تكدر لوفاة عمه مع أن أميرا غيره كان يسر من وفاة ملك يورثه ملك الدولة، ولاسيما إذا كان عليه ثأر فباتت ضياء بعد قسم (ألفونس) بوفاء عهده إليها في راحة وأمن ودعة، وهي لم تعلم بالخطب الذي كان يحدق بها من جهة أخرى فإن وزير الدولة الثاني المعروف بالمركيس قد كان رآها في بعض الأيام ففتن جمالها عقله وخطبها من أبيها فوعده بأن يزوجها إليه، ثم اتفق أن الملك مرض فأخر الزفاف إلى أجل مسمى، وأمر الوزير (فرنان) جماعته أن لا يعلموا (ألفونس) ولا ابنته بشيء من ذلك الأمر. فلما كان (ألفونس) صباح يوم جاءه الوزير ومعه ابنته ضياء، وقال له بعد السلام: يا سيدي إن الخبر الذي حملته إليك يكدر صفو خاطرك، ولكن البشارة التي أتبعه بها تسر خاطرك، وترفع مقامك. فاعلم أيدك الله أن المهرجان عمك قد مات وأوصى إليك بالولاية بعده، فهنأته بالعطية وخفق لواء سعدك على أنحاء بلادك منصورا وأن الأشراف والأمراء والقواد قد اجتمعوا ببابك ليقدموا لجلالتك خالص التهنئة بما أعطاك الله، فلما سمع كلامه لم يخامر التعجب نفسه لأنه كان عالما بمرض عمه ودنو أجله من قبل ذلك بشهر وأيام وإنما صار صدره بعد سماع كلامه ميدانا تتسابق فيه الأفكار وتضطرب فيه الخواطر ففكر ساعة ثم قال: يا أبت، إني أتخذك وزيرا لي أعتمد في الأمر على حسن آرائك المباركة لأني رأيتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 تحسم النوازل كأنها سكاكين في مفاصل الخطوب، ويكون لكلامك نفوذ كأبلغ مما كان لأيام عمي رحمه الله، ثم انحنى على مائدة هناك ووضع ختمه على قرطاس وسلمه إلى ضياء، وقال لها: يا سيدتي، خذي هذا القرطاس واكتبي فيه ما أردت فوق الختم وهو يدلك على أني راض بكل ما تشائين وأن عشقك قد بلغ مني مبلغا لا سبيل إلى التعبير عنه بالقلم ولا باللسان، فلما سمع (فرنان) كلامه أخذه العجب منه لغفلته عن إدراك عشقهما قبل ذلك، وسلمت ابنته القرطاس إليه وقد قالت للملك - وفي وجنتيها احمرار الخجل -: يا سيدي إني أقتبل النعمة التي يمطر جلالة الملك علي خبرها بشكر لا مزيد عليه ولكن لي أب لا أعزم على أمر إلا بمشيئته، فأنا أسلم الرقعة إليه وهو يكتب فيها ما يشاء بحكمته ودرايته فقال الوزير للملك: يا سيدي إني أكتب في هذه الرقعة ما تسومني شكرا عليه فيما بعد. فقال له: اكتب بها ما أردت أيها الحكيم الفاضل فإنك لطيف النظر، ولكن أسرع الآن إلى (بلرمة) وخذ مبايعة الجند والأمراء وبلغهم سلامي وقل لهم: إني أسير إليهم بعد وصولك بقليل فما كاد يتم كلامه أن انصرف الوزير وابنته وركبا العربة إلى (بلرمة) ، وهي تبعد أميالا قليلة عن موضع القصر. وأما الملك (ألفونس) فإنه بعد انصراف الوزير بساعة ركب جواده وقصد مدينة (بلرمة) لينزل من قصر السلطنة وباله مشغول بالعش، فلما رآه الناس ارتفع فيهم الدعاء له وأصوات الفرح والسرور حتى دخل مجلسه في القصر، فرأى (سلطانة) بنت (بوران) عمته في ثياب السواد، فعزاها وعزته، ثم ارتفع على السرير وجلست هي على كرسي دونه وقد ظهر أنها تحبه في قلبها مع أن العداوة بين أمها وأبيه كانت من أشد ما يكون، ثم جلس الأمراء والقواد على كراسي ووسائد زينت لهم، وقام فيهم (فرنان) الوزير خطيبا، وتلا وصية المهرجان إليهم. يقول: في بعضها إنه لما لم يرزقني الله ولدا يلي الملك بعدي فإني أجعله أربا إلى (ألفونس) ابن أخي على شرط أن يقترن بسلطانة ابنة أختي فإن أبى ذلك فيصير الملك إلى أخيه (دون لزريف) على الشرط عينه وهذه وصيتي إلى الأمراء والقواد. فلما وعى (ألفونس) ما في وصية عمه كاد ينخلع قلبه من الغم والهم والكدر، وما لبث الوزير أن أتبع تلاوة الوصية بقوله للحضور: أيها الأمراء إنه لما بلغت جلالة الملك مرام عمه المهرجان من زف (سلطانة) إليه لم يتردد ساعة في قبول ذلك، فازداد غم (ألفونس) حتى بان الكدر في وجهه وقال للوزير: ولكن اذكر يا (بهرام) القرطاس الذي سلمته إلى ابنتك ضياء فأجابه الوزير - وقد رفعه على مشهد من الأمراء -: ما كتب في هذا القرطاس: هو وعدك بأن تقترن بابنة عمتك وتتم كل ما ذكر في وصية عمك، ثم فتحه وقرأه على مسمع من الأمراء والأعيان فسروا من حسن عواطف الملك، وارتفعت أصواتهم بالدعاء له وهم غافلون عما كان في نفسه حتى إذا تفرق جمعهم إلا قليلا وتباعدت (سلطانة) التي ما فتئت تبث إليه هيامها به، وهو لا يعقل من شدة اضطراب عقله قال للوزير (فرنان) : أنت خنتني وحق السماء وإنما كان الواجب عليك أن تكتب في القرطاس ما كان من الاتفاق والعهود بيني وبين ابنتك. فقال له الوزير: يا سيدي تمعن في الأمر فإن أنت خالفت وصية عمك المهرجان فقد بخست نفسك حقها وأضعت الملك من بين يديك قال هذا وابتعد عنه حتى لا يسمع جوابه فغضب الملك غضبا شديدا وبات بين اعتمادين في نفسه. فإما أن يعتزل عن الملك، وإما أن يقترن بابنة عمته ففكر في ذلك برهة فوقع في ذهنه أن زفافه بابنة عمته لا يكون إلا ببراءة من لدن البابا تأتي بعد شهر أو شهرين وأنه في تلك المدة يولي المراتب العظيمة من يأمن خيانته من الأمراء والقواد حتى إذا نفذ الوصية لم يتفقوا على خلعه وبات أمر الأمة في يده. فلما وقع هذا الرأي في نفسه سكن روعه واطمأنت نفسه وحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بغيته بما أراد من الاقتران بضياء حبيبته، ولم يطلع أحدا من الناس على ذلك، وكان يخابر (سلطانة) بالكلام اللطيف ويسبك كلام (بهرام) في أنه يحب الاقتران بها حتى لا تهب إعصار الفتنة قبل تداركه إياها بالحيلة. ولكن كان من نكد الحظ أنه بينما يحدث (سلطانة) ويعد باقترانها به إذ دخلت ضياء مع أبيها وقد وقع كلامه في أذنها فاصفر لونها واستحوذ عليها شيء شبيه بالغمائم قال لها أبوها بحضرة (سلطانة) : يا بنية، قدمي احترامك إلى ملكتك وادعي الله أن يطيل عمرها ويجعل أيامها بالسعد مقبلة، فتأكدت من كلام أبيها ما سمعت من كلام الملك وأخذتها رجفة شديدة لم يكن لها حيلة في إخفائها. فأما (سلطانة) فظنت أن اضطرابها إنما هو ناشئ عن عزة الملك الذي لم تره قبل ذلك، وأما الملك فإنه عرف سبب ألمها وكدرها لما كان من وقوع وعده ابنة عمته في أذنها، وصار بنفسه الاضطراب مثل ما صار بها، وأحب لو مكنته الظروف من الاجتماع بها حتى يعلمها بأن وعده لسلطانة إنما هو حيلة منه لا خيانة بودها، ولكن لم يكن من سبيل إلى التحدث سرا معها إذ كانت عيون الأعيان متجهة إليه هذا ما كان من أمر الملك. وأما ضياء فإن أباها لما أنس جزعها وقنوطها، ورأى الملك منقبضا إلى اليأس صار بها على الفور إلى قصره وقد أعلمها بأنه سيزوجها إلى المركيس، فلما سمعت كلامه بلغ الحزن من نفسها ووقف الدم على قلبها، فوقعت بين يدي أبيها مغشيا عليها وقد ضعفت قواها وتغير لونها حتى كأنها الميت المدرج في كنفه فرق قلبه عليها وتداركها بماء الورد حتى أفاقت. فقالت: يا أبتاه الشفيق يخلجني أني أطلعتك على اشتغال قلبي بهوى الملك، ولكن الموت الذي يوافيني بعد قليل سيرفع عنك أكدارا جلبتها عليك ابنة منكودة الحظ فقال لها: لا تقنطي يا بنية، فما الوزير الذي أزوجك منه إلا أعظم رجل في الدولة، وأجله خطرا. فقالت: صدقت يا أبت وإني أقر بفضله وكرم أخلاقه وسجاياه غير أن الملك كان يؤلمني بأن أكون له عروسا. فقال لها: لقد علمت اليوم كل ما كان بينك وبينه، وأنا لا أعذبك على ذلك، ولكن من حيث قد قام بين الوعد وإنجازه مانع لا يقوى الملك على إزالته إلا بخسران الملك من يده فاعملي على صرف آمالك وكفكفي دموعك حتى لا يقال في دار الملك: إن حبه قد علق فؤادك، ولا تؤملي بأنه يتخذك زوجة له إذ أنه اشترى بك الملك والسلطنة. واعلمي بأني وعدت الوزير (المركيس) بأن أزوجه منك فانجزي وعدي إليه ولا تخيبي أبا يتقدم إليك بالضراعة والطلب قال هذا وانصرف إلى مجلسه وهو مؤمل بأنها إذا فكرت فيما نطق به إليها لبت طلبه ورضيت بأن تصير زوجة للمركيس الوزير. فلما خلا المكان لضياء أسبلت الدمع من عينها وغلب عليها اليأس وخامرها كمد لا يعبر عنه اللسان لما كان من تحققها خيانة الملك بدليل الكلام الذي سمعته من فمه، وما كان من إكراه أبيها لها على تزوجها من المركيس الذي لا تقدر أن تحبه، فظنت أن الموت لا يبعد أن يفاجئها بعد ذلك، ثم صاحت: (تبا لك أيتها الآمال التي عللت نفسي بها، ثم ألقتني في وهدة الألم والحسرات، وأنت أيها العاشق الخائن لم علقت امرأة غيري بعد تقدمك إلي بالقسم والعهد فلا هناك الله بهذا الملك الجديد، ولا بوركت بهذا الزمان الذي ثلمت فيه اليمين بعد توثيقها إلي ولتكن لحظات (سلطانة) إليك حنقا عليك، وليكن ريقها كسم قتال ينحدر إلى جوفك ليبدلك الله بنعمتك شقاء مثل الشقاء الذي أذوق مرارته. واعلم أيها الخائن من حيث إن ديني لا يحل لي قتل نفسي بيدي فإني سأنتقم من نفسي بأن أتزوج بالمركيس الذي لا أحبه حتى إذا كان عشقي باقيا في فؤادك أسفت وتحرقت لتسليم نفسي إلى رجل غيرك، وإن كان ذكري قد برح من خاطرك فأكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 على الأقل قد انتقمت من نفسي لأجل أنها أشغلت قلبها بحب رجل خائن مثلك) . قالت هذا الكلام والدمع يجري من عينها وهي في حالة من القنوط لم تنفك عنها النهار ولا الليل بطوله، فلما أصبحت دخل عليها أبوها وعلم منها أنها عازمة على الاقتران بالمركيس، فاغتنم هذه الفرصة أن جاء به وزوجها منه سرا في كنيسة القصر، فكانت حالتها في ذلك اليوم تستبكي الحجر رحمة عليها إذ لم يكفها مصابا بأنها فقدت الملك وجفاها حبيبها الرفيق، وتزوجت برجل لا تميل إليه حتى إنه وجب عليها أن تكتم حزنها في قلبها بحضرة هذا الزوج الذي هام بحسنها وجمالها، ومازال جاثيا على الأرض بين قدميها إلى آخر النهار، غير تارك لها فرصة تبكي فيها على انفراد ما حاق بها من البلاء. فلما أقبل الليل ودخلت عليها قهرمانتها وزينتها لدخوله عليها خامرها يأس عظيم لم يسعها كتمانه بحضوره، فتقرب منها بتذلل وسألها عن سبب كدرها فحاولت إخفاء الأمر عليه وقالت: إن نفسها منقبضة في تلك الليلة ليس غير، فزم عليها أن ترقد في السرير، فأبت إلا الجلوس مكانها على المقعد وأخذت تفيض من عينيها دموعا كثيرة فتعجب لذلك عجبا شديدا وأتاه أن من جفائها إياه لأمرا يخون عشقه لها ولا يليق بشرفه وعرضه فبات جزعا قلقا وأعمل على أن يبقى اضطرابه كامنا في صدره. فقال: يا سيدتي، قومي إلى مضجعك وخذي راحة لجسمك والرياضة لعقلك، وإن كنت ترومين آمر القهرمانات بالقيام بين يديك لخدمتك فعلت ذلك إكراما لخاطرك. فقالت - وقد اطمأنت نفسها وذهب خوفها ووجلها -: إني لا أرى لزوما لقيامهن بين يدي، ولكن أرقد في السرير حتى يغلبني النعاس ويروق ما بي من القلق. وكان المركيس في تلك الليلة متسهدا من شدة جزعه وهو يفكر في نفسه لما كان من ضياء بأن حبيبا قد هام قلبها بحبه، ولكن من هذا الحبيب أمن أمثاله، أو ممن هو أخفض من مراتب الدولة، فلم يعلم ذلك ولكنه رأى نفسه بهذا الزواج أشقى العالمين، ومازال يردد هذه الأفكار في نفسه إلى هدوّ الليل الآخر وإذا بقرقعة خفيفة قد طرقت أذنه وتلاها وطء أقدام خفيفة في المقصورة فظن بادئ الأمر أن ذلك يتراءى له بالوهم لعلمه بأنه كان قد غلق الباب وقفله بيده بعد انصراف القهرمانات، غير أنه أزاح ستار السرير ليرى بنفسه ما كان من هذا الأمر. فإذا بالمقصورة سودها الظلام لأن السرج الذي كان موقدا قد انطفأ فبقي في موضعه مكتئبا وإذا بصوت منخفض حنون ينادي: يا ضياء فوثب من فراشه مذعورا وبادر إلى سيفه وتقدم إلى جهة الموضع الذي منه سمع الصوت ليمزق صدر الحسود الذي أراد أن يفوز باللذة على مشهد منه فإذا بسيف صلت قد لطم سيفه، فوثب فشعر ما بين ظلام الليل برجل يهرب من وجهه، فلحقه من موضع فلم يقف له على أثر فتعجب ووقف مكانه صاغيا فلم يسمع حركة البتة، فتراجع وجحد موضعه فظن أن ذلك سحر مبين. ثم تقدم إلى جهة الباب فوجده مقفولا فزاد عجبه وظن أن غريمه يكون مختبئا في موضع من المقصورة ففتحه ووقف فيه لئلا يفر الغريم من وجهه وصاح بخدمه وغلمانه لملاقاته، فبادر جماعة منهم بالسرج والشموع في أيديهم، فتناول شمعة منورة وقلب المقصورة بالبحث والتفتيش وسيفه في يده صلت فلم ير أحدا، ولا رأى منفذا فيه للدخول ولا للخروج، فتحير تحيرا شديدا وكان يغيب عقله عن الصواب، فرام أن يسأل ضياء عن الأمر ففكر أنها وإن عرفت شيئا من ذلك فهي تخفي عليه أمره، فعزم على أن يفاوض أباها في هذا الشأن وسار إليه وقد صرف الغلمان إلى مواضعهم بقوله إنه سمع قرقعة على حين لا شيء من ذلك. فلما صار على مقربة من غرفة الوزير رآه مقبلا من الباب ليرى ما كان من أمر الضجة والصراخ فأخبره بالقضية فورا وهو لا يعقل لشدة اضطرابه، فلما سمع كلامه تعجب غاية العجب واستحوذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 عليه كدر عظيم وعرف في نفسه الداخل إلى ابنته ليس هو إلا الملك بعينه، ولكن لم يطلع المركيس على ذلك وإنما عمل بعكس ذلك على تهدئة جأشه وتسكين روعه وإقناعه بأن ما سمعه ليس هو بأمر واقعي وإنما هو خيال يزور صاحب الغيرة من العشاق. فإذا رأوا غير شيء ظنوه شيئا، وأكد له بأن قلق ابنته لم ينشأ عن خوف وخجل خامر فؤادها بتزويجها من رجل لم يكن لها معرفة سابقة به فهي تبكي كمثل ما يبكي غيرها من بنات الخدور من الأشراف اللواتي لا تميل قلوبهن إلى رجالهن إلا بعد المؤالفة الطويلة، ثم إنه حض على حسن الظن بها وأن يرجع إليها وينفي ما أتاه من الأوهام والأفكار، فلم يجبه المركيس بشيء على ذلك لأحد سببين فإما أن يكون اقتنع بأن ما سمعه وشعر به لم يكن إلا وهما تراءى له على حين كان باله قلقا، وإما أن يكون أضرب عن الرد على (بهرم) على حين لا يحصل له من إقناعه بكلامه فائدة، فعاد إلى سريره طلبا لإراحة نفسه بالنوم بعد شدة ما قاساه. هذا ما كان من أمره. أما ضياء فلما سمعت وطء الأقدام في الغرفة ومناداة الزائر إياها عرفت أنه الملك نفسه فتعجبت منه غاية العجب لما كان من أمره أن يجتمع بها ويجلس إليها على حين وعد (سلطانة) بأن يتزوج بها ويجالسها ويلبسها تاج الملك، فداخل قلبها من مرامه هذا غيظ شديد لأنها حسبت دخوله عليها سرا في الليل إهانة أخرى تتهم شرفها إلى آخر ما فكرت في نفسها من سوء الظنون. وأما الملك بعد أن انصرفت ضياء من حضرته يوم جلوسه على الملك وهي تظن به أنه أعظم الناس خيانة هام قبله بحبها أكثر من الأيام السالفة ورام أن يجتمع بها ليفصح لها عما خبأه في ضميره وأخذ في الحيل السياسية لأجل التمكن من الاقتران بها، غير أن اشتغاله في تلك الأيام ووفود الأمراء عليه لتهنئته لم يترك له فرصة للمسير إلى قصرها قبل آخر الليل، فدخل البستان وفتح بابا سريا من القصر بمفتاح كان لا يزال في جيبه، ثم طلع إلى المقصورة التي ربي فيها ودخل مقصورة ضياء من الباب الذي فتحه في الحائط. فلما رأى عندها رجلا وقد لطم سيفه سيفه تعجب غاية العجب من ذلك كأنه لم يكن يعلم بتزويجها من المركيس، وكاد أن يعرفه نفسه في ذلك الوقت ويأمر لحينه بقتل الشقي الذي تطاول عليه برفع السيف لولا أن حبه لضياء منعه صونا لها، وأسف لوقوع هذا الأمر. وقد عزم على العودة من الغد ليرى ما كان من هذا الرجل من إهانة شرفه وعرض نفسه للتهلكة وذلل عشقه وغرامه، فلم ير لذلك أسهل من الحيلة بالخروج إلى الصيد، فلما طلع النهار أمر جنده وأتباعه بأن يجهزوا له مركبه لذلك فركب إلى غاية القصد وبدأ في مزاولة القنص باجتهاد حتى لا يبقى لجماعته مجال لأن يفطنوا لمقصده من الحيلة. فلما اشتغل كلهم بالصيد ولحقوا الكلاب التي تطارد الغزلان والمها ركب جواده وسار إلى موضع القصر وهو لم يضل في مسيره لأنه كان يعرف الطرق والمنافذ إليه ولم يسعه اصطباره إلا أنه يركض فرسه ملء مروجه، فلما قطع المسافة التي كانت بينه وبين موضوع عشقه وآماله وهو يفكر في الحيلة التي يمدها للاجتماع بها سرا رأى تحت شجرة على باب القصر امرأتين تتحدثان فخفقت أحشاؤه لعلمه بأنهما من نساء القصر ثم ما لبثنا أن التفتتا إليه لسماعهما طرق أرجل الفرس فتحققهما وإذا هما ضياء وقهرمانة لها أمينة قد صحبتها لتبث إليها شكواها وأحزانها، فترجل عن جواده وقابلها بالتحية والإكرام فإذا بها متقطعة من الحزن فرق قلبه عليها. وقال لها: يا سيدتي، كفكفي دمعك وأذهبي الحزن عنك فإن ظواهر أمري وإن لم تقم ببرائتي لديك ففي نفسي عزم على الاقتران بك لا أنفك عنه ولو خسرت النعمة التي أتقلب فيها، فلما سمعت كلامه خنقتها العبرة ولم يأتها الكلام فقال لها: لم تتمادين في الأحزان يا سيدتي ولا تعتنين بملك يبيع ملكه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ينعم بك؟ فغصبت نفسها على النطق وقالت: أيها الملك لقد قام دون اقترانك بي مانع لا تقوى عليه. فقال: يا سيدتي لا تسمعيني هذا الكلام الشديد الذي يمزق كبدي فأنا والله لأقلبن البلاد وأصبغها بالدم ولا أفقد نفسي سعادتها من الاقتران بك! فقالت: أيها الملك، إن اقتدارك وعظمتك لا ينفعانك في هذا الوقت، فما أنا اليوم إلا امرأة المركيس الوزير، فلما سمع كلامها غاب عن الصواب ومزق اليأس قلبه وأوقعه في غماء، ورجع الوراء بارتجاف وقد وهت قواه واصفر فألقى نفسه كالقتيل على شجرة كانت وراءه ولبث ينظر بعين آسفة إلى حبيبته ليظهر مبلغ اليأس من هذا الخطب الجسيم والبلاء، فكانت حالته وحالتها في ذلك الحين تستبكي الحمام رحمة بالعاشقين، ثم إنه وقع نفسه بقوة وشجاعة وقال - وهو يتنهد -: يا ضياء، كيف فعلت ذلك لقد أهلكتني وأهلكت نفسك بهذا الحزن. فلما سمعت كلامه تنغصت منه في نفسها لعلمها أن الخيانة كانت منه لها لا منها له. وقالت: أيها الملك كيف تخونني، ثم تلومني وتعذلني أما كفاك وعدت (سلطانة) ابنة عمتك بالاقتران بها حتى جئت تكذب ما نظرت عيناني وسمعت أذناي فقال: يا سيدتي، لقد قلت لك: إن ظواهر أمري تقضي علي بأني خائن، ولكن ما سمعته من وعدي ابنة عمتي ليس إلا سياسة كنت حمدتني عليها فيما بعد وحققت أن عشقي لك لا يكون في القلوب أعظم منه فقالت: أيها الملك، لقد علقت نفسي بآمال ظننت أنك تحققها لي، ولكن العظمة قد أبعدتك عني فرأيت أنه لا يليق بي أن أضع على رأسي تاج الملكات فأنت أيها الخائن لِمَ لم تنطق إلي بالحقيقة التي عاهدت نفسك على إجرائها يوم أنست قلقي واضطرابي فكنت يوم ذاك شوكت جور الدهر من خيانتك وظلمك وما كنت تزوجت بأحد غيرك. وأما الآن فإني أستأذن منك بالدخول إلى مخدعي حتى أخلص من هذه المذاكرة التي تهين مجدي وشرفي ولا يحل لي أن أكلمك فيها أو في غيرها بعد أن صرت زوجة للمركيس الوزير، قالت هذا وابتعدت عنه إلى باب البستان. فقال: بالله قفي وارحمي ملكا مغرما يروم أن ينتزع الملك من يده حرصا على ودادك. فقالت: لقد حال الجريض دون القريض وأنا اليوم لا أقلق لخراب الدولة إن خربتها، ولا اضطرب لزوجتك إن تزوجت بمن أردت. واعلم بأني وإن أشغلت قلبي بهواك لأعملن جهدي كله في أن أكون خالية منه وأريك أن زوجة المركيس ليست معشوقة الأمير (ألفونس) كما عهدتها، قالت هذا ودخلت البستان وتركت الملك في أشد حسرة لما كان من إعلامها إياها باقترانها بالمركيس فوجم ساعة يفتكر بمصابه وما كان من خيبة آماله حتى كادت الغيرة تقتله فانتفض عرق غضبه وعزم على أن يقتل (بهرام) والمركيس الوزير في ساعته لولا بقية صواب بقيت في عقله وتراءى له فيها أنه إذا جمعه ومحبوبته مجلس سري أزال يأسها وأحزانها وبرأ نفسه من تهمته بخيانتها فلم ير ذلك إلا ببعد المركيس عنها، فرجع إلى قصره وأمر رئيس الشرطة أن يقلي القبض عليه بقوله: أن له في بعض الفتن. أما المركيس فإنه لما قبض عليه رئيس الشرطة بإذن الملك وضجت المدينة لذلك رأى الوزير أن يذهب إلى البلاط ويتقدم إلى الملك بالشفاعة في صهره، وكان الملك قد عرف ذلك وأن الوزير لابد من أنه سيدخل عليه للشفاعة، فأمر حجابه بأن لا يأذنوا لأحد بالدخول عليه كائنا من كان حتى لا تكون له فرصة لمزار حبيبته قبل الإفراج عن زوجها، ولكن (فرنان) مع علمه بأمر الملك أبى إلا أن يدخل عليه بحيلة من الحيل حتى إذا مثل بين يديه قال له: أيها الملك الشفيق العادل، إن عبدك (فرنان) جاء يشتكي منك إليك فأي ذنب اقترف صهره حتى حل به سخطك ولزمه العار بما أمرت به رئيس شرطتك من القبض عليه؟ فقال: اعلم أيها الوزير الصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أن لدي بينات تثبت بأن لصهرك يدا في فتن الدولة ولا أظنه إلا ميالا مع أخي (دون لزريف) يريد أن يبايعه ويخلعني فردد الوزير في نفسه له يد في فتن الدولة ويخلع ويبايع، ثم رفع رأسه وقال: لا وأيد الله جلالة الملك إن الخيانة لم يتعودها أحد من آلي، وكفى بأن يكون المركيس صهرا لي حتى تنتفي عنه هذه التهمة، ولكن أراك قد قبضت عليه لغاية سرية منك! فقال الملك: من حيث إنك تكلمني عن سري فإني أبيح به إليك فاعلم أن الطريق التي اتخذتها بحقي جلبت علي وبالا عظيما وحرمتني لذة ينعم بها أحقر الناس قدرا. واعلم بأني لا أتزوج بسلطانة بنت عمتي. فرجف الوزير من ذلك وقال: لا يصح أيها الملك أن لا تتزوج بها بعد أن واعدتها بذلك على محضر من الأمراء والقواد فقال: ليس الذنب في ذلك علي، وإنما هو واقع عليك لما كان من إكراهك إياي على وعدها بذلك على حين لا رغبة لي فيه ولا إمكان، وما كان من كتابتك القرطاس الذي سلمته إلى ابنتك باسم (سلطانة) لا باسمها وما كان من تزويجك إياها من المركيس بالرغم عنها حتى ولو فرضنا أن طاعتك منها واجبة فما كان أغناك أن تفيدني بوعد لا طاقة لي على إنجازه إلا تذكر أن (سلطانة) إنما هي ابنة (بوران) التي أهدرت دم أبي ظلما وعدوانا أترى في الإمكان أن أجتمع وإياها على فراش واحد لا والله ولكنك ترى صقلية رمادا وسكانها رمما ومتاعها نقارا ومعالمها دوارس من قبل أن أنجز (سلطانة) وعدي باقتراني بها، فلما سمع الوزير كلامه خاف العاقبة. وقال: أيها الملك العظيم، اخفض عليك غضبك ولا أظن أن حبك لرعيتك يدعك أن تفعل ما تقول وعشقك لابنتي يحملك على إعمال العشاق من العامة، وأنا إنما صاهرت المركيس لكي أجعله من عبيدك المقربين فقال الملك: إن مصاهرتك إياه كانت سببا لما أنا فيه من القلق والاضطراب فلم توكلت بأموري على حين لم تصن رعايتها ولا سياستها أفرأيت في جبنا حتى لا أقهر من ناوأني من الأمراء والجند إذا أثاروا الفتنة علي أم رأيت أم الملوك لا حق لهم بالتنعم بما يتنعم به عامة الناس فإن كان رأيك هذا وأني أكون عبدا فخذ هذا الملك الذي أردت أن تبقيه لي بما عملت من جلب الغم واليأس علي فقال الوزير: أنت تعلم أن الملك لم يصل إليك إلا باقترانك مع (سلطانة) . فقال: بأي حق كتب عمي وصيته كذلك فهل اشترط عليه أخوه (كارلوس) بمثل هذه الشروط حين خلف له الملك ولكن لتعلم أن وصيته تفسيرها العدالة وأني لا أعزم على الاقتران بابنة عمتي حتى إذا أبدى أخي إشارة ثورة علوته بالسيف وأن فكرته وإلا فكان أحق بالملك مني. فلما سمع الوزير هذا الكلام لم يبق عليه إلا أن يقبل الأرض بين يدي سيده ويطلب منه العفو عن صهره فوعده بذلك وأمره بأن يسير إلى قصره وينتظر رجوع المركيس بعده بقليل حتى إلا خلا له المكان رجع إلى نفسه وعزم على إبقاء المركيس في السجن إلى غد اليوم ليزور زوجته خفية. وأما المركيس فإنه لما قبض عليه صاحب الشرطة وطلس به لم يخف عليه معرفة سبب ذلك وصار في نفسه كأنه مطمح للغيرة تتقلب به، وتقطع فؤاده حسرة وندما، وعزم على أن ينتقم لنفسه بعد الإفراج عنه، ولكن لما قدر أن الملك لابد أن يجتمع بزوجته في تلك الليلة رام أن يدهمهما بغتة فطلب من أمير الحبس أن يطلقه في تلك الليلة على الوعد بأن يعود في الصباح إلى محبسه فلباه لذلك لمودة كانت بينهما، ولعلمه بأن (فرنان) تشفع له عند الملك فوعده بالإفراج عنه. وزاد الأمير على ذلك أنه قدم إليه فرسا كريما ليذهب إلى قصر زوجته فلما وصل إلى البستان فتح بابا سريا بمفتاح كان في جيبه وطلع إلى القصر واختبأ في مقصورة بجانب مقصورة زوجته دون أن يراه أحد ووقف وراء الباب ليرى كل ما يكون حتى إذا سمع صوتا بادر إلى المقصورة بسيفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فما كان بعد قليل إلا أن مرت من هناك قهرمانة ضياء وصارت إلى مخدعها للرقاد - هذا ما رآه من وراء الباب في بادئ الأمر. وأما ضياء فإنها لما بلغها قبض رئيس الشرطة على زوجها علمت أن الملك أمر بذلك لكي يأتي إليها فلا يراه وقدرت أنه لا يفرج عنه في تلك الليلة مع كل ما أكد لها أبوها أن الملك وعده بان يفرج عنه بعد رجوعه بقليل، فباتت وهي تنتظر دخول الملك عليها لتلومه على حبس زوجها وتخوفه العواقب الوخيمة التي تنالها منه، وإذا به قد فتح الباب (وذلك بعد انصراف القهرمانة) وانطرح بين قدميها وقال لها: يا سيدتي، لا تقضي علي بالشر قبل أن تسمعي اعتذاري فإني لم أحجز على زوجك إلا لتكون لي فرصة للاجتماع بك وإظهار الحقيقة لك، فإذا فرجت عنه لم تبق لي وسيلة إلى ذلك. فأقوال من حيث إن حرمانك حبا لي وفقدانك من بين يدي قد أحدث بي ألما لا يعبر عنه اللسان فدعيني أخفف هذا الألم بتأكيدي لك أني لم أخن عهودي إليك في شيء من الأشياء، وإني إنما وعدت (سلطانة) بالاقتران بها سياسة أكرهني عليها أبوك سامحه الله لا رضا من نفسي وإلا فإن أعمالي في الليل والنهار كانت للتمكن من التزوج بك دونها، فكان من سوء الحظ ونكد الطالع أنك سلمت نفسك إلى هذا المركيس، وجعلت لي ولك حزنا لا ينفك آخر الدهر. قال هذا الكلام وقد ظهر على وجهه يأس فهمته منه ضياء وسرت منه في بادئ الأمر لتحققها عشق الملك لها. ثم فطنت لتزوجها بالمركيس وفقدانها هناء الوصال من الملك، فتقطعت حزنا وقالت: أيها الملك إن معرفتي بعد حكم الزمان بتفريق شملنا أنك لم تخني في عهودي لما يزيد فؤادي على علاته وصبا ولكن طالعي أبى إلا أن يكون نكدا فظننت أنك نسيتني بعد جلوسك على أريكة السلطنة حتى إذا أمرني أبي بأن أتقبل المركيس زوجا لم أخالفه بذلك فكان مثلي كالرجل الباحث على حتفه بظلفه والويل لي على ما كان مني مذ خنت اليمين بعد توكيدها إليك، فانتقم لنفسك مني بأن تهجرني وترفع ذكري من خاطرك. فقال بصوت: ليس بمقدرتي يا سيدتي أن أهجر هواك ولا تعذليني على ذلك فإن العذل يولعني ويزيدني جوى! فقالت وهي تتنهد: ولكني أرى من السداد أن تجهد نفسك بذلك فقال: وهل في استطاعتك أنت أن ترفعي ذكر عشقنا من خاطرك؟ فقالت: لا أظن ولكن أبذل الوسع فيه فقال: يا قاسية القلب، أتعرضين عن محب قتله هواك وعلقت بك محبته أيام الصبا بمجرد عزم تعزمين عليه؟ فقالت كأنها ترفع عنها المذلة: أتظن بأني أرضى بأن تكون لي اليوم عاشقا لا وحياتك فإن القدر إذا لم يقدر لي بأن أكون ملكة، فلذلك لم يقدر علي بأن أخون زوجي وهو من القدر والفخامة بمنزلة لا تقل عن منزلتك لأن أجدادك هم أجداده وقد دانت لهم الملوك أيضا كما دانت لك اليوم وإني أحلف عليك بالأيمان أن تنصرف عني ولا تذل عرضي وشرفي. فصاح الملك: يا للجفاء والقسوة! أما كفى بي حزنا أن تكوني زوجة المركيس حتى تعامليني بهذا الجفاء وتحرميني من رؤيتك التي لا سلوة لي غيرها؟ فبكت، وقالت: بذا قضت الأيام، فانصرف عني فإن رؤيتك تهيجني شوقا إليك وتحدث خفقانا في قلبي لتذكري أيام الصبا، كما أن أحشائي تضطرب اضطرابا، وقل أن يكون في العاشقين مثله عند اجتماعهم بأحبابهم فاذهب وخلص شرفي من المحاربات التي تخالج فؤادي فقالت هذا الكلام وأخذت في نفسها حتى إنها قلبت شمعة منورة كانت وراءها على مائدة من غير أن تفطن لذلك فتناولتها بيدها وسارت إلى مقصورة القهرمانة لتشعلها، فلما عادت ألح عليها الملك بأن لا تعرض عن حبه ليبقى الحب بينهما متبادلا، فلما سمع المركيس كلامه اتقدت به نار الغيرة ووثب إلة المقصورة غضبا في ذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الوقت الذي عادت فيه زوجته. وقال الملك - والسيف في يده صلت-: أيها الظالم الغاشم لا تظن أيها الخائن أنك تتمكن من تتميم مرغوبك على أسهل طريقة كما حسبت. قال هذا وتواثبا كلاهما على بعض ووقع بينها صراع لم يطل كثيرا لشدة حدتهما فيه لأن المركيس قد تخوف من أن يبادر (فرنان) وأعوانه لشدة صراخ زوجته فينفذ الملك من بين يديه، فرام أن ينتقم منه على عجل واحتد حتى غاب عن الصواب فوثب وثبة شديدة بادره الملك فيها بطعنة فصرعه على الأرض يختبط بدمه. فلما رأته زوجته على تلك الحال غلب عليها الحلم والرأفة وبادرت لملاقاة جراحه، ولكن عوض أن يشكرها لذلك حنق عليها حنقا شديدا وفكر بأنه إذا مات حملها الملك إلى قصره وبات معها في هناء ونعيم فاشتدت عليه الغيرة حتى جمع قواه ورفع السيف الذي كان بيده وطعنها به وهو يقول: موتي أيتها الزوجة الخائنة التي لم تحفظي عهودا أقسمت بالله في بيعته المقدسة على توكيدها إلي وأنت أيها الملك لا تفرح بموتي ومصابي لأنك لا تهنأ بالملك بعدي قال هذا وسلم روحه على حين لم تزل سمات الانتقام مرسومة على وجهه وقد وقعت عليه زوجته وامتزج دمها بدمه. وأما الملك فإنه لما طعن المركيس زوجته ولم يكن له وقت لمداركة الأمر أظلمت الدنيا في وجهه وكاد يقع على الأرض من عظم الحزن والأمل فبادر إليها لملاقاتها بمثل ما تلافت هي زوجها على حين ما أساء مجازاتها بالقتل فقالت له بصوت ضعيف: أيها الملك الحبيب إن تدراكك أمري الآن لا يحصل منه بعد تمزيق صدري بالسيف ثمرة فليكن ملكك معظما مباركا بعدي وليكن السعد خادما لك ثم إن أباها كان قد سمع صراخها فدخل المقصورة ورأى تلك المشاهدة أمامه فوجم حزينا لا يبدي حركة غير أنها لم تفطن بما هي فيه لقدومه فأكملت كلامها إلى الملك وقالت: إني أودعك أيها الملك وأستودعك الله وأرجو أن تردد ذكري في خاطرك لأن ودادي لك وما لحقه من البلاء ليجرانك على ذلك وأملي منك أنك لا تحنق على أبي بل تكافئه على أمانته لك وتحفظه لك وتعزيه بي على قتلي وتعرفه طهارتي وعزة نفسي وهو الأمر الذي أوصيك به. قالت هذا وسلمت روحها فوجم الملك ساعة لا يبدي حركة ولا يتكلم بحرف لشدة نزنه، ثم رفع طرفه إلى وزيره وقال له: انظر أيها الوزير ما قدمت يداك، وما دبرت من الحيلة لثبات الملك لي كيف ساءت الحيلة مصيراً فلم يجبه الشيخ بكلمة، لعظم وقوع البلية عليه. وأنا لا أتعرض الآن لذكر الشعائر التي لا يعبر عنها اللسان وأكتفي من ذلك بالقول: إنه لما رجع الملك ووزيره إلى عقلهما بكيا وأعولاً عيولاً كثيراً حتى كانت حالتهما تفتت الأكباد وتذيب الجماد وبقي الحزن في قلب الملك سنين طويلة وقد حفظ ذكر محبوبته في قلبه سائر أيام حياته ولم يبق له طاقة على الاقتران بسلطانة، فتزوجها أخوه (دون لزريف) وأثار معها فتنة في البلاد لما حدثت نفسه له من وصول الملك إليه إتباعاً لوصية عمه المهرجان غير أن الدائرة دارت عليه ودانت البلاد لأخيه (ألفونس) وخضع له القواد والأمراء أما (فرنان) فإن الحزن والأسف المتسبب من تلك الخطوب غلب عليه حتى ألجأه إلى مبارحة أوطانه فسبحان مغير الأحوال. ضباعة بنت الحارث الأنصارية كانت من نساء الأنصار التقيات النقيات العابدات اللاتي لهن صحبة حسنة مع النبي صلى الله عليه وسلم وروت عنه الحديث، وأخذ عنها جملة من التابعين، وكانت فصيحة اللسان حلوة العبارة إذا حدثت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وعت لها القلوب وتفتحت إليه الآذان. وكان مقربة بين الأنصار محبوبة عند الجميع لتقواها وعفافها وصيانتها مع جمالها الفائق وقد هويها زفر بن الحارث الكلابي وتعلق بها وهي لم تلتفت إليه وقد قال فيها شعرا أوله: قفي قبل التفرق يا ضباعا ... فلا يك موقف منك الوداعا وهي طويلة لم نعثر على باقيها، وتوفيت بين أهلها الأنصار، وهي في عز وإقبال. ضباعة بنت الزبير ابن عبد المطلب بن هاشم القرشية ابنة عم النبي صلى الله وسلم. كانت زوجة المقداد بن عمرو الكندي فولدت له عبد الله وكريمة قتل يوم الجمل مع عائشة. روى عن ضباعة بن عباس وجابر وأنس وعائشة وعروة والأعرج وقيل: إن ضباعة بنت الزبير أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج أفأشترط؟ قال: (نعم) . قالت: كيف أقول؟ قال: (قولي لبيك اللهم لبيك لبيك محلي من الأرضي حيث تحسبني) ففعلت كما أمرها وحدثت بهذا الحديث وخلافه. وروى عنها جملة من التابعين أيضا. ضباعة بنت عامر بن قرظ العامرية كانت أسلمت بمكة وقد نصرت النبي صلى الله عليه وسلم في جملة مواطن بلسانها وفعلها، وقد أبلت بلاء حسنا أمامه، فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم على بني عامر - وهم بعكاظ - ودعاهم إلى نصرته ومنعه فأجابوه فبينما هم كذلك إذ جاء ثجرة بن فراس القشيري فغمز (شاكلة) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمصت به فألقته وعندهم يومئذ ضباعة بنت قرظ، كانت ممن أسلمن بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا آل عامر، ولا عامر لي أيصنع هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ولا يمنعه أحد منكم؟ فقام ثلاثة من بني عمها إلى ثجرة، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علوا وجهه لطما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله بارك هؤلاء) فأسلموا وقتلوا شهداء. ولها نصرات كثيرة مثل هذه - رحمها الله تعالى. حرف الطاء طغاي زوجة الملك الناصر قلاوون هي الخوندة الكبرى زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأم ابنه الأمير (أنوك) كانت من جملة إمائه فأعتقها وتزوجها. ويقال: إنها أخت الأمير (آقبغا) عبد الواحد، وكانت بديعة الحسن رأت من السعادة ما لم يره غيرها من نساء ملوك الترك بمصر ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها سوى طولباي الناصرية ، وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محائر طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحالبة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري وعمل الجبن. وكان يلقى لها الجبن في الغداء والعشاء وإذا كان البقل والجبن بهذه المثابة وهما أحسن ما يؤكل فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي وأمير المجلس وعدة من الأمراء يمشون رجالا بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها، ثم حج بها الأمير (بشتاك) سنة 739 هجري. واستمرت عظمتها بعد موت السلطان إلى أن ماتت سنة 749 هجري، أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خادما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 خصيا وأموال كثيرا جدا، وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قراء ووقفت على ذلك وجعلت من جملته خبزا يفرق على الفقراء، ودفنت بهذه الخانقاه - وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا. طولباي الناصرية طولباي هذه هي من ذرية (جنكزخان) تزوجها الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولما جاءت من بلادها إلى الإسكندرية في شهر ربيع الأول سنة 720 هجري وطلعت من المركب حملت في محفة من الذهب على العجل وجرها المماليك إلى دار السلطنة بالإسكندرية، وبعث السلطان إلى خدمتها عدة من الحجاب وثماني عشرة من الحرم ونزلت في الحراقة، فوصلت إلى القلعة يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر بيع الأول - المذكور - وفرش لها بالمناظر في الميدان دهليز أطلس معدني ومد لها سماط ثم عقد عليها يوم الاثنين 6 ربيع الآخر على ثلاثين ألف دينار. وبقيت عنده مسموعة الكلمة محظية لديه حتى إنه مال إليها بكلياته وجزيئاته، وسلمها أمور داره، واعتمد بذلك على حسبها ونسبها، وهي وفت له بما ائتمنها عليه. وكانت مشهورة بفعل الخير واجتناب الشر، ولها مآثر غريبة من مدارس ومصانع ومساجد وغير ذلك. طيطغلي خاتون زوجة السلطان أوزبك الكبرى قال ابن بطوطة في (رحلته) إن (طيطغلي) ، (بفتح الطاء المهملة الأولى وإسكان الياء آخر الحروف وضم الطاء الثانية وإسكان الغين المعجمة وكسر اللام وياء مد) ، هي أحظى نساء هذا السلطان عنده وعندها يبيت أكثر لياليه ويعظمها الناس بسبب تعظيمه لها كما أخبر بعض العارفين بأخبار هذه الملكة أن السلطان يحبها لموافقتها لطباعه. وقيل: إنها من سلالة المرأة التي يذكر أن الملك زال عن سليمان عليه السلام بسببها ولما عاد إليه ملكه أمر أن توضع بصحراء لا عمارة فيها فوضعت بصحراء (قفجق) ، وتزوجت هناك وتناسلت. ومن ذريتها هذه (الخاتون) . قال: (وفي غد اجتماعي بالسلطان دخلت إلى هذه الخاتون وهي قاعدة فيما بين عشرة من النساء القواعد كأنهن خادمات لها وبين يديها نحو خمسين جارية صغارا يسمون البنات، وبين أيديهن طيافير الذهب والفضة مملوءة بحب الملوك وهن ينقينه، وبين يدي الخاتون صينية ذهب مملوءة منه وهي تنقيه، فسلمنا عليها وكان في جملة أصحابي قارئ القرآن على طريقة المصريين بطريقة حسنة وصوت طيب فقرأ ثم أمرت أن يؤتى بالقمز فأتي به في أقداح خشب لطاف خفاف فأخذت القدح بيدها وناولتني إياه وتلك نهاية الكرامة عندهم، ولم أكن شربت القمز قبلها، ولكن لم يمكنني إلا قبولها وذقته ولا خير فيه ودفعته لأحد أصحابي وسألتني عن كثير من حال سفرنا فأجبناها، ثم انصرفنا. وكان ابتداؤنا بها لأجل عظمتها عند الملك، وإن هذه الملكة من النساء العاقلات اللاتي يسلبن ألباب الرجال بحسن آدابهن وتدابيرهن وقد ملكت عقل ذلك الملك حتى صار لا يقطع رأيا ولا يبت أمرا إلا بمشورتها. وهي من النساء المعدودات الموصوفات بفعل الخيرات والمبرات، ولها جملة مآثر في بلادها مثل مساجد ومدارس ومارستانات وغير ذلك من فعل الخيرات وتوفيت قبل زوجها فأسف عليها وكانت جنازتها أشهر ما يكون من الجنائز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 حرف الظاء ظبية ابنة البراء ابن معرور امرأة أبي قتادة الأنصارية، كانت من المحدثات المتقدمات الصحابيات اللاتي لهن التقدم في الرواية وصحة الخبر أخذت من أجلة وروت جملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنها جملة من الصحابة والتابعين. ومن أحاديثها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: هل علينا معشر النساء جمعة أو جهاد؟ فقال لها: (ليس عليكن جمعة أو جهاد) . فقالت: علمني يا رسول الله تسبيح الجهاد فقال: (قولي سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد) فجعلت تقول ذلك كلما حضرت جهادا مع قومها. ظريفة ابنة صفوان بن وائلة العذري كانت جميلة المنظر لطيفة المخبر حسنة المعشر عذبة المنطق سلسة الألفاظ خرجت يوما مع نسوة يغترفن الماء وقد انفردت تمشط شعرها على جانب الغدير وقد أسبلته كأنه الليل المظلم ووجهها من خلاله كأنه البدر في تمه وقد مر بهن زرعة بن خالد العذري يريد الصيد، فلما ورد الغدير وجد النساء على تلك الصورة وظريفة على الحالة التي ذكرناها، فحين أبصرها سقط مغشيا عليه فقامت إليه فرشت عليه الماء، فلما أفاق وأبصرها قال: وهل مقتول يداويه قاتله؟ قالت: كيف ما تشكو وحادثته فثابت نفسه إليه وقد داخلها ما داخله من الحب، ثم رجع وهو يقول: خرجنا لنصيد فاصطدنا، ثم أنشد: خرجت أصيد الوحش فصادفت قناصا ... من الريم صادتني سريعا حبائله فلما رماني بالنبال مسارعا ... رقاني وهل ميت يداويه قاتله ألا في سبيل الحب صب قد انقضى ... سريعا ولم يبلغ مرادا يحاوله ولزم الوساد وقطع الزاد، فلما أعيته الحيلة أخبر والدته بحاله فمضت إليها وأعلمتها بالقصة وقبلت رجليها على أن تزوره فعسى أن يشفى ولدها فقالت: إن الوشاة كثيرون ولكن خذي هذا الشعر إليه فإن أمسكه فإنه يشفى وجزت لها شيئاً من شعرها. فلما ذهبت إليه به جعل ينتشقه فتراجعت نفسه شيئا فشيئا حتى اشتهى ما يأكل فقدم إليه، فتناوله وقاك فكان يأتي قريبا من الأبيات فيسارها النظر وتخاله هي أيضا إلى أن فطن أهلها فعولوا على قتله فذهب إلى اليمن وكان كلما اشتد شوقه قبل الشعر وجعله على وجهه فيستريح فخرج يوما لبعض حاجاته فسقط منه الشعر، فلما أيس منه عزم على العود فضعف فقال: دعوني فإني أرجو أن أظفر أو أموت فنصحه غلام وأخذ يعلمه أبيات وهي هذه وقال له: إذا حاذيت موضع كذا، فأنشد: مريض بأفناء البيوت مطرح ... به ما به من لاعج الشوق يبرح وقالوا لأجل اليأس عودي لعلما ... تشكاه من آلام وجدك يمسح وليس دواء الداء إلا بحيلة ... أضر بنا فيها غرم مبرح إذا ما سألناها نوالا تنيله ... فضم الصفا منها بذلك أسمح ومضى الغلام حتى بلغ المكان ورفع صوته بالأبيات، فخرجت له ظريفة وأنشدت تقول: رعى الله من هام الفؤاد بحبه ... ومن كدت من شوقي إليه أطير لئن كثرت بالقلب أتراح لوعة ... فإن الوشاة الحاضرين كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فيمشون يشتدون غيظا وشرة ... وما منهم إلا أب وغيور فإن لم أزر بالجسم خيفة معشر ... فللقلب آت نحوكم فيزور ثم رجع الصبي فأنشد أبياتها فغشي عليه ساعة، ثم أفاق وهو ينشد: أظن هوى الخود الغريرة قاتلي ... فيا ليت شعري ما بنو العم صنع أراهم وللرحمن در صنيعهم ... تراكي دمي هدرا وخاب المضيع وقد زفت ظريفة إلى رجل منهم يقال له: ثعلب، فلما بلغه الخبر اضطرب سعة وغشي عليه فحرك فإذا هو ميت فلزمت ظريفة البكاء أياماً ولم تمكن الرجل من نفسها فلما كانت ذات ليلة خرجت من بعد نصف الليل فتبعها زوجها حتى انتهت إلى النهر فألقت نفسها فيه فأخرجها، وليس بها حراك ثم حملها إلى الخيمة. فلما أصبح جاءت أمها فوجدت بها رمقاً ولكنها لم تفقه كلامها، فأشارت أن تسقى الماء فسقوها فقضت من وقتها ودفنت بجانب زرعة بن خالد بعدما نقلت إلى محل مدفنه. ظريفة كاهنة حمير كانت في زمن الملك عمرو بن عامر مزيقيا الحميري وهي التي تنبأت في سيل العرم، وكانوا يسمونها ظريفة الخير، وكان أول شيء وقع بمأرب بينما هي ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضها وأرعدت وأبرقت، ثم أصعقت فأحرقت ما وقعت عليه ووقعت إلى الأرض فلم تقع على شيء إلا أحرقته، ففزعت لذلك وذعرت ذعرا شديدا، وانتبهت وهي تقول: ما رأيت مثل اليوم قد أذهب عني النوم رأيت غيما برق وأرعد، ثم أصعق فما وقع على شيء إلا أحرقه فما بعد هذا إلا الغرق، فلما رأوا ما داخلها من الرعب خفضوها وسكنوا من جأشها حتى سكنت، ثم إن الملك عمرو بن عامر دخل حديقة من حدائقه ومعه جاريتان له فبلغ ذلك ظريفة فأسرعت نحوه وأمرت وصيفا لها يقال له: سنان أن يتبعها. فلما برزت من باب بيتها عارضها ثلاث [مناجذ] منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن (وهي دواب يشبهن اليرابيع يكن بأرض اليمن) . فلما رأتهن ظريفة وضعت يدها على عينها وقعدت وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه [المناجذ] عنا فأعلمني، فلما ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعة. فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تريد الانقلاب فلا تستطيع فتستعين بذنبها وتحثو التراب على بطنها وجنبها وتقذف بالبول، فلما رأتها ظريفة جلست إلى الأرض. فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت إلى أن دخلت على الملك عمرو في الحديقة حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكفأ من غير ريح، فغدت حتى دخلت على عمرو ومعه جاريتان على الفراش. فلما رآها استحيا منها وأمر الجاريتين فنزلتا عن الفراش وقال: هلمي يا ظريفة إلى الفراش واجلسي إلى جانبي فتكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء. إن الشجر لهالك وسيعود الماء كما كان في الدهر السالف. قال عمرو: من أخبرك بهذا؟ قالت: أخبرني [المناجذ] بسنين شدائد يقطع فيه الوالد الواحد. قال: ما تقولين؟ قالت: أقول قول الندمان لهفا، قد رأيت سلحفا تجرف التراب جرفا، وتقذف البول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر يتكفأ. قال عمرو: متى ترين ذلك؟ قالت هي داهية كبيرة ومصائب عظيمة لأمور جسيمة. قال: وما هي؟ قالت: إن لي الويل، وما لك فيها من نيل، فلي ولك الويل مما يجيء به السيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فألقى عمرو نفسه عن الفراش وقال: ما هذا يا ظريفة؟ قالت: هو خطب جليل، وحزن طويل، وخلف قليل والقليل خير من تركه، قال: وما علامة ذلك؟ قالت: تذهب إلى السد فإذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر ويقلب برجليه من الجبل الصخر فاعلم أن القريب حضر، وأنه قد وقع الأمر. قال: وما هذا الأمر الذي يقع؟ قالت: وعيد الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نزل، فتعمده يا عمرو فليكن الثكل. فانطلق عمرو إلى السد يحرسه فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع إلى ظريفة فأخبرها الخبر وهو يقول: أبصرت أمرا عاد لي منه ألم ... وهاج لي من هوله برح السقم من جرذ كفحل خنزير أجم ... أو تيس حرم من أقاوين الغنم يسحب صخرا من جلاميد العرم ... له مخاليب وأنياب فطم ما فاته سجلا من الصخر قصم ... كأنما يدعي حصيرا من سلم فقالت له ظريفة: إن علامات ما ذكرت لك أن تجلس في مجلسك بين الخبتين، ثم تأمر بزجاجة فتوضع بيده يديك فإنها ستمتلئ بين يديك من تراب البطحاء من سهله الوادي ورمله، وقد علمت أن الجنان مظلة ما يدخلها شمس ولا ريح. فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه فلم تمكث إلا قليلا حتى امتلأت من تراب البطحاء فذهب الملك إلى ظريفة فأخبرها بذلك وقال لها: متى ترين هلاك السد؟ قالت: فيما بينك وبين السبعين سنة قال: ففي أيها يكون؟ قالت لا يعلم ذلك إلا الله ولو علمه أحد لعلمته، ولا يأتي عليك ليلة فيما بينك وبين السبعين سنة (وأظنها من سني حياته) إلا ظننت هلاكك في غدها أو تلك الليلة فكان كما قالت. وحصل ما حصل في خبر طويل. حرف العين عائشة بنت أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة القريشية تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهي بنت ست سنين. وقيل سبع ودخل بها فيا لمدينة وهي بنت تسع. وقيل عشر وكان مولدها سنة أربع من النبوة وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر وكان صداقها أربعمائة درهم وكانت أحب نسائه إليه وكنيتها أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء، وروت عائشة ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث. ولها خطب ووقائع وكانت هي السبب في وقعة الجمل المشهورة في الإسلام وذلك أن عائشة خرجت إلى مكة وعثمان محصور، ثم رجعت من مكة تريد المدينة. فلما كانت برف لقيها رجل من أخوالها من ليث يقال له: عبيد بن أبي سلمة. فقالت له مهيم. قال: قتل عثمان وبقوا ثمانيا. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: هذه انطبقت على هذه إن تم المر لصاحبك ردوني، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقال لها: ولم إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن أبي سلمة: فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر ولم يسقط السف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر وقد بايع الناس ذاك اقتدار ... يزيل الشبا ويقيم الصغر ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فنزلت فيه فاجتمع الناس حولها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعماله من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله مواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام، وأخذوا المال الحرام، والله لأصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من درنه أماصوه كما يماص الثوب بالماء (أي يغسل) . فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: وكان عامل عثمان على مكة ها أنا أول طالب فكان أول مجيب وتبعه بنو أمية على ذلك وبذا صارت الحرب بخبر طويل يخرجنا عن الموضوع وروده. ومما قالت عائشة عند دخولهم المربد واجتمع القوم وخرج أهل البصرة وعثمان بن حنيف وكان عاملا على البصرة فتكلمت وكانت جمهورية الصوت فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزورون على عماله بالمدينة فيستشفعرننا فيما يخبرونا عنهم فننظر في ذلك فنجده بريا تقيا وفيا ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا كاثروه فتحوا عليه داره واستحل الدم الحرام والشهر الحارم والبلد الحارم بلا شره ولا غدر ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غير أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله وقرأت (أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب) [آل عمران: 23] الآية وكانت فصيحة الكلام صحيحة المنطق فهاجت السامعين. وقالت: أيضا يوم الجمل: أيها الناس، صه صه إن لي عليكم حق الأمومة وحرمة الموعظة لا يتهمني إلا من عصى ربه. مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وأنا إحدى نسائه في الجنة له إدخرني ربي وسلمني من كل بضاعة وبي ميز بين منافقكم ومؤمنكم، وبي رخص الله لكم في صعيد الأبواء ثم أبى ثالث ثلاثة من المؤمنين وثاني اثنين الله ثالثهما. وأول من سمي صديقا مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم راضيا عنه وطوقه طوق الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبي بطرفيه ورتق لكم فتق النفاق، وأغاض نبع الردة وأطفأ ما حش يهود وانتم يومئذ جحظ العيون تنظرون الغدرة وتسمعون الصيحة فرأب الثأى، وأوذم العطلة، وانتاش من المهواة، واحتجى دفين الداء حتى أعطن الوارد وأورد الصادر، وعل الناهل فقبضه الله واطئا على هامات النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، وانتظمت بضاعتكم بحبله، ثم ولي أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه بعيد ما بين اللايتين عروكه للأذن بجنسه صفوحا عن أذاة الجاهلين يقظان الليل في نصرة الإسلام فسلك مسلك السابقة ففرق شمل الفتنة وجمع أعضادها جمع القران، وأنا نصب المسألة عن مسيري هذا الم ألتمس إثما ولم أدلس فتنة أوطئكموها أقول قولي هذا صدقا وعدلا وإعذاراً وإنذاراً، وأسأل الله أن يصلي على محمد وأن يخلفه فيكم بأفضل خلافة المرسلين. وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر لما قتل أبي محمد بن أبي بكر بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أنا وأختا لي من مصر، فقدم بنا المدينة فبعث إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط ولا والدا أبر منها، فلم نزل في حجرها ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن. فلما دخل عليهما تكلمت فحمدت الله عز وجل وأثنت عليه فما رأيت متكلما ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها، ثم قالت: يا أخي، إني لأم أزل أراك معرضا عني منذ قبضت هذين البنيين منك ووالله ما قبضتهما تطاولا عليك ولا تهمة لك فيهما ولا شيء تكره ولكنك كنت رجلا ذا نساء وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئا فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن به من قبيح أمر الصبيان، فكنت ألطف لذلك وأحق لولايته، فقد قويا على أنفسهما وشبا وعرفا ما يأتيان فها هما هذان، فضمهما إليك وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات وترك صبية صغارا في حجر أخي، فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم، وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله. ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدا من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها: زينب، فقال اصنعي بيني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه فغاب شهرا ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال: ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل، وأرى بني سمانا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، ولكنهم كانوا يعبثون ويلعبون فخلا بالصبيان، فقال: كيف كانت زينب تصنع بكم؟ قالوا: سيئة ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن وأروه قدحا صغيرا، فغضب على امرأته غضبا شديدا وتركها حتى إذا راح راعيا إبله قال لهما: اذهبا فأنتما وإبلكما لبني معدان فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجابا فقال: والله لا تذوقين منها صبوحا ولا غبوقاً أبداً وقال في ذلك: لججنا ولجت هذه في التغضب ... ولط الحجاب بيننا والتجنب وخطت بفردي إثمد جفن عينها ... لتقتلني وشد ما حب زينب تلوم على مال شفاني مكانه ... فلومي حياتي ما بدا لك واغضبي رحمت بني معدان إذ قل ما لهم ... وحق لهم مني ورب المحصب وكان اليتامى لا يسد اختلالهم ... هدايا لهم مني في كل قعب مشعب فقلت لعبدينا أريحا عليهم ... سأجعل بيتي وبيت آخر مغرب وقلت خذوها واعلموا أن عمكم ... هو اليوم أولى منكم بالتكسب عيالي أحق أن ينالوا خصاصة ... وإن يشربوا رنقاً إلى حين مكسب أحابي بها من لو قصدت لماله ... حريباً لآساني على كل موكب أخي والذي إن أدعه لعظيمة ... يجبني وإن أغضب إلى السيف يغضب قالت عائشة: فلما بلغ زينب هذا الشعر خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، وذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة، فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانيا فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له: إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقي منه أذى وانتشر خبر حجية بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر فمدحه بأبياته الآتي أولها: (إن الزبير بن عوام تداركني) ثم انصرف من عنده متوجها إلى بلده آيسا من زينب كئيبا حزينا، فقال في ذلك: تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب ... وكيف تصابي المرء والرأس أشيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 إذا قربت زادتك شوقا بقربها ... وإن جانبت لم يغن عنها التجنب فلا اليأس إن ألممت يبدو فترعوي ... ولا أنت مردود بما جئت تطلب وفي اليأس لو يبدو لك اليأس رحمة ... وفي الأرض عمن لا يواسيك مذهب وأنا والله يا أخي خشيت عليك من مثل ذلك لئلا يصيبك مع نسائك ما أصاب حجية وزينب وأما الآن فقد كبرا وصارا يمكنهما أن يدفعا عن أنفسهما تعديات غيرهما فأخذهما عبد الرحمن إليه وهو يثني على عائشة. وكانت - رضي الله عنها - أفصح أهل زمانها وأحفظهم للحديث روت عنها الرواة من الرجال والنساء وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق البريئة المبرأة وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحد أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يتلى إلى يوم القيامة، ولولا خوف التطويل لذكرنا القصة بتمامها، وهي أشهر من أن تذكر، وكان حسان بن ثابت عند عائشة يوما فقال يرثي ابنته: حصان رزان ما تزن برية ... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل فقالت له عائشة لكن لست أنت كذلك. فقال لها مسروق: أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز وجل: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) [النور: 11] قالت: أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره وباقي الأبيات: فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتموا ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف وودي من قديم ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ما حل وتوفيت عائشة سنة سبع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن بالبقيع ليلا، فدفنت وصلى عليها أبو هريرة ونزل قبرها خمسة عبد الله وعروة ابنا الزبير والقاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عبد الرحمن، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمان عشرة سنة. عائشة بنت طلحة عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن معد بن تيم. وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين. كانت عائشة بنت طلحة أشبه الناس بعائشة أم المؤمنين خالتها فزوجها بابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان ابن خال عائشة بنت طلحة، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه. فولدت له عمران - وبه كانت تكنى- وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفسية التي تزوجها الوليد بن عبد الملك ولكل من هؤلاء عقب وكان ابنها طلحة من أجود قريش، وتوفي بعد الله عنها ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم فما كنت لأستره والله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد وطالت مراجعة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق، وكذلك نساء تميم هن أشرس خلق الله وأحظى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عند أزواجهن وكانت عند الحسين بن علي أم إسحاق بنت طلحة فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني، ونالت عائشة من مصعب وقالت: لا تكلمني أبدا وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها فجهد مصعب أن تكلمه، فأبت، فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه. فقالت: كيف يميني؟ فقال: ههنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه، فدخل عليها فأخبرته فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أيحلني ويخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم وقال ابن قيس الرقيات لما رآها: إن الخليط قد أزمعوا تركي ... فوقفت في عرصاتهم أبكي خبيئة برزت لتقتلني ... مطلية الأصداغ بالمسك عجبا لمثلك لا يكون له ... خرج العراق ومنبر الملك وكانت عزة الميلاء من أظرف الناس وأعلمهم بأمور الناس، وكان يألفها الأشراف وأرباب المروءات وغيرهم فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر أو سعيد بن العاص فقالوا: إن خطبنا فانظري لنا. فقالت لمصعب: ومن خطبت يا ابن أبي عبد الله؟ فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت: فأنت يا ابن أبي أحيحة. قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يا ابن الصديق. قال أم القاسم بنت زكريا بن طلحة. قالت: يا جارية، هاتي منقلي - تعني خفيها - فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها ومضت فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك كنا في مأدبة لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن وذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك فألقي ثيابك ففعلت وأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك من كل سوء. فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي. فقالت عزة: وما هي بنفسي أنت. قالت: تغنيني صوتاً. فاندفعت تغني: خليلي عوجا بالمحلة من جمل ... وأترابها بين الأصفير والخبل نقف بمغان قد محا رسما البلا ... تعاقبها الأيام بالريح والوبل فلو درج النمل الصغار بجلدها ... لأندب أعلى جلدها مدرج النمل وأحسن خلق الله جيدا ومقلة ... تشبه في النسوان بالشادن الطفل فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك ودفعته إلى جاريتها، فحملته وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى أتت القوم في السقيفة فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبيد الله. أما عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ومدبرة محطوطة المتين عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر، وصفحة الوجه فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن ذات عكن ضخمة السرة مسرولة الساقة يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان: أما أحدهما فيواريه الخمار وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به. وأما أنت يا ابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم كأنها خوط بانة تنثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني وكأنها خدل عنان، أو كأنها خشف ينثني على رمل لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت ولكنها شحنة الصدر وأنت عريض الصدر فإذا كان ذلك قبيحا لا والله حتى يملأ كل شيء مثله فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن. وكان مصعب لا يقدر عليها إلا بتلاح ينالها منه، وبكل مشقة، فشكا ذلك إلى ابن فروة كاتبه فقال له: أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم. افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها فقالت له: أفي مثل هذه الساعة يا ابن أبي فروة قال: نعم. فأدخلته. فقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفر ههنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه. قال: هيهات، لا سبيل إلى ذلك. وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجد منه بكت. ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد. قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها فقال: قد رققت لك وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني أني لا أعود أبدا. قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت. قال: فأعطني المواثيق. فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعبا فأخبره فقال له: استوثق منها بالأيمان ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب. ودخل عليها مصعب يوما وهي نائمة متصبحة ومعه ثمان لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقال له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ. قال: وصارمت مصعبا مرة فطالت مصارمتها له وشق ذلك عليها وعليه وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه فقال لها مصعب إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك. وقال ابن يحيى: كان مصعب من أشد الناس، إعجابا بعائشة بنت طلحة ولم يكن لها شبيه في زمانها حسنا ودماثة وجمالا وهيئة ومتانة وعفة وإنها دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب والمجمر وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك، وأضعفت ثم قالت لعزة هاتي يا عزة فغنينا فغنت: وثغر أغر شنيب البنات ... لذيذ المقبل والمبتسم وما ذقته غير ظن به ... وبالظن يقضي عليك الحكم وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت فبارك الله فيك يا عزة، ثم أرسل إلى عائشة أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت، ثم تعود إليك، ففعلت وغنته مرارا وكاد أن مصعب يذهب عقله فرحا وسرورا، وأمرها بالعود إلى مجلسها وقضوا يوما على أحسن حال. ولما قتل مصعب عن عائشة تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي فحمل إليها ألف ألف درهم وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة، وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب، وخرجت عائشة. فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب؟ قالت لها انظري إليه فنظرت فإذا هو مال فتبسمت فقالت لها مولاتها أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزباً؟ قالت: لا والله ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد قالت: فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يديك إلى طيب أو ثياب أو حلي أو فرش إلا وهو عندك وقد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي فذهبت إليه. فقالت: قم بنا فقد قبلت فجاءهم عند العشاء الأخيرة، وقالت حين دخل بها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر وكانت رملة بنت عبد الله بن خلف زوجة لعمر بن عبيد الله بن معمر، ولما تزوج عائشة قالت: فإني لمولاة لعائشة، أريني عائشة متجرة ولك ألف درهم، فأخبرت عائشة بذلك فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها. فمكثت عائشة عند عبيد الله بن معمر ثمان سنين ثم مات عنها سنة اثنتين وثمانين فتأيمت بعده فخطبها جماعة فردتهم ولم تتزوج بعده أبدا. وكانت عائشة من أشد الناس مغالظة لزواجها وكانت تكون لكل من يجيء يحدثها في رقيق الثياب فإذا قالوا قد جاء الأمير ضمت عليها مطرفها وقطبت وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله وتغيظه بذلك فيكاد أن يموت، وكان شديد الغيرة فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار فقال لها: انفضي التراب عني فأخذت منديلا تنفض عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قط أحسن منه على وجه مصعب قال: فكاد يموت غيظا. ودخلت عائشة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان، فضم إليها قوما يكونون معها فحجت ومعها ستون بغلا عليها الهوادج والرحائل، وكانت سكينة بنت الحسين - رضي الله عنهما - في تلك السنة فقال حادي عائشة: عائش يا ذات البغال الستين ... لا زلت ما عشت كذا تحجين فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها. فقال: عائش هذه ضرة تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف واستأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج هذه السنة، ففعلت، فجاءت بهيئة جهدت فيها فلما كانت بين مكة والمدينة إذا بموكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك الموكب فقالوا: عائشة عائشة فضغطهم. فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها، ثم جاء مواكب على هذا المنوال، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى. ووفدت عائشة بنت طلحة على هشام فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر ومنع السلطان الحق قال: إنس سأعرفه حقك، ثم بعثت إلى مشايخ بني أمية. فقال: إن عائشة عندي فأسمروا عند الليلة فحضروا فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه وما طلع نجم ولا غار إلا سمته فقال لها هشام: أما الأول فلا نكره، وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة. ولما تأيمت عائشة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة وتخرج إلى ما لها بالطائف وقصر لها فتتنزه وتجلس بالعشيات فتتناضل بين الرماة، فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك، فأنشدها قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 نزلن بفخ ثم رحن عشية ... يلبين للرحمن معتمرات يخبئن أطراف الكف من التقى ... ويخرجن شطرا لليل معتجزات ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات فقالت: والله ما قلت إلا جميلا ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت: علي به. فجاء، فقالت: أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثب مواليها. فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستفيد لابنة عمه هات، فانشدها: ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدوا بلبك مطلع الشرق وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق ما صبحت زوجا بطلعتها ... إلا غدا بكواكب الطلق قرشية عبق العبير بها ... عبق الدهان بجانب الحق بيضاء من تيم كلفت بها ... هذا الجنون وليس بالعشق فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا يا نميري. وقال أبو هريرة لعائشة يوما: ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور. وكتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل، فقالت: ليحيى: ما انزل أخاك أيلة قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك. حللت محل الضب لا أنت ضائر ... عدوا ولا مستنقعا بك نافع وقال عبد الله بن عبد الرحمن - وقد قيل له طلقها: يقولون طلقها لأصبح ثاويا ... مقيما علي الهم أحلام نائم وإن فراقي أهل بيت أحبهم ... لهم زلفة عندي لإحدى العظائم قال بعضهم: أذن المؤذن يوما وخرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة أنه بقي علي شيء من طوافي لم أتمه، فقعد وأمر المؤذنين، فكفوا عن الإقامة، وجعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله وولى عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكتب إلى الحارث: ويلك أتركت الصلاة لعائشة بنت طلحة فقال: والله لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبرت. وقال في ذلك: لم أحب بأن سخطت ولكنه ... مرحباً إن رضيت عنا وأهلا إن وجهاً رأيت ليلة البد ... ر عليه أثنى الجمال وحلا وجهها الوجه لو يسيل به المز ... ن من الحسن والجمال استهلا إن عند الطواف حين أتته ... لجمالا فعماً وخلقاً رفلا وكسين الجمال إن غبن عنها ... فإذا ما بدت لهن اضمحلا ولما قدمت عائشة إلى مكة أرسل إليها الحارث بن خالد - وهو أمير على مكة -: إني أريد السلام عليك، فإذا خف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عليك أذنت وكان الرسول الغريض فقالت له: إنا حرم فإذا أحللنا أذناك، فلما حلت سرت على بغلاتها ولحقها الغريض بعسفان ومعه كتاب الحارث إليها وفيه قوله: ما ضركم لو قلتم سددا ... إن المطايا عاجل غدها لها علينا نعمة سلفت ... لسنا على الأيام نجحدها لو تممت أسباب نعمتها ... تمت بذاك عندنا يدها فل ما قرأت الكتاب قالت ما يدع الحارث باطله، ثم قالت للغريض هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع في هذا الشعر. فقال عائشة: والله ما قلنا إلا سددا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على الشعر كله فاستحسنه وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب. وقالت زدني فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا: زعموا بأن البين بعد غد ... فالقلب مما أحدثوا يجف والعين منذ أجد بينهم ... مثل الجمان دموعها تكف ومقالها ودموعها سجم ... أقلل حنينك حين تنصرف تشكو ونشكو ما أشت بنا ... كل بوشك البين معترف فقالت له عائشة: يا عريض بحقي عليك أهو أمرك أن تغنين في هذا الشعر؟ فقال: لا وحياتك يا سيدتي. فأمرت له بخمسة آلاف درهم ثم قالت له: غنني في شعر غيره، فغناها في قول ابن أبي ربيعة: أجمعت خلتي مع الضجر بينا ... جلل الله ذلك الوجه زينا أجمعت بينها ولم تك منها ... لذة العيش والشباب قضينا فتلوت حمولها واستقلت ... لم تنل طائلا ولم تقض دينا ولقد قلت يوم مكة لما ... أرسلت تقرأ السلام علينا أنعم الله بالرسول الذي أر ... سل والمرسل الرسالة عينا فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض فأنعم الله بك عينا، وأنعم بابن أبي ربيعة عينا لقد تلطفت حتى أديت إلينا الرسالة وإن وفاءك له لما يزيدنا رغبة فيك وثقة بك، وقد كان عمر سأل من الغريض أن يغنيها هذا الصوت وقال له عمران: أبلغتها هذه في غناء، فلك خمسة آلاف درهم فوفى له بذلك وأمرت عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى. قم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان وكانت قد حجت في تلك السنة فقال لها جواريها: هذا الغريض. قالت لهن: علي به. فجيء به إليها. قال الغريض: فلما سلمت دخلت فردت علي وسألتني عن الخبر، فأقصصته عليها قالت: غنني به ففعلت فلم أرها تهش لذلك فغنيتها معترضا ولها مذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان السعدي يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف: أقول والضيف مخشي ذمامته ... على الكريم وحق الضيف قد وجبا يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والضربا في ليلة في جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى تلف على خيشومه الذنبا قال: فقالت وهي مبتسمة قد وجب حقك يا غريض فغنني فغنيتها: يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وسلبتنا ما لست مخلفه ... يا دهر ما أنصفت في الحكم لو كان لي قرن أناضله ... ما طاش عند حفيظة سهمي لو كان يعطي النصف قلت له ... أحرزت سهمك فاله عن سهمي فقالت: نعطيك النصف ولا نضيع سهمك عندنا ونجزل لك قسمك وأمرت له بخمسة آلاف درهم، وثياب عدنية وغير ذلك من الألطاف قال: وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته وقصصت عليه القصة فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة وأعلمته بما جرى فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت بنظرة من عائشة ونظرة من عاتكة بنت يزيد وهما أجمل نساء عالمهما وبما أمرتا لي وبالمنزلة عند الحارث وهو أمير مكة وابن ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال. وقد قدم قادم غلى المدينة من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكة. فقالت: فما فعل الأعرابي فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث فقال له: من أين؟ قال: من المدينة. قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: ففي ماذا سألتك؟ قال: قالت لي: ما فعل الأعرابي قال له الحارث: فعد إليها ولك هذه الرحلة والحلة، ونفقتك لطريقك وادفع إليها هذه الرقعة وكتب إليها فيها: من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره ... طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن ليت الهوى لم يقربني إليك ولم ... أعرفك إذا كان حظي منكم الحزن ولقي عمر بن أبي ربيعة عائشة بمكة وعي تسير على بغلة لها فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك. قالت: أوقد قلت يا فاسق؟ قال: نعم، فوقفت، فأنشدها: يا ربة البغلة الشهباء هل لك في ... أن تشتري ميتا لا ترهبي حرجا قالت بدائك مت أو عش تعالجه ... فما ترى لك فيما عندنا خرجا قد كنت حملتنا غيظا نعالجه ... فإن بعدنا فقد عنيتنا حججا حتى لو أستطيع مما قد فعلت بنا ... أكلت لحمك من غي وما نضجا فقلت لا والذي حج الحجيج له ... ما مج حبك من قلبي ولا نهجا ولا رأى القلب من شيء يسر به ... مذ بان منزلكم منا ولا ثلجا ضنت بنائلها عنه فقد تركت ... في غير ذنب أبا الخطاب مختلجا فقالت: لا ورب الكعبة ما عنينا طرفة عين قط، ثم أطلقت عنان بغلتها وسارت ولم تزل تداريه وترفق به خوفا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها وانصرفت إلى المدينة فقال في ذلك: إن من تهوى مع الفجر ظعن ... للهوى والقلب متباع الوطن بانت الشمس وكانت كلما ... ذكرت للقلب عادوت الدرن يا أبا الحارث قلبي طائر ... فأتمر أمر رشيد مؤتمن نظرت عيني إليها نظرة ... تركت قلبي إليها مرتهن ليس حب فوق ما أحببتها ... غير أن أقتل نفسي أو أجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ومن أشعاره أيضاً فيها قصيدته التيأولها: من لقلب أمسى رهينا معنى ... مستكينا قد شفه ما أجنا إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا ... نازج الدار بالمدينة عنا ليت حظي كطرفة العين منها ... وكثير منها القليل المهنا ونقل صاحب الأغاني قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة وكانت أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فهبت لها رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه. فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له اتق الله، ولا تقل هجرا فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت. فقال للجاري: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرا، وقال فيها: لعائشة ابنة التميمي عندي ... حمى في القلب ما يرعى حماها يذكرني ابنة التيمي ظبي ... يرود بروضة سهل رباها فقلت له وكاد يراع قلبي ... فلم أرقط كاليوم اشتباها سوى خمش بساقك مستبين ... وأن شواك لم يشبه شواها وأنك عاطل عار وليست ... بعارية ولا عطل يداها وأنك غير أقزع وهي تدني ... على المتنين أسحم قد كساها ولو قعدت ولم تكلف بود ... سوى ما قد كلفت به كفاها أظل إذا أكلمها كأني ... أكلم حية غلبت رقاها تبيت إلي بعد النوم تسري ... وقد أمسيت لا أخشى سواها وقال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: يا بني تيم بن مرة ها والله ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم وتغفلون، فمشى ولد أبي بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة، فأعلموه بذلك وأخبروه بما بلغهم فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدا، ثم قال بعد ذلك فيها وكنى عن اسمها قصيدته التي أولها: يا أم طلحة إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غدا أمسى العراقي لا يدري إذا برزت ... من ذا تطوف بالأركان أو سجدا ولم يزل عمر يتشبب بعائشة أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة فنظر إليها فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق. فقال: إني واوا ما كلفت بذكرها ... عجب وهل في الحي من متعجب نعت النساء فقلت لست بمبصر ... شبها لها أبدا ولا بمقرب فمكثن حينا ثم قلن توجهت ... للحج موعدها لقاء الأخشب أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لي ... والقلب بين مصدق ومكذب فلقيتها تمشي تهادي موهنا ... ترمي الجمار عشية في موكب غراء يغشي الناظرين بياضها ... حوراء في غلواء عيش معجب إن التي من أرضها وسمائها ... جلبت لحينك ليتها لم تجلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ولما حجت عائشة بنت طلحة جاءتها الثريا وأخواتها، ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت به لها عائشة والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك، وذهبت عن قلوبنا. فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها فإنها كريمة بنت كرام واندفع يغني بشعر جميل: تذكرت ليلى فالفؤاد عميد ... وشطت نواها فالمزار بعيد فقالت: ويلكم هذا مولى العيلات بالباب يذكر نفسه هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم مكانك ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنيتني صوتا في نفسي فلك كذا وكذا شيء سمته له فغناها في شعر كثير: وما زلت من ليلى دلن طر شاربي ... إلى اليوم أخفي حبها وأداجن وأحمل في ليلى لقوم ضغينة ... وتحمل في ليلى علي الضغائن فقالت له: ما عدوت ما في نفسي ووصلته فأجزل. قال: إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: وهل علمت حديث هذين البيتين ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم. نقل عن الشعبي أنه قال: دخلت مسجدا فإذا أنا بمصعب بن الزبير على السرير جالس، والناس عنده، فسلمت ثم ذهبت لأنصرف فقال لي ادن مني يا شعبي فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمت فاتبعني فجلس قليلا، ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما دخل في الدار التفت إلي فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة رأيتها لبعض الأمراء فقمت ودخل الحجلة فسمعت حركة، فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف فإذا بجارية قد خرجت، فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة ورفع سجف الحجلة فإذا أنا بمصعب بن الزبير ورفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة قال: فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما مصعب وعائشة فقال مصعب: يا شعبي، هلت عرف هذه؟ فقلت: نعم، أصلح الله الأمير. قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيه الشاعر: (وما زلت من ليلى لدن طر شاربي) - البيتين المتقدم ذكرهما -ثم قال: إذا شئت فقم، فقمت. فلما كان العشي رحت وإذا هو جالس على سريره في المسجد، فسلمت، فلما رآني قال لي ادن مني فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه فأصغى إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط قلت: لا والله قال: أفتدري لم أدخلناك قلت: لا، قال: لتحدث بما رأيت. فيظهر من هذه الرواية أن طباعهم في ذاك العصر كانت كطباع الغربيين في عصرنا هذا من قبل النساء لا كرجالنا الذين يخافون أن يظهروا للنساء أدنى شيء من الفضل غيرة عليهن ويزعموا أن هذا العز الكبر. رجعنا إلى بقية الحديث، قال: ثم التفت إلى عبيد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا قال: فما انصرف يومئذ أحد بمثل ما انصرف به بعشرة آلاف درهم وبمثل كارة القصار ثياباً وبنظرة من عائشة بنت طلحة. عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق عائشة النبوية ابنة جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين وأخت موسى الكاظم. قال المناوي: كانت من العابدات الجاهدات، وكانت تقول - رضي الله عنها - وعزتك وجلالك لئن أدخلتني النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 لآخذن توحيدي وأطوف به على أهل النار وأقول وحدته فعذبني. ماتت رضي الله عنها سنة هجري ودفنت فيا لمسجد المعروف باسمها الآن بناحية قراميدان بمصر وقبرها يزار وأهل مصر يعتقدون بها ويتبركون بزيارتها ومسجدها مقام الشعائر، وكان أبوها جعفر الصادق -رضي الله عنه - إماما نبيلا أخذ الحديث عن أبيه وجده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه وعروة وعطاء ونافع والزهري وهو إمام مذهب الشيعة الإمامية. عائشة بنت أحمد القرطبية قال ابن حبان: لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها علما وفهما، وأدبا وفصاحة وشعرا وكانت تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف وماتت عذراء لم تتزوج، وكانت وفاتها سنة 400 هجرية. وقال صاحب المقرب: إنها من عجائب زمانها وغرائب أوانها وأبو عبد الله الطبيب عمها ولو قيل: إنها أشعر منه لجاز ودخلت يوما على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت: أراك الله فيه ما تريد ... ولا برحت معاليه تزيد فقد دلت مخايله على ما ... تؤمله وطالعه سعيد تشوقت الجياد له وهز ال ... حسام له وأشرقت البنود وكيف يخيب شبل قد نمته ... إلى العليا ضراغمة أسود فسوف نراه بدار في سماء ... من العليا كواكبه الجنود فأنتم آل عامر خير آل ... زكا الأبناء منكم والجدود وليدكم لدى رأي كشيخ ... وشيخكم لدى حرب وليد وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه: إنا لبوة لكنني لا أرتضي ... نفسي مناخا طول دهري من أحد ولو أنني أختار ذلك لم أجب ... كلباً ولا أغلقت سمعي عن أسد عائشة بنت علي بن محمد بن عبد الغني بن المنصور الدمشقية كانت عالمة عاملة كاملة، تعلمت النحو، والصرف، والبيان، والعروض، والحديث، وفتحت حلقة للتدريس سمعت عن زوجها الحافظ نجم الدين الحسني، وعن الإمام ابن الخباز والمرداوي. ومن بعدهما حدثت وانتفع الناس بمعارفها وعلومها حتى أنها فاقت أهل زمانها علما وأدبا ومعاشرة وعفة. عائشة بنت محمد بن عبد الهادي عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي. الصالحية الحنبلية سيدة المحدثين بدمشق، سمعت صحيح البخاري على حافظ العصر المعروف بالحجار. وروى عنها الحافظ ابن حجر وقرأ عليها كتبا عديدة، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث، وكانت سهلة في تعليم العلوم، لينة الجانب للتعليم، ومن العجائب أن ست الوزراء كانت آخر من حدث عن الزبيدي بالسماع، ثم كانت عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 آخر من حدث عن صاحبه ابن الحجار بالسماع أيضا وبين وفاتهما مائة سنة، وتوفيت عائشة هذه بدمشق سنة 816 هجرية ودفنت بالصالحية رحمة الله عليها. عائشة بنت يوسف بن أحمد بن نصر الباعوني كانت شاعرة مطبوعة، فاضلة أديبة، لبيبة عاقلة، وكان على وجهها من الجمال لمحة جملها الدب وحلتها بلاغة العرب، فجعلتها بغية ومنية الراغبين، والذي أجمع عليه العارفون أن عائشة هذه بين المولدين تزيد عن الخنساء بين الجاهلين، وقد وصفها عبد الغني النابلسي بأنها فاضلة الزمان، وحليفة الأدب في كل مكان، ووصفها غيره من العلماء والأعلام بأنها ربة الفضل والأدب، وصاحبة الشرف والنسب، وقد حضرت الفقه والنحو والعروض على جملة من مشايخ عصرها مثل جمال الحق والدين إسماعيل الحوراني والعلامة محيي الدين الأموري، وقد أخذ عنها جملة من العلماء والأعلام، وقد انتفع بها خلق كثير من الطالبين ولها ديوان شعر بديع في المدائح النبوية كله لطائف، ومن تآليفها: (مولد جليل للنبي صلى الله عليه وسلم) اشتمل على فرائد النظم والنثر، ومن شعرها قولها في جسر الشريعة لما بناه الملك الظاهر برقوق بيتان هدما كثيرا مما شيده فحول الشعراء من البيوت وهما: بنى سلطاننا برقوق جسرا ... بأمر والأنام له مطيعة مجازا في الحقيقة للبرايا ... وأمرا بالمرور على الشريعة وبالحقيقة أن من رأى سحر بلاغتها فكأنما رأى هاروت وماروت، ومن شعرها البديع في الغزل قولها: كأنما الخال القرط في عنق ... بدا لنا من محيا من خلقا نجم غدا بعمود الصبح مستترا ... خلف الثريا قبيل الشمس فاحترقا ومن نظمها قصيدتها البديعية التي سارت بذكرها الركبان، وفاقت بمعانيها على الصفي وابن حجة وسائر أهل البديع وذوي العرفان، ولها عليها شرح بديع سمته بالفتح المبين في مدح الأمين نظمتها على منوال بديعية تقي الدين بن حجة مع عدم تسمية النوع تمسكا بطلاقة الألفاظ، وانسجام الكلمات، وشرحتها بشرح مختصر أسفرت فيه عن لسان البيان بقدر الطاقة والإمكان، ونحن نورد مقدمة هذا الشرح بحروفها لما فيها من حسن المعاني البديعة وتأتي على إيراد القصيدة بأكملها بدون شرح وذلك إظهارا لفضل المترجمة وعلو همتها. قالت رحمها الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله محلي جياد الأفهام بعقود مدح الشفيع، ومجلي سلامة الأذواق بمكرر ذكره الرفيع ومرصع تيجان البيان بجواهر سيرته الحسنا، ومزين سماء البلاغة بزواهر معجزه الأسنى، ومعجز العقول عن إدراك كنه صفاته، ومؤيس الأفكار من إحصاء خصائصه وآياته، وباعث الرسل مقررين لعظيم قدره، ومنزل الكتب مبنية لرفيع ذكره، ومعطر أرجاء الوجود بالثناء على خلقه العظيم، ومشرع ألوية التخصيص له بكرائم التسجيل وجلائل التكريم، ومطلق ألسنة الأطناب في شرفه المطلق المفرد ومفرده بكمال الاصطفاء فما لكماله مثل ولأحد حمدا يجمع لي بين الأماني والأمان، ويقتضي المزيد من المبرات الشهود والعيان، وأشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شافعة باتصال المدد، كافلة بالخلود في جنات العرفان إلى الأبد. وأشهد أن سيد أعيان الكونين، وعين حياة الدارين محمد عبده ورسوله، وحبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم صلاة تصلني وذريتي وأحبائي في كل نفس بنفائس صلاته، وتقتضي دوام البسط بتوالي إمداداته، وتشفع لنا بمراحم القبول، وتسعفنا بكرائم الوصول صلاة لا ينقطع لها مدد، ولا ينقضي لها أمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آل كل وصحب كل وسائر الصالحين وسلك تسليما وكرم تكريما. وبعد، فهذه قصيدة صادرة عن ذات قناع، شاهدة بسلامة الطباع، ومنقحة بحسن البيان، مبنية على أساس تقوى من الله ورضوان، سافرة عن وجوه البديع، سامية بمدح الحبيب الشفيع، مطلقة من قيود تسمية الأنواع، مشرقة الطوالع في أفق الإبداع، موسومة بين القصائد النبويات بمقتضى الإلهام الذي هو عمدة أهل الإشارات بالفتح المبين في مدح الأمين، استخرت الله تعالى بعد تمام نظمها وثبوت اسمها في شيء يروق الطالب موارده، وتعظم عند المستفيد فوائده، وهو أن أذكر بعد كل بيت حد النوع الذي بنيت عليه وافر شاهده فإن ذلك مما يفتقر إليه وأنحو في ذلك سبيل الاختصار ولا أخل بواجب، وأنبه على ما لا بد منه قصد النفع الطالب، والمسؤول من الفتاح بتأسيسها على قواعد أذن الله أن ترفع ومن مثبت رفعها بوجاهة مدح الوجيه المشفع أن يصلي ويسلم عليه، ويجعلها خاصة لوجهه الكريم ووسيلة لي ولوالدي ولذريتي ولأحبائي ولمن والاني خيرا وفور الحظ من فضله العظيم، وأن ينيلنا بوجاهة الممدوح لديه وبحقه عليه نهاية الآمال، وشمول العفو والرضوان إنه جواد كريم رؤوف رحيم، ومن الله أستمد وعليه أعتمد وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. براعة المطلع في حسن مطلع أقمار بذي سلم ... أصبحت في زمرة العشاق كالعلم الجناس المذيل والتام أقول والدمع جار جارح مقلي ... والجار جار بعذل فيه متهم الجناس المحرف يا للهوى في الهوى روح سمحت بها ... ولم أجد روح بشرى منهم بهم الجناس المشوش وفي بكائي لحال حال من عدم ... لفقت صبرا فلم يجدي لمنع دمي الجناس المركب يا سعد إن أبصرت عيناك كاظمة ... وجئت سلعا فسل عن أهلها القدم الجناس المصحف والمطلق فثم أقمار تم طالعين على ... طويلع حيهم وأنزل بحيهم الجناس المخالف أحبة لم يزالوا منتهى أملي ... وإن هممو بالتنائي أوجبوا ألمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الجناس اللاحق علوا كمالا جلوا حسنا سبوا أمما ... زادوا دلالا فنى صبري فيا سقمي الجناس اللفظي أحسنت ظني وإن هم حاولوا تلفي ... وثم سر وضنى فيه من شيمي الجناس المعنوي أليحمدي وأبو تمام كل شج ... عانى الغرام إلى قلبي لأجلهم المناقضة قيل اسلهم قلت إن هبت صبا شجرا وأشرق البدر تما سلخ شهرهم الرجوع ما لي رجوع عن الأشجان في ولهي بل عن سلوى رجوعي صار من لزمي الاستدراك رجوتهم يعطفوا فضلا وقد عطفوا ... لكن على تلفي من فرط عشقهم المطابقة هان السهاد غراما فيه أقلقني ... شوقا وعز الكرى وجدا فلم أنم التمثيل وعاذل رام سلواني فقلت له ... من المحال وجود الصيد في الأجم الإبهام عذلتني وادعيت النصح فيه فلا ... برحت أسعى بلا حد إلى النعم الاستعارة كيف السلو ونار الحب موقدة ... وسط الحشا وعيون الدمع كالديم الأرداف ولي جفون بغير السهد ما اكتحلت ... ولي رسوم بغير السقم لم تسم الافتتان تهابني الأسد في إجامها وظبا ... تلك الظبا قد أذلتني لعزهم مراعاة النظير أزروا بشمس الضحى والبدر حين بدوا وأومض البرق من تلقاء مبتسم عتاب المرء نفسه يا نفس ماذا الوني جدي فإن يصلوا ... فالقصد أو لا فموتي موت محتشم المغايرة لذكرهم صار سمع العذل يطربني ... من اللواحي ويلجيني أشكرهم سلامة الاختراع بلغت من العشق مرمى ليس يدركه ... إلا خليع صبا مثلي إلى العدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 التوشيع كتمت حالي ويأبى كتمه شجني ... بحكمي الفاضحين الدمع والسقم المراجعة قالوا ارعوي قلت قلبي ما يطاوعني ... قالوا انثني قلت عهدي غير منفصم القول بالموجب قالوا سلوت فقلت الصبر في كلفي ... قالوا يئست فقلت البرء في سقمي التهكم يا عاذلي أنت معذور فسوف ترى ... إذا بدا الصبح ما غطى غشا الظلم المواربة أبرمت عذلا ويخشى أن تجربه ... إلى السلو وما السلوان من شيمي ضرب المثل أجر الأمور على أذلالها فعسى ... ترى بعينك وجه النصح في كلمي النزاهة عن ذم مثلك تبياني أنزهه ... إذ أنت عندي معدود من النعم تجاهل العارف الجهل أغواك أم في الطرف منك عمى أغاب رشدك أو ضرب من اللمم الهزل الذي يراد به الجد أتعبت نفسك في عذلي ومعذرة ... مني إليك فسمعي عنك في صمم البسط اعذل وعنف وقل ما اسطعت لا ترني ... إلا كما شاء وجدي حافظا ذممي التورية تسومني الصبر عمن لي حلابهم ... جميع ما مر من حالات عشقهم التصدير لم يا عذولي وشاهد حسنهم فإذا ... شاهدته واستطعت اللوم بعد لم ما لا يستحيل بالانعكاس أني أنا عرفن فرع لنا نبأ ... من الملام وحشيه بوصفهم تألف اللفظ والمعنى وامزج ملامك بالذكرى فإن بها ... تعللا لعليل الشوق من ألم التفويف كرر أعد أطرب ابسط ثن غن أجب ... قل سل جد ترنم بر من أدم الإدماج أعد حديث أحبائي فهم عرب ... قد أعرب الدمع فيهم كل منعجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الاستخدام واستوطنوا السر مني فهو منزلهم ... ولم أفوه به يوما لغيرهم المقابلة بدا الصدود ببعدي عن جوارهم ... فعاد وصل بقربي من محلهم تآلف اللفظ والوزن أحبة ما لقلبي غيرهم أرب ... وحبهم لم يزل يربو من القدم تآلف المعنى والوزن لزمت صدق ولاهم والتزمت به ... فسلت أسلوه إلا عن سلوهم الإبداع حلوا بقلبي وحلى جود منتهم ... جيدي وشكر الأيادي مسمعي وفمي التفريع ما بهجة الشمس في الآفاق مشرقة ... يوما بأبهج من لألأء حسنهم القسم وجوابه لا مكنتني المعالي من سيادتها ... إن لم أكن لهم من جملة الخدم حسن البيان بفضلهم غمروني من فواضلهم ... بما عجزت به عن حق شكرهم التوشيح وألبسوني مذ آنست نارهم ... من طور حضرتهم نورا جلا ظلمي المجاز وألبسوني ثياب الوصل معلمة ... بقربهم وأقروا في القرى علمي الاستطراد وخولوني ملكا فيه فزت بهم ... فوز العفاة بوافي فيض فضلهم التهذيب والتأديب لهم شمائل بالإحسان قد شملت ... وعلمت كرم الخلاق والشيم الانسجام ولي عوائد منهم بالجميل لها ... بمنهم اتصال غير منحسم التشريع قالوا فقد راق عيش المستهام بهم ... فلا جفا بعد ما جادوا بوصلهم الالتفات حلوا بقلبي فيا قلبي تهن بهم ... وافرح ولا تلتفت عنهم لغيرهم الاحتراس قد طال شوقي وقلبي منزل لهم ... إلى الطلول التي تسموا باسمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 تأليف اللفظ باللفظ فليت شعري هل حالي بمنتظم ... قبل الوفاة وهل شملي بملتئم التكرار نعم نعم حدثتني وهي صادقة ... ظنون سري حديثا غير متهم المناسبة عن جودهم عن نداهم عن فواضلهم ... عن منهم عن وفاهم نيل برهم حسن النسق سادوا فجودهم جم وبذلهم ... حتم وموردهم غنم لكل ظمي الإيجاز يا سعد إن ساعد الأسعاد واجتمعت ... لك الأماني وجئت الحي عن ألم التتميم عرج على قاعة الوعساء منعطفا ... على العقيق على الجرعاء من أضم التجريد واقصد مصلى به باب السلام وقف ... لدى المقام وقبل موطئ القدم التمكين فلي فؤاد بذاك الحي مرتهن ... سلا السلو وعانى وجده بهم الحذف ناشدته الله والنوار مشرقة ... تعلو المعالم من سكانها القدم الاقتباس ائت الكريم وهذا طور حضرتهم ... أقبل ولا تخف الواشين بالكلم النوادر وشاهد الحسن والإحسان جزؤهم ... ولا تدع منك جزأ غير مقتسم الكناية ولا يصدك عن بذل الوجوه لهم ... نصح اللواحي وما صاغوا بنطقهم المخلص هم المفاليس ما ذاقوا الغرام ولا ... أموا حمى خير خلق الله كلهم الإطراء محمد المصطفى ابن للذبيح أبو ال ... زهراء جد أميري فتية الكرم التكرار الوافر العظم ابن الوافر العظم اب ... ن الوافر العظم ابن الوافر العظم التكميل المرتضى المجتبى المخصوص أحمد ... من اختاره الله قبل اللوح والقلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الترتيب خير النبيين والبرهان متضح ... عقلا ونقلا فلم نرتب ولم نهم التمسيك أسناهم نسبا أزكاهم حسبا ... أعلاهم قربا من بارئ النسم السهولة طه المنادى بألقاب العلا شرفا ... وغيره بالأسامي ضمن كتبهم المماثلة عزت جلالته جلت مكانته ... عمت هدايته للخلق بالنعم الاعتراض أعظم به من نبي مرسل نزلت ... في مدحه محكم الآيات من حكم الإيداع ينبي مفصلها عن عز مرتبة ... من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم الإشارة تبارك الله من أوحى إليه بما ... أوحى وخصصه بالمنتهى العظم التفسير برتبة ألقاب بالأدنى بحظوته ... برؤية الله بالإيناس بالكلم التوشيح دنا ونال فلا ثان يشاركه ... فيما حواه من التخصيص والكرم العنوان أتى وكان نبيا عند خالقه ... قدما وآدم طينا بعد لم يقم التسهيم ذو الجاه حيث يضم الخلق محشرهم ... ولا يرى غيره في الكشف للغمم حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي ذو المجد حيث أهيل المجد قاطبة ... تسير تحت لواه يوم حشرهم الاكتفاء ذو المعجزات التي منها الكتاب فيا ... بشرى لمقتبس منه بكل جم التوليد يتلى ويحلو ولا يبلى وليس له ... مبدل وهو حبل الله فاعتصم التفصيل قل للذي ينتهي هما يحاوله ... من حصر معجز طه الطاهر الشيم الموارد كم أعقبت راحة باللمس راحته ... وكم محا محنة ريق له بفم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 التقسيم والنيران أطاعاه فتلك بدت ... بعد الأفول وهذا شق في الظلم الجمع مع التقسيم والماء من إصبعيه فاض فيض ندى ... كيفه مردود هذا معدم العدم الجمع فريد حسن تسامى عن مماثله ... في الخلق والخلق والإحكام والحكم القلب بدر الكمال البدر مكتسب=من نوره وضياء الشمس فاعتلم تنسيق الصفات أعظم به من نبي سيد سند ... هاد سراج منير صفوة القدم التشطير بالحق مشتغل في الخلق مكتمل ... بالبر معتصم بالبر ملتزم السجع للبذل مغتنم بالبشر متسم ... يسمو بمبتسم كالدر منتظم الترصيع ممجد الذكر في الفرقان بالحكم ... محمد الأمر في التبيان من حكم اللف والنشر جمال صورته عنوان سيرته ... هذا بديع وهذي آية المم الإغراق ولو غدا البحر حبرا والفضا ورقا ... في حصر أوصافه ضاقا ببعضهم الغلو وذكره كاد لولا سنة سبقت ... إذا تكرر يحي بالي الرمم المبالغة علا من المثل ف التشبيه ممتنع ... في وصفه وقصور العقل كالعلم الاتساع إذ كل حسن مفاض من محاسنه ... وكل حسنى فمن إحسانه العمم الاتفاق محمد اسمه نعت لجملة ما ... في الذكر من مدحه في نون والقلم الجمع مع التفريق علاه كالشمس لا يخفى على بصر ... والوجه كالبدر يجلو حالك الظلم التشبيه لو كان ثم منيل قلت طلعته ... كالبدر حاشا تعالى كامل العظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 التفريق قالوا في الغيث قلت الغيث آونة ... يهمي وغيث نداه لا زال همي صحة الإقسام يعطى العفاة أمانيهم فلست ترى ... في حبه غير ممنوح ومغتنم الإشراك في النور لاح علاه لا نظير له ... نور القرآن وقرآنا من لدن حكم التلمح حاز الجمال في حسن متصف ... بشطره بعض ما في سيد المم المذهب الكلامي هو الحبيب من الرحمن ... للعالمين بإيجاد من العدم الالتزام غوث الورى كعبة الآمال متلزمي ... في حبه بالتفاني صار من لزمي التوجيه جردت حجي له من كل مفسدة ... ولم تزل بالصفا تسعى له قدمي الترديد بحر الوفاء دعاني بالوفاء إلى ... نيل الوفاء ورواني من النعم التجزئة بلغت ما رمته منهم فلم أرم ... عمن جلا غممي بالعزم والهمم الإيضاح وإفرده بالمدح واستثني بمدحك من ... حازوا علا الفضل من فازوا بسبقهم الاستتباع الباذلو النفس بذل المال من يدهم ... والحافظو الجار حفظ العهد والذمم السلب والإيجاب لا يسلبون بفضل الله ما وهبوا ... ويسلبوا ضرر الإملاق بالكرم التدبيج سود الوقائع حمر البيض في حرب ... خضر المرابع بيض الفعل والشيم تشبيه شيئين بشيئين كأنهم في عجاج النقع حين بدوا ... بدور تم بدت في حندس الظلم التنكيت للجمع فلوا وما فلت عزائهم ... وهي المواضي على استئصال كل عم المساواة هم النجوم فما أسنى مطالعهم ... في أفق ملته البيضا يهديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 نفى الشيء بإيجابه لا يمزج الشك منهم صفو معتقد ... ولا يشين النقي باللم واللمم جمع المؤتلف والمختلف بالسبق فازوا بتخصيص تقدهم ... فيه خليفته الصديق والقدم المدح في معرض الذم لا عيب فيهم سوى أن لا يضام لهم ... وفد ولا يبخلوا بالرفد في العدم الازدواج طه الذي إن اخف ذنبي ولذت به ... أمنت خوفي ونجاني من النقم التصريع ولا طمحت إلى شيء من الكرم ... إلا وبلغني فوق الذي أرم الفرائد ما هبت الريح إلا شمت برق وفا ... لي فيه وبل غطا من ديمة النعم براعة المطلب يا أكرم الرسل سؤلي فيك غير خف ... وأنت أكرم مدعو إلى الكرم العقد حسبي بحبك أن المرء يحشر مع ... أحبابه فهنائي غير منحسم حسن الختام مدحت مجدك والإخلاص ملتزمي ... فيه وحسن امتداحي فيك مختتمي إن ختام هذه القصيدة لم يأت في قصيدة غيرها من حسن الذوق السليم. ومن كثرة ما لها من العلم والفهم والإطلاع وسرعة الجواب فيه بدون روية سألها سائل نظما عن وطء النائمة، فقال: ما قولك يا ستنا العالمة ... في رجل دت على نائمة تفتحت تحسبه بعلها ... وهي بما لذ لها رائمة فاستيقظت فأبصرت غيره ... عضت على إصبعها نادمة فهل لها من فتوة عندكم ... مأجورة من ذاك أم آثمة فأجابته على البديهة قائلة: قالت لكم ستكم العالمة ... أنا لأهل العلم كالخادمة أنقل ما قالوا وما أخبروا ... عن التي قد نكحت نائمة الشافعي قال لها أجرها ... ما لم تكن في نكحها عالمة والمالكي قال أنا فتوتي ... مأجورة في ذاك لا آثمة والحنفي قال أتى رزقها ... في ظلمة الليل وهي حالمة والحنبلي قال أنا فتوتي ... في هذه النكحة كالآثمة لو لم يكن لذ لها طعمه ... لانتهضت من تحته قائمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقد توفيت في القرن العاشر من الهجرة رحمها الله رحمة واسعة. عائشة بنت السيد عبد الرحيم الرفاعي كانت والهة في الله خاشعة، تتكلم على الخواطر، وكانت عد من أعظم أهل الحال، وقفت مرة فوق سطح الدار والفقراء يتواجدون في الرواق فقالت للنساء اللواتي حولها: أعطاني الله حالا إن أردت منعت عن هؤلاء ما هم فيه. فقالت النساء لها: بالله يا سيدتنا إلا ما فعلت، فرمقت حلقة الفقراء، فسكن القوم كأن لم يكن هناك ذكر ولا وجد، وفضحك أخوها السيد شمس الدين محمد. وقال لولده: اذهب فقبل رأس عمتك وقل لها: فلتنفض على الناس مما أفاض الله لها. ففعل، فرمقت القوم مرة ثانية، فرجعوا لوجدهم وما كانوا عليه. توفيت بأم عبيدة في بغداد سنة 635 هجرية ودفنت بمشهدها المبارك - رضي الله عنها. عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور بن محمد كاشف تيمور أديبة فاضلة، حكيمة عاقلة، بارعة باهرة، شاعرة ناثرة، رضعت أفاويق الأدب وهي في مهد الطفولية وتحلت بحلى لغات العرب قبل تضلعها باللغات التركية، وفاقت على أقرانها فصاحة عند بلوغها سن الرشاد، وصارت ندرة زمانها بين أهل الإنشاء والإنشاد، ولم تدع لولادة مقالا، ولم تترك للأخيلية مجالا، وقد أخنست الخنساء وأنستها صخر، وسارت في مضمار أدباء هذا العصر. تعلمت العلم والدب في مصر القاهر على أساتذة أفاضل بين أبويها، وكان أكثر ميلها إلى علم النحو والعروض حتى بلغت في الشعر حدا لم يبلغه غيرها من نساء عصرها. ولدت سنة 1256 هجري بمدينة القاهرة والدتها جركسية الأصل معتوقة والدها إسماعيل باشا تيمور، ولما انطوى بساط مهدها، وفرقت بين أبيها وجدها بادرت والدتها إلى تعليمها فن التطريز واستحضرت لها آلات التعليم، وكانت أفكارها غير متجهة لتلك بل جل مرغوبها تعلم القراءة والكتابة، وقد علم منها هذا الميل من ائتلافها مع كتاب والدها، وكلما كانت والدتها تمنعها عن الحضور مع الكتاب وتجبرها على تعلم التطريز تزداد هي نفورا من طلب والدتها. ولما رأى والدها تلك المحاورات تفرس فيها النجابة وقال لوالتدها: دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقر. وأحضر لها اثنين من الأساتذة: أحدهما: يدعى إبراهيم أفندي مؤنس كان يعلمها القرآن والخط والفقه. والثاني: يدعى خليل أفندي كان يعلمها علم الصرف واللغة الفارسية. وبعدما تعلمت القرآن الشريف تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية - وأخصها الدواوين الشعرية - حتى تربت عندها ملكة التصورات لمعاني التشبيهات الغزلية وخلافها، ولما صارت قريحتها تجود بمعان مبتكرة لم يسبقها عليها غيرها رأى والدها أن يستحضر لها أساتذة عروضيين من النساء الأديبات، وقبل إتمام ذلك صار زواجها من السيد الشريف محمود بك الإسلامبولي ابن السيد عبد الله أفندي الإسلامكبولي كاتب ديوان همايوني بالأستانة سابقا، وذلك كان في سنة 1271 هجرية. وهنالك اقتصرت عن المطالعة وإنشاد الأشعار والتفت إلى تدبير المنزل وما يلزم له وخصوصا حينما رزقت بالأولاد والبنات، وبقيت على ذلك حتى كبرت لها بنت كان اسمها توحيدة فألفت إليها زمام منزلها، وكان في تلك الفترة توفي والدها في سنة 1289 هجرية، وزوجها في سنة 1292 هجرية، وصارت حاكمة نفسها، فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض: إحداهما: تدعى فاطمة الأزهرية. والثانية: ستيتة الطبلاوية - وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر، وصارت تنشد القصائد المطولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 والأزجل المتنوعة، والموشحات البديعة التي لم يسبقها أحد على معانيها ومن ذلك قد جمعت ثلاثة دواوين بالثلاث لغات: العربية، والتركية، والفارسية. وقبل أن تشرع في طبعها توفيت كريمتها توحيدة وهي في سن الثامنة عشرة من عمرها فاستولى على الترجمة الحزن والأسف الشديد حيث أنها كانت مدبرة منزلها، ولم تحوجها لأحد سواها، وهناك تركت الشعر والعروض والعلوم وجعلت ديدنها الرثاء والعديد والنوح مدة سبع سنوات حتى أصابها رمد العيون، وهنالك كثرت لواحيها وعواذلها من أولادها وصويحباتها ونهوها لتقلع عما هي فيه، وأخيرا سمعت قول الناصحين وقللت شيئا فشيئا من البكاء والنوح حتى شفاها الله من مرض العيون فجمعت ما وجدته من أشعارها فوجدت بعضه والباقي تفرق مدة حزنها، فجاء منه ديوان بالتركي سمته (شكوفة) وهو تحت الطبع الآن بالأستانة العلية، وديوان عربي سمته (حلية الطراز) وقد طبع ونشر وكان له وقع عظيم في النفوس وقبول زائد عند أهل الدب، وبعد ذلك رأت نفسها أنها قادرة على التأليف فألفت كتابا سمته (نتائج الأحوال) فجاء غريبا في بابه وقد طبع ونشرا أيضا، ولما انتشرت مؤلفاتها - المذكورة - سارت في حديثها الركبان إلى أقصى العمران، وطار صيتها في الآفاق، ووردت إليها التقاريظ من كل جهبذ أديب، ولوذعي أريب. وجميع ما ورد لها من التقاريظ مكتوب في مؤلفاتها - المذكورة - التي منها هذا التقريظ الآتي من السيدة وردة اليازجي الذي أبدعت فيه لرقة معانيه على ديوان حلية الطراز وهذا نصه: (سيدتي ومولاتي، إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلى بها جيد العصر، وأخجلت بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأت فحول الشعراء بأحسن منها، وقصر نظم الدر عنها، وشنفت بحسن ألفاظها مسامعنا حتى غدا يحسدها السمع والبصر، وسارت في آفاقنا مسير الشمس والقمر، ولقد تطفلت مع اعترافي بالعجز والتقصير بتقريظ لها وجيز حقير، فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء، أو بالسمو للقبة الزرقاء، راجية من لدنكم قبوله بالإغضاء، ولا زلتم للفضل منارا يسطع، وبين الأدباء في المقام الأرفع بمن الله وكرمه: حبذا حلية الطراز أتت من ... مصر تزهو باللؤلؤ المنظوم حلية لعقول لا حلية الو ... شي وكنز المنطوق والمفهوم أنشأته كريمة من ذوات ال ... مجد والفخر فرع أصل كريم شمس علم تأتي القصائد منها ... سائرات في الأفق سير النجوم كل بيت بكل معنى بديع ... ما على السكر فيه من تحريم قد أعاد الزمان عائشة ف ... يها فعاشت آثار علم قديم هام قلبي على السماع وأمسى ... ذكرها لذتي وفيها نعيمي هام قلبي على السماع وأمسى ... ذكرها لذتي وفيها نعيمي هي فخر النساء بل وردة في ... جيد ذا العصر زينب بالعلوم فأدام المولى لها كل عز ... ما بدا الصبح بعد ليل بهيم ومن تقاريظ كتاب (نتائج الأحوال) التقريظ الآتي ذكره من السيدة وردة اليازجي أيضا وهو (سيدتي ومولاتي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أعرض أنني بينما أنا ألهج بذكر ألطافكم السنية، وأتنسم شذا أنفاسكم العبقرية، وأترقب لقاء أثر من لدنكم يتعلل به الخاطر، ويكتحل بإثمد مداده الناظر، وصلتني مشرفتكم الكريمة، وفريدة عقد وردكم اليتيمة، فجلت عن العين أقذاءها، وردت إلى النفس صفاءها، فتناولها بالقلب لا بالبنان، وتصفحت ما في طيها من سحر البيان. فقلت: هذا الكتاب الذي هام الفؤاد به ... يا ليتني قلم في كف كاتبه لعمري إنه كتاب حوى بدائع المنثور والمنظوم، وتحلى من درر الفصاحة فأخجلت لديه دراري النجوم، وقد تطفلت على مقامكم العالي بهذا الجواب ناطقا بتقصيري، وضمنته من مدح سجاياكم الغراء وما يشفع لدى مكارمكم في قبول معاذيري، لا زلتم للفضل معدنا وذخرا وللأدب كنزا وفخرا: أتت فشفت بطيب الوصل قلبي ... فتاة تيمت قلبي المحب بديعة منظر سلبت فؤادي ... ومن لي أن أطالبها بسلبي جلت وجها كبدر التم لكن ... يلوح من الغدائر تحت حجب لها وشم كخط السحر وافى ... لديه الخال بالتنقيط يسبي فصيحة منطق ناغت بلفظ ... كسلسال من الصهباء عذب أتت تروي لنا عن لطف ذات ... غدت باللطف تسبي كل لب وقد أهدت تحيات تحاكي ... شذا النسمات عاطرة المهب رسول للولاء دعت فؤادي ... فبادر عند دعوتها يلبي ولاء كريمة من خير قوم ... سموا شرفا على عجم وعرب سراة شاع ذكرهم فأمسى ... مناط المدح فيشرق وغرب لقد ورثوا المعالي من قديم ... وصانوها بشفرة كل غضب هم النجب الأولى كرموا وطابوا ... ولم يلدوا كذلك غير نجب وحسبك منهم خود تبدت ... بهذا العصر تخجل كل ندب فتاة زينب جيد المعالي ... بدر من حلي الآداب رطب أهيم بها على بعد وماذا ... على الأقدار إن سمحت بقرب على مصر السلام وساكنيها ... وما في مصر من ماء وترب على ربع به قلبي مقيم ... ومن لي أن أقيم مكان قلبي ألا يا من سمت فيكل فضل ... ونالت كل خلق مستحب ومن فاضت مكارمها فأحيت ... لدي من القريحة كل جدب لقد أوليتني كرما وجودا ... بمدح من صفاتك جاء ينبي ثاء لست منه غير أني ... به فاخرت أترابي وصحبي ورب مؤلف كالروض أجرت ... عليه سما البلاغة أي سحب تهادت فيه أبكار المعاني ... تجر من الفصاحة ذيل عجب لقد طابت فكاهته وأهدى ... لأسقام القرائح خير طب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 جلا الحكم التي كانت منارا ... لكل بصيرة في كل خطب رأيت نتائج الأحوال فيه ... ممثلة تلوح بغير نقب لتميورية العصر المحلى ... بما نسجت يداها كل حقب أديبة معشر شرفت أصولا ... وسارت بين أقلام وكتب حوت قصب السباق بكل فن ... وراضت في المعاني كل صعب ودونك غادة عذراء وافت ... بمهجة شيق للقاك صب وأني لو قدرت جعلت ذاتي ... بها سطرا ينادي الركب سربي تقر بعجز من نظمت حلاها ... وتلتمس القبول وذاك حسبي) ومن إنشاء المترجمة نثرا ما قالته مرة، ونشر في جريدة الآداب يوم السبت الموافق 9 جمادى الثانية سنة 1306 هجرية تحت عنوان (صعر المعارف) وهي: لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات (إني وإن كنت لست أهلا لمجال المقال في هذا المضمار ومعترفة بقصر اليد عن قبض زمام المنال لاعتكافي بخيمة الإزار، لكني أرى من خلال أطرافه أن مناهج التربية ظرف الكنوز وبحدود مسالك التأديب مفاتيح كل جوهر مكنوز، فالواجب على كل ذي نفس كريمة أن يميل كل الميل إلى تلك السبل الفخيمة ويحث كل عزيز له أن يرتع في مراتعها القويمة ليحظى بتلك الجواهر اليتيمة مع أني أرى الهيئة الشرقية لا تنظر إلا ما هو أمامها من الصالح فتحض به نفسها، ولو التفت إلى ما بعد يومها وتفقدته لعضت أنامل الندم على ما فرطت ووجدت بالالتفات إلى حكم بارئ النسمات، وموجد المخلوقات، وهي المصانع البديعة الربانية، والمباني الأصيلة الطبيعية صيرورة مدار عمران هذا العالم على الزوجين ولو أمكن الانفراد لخص عالم الأسرار أحدهما دون الآخر وهو الأفضل ولم يفقره إلى ما هو دونه، فكان التأمل في هيولى هذا الكون موجبا على الهيئة الرجولية العناية بتأديب البنات وتهذيب العائلات، لأن ثمرة الؤدد راجعة إليها، فلربما إنه قعد أمر الرجل فأدهشه، فلمته الزوجة بأطراف بناتها الرقيقة وأخمدت جذوة ولوعه بتدابيرها الدقيقة، وهو مع ذلك يجتهد في أن يكتم فضلها بين أفراد الهيئة ويحذر من إعلانه خشية أن يقال: هي ذات معلومية، فيكدر عيشه الصافي وهذا بخلاف الدولة الغربية فالأسف ثم الأسف على هيئة لم تمض فحصها في هذا النسق البديع ولم تجهد نفسها في البحث على هذا الشرف الرفيع، والعجب ثم العجب على مدينة تشغف بتزيين فتياتها بحلي مستعار، وتستعين على إظهار جمالهن بزخرف المعادن والأحجار، وتتخيل أنها زادتهن بسطة في الحسن والدلال، والحال أنها ألقت تلك الأحداث في أخدود الوبال، لأنه لم يعد عليهن من تلك المستعارات إلا العجب والغرور المؤدي بهن إلى ساحة المباهاة والفجور، وذلك لكف بصيرتهن عن الإدراك وعدم علمهن بنتائج الأحوال، وعواقب الأمور. قد زينت بالدر غرة جبهة ... وتوشحت بخمار جل أسود وتطوقت بالعقد تبهج جيدها ... والجهل يطمس كل فضل أمجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فلو اجتهدت الهيئة الرجلية في حسن سلوكهن بالتربية، وجذبتهن بشواهد المدينة إلى طرف الإطلاع لتتوجت تلك الغانيات من تلقائها بيواقيت المعلومية، وتقلدت بلآلئ التفقه، وكلما شبت ألفت خطواتها في طرق الإدراك، وأدركت مزية حليها الأصيل فزادته جلاء، وفطنت بغلاء قيمته فأوقرته بهاء وسناء، واستغنت بلمعة شرفه عن أرفع جوهر قماش، ولو كان ملبسها ثوبا من الشاش: إن العلوم لأصل الفخر جوهرة ... يسمو بها قدر الوضيع ويشرف فوجودها في درج مهجة فاضل ... من حازها بين الآنام مشرف فأستوهبكم العفو يا أربا العقول عما سأقول: نحن معاشر المخدرات أدرى منكم بنشأة الأطفال من بنين وبنات، إذ من المعلوم أن الطفل حيثما صار على كف القابلة بادر أولا بالبكاء، ثم هجع برهة لفتوره مما لاقاه من التعب لاسيما إطلاق صوته في الصياح الذي لم يكن سبق له، ثم ينتبه محركا جيده يمينا وشمالا فاتحا فاه لطلب الغذاء، فترضعه أمه، فينام على أثر الشبع، فترى منه بسيمات خفيفة في أثناء نومه، وهذا دليل على أن دنيانا دار هم، ومحل أحزان وغم كثيرة الجفاء قليلة الصفاء، فإذا أخذ الطفل في النمو وبلغ خمسة أشهر كانت أول فطنته معرفة أمه ثم أبيه، وتناول الشيء حيث هو منها لإيصاله إلى فيه، فلكم التأمل في مبنى هذه الإشارة الخفيفة والعبارة اللطيفة، ثم كلما اشتدت أعصابه وقويت أعضاؤه علا صياحه فتبادره الوالدة بألحان معدة إليه فيصغي لسماع تلك الألحان. وإذا ضاق صدره من ألم عالجته بكل حنان، وحملته ودارت به من مكان إلى مكان فيفرج كربه ويتلطف ألمه، وهو يظن ذلك التلطف والتسكين بقدرتها وتبيت في قلق وضنك من الشفقة عليه فإذا عوفي أتى إليه الوالد بما يبهجه وتقر به عينه حسب قدرته، فإذا كبر وترعرع وطمحت نفسه للشراسة الطفلية اخترعت له أمه ما يليه عن ذلك وخوفته بمخترعات الأسماء منها ما يتخيل به إرهابا، وإذا صاح ذكرته به، وإذا تشيطن نادت به إليه فيسكت الطفل وتارة تذكر له أباه وتوجس به منه شرا فتوقع في قلبه من جهته الرعب فيستعظم قدرته ويكبره في عينه، ويجعل هيبته إنسان قلبه ومركز ذاته. فيا ليت شعري ماذا يكون من أمر هذه الفقيرة إلى العلوم وهي خاوية الوفاض عما تستحقه إن في ذلك لحكما: إن المصابيح إن أفعمتها دسما، ... أهدت لوامعها في كل مقتبس وإن خلا زيتها جفت فتائلها ... أين الضياء لخيط غير منغمس وكيف تحسن الشفقة الوالدية بإساءة المشفق عليه، فلو عنيت رجالنا معاشر الشرقيين بتربية بناتهم وأجمعت على تلقين العلوم لهن بمقدار شفقتهم لنالت أرفع مجد، وأهنأ جد، ولعوضت تلك الفتيات عن ذلك القلق براحة العرفان، وأوسعت بسواعد معلوميتهن مضيق السلوك إلى ساحة الإذعان، وقامت بواجبات التدبير وهمت بوقاية أساس حليتها من التدمير لأن تخرب الدور بعد انقطاع أهلها طبيعي والطبيعي ليس بضار إنما هدم سقف الشرف بصرصر الجهل مع وجود الديار هو العار بل النار ومن المستغربات أن يفرط الغارس في تمهيد الأصل، ويأسف على اعوجاج الفرع، هو المؤدي به، فلو أروت الرجال غرائسها من قرارة المعرفة والعرفان لا تكأت في ثقل الأحمال على قويم تلك الأفنان، وصعدت بمساعدتهن أعلى الدرج، وتمسكت بأقوى الحجج. ولكن تعالت هيئتنا هذه في التنمق عن التهذيب بحجة أوهى من بيت العنكبوت وهي أنهن إذا تعلمن الكتابة يعلقن بالهوى ومغازلة السوى بالجوى، وبادرن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 بالمراسلات ألم يطرق مسامعهم روايات الأميين، وأحاديث الجاهليين. فيا رجال أوطاننا وملاك زمام شأننا لم تركتموهن سدى، وذهلتم عن مزايا التأمل في (ما تفعل اليوم ستلقاه غدا) فمن أكم بخلتم عن أن تمدوهن بزينة الإنسانية الحقيقية، ورضيتم بتجردهن عن حليتها البهية، وهن بين أنامل سطوتكم أطوع من قلم، وخضوعهن لسلطتكم أشهر من نار على علم، فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى فانظروا عائد اللوم على من يعود. وإني أروم إظهار مقالي هذا ولكني لم أر ساعدا يكون لي مساعدا حتى منحنى المراد مفتاح درج ما كنه الفؤاد، وهي رسالة إحدى السيدات التي ترى تربية البنات من الوجبات، فيا لها من سيدة جلت بلوامع انتباهها في الليلة الليلاء سرجا، ورقت بقوة إدراكها في هذا السبق درجا، وانشقت أذهان السامعين من زهر فطنتها أرجا، وكحلت بإثمد نصحها عيون الناظرين فأحيت بصيره، وأدارت أسنة اللوم عنهن لأنها بقدرهن خبيرة فحق لي أن أهنئ المخدرات بفضل تلك المشارة التي شنفت مسامع الأيقاظ بهذه الإشارة هذا وإني أرى أنجم مصابيحها الغراء تنور بين أيدي الفضلاء، وتهدي أن يميل كل دان بالالتفات إلى ذلك الثناء المشهود، وتشغف كل مبصر منه يوصله إلى سبيل المقصود، والسلام على من اتبع الهدى) . ومن مراسلاتها إلى السيدة وردة - كريمة الشيخ ناصيف اليازجي - ردا على خطاب ورد للمترجمة منها وهو: (بسم الله أقول، وعزة مآثر البراعة، وعذوبة مذاق مزايا البلاغة، إني لأغبط كتابي لدى لقاء من أؤدي إليه جوابي فلو تطاوعني الإرادة لقرنت عين الإنسان بكل عين من حروفه، وصيرت نفس مرآة العيان قرطي مظروفه، أو قبل الشمل هديا لجعلت قربانه أبعد، أو رام أعظم رشوة وهبت إليه وجدا لم أجد له حد، وذلك عندما أقبل كتابكم من سماء المعاني بعبقري الخطاب، ونقشت رقة أرقام زبدة معانيه على صحاف الصدر، فنطق الجنان قبل اللسان بالترحاب، فلله در كتاب ما نطقت ولادة إلا بحروف هجايته، وما تغزل قيس إلا بألفاظ كادت تداني براعة بدايته، قد أسس بشير يراعه بخلاصة تأثير مآله حديقة الحق بالود وسقى عطير مداده غرائس صدق تفتر عن كل غرام ووجد، وقد عن لي أن أتتوج بتلك الحلية التي توسطت في فتح باب يانعة الوداد وأنالتني نشيق تفاحات وردت هي لانتعاش الروح عين المراد فأملي أن لا تبخلي علي بتلك العاطرة ما هب الصبا، كما انك لا تبرحين من بالي ما لاح كوكب، لا زال سنا عرفانك لائحاً بتيجان الربا وذكاء بهائك يبدي سلام من حملها حبكم وصبا) . ومن مراسلاتها للسيدة وردة المذكورة أيضا: (استهل براعة سلام حمل الشوق رسالته وتقلد الشفق ما نشقت ناشقة عرف الوداد كفالته، ولو رضيت المجال في صدق المقال لنطق بخالص الوفاء مداد حروفه، وأقام بأداء التحية العاطرة قبل فض ختام مظروفه ولعمري قد توجته أزاهر الثناء بلآلئ غراء، وكالمنه زواهر الوفاء من خالص الوداد إلى حضرة من لا تزال تستروح الأسماع بنسيم أنبائها صباحا ومساء، وتشوق الأرواح إلى استطلاع بدر إنسانها الكامل أطرافا وإناء، ومما زادني شوقا إلى شوق حتى لقد شب فيه طفل الشفق عن الطوق اجتلائي حديقة الورد القدسية ونافجة الدب المسكية، فيا لها من حديقة رمقتها أحداق الأذهان فاقتبست نورا ونوار، وانتشقتها مسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الآذان فثلمت طربا وسرورا. ومنذ سرحت في أرجاء تلك اليانعة إنسان العيون، وشرحت بأفكار البصيرة أسرار ذلك الدر المصون لم أزل بين طرب أتوشح بوشاحه، وأدب أتعجب من حسن اختتامه وافتتاحه وجعلت أغازل من نرجس تلك الروضة عيونا ملكت مني الحواس وأهصر من غصون ألفاتها كل ممشوق أهيف مياس، وأتأدب في حضرة وردها خوفا من شوكة سلطانه، وإن حياتي بجميل الالتفات ضاحكة عن نفيس جمانه، وإذا بالياسمين الغض قد ألقى نفسه على الثرى ونادى بلسان الإفصاح هل لهذه النضرة نظيرة يا ترى، فأشار المنثور بكفة الخضيب أن لا نظير لتلك الغادة، ونطق الزنبق بلسان البيان لا تكتموا الشهادة، فعند ذلك صفق الطير بأكف الأجنحة وبشر وجرى الماء لإذاعة نبأ السرور، فعثر بذيل النسيم وتكسر، وتمايلت أغصانها المورقة، لسماع هذا الحديث، وأخذت نسماتها العاطرة في السير الحثيث إذاعة لتلك البشائر في العشائر ونشرا لهذا الفضائل التي سارت مسير المثل السائر، فقلت بلسان الصادق الأمين بعد تحقق هذا النبأ اليقين هكذا هكذا تكون الحديقة وإلا وكذلك لتكتب الفضائل وتملي: وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني ... غراما فزدني من حديثك يا سعد فتحمل عني أيها الصديق تحية إلى ربة هاتيك الحديقة واشرح لديها حديث شغفي بفضلها الباهر على الحقيقة، واعتذر عن كتابي هذا فقد جاء يمشي على استحياء، وكلما حرضه الشوق على القدوم يبطئه الحياء وكيف وقد حل في منبع الفضائل والمقام الذي لم يدع مقالا لقائل، كأني إنما أهدى الثمر إلى هجر وأمنح البحر الخضم بالمطر أدام الله معالي تلك الحضرة وزادها في كل حال بهجة ونضرة ما لاح جبين هلال وبلغ غاية الكمال) . ومن شعرها البديع قولها: بيد العفاف أصون عز حجابي ... وبعصمتي أسمو على أترابي وبفكرة وقادة وقريحة ... نقادة قد كملت آدابي ولقد نظمت الشعر سيمة معشر ... قبلي ذوات الخدر والأحساب ما قتله إلا فكاهة ناطق ... يهوي بلاغة منطق وكتاب فبنية المهدي وليلى قدوتي ... وبفطنتي أعطيت فصل خطابي لله در كواعب نسبوا لها ... نسج العلا لعوانس وكعاب وخصصن بالدر الثمين وهامت ال ... خنساء في صخر وجوب صعاب فجعلت مرآتي جبين دفاتر ... وجعلت من نقش المداد خضابي كم زخرفت وجنات طرسي أنملي ... بعذار خط أواهب شبابي ولكم أضا شمع الذكا وتضوعت ... بعبير قولي روضة الأحباب منطقت ربات البها بمناطق ... يغبطنها في حضرتي وغيابي وحللت في نادي الشعور ذوائبا ... عرفت شعائرها ذوو الأنساب عوذت من فكري فنون بلاغتي ... بتميمة غرا وحرز حجاب ما ضرني أدبي وحسن تعلمي ... إلا بكوني زهرة الأباب ما سائني خدري وعقد عصابتي ... وطراز ثوبي واعتزاز رحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ي ما عاقني خجلي عن العليا ولا ... سدل الخمار بلمتي ونقابي عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت ... صعب السباق مطامح الركاب بل صولتي في راحتي وتفرسي ... في حسن ما أسعى لخير مآب ناهيك من سر مصون كنهه ... شاعت غرابته لدى ا؟ لأغراب كالمسك مختوم بدرج خزائن ... ويصوغ طيب طيبه بملاب أو كالبحار حوت جواهر لؤلؤ ... عن مسها شلت يد الطلاب در لشوق نوالها ومنالها ... كم كابد الغواص فعل عذاب والعنبر المشهور وافق صونها ... وشؤنه تتلى بكل كتاب فأنرت مصباح البارعة وهي لي ... منح الإله مواهب الوهاب وقولها وقد توسلت بالمقام النبوي صلى الله عليه وسلم: أعن وميض سري في حندس الظلم ... أم نسمة هاجت الأشواق من أضم فجدد إلى عهد بالغرام مضى ... وشاقني نحو أحبابي بذي سلم دعا فؤادي من بعد السلو إلى ... من كنت أعهد في قلبي من القدم وهاجني لحبيب عشق منظره ... يمحو ويثبت ما يهواه من عدمي يمحو سلوي كما يمحو إساءته ... حبي له فعذابي فيه كالنعم رام الوشاة سلوي عن محبته ... ولم أوف لهم عذلا ولم أرم كيف استنار الجوى يا من تملكني ... وشاهد العشق في العشاق كالعلم فيا له معرضا عني ومعترضا ... بين الفراغ وقلبي فهو متهمي حسبي من الحب ما أفضى إلى تلفي ... وما لقيت من الآلام والسقم إني رددت عناني عن غوايته ... وقلت يا نفس خلي باعث الندم ولذت بالمصطفى رب الشفاعة إذ ... يدعو المنادي فتحيا الناس من رمم طه الذي قد كسى إشراق بعثته ... وجه الوجود سناء الرشد والكرم طه الذي كللت أنوار سنته ... تيجان أمته فضلا على الأمم نعم الحبيب الذي من الرقيب به ... وهو القريب لراجي المجد والنعم روحي الفداء ومن لي أن أكون له ... هذا الفداء وموجودي كمنعدم وما هي الروح حتى أفتديته بها ... وهي البقاء بقاء الظلم والظلم والعمر أوفت ثقال الوزر لمحته ... وبددته صروف الدهر بالتهم أين الرشاد الذي أعددته لغد ... غويت عنه فزلت بالهوى قدمي من لي بأطلال بان عز منظرها ... تسقي بطل من الآماق منسجم تحط أثقال وزر لا تقوم بها ... شم الرواسي من راس ومنهدم كم بنبع زلل قد فاض من يده ... أروى الأوام وأسقى منه كل ظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والجذع أن له من بعده جزعا ... لما نأى عنه مولى العرب والعجم لانت له الصخرة الصماء طائعة ... مذ مسها سيد الكونين القدم فيا لها معجزات ما لها عدد ... أقلها ما بدا نار على علم ولا يحيط به مدحي ولو جعلت ... جوارحي ألسنا ينطقن بالحكم وإنما أرتجي من مدحه قبسا ... يهذي الصراط ويشفي الروح من ألم وكيف لي باتعاظ النفس آمرتي ... بالسوء ناهيتي عن مورد النعم فما التماسي عن خير يقربني ... إلى النعيم ولا نسقي بمنتظم لكن لي أسوة أشفي بها وصبي ... حسن ارتباطي بحبل غير منفصم ومنة الله دين وصفه قيم ... لحجني أن أخف يوم للقا يقم وما سوى فوز كوني بعض أمته ... ذخرا أفوز به من زلة الوصم إلا التماسي عفواف بالشفاعة لي ... من خاتم الرسل خير الخلق كلهم مددت كف الرجا أرجو مراحمه ... وقد حللت به في شهره الحرم محمد المصطفى مشكاة رحمتنا ... مصباح حجتنا في بعثة الأمم يا من به أفتدي يوم الزحام إذا ... أبديت ناصية مفجومة الوسم أقول حين أوافي الحشر في خجل ... إن الكبائر أنست ذكرة اللمم يا خير من أرتجي إن لك تكن مددي ... وأزلتي يوم وضع القسط والدمي فأشفع بحب الذي أنت الحبيب له ... لولاك ما أبرز الدنيا من العدم عليك أزكى صلاة الله ما افتتحت ... أدوار دهر وما ولت بمختتم. وقولها غزلا: منثور حسنك في الحشا سطرته ... ورقيم خطك طالما كررته سطر العذار تلوته فوجدته ... يومي لسفك دمي وقد سلمته وقولها في الخمريات: لاح الصبوح وبهجة الأوقات ... فاشرب وعاطي الصب بالكاسات واجلب براحك للقلوب تروحا ... فالراح تبدع نشأة اللذات وانهض فديتك فالزمان مراقبي ... فالحظ لي في كل يوم آتي ودع الوشاة وما تقول عواذلي ... فالعين عيني والصفات صفاتي ودعني ومالي في الفؤاد بحبها ... لما صبا بشقائق الوجنات لا غرو أن كان الرشيق يديرها ... في معهد الغزلان والبانات فانا الأسير بظل روض كرومها ... ولو أن في عتقي هني حياتي وأنا الشهيد بحب ذوق عصيرها ... إن كان في حب الكؤوس مماتي جهل العواذل ما تريد بشربها ... نفسي وما تلقى من السكرات تسليني عن جفوة أم صبوة ... لفؤادي المضنى من الحسرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 شتان بين ظنونهم وسرائري ... والله يعلم منتهى غاياتي كما باتت الأحداق يسقى طلها ... روض الجوى وحدائق اللوعات يا عاذلي كف الملام فإنني ... صلب بدت بين الورى آياتي قل ما تشاء فإن قولك مطربي ... وحديث من أهوى دوا علاتي إن شئت لمني أو فهدد وانته ... فأليم لومك في الهوى لذاتي لعبت بي الأشجان حتى إنني ... لم أدر من أهوى ومن هو ذاتي ورسا بي الشوق الخؤن لمعهد ... أهو العلى أم غرفة الجنات وقلوها تهنئة بمولود: تجلى النور في أفق المعالي ... وحل البدر في أوج الكمال وأزهرت الكواكب مسفرات ... عن البشرى كإشراق الليالي وأبدى الدهر مولودا زكيا ... تلوح عليه آيات الجلال عطاره بلائحة التهاني ... أتى الأعتاب والإقبال عالي فألبسنا من الأفراح تاجا ... وكلله بأنواع اللآلي فطب صدرا وقر به عيونا ... ودم فرحا بهاتيك الخلال فمشكاة السعود لديك تنمو ... وعباس علي النضر غالي مخايله الشريفة معلنات ... بأن سيكون في أبهى الخصال ويقفوا الشبل في وصف أباه ... كما يقفوا الرشا أثر الغزال وقال مشطرة لهذين البيتين: وليلى ما كفاها الهجر حتى ... أطالت في دجى ليلي أنيني وكل تجلدي بالصبر لما ... أباحت في الهوى عرضي وديني فقلت لها ارحمي الأمي قالت ... كذا خط اليراع على الجبين فدع قلق الصغار وكن صبورا ... وهل في الحب يا أمي ارحمي وقالت في تشطيرهما أيضا: وليلى ما كفاها الهجر حتى ... أذاعت بعد كتمان شجوني وحين تبينت آيات وجدي ... أباحت في الهوى عرضي وديني فقلت لها ارحمي الأمي قالت ... جننت وفي الهوى بعض الجنون وهبني كنت أمك كيف أحنو ... وهل في الحب يا أمي ارحميني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وقالت مخمسة للبيتين المذكورين: إليك معنقي يكفيك إفتا ... جهلت صبابتي أم هل عرفتا فلا أقوى عليك وأنت أنتا ... وليلى ما كفاها الهجر حتى أباحت في الهوى عرضي ودين بروض جمالها أمت وقالت ... وإن عثر المتيم ما أقالت وكم صدت في هجري أطالت ... فقلت لها ارحمي الأمي قالت وهل في الحب يا أمي ارحميني وقالت تهنئ الخديوي السابق: كللت تاج البدر قربا بالشرف ... مذ حل في مصر ركابك وانعطف طربت بمقدمك السني وعطفه ... مصر السعيدة والسرور بها هتف لما عزمت عزمت يصحبك الثنا ... والعود جدد بالهنا ما قد سلف وتزينت بكر الحبور وأصبحت ... مجلوة بين الرفاهة والترف وتجملت مصر بما جاء الهنا ... ورخيم مطربها على عود عكف وبك الأماني قد تبسم ثغرها ... والصفو مال بقده حسن الهيف وتراقصت مهج النفوس لبشرها ... كبلابل غردن في روض أنف أضحى يقول بسعد بابك نيلها ... أقل سرت الدنيا ومن فيها شغف رقمت جمال بها قدومك عصمة ... بمداد تحرير سناه شفي وشف وبمعجم في معرب قد أرخت ... كللمت تاج البدر قربا بالشرف وقالت ترثي ابنتها: إن سال من غرب العيون بحور ... فالدر باغ والزمان غدور فلكل عين حق مدرار الدما ... ولكل قلب لوعة وبثور ستر السنا وتحجبت شمس الضحى ... وتنقبت بعد الشريف بدور ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى ... وغدت بقلبي جذوة وسعير يا ليته لما نوى عهد النوى ... وافى العيون من الظلام نذير ناهيك ما فعلت بماء حشاشتي ... نار لها بين بين الضلوع زفير لوثب حزني في الورى لم يلتفت ... لمصاب قيس والمصاب كثير طافت بشهر الصوم كاسات الردى ... سحرا وأكواب الدموع تدور فتناولت منها ابنتي فتغيرت ... جنات خد شانها التغيير فذوت أزاهير الحياة بروضها ... والقد منها مائس ونضير لبست ثياب السقم في حفر وقد ... ذاقت شراب الموت وهو مرير جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا ... إن الطبيب بطبعه مغرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وصف التجرع وهو يزعم أنه ... بالبرء من كل السقام بشير فتنفست للحزن قائلة له ... عجل ببرئي حيث أنت خبير وارحم شبابي إن والدتي عدت ... ثكلى يشير لها الجوى وتشير وارأف بها قد حرمت طيب الكرى ... تشكو السهاد وفي الجوف فتور لما رأت يأس الطبيب وعجزه ... قالت ودمع المقلتين غزير أماه قد كل الطبيب وفاتني ... مما أؤمل في الحياة نصير لو جاء عراف اليمامة يبتغي ... برئي لرد الطرف وهو حسير يا روع روحي حلها نزع الضنى ... عما قليل ورقها ستطير أماه قد عز القاء وفي غد ... سترين نعشي كالعروس يسير وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي ... هو منزلي وله الجموع تصير قولي لرب اللحد رفقا بابنتي ... جاءت عروسا ساقها التقدير وتجلدي بإزاء لحدي برهة ... فتراك روح راعها المقدور أماه قد سلفت لنا أمنية ... يا حسنها لو سافها التيسير كانت كأحلام مضت وتخلفت ... مذ بان يوم البين وهو عسير عودي إلى ربع خلا ومآثر ... قد خلفت عني لها تأثير صوني جهاز العرس تذكارا فلي ... قد كان منه إلى الزفاف سرور جرت مصائب فرقتي لك بعد إذ ... لبس السواد ونفذ المسطور والقبر صار بغصن قدي روضة ... ريحانها عند المزار زهور أماه لا تنسي بحق بنوتي ... قبري لئلا يحزن المقبور ورجاء عفو أو تلاوة منزل ... فسواك من لي بالحنين يزور فلعلما أحظى برحمة خالق ... هو راحم بر بنا وغفور فجبتها والدمع يحبس منطقي ... والدهر من بعد الجوار يجور بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي ... قد زال صفو شأنه التكدير لا توصي ثكلى قد أذاب فؤادها ... حزن عليك وحشرة وزفير قسما بغض نواظر وتلهفي ... مذ غاب إنسان وفارق نور وقبلتي ثغرا تقضي نحبه ... فحرمت طيب شذاه وهو هطير والله لا أسلو التلاوة والدعا ... ما غردت فوق الغصون طيور كلا ولا أنسى زغير توجعني ... والقد منك لدى الثرى مدثور إني ألفت الحزن حتى إنني ... لو غاب عني ساءني التأخير قد كنت لا أرضى التباعد برهة ... كيف التصبر والبعاد دهور أبكيك حتى نلتقي في جنة ... برياض خلد زينتها الحور إن قيل عائشة أقول لقد فني ... عيشي وصبري والإله خبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ولهي على توحيدة الحسن التي قد غاب بدر جمالها المستور قلبي وجفني واللسان وخالقي ... راض وباك شاكر وغفور متعت بالرضوان في خلد الرضا ... ما زينت لك غرفة وقصور وسمعت قول الحق للقوم ادخلوا ... دار السلام فسعيكم مشكور هذا النعيم به الأحبة نلتقي ... لا عيش إلا عيشه المبرور ولك الهناء فصدق تاريخي بدا ... توحيدة زفت ومعها الحور وقولها غزلا: ملك الفؤاد وقد هجر ... بدر المحاسن مذ ظهر عذب الرضاب مهفهف ... يسبي المتيم بالحور ما حيلتي في حبه ... ألا الخضوع لما أمر من منجدي وجفونه ... منها المحب على خطر وا حيرتي في حبه ... وا طول شجوي بالخفر أشكو الغرام ويشتكي ... جفن تعذب بالسهر يا قلب حسبك ما جرى ... أحرقت جسمي بالشرر رام الحبيب لك الضنى ... لم ذا وأنت له مقر لكن تعذيب الهوى ... ما للشجي منه مفر قابلته متثنيا ... ناهيك من غصن خطر واتيته متبسما ... كالبدر لما أن سفر يا بدر حكمك الهوى ... فاحكم ونفذ ما أمر ألق الوشاح وخلني ... أصلى سعيرا في سقر وعن العذار فلا تسل ... ولنت أولى من عذر ودع الظلام على الضيا ... واستر بطرتك اغرر سامت بها الثغر الذي ... يفتر عن غالي الدرر واصدع بحسنك وافتخر ... تيها بجيدك والطرر فالشمس تخجل عندما ... تبدو ويستحي القمر وقولها غزلا أيضا: ملك الفؤاد وقد رشى ... بدر تكنى بالرشا عذب الرضاب مهفهف ... يسبي الشجي إذا مشى ما حيلتي في حبه ... إلا سعير في الحشا وقالت مخمسة: وعذري الهوى العذري وهو يمين ... به مقسم التبريح ليس يمين لأفتكمن ضرب الصفاح تبين ... عيون عن السحر المبين تبين يسالمها المشتاق وهي تخون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 عجبت لها تنسى وقلبي حافظ ... وإنسانها ينسى النهى وهو واعظ وأعجب من ذا الفتك وهي لواحظ ... مراض صحاح ناعسات يواقظ لها عند تحريك الجفون سكون فآهالها مرضي على شدة القوى ... وهاروت عن أجفانها السحر قد روى ولا ذنب للولهان في لوعة الجوى ... إذا إبصرت قلبا خليا من الهوى وأومت بلطف حل فيه فتون يقاد لها طوعا أسريرا وطالما ... أضاعت بوادي التيه صبا ومغرما وكم فوقت سهما وكم سفكت دما ... وما جردت من مرهفات وإنما تقول له كن مغرما فيكون وقولها في صدر جواب: سلام قد حوى منظوم در ... سلوا عنه الرسالة حين عنت ولو رامت تعبر عن ضمير ... وما لاقى بكم قلبي لغنت وقالت استغاثة: أين الطريق لأبواب الفتوحات ... أين السبيل إلى نيل العنايات أين الدليل الذي أرجو الرشاد به ... إلى سبيل المعالي والهدايات أين السلوك الذي أسرار لمحته ... مصباح نور لمشكاة المناجاة أين الخلوص الذي آثاره سبقت ... يوم الرحيل إلى دار السعادات كيف الخلاص وأحداث الشقا وطني ... وقد رمتني بها أيدي الشقاوات كيف المسير إلى أرض المنى وأنا ... بطاعة النفس في قيد الضلالات كيف العدول بقصد السبل عن عوج ... أمضي بسعي إلى دار الندامات كيف الرحيل بلا زاد وراحلة ... تحث سير لأرض الاستقامات ولي حقائب بالأوزار مثقلة ... وعيس كدحي كلت عن مراداتي فيا أولي الحزم حلوا عقد مشكلتي ... وكيف أبلغ أقطار السلامات عتبت نفس على ما ضاع من عمري ... في ملهيات وغفلات وزلات فخالفت مقصدي جهلا وما اتعظت ... ولمحة العمر ولت في الخسارات فلو بكت مقلتي للحشر ما غسلت ... ذنوب يوم تقضي في الجهالات ولو تبدد قلبي حسرة وأسى ... على الذي مر من تفريط أوقاتي لم يجد لي غير دق الكف من ندم ... على عظيم إساءاتي وغفلاتي إن طال خوفي فقد أحيا الرجا أملي ... في غافر الذنب خلاق السموات فاز المخفون واستن التقاة إلى ... دار السلام وفردوس الكرامات وكان شغلي خضوعي زلتي أسفي ... ووضع خدي على أرض المذلات وطوع أمارتي بالسوء قيدني ... عن الوصول لغايات الكمالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فلم يسعني بأثقال الذنوب سوى ... ساحات غفران علام الخفيات وقولها: مرارة الصبر خصت بالحلاوات ... وجدت في مرها حلوى السلامات صيانتي في كهوف الصبر أنفع لي ... من حصن كسرى ومن أعماق أغمات كم بات دهري يريني نهج تربيتي ... فينئني بقبولي وامتثالاتي وما احتجابي عن عيب أتيت به ... وإنما الصون من شأني وغاياتي وكلما شب دهري في معاندتي ... لم يلق مني له إلا الإطاعات وكلما آدني ظلما بمثقلة ... عدلت سيري كما يرضى بمرضاتي كم قابلتني ليال ريحها سعر ... بطيئة السير ترمي بالشرارات لاقيتها بجميل الصبر من جلدي ... وبت أسقي الثرى من غيث عبراتي كم أقعدتني أيام بصدمتها ... وقمت بالعزم مشهور العنايات وكم حليفة سعد إذ تعنفني ... تقول سعيك مذموم النهايات فأخفض الطرف من حزن أكابده ... وأهمل الدمع من تلك المقالات وكم شكرت بأرض الظلم ناصيتي ... فقمت من سجدتي أتلو تحياتي وما منحت بيوم قد أتى غلطا ... بالأنس إلا وقامت فيه غاراتي ومذ أتت عذلى تبغي مصادرتي ... ظلما منحتهم أسنى الكرامات وكلما عددوا ذنبا رميت لبه ... بسطت للعفو راحات اعترافاتي وكلما حرروا منشور مظلمتي ... وأثبتوا في الورى ظلما جناياتي أظهرت شكري لهم بالرغم عن أسفي ... وكان ما كان من فرط التهاباتي ولم أفه لذوي ود لمعرفتي ... أن الحبيب حبيب في المسرات أقوم والضيم تطويني نوائبه ... طي السجل ولم أسمعه أناتي أخفي الأسى إن حسود جاء يسألني ... لأين يسعى وأومى لابتهاجاتي إن ضل سعي فهادي الصبر يرشدني ... إلى طريق رشادي واستقاماتي ولم أزل أشتكي بنى ومظلمتي ... لعالم الجهر مني والخفيات علت ولاة الصفا أشهى نجائبها ... لتقضي الفوز من وادي المودات وبت باليأس في بطحاء متربتي ... وكان شغلي بضحى دق راحاتي أقول للصبر لا عتب على زمن ... أعطى لأبنائه أسمى العطيات فقال مهلا ولا تغررك شوكتهم ... فالصحو يعقبه سود الغمامات فليس كل ملوم دام مكتئبا ... وما السعيد سعيد للملاقاة فدهرهم غرهم جهلا وما علموا ... أن الزمان قريب الالتفاتات فما توارت بغاة الغم من أسفي ... حتى أناخوا بأجبال النكايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 تذكر الدهر عادات له سلفت ... وقد نسوها بحانات الخلاعات ورد دهري سهام الحقد صائبة ... إليهم فغدوا في شر حالات فما استطابوا أمانيهم ولا قنصوا ... حتى استوينا بكهف الاعتكافات قال الدهاة سهام الدهر قد وقعت ... من ذلك الجمع في كشح وليات فقلت أنعم به من حاذق فطن ... وإنه لحقيق بالعدالات ظنوا الزمان أباح السعد طالعهم ... وأنه اختص نجمي بالنحوسات والصبر أشهدني ما كنت أغبطهم ... عليه عاد اعتبارا في البرات فلا يهولنك حرمان بليت به ... ولا يغرك إقبال غدا آتي كلاهما والذي أنشأك من علق ... يفنى ويعدم في بعض اللميحات أين الملوك الألي كانت أوامرهم ... محدودة كسيوف مشرفيات تمحى وتثبت ما رامت وما رفضت ... بين الأنام بأقوال سميات قد أحكم الدهر مر ما هم فما لبثوا ... حتى انطووا في الثرى طي السجلات فكم مضى عزمهم في عز سطوتم ... فولا وفعلا بتسديد الرياسات وكم سرى في الورى منشور سلطتهم ... شرقا وغربا بأنواع السياسات يؤب بالعجز أقواهم إذا ألم ... به ألم ويبدي شر حسرات يلوذ ضعفا بأذيال الطبيب وما ... يغني الطبيب لدى فتك المنيات وكم لفقد عزيز منهم سكبت ... مدامع بالنعما مصونات وطالما أحرقت حسراتهم كبدا ... تضعضعت منه أركان الشهامات فلا تقل لي متاع وهو عارية ... واليأس عندي راحات استراحاتي وقد بسطت أكف الذل ضارعة ... لخالق الخلق جبار السموات وبت أدعو عليم السر قائلة ... يا غافر الذنب جد لي باستجاباتي يا كاشف الضر عن أيوب مرحمة ... حين استغاثك من مس المضرات وصاحب الحوت قد أنجيته كرما ... لما دعا بابتهال في الضراعات أنقذته يا إله العرش من ظلم ... لظلمه النفس لاقته باعنات وابيضت العين من يعقوب وانسكبت ... حزنا على يوسف في فيض عبرات ومذ شكا البث للرحمن عاد له ... نور العيون قرينا بالمسرات ويوسف السيد الصديق حين دعا ... في ظلمة السجن من أسنى العنايات ومذ علمت بإخلاص الخليل غدا ... والنار من حوله في روض جناتي عادت سلاما وبردا بعدما اشتعلت ... ولم يفه من يقين بالشكايات وقد رفعت يمين الذل داعية ... إليك يا رب أرجو غفر زلاتي ربي إلهي معبودي وملتجئي ... إليك أرفع بثي وابتهالاتي قد ضرني طعن حسادي وأنت ترى ... ظلمي وعلمك يغني عن سؤالاتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فامنن علي بألطاف لتخرجني ... من الضلال إلى سبل الهدايات أنت الخبير بحالي والبصير به ... فافتح لهذا الدعابات الإجابات فكيف أشكو لمخلوق وقد لجأت ... لك الخلائق في يسر وشدات فيا لها من جراح كلما اتسعت ... أعيت طبيبي رغما عن مداواتي أنت الشهيد على قول أفوه به ... ما دمت عائشة فالحمد غاياتي عائدة المدينة أم ولد حبيبي بن الوليد المرواني. كانت جارية حالكة اللون تروي عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وغيره من علماء المدينة المنورة وهبها محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان الحبيب بن الوليد المرواني فقدم بها إلى الأندلس وقد أعجب بعلمها وفهمها وفرط ذكائها واتخذها لفراشه، وبقيت عنده معززة مكرمة إلى أن توفاها الله تعالى. عاتكة بنت عبد المطلب الهاشمية كانت من أوفر النساء القرشيات عقلا، وأحلاهن منطقا، وأحسنهن تصورا وتبصرا، ومما يروى عنها أنها قد رأت قبل قدوم ضمضم بثلاثة أيها رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وتخوفت أن يدخل على قومك شر أو مصيبة فاكتم علي ما أحدثك. قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته أن: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، وأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس: إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش. قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل، هشام ورهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال لي: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم، فقال لي أبو جهل: يا بني عبد مناف متى حدثت فيكم هذه البينة؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأتها عاتكة. قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنها قالت: انفروا في ثلاث فنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكبت كتابا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان إليه مني كبيرا إلا أن حجدت ذلك وأنكرت أن تكون رات شيئا قال: ثم تفرقنا، فلما أمسينا لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع برجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة بشيء مما سمعت. قلت: قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير، وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكموه. قال: فغدوت في اليوم الثالث من الرؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه قال: فدخلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المسجد فرأيته والله إني لأمشي نحوه العرضنة ليعود لبعض ما كان فأوقع به. وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال: قلت في نفسي: ما له لعنه الله أكل هذا فرقا أن أشاتمه، فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه ل أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر. قال: فتجهز الناس سرعا وقالوا: لا يظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأرغب قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان ذلك في وقعة بدر وخبرها مشهور ومن شعرها قولها ترثي أباها مع إخوتها في حال حياته حين طلب منها ذلك. أعيني جودا ولا تبخلا ... بدمعكما بعد نوم النيام أعيني واستعبروا واسكبا ... وشوبا بكاء كما بالمدام أعيني واستخركا واسجما ... على رجل غير نكس كهام على الجحفل في النائبات ... كريم المساعي وفي الذمام على شيبة الحمد وأرى الزناد ... وذي مصدق بعد ثبت المقام وسيف لدى الحرب صمصامة ... ومردي المخاصم عند الخصام وسهل الخليقة طلق اليدين ... وف عد ملي صميم اللهام تبنك في باذخ بيته ... رفيع الذؤابة صعب المرام وقولها في الحماسة: سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه قيسا وما جمعوا لنا ... في مجمع باق شناعه فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه بعكاظ يعشى الناظ ... رين إذا هم لمحوا شعاعه فيه قتلنا مالكا ... قصرا وأسلمه رعاعه ومجد لأعادرنه ... بالقاع تنهسه رباعه ولها أشعار كثيرة غير هذه لم نقف عليها لعدم ورودها في كتب التاريخ. عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت من الفصاحة على جانب عظيم، وقد أعطيت شطر الحسن فعشقها عبد الله بن أبي بكر الصديق وكلف بها حتى كاد أن يطير عقله، فلما تزوج بها أقام سنة لم يشتغل بسواها، فلما كان يوم الجمعة وهو معها إذ فاتته الصلاة وهو لا يدري وجاء أبوه فوجده عندها فقال له: أجمعت؟ فقال: وهل صلى الناس؟ فقال: قد ألهتك عن الصلاة طلقها فطلقها، واعتزلت ناحية فلما كان الليل قلق قلقا شديدا فأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أعاتك لا أنساك ما ذر شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق لها منطق جزل ورأى ومنصب ... وخلق سوي في حياء ومصدق فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء يطلق وكان أبو بكر على سطح يصلي فسمعه فرق له فقال له: راجعها، ثم ضمها إليه وأعطاها حديقة على أن لا تتزوج بعده وأنشد: أعاتك قد طلقت من غير ريبة ... وروجعت للأمر الذي هو كائن كذلك أمر الله غاد ورائح ... على الناس فيه ألفة وتباين ومازال قلبي للتفرق طائرا ... وقلبي لما قد قدر الله ساكن ليهنك أني لا أرى فيك سخطة ... وأنك قد تمت عليك المحاسن فإنك ممن زين الله وجهه ... وليس لوجه زائنه الله شائن فلما قتل بالطائف رثته فقالت: رزئت بخير الناس بعد نبيهم ... وبعد أبي بكر وما كان قصرا ف لله عينا من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه أوسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا فآليت لا تنفك عيني سخينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا مدى الدهر ما غنت حمامة أيكة ... وما طرد الليل الصباح المنورا وتزوجها عمر بعد أن استفتى عليا في ذلك فأفتى بنها ترد الحديقة إلى أهله وتتزوج ففعلت فذكرها علي بقولها: فآليت لا تنك البيت، ثم قال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف: 3) ثم تزوجها بعده الزبير وبعده الحسين بن علي - عليه السلام - حتى قال عمر: من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة، وخطبها علي فقالت: إن لأضن بك عن القتل، وخطبها مروان بعد الحسين فقالت: ما كنت متخذة حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عاتكة ترثي عمر بن الخطاب: عين جودي بعبرة ونحيب ... لا تملي على الإمام النحيب فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتلبيب عصمة الناس والمعني على الده ... ر غياث المنتاب والحروب قل لأهل الضراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب ولها فيه أيضا: وفجعتني فيروز لا در دره ... بأبيض تال للكتاب نجيب رؤئف على الداني غليظ على العدا ... أخي ثقة في النائبات منيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... يريع إلى الخيرات غير قطوب وقالت ترثيه أيضا: من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد وقالت ترثي الزبير، وتخاطب عمرو بن جرموز الذي قتله غدرا عند رجوعه من حرب الجمل: غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد شلت يمينك إن قتلت مسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد عن الزبير لذو بلاء صادق ... سمح سجيته كريم المشهد كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع القردد فاذهب فما ظفرت يداك بمثله ... فيمن مضى ممن يروح ويغتدي وقالت ترثي الحسين عليه السلام: وحسينا ولا نسيت حسينا ... أقصدته أسنة العداء غادروه بكربلاء صريعا ... جادت المزن في ذرى كربلاء عاتكة ابنة معاوية بن أبي سفيان الأموي كانت في الحسن أعجوبة زمانها، وفي الأدب نادرة أقرانها، تعلمت الغناء وضروبه ولها في بعض ألحان وكان يختلف إليها بعض مغنيات مكة والمدينة فتحسن صلتهن وتجيزهن وتطلب منهن أن لا يقطعن عنها. وفي بعض السنين لم يأتها أحد من مكة والمدينة فاستأذنت من أبيها أن يسمح لها بالحج، فسمح لها، فتجهزت بجهاز عظيم لم ير مثله، وسارت على البر تحملها وركبها المطايا، فلما وصلت لمكة نزلت بذي طوى، فمر بها وهب الجمحي - المعروف بأبي دهبل - وكان شاعرا جليلا، غيسانيا جميلا. فجعل النظر وجمرات الوجد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر، وكان الوقت هجيرا والجواري رافعات عنها الأستار، ففطنت له، فذعرته وشتمته كثيرا، ثم أمرت بالسجوف فحجب بظلامها شمس النهار فقال: إني دعاني الحين فاقتادني ... حتى رأيت الظبي بالباب يا حسنة إذ سبني مدبرا ... مستترا عني بجلباب سبحان من أوقفها حسرة ... صبت على القلب بأوصاب يذود عنها أن تطلبها ... أب لها ليس بوهاب أحلها قصرا منيع الذرى ... يحمى بأبواب وحجاب فشاعت أبياته في مكة واشتهرت وغنى بها حتى سمعتها عاتكة إنشادا وغناء فطربت لها وسرت وبعثت إليه تهديه فتراسلا وتحابا، ولما صدرت عن مكة خرج في ركبها إلى الشام، فكانت تتعاهده باللطف والإحسان حتى إذا وردت دمشق ورد معها فانقطعت عن لقائه فمرض حتى عز شفاء دائه فقال: طال ليلي وبت كالمجنون ... ومللت الثواء في جيرون وأطلت المقام بالشام حتى ... ظن أهلي مرجحات الظنون فبكت خشية التفرق جمل ... كبكاء القرين إثر القرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص ... ميزت من جوهر مكنون وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون ثم خاصرتها إلى القبة الخض ... راء تمشي في مرمر مسنون قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجا عن يميني ولقد قلت إن تطاول سقمي ... وتقلبت ليلتي في فنون ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون ففشا هذا الشعر حتى بلغ معاوية فصبر حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس يسلمون وينصرفون، وكان فيهم وهب، فلما أزمع الرجوع ناداه معاوية حتى إذا خلا لهما الجو قال: ما كنت أحسب أن في قريش أشعر منك تقول: ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون غير أنك قلت: وإنا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها ولقد أسأت بقولك، ثم خاصرتها فقال: والله لم أقل هذا، وإنما قيل عن لساني فقال معاوية: أما مني فليهدأ روعك لني عليم بعفاف فتاتي، وإنه مغتفر لفتيان الشعراء التشبيب بمن أرادوا، ولكني أكره لك جوار أخيها يزيد فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك، فحذر وهب ورحل إلى مكة، فبينما معاوية في مجلسه يوما ذا بخصي يقول له: لقد سقط يا أمير المؤمنين إلى عاتكة اليوم كتاب أبكتها تلاوته بما أصارها حتى الساعة حزينة فقال: علي به، يألطف حيلة، فلما أوتيه قرأ فيه: أعاتك هلا إذ بخلت فلا ترى ... لذي صبوة زلفى لديك ولا يرقى رددت فؤادا قد تولى به الهوى ... وسكنت عينا لا تمل ولا ترفا ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يوما منك جودا ولا صدقا أتنسين أيامي بربعك مدنفا ... صريعا بأرض الشأم ذا سقم ملقى وليس صديق يرتضي لوصية ... وأدعو لدائي باشراب فما أسقى وأكبر همي أن أرى لك مرسلا ... فطول نهاري جالسا أرقب الطرقا فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى رأيتك تزدادين للصب غلظة ... ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا فبعث إلى يزيد فلما جاء وجده مطرقا كئيبا فاستجلاه الأمر فقال: هو نبأ يقلق فيمرض فيحير إن هذا الفاسق القرشي كتب إلى أختك بهذه الأبيات، فلم تزل باكية حتى الساعة. قال يزيد الخطب دون ما تتوهم بعد لنا يرصده ويقتله فقال معاوية: يا يزيد، والله إن تقتل قرشيا هذا حاله صدق الناس مقاله. قال: يا أمير المؤمنين، إنه نظم أبياتا غير هذه وتناشدها المكيون، فسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت. فقال: وما هي؟ فأنشد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل ... وما كان من يلحى محبا له عقل حمى الملك الجبار عني لقاءها ... فمن دونها تخشى المتألف والقتل فلا خير في حب يخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل فوا كبدي إني اشتهرت بحبها ... ولم يك فيما بيننا ساعة بذل ويا عجبا أني أكاتم حبها ... وقد شاع حتى قطعت دون السبل فقال معاوية: قد والله فهمت المعنى لأني أراه يشكو الحرمان فالخطب فيه يسير، ثم حج عامئذ للسبب عينه ولما انقضت المناسك دعا بإشراف قريش وشعرائهم وأجزل لهم الصلاة. فلما أزمع وهب الانصراف قال: إيه يا وهب ما لي أرى يزيد ساخطا عليك في قواريض تأتيه عنك وشعر تنطق به فبدأ أبو دهبل يطيل الاعتذار ويحلف أنه مكذوب عليه فقال معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك فأي بنات عمك أحب إليك، قال: فلانة، فقال: قد زوجتك بها وأمهرتها بألفي دينار ووهبتك ألف دينار. فلما استوفاها قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق فقد أبحت به دمي وأما ابنة عمي فهي طالق بتاتا فسر معاوية ووعده بإدرار الصلة كل عام وهو لم يقل فيها شعرا ووفى بوعده وبقيت عاتكة مغرمة به إلى أن ماتت. عاتكة بنت يزيد بن معاوية وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز، تزوجها عبد الملك بن مروان فهي أم يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يحبها بعبد الملك حبا مفرطا فغضبت عليه مرة وكان بينهما باب محجبة، فأغلقت ذلك الباب فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى رجل من خاصته يقال له: عمر بن بلال الأسدي فقال: ما لي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك فأتى عمر إلى بابها وجعل يتباكى وأرسل إليها السلام، فخرجت إليه حاضنتها ومواليها فقلن: ما لك؟ قال: نزعت إلى عاتكة ورجوتها وقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده قلن: وما لك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما قتل أحدهما صاحبه. فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به. فقلت: أنا الولي وقد عفوت قال: لا أعود الناس على هذه العادة، فرجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكرن ذلك لها فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له قلن: إذا والله يقتل فلم يزلن بها حتى دعت بثيابها فلبستها، ثم خرجت نحو الباب، فأقبل حديج الخصي قال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت. قال: ويلك، ما تقول قال: قد والله طلعت فأقبلت وسلمت، فلم يرد عليها السلام فقالت: أما والله لولا عمر ما جئت إن أحد بينه تعدى على الآخر فتله فأردت قتل الآخر وهو الولي وقد عفا قال: إن أكره أن أعود الناس على هذه العادة قالت: أنشدك الله يا أميرا لمؤمنين فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية وقد طرق بابي فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها فقال: هو لك ولم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمر بن بلال إلى بعد الملك فقال: كيف رأيت قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك. قال: مزرعة بعدتها وما فيها، وألف دينا، وفرائض لولدي وأهلي. قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير (وإني لأرعى قومها من جلالها) . ولعاتكة هذه حكاية مع الشعراء وذلك ما حكاه نصيب قال: إنه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء فقال: هل لكم في أن نركب جميعا فنسير حتى نأتي العقيق؟ قالوا: نعم، فركبوا أفضل ما عندهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الدواب ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفحون الأماكن حتى رفع لهم سواد عظيم، فأموه حتى أتوه فإذا وصائف وخدم ونساء بارزات فسألنهم أن ينزلوا فنزلوا ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت: ادخلوا فدخلوا على امرأة جميلة برزة على فرش لها فرحبت وحيت وإذا كراسي موضوعة فجلسوا جميعا في صف واحد كل إنسان على كرسي. فقالت: إن أحببتم أن تدعو بصبي لنا فنعرك أذنه ونصيحة فعلنا وإن شئتم بالغداء فقالوا: بل تدعين بالصبي ولن يفوتنا الغداء فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلا كلمح البصر حتى جاءت جارية جميلة عليها مطرف قد سترت نفسها به فكشفوه عنها وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها فرحبت بهم وحيتهم فقالت لها مولاتها: خذي ويحك من قول نصيب عافى الله نصيبا. ألا هل من البين المفرق من بد ... وهل مثل أيام بمنقطع السعد تمنيت أيامي أولئك والمنى ... على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي فغنته، فجاءت به كأحسن ما سمع بأحلى لفظ وأشجى صوت، ثم قالت لها: خذي أيضا من قول نصيب عافاه الله: أرق المحب وعاده سهده ... لطوارق الهم التي ترده وذكرت من رقت له كبدي ... وأبى فليس ترق لي كبده لا قومه قومي ولا بلدي ... فنكون حينا جيرة بلده ووجدت وجدا لم يكن أحد ... من اجله بصبابة يجده إلا ابن عجلان الذي تبلت ... هند ففات بنفسه كمده قال: فجاءت به أحسن من الأول فكدت أطير سرورا، ثم قالت: ويحك خذي أيضا قوله: فيا لك من ليل تمتعت طوله ... وهل طائف من نائم متمتع نعم إن ذا شجو متى يلق شجوه ... ولو نائما مستعتب أو مودع له حاجة قد طالما قد أسرها ... من الناس في صدر بها يتصدع تحملها طول الزمان لعلها ... يكون لها يوما من الدهر منزع وقد قرعت في أم عمرو لي العصا ... قديما كما كانت لذي الحلم تقرع قال نصيب: فجاءني والله شيء حيرني وأذهلني طربا لحسن الغناء وسرورا باختيارها لشعري وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها، ثم قالت: خذي من قوله أيضا: يا أيها الركب إني غير تابعكم ... حتى تلموا وأنتم بي ملمونا فما أرى مثلكم ركبا كشكلكم ... يدعوهم ذو هوى أن لا يعوجونا أم خبروني عن داء بعلمكم ... وأعمل الناس بالداء الأطبونا قال نصيب: فوالله لقد زهوت بما سمعت زهوا خيل لي أني من قريش، وأن الخلافة لي ثم قالت: حسبك يا بنية هات الطعام يا غلام فوثب الأحوص وكثير وقالا: والله لا نطعم لك طعاما ولا نجلس لك في مجلس فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا وقدمت شعر هذا على شعرنا، وأسمعت الغناء فيه وإن في أشعارنا لم يفضل شعره وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا فقالت علة معرفة كل ما كان مني فأي شعر كما أفضل من شعره أقولك يا أحوص؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يقر بعيني ما يقر بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرت أو قولك يا كثير في عزة: وما حسبت ضمرية جدورية ... سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا أو قولك فيها: إذا ضمرية عطست فنكها ... فإن عطاسها طرف السفاد فخرجا مغضبين، وبقي نصيب فتغدى عندها وأمرت له بثلثمائة دينار وحلتين وطيب، ثم دفعت له مائتي دينار وقالت: ادفعها إلى صاحبيك فإن قبلاها وإلا فهي لك، قال نصيب: فذهبت بالبدرة حتى أتيت رفيقي، فعرضت عليهما نصيبهما فأبيا أن يأخذاه، فأخذته لنفسي وبلغها الخبر فقالت: حسنا والله فعلت، وبقي كثير والأحوص يترقبان لها الفرص حتى يهجواها بشيء فلم يقدرا عليها خوفا من بأسها وسطوتها ومداراة لها، وأما هي فبقيت مكرمة عند عبد الملك، وفي خلافة ولدها أيضا حتى ماتت في آخر خلافة ولدها ودفنت بما يليق بها من الرفعة والإكرام. عاصية البولانية بنت عبد العزى الطائي كانت شاعرة مجيدة وشعرها قليل، قيل: إن بني محارب غزت طيئاً وفتكت فيهم لغياب سراتهم ورجعت غانمة فقالت عاصية تندب قومها وتهجو محاربا بقولها: أعاصي جودي بالدموع السواكب ... وبكى لك الويلات قتلى محارب فلو أن قومي قتلتهم عمارة ... كرام سراة من رؤوس الذوائب صبرنا لما يأتي به الدهر عامدا ... ولكنما آثارنا في محارب قبيل لئام إن ظهرنا عليهم ... وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب عبدة محبوبة بشار بن برد كانت ذات عقل وأدب، وفصاحة وكياسة، وصوت حسن، ومنطق عذب وكان سبب عشق بشار لها أنه كان له مجلس يجلس فيه يقال له: البردان، فبينما هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة أشجاه نغمها وحسن ألفاظها فدعا بغلامه فقال: إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وأعلمها أني لها محب وأنشدها هذه الأبيات. وعرفها أني قلتها فيها. قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم ... الأذن كالعين توفى القلب ما كانا ما كنت أول مشغوف بجارية ... يلقى بلقيانها روحا وريحانا يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطعمه في نفسها ومما قال فيها: قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها ... قلبي فأضحى به من حبها أثر أني ولم ترها تهذي فقلت لهم ... إن الفؤاد يرى ما لم ير البصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أصبحت كالحائم الحران مجتنبا ... لم يقض وردا ولا يرجى له صدر وقال فيها أيضا وهو أجود ما قال فيها: يزهدني في حب عبدة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب فما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذنان إلا من القلب وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا ... وألف بين العشق والعاشق الصب وجاءته يوما مع خمسة نسوة قد مات لإحداهن قريب يسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به فوافينه في مجلسه المسمى بالبردان وكان له مجلس يجلس فيه بالغداة يسميه البردان، وآخر يجلس فيه عشية يسميه الرقيق فاستأذن بالدخول عليه فأذن لهن، فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه. فقالت إحداهن: هو خمر وقالت الأخرى: هو زبيب وعسل. وقالت الثالثة: هو نقيع زبيب. فقال: لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي فأمسكن ساعة، ثم قالت إحداهن: ما عليكن من ذلك فأقمن يومهن وأكلن من طعامه وشربن من شرابه وأخذن من شعره، وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه فبلغ بشاراً كلامه، وكان بشار يلقب الحسن البصري بالقس فقال: لما طلعن من الرقي ... ق علي بالبردان خمسا وكأنهن أهلة ... تحت الثياب رفقن شمسا باكرن طيب لطيمة ... وغمسن في الجادي غمسا فسألنني من في البيو ... ت فقلت ما يحوين انسا ليت العيون الناظرا ... ت طمس عنا اليوم طمسا فأصبن من طرف الحدي ... ث لذاذة وخرجن ملسا لولا تعرضهن لي ... يا قس كنت كأنت قسا العبادية جارية المعتضد بن عباد والد المعتمد أهداها إليه مجاهد العامري وكانت أديبة كاتبة ذاكرة لكثير من اللغة فصيحة العبارة لطيفة الإشارة حاضرة الرواية قريبة النادرة لها إلمام تام بضروب الغناء، وكان يميل إليها المعتضد ميلا شديدا ويشغف بها شغفا زائدا حتى أنها ألهته عن بعض أموره، وكانت من توقد قريحتها وحضور بديهتها ترتجل الشعر والأمثال ومن ذلك أنها كانت نائمة ذات يوم وكان المعتضد سهران فدخل عليها وهي نائمة فقال: تنام ومدنفها يسهر ... وتصبر عنه ولا يصبر فأجابته بديهة بقولها: لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجدا ولا يشعر ولها غير ذلك من الأشعار والنوادر. عبيدة الطنبورية بنت صباح مولى أبي السمراء كانت عبيدة من المحسنات المتقدمات في الصنعة والآداب يشهد لها بذلك إسحاق وحسبها بشهادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وكان أبو حشيشة يعظمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذية وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم صوتا، وكانت لا تخلو من عشق ولم يعرف امرأة في الدنيا أعطر منها، وكانت صنعة عجيبة، فمنها في الرمل: كن لي شفيعا اليكا ... إن خف ذاك عليكا وأعفني من سؤالي ... سواك ما في يديكا يا من أعز وأهوى ... ما لي أهون عليكا وروي عن علي بن الهيثم اليزدي أنه قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يألفني ويدعوني ويعاشرني فجاء يوما إلى أبي الحسن فلم يصادفه فرجع ومر بي وأنا مشرف من جناح لي فوقف وسلم علي وأخبرني بقصته وقال: هل تنشط اليوم للمسير إلي فقلت له ما علي الأرض شيء أحب إلي من ذلك ولكني أخبرك بقصتي ولا أكتمك فقال: هاتها. فقلت: عندي اليوم محمد بن عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام وقد دعونا عبيدة الطنبورية وهي حاضرة والساعة يجيء الرجلان فامض في حفظ الله فإني جالس معهم حتى تنتظم أمورهم وأروح إليك فقال لي: فهلا عرضت علي المقام عندك فقلت له لو علمت أن ذلك مما تنشط له والله لرغبت إليك فيه فغن تفضلت بذلك كان أعظم لمنتك فقال: أفعل فإني قد كنت أشتهي أن أسمع عبيدة ولكن لي عليك شريطة قلت: هاتها قال: إنها إن عرفتني وسألتموني أن أغني بحضرتها لم يخف عليها أمري وانقطعت فلم تصنع شيئا فدعوها على جبلتها فقلت: أفعل ما أمرت به فنزل ورد دابته وعرفت صاحبي ما جرى فكتماها أمره وأكلنا ما حضر وقدم الشراب فغنت لحنا لها تقول: قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب له ودي ولي منه ... دواعي الهم والكرب أواصله على سبب ... ويهجرني بلا سبب ويظلمني على ثقة ... بأن إليه منقلبي فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم غنت وشرب، ولم يزل كذلك حتى والى بين عشرة أنصاف وشربنا معه، وقام ليصلي فقال هارون بن أحمد: ويحك يا عبيدة، ما تبالين والله متى مت قالت: ولم ذلك؟ قال: أتدرين من هو المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب قالت: لا والله. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي فلا تعرفينه أنك قد عرفته، فلما جاء إسحاق ابتدأت تغني فلحقتها هيبة واختلاط فنقصت نقصانا بينا فقال: أعرفتموها من أنا؟ فقلنا: نعم عرفها إياك هارون. فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف إنه لا خير في عشرتكم الليلة ولا فائدة لي ولا لكم، ثم انصرف وكان إذا اجتمع الطنبوريون عند أبي العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة وقيل له: عن تقول: لا والله لا تقدمت عبيدة وهي الأستاذة فما غنى بحضرتها حتى تقدمت هي وكانت تكتب على طنبورها: كل شيء سوى الخيا ... نة في الحب يحتمل وكانت بنت رجل يقال له: صباح مولى أبي السمراء الغساني نديم عبد الله بن ظاهر أبو السمراء أحد العدة الذين وصلهم ابن طاهر في يوم واحد لكل رجل منهم مائة ألف دينار، وكان الزبيدي الطنبوري يختلف إلى أبي السمراء، وكان صباح صاحب أبي السمراء، فكان الزبيدي إذا سار إلى أبي السمراء فلم يصادفه أقام عند صباح والد عبيدة وبات وغنى وأنس. وكان لعبيدة صوت حسن وطبع جيد فسمعت غناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الزبيدي فوقع في قلبها واشتهت الغناء وسمع الزبيدي صوتها وعرف طبعها فعلمها وواظب عليها ومات أبوها ورقت حالها، وقد حذقت الغناء على الطنبور فخرجت تغني وتقنع باليسير، وكانت مليحة مقبولة خفيفة الروح فلم يزل أمرها يزيد حتى تقدمت وكبر حظها فتزوجها علي بن الفرج الرجحي أخو عمرو، وكان حسن الوجه كثير المال، فولدت له بنتا فحجبها ثم ماتت بنتها من علي بن الفرج وصادف ذلك نكبتهم واختلاط حال علي فطلقها فخرجت. وماتت عبيدة من نزف أصابها حتى أتلفها وفي عبيدة يقول إسحاق النديم: أمست عبيدة في الإحسان واحدة ... فالله جار لها من كل محذور من أحسن الناس وجها حين تبصرها ... وأحذق الناس إن غنت بطنبور عتبة جارية الخيزران زوجة المهدي وأم الرشيد وكانت قبلها لريطة ابنة أبي العباس السفاح، وكانت رقيقة ظريفة أديبة بارعة في الجمال والكمال، وكان يعشقها أبو العتاهية، وله فيها أشعار رقيقة ونوادر ظريفة منها أن ريطة بنت السفاح وجهت إلى عبد الله بن مالك الخزاعي في شراء رقيق للعتق وأمرت جاريتها عتبة أن تحضر ذلك فإنها جالسة إذا جاء أبو العتاهية في زي متنسك فقال: جعلني الله فداك شيخ ضعيف كبير لا يقوى على الخدمة فإن رأيت أعزك الله شرائي وعتقي فعلت مأجورة فأقبلت على عبد الله فقالت له: إني لأرى هيئة جميلة وضعفا ظاهرا ولسانا فصيحا، ورجلا أديبا فاشتره وأعتقه، فقال أبو العتاهية: أتأذنين لي أصلحك الله في تقبيل يدك، فأذنت له فقبل يدها وانصرف، فضحك عبد الله بن مالك وقال: أتدرين من هذا قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية وإنما احتال عليك حتى يقبل يدك. ولما كثر تشبيب أبي العتاهية بها شكت إلى مولاتها الخيزران ما يلحقها من الشناعة، ودخل المهدي وهي تبكي بين يدي سيدتها الخيزران، فسألها عن خبرها فأخبرته فأمر بإحضار أبي العتاهية فأدخل إليه فلما وقف بين يديه قال: أنت القائل في عتبة: الله بيني وبين مولاتي ... أبدت لي الصد والملامات ومتى وصلتك حتى تشكو صدها عنك قال: يا أمير المؤمنين فأنا الذي أقول: يا ناق حثي بنا ولا تهني ... نفسك فيما ترين راحاتي حتى تجيئي بنا إلى ملك ... توجه الله بالمهابات يقول للريح كلما عصفت ... هل لك يا ريح في مباراتي عليه تاجان فوق مفرقه ... تاج جمال وتاج إخبات قال: فنكس رأسه، ونكت بالقضيب، ثم رفع رأسه فقال: أنت القائل: ألا ما لسيدتي مالها ... أدلت بأجمل إدلالها وجارية من جواري الملو ... ك قد أسكن الحسن سربالها ثم سأله عن أشياء فأفحم أبو العتاهية، فأمر المهدي بجلده نحوا من حد وأخرج مجلودا فلقيته عتبة وهو على تلك الحالة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بخ بخ عتبة من مثلكم ... قد قتل المهدي فيكم قتيل فتغرغرت عيناها وفاض دمعها وصادفت المدهي عند الخيزران فقال: ما لعتبة تبكي؟ قالوا له: رأت أبا العتاهية مجلودا وقال لها: كيت كيت، فأمر له بخمسين ألف درهم ففرقها أبو العتاهية على من بالباب فكتب صاحب الخبر بذلك فوجه إليه: ما حملك علي إن أكرمتك بكرامة فقسمتها؟ فقال: ما كنت لآكل ثمن من أحببت، فوجه إليه بخمسين ألفا أخرى وحلف عليه أن لا يفرقها فأخذها وانصرف. قال المبرد: أهدى أبو العتاهية إلى المهدي في يوم نوروز برنية صينية فيها ثوب ممسك وعليه سطران مكتوبان بالغالية: نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها إني لأيأس منها ثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها فهم أن يدفع إليه عتبة فقالت لك: يا أمير المؤمنين، أمع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار يكتسب بالشعر فبعث إليه أما عتبة فلا سبيل لك إليها وقد أمرنا لك بملء البرنية مالا فخرجت عتبة وهو يناظر الكتاب ويقول: إنما أمر لي بدنانير وهو يقولون بدراهم فقالت: أما لو كنت عائقا لعتبة لما اشتغلت بتمييز العين من الورق، وكان أبو العتاهية بائع جرار وكان أقدر الناس على وزن الكلام، وكان حلو الألفاظ، ومن مختار شعره في عتبة: بالله يا حلوة العينين زوريني ... قبل الممات وإلا فاستزيريني هذان أمران فاختاري أحبهما ... إليك أولا فداعي الموت يدعوني إن شئت موتا فأنت الدهر مالكة ... روحي وإن شئت أن أحيا فأحييني إني لأعجب من حب يقربني ... ممن يباعدني عنه ويقصيني يا أهل ودي إني قد لطفت بكم ... في الحب جهدي ولكن لا تبالوني الحمد لله قد كنا نظنكم ... من ارحم الناس طرا بالمساكين أما الكثير فلا أرجوه منك ولو ... أطمعني في قليل منك يكفيني ومن مختار شعره فيها قوله: ألا يا عتب يا قمر الرصافة ... ويا ذات الملاحة والنظافة رزقت مودتي ورزقت عطفي ... ولم أرزق فديتك منك رأفة وصرت من الهوى دنفا سقيما ... صريعا كالصريع من السلافة أظل إذا رأيتك مستكينا ... كأنك قد خلقت علي آفة ومات أبو العتاهية ولم ينل من عتبة أربا مع كونها كانت مغرمة به والذي يمنعها عن الاقتران به سفالة حسبه. العجفاء المغنية كانت ذات صوت غرد ولا تغريد البلابل جبت إليها الأسماع، ومالت إليه القلوب، وتحدثت بحسن صناعتها الركبان في كل مكان، وبلغت في زمن صباها ما لم ينله غيرها من القيان، وفي آخر مدتها رماها الزمان بكلكله وافتقرت وأقامت تعلم جواري الأمراء صنعة الغناء وأخيرا انقطعت في دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة وبقيت عنده إلى أن اشتراها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الأموي فبقيت عنده إلى أن ماتت. ومن النوادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ما قاله الأرقمي عن هذه الجارية قال: قال لي أبو السائب: هل لك في أحسن الناس غناء؟ قلت: وأنى لي ذلك قال اتبعني فتبعته إلى أن جئنا دار مسلم بن يحيى فأذن لنا فدخلنا ثم طلعت علينا جارية عجفاء كلفاء عليها ثوب أصفر وكأن وركيها في خيط من ضعفها فقلت لأبي السائب: بأبي أنت ما هذه؟ فقال: اسكت فتناولت عودا فغنت: بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم فاستبقني أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم قال: فتحسنت في عيني وبدا ما أذهب الكلف عنها وزحف أبو السائب وزحفت منه ثم تغنت: برح الخفاء فأيما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسر فيعلم مما تضمن من غدير قبله ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم يا ليت أنك يا حسام بأرضنا ... تلقى المراسي طائعا وتخيم فتذوق لذة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخوانا فماذا تنقم قال: فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمر قتين وربت العجفاء في عيني ما يربو السويق بماء مزنة، ثم غنت: يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حل كل الأحبة الحرما ما كنت أخشى فراقكم أبدا ... فاليوم أمسى فراقكم عزما فألقيت طيلساني وأخذت وسادة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح على اللوبيا في المدينة، وقام أبو السائب فتناول ربعة في البيت فيه القوارير ودهن فوضعها على رأسه وصاح صاحب الجارية، وكان - ألثغا- قوانيني (يعني قواريري) فاصطكت القوارير وتكسرت وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديما، ثم وضع الربعة على رأسه وعوضنا ثمن القوارير إلى صاحب الجارية وذهبنا وكنا نختلف إلى العجفاء حتى اشتراها عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فانقطع عنا خبرها. العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة ولكنها فاقته في ذلك وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحها وقد قرأ عليها أبو داود سليمان - الكتابين المذكورين - وأخذ عنها العروض. توفيت بدانية بعد سيدها في عدد الخمسين والأربعمائة وقد تركت لها ذكرا جميلا وفخرا طويلا تتحدث به الأجيال من بعدها - رحمها الله تعالى. عريب كانت مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والدب. ولم يتعلق بها أحد من نظرائها ولا رؤي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات مثل جميلة و عزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن نظير لها. وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في قصور الخلافة، وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عيش الحجاز والنشء بين العامة والعرب الجفاة، ومن غلظ طبعه وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره. وكانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد وهو الذي رباها وأدبها وعلمها الغناء ونقل صاحب الأغاني من حديث إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة. وقيل: إن أم عريب كانت تسمى فاطمة وكانت قيمة لام عبد الله بن يحيى بن خالد، وكانت صبية نظيفة فرآها جعفر بن يحيى فهويها، وسأل أم عبد الله أن تزوجه بها ففعلت وبلغ الخبر يحيى بن خالد، فأنكره وقال له: أتتزوج من لا يعرف لها أم ولا أب اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها إلى دار في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه ووكل بها من يحفظها وكان يتردد إليها فولدت عربيها في سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة. وقيل: إن أم عريب ماتت في حياة جعفر فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس فباعها من المراكبي، وقيل: إن الفضل بن مروان كان يقول: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها لبعض الكتاب فقال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى. وروى أبو الفرج الأصبهاني عن محمد بن خلف أنه قال: قال لي أبي: ما رأيت امرأة أضرب من عريب ولا أحسن صنعة، ولا أحسن وجها، ولا أخف روحا، ولا أحسن خطابا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي فقال: صدق أبو محمد كذلك قلت: أفسمعتها. قال: نعم، هناك - يعني في دار - المأمون - قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق؟ فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك فهو أعلم مني بها فأخبرت بذلك أبي فضحك، ثم قال: أما استحيت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا. وأخبر علي بن يحيى أنه كان لإسحاق صناجة وكان معجبا بها واشتهاها المعتصم في خلافة المأمون فبينما هو ذات يوم في منزله إذ أتاه إنسان يدق الباب دقاً شديداً قال: فقلت: انظروا انظروا من هذا فقالوا: رسول أمير المؤمنين فقلت: ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إني فيها. فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مسخن فدخلت فسلمت فرد علي السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال لي: اسكن، فسكنت فقال لي عن صوت. قوال: أتدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك، فأمر جارية من وراء الستارة فغته وضربت، فإذا قد شبهته بالقديم فقلت: زدين معها عودا آخر فإنه أثبت لي. فزادني عودا آخر فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة قال: من أين؟ قلت: ذلك. قلت: لما سمعت لينه عرفته أنه محدث من غناء النساء ولما رأيت جودة مقاطعة علمت أن صاحبته قد حفظت مقاطعة وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشك فقال: صدقت الغناء لعريب وقال يحيى بن علي: أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فتكتبه فكان ألف صوت، وسأل ابن خرداذيه عريب عن صنعتها فقالت: قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت ونقل الأصبهاني عن محمد بن القاسم أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون وما أخذه عن بدعة جاريتها فقابل بعضه ببعض فكان ألفا ومائة وخمسا وعشرين صوتا. ودخل بن هشام على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له: يا ابن هشام، عن فقال: يا ابن هشام، عن فقال: تبت عن الغناء، مذ قتل سيدي المتوكل فقالت له عريب: والله أحسن حيث تبت فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ولا طريب فأضحكت أهل المجلس جميعا منه فخجل فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب صنعتها ويقول: هي ألف صوت في العدد وصوت واحد في المعنى وهي مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول: يا عين بكى خالدا ... ألفا ويدعى واحدا قال الأصبهاني: وليس الأمر كما قال: إنها لصنعة شبهت فيها صنعة الأوائل وجودت وبرزت. منها: أأن سكنت نفسي وقل عويلها. ومنها: يقول همي يوم ودعتها. ومنها: إذا أردت انتصافا كان ناصركم وعدد لها جملة أصوات في الأغاني لا لزوم لذكرها هنا وقيل: إن مولى عريب خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء فبرعت في ذلك كله وتزايدت حتى قالت الشعر، وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان. وقيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه، ثم ركبه دين فاستتر عنده فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته وكانت المواصلة بينهما وعشقته عريب، فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب وقيل: من خيوط غلاظ وسترته حتى إذ همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمده وقد أعد لها موضعا لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثارها، ثم تسورت من الحائط حتى هربت فمضت إليه فمكثت عنده زمانا. وقيل: إنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به فأعاره عودها وهو لا يعلم أنها عنده ولا يتهمه بشيء من أمرها فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي وهو عيسى بن زينب يهجو أباه ويعيره بها وكان كثيرا ما يهجوه: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا ركبت والليل داج ... مركبا صعبا مهوبا فارتقت متصلا بالنج ... م أو منه قريبا صبرت حتى إذا ما ... أقصد النوم الرقيبا مثلت بين حشايا ... هالكي لا تستريبا خلفا منها إذا نو ... دي لم يلف مجيبا ومضت يحملها الخو ... ف قضيبا وكثيبا محة لو حركت خف ... ت عليها أن تذوبا فتدلت لمحب ... فتلقاها حبيبا جذلا قد نال في الدن ... يا من الدنيا نصيبا أيها الظبي الذي تس ... حر عيناه القلوبا والذي يأكل بعضا ... بعضه حسنا وطيبا كنت نهبا لذئاب ... فلقد أطعمت ذيبا 3 وكذا الشاة إذا لم=يك راعيها لبيبا لا يبالي وبأ والمر ... عى إذا كان خصيبا فلقد أصبح عبد الله ... كشخان حريبا قد لعمري لطم الوجه ... وقد شق الجيوبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وجرت منه دموع ... بلت الشعر الخضيبا وأخبر بعضهم أنها ملته بعد ذلك فهربت منه فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد متسترة متخفية، فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني تسمع غناءها فعرفه فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه فلم يبرح حتى جاء عمه فلببها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح يا هذا لست أصبر عليك امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني لست أصبر على الضيقة فلما كان من غد ندم على فعله وسار إليها فقبل رأسها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها منه قال وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل وقبل ذلك كان طلب منه خادما عنده فاضطغن لذلك عليه فلما ولى الخلافة جاء المرابي ليقبل يده فأمر بمنعه ودفعه ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي وقال له: أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه فدعا محمدا بالمراكبي وأمر بضرب عنقه فسأل في أمره فأعفاه وحبسه وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده قال: وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه، ثم ملته فهربت منه وهي أبيات هذان منها: ورشوا على وجهي من الماء واندبوا ... قتيل عريب لا قتيل حروب فليتك إذ عجلتني فقتلتني ... تكونين من بعد الممات نصيبي وقد ذكر بعضهم رواية تخالف هذه وهي أنها هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحدقوا خراسان قال: وكان أشقر أصهب الشعر أزرق وفيه تقول عريب ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس: بأبي كل أزرق ... أصهب اللون أشقر جن قلبي بي ولي ... س جنوني بمنكر وقيل: إن ابن المدبر قال: خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم في العماريات على الجمازات وكنا رفقة وكنا أترابا فقال لي أحدهم على بعض هذه الجمازات عريب فقلت: من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات وانشد أبيات عيسى بن زينب: قاتل الله عريبا ... فعلت فعلا عجيبا فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها حتى أتممتها فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقال: يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه أنسيت قوله: وعريب رطبة الشف ... رين قد نيكت ضروبا اذهب فخذ ما بالغت فيه ثم ألقت السجف فعلمت أنها عريب وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم. وقال عمر بن شبة كانت للمراكبي جارية يقال لها: مظلومة. جملية الوجه، بارعة الحسن، فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه، فقال فيها بعض الشعراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لقد ظلموك يا مظلوم لما ... أقاموك الرقيب على عريب ولو أولوك إنصافا وعدلا ... لما أخلوك أنت من الرقيب أتنهين المريب عن المعاصي ... فكيف وأنت من شأن المرايب وكيف يجانب الجاني ذنوبا ... لديك وأنت جالبة الذنوب فإن يسترقبوك على عريب ... فما رقبوك أنت من القلوب وأخبر بعضهم أنه لما نمى خبر عريب إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضر وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول: لكل أناس جوهر متنافس ... وأنت طراز الآنسات الملائح فطرب محمد واستعاد الصوت مرارا وقال لإبراهيم: يا عم، كيف سمعت. قال: يا سيدي سمعت حسنا وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل فاشتط مولاها في السوم، ثم أوجبها له بمائة ألف دينار وانتقض أمر محمد وشغل عنها فلم يأمر لمولاها حتى قتل بعد أن افتضها فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي. وقيل: إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد فأمر بإحضاره فسأله عنها، فأنكر. فقال له المأمون كذبت قد سقط إلي خبرك وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه وبلغها الخبر فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح أنا عريب إن كنت مملوكة فليبعني وإن كنت حرة فلا سبيل له علي فرفع خبرها إلى المأمون فأمر بتعديلها عنه قتيبة بن زياد القاضي فعدلت عنده وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها فسأله البينة على ملكه إياها فعاد متظلما إلى المأمون. وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة وتظلمت إليه زبيدة، وقال: من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها. فقال المراكبي إني أخذت ملكي لأنه لم ينقدني الثمن فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي فأخذها من قتيبة بن زياد فأمر ببيعها ساذجة فاشتراها المأمون بخمسة آلاف درهم فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحب لها، وقيل: إنه لما مات المأمون بيعتعت في ميراثه ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم. ثم أعتقها فهي مولاته وذكر بعضهم أنها لما هربت من دار محمد لما قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي. وقيل: إن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفعها إليه وقال: لولا أني حلفت أن لا أشتري مملوكاً بأكثر من هذا لزدتك ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعة سنية فقال: يا سيدي إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا، وأما أنا فإني ميت لا محالة لأن هذه الجارية كانت حياتي وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوما. وقيل: إن إبراهيم بن رباح كان يتولى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها فاشتراها بمائة ألف درهم قال: فأمرني المأمون بحملها وأن أحمل لإسحاق مائة ألف درهم أخرى ففعلت ذلك، ولم أدر كيف أثبتها فحكيت في الديوان أن المائة ألف خرجت في ثمن جوهرة، والمائة ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الأخرى أخرجت لصائغها ودلالها فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه فقلت: نعم هو ما رأيت، فسأل المأمون عن ذلك. وقال: أوجب لدلال وصائغ مائة ألف درهم وغلظ القصة فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه أخبرته المال الذي خرج فيثمن عريب وصلة إسحاق وقلت: أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت، أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء،. وقيل: إن عريب لما صارت في دار المأمون احتالت حتى واصلت محمد بن حامد وكانت عشقته وكاتبته. ثم احتالت في الخروج إليه وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حلبت منه وولدت بنتا، وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها، وأخبر بعضهم أنه لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم، ثم ذكرها فرق لها وأمر بإخراجها، فلما فتح الباب وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني: لو كان يقدر أن يبثك ما به ... لرأيت أحسن عاتب يتعتب حجبوه عن بصري فمثل شخصه ... في القلب فهو محجب لا يحجب فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال: لن تصلح هذه أبدا فزوجها إياه، وذكر صاحب الأغاني أن المأمون اصطحب يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة المغنين وعريب معه على مصلاه فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء: رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بان تقول له طعنة فقال لها المأمون أمسكي، فأمسكت ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة إليها والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه فقال محمد بن حامد فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت، فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك. قال: ابتدأت صوتاً لوهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تتبدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة فعلمت أنها أجابت بطعنة. ومن شعرها في محمد بن حامد: ويلي عليك ومنكا ... أوقعت في الحق شكا زعمت أني خؤن ... جورا علي وإفكا فأبدل الله ما بي ... من ذلة الحب نسكا وأخبر بعضهم أنها كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد. وروى غيره أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم أصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه وكانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه. وروى أن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت: أما الحبيب فقد مضى ... بالرغم عني لا الرضا أخطأت في تركي لمن ... لم ألق منه معوضا قال: فغنته يوما بين يدي المتوكل فاستعاده مرارا وشرب عليه يوما. ودخلت عليها إحدى جواري المتوكل فقالت لها: تعالي إلي، فجاءت. فقالت: قبلي هذا الموضع مني فإنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 تجدين ريح الجنة. وأومأت إلى صدغها ففعلت، ثم سألتها عن السبب في ذلك قالت: قبلني صالح المنذري في هذا الموضع. وقال عبد الله بن حمدون: إن عريب زارت محمد بن حامد ذات يوم وجلسا جميعا للمنادمة فجعل يبث شوقه إليها ويعاتبها على بعض أشياء فعلتها ويقول لها: فعلت كذا وذكا، فالتفتت إليه وقالت: يا هذا، أرأيت مثل ما نحن فيه، ثم أقبلت عليه وقالت: يا عاجز دعنا الآن في انشراحنا وإذا كان الغد فاكتب لي بعتابك ودع الفضول فقد قال الشاعر: دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا أعد ولا تعدي وقال إسحاق بن كندا: حين كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما: يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي بنصيبي منها قال: فاستأنفت طعاما كثيرا وأرسلت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول معي وها هو في الباب، فلما سمعت ذلك تحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي، فدخل الخادم ومعه شيء مشدود من منديل ورقعة فقرأت الرقعة فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي، يا غبي أظننت أني من الأتراك ووحشي الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء. الله المستعان عليك يا فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوها من الأفعال ولا تستعمل أخلاق العامة في الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت المنديل فإذا فيه طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلافة وفيه زبدية فيها لفتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيهما قطعتان من صدر دجاج مشوي وبقل وطلع وملح، ثم انصرف رسولها. وعن علوية قال: أمرني الممون أنا وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولاة عريب في الطريق وهي - يومئذ عنده- فقال لي: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترق وترحم وتستحي، عريب هائمة بك وتحب أن تراك. قال علوية: أم الخلافة زاينة إن تركت عريب بها، ومضيت معه، فحين دخلت قلت له: استوثق من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب فدخلت وإذا عريب جالسة على كرسي يطبخ بين يديها ثلاث قدور فجلسنا واحضر الطعام فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب. ثم قالت: يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت: وما هو؟ فقالت: عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن كنت طوع يديه وإني لمشتاق إلى قرب صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل نكرره ونردده أنا وهي حتى استوى، ثم جاء حجاب المأمون فكسروا باب المراكبي واستخرجوني، فدخلت على المأمون، فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع هو ومن عنده ما لم يسمعوه واستظرفوه وطربوا منه جدا وسألني فأخبرته الخبر فقال لي: ادن مني وردده، فرددته سبع مرات فقال أبي في آخر مرة: يا علوية خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب. قال القاسم بن زرزور: حدثتني عريب قالت: كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وكنت أصوغ الغناء وأنا في ذلك السن. قال القاسم: وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحمه فمن ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 لم آت عامدة ذنبا إليك بلى ... أقر بالذنب فاعف اليوم عن زللي فالصفح من سيد أولى لمعتذر ... وقاك ربك يوم الخوف والوجل فكان لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من لحنه. والثاني هو: أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد ... حسبي بربي ولا أشكو إلى أحد أين الزمام الذي قد كنت ناعمة=في ظله بدنوني منك يا سندي وأسأل الله يوما منك يفرحني ... فقد كحلت جفون العين بالسهد فكان لحنها ولحن الواثق فيه من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه: قال ابن المعتز: وكان سبب انحراف الواثق عنها كيادها إياه وسبب انحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون في بلاد الروم مضمونه اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا العور الليلي ههنا - تعني الواثق - وكان يسهر الليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد. وقال صالح بن علي بن الرشيد: تماري خالي أبو علي مع المأمون في صوت فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهي مجموعة فسألها عن الصوت فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط لعدم قوتها على مفعول الحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى أفرغت الصوت، ثم سقت وقد غشي عليها فأقيمت من حضرة المأمون وهو لا يكاد أن يملك نفسه أسفا وفرقا عليها. وقيل: إن المأمون كان يحبها الحب المفرط حتى إنه كان يقبل قدميها ويمرغ عليها الخدود إذا رأى منها انحرافا عنه في شيء ما. وقال أبو العباس بن الفرات: قالت لي تحفة - جارية عريب - كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف شعرها مكان الغسلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من الجمعة إلى الجمعة فإذا غسلته أعادته كما كان وتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان. وروي عن علي بن يحيى أنه قال: دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما جلسنا هطلت المساء بالأمطار فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وابعث إلى من أحببت من إخوانك قال: فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان فقالت: وما هو فأخبرتها أنه في هذه الأبيات: تجافي ثم تنطبق ... جفون حشوها الأرق وذي كلف بكى جزعا ... وسفر القوم منطلق به قلق يململه ... وكان وما به قلق جوانحه على خطر ... بنار الشوق تحترق قال فوجهت رسولا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته المساء، فأمرت بخلع ملابسه وألبسته ملابس فاخرة وقدم له طعام فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناه مرارا فأخذت دواة وقرطاسا وكتبت: اجاب الوابل الغدق ... وصاح النرجس الغرق وقد غنى بنان لنا ... جفون حشوها الأرق فهات الكأس مترعة ... كأن حبابها حدق قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقال الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن في شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندنا باقي يومها فأبت وقالت: قد دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المأيد فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى، وقد عزمت على المسير إليهم قال: فحلفت عليها بالإقامة عندنا فأقامت ودعت بدواة وقرطاس فكتبت بعد البسملة في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة وهي: (أردت، لولا، لعلي) . وأرسلتها فأخذها ابن المدبر وكتب تحت كل حرف هكذا: (ليت، ماذا، أرجو) ، ووجه بالرقة، فلما رأتها صفقت وقالت: أأترك هؤلاء وأقعد عندكم لا والله إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم بعض جواري يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت وأخذت معها بعض جواريها وتركت بعضهن وانصرفت، وعتب المأمون يوما على عريب فهجرها أياما، ثم اعتلت فعادها فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا قال: فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة تماما، ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النظام ألم يكن كبيرا. وقال أحمد بن أبي داود: جرى بين عريب والمأمون فكلمها المأمون في شيء غضبت منه فهجرته أياماً قال أحمد بن أبي داود: فدخلت يوما. فقال: يا أحمد، اقض بيننا بالصلح، فلما كلمتها في ذلك قالت: لا حاجة لي في قضائه ودوله فيما بيننا وأنشأت تقول: ونخلط الهجر بالوصال ولا ... يدخل في الصلح بيننا أحد فلما سمع المأمون ذلك دخل إليها بالصلح واصطلحا قال حمدون: كنت حاضرا في مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الأخيرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي: اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق - يعني المعتصم - فأد إليه رسالتي قال: فركبت ومضيت وبينما أنا في الطريق إذ سمعت وقع حافر دابة فرهبت من ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي في ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فتأملت وجه الراكب وإذا هي عريب فقلت: عريب؟ قالت: نع، أنت حمدون؟ قلت: نعم، فمن أين أتيت في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: عجبت من سؤالك هذا ترى أن عريب تخرج من مضرب الخليفة في مثل هذا الوقت لتزور محمد بن حامد وتقول لها: ماذا كنت تصنعين عنده خرجت لأصلي معه الترويح أو لأدرس عليه شيئا من الفقه يا أحمق خرجت لأزور حبيبي كما يتزاور المحبون، وما يفعلون من عتاب وصلح، وغضب، ورضا، وشكوى غرام، وبث أشواق وما أشبه. فأخجلتني وغاظتني، ثم رجعت إلى المأمون بعد أداء الرسالة وأخذنا في الحديث وتناشدنا الأشعار، وهممت والله أن أخبره خبرها، ثم رهبته فقلت: أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر فأنشده: ألا حي إطلالا لواسعة الحبل ... ألوف تسوي صالح القوم بالرذل فلو أن من أمسى بجانب تلعة ... إلى جبلي طي لساقطة الحبل جلوس إلى أن يقصر الظل عندها ... لراحوا وكل القوم منها على وصل قال: فقال لي المأمون اخفض صوتك لئلا تسمعك عريب فتغضب وتظن أننا في حديثها، فلما سمعت ذلك أمسكت عما أردت أن أخبره به واختار الله لي السلامة. وقال اليزيدي: خرجنا مع المأمون إلى بلاد الروم فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي أنشدني شعر قلت: نعم حتى أسمع فيه لحناً فأنشدتها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ماذا بقلبي من دوام الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق قال: فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت لها: هذا والله تنفس عاشق. فقالت: اسكت يا عاجز أنا أعشق بل أنا معشوقة في كل ناد، والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيساً ظريفاً. قال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد خصام وكان يجد بها وجدا مفرطا فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه كما لها عنده من الحب فلقيته يوما فقالت له: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى والله مما كان وأشد لوعة. فقالت: استبدل بديلا فقال لها: لو كانت البلوى بالخيار لفعلت فقالت: لقد طال إذا تعبك. فقال: وما يكون أصبر مكرها أما سمعت قول العباس بن الأحنف: تعب يكون مع الرجاء بذي الهوى ... خير له من راحة في الياس لولا كرامكتم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس فلما سمعت ذلك ذرفت عيناها واعتذرت وعاتبته واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه من صدق المودة وحسن المعاشرة. وقال ابن المراكبي: قالت لي عريب: حج بي أبوك وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وجميع ما أسمعه منهم فوقف علينا شيخ من الأعراب يسأل فاستنشدته فأنشدني: يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر فقال لي: هو يتيم، فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول ومولاي لا يعلم بذلك لأنه كان ضعيفا، فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي: ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك: إنه يتيم أنشدينيه إن كنت حفظتيه فأنشدته وأعلمته أني غنيت به ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح بالصوت فرحا شديدا. وقال ميمون بن هارون: إنه كان في مجلس جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى وعلي بن يحيى وبدعة جارية عرب وتحفة وهما تغنيان فذكر علي بن يحيى أن الصوت لغير عريب وذكر أنها لا تدعيه وكابر في ذلك فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب ونحن لا نعلم يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة فكتبت إليه بخطها بعد البسملة: هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم ... وللعزب المسكين ما يتلمس أنا المسكين وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيه وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني (تغني بذلك جاريتها تحفة وبدعة) فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك هناكم الله وأبقاكم، وسألت مد الله في عمرك عما اعترض فيه فلان في هذا الصوت والقصة فيه ما هو كذا وذكرت القصة بتمامها مع الأعرابي ولما وصل الجواب إلى جعفر بن المأمون قرأه وضحك، ثم رمى به إلى أبي عيسى وقال: اقرأ وكان علي بن يحيى إلى جانبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته وقمت إلى ناحية وقرأتها فأنكر ذلك وقال: ما هذا فوارينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان مبغضا لها. وقال أحمد بن الفرات عن أبيه أنه قال كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه المستنير الائح وأراك تمصح بالمحاق وحسنها ... باق على الأيام ليس ببارح فضحكت عريب وصفقت وقالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف هذا الصوت غيري فلم يقدر أحد من القوم على مساءلتها عنه غيري فسألتها فقالت: أنا أخبركم بقصته ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم بها وهو أن أبا محلم وفد بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فأعجبها جماله ورقته فولعت به وأحبته حبا مفرطا وأرادت التوصل إليه فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في احتياج وأنها بعدة مدة ترده إليها بعث إليها بعشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث بها إليها فاستحسنت ذلك منه واتصلت المودة بينهما، وكان القرض سببا للوصلة فكان يدخل إلى منزلها ليلا وكنت أنا أني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب: يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه أم محمد ابنة صالح والبيت الآخر وقال لي: غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت أم محمد في آخر المجلس: يا أختي قد نبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة إلى آخر الدهر فقال أبو محلم: وأنا أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح ذاك المستنير اللائح وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر. وكتبت عريب يوما إلى ابن حامد تستزيره فأرسل إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه: إذا كنت تحذر ما تحذر ... وتزعم أنك لا تجسر فما لي أقيم على صبوتي ... ويوم لقائك لا يقدر فلما قرأ الرقعة صار إليها من وقته وأرسل إليها يعاتبها في شيء فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه هذين البيتين: تبينت عذري وما تعذر ... وأبليت جسمي وما تشعر ألفت السرور وخليتني ... ودمعي من العين ما يفتر فلما اطلع على البيتين ذرفت عيناه وسعى إليها مستسمحا ومستجديا عفوها عما وقع منه، وقد تمت أخبار عريب. عزة الميلاء كانت عزة مولاة للأنصار ومسكنها المدينة وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهن جسما، وسميت الميلاء لتمايلها في مشيتها، وكانت ممن أحسن ضربا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني الصبا من الدائم مثل سيرين وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة وكانت رائقة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزة عنهما نغما وألفت عليه ألحانا عجيبة فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض نساءهم ورجالهم عليه، وكان مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ما كان أحسن غناءها وأرق صوتها وأنجى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها. وقال طويس: يصف عزة: هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس. تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له. فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه. وقال ابن إسلام: فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول ومن ذا الذي سلم من لسان طويس. وقال معبد: إنه أتى عزة وهي عند جميلة وقد أسنت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الأطنابة: عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المروق ريا قال: فما سمع السامعون قد بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها وقد أسنت فكيف بها وهي شابة وقال صالح بن حسان الأنصاري كانت عزة مولاة لنا وكانت عفيفة جميلة وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قالت له: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال: إنس سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي، وكان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء وكان يقدمها على سائر قيان المدينة، وكان يزيد بن ثابت ختن ابنته فأولم فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة وحضر حسان بن ثابت وقد كف يومئذ وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة فوضع في حجرها مزهر، فضربت به ثم تغنت فكانت أول ما ابتدأت به شعر حسان قوله: فلا زال قبر بين بصرى وجلق ... عليه من الوسمي جود ووابل وحسان يبكي وابنه يومئ إليها أن تزيد فإذا زادت بكى حسان وقال خارجة بن زيد: فلما طال جلوس حسان ثقل علينا مجلسه فأومأ ابنه إلى عزة فغنت: أنظر خليلي بباب جلق هل ... تبصر دون البقاء من أحد فبكى حسان حتى سدر ثم قال: هذا عمل الفاسق - يعني ابنه - أما لقد كرهتم مجالستي فقيح الله مجلسكم سائر اليوم وقام فانصرف. وقال عبد الله بن أبي مليكة كان رجل من أهل المدينة ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني: باتت سعاد وأمسى حبلها انقعا. فشغف بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر: يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعث إلى النخاسين فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها: ممن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه وصدقه عنه فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه فغنته، فصعق الرجل وخر مغشيا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه الماء الماء فنضح على وجهه، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أفاق قال له أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عليك أكثر. قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبها فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها قال: أفتعرفها إن رأيتها. قال: أو أعرف غيرها. فأمر بها فأخرجت وقال: خذها فهي لك والله ما نظرت إليها قط إلا عن عرض، فقبل الرجل يديه ورجليه وقال له: أنمت عيني وأحيت نفسي وتركتني أعيش بين قومي ورددت إلي عقلي فقال: ما أرضى أن أعطيكما هكذا يا غلام احمل معها ثمنها لكي لا تهتم به ويهتم بها فأخذها وانصرف شاكرا. وكان ابن أبي عتيق معجبا بعزة الميلاء فأتى يوما عند عبد الله بن جعفر فقال له: بأبي أنت وأمي هل لك في عزة فقد اشتقت إليها قال: لا أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت وأمي إنها لا تنشط إلا بحضورك فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك ففعل فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها دعي الغناء فقد ضج أهل المدينة منك وقالوا: فتنت رجالهم ونساءهم فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني أقسم عليك إلا ناديت في المدينة أيما رجل أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نسفه بذلك لتعرفه ويظهر لنا ولك أمره فنادى الرسول بذلك فما أظهر أحد نفسه، ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه فقال لها: لا يهولنك ما سمعت فغنينا، فغنتهما: إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل فاهتز ابن أبي عتيق طربا فقال ابن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة، وبقيت عزة في عز وإقبال ونعمة وافرة حتى ماتت مأسوفا عليها من كل من سمع صوتها ورأى جمالها. عزة صاحبة كثير هي عزة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزى يتصل نسبها إلى عبد مناف علقها كثير جارية قد كعبت نهودها. وكان سبب دخول الهوى بينهما أن كثيرا مر بغنم له ترد الماء على نسوة من ضمرة بوادي الخبت فأرسلن له عزة بدريهمات تشتري بها كبشا لهن منه، فنظرها نظرة تأمل فداخله منها ما كان، فرد الدراهم وأعطاها الكبش وقال: إن رجعت أخذت حقي، فلما عاد سألنه ذلك فقال: لا أقتضي إلا من عزة فقلن له: ليس فيها كفاءة فاختر إحدانا فأبى وأنشد: نظرت إليها نظرة وهي عاتق ... على حين أن شبت وبان نهودها نظرت إليها نظرة ما يسرني ... بها حمر أنعام البلاد وسودها فجعلن يبرزنها له كارهة ثم داخلها ما داخله ولما اشتدت حالته أنشد: يزهدني في حب عزة معشر ... قلوبهم فيها مخالفة قلبي فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى ... فبالقلب لا بالعين ينظر ذو اللب وما تبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذنان إلا من القلب ودخلت عزة على أم البنين بنت عبد العزيز فقالت لها: ما الحق الذي مطلته كثيرا إذ قال: قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها فقالت: وعدته قبله، فقالت: أنجزيها وعلي إثمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ومن غريب الإنفاق أن كثيرا له غلام يتجر على العرب فأعطى النساء إلى أجل، فلما اقتضى ما له منهن ما طلته عزة فقال لها يوما - وقد حضرت في نساء - أما آن أن تفي بما عندك؟ فقالت: كرامة لم يبق إلا الوفاء فقال: صدق مولاي حيث يقول: قضى كل ذي دين البيت. فقلن له: أتدري من هي غريمتك؟ فقال: لا أدري. قلن هي والله عزة فقال: أشهدكن علي أنها في حل مما عندها ومضى فأخبر مولاه بالحكاية فقال: وأنت حر وما عندك لك وكان الذي عنده ألف دينار وأنشد: سيهلك فيا لدنيا شفيق عليكم ... إذا غاله من حادث الدهر غائله يود بأن يمسي سقيما لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوما عند عز شمائله ودخلت عزة على عبد الملك بن مروان فقال لها أتروين قول كثير: لقد زعمت أني تغيرت بعدها ... فمن ذا الذي يا عز لا يتغير تغير جسمي والخليقة كالتي ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبر فقالت: لا أدري هذا ولكن أروي قوله: كأني أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلت صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن مل منها ذلك الوصل ملت فضحك من ذلك واتفق أن عزة خرجت إلى مكة مع زوجها وكان كثير في ذلك العير، فلما كان في أثناء الطريق مرت بجمل له فسلمت على الجمل فبلغ كثيرا ذلك فجاء إلى الجمل فحله وأطلقه من الحمل وأنشد: حيتك عزة بعد الهجر وانصرفت ... فحي ويحك من حياك يا جمل لو كنت حييتها ما زلت ذائقه ... عندي ولا مسك الإدلاج والعمل ليت التحية كانت لي فأشكرها ... مكان يا جمل حييت يا رجل ثم اتفق أن زوجها أمرها أن تستعطي سمنا فلقيها كثير فأخبرته بحاجتها فأخرج إداوة سمن وجعل يسكب في إناء عزة وهما يتحدثان فلم يشعر حتى غرقت أرجلهما، فلما رجعت أنكر زوجها كثرة السمن وأقسم عليها فأخبرته فحلف ليضربنها أو لتخرجن فتشتم كثيرا بحيث يسمعها ففعلت فأنشد كثير: يكلفها الخنزير شتمي وما بها ... هوائي ولكن للمليك استذلت هنيئا مرئيا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت ودخلت عليه وهو يبري سهاما، فجعل ينظر إليها ويبري ساعدته فدخلت ومسحت الدم بثوبها. وتوفيت عزة سنة أربع ومائة ورثاها كثير بأبيات منها، وقد سأل عبد العزيز أن يرشده إلى قبر عزة، فلما وقف عليه أنشد: وقفت على ربغ لعزة ناقتي ... وفي البر رشاش من الدمع يسفح فيا عز أنت البدر قد حال دونه ... رجيع تراب والصفيح المضرح وقد كنت أبكي من فراقك خيفة ... فهذا لعمري اليوم أنأى وأنزح فهلا فداك الموت من أن ترينه ... بمن هو أسوأ منك حالا وأقبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة ... لشيء ولا ملجأ لمن يتملح فلا زال رمش ضم عزة سائلا ... به نعمة من رحمة الله تسفح فإن التي أحببت قد حال دونها ... طوال الليالي والضريح المرجح أرت بعيني البكا كل ليلة ... فقد كاد مجرى الدمع عيني يقرح إذا لم يكن ما تسفح العين لي دما ... وشر البكاء المستعار المسيح ومما قال فيها أيضا: كفى حزنا للعين أن رد طرفها ... لعزة عير آذنت برحيل وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا ... فقلت البكا أشفى إذا لغليلي توليت محزونا وقلت لصاحبي ... أقاتلتي ليلي بغير قتيل لعزة إذا ما حل بالخيف أهلها ... فأوحش منها الخيف بعد حلول وبدل منها بعد طول إقامة ... تبعت نكباء العشي جفول لقد أكثر الواشون فينا وفيكم ... ومال بنا الواشون كل مميل وما زلت من ليلى لدن طر شاربي ... إلى اليوم كالمقصى بكل سبيل وقال فيها أيضا: لا تغدرن بوصل عزة بعدما ... أخذت عليك مواثقا وعهودا إن المحب إذا أحب حبيبه ... صدق الصفاء وأنجز الموعدا الله يعلم لو أردت زيادة ... في حب عزة ما وجدت مزيدا رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خر والعزة خاشعين سجودا عفراء بنت الأحمر الخزراعية نشأت مع ابن عمها الحارث المشهور بابن الفرند ممتزجين بالألفة إلى أن بلغا فتزوج بها فأقاما مدة ينمو الهوى بينهما إلى أن عزمت يوما على أن تزور أباها، فجهزها إليه، فأقامت مدة وكل منهما يأبى أن يجئ بنفسه وزادت الوحشة بينهما وحلف أبواهما على أن لا يأتي أحدهما الآخر مخافة أن تزري العرب به فمرض الحارث فكتب إليها: صبرت على كتمان حبك برهة ... ولي منك في الأحشاء أصدق شاهد هو الموت إن لم تأتني منك رقعة ... تقوم بقلبي في مقام العوائد فأجابته تقول: كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى ونلت الذي تهوى برغم الحواسد ووالله لولا أن يقال تظننا ... بي السوء ما جانبت فعل العوائد فلما قرأ ما في الرقعة وتنشق ريحها وكانت أعطر أهل زمانها غشي عليه فإذا هو ميت فقيل لها: ما كان عليك لو أجبته زورة؟ قالت: خشيت أن يقال صبت إليه، ولكني قاتلة نفسي ولاحقة به قريبا فلم يشعروا بها إلا وهي ميتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 عفراء بنت مهاصر بن مالك بن حزام بن ضبة بن عبد بن عذرة كانت من أعظم مشاهير عصرها حسنا وجمالا، وأدبا وظرفا وفصاحة. شغف بها عروة بن (حزام) أخي مهاصر وكلاهما ابنا مالك - وهو المشهور بالعشق. قيل: إنه أول عاشق مات بالهجر ولشدة مقاساته في العشق ضرب به المثل، وكان سبب عشقه لها أن أباه حزاما توفي ولعروة من العمر أربع سنين وكفله مهاصر أبو عفراء فانتشآ جميعاً فكان يألفها وتألفه، فلما بلغا الحلم سأل عمه تزويجها فوعده ذلك. ثم أخرجه إلى الشام وجاء ابن أخ له يقال له: أثالة بن سعيد بن مالك يريد الحج فنزل بعمه مهاصر فبينما هو جالس يوما تجاه البيت إذ خرجت عفراء حاسرة عن وجهها ومعصميها وعليها أزار خز، فلما رآها وقعت من قلبه بمكانة عظيمة فخطبها من عمه فزوجه بها وأن عروة أقبل مع العير في اليوم الذي حملت مع زوجها فعرفها من البعد، وأخبر أصحابه، فلما التقيا وعرف الأمر بهت لا يحير جوابا حتى افترق القوم، فأنشد: وإني لتعروني لذكراك رعدة ... لها بين جلدي والعظام دبيب فما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن ب {أتني لطبيب فما بي من حمى ولا مس جنة ... ولكن عمي الحميري كذوب عشية لا عفراء منك بعيدة ... فتسلو ولا عفراء منك قريب وبي من جوى الأحزان والبعد لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب ولكنما أبقى حشاشة مقول ... على ما به عود هناك صليب وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب وحين وصل الحي أخذه الهذيان والقلق وأقام أياما لا يتناول قوتا حتى شفت عظامه ولم يخبر بسره أحدا وإنه تمرض بين أهله زمانا، ولما يئس من الشفاء وعلم الضجر من أهله قال لهم: احتملوني إلى البلقاء فإني أرجو الشفاء. فلما حل بها جعل يسارق عفراء النظر في مرورها عاودته الصحة، فأقام كذلك إلى أن لقيه شخص من عذرة فسلم عليه، فلما أمسى دخل العذري على زوج عفراء وقال له: متى قدم هذا الكلب عليكم فقد فضحكم بكثرة ما يتشبب بكم فقال: من تعني؟ قال: عروة. قال: أنت أحق بما وصفت والله ما علمت بقدومه وكان زوج عفراء متصفا بالسيادة ومحاسن الأخلاق في قومه. فلما أصبح جعل يتصفح الأمكنة حتى لقي عروة فعاتبه وأقسم أن لا ينزل إلا عنده، فوعده ذلك، فذهب مطمئنا. وأما عروة فإنه عزم أن لا يبيت الليل وقد علموا به فخرج فعاوده المرض فتوفي بواد القرى دون منازل قومه، ولما بلغ عفراء وفاته قالت لزوجها: قد تعلم ما بينك وبيني وبين الرجل من الرحم وما عندي من الوجد وإن ذلك على الحسن الجميل فهل تأذن لي أن أخرج إلى قبره فأندبه فقد بلغني أنه قضى. قال: ذلك لك، فخرجت حتى أتت قبره فتمرغت عليه وبكت طويلا ثم أنشدت: ألا أيها الركب المجدون ويحكم ... بحق نعيتم عروة بن حزام فإن كان حقا ما تقولون فاعلموا ... بأن قد نعيتم بدر كل ظلام فلا لقي الفتيان بعدك راحة ... ولا رجعوا عن غيبة بسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ولا وضعت أنثى تماما بمثله ... ولا فرحت من بعده بغلام وما إن بلغتم حيث وجهتم له ... ونغصتم لذات كل طعام ولما فرغت من شعرها ألقت نفسها على القبر فحركت فوجدت ميتة فدفنت إلى جانبه، فنبت من القبرين شجرتان حتى إذا صارتا على حد قامة التفتا، فكانت المارة تنظر إليهما ولا يعرفان من أي ضرب من النبات، وكثيرا ما أنشدت فيهما الناس فمن ذلك قول الشهاب محمود: بالله يا سرحة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الرند والغار فعانقيهم عن الصب الكثيب فما ... على معانقة الأغصان من عار وكانت وفاتها في عاشر شوال سنة 28 للهجرة، ومن قول عفراء: عداني إن أزورك يا خليلي ... معاشر كلهم واش حسود أشاعوا ما علمت من الدواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد فأما إذ ثويت اليوم لحدا ... فدور الناس كلهم اللحود فلا طابت لي الدنيا مذاقا ... لبعدك لا طيب لي العديد ومن محاسن شعر عروة قصيدته النونية التي أولها: خليلي من عليا هلال بن عامر ... بصنعاء عوجا اليوم وانتظراني ولا تزهدا في الأجر عندي وأجملا ... فإنكما بي اليوم مبتليان ومنها: ألا فاحملاني بارك الله فيكنا ... إلى حاضر البلقاء، ثم دعاني على جسرة الأصلاب ناجية السرى ... تقطع عرض البيد بالوخدان ألما على عفراء إنكما غدا ... بشحطك النوى والبين مفترقان فيا واشي عفراء ويحكما بمن ... وما والى من جئتما تشيان بمن لو أراه عانيا لفديته ... ومن لو رآني عانيا لفداني وهي تسعة وسبعون بيتا قد ضمنها حكاية حالة بألفاظ رقيقة ومعاني أنيقة، وقد تركناها لشهرتها وخوف الخروج عن الموضع. عقيلة ابنة أبي النجاد بن النعمان عقيلة ابنة أبي النجاد بن النعمان بن المنذر بن ماء المساء ملك العرب المشهور وجدها النعمان صاحب الخورنق. وهي من أجمل نساء العرب. وأعلمهن بالأدب وأحوال العرب أياما ووقائع. تعلقها عمرو بن كعب بن النعمان - المذكور- وكان رباه عمه أبو النجاد بعد وفاة والد كعب فشغف بها عمرو واشتد ولوعه وزاد غرامه فخطبها إلى عمه فطلب منه مهرا يعجز عنه، فأشار عليه بعض أصحابه بالخروج إلى أبرويز بن كسرى لما كان بين حدودهما من الوصلة، فلما ذهب في الطريق مر بعراف فبات عنده فاستعلم منه الأمر فاخبره أنه ساع فيما لا يدرك فعاد فوجد عمه قد زوج العقيلة لفزاري فهام على وجهه إلى اليمامة. فلما بنى بها الفزاري وكان عندها من الشوق لعمرو أضعاف ما عنده لها فكانت تشد الفزاري إذا جن الليل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 كسر البيت وتبيت في الخدر فإذا أصبح الصبح تطلقه فيستحي أن يخبر العرب بذلك، فأقام على هذا الحال سبعين ليلة، فلما كثر توبيخ العرب له واختلاف ظنونهم فيه خرج فلا يدري أين يذهب، وأقامت العقيلة ببيت أبيها لا تتناول إلا الأقل من الطعام بقدر ما يمسك الرمق ودأبها البكاء على عمرو وهو كذلك فإنه كان لا يرى إلا شاخصا إلى السماء متمسكا بحبل علق فوق رأسه من العشاء إلى الصباح وهو ينشد: إذا جن ليلي فاضت العين أدمعا ... على الخد كالغدران أو كالسحائب أود طلوع الفجر والليل قائل ... لقد شدت الأفلاك بعد الكواكب فما أسفي إلا على ذوب مهجتي ... ولم يدر يوما كيف حال الحبائب فلما كان بعد أيام دخل عليه صديقه فوجده غاصا بالضحك مستبشرا فسأله فقال: لقد حدثتني النفس أن سوف نلتقي ... وبيدل بعد بيننا بتدان فقد آن الدهر الخؤن بأنه ... لتأليف ما قد كان يلتمسان ثم شهق شهقة فاضت نفسه قال الفرزدق: خرجت في طلب غلام لي أبق، فلما صرت على ماء لبني حنيفة جاءت السماء بالأمطار فلجأت إلى بيت هناك فخرجت لي جارية كأنها القمر فحيت ثم قالت: ممن الرجل؟ قلت: تميمي. قالت: من أيها قبيلة قلت: من نهشل بن غالب. فقالت: إذا أنتم الذين يقول فيكم الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل فقلت: نعم، فقالت: قد هدمه كلم جرير بقوله: أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ... واحل بيتك بالحضيض الأوهد قال: فأعجبتن، فلما رأت ذلك مني قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت: تذكرت اليمامة أن ذكري ... بها أهل المروءة والكرامة ألا فسقي المليك أجش جونا ... يجود بصوته تلك اليمامة وحيا بالسلام أبا نجيب ... فأهلا للتحية والسلامة قال: فأنست بها قلت: أذات خدر أم ذات بعل؟ فقالت: إذا رقد النيام فإن عمرا ... تؤرقه الهموم إلى الصباح تقطع قلبه الذكرى وقلبي ... فلا هو بالخلي ولا بصاح سقى الله اليمامة دار قوم ... بها عمرو يحن إلى الرواح فقلت لها: من هو؟ فأنشدت تقول: إذا رقد النيام فإن عمرا هو القمر المنير المستنير وما لي في التبعل من براح ... وإن رد التبعل لي أسيرا ثم شهقت فماتت فسألت عنها فإذا هي العقيلة وضبط اليوم الذي ماتت فيه وجد موت عمرو فيذلك اليوم أيضا. عكرشة ابنة الأطروش بن رواحة كانت فصيحة الألفاظ، رقيقة أديبة، حرة المنطق، ذات عقل وافر، جامعة بين مزيتي الشجاعة والادب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 حضرت حرب صفين وألفت الخطب البليغة فمما قالته وهي واقفة بين الصفين تحرض جيش علي بن أبي طالب: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة لا يرحل من أوطنها ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها، وكونوا قوما مستبصرين في دينكم بالصبر على طلب حقكم، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب، غلف القلوب لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله إياكم والتواكل في ذلك ينقض عز الإسلام ويطفئ نور الحق هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى، يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم واصبروا على عزيمتكم فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البعير هذا وقد انكفأ عليها العسكران يقولون: هذه عكرشة بنت الأطروش فلنطرب القلوب بدر ألفاظها. ووفدت على معاوية فسألته رد الصدقات فقالت: إن صدقاتنا كانت تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا وأنا قد فقدنا ذلك، قال: وما يصنع الوالي؟ قالت: فما يجبر لنا كسير ولا ينعش لنا فقير، فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك ينبه عن الغفلة ويراجع التوبة وإن كان عن غير رأيك فما مثلك استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة. قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق، وبجور تندفق، قالت: يا سبحان الله والله ما فرض لنا حقا فيجعل فيه ضررا على غيرنا، وهو علام الغيوب. قال معاوية: يا أهل العراق نبهكم علي بن أبي طالب فلم تطاقوا، ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وأنصفها وذهبت وهي مكرمة وبقيت عزيزة في قومها إلى أن توفاها الله تعالى. علية ابنة المهدي العباسية أخت هارون الرشيد أمير المؤمنين الخامس العباسي، كانت من أحسن نساء زمانها وجها، وأظرفهن خلقا، وأوفرهن عقلا، ذات صيانة وأدب بارع، تزوجها موسى بن عيسى العباسي وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها. ولها ديوان شعر عاشت خمسين سنة، وتوفيت سنة 210 هجري وكان سبب موتها أن المأمون سلم عليها وضمها إلى صدره وجعل يقبل رأسها ووجهها مغطى، فشرقت من ذلك وحمت وماتت لأيام يسيرة، وكانت تتغزل في خادمين أحدهما طل والآخر رشأ، فمن قولها في طل، وصفحت اسمه: أيا سروة الفتيان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل لديك سبيل متى يلتقي من ليس يقضي خروجه ... وليس لمن يهوى إليه وصول وقالت أيضا: سلم على ذاك الغزال ... الأغيد الحسن الدلال سلم عليه وقل له ... يا غل ألباب الرجال خليت جسمي ضاحيا ... وسكنت في ظل الحجال وبلغت مني غاية ... لم أدر منها ما احتيال فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنها لا تذكره ثم سمع عليها يوما فوجدها وهي تقرأ القرآن في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى (فإن لم يصبها وابل) (البقرة: 265) فما نهى عنه أمير المؤمنين، فدخل الرشيد وقبل رأسها وقال لها: قد وهبتك طلا ولا منعتك بعدها عما تريدين. وكانت من اعف الناس كانت إذا طهرت لازمت المحراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وإذا لم تكن طاهرا غنت ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه، فلما وصلت إلى المرج نظمت قولها: ومقترب بالمرج يبكي بشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفى برائحة الركب وغنت بهما، فلما بلغ الرشيد الصوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق وأهلها فأمر بردا. ومن شعرها: إني كثرت عليه في زيارته ... فمل والشيء مملول إذا كثرا ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصرا عني إذا نظرا وقالت أيضا: كتمت اسم الحبيب عن العباد ... ورددت الصبابة في فؤادي فوا شوقي إلى أيام خلي ... لعلي باسم من أهوى أنادي وقالت أيضا: خلوت بالراح أناجيها ... آخذ منها ثم أعطيها نادمتها إذ لم أجد صاحبا ... أرضاه أن يشركني فيها وهذا يشبه قول أبي نواس: على مثلها مثلي يكون نادما ... وإن لم يكن مثلي خلوت بها وحدي وقالت أيضا: بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لمسج يس يستحسن في حكم الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج وقليل الحب صرفا خالصا ... وهو خير من كثير قد مزج وقالت عريب - المغنية -: أحسن يوم مر بي في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي وأخته علية وعندهم يعقوب، وكان أحذق الناس بالمزمار، فبدأت علية فغنتهم من صنعتها في شعرها وأخوها يعقوب يزمر عليها: تحجب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب تبصر فإن حدثت أن أخا الهوى ... نجا سالما فانج النجاة من الحرب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وأطيب أيام الفتى يومه الذي ... يروع بالهجران فيه ويا لعتب وقالت أيضا: لم ينسينك سرور لا وحرزن ... وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن ولا خلا منك لا قلبي ولا جدي ... كلي بكلك مشغول ومرتهن وحيدة الحسن ما لي عنك من كلف ... نفسي بحبك إلا الهم والحزن نور تولد من شمس ومن قمر ... حتى تكامل فيه الروح والبدن فما سمعت مثل ما سمعت منها قط وأعلم أني لا أسمع مثله أبدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 عمارة جارية ابن جعفر كانت من مشاهير نساء عصرها حسنا وجمالا ولها اليد الطولى في صنعة الغناء وكان سيدها وجد بها وجدا شديدا فان لا يستطيع فراقها سفرا أو حضرا فقدم على معاوية سنة من السنين لأخذ حقه فزاره يزيد فغنت الجارية بحضرته فأخذت بمجامع قلبه وتمكن حبها من نفسه وكان ذا دهاء فكتم أمرها. فلما أفضت إليه الخلافة استشار أهل سره فيأمرها وأنه لا يهنأ له قرار دونها فقالوا له: إن ابن جعفر عند الناس بمنزلة وتعرف ما كان عليه من أبيك ولا نأمن عليك في ذلك فالزم المهلة واجتهد فيا لحيلة. فأخذ في تدبير ذلك حتى ظهر له فأحضر رجلا عراقيا معروفا بالدهاء والحيل، وأطلعه على أمره فقال له: مكني مما أريد ولك علي أن آتيك بها فقال: لك ذلك دبر بسرك، ثم أعطاه مالا وثيابا وجواهر. وخرج العراقي كبعض التجار حتى نزل بساحة عبد الله بن جعفر وبلغه فأحسن ملتقاه وأخذ العراقي في التودد إليه فأرسل إليه بقماش وهدايا تزيد على ألف دينار وسأله قبولها ونقله إلى خواصه فزاد في الهدايا إلى أن صار من ندمائه فأحضر الجارية. فلما غنت أعجب بها العراقي حتى قال ما ظننت أن في الدنيا مثل هذه فقال له: كم تساوي عندك؟ قال الخلافة فقال عبد الله: تقول ذلك لتزين لي شأنها وتطلب بذلك سروري قال: يا سيدي أنا تاجر أجمع الدرهم ولو بعتنيها بشعرة آلاف دينا لأخذتها. قال: قد بعتك. قال: اشتريت وقام العراقي بالمال. فقال ابن جعفر: أنا كنت مازحا. فقال له: يا سيدي أنت تعلم أن المزاح في البيع جد، وهذا لا يليق بمثلك وأنت معروف بالكرم والصلات، فكيف ترضى أن يشيع عنك مثل هذا؟ وطال بينها الكلام إلى أن خدعه فأخرجها له وهو كالمجنون لا يملك نفسه، فرحل بها من يومه وأقام ابن جعفر حزينا باكيا لا يقر له قرار. فلما دخل العراقي الشام وجد يزيد قد مات، فاجتمع بمعاوية ولده فقص الخبر وكان صالحا فقال له: اخرج عني بها فلا تريني وجهك فخرج العراقي وكان قد قال للجارية: أنا لست من رجالك وإنما أخذتك للخليفة فاستترت فلم ير لها وجها. فلما قال له معاوية ما قال جاء إليها وقال لها: قد صرت لي. ولكن فاستتري فإني معيدك إلة مولاك ثم رحل بها حتى دخل على ابن جعفر، فلما تلاقيا أخبره بالقضية وأنه لم يكن تاجرا ولكن كان مطلوبه الجارية ليزيد، وإنه حين رآه قد هلك لم ير نفسه أهلا لها فأعادها إله ولم ير لها وجها، ثم أخذها فسلمها إليه فلما تلاقيا وتعانقا خرا مغشيين ساعة، ثم أدخلها ورفع منزلة العراقي حتى صار أعظم الناس عنده ووهب له المال وانصرف وأقاما على ما كان عليه في عز وإقبال. عمرة ابنة دريد بن الصمة سيد بني جشم الذي قتل يوم حنين في حرب الإسلام قتله عبد ربيعة بن رفيع سنة ثمان للهجرة و (630 م) . كانت من نساء العرب المتقدمات بالمنزلة النابغات بالفصاحة والدب، العالمات بأشعار وروايات العرب لها اليد الطولى في الكرم والشعر المحكم ومن أشعارها ما قالته رثاء في أبيها دريد - المذكور - وتنعي إلى بني سليم إحسان دريد إليهم فيا لجاهلية: لعمرك ما خشيت على دريد ... بيطن سميرة جيش العتاق جزى عنه الإله بني سليم ... وعقتهم بما فعلوا عقاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وأسقانا إذ عدنا إليهم ... دماء خيارهم يوم التلاقي فرت عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي وربّ كريمة أعتقت منهم ... وأخرى قد فككت من الوثاق وربّ منوه بك من سليم ... أجبت وقد دعاك بلا رماق فكان جزاؤنا منهم عقوقا ... وهما ماع منه مخ ساق عفت آثار خيلك بعد أين ... فذي بقرا لي نيف النهاق وقالت فيه أيضا: قالوا قتلنا دريداً قلت قد صدقوا ... فظل دمعي على السربال ينحدر لولا الذي قهر الأقوام كلهم ... رأت سليم وكعب كيف تأتمر إذا لصحبهم غبا وظاهرة ... حيث استقرت نواهم جحفل ضفر عمرة ابنة الخنساء كانت شاعرة مثل أمها الخنساء وأبوها هو مرداس بن أبي عامر وكان العباس ويزيد ابنا مرداس أخويها وتزوجت بنشبة فولدت له ولدا سمته الأقيصر مات صغيرا. ومن مراثيها قولها في أخيها يزيد لما قتل وذلك أن يزيد كان قتل قيس بن الأسلت في بعض حروبهم فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكن من يزيد فقتله بقيس بن أبي قيس وهو ابن عمرو فقالت عمره: أجد ابن أمي أن لا يؤبا ... وكان ابن أمي جليدا نجيبا نقيا تقيا رحيب المقام ... كميا صليبا لبيبا خطيبا حليما أريبا إذا ما تبدى ... سديد المقال مهيبا دريبا وحسناء في القول منسوبة ... تكشف حاجبها والسبيبا فشد بمنطقة مقصرا ... فدارت به تستطيف الركوبا تشق سنابكها بالعرى ... وتطرح بالطرف عنها الغيوبا فلما علاها استمرت به ... كما أفرغ الناضجان الذنوبا فسار إليه وقالوا استقم ... فلم يجدوه هلوعا هيوبا بقوم إذا فرغوا أمسكوا ... وأدرك منهم ركوبا ركوبا وطعنة خلس تلافيتها ... كعطف النساء الرداء الحجوبا وحوراء في القوم مظلومة ... كأن على دفتيها كثيبا تميمتها غير مستأمر ... فعرقبتها وهززت القضيبا فظلت تكوس على أكرع ... ثلاث وغادرت أخرى خضيبا وقلت لصاحبها لا ترع ... فلم يعدم القوم نصحا قريبا فراح يعدي على أجرد ... أمون وغادرت رحلا جنييا ورق سباه لأصحابه ... فظل يحيا وظلوا شروبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقالت عمرة أيضا ترثي أباها مرداسا وكان يقال له: الفيض من سخائه كأنه فيض البحر: لقد أرانا وفينا سامر لجب ... مصارخ فيهم عز ومرتغب لا يرقع الناس فتقاظل يفتقه ... ويرقع الخرق قد أعيا فيرتئب والفيض فينا شهاب يستضاء به ... إنا كذلك فينا توجد الشهب إذ نحن بالإثم نرعاه ونسكنه ... جول فوارسها كالبحر تضطرب كأن الذلول وفيها كل معترض ... يفنى ضغينته التعداء والخبب وقالت عمرة ترثي أخاها يزيد - وهذا الشعر فيا لحماس -: أعيني لم أختلكما بخيانة ... أبي الدهر والأيام أن أتصبرا وما كنت أخشى أن أكون كأنني ... بعير إذا ينعى أخي تحسرا ترى الخصم زورا عن أخي مهابة ... وليس جليس عن أخي بأزورا وقالت في أخيها عباس - وقد مات في الشام سنة 16 للهجرة و638 للميلاد: لتبك ابن مرداس على ما عراهم ... عشيرته إذ حم أمس زوالها لدى الخصم إذ عند الأمير كفاهم ... فكان إليها فضلها وحلالها ومعضلة للحاملين كفيتها ... إذا أنهكت هوج الرياح طلالها وقالت من جملة قصيد في يزيد: تحمى لها ذات أجياد غضنفرة ... فمجلس الإثم فالصرداء أحياء فيهن قب كحبات الأباء به ... يحذين تبنا ولا يحذين قردانا وتوفيت عمرة بنت الخنساء نحو سنة 48 هجرية. عمرة الخثعمية هي من نساء بني خثعم الشاعرات الأديبات المتحمسات وشعرها مقبول ولها رثاء في أخوين لها قتلا فيبعض الغزوات: لقد زعموا أني جزعت عليهما ... وهل جزع أن قلت وا باباهما هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة فدعاهما هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما استطاعا عليه كلاهما عمرة ابنة النعمان بن بشير كانت حسنة الإشارة جميلة المنظر لطيفة المخبر عفيفة دينة متمسكة بالصدق والصداقة عرفت بين أخواتها بالأمانة وحفظ العهد وعندما شبت تزوجت بالمختار بن أبي عبيد الثقفي ومكثت معه لحين قتله فقتلت معه وكان لها علم بمعاني الشعر والأدب ولها فيه بعض مقاطيع ومن ذلك ما قالته تخاطب به أخاها أبان بن النعمان وتلومه فيها على زواج أختها حميدة بروح بن زنباع وكان من بني جذام: أطال الله شأنك من غلام ... متى كانت مناكحنا جذام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أترضي بالفواسق والزواني ... وقد كنا يقر بنا السنام وقد سمع ذلك ابن عم لروح بن زنباع زوج أختها حميدة فقال: رضى الأشياخ بالقيطون فحلا ... وترغب للحماقة عن جذام يهودي له بضع العذارى ... فقبحا للكهول وللغلام تزف إليه قبل الزوج خود ... كأن شمسا تدلت من غمام فأبقى ذلكم عارا وخزيا ... بقاء الوحي في صم السلام يهود جمعوا من كل أوب ... وليسوا بالغطاريف الكرام وقتلت عمرة بعد قتل زوجها المختار بن أبي عبيد الثقفي والسبب في ذلك كما جاء في التاريخ الكامل لابن الأثير: أن مصعبا بعد أن قتل المختار دعا أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأته وعمرة هذه فأحضرهما وسألهما عن المختار فقالت أم ثابت: نقول فيه بقولك أنت. فأطلقها وقالت عمرة: رحمه الله كان عبد الله صالحا فحبسها وكتب إلى أخيه عبد الله بن الزبير أنها تزعم أنه نبي فأمره بقتلها ليلا بين الكوفة والحيرة قتلها بعض الشرط ضربها ثلاث ضربات بالسيف وهي تقول: يا أبتاه، يا عترتاه فرفع رجل يده فلطم القاتل وقال: يا ابن الزانية، عذبتها ثم تشحطت فماتت فتعلق الشرطي بالرجل وحمله إلى مصعب فقال: خلوه فقد رأى أمرا فظيعا فقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي في ذلك: إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على غير جرم ... إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري في ذلك: أتى راكب الآذي بالنبا العجب ... بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب بقتل فتاة ذات دل ستيرة ... مهذبة في الخيم والعز والنسب مطهرة من نسل قوم أكارم ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب خليل النبي المصطفى توافقوا ... وصاحبه في الحرب والضرب والكرب أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها لا أحسنوا القتل والسلب فلا هنأت آل الزبير معيشة ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب كأنهم إذا أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب ألم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من المحصنات الدين محمودة الأدب من الغافلات المؤمنات برية ... من الدم والبهتان والشك والريب علينا ديات القتل واليأس واجب ... وهن عفاف في الحجال وفي الحجب على دين أجداد لها وأبوة ... كرام مضت لهم تخز أهلا ولم ترب من الخفرات لا خروج بزينة ... ولا ذمة تبغي على جارها الجنب ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا ولم تزدلف يوما بسوء ولم تجب عجبت لها إذ كتفت وهي حية ... إلا إن هذا الخطب من أعجب العجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وروى صاحب الأغاني: أن مصعبا بعد قتل المختار أخذ عمرة وابنة مرة امرأته الثانية وأمرهما بالبراءة من المختار أما بنت سمرة فبرئت منه وأبت ذلك عمرة فكتب به مصعب إلى أخيه عبد الله فكتب إليه إن أبت أن تبرأ منه فاقتلها فأبت فحفر لها حفيرة وأقيمت فيها فقتلت. عوان جارية سليمان بن عبد الملك كان يحبها مولاها حبا شديدا وهي مشهورة بالجمال والفصاحة، وكان شديد الغيرة عليها وإنه خرج لغرض ومعه سنان وكان فارسا معروفا بالشجاعة وكان حسن الغناء، وكان يتركه كثيرا لمعرفته بغيرة سليمان ولكن زاره ضيوف في تلك الليلة فأكرمهم فقالوا: يا سنان لم تكرمنا ما لم تسمعنا الغناء وكان قد أخذت منه الخمرة فأنشد: محبوبة سمعت صوتي فأرقها ... في آخر الليل لما بلها السحر تثني على فخذها مثنى معصفرة ... والحي منها على لباتها حصر لم يحجب الصوت أجراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر في ليلة النصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر لو خليت لمشت نحوي على قدم ... يكاد من رقة للمشي ينفطر فلما سمع سليمان الصوت خرج فزعا فجاء إلى عوان فرآها على صفة الأبيات وكانت يقظانة، فلما فطنت به قالت: ألا رب صوت جاءني من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد قصير نجاد السيف جعد بنانه ... إلى أمة يدعى معا وإلى عبد فسكن ما به وقال: قد راعك صوته. قالت: صادف مني يا أمير المؤمنين فحلف ليقتلنه، فأرسلت عبدا يحذره وقالت: إن لحقته فلك ديته وأنت حر فسبق رسول سليمان فجاءوا به فنظر إليه؟، ثم قال: وإنك لمجترئ فقال: أنا فارسك فاستبقني فقال: لا أقتلك ثم أمر به فخصي. وبقيت عوان عند سليمان معززة مكرمة إلى أن مات عنها وآلت إلى خلفه. عوراء بنت سبيع كانت فصيحة اللسان ثبتة الجنان، لها علم بفنون الأدب ورواية في شعر العرب. لها شعر قلل وأغلبه رثاء في أخيها عبد الله بن سبيع حين قتل في يوم من أيام العرب منه قولها: أبكى لعبد الله إذ ... حشت قبيل الصبح ناره طيان طاوي الكشح لا ... يرخى لمظلمه إزاره يعصى البخيل إذا أرا ... د المجد مخلوعاً عذاره حرف الغين غاية المنى جارية المعتصم بن صمادح هي جارية أندلسية متأدبة متخرجة في فنون الغناء لها صوت حسن وصنعة جيدة بالأصوات، وكان أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 غنائها من أصوات عريب وإسحاق ومعبد. وقيل: إن سبب وصولها إلى المعتصم بن صمادح هو أنها لما أدبها وخرجها سيدها قدم بها إلى المعتصم فأراد اختبارها فقال لها: ما اسمك؟ فقالت غاية المنى. فقال لها أجيزي. اسألوا غية المنى ... من كسا جسمي الضنى وأراني مولها ... سيقول الهوى أنا فاشتراها منه بنائة ألف درهم وكانت محظية عنده إلى أن ماتت. الشاعرة الغسانية لم أقف على اسمها الحقيق وإنما قال صاحب (نفح الطيب) : إن هذا اللقب هو نسبة إلى بلدة من بلاد الأندلس وهي تشتهر بإقليم المرية وهي من أهل المائة الرابعة. كانت ذات ظرف وأدب وجمال ولطف وبهاء وكمال، عالمة بالعروض وضروبه والشعر وروايته فمن نظمها من أبيات: عهدتم والعيش في ظل وصلهم ... أنيق وغصن الوصل أخضر فينان ليالي سعد لا يخاف على الهوى ... عتاب ولا يخشى على الوصل هجران ويقال: إن لها صائد وأشعار غير هذه وهي من الشاعرات الموصوفات بالأندلس حرف الفاء فاختة ابنة أبي طالب فاختة ابنة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية. بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخت علي بن أبي طالب أمها فاطمة بنت أسد واختلف في اسمها فقيل: هند. وقيل: فاطمة. وقيل: فاختة. كانت تحت هبيرة بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي. أسلمت عام الفتح، فلما أسلمت وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب هبيرة إلى نجران وقال: حين فر معتذرا من فراره: لعمرك ما وليت ظهري محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل ولكنني قبلت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي وقفت فلما خفت ضيقة موقفي ... رجعت لعود كالهزبر إلى الشبل قال خلف الأحمر أبيات هبيرة في الاعتذار خير من قول الحارث بن هاشم - يعني قوله -: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد وقال الأصمعي: حسن ما قيل في الاعتذار من الفرار قول الحارث بن هشام. قال ابن إسحاق: إن هبيرة أقام بنجران، فلما بلغه إسلام أم هانئ، وكانت تحته قال أبياتا منها: وعادلة هبت بليل تلومني ... وتعذلني بالليل ضل ضلالها وتزعم أني إن طعت عشيرتي ... سأردى وهل يردين إلا زوالها ومنها يخاطب أم هانئ: فإن كنت قد تابعت دين محمد ... وقطعت الأرحام منك حبالها فكوني على أعلى سحيق بهضبة ... ململمة غبراء يبس بلالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وهي أكثر من هذا، وولدت أم هانئ لهبيرة عمرا - وبه كان يكنى هبيرة وهانئا ويوسف وجعدة. وقيل: ما أخبر أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانئ فإنها حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل فسبح ثماني ركعات ما رأيته صلى صلاة أخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود. فارعة ابنة أبي الصلت الثقفية أخت أمية بن أبي الصلت كانت من أديبات العرب الشاعرات العاقلات الجميلات الهيئة والمنظر، وكانت من الصحابيات المحدثات الصادقات فيا لرواية أخذ عنها كثير من التابعين. فلما مات أمية قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت: إني رأيت بينما هو راقد إذ أتاه رجلان فكشطا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى قال الذي عند رأسه للذي عند رجليه: وعى. قال: أزكا؟ قال: زكا قال: فسألته عن ذلك فقال: خير أريد بي ثم قطرت عينه ثم غشي عليه فلما أفاق قال: كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا اجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا إن يوم الحساب يوم عظيم ... فيه شيب الصغار يوما ثقيلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما أطيبه من شعر سألتك بالله أعيديه) . فأعادت عليه شعر أخيها وأنشدت شعرا يدا، فقالت: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... فلا شيء أعلى منك جدا وامجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها ثم إنها أنشدته قصيدته التي يقول فيها: عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهر والكلام الخفيا يوم تأتيه وهو رب رحيم ... إنه كان وعده مأتيا يوم نأتيه مثل ما قال فردا ... لم يذر فيه راشدا وغويا أسعيد سعادة أنا أرجو ... أو مهابا بما كسبت شقيا رب إن تعف فالمعافاة ظني ... أو تعاقب فلم تعاقب بريا إن أواخذ بما اجترمت فإني ... سوف ألقى من العذاب فريا وأنشدته قول أخيها أيضا بقصيدته المشهورة التي فيها: باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها ما رغب النفس فيا لحياة وإن ... تحيا قليلا فالموت سائقها ومنها قوله: يوشك من فر من منيته ... يوما على غرة يوافقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 من لم يمت غبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها وأنشدته قوله عند موته: لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما وقوله: عن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان مثل أخيك كمثل الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين آمن شعره وكفر قلبه) فأنزل الله تعالى فيه: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا) (الأعراف: 175) الآية. وبقيت فارعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من نساء المعدودات بالفضائل المقدمات عند الصحابة إلى أن ماتت. فارعة ابنة شداد كانت من النساء الموصوفات بالأدب وعلو الهمة، وحسن المدركة، لها شعر حسن ومراث مقبولة منها ما قالته في أخيها أبي زرارة مسعود يوم قتل في بعض غزواته: يا عين جودي لمسعود بن شداد ... بكل ذي عبرات شجوه بادي من لا يذاب له شحم السديف ولا ... يجفو العيال إذا ما ضن بالزاد ولا يحل إذا ما حل منتبذا ... يخشى الرزية بني المال والنادي قوال محكمة نقاض مبرمة ... فراج مبهمة حباس أوراد نحار راغية قتال طاغية ... حلال رابية فكاك أقياد حلال ممرعة حمال معضلة ... فراع مفظعة طلاع أنجاد شهاد أندية رفاع أبنية ... شداد ألوية فتاح أسداد جماع كل خصال الخير قد علموا ... زين القرين وخطل الظالم العادي أبا زرارة لا تبعد فكل فتى ... يوما رهين صفيحات وأعواد هلا سقيتم بن حرم أسيركم ... نفسي فداؤك من ذي كربة صاد فاطمة ابنة أسد ابن هاشم بن عبد مناف القرشية أم علي بن أبي طالب وأم أخوته طالب وعقيل وجعفر. وقيل: إنها توفيت قبل الهجرة وليس بشيء والصحيح أنها هاجرت إلى المدينة وتوفيت بها. قال الشعبي: أم علي فاطمة بنت أسد أسلمت وهاجرت إلى المدينة وتوفيت بها وقال علي لأمه فاطمة بنت أسد أكفي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك من الداخل الطحن وهذا يدل على هجرتها لأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة. قال الزهري: هي أو هاشمية ولدت لهاشمي، وهي أيضا أو هاشمية ولدت خليفة، ثم بعدها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت الحسن ثم زبيدة امرأة الرشيد ولدت الأمين لا نعلم غيرهن، ثم إن هؤلاء الثلاثة لم تصف لهم الخلافة فأما علي فإنه كان من اضطراب الأمور عليه إلى أن قتل كما هو مشهور. وأما الحسن والأمين فخلعا. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها وجزاها خيرا. فقيل له: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه قال: إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميص لتكسى من حلل الجنة واضطجعت في قبرها ليهون عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 عذاب القبر. قال الزبير: انقرض ولد أسد بن هاشم إلا من ابنته فاطمة بنت أسد. وفاطمة هذه لها فضائل مشهورة ومآثر مشهورة ومآثر مشكورة مذكورة فيكتب التاريخ ولشهرتها وكثرة تداولها اكتفينا بذكر هذا اليسير منها. فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ولدت فاطمة قبل ما تبني ريش الكعبة بخمس سنين وهي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم وأمها خديجة بنت خويلد وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. وكان يحبها أكثر من كل أولاده الطاهرين وبناته الشريفات تزوجها علي بن أبي طالب عليهما السلام في شهر رمضان من السنة الثانية للهجر وبنى بها في ذي الحجة من السنة - المكورة-. روي عن أنس أنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: (يا أنس أتدري ما جاءني به جبريل عليه السلام من صاحب العرش عز وجل وعلا) . قلت: بأبي أنت وأمي ما جاءك به جبريل؟ قال: (قال لي: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تزوج فاطمة من علي فانطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وبعدتهم من الأنصار) قال: فانطلقت فدعوتهم، فلما أخذوا مجالسهم قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته المطاع بسلطانه المهروب إليه من عذابه النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم بأحكامه أعزهم بدينه وأكرمهم بنبيه محمد، إن الله عز وجل جعل المصاهرة نساب لاحقا وأمرا مفترضا وحكما عادلا، وخيرا جامعا أوشج بها الأرحام، وألزمها الأنام. فقال الله عز وجل: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) (الفرقان: 54) . فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه وقضاؤه يجري إلى قدره ولكل قضاء قدر ولكل قدر أجل ولكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم) . قال: وكان علي عليه السلام غائبا في حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه فيها ثم أمر لنا بطبق فيه تمر فوضع بين أيدينا فقال: انتهبوا فبينما نحن كذلك إذ أقبل علي فتبسم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا علي إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة وإني زوجتكما على أربعمائة مثقال فضة) . فقال علي: رضيت يا رسول، ثم عن عليا خر ساجدا شكرا لله. فلما رفع رأسه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما وعليكما وأسعد جدكما وأخرج منكما الكثير الطيب) . قال أنس: والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب. وفي المسند عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحبا بابنتي) . ثم أجلسها عن يمينه وأسر لها حديثاً فبكت، فقلت: استخلصك رسول الله بحديثه ثم تبكين ثم أسر لها حديثا أيضا فضحكت. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قيل لها، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض صلى الله عليه وسلم. فسألتها فقالت: أسر إلي (أن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة وأنه عارضني به في هذا العام مرتين ولا أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أو أهل بيتي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لك) . فبكيت، فقال: (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة) . فضحكت لذلك ولم تضحك فاطمة عليها لسلام بعد وفاة أبيها. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 في الجمان: روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطت جارية لها صدقة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت لها: امضي إلى السوق بها وقولي من يقبل صدقة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قبلها فأتني به فمضت الجارية إلى السوق وقالت: من يقبل صدقة بنت رسولا لله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رجل مغربي: أنا موضع صدقة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطته الصدقة وقالت له: أجب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها نعم. فلما بلغ الباب سألته: من أنت؟ فقال لها: أنا رجل مغربي. فقالت له: من أي المغرب؟ فقال: من البربر، فبكت فاطمة وقالت: قال لي والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري وحواري ذريتي البربر سيقتل الحسن والحسين ويفر أولادهما إلى المغرب فلا يأويهما إلا البربر فيا شؤم من فعل بهم ذلك وطوبى لمن أكرمهم وأعزهم) . وعن علي عليه السلام قال: إن فاطمة بنت رسول الله صارت إلى قبر أبيها بعد موته ووقفت عليه وبكت، ثم أخذت من تراب القبر فجعلتها على عينها ووجهها، ثم أنشأت تقول: ما على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت على مصائب لوانها ... صبت على الأيام عدن لياليا ولها عليها السلام ترثي أباها صلى الله عليه وسلم: أغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار واظلم العصران والأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الأحزان فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان وليبكه الطود الأشم وجوه ... والبيت ذو الأستار والأركان يا خاتم الرسل المبارك صنوه ... صلى عليك منزل القرآن توفيت عليها السلام ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة وهبي بنت ثمان وعشرين سنة ودفنت بالبقيع ليلا، وصلى عليها علي- عليه السلام - وقيل: صلى عليها ونزل في قبرها هو والفضل بن العباس. وقيل: لبثت فاطمة بعد وفاة النبي عليه السلام ثلاثة أشهر. وقال عروة بن الزبير وعائشة لبثت ستة أشهر. ومثله عن ابن شهاب الزهري وهو الصحيح. روي أن عليا عليه السلام لما ماتت فاطمة وفرغ من جهازها ومن دفنها رجع إلى البيت فاستوحش فيه وجزع عليها جزعا شديدا ثم أنشأ يقول: أرى علل الدنيا علي كثيرة ... وصاحبها حتى الممات عليل لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الفراق قليل وإن افتقادي فاطما بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليل وكان يزور قبرها في كل يوم فأقبل ذات يوم فانكب على القبر وبكى بكاء مرا وأنشأ يقول: ما لي مررت على القبور مسلما ... قبر الحبيب فلم يرد جوابي يا قبر ما لك لا تجيب مناديا ... أمللت بعدي خلة الأحباب فأجابه هاتف يقول: قال الحبيب وكيف لي بجوابكم ... وأنا رهين جنادل وتراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أكل التراب محاسني فنسيتكم ... وحجبت عن أهل وعن أترابي فعليكم مني السلام تقطعت ... مني ومنكم خلة الأحباب وأما أولادها: فالحس والحسين والمحسن، وهذا مات صغيرا وأم كلثوم وزينب وزاد الليث بن سعد رقية وماتت صغيرة لم تبلغ. ولم يتزوج علي على فاطمة، وكانت أول أزواجه عليهما السلام ونفعنا الله بهما آمين. فاطمة ابنة الحسين ابن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - أمها أم إسحاق التميمية بنت طلحة بن عبيد الله وتزوج فاطمة ابن عمها حسن بن الحسن السبط فولدت عبد الله ويلقب بالمحض، وإنما سمي بالمحض لمكانه من الحسنين وكان يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: لم صرتم أفضل الناس؟ فقال: لأن الناس كلهم يتمنون أن يكونوا منا ولا نتمنى أن نكون من أحد، وولدت صاحبة الترجمة للحسن المثنى إبراهيم القمر والحسن المثلث وكل منهم له عقب ومات المحض هو وإخوته في سجن المنصور العباسي، وكان موتهم سنة 145 هجري ثم مات عنها الحسن المثنى فتزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وفي (الأغاني) : خطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى عمه الحسين فقال: يا ابن أخي قد كنت أنتظر هذا منك انطلق معي فخرج به حتى أدخله منزله فخيره في ابنتيه فاطمة وسكينة فاستحى فقال له: قد اخترت لك فاطمة بنتي فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكانت تشبه الحور العين لجمالها - ولما مات الحسن المثنى ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين على قبره فسطاطا، وكانت تقول الليل وتصوم النهار. فلما كان رأس السنة قالت لمواليها: إذا أظلم الليل قوضوا هذا الفسطاط، فلكا أظلم الليل وقوضوه سمعت قائلا يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا، ولما مات الحسن خرج بعد الله بن عمرو في جنازته فنظر إلى فاطمة حاسرة تضرب وجهها، فأرسل يقول لها: إن لنا في وجهك حاجة فارفقي به فاستحيت، وعرف ذلك منها، وخمرت وجهها، فلما حلت أرسل إليها يخطبها، فقالت: كيف بأيماني؟ وكانت قد حلفت لزوجها أن لا تتزوج بعده فأرسل إليها يقول لها: لك بكل مملوك مملوكان وعن كل شيء شيئان، فعوضها عن يمينها فنكحته وولدت له محمدا والقاسم، وكان عبد الله بن الحسن ولدها يقول: ما أبغضت بغض عبد الله بن عمرو أحدا ولا أحببت حب ابنه محمد أحدا. وكانت فاطمة كريمة الأخلاق حسنة الأعراق. قيل: إنه لما جهز يزيد أهل البيت إلى المدينة بعد قتل الحسين أرسل معهم رجلا أمينا من أهلا لشام في خيل سيرها، وصحبتهم إلى أن دخلوا المدينة فقالت فاطمة بنت الحسين لأختها سكينة: قد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن تصليه بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا ما كان من هذا الحلي. قالت: فافعلي. فأخرجت له سوارين ودملجين وبعثتا إليه بهما، فردهما وقال: لو كان الذي صنعته رغبة فيا لدنيا لكان في هذا كفاية، ولكني والله ما فعلته إلا لله ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت فاطمة أكبر سنا من أختها سكينة. قال صاحب (نور الأبصار) عن القطب الشعراني: إن السيدة فاطمة النبوية بنت الإمام الحسين السبط مدفونة بالدرب الأحمر بمصر. وقال الشيخ عبد الرحمن الأجهوري الكبير: إن السيدة فاطمة النبوية مدفونة خلف الدرب الأحمر في زقاق يعرف بزقاق فاطمة النبوية في مسجد جليل ومقامها عظيم وعليه المهابة والجلال. وفي رحلة ابن بطوطة بعد الكلام على غزة ما نصه: (وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الحسين بن علي رضي الله عنه، وبأعلى القبر وأسلفه لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع (بسم الله الرحمن الرحيم لله العزة والبقاء، وله ما ذرأ وبرأ وعلى خلفه كتب الفناء، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين عليه السلام) . وفي اللوح الآخر منقوش صنعة محمد بن أبي سهل النقاش بمصر وتحت ذلك هذه الأبيات: أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه ... بالرغم مني بين الترب والحجر يا قبر فاطمة بنت ابن فاطمة ... بنت الأئمة بنت الأنجم الهر يا قبر ما فيك من دين ومن ورع ... ومن عفاف ومن صون ومن خفر ومن كلام فاطمة - عليها لسلام -: والله ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئا ولا أدركوا من لذاتهم شيئا إلا وقد ناله أهل المروءات فاستتروا بجميل ستر الله. ومن قولها تنعي أباها: نعق الغراب فقلت من ... تنعاه ويحك يا غراب قال لإمام فقتل من ... قال الموفق للصواب قلت الحسين فقال لي ... بمقال محزون أجاب إن الحسين بكربلا ... بين الأسنة والحراب ثم استقل به الجنا ... ح فلم يطق رد الجواب فبكيت مما حل بي ... بعد الرضي المستجاب وقيل: إن هذه الأبيات لفاطمة الصغرى وإنها تخلفت في المدينة فجاء غراب وتمرغ في دم الحسين ف كربلاء وطار حتى وقع على جدار فاطمة الصغرى، فرفعت طرفها ونظرت إليه وبكت بكاء شديدا وأنشأت الأبيات المذكورة. وقال بعضهم لما زفت فاطمة بنت الحسين عليهما السلام إلى عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان عارضها موسى شهوات فقال: طلحة الخير جدكم ... ولخير القواطم أنت للطاهرات من ... فرع تيم وهاشم أرتجيكم لنفعكم ... ولدفع المظالم وتوفيت السيدة فاطمة - المشار إليها - سنة عشرة ومائة للهجرة ودفنت في المسجد المعروف بها الآن الكائن خلف الدرب الأحمر بمصر - المار ذكره - ومسجدها مقام الشعائر وله أوقاف دارة من ديوان الأوقاف لغاية الآن، ولها مولد كل سنة، وحضرة في كل أسبوع تجتمع فيها رجال الطريقة ولأذكار والصلوات تقام من المساء إلى الصباح. فاطمة بنت مر الخثعمية كانت من كاهنات العرب المشهود لهم بالفراسة وقد اشتهر صيتها في علم الكهانة وكانت تقول الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 مر عليها يوما عبد المطلب بن هاشم ومعه ولده عبد الله فرات في وجه عبد الله نورا ساطعا فتفرست فيه أنه سيخرج منه مولود يكون له شان فأحبت أن يكون منها ذلك المولود فقالت له: يا عبد الله، هل لك أن تقع علي ولك مائة ناقة من الإبل فقال لها: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه ثم قال لها: أنا مع أبي فلا أقدر أن أفارقه ومضى فزوجه أبوه آمنه بنت وهب، فأقام عندها ثلاثا، ثم انصرف فمر الخثعمية فدعته نفسه إلى ما دعته إليه فقال لها: هل لك فيما كنت أردت؟ فقالت: يا فتى، ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون لي فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد فما صنعت بعدي قال: زوجني أبي آمنة ابنة وهب فقالت: فاطمة بنت مرحين ذاك: إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر فسما بها نور يضيء به ... ما حوله كإضاءة البدر ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر فرجوته فخراً أبوء به ... ما كل قادح زنده يورى لله ما زهرية سلبت ... منك الذي سلبت وما تدري وقالت أيضا في ذلك: بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتركان كما غادر المصباح عنده خموده ... فتائل قد بلت له بدهان فما كل ما يحوي الفتى من ملاذه ... لعزم ولا ما فاته لتوان فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جد أن يعتلجان سيكفيكه إما يد مقفعلة ... وغما يد مبسوطة ببنان ولما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخرا ما لذلك ثاني فانصرف عبد الله وبقيت هي في حالها حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم وتربى وكبر ونزل عليه الوحي ووفدت عليه وأسلمت على يديه وماتت في مدته - رحمها الله. فاطمة بنت أحجم بن دندنة الخزاعي كان أبوها أحد سادات العرب، تزوج بخالدة بنت هاشم بن عبد المطلب. وكانت فاطمة من فصحاء العرب وشاعرات النساء، وأشعارها كانت لا تخرج عن الحكم والأمثال، وأكثرها رثاء، وكانت العرب تتمثل بأشعارها. ومن قولها في الجراح زوجها: يا عين بكى عند كل صباح ... جودي بأربعة على الجراح قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركنني أضحي بأجرد ضاح قد كنت حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي وإذا ما دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فنن دعوت صياحي وقالت أيضا: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا لو تملتهم عشيرتهم ... لاقتناء العز أو ولدا هان من بعض الزرية أو ... هان من بعض الذي أجد كل ما حي وإن أمروا ... وأردوا لحوض الذي وردا فاطمة ابنة الخطاب بن نفيل فاطمة ابنة الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشية العدوية أخت عمر بن الخطاب كانت إحدى العشرة الذين أسلموا أول الإسلام، وهي أسلمت مع زوجها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي قبل إسلام أخيها عمر وهي كانت سبب إسلامه. وقيل: سئل عمر عن سبب إسلامه فقال: خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فإذا أحد رجال بني مخزوم، وكان قد أسلم فقلت، تركت دين آبائك واتبعت دين محمد. فقال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني. قلت: من هو؟ قال: أختك وختنك. قال: فانطلقت فوجدت الباب مغلقا وسمعت همهمة، ففتح الباب، فدخلت فقتل: ما هذا الذي أسمع؟ قالت: ما سمعت شيئا فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربه فأدميته فقامت إلي أختي فأخذت برأسي فقالت: قد كان ذاك على رغم أنفك قال: فاستحيت حين رأيت الدم وقلت: أروني هذا الكتاب فأروه إياه، فلما رآه أسلم وذلك مشهور في ترجمته. وبقيت المترجمة تعضد الإسلام وتحرض نساء قريش على إتباعه حتى دخل دين الإسلام نساء والرجال الكثيرون بسببها. وكانت أديبة فاضلة عاقلة محبة للخير كارهة للشر آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر توفيت بخلافة أخيها عمر بن الخطاب ودفنت بما لاق بها. فاطمة ابنة قيس بن خالد الأكبر فاطمة ابنة قيس بن خالد الأكبر ابن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر القرشية الفهرية أخت الضاحك بن قيس قيل: كانت أكبر منه بعشر سنين، وكانت أديبة عاقلة فاضلة، ذات رأي صائب، وفكر ثاقب، وكمال باهر، وجمال ظاهر. هاجرت أول الإسلام مع من هاجر، وكانت تحت أبي حفص بن المغيرة فطلقها ثلاثا لأسباب وقعت بينهما فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. فقالت له: ألي لي على أبي حفص نفقة؟ فقال لها: (ليس لك عليه نفقة ولا سكنى) ، فامتثلت. وقيل: إنه لما طلقها أبو حفص خطبها معاوية وأبو جهم بن حذيفة فاستشارت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال لها: (أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو حذيفة فلا يضع عصاه عن عاتقه) . وأمرها بأسامة بن زيد فتزوجته. وقيل: إنها قدمت الكوفة على أخيها الضحاك بن قيس، وكان أميرا بها من قبل عمر بن الخطاب، فلما سمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 بقدومها أهل الكوفة تقاطروا عليها ومن جملتهم الشعبي وقد حدثتهم بما سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنها الشعبي جملة أحاديث. وقيل: إنه لما قتل عمر بن الخطاب اجتمع أهل الشورى في بيتها وقضوا مآربهم في الخلافة بإطلاعها وأخذوا رأيها في ذلك. وقد روت جملة أحاديث رواها عنها بعض الصحابة. فاطمة بنت الوليد عتبة فاطمة بنت الوليد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن مناف القرشية العبشمية. كانت تزوجت سالما مولى حذيفة زوجها منه عمها أبو حذيفة بن عتبة، وكانت من المهاجرات الأول ومن أفضل أيامى قريش لها عقل وكمال، وفضل وجمال. ولما قتل عنها سالم يوم اليمامة تزوجها بعده الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي. وقيل: إنها كانت في الشام تلبس الجباب من ثياب الخز، ثم تأتزر فقيل لها: ما يغنيك هذا عن الإزار؟ فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإزار. وقد روت جملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنها بعض الصحابة. فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومي أخت خالد بن الوليد أسلمت يوم الفتح وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهي زوج بان عمها الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي ويقال: إنه تزوجها بعده عمر بن الخطاب، وقد ولدت للحارث بن هشام عبد الرحمن وأم حكيم وقد خرجت مع زوجها الحارث إلى الشام، وقد استشارها أخوها خالد في بعض أموره وذلك لوفرة عقلها وحسن تدبيرها، ولما مات عنها زوجها الحارث عادت إلى المدينة وقد تزوجها عمر بن الخطاب بعد رجوعها بقليل. وروي لها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث رواها عنها بعض الصحابة. فاطمة ابنة الضحاك الكلابية كانت من النساء العاقلات الفاضلات، وهي ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة ابنته زينب. قيل: إنه خيرها حين نزلت آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها عند ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا. والظاهر أن هذه الرواية باطلة لأنه جاء في الحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله، وهكذا تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك وقيل: كان عنده تسع نسوة حين خيرهن وهن اللاتي توفي عنهن. وروى جماعة أن التي قالت: أنا الشقية هي التي استعاذت منه. وقد اختلفوا فيها اختلافاً كثيراً. فاطمة ابنة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس القرشية العبشمية هي أخت هند بنت عتبة وهي خالة معاوية بن أبي سفيان الأموي، كانت فصيحة الألفاظ، رقيقة أديبة، حلوة المنطق، ذات عقل وافر، جامعة بين مزيتي الحسن والأدب. أسلمت يوم الفتح وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها أخوها أبو حذيفة بن عتبة ذهب بها وبأختها هند يبايعان رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وسلم وذلك يوم الفتح فقالت فاطمة: فلما اشترط علينا النبي صلى الله عليه وسلم. قالت هند: أو تعلم في نساء قومك هذه الهنات والعاهات فقال: (بايعيه فهكذا يشترط) . وقيل: إن فاطمة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد كنت وما في الأرض قبة أحب إلي أن تهدم من قبتك وإني اليوم وما في الأرض قبة أحب إلي بقاء من قبتك فقال: (أما إن أحدكم لن يؤمن حتى أكون أحب إليه من نفسه) . فاطمة ابنة المجلل بن عبد الله فاطمة ابنة المجلل بن عبد الله بن قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشية العامرية. وتكنى أم جميل كانت من النساء الفاضلات الأديبات العاقلات، وقد اشتهرت بالفضيلة والظرف والرقة وهي من السابقين إلى الإسلام. تزوجها حاطب بن الحارث بن المغيرة فولدت له محمد بن حاطب والحارث بن حاطب وقد هاجرت مع من هاجروا إلى بلاد الحبشة مع زوجها حاطب. فلما توفي زوجها في بلاد الحبشة وقدمت هي وابناها المذكوران إلى المدينة في إحدى السفينتين اللتين قدمتا إليها من الحبشة، وقيل: إنها لما قدمت من أرض الحبشة وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنها فقالت: يا رسول الله، هذا ابن أخيك حاطب وقد أصابه هذا الحرق من النار فادع الله له فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاء فشفي. فاطمة ابنة عبد الملك بن مروان كانت فصيحة زمانها وأديبة عصرها وأوانها، ذات جمال رائق، وحسن فائق، ودين وورع لم يسبق إليه أحد من نساء بني أمية. تزوجت بعمر بن عبد العزيز الأموي قبل أن يتولى الخلافة فغمرها بأمواله وأقنعها بنواله، وهي لم تكن بأقل منه مالا وقد عاشا في مبدئهما عيشة الرفاهية والتنعم ولما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رأى أن عبأها ثقيل لا حمله عاتقه. ومن جملة ما صنه قال لفاطمة: إن أردت صحبتي فردي ما معه من مال وحلي وجواهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم وإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فردته جميعه ول تبق لها منه خلال إبرة. وبقيت معه في عيشة التقشف والضيق مع اتساع الخلافة والملك إلى أن مات، فلما انتقلت الخلافة إلى أخيها يزيد بن عبد الملك قال لها: إن عمر قد ظلمك في مالك وإني رددته إليه فخذيه. قالت: كلا والله لا آخذه فما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتاً. فأخذه يزيد وفرقه على أهله وبقيت فاطمة في حالة زهد وعبادة وورع حتى لحقت بزوجها عمر - رضي الله عنه. فاطمة ابنة جمال الدين سليمان فاطمة ابنة الشيخ الإمام المقرئ المحدث جمالا لدين سليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن سعد الله بن أبي القاسم الأنصاري الدمشقي. كانت من النساء العالمات العاقلات المحدثات الصادقات في الرواية أخذت الحديث عن والدها وعن أجلاء عصرها وقد أخذ عنها الحديث جملة مثل الصفدي وخلافه وأجازها معظم علماء القرن السابع للهجرة من الشام والعراق والحجاز وفارس وغيرها وكانت ولادتها في سنة 620 هجرية، وتوفيت في سنة 708 هجرية، وكانت ذات ثروة وافرة تمكنت منها بأعمال خيرات ومبرات ومدارس وبمارستانات وتكايا، وأوقفت لتلك المحلات الخيرية أوقافا، ورتبت لمستخدميها رواتب حتى باهت بأفعالها الخيرية أعاظم رجال ونساء عصرها - رحمها الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فاطمة ابنة الخشاب كانت شاعرة مجيدة وفصيحة بليغة لها قصائد مطولة وأشعار لطيفة ونثر جميل، عاصرت الصفدي في القرن السابع. وقد اجتمع عليها جملة من العلماء والأماثل والأدباء الأفاضل، وقد أجازها في الحديث جملة منهم وروى عنها كثير أيضا. وقد أرسلها يوما العلامة قاضي القضاة شهاب الدين بن فضل الله بقصيدة غراء نحو سبعة وعشرين بيتا ومطلعها: هل ينفع المشتاق قرب الدار ... والوصل ممتنع مع الزوار يا نازلين بمهجتي وديارهم ... من ناظري بمطمح الأنظار هيجتم شجني فعدت إلى الصبا ... من بعد ما وخط المشيب عذاري فأجابته المترجمة بقصية على وزنها وقافيتها تزيد عن العشرين بيت لم نعثر منها إلا على هذين البيتين وهما: إن كان غركم جمال إزار ... فالقبح في تلك المحاسن وار لا تحسبوا أني أماثل شعركم ... أنى يقاس جداول ببحار فلما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة وجدها كلها ألفاظا درية ومعاني عبقرية أكبر مخاطبته وأخذها بعين الكمال، ولم يخاطبها إلا بما يوافق مقام العلماء الأعلام، وبقيت معززة مكرمة إلى أن ماتت وحضر مشهدها جملة من العلماء والأعيان والحكام - رحمها الله تعالى. فاطمة الفقيهة ابنة علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي كانت من الفقيهات العالمات بعلم الفقه والحديث أخذت العلم عن جملة من الفقهاء وأخذ عنها كثيرون. وكان لها حلقة للتدريس وقد أجازها جملة من كبار القوم، وكانت من الزهد والورع على جانب عظيم تزوجت بفخر الأنام العالم العلامة علاء الدين القاشاني ومكثت عنده زمنا طويلا، وقد ألفت المؤلفات العديدة في الفقه والحديث وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء والأفاضل، وكانت معاصرة للملك العادل نور الدين الشهيد وطالما استشارها في بعض أموره الداخلية وأخذ عنها بعضا لمسائل الفقيهة وكان دائما ينعم عليها ويعضد مسعاها. وقد توفيت بمدينة حلب ودفنت في مقبرة من قبور الصالحين وقبرها هناك مشهور بقبر المرأة وزوجها لأنها دفنت بعد وفاته بجانبه. فاطمة النيسابورية رضي الله عنها كانت من ذوي الزهد والورع ولابسات المسوح حجت جملة مرار من بيت المقدس إلى مكة وهي ماشية على قدميها، وكانت معاصرة لذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي وكان ذو النون المصري - رضي الله عنه - يقول: فاطمة أستاذتي. وكانت تقول: من لم يراقب الله تعالى في كل حال فإنه ينحدر في كل ميدان ويتكلم بكل لسان، ومن راقب الله في كل حال أخرسه إلا عن الصدق وألزمه الحياء منه والإخلاص له. وكانت تقول: من عمل لله على مشاهدة الله إياه فهو مخلص، وكان أبو يزيد البسطامي يقول عنها: ما رأيت امرأة مثل فاطمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ما خبرتها عن مقام إلا كان الخبر لها عبانا. ماتت في طريق العمرة بمكة سنة ثلاث وعشرين ومائتين. فاطمة بنت الإمام السيد أحمد الرفاعي الكبير كانت عابدة فاتنة صالحة حافظة لكتاب الله فقيهة في دين الله محافظة على الدين مكرمة للصالحين خاشعة قانعة باكية، هائمة في الله تعالى شغلها حب الله تعالى عن غيره. رأى الشيخ الفاروقي - قد س سره - رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام والسيدة فاطمة هذه وأختها السيدة زينب بين يديه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: فاطمة فاطمتي، وزينب زينبي وبنتاي وبنتا ولدي أحب أهل هذا البيت يا عمر. فأفاق الفاروقي مندهشا وغشي عليه الليل كله، فلما أصبح استأذن على السيدة فاطمة، فلما وقف وراء الحجاب قالت له بصوت حزين وخشية وأنين قبل أن يذكر رؤياه: جدنا بنا رحيم صلى الله عليه وسلم. أخذ عنها القراءة ولدها السيد أبو إسحاق إبراهيم الأعزب وولدها السيد نجم الدين أحمد - رضي الله عنهما - وسمعا منها حديث الرسول وحدث عنها السيد أحمد الصبان - رضي الله عنه - في كتاب (الوظائف) . ونقل عنها الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر الفاروقي أنها أنشدت في مجلس درسها بيتا حفظته أخته الصالحة خديجة الفارسية ورواه عنها وهو: نموت على التقوى ونحشر في غد ... على خالص الإيمان والبر والتقوى توفيت بأم عبيدة سنة تسع وستمائة ودفنت بالمشهد الأحمدي - رضي الله عنها. فاطمة بنت السيد عبد الرحيم الرفاعي وتلقب ملكة. قال الإمام أحمد الزبرجدي الكبير - قدس سره - حين ذكرها: السيد فاطمة أخت القطب الجليل السيد أحمد الصياد بن الرفاعي - قدس الله سره - العزيز يلقبها أهل بيتهم ملكة. كانت صالحة عارفة عالمة عابدة خاشعة، حجت مع أخيها السيد عز الدين أحمد الصياد الشهير سنة ثلاث وأربعين وستمائة وزارت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تمثلت أمام قبر جدها عليه السلام قالت: يا رب إ قبلت لديك زيارتي ... فاجعل [بطيبة] قرب طه مدفني ثم غشي عليها فرفعوها إلى محلها فماتت ذلك اليوم ودفنت بالقرب من حرم النبي صلى الله عليه وسلم، ومرقدها المبارك معروف يزار بالمدينة ويترك به - رضي الله عنا - وهي حفيدة الغوث الأكبر سيد الأولياء السيد أحمد الرفاعي - رضي الله عنه - من بنته السيدة العارفة بالله الشريفة زينب ووالدها القطب الأعظم السيد عبد الرحيم الرفاعي الحسيني - رضي الله عنهم أجمعين. فاطمة علية هي ابنة العلامة المفضال المؤرخ الشهير جودت باشا، ناظر العدلية العثمانية سابقا. ولدت فاطمة علية في الأستانة العلية ليلة الثلاثاء السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1279 هجرية الموافق 9 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1862 ميلادية. ولما تولى والدها ولاية حلب الشهباء سنة 1282 هجرية كان عمرها ثلاث سنوات ولما ظهر عليها من أمرات النجابة أحبها حبا شديدا فأخذها معه ومكثت عنده مدة ولايته وهي سنتان تحت ناظريه. ولما رجع إلى الأستانة استحضر لها معلمين ومعلمات وهو تقلب في جملة وظائف مهمة في الدولة العثمانية إلى أن بلغت من العمر أربع عشرة سنة فتعين والدها في ولاية ثانية، وكان ذلك في سنة 1292 هجرية، فذهبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 معه ولم يمكث بها كثيرا ورجع إلى الأستانة ومع ذلك فإنها أينما توجهت فإنها مشتغلة بالعلوم والمعارف. وفي سنة 1295 هجرية لتولى والدها ولاية سورية فتوجهت معه وأقامت مدة في دمشق الشام، ثم أقامت شتاء في بيروت ورجعت برجوع والدها إلى الأستانة. وكان أول ما اشتغلت به من العلوم من سن الطفولية تعلم أصول القراءة والكتابة التركية، وتلقت دروس العربية والفارسية من عدة معلمين خصوصيين مختلفي الطبقات، ثم اشتغلت بتحصيل اللغة الفرنساوية وأتمت الحصول عليها بواسطة آنسة باريسية، ولما كانت في سورية تقدمت في تحصيل اللغة العربية بكافة فنونها من بديع وعروض ونحو وبيان وخلافه. أما العوم العقلية من توحيد وكلام ومنطق، ورياضة وهندسة، وحساب فإنها أخذتها عن والدها بأحسن مأخذ. وأما علم الموسيقى فإنها أخذته بكامل أنواعه وفروعه عن ماهرين فيه من ترك وعرب وفرس وإفرنج حتى فاقت أهل زمانها فيه. والذي يرى تفرغها لهذه العلوم يظن أنها أهملت أهمما يلزم للمخدرات من الأشغال المنزلية حالة كونها لم تهمل دوام التقدم في الأشغال اللازمة للمخدرات وقد تفردت بذلك بين مثيلاتها وفاقت كثيرات من قريناتها. وافتتحت لذاتها منهاجا خصوصيا في الإنشاءات الكلامية ولكنها لم تقتدر على التفرغ لنشر الآثار بالنسبة لاشتغالها في أول المر بالشؤون التي هي طبيعية الحصول لطائفة النساء كتدبير المنزل وتربية الأولاد. ولما عمت العلوم والمعارف في هذا العصر الحميدي إلى عموم الممالك العثمانية وخصوصا في الأستانة العلية، وابتدأ بعض المخدرات العثمانية في نشر الآثار والاشتراك في خدمة التأليف وغيرها ابتدرت المترجمة أن تسابق هاتيك المخدرات فترجمت رواية (دولانته) تأليف (جورج أدنا) أحد مشاهير أدباء الفرنساويين من اللغة الفرنساوية إلى التركية وسمتها باسم (مرام) وأبدعت فيها كل الإبداع من جهة الأسلوب والسياق وهي أول آثار براعتها ولكنها ضنت باسمها فلم تذكره بل أخفته صونا واحتجابا، وانتظرت أقوال أدباء العصر عنها ولم يتكامل نشرها حتى ظهرت علائم استحسان الأدباء للطراز الجديد الذي جرت عليه في عباراتها، وقد احتفل بها العلامة أحمد مدحت أفندي محرر جرنال (ترجمان حقيقت) التركي العبارة. وكتب جملة فصول عنها وشوقها إلى خدمة العلوم والآداب. وكثر الكلام بين أدباء العثمانيين عن سياق هذه الرواة بالنظر لخفاء اسم مترجمتها ولكن عضدها فيه مدحت أفندي وأمثاله من فضلاء الأتراك وأظهروا لهم حقيقة حالها. وبناء على تعضيد وتنشيط مدحت أفندي لها أظهرت اسمها، وابتدأت المباحثات العلمية والأدبية بينها وبينه وصارت تكتب المقالات العديدة وترسلها تحت إمضائها فتنشر في (ترجمان حقيقت) ، وذلك اشتهرت بين الأدباء اشتهارا عظيما. ولما شاع ذكرها في الآفاق وسمعت بها نساء الإفرنج السائحات صرن أول ما يردن على الأستانة يقصدن منازل السيدات العثمانيات المتصفات بالفضيلة ويزرن المترجمة ويذاكرنها في العلوم والمعارف والفنون فيجدن منها فاضلة أديبة. وقد جرت بينها وبين ثلاثة من سيدات الإفرنج السائحات محاورات مهمة كتبتها في رسالة وسمتها باسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 (نساء الإسلام) وقد نشرت في جريدة ترجمان حقيقت سنة 1892 إفرنجية وترجمتها عنها جريدة ثمرات الفنون التي تطبع في بيروت من التركية إلى العربية، ثم ترجمت هذه الرسالة إلى الفرنساوية والإنكليزية وبلغت حدها من الاشتهار. وبما أنها جاءت أحسن مقالة أنشئت من ذوات القناع، لما فيها من حسن البلاغة والإبداع رأيت أن أدرجها عقيب هذه الترجمة وإن كان فيها طول لما فيها من الفائدة وأثرا لهذه الفاضلة. وللمترجمة رواية تركية عثمانية وسمتها باسم (محاضرات) نشرتها بأسلوبها التركي البديع في الأستانة العلية. وبالجملة فإن المترجمة قد تفننت في العلوم الرياضية والفلسفية والطبيعية كل التفنن ومزجت العلوم الشرقية بالعلوم الغربية حتى صارت من مفاخر المخدرات الإسلامية ولم يضاهها أحد من النساء الشرقيات والغربيات، وهي الآن مقيمة بالأستانة العلية كثر الله من أمثالها ووسع الله بها العلوم والمعارف على جنسنا النسائي. وها هي الرسالة الموعود بإدراجها قالت: " لما كان النوع الإنساني مدينا بالطبع ومحتاجا إلى التعاون والتعاضد مع بعضه البعض تكمن في كل جهة من عقد روابط الجمعية وبسط بساط المدنية واستكمال حاجاته الضرورية، ثم تسنى له بالتدريج استحصال حوائجه الكمالية أيضا وعلى هذا الوجه ظهر اختلاف في اللغات في أي الأطراف ونشأ تباين في العرف والتعامل يخالف بعضه بعضا، وقد أدى اختلاف اللسان والمكان إلى إيجاد مباينة كلية بين الملل والأقوام حتى أنه من القديم أخذ كل فرد من هاته الملل يعيش في عالمه الصغير في حالة العزلة والانفراد لا يعلم شيئا من أحواله سواه. أجل إن الملل المذكورة لم تكن خلوا من وسائط المواصلات كالقوافل والسفن إلا أنه بالنظر إلى صعوبة الأسفار البرية والبحرية وقلة الواردات كان أهالي البلاد البعيدة غير واقفين تمام الوقوف على أحوال غيرهم من أبناء النوع الإنساني وكان إذا ظهر حادث في جهة من أوروبا لا يمكن العلم به إلا بعد سنة كاملة ومثل ذلك كانت سائر البلاد الأوروبية أيضا لا تسمع بحوادث العالم إلا بعد مرور زمن طويل. ولما أنشئت السفن التجارية كثرت الواردات وحصلت السرعة والسهولة في النقل والحركة، وقد ازدادت هذه السرعة والسهولة في الأسفار والسياحات زيادة تذكر بواسطة الطرق الحديدية، ثم اخترع التلغراف فكان واسطة للمخابرات بنسبة هذه السرعة في الأسفار حتى إن الحوادث التي كانت لا تعلم في البلاد البعيدة إلا بعد سنة صار يمكن الوقوف عليها في خلال ساعة واحدة، وبالجملة فإن العالم دخل فيطور جديد يختلف عن الطرز الأول وعلى ذلك فإن الأوربيين المشتغلين بتحقيق وتدقيق جميع الأشياء وإن كانوا قد ابتدأوا في بذل الجهد رغبة منهم في الاطلاع على خصوصيات أحوالنا قد تبين لي في خلال المحاورات التي وقعت بيني وبين بعض النساء الأوروبيات من معتبري السواح أن ظنون الإفرنج المتعلقة بنا هي من حيث الخطأ والوهم في صورة موجبة للتعجب حقيقة حتى إنني عندما سمعت هذه الأخبار الكاذبة من المرمى إليهن تعجبت تعجبا يضاهي استغرابهن مما يلقينه من الأخبار الفاسدة المغلوطة وظننت إنهن إنما يجئن عن غيرها من الملل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ومع ذلك فإن الكلام الذي سمعته من هؤلاء السائحات إنما هو مندرج في الآثار الأوروبية المكتوبة على شكل كتب السياحة وعلى هاته الحال فإن كتب السياحات المذكورة ليست من كتب المعلومات الباحثة عن حقائق الأحوال وإنما أكثر مندرجاتها تشبه الحكايات الخيالية التي كتبت على طرز القصص الرومان، فهذه الأوهام والخطيئات كيف نشأت يا ترى؟ وهل هي منبعثة عن أغراض الأوروبيين الخصوصية؟ كلا إن السواح المعتبرين يبذلون قصارى جهدهم وينفقون نقودهم في سبيل الوقوف على الحقائق المنتشرة في آفاق وأقطار العالم ليستفيد من علمهم واطلاعهم كل فرد من أفراد مواطنيهم فيجب والحالة هذه أن نفتش عن هذا القصور عندنا إذ أنه من موجبات كمال التحري عن قصور الذات، ومن يقيس قبائحه بعد توفيقها على قبائح غيره يكن لا شك في جانب الحق والصواب، ويفز برفعة القدر وعلو الجناب. معلوم أن والوقوف على أفكار الأهالي عاداتهم كما ينبغي لا يحصل ولا يتم بالتجول في أسواق البلد وطرقه ومشاهدة مواقفه المشهورة وإنما لأجل الوقوف على أحوال إحدى الملل الحقيقية يجب الاجتماع بالذكور والإناث والأخذ معهم بأطراف الحديث، ولما كانت النساء عندنا متحجبات كان الاجتماع بهن مستحيلا على الرجال ومع ذلك فإن كثيرا يوجد بين هؤلاء السواح نساء لا تقل معارفهن عن معارف الرجال فيمكن بواسطتهن أن يطلع سائر السواح أيضا على أحوال نساء المسلمين الحقيقية بمزيد السهولة لكن هؤلاء النساء العارفات أيضا لا يمكن أن يفهمن بمجرد دخولهن على عائلة لا يفهمن لغتها فإنهن يكن حينئذ كالخرس ويكتفين بتبادل النظرات. أجل إن لدينا في الوقت الحاضر عددا من النساء اللاتي يعرفن اللغة الفرنساوية على أن قسما كبيرا منهن قد تربين تربية إفرنجية صرفة بمعرفة المربيات الأوروبيات المعروفات باسم "الستينوتريس" فتعلمن اللغة الفرنساوية لا لأجل اكتساب المعارف والعلم، وإنما غربة منهن في أن يكن إفرنجيات محضا، ولما كن جاهلات للأحكام الشرعية وكن قد نبذن عادتهن الملية ظهريا وعشن عيشة إفرنجية كان الاجتماع بهن والأخذ بأطراف الحديث معهن نظير محادثة العيال الإفرنجية في (بك أوغلي) (قسم من دار السعادة يسكنه الإفرنج) فلا يستفيد محادثتهن فائدة بالكلية ولا يفهم منهن شيئا على الإطلاق، وهاته العيال السالكة مسلك التقليد إذا رغب إليهن أحد في الحصول على المعلومات المتعلقة بأصول المعيشة الإسلامية مما يكن قد نبذته نبذ التواة سكتن عن بيان استقامة وطهارة الدين المبين الإسلامي (من حيث إنهن قليلات العلم بذلك) وأخذن في الكلام بحدة وشدة عن مسائل الحجاب زاعمات أن العادات الملية مقتبسة عن الأحكام الشرعية وبالجملة فإنهن يبحثن في أشياء لا علم لهن بها فيكن سببا لمفتريات وإسنادات بعض الأجانب على الدين المطهر الذي استنرنا بمشكاته وتشرفنا بآياته. والغالب أن النساء اللاتي قدمن إلى مدينتنا من أوروبا بقصد السياحة قد أدركن هذه الدقائق فإنهن كثيرات الرغبة في الاجتماع بالعيال الإسلامية التي ما برحت عائشة على النسق السابق والأصول القديمة. وإنه يوجد قسم من العيال الإسلامية أيضا بحسب أفرادهم يعتقدون أن في تعليم النساء العلوم والمعارف إثما حتى إنهم لا يتعصبون فقط بأمر تعلمهن اللغة الفرنساوية بل يتعصبون أيضا في تدريس اللغة التركية ما زيدي عن اللزوم الضروري والحق يقال: إن هؤلاء ممن لا يعلمون ما بلغ إليه الأزواج المطهرات والبنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الزاكيات وكثير من العالمات الأديبات التي كن في صدر الإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل. ومع أن كشف وجوه النساء غير محرم شرعا وإنما الواجب عليهن أن يسترن شعورهن فإنا نرى بعضا من نسائنا يحجبن وجوههن على عكس الإيجاب الشرعي ويكشفن شعورهن، والحاصل أن الحد الوسط مفقود عندنا تتلاعب بنا أمواج الحيرة في عباب التيه فلا ندري إلى أية جهة نسير، والحال أن الإفراط والتفريط في كل شيء مضر ومذموم، والاعتدال مشكور في جميع الأحوال فإن خير الأمور أوسطها، فبناء على ذلك يلزم على السواح كي يتمكنوا من الوقوف على حقائق الأحوال أن يجتمعوا ويتباحثوا مع العيال العارفة اللغة الفرنساوية العائشة على مقتضى الأصول الإسلامية حالة كونها محافظة على أحكامها الدينية، وأفكارها وعاداتها الملية، نعم إن تمييز ذلك مشكل بالنسبة إلى الغرباء إذ أن الأجانب الذين ينزلون في فنادق (بك أوغلي) يطرحون على التراجمة الذين لا يحيطون علما بما خرج عن عالم هذا المحل أسئلة بقصد الحصول على بعض الأنباء، فيأخذ هؤلاء التراجمة بالنظر إلى اضطراهم لتأدية الجواب في إلقاء كلمات لا معنى لها فيهرفون بما لا يعرفون وتصبح أحوالنا موضوعا للحكايات الخيالية. ومن الأمور المعلومة عند سائر الأنام أن الأوروبيين لا يعترضون بشيء على أحكامنا الدينية الموافقة للحكمة والعقل وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات معذورات فيطلقون ألسنتهم باللوم آخذات التشديد في هذا الباب. بما أنني في خلال محاوراتي مع بعض السائحات المعتبرات قد اطلعت على أوهام الأوروبيين وفساد ظنونهم المتعلقة بنا، ولم يسعني ان أستر استغرابي من ذلك في خفايا القلب ورأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا من الأحاديث في المحاورات المذكورة على الوجه الآتي: المحاورة الأولى في يوم من أيام شهر رمضان الشريف في السنة الماضية أي سنة 1308 هجرية أخبرنا أن عقيلة أوروبية تدعى (مادام ف.) ، وراهبة زاهدة في الدنيا ترغبان في المجيء إلى منزلنا لمشاهدة طعام الإفطار، وبعيد العصر أقبلنا على المنزل وأخذتا تتنزهان في الحديقة الخارجية، ثم بعد مرور نصف ساعة أرسلتا تخبرنا أنهما داخلتان إلى المنزل، ولما كانت وظيفة الترجمة في منزلنا مفوضة لعهدة هذه العاجزة ذهبت لاستقبالهما في باب الحديقة تصحبني جاريتان لتحملا رداء ومظلة كل من الزائرتين. وعند دخولهما رحبت بهما باللغة الفرنسية وتبادلنا المصافحة بالأيدي ثم إن (ما دام ف.) مدت يدها إلى الجارية التي كانت تصحبني وهي الجارية القائمة بخدمة رئيسة الخدم في منزلنا - لتصافحها، أما الجارية فإنها تناولت المظلة من يد المومى إليها الثانية، وانسحبت إلى الوراء وأخذت الجارية الثانية رداءهما وبرنيطتهما ودخلت بهما إلى قاعة الضيوف وبعد ذلك قدمت لهما صاحبة البيت وأفراد العائلة وعرفتهما بهن على مقتضى الأصول الجارية. أما (مادام ف.) فهي امرأة بين الخامسة والثلاثين إلى الأربعين من العمر، والراهبة بين الأربعين إلى الخامسة والأربعين من سني الحياة، وقد علمت أن (مادام ف.) المومى إليها وزوجها والراهبة أيضا لم يأتوا إلى دار السعادة قبل هذه المدة وبعد أن أكرمناهما بالحلوى والقهوة على النسق التركي طلبت (مادام ف.) أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 تتفرج على غرفة مفروشة على الأصول التركية فأدخلناها إلى القاعدة ولما لم تر فيها غير مقعد بسيط أخذتها الحيرة وطلبت مني أن أطوف بها إذا أمكن في الغرف الأخرى فتكون في غاية الامتنان فقلت لها: إن ذلك مما يزيدنا منه وسارعت حالا في إنفاذ رغبتها وفي خلال ذلك أشارت (مادام ف.) إلى رئيسة الخدم الواقفة أمامها وقالت: أثناء دخولنا قدمت يدي لهذه السيدة فلم تتناولها وإنما أخذت من يدي المظلة والآن أراها واقفة على الأقدام لا تجلس معنا فما السبب في ذلك؟ فقلت لها: لأنها جارية أيتها المادام. فقالت: وما شأن البنات اللاتي على مقربة منها. فقلت لها: هن مثلها أيضا. فقالت: حسن جدا ولكن أيتها السيدة أرى في أذنيها أقراطا وفي يدها خاتما، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسالا وقد ظننت قبلا أنها سيدة والآن علمت إنها جارية فأخذتني الدهشة من تميزها بالحلي عن غيرها من الجواري فما السبب في ذلك وأرى أن هاته الفتاة الواقفة في الطرف الآخر لا تنقل غير قرط في أذنيها ولكن هذا القرط ليس بذي قيمة كذاك القرط، وفضلا عن ذلك فهي لا تحوي غيره من أنواع الحلي، والجارية الواقفة في تلك الجهة تحمل ساعة بسيطة وسلسالا لا غير. فقلت لها: إن الجارية التي ظننت أنها سيدة فنما هي رئيسة الخدم في هذا المنزل - أعني أنها بمنزلة مديرة لسائر الجواري - فهي التي تعلمهن كيف يجب عليهن أن يخطن ألبستهن ويسرحن شعورهن ويقمن بأمورهن الخصوصية لأنهن ساذجات غبيات، ولا تزال رئيسة عليهن حتى يصرن قادرات على إجراء ذلك وهي التي تكون بمقام الوالدة لهن مهما يكن عددهن كثيرا كان أم قليلا وسيدة المنزل تلقي التبعة عليها بأمر نظافتهن وطهارتهن فهي المرجع المسؤول ولما كانت أعمالها وخدمتها تربو على خدمة غيرها فقد أعطاها سيدها هذه الهدايا بمقابلة خدمتها. وأما هاته الجارية الفتاة فقد جلبت إلى هذا المنزل وهي في السنة الرابعة من العمر وحتى الآن لم يعهد إليها بخدمة وعمل على الإطلاق وهي الآن في الرابعة عشرة من سنها، ولما كانت غير قادرة على العمل إلى هذا الوقت لم تحمل خدمة وعملا ورئيسة الخدم التي تنظرينها الآن قد كانت من الخدم ذوات الدراية والاستعداد في عهد رئيسة الخدم التي كانت قبلها، فنالت بمهارتها هذه المرتبة وصارت رئيسة للخدم وكانت قائمة على العناية بهاته الجارية الصغيرة وعلى ذلك فإنه من الآن فصاعدا ستنتظر الخدمة من هاته الصغيرة الأعمال التي عهد بها إليها حتى الآن ستقوم بها في المستقبل بمعنى أنها أخذت منذ الآن في مباشرة الخدمة وأما القرطان اللذان في أذنيها فقد اشترتهما بالدراهم التي اقتصدتها وادخرتها من راتبها الشهري والجارية الأخرى التي تفضلت بالسؤال عنها لا تزال حديثة العهد في هذا البيت فلم تقم، إلا بعمل قليل قد مكنها من مشترى الساعة والسلسال. فقالت: أيتها السيدة إن الكلمات التي أسمعتنيها موجبة للحيرة والاستغراب، وسأتقدم إليك بطلب بعض التفصيلات إذا كان ذلك غير داع لإزعاجك فقلت لها: اسألي ما شئت. قالت: ذكرت في عرض كلامك السابق شيئا عن رئيسة الخدم السابقة فأين مصيرها ومقرها الآن؟ قلت لها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 إنها قد هيأت خدمات يمكن لهن القيام مقامها، ولما كانت قد انتهت وظيفتها وأوفت ما يجب عليها زوجناها ولها الآن ثلاثة أولاد. قالت: وأين هي الآن؟ قلت: حيث إنها ذات بعل هي الآن في بيت زوجها. قالت: هل تبقى وظيفة رئاسة الخدم في الأقدم؟ قلت لها: كلا، إن سيدة المنزل تنتخب من ضمن الجاريات اللاتي تهذبن على أيدي رئيسة الخدم أكثرهن ذكاء واستعدادا وتعينها رئيسة للخدم وسائر الجواري ينلن الهدايا مثلها بمقابلة خدمتهن ولا يمكن أن يكن رئيسات للخدم، واكتساب هذا العنوان بمجرد القدمية على أن رئيسة الخدم لا تعاملهن الساذجات ولا تأتيهن بكلام الأمر وغنما مصدر إخطاراتها وتنبيهاتها بطريق المجاملة واللطف وتعاملهن معاملة شقيقات لها. قالت: ذكرت شيئا يتعلق بالرواتب فهل تدفعون راتبا للجواري؟ قلت: لا ريب في ذلك نعم إن سيد الجاريات هو الذي يقوم بتسوية ما يلزمهن من الألبسة وسائر الحاجات غير أن لهن نفسا كما لا يخفى ولكل نفس ميل ورغبة فربما اشتهين طعاما لم يكن له وجود ذاك النهار في البيت، وربما ملن إلى الحصول إلى ألبسة تختلف عن الألبسة التي عملها لهن سيدهن، فهذه الرغائب والمشتهيات يأخذنها بالدراهم التي يدخرنها من رواتبهن ولذلك كان لهن رواتب مخصوصة قالت: وهل تعطون إلى الجاريات القديمات علاوة على ذلك هدايا؟ فقتل لها: لا، فقط هدايا أيتها لمادام وإنما متى صارت الجارية خصيصة على أهل المنزل نجهزها الجهاز اللازم، وإذا نالت الجارية حظوة في عين سيدها وكان سيدها مقتدرا فإنه هو الذي يقترن بها. قالت: ألا تشترون الجواري أنتم بالدراهم؟ قلت: أجل غير أن الدراهم التي ندفعها إنما تدفع للبائع، فالجارية لا تستفيد منها شيئا، والفائدة عائدة لأقرباء البائع أو سيده، والديانة الإسلامية تأمرنا بان نترك للجواري حقا علينا، ولأجل ذلك نعطي لكل جارية هدايا ودراهم وجهاز بمقابلة خدمتها. فقالت: يستفاد من ذلك أن الجاريات هن نوع من الخادمات؟ قتل: نعم، إنهن يشبهن الخادمات التي يستخدمن مشاهرة أو بالنسبة غير أن الخادمة إنما تعين لها أجرة ومدة معلومة فإن الجهالة في الأجرة ومقدار الجل إنما هي إجارة فاسدة. وأما الجارية فإن الدراهم التي ستنفق عليها كما أنها غير معلومة كذلك مدة خدمتها غير معينة بناء عليه كانت معاملتها مماثلة للإجارة الفاسدة ولكن جرت العادة والتعامل على هذا الوجه والدراهم التي ينفقها سيد الجارية عليها إنما تكون بمقتضى صدقاتها وثروة سيدها وهذه القيم بعينها العرف وترسمها العادة. أما مدة خدمتها فإنها وإن كانت غير معنية إلا أن الشريعة تأمرنا بهذا النص: "يجب أن تعتقوا الجارية بعد خدمة تسع سنوات وإذا لم تكن لكم ثروة واقتدار فبيعوها إلى شخص من أهل المروءة يعتقها". ومع ذلك فإن العرف والعادة قد تقدمت درجة أخرى بهذا الموضوع حتى صار يعاب على الذين لا يعتقون جواريهن بعد سبع سنوات أما ذوو البيوتات من أهل الديانة والمروءة فإنهم لا يقيدوهن بهذا المقدار لن في الدين أسباب كثيرة تقضي بالعتق وإطلاق الحرية لهن، ومن جملة ذلك أن شخصا متى نال مراما يرجوه يعتق عبدا من قبيل شكر النعمة، وإذ نذر بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قائلا: إنني إذا حصلت على القصد الفلاني أعتق لأجله عبدا وجب عليه أن يقوم بإبقاء النذر. وأما الجارية التي تقوم بتربية ابن سيدها فإنها تعطى حريتها فيا ليوم الذي يذهب به الصغير إلى المدرسة، ومن حيث إن أكثر الصغار يرسلون إلى المدرسة وهم في السن الرابعة من عمرهم كانت مدة إسارة المربيات أربع سنوات حتى إنه إذا ارتكب شخص قصدا إفساد صوم يوم واحد من صيامه فرض عليه أن يكفر عن ذلك بإعطاء الحرية لعبد واحد وإذا لم يستطع هذا الأمر فالكفارة تكون ستين يوما فيستنتج من كل ما تقدم أن إطلاق حرية عبد واحد تقوم مقام صيام ستين يوما، وعلى ذلك كان هناك أسباب شرعية وآداب ملية تجبر أهل الإسلام على عتق العبد. قالت: حسن جدا غير أن الخادمة يمكنها أن لا تخدم في المنزل الذي لا ترضاه، أما الجارية فإنها مكرهة على البقاء في الخدمة وإن يكن سيدها ظالما؟ فقلت: لماذا إن الجارية التي تكون غير مسرورة من المنزل وكانت راغبة في تركه فيكفي في ذلك أن تقول: بيعوني وحينئذ تباع إلى من ترضاه ويعجبها، وقد جرت العادة أنها لا يمكن أن تباع إلى شخص لا يلائمها، وأما من حيث الوجه الشرعي فإن الظلم والجفاء لا يجوز إتيانه بحق الأسرى على وجه الإطلاق وعند مراجعة المحكمة في الأمر فالعدالة تأخذ مجراها لدى الحاكم. قالت: يستفاد من ذلك أنه لا فرق بينهن وبين الخادمات. قلت: كلا يأيتها المادام أننا لسنا بمديونين للخدمة بهذا القدر فإن الخادمة تتناول راتبها الشهري ليس إلا وفي الزمن الذي لا نحتاج به إليها نمنحها الإذن فتذهب إلى حيث شاءت، ومتى صارت ذات بعل هي التي تهيئ جهازها لنفسها، ثم إنها إذا لم تتفق مع زوجها ورغبت في الانفصال عنه فهي بذاتها تبحث عن محل لها. وأما الجارية فليست من هذا القبيل لأنها متى صارت زوجة ولم تستطع أن تعيش مع زوجها ورغبت في أن تنفصل عنه أتت توا إلى منزل سيدها كأنما هي آتية إلى منزل أبيها وحينئذ يترتب على سيدها أن يتحرى لها على زوج ملائم فيزوجها به تكرارا والأسياد هم الذين يتولون حماية أولاد جواريهم ويساعدونهم في تعليمهم وتدريسهم، وكل جارية تشاهد من زوجها ظلما تشكو أمرها إلى سيدها الذي يدافع عنها فإذا توفي زوجها ولم يترك ميراثا كافيا لإدارتها تأتي بأولادها إلى منزل سيدها نظير هاته الجارية المعتوقة التي ترينها من هذه النافذة قابضة على يد ولدها الصغير وطائفة به في فناء الدار لأنه متى عجزت الجارية المعتوقة عن القيام بإدارة نفسها وجب شرعا على معتقها أيا كان أن ينفق عليها فإذا امتنع أكرهه القاضي على ذلك. وبعكس الأمر إذا توفيت جارية بلا عب عن ثروة طائلة كان لمانحها الحرية - أيا كان - نصيب من الإرث فينتج من ذلك أن الجواري معدودات من أخصاء العائلة تماما وزيادة عما تقدم أننا نأتمن الجواري على مفاتيح خزائننا ونسلمهن إياها مع أننا لا نأتمن الخدم عليها بالكلية، فإن الجواري لا يركبن غارب الخيانة لأن بين الجارية وسيدها صلة ورابطة كبيرة بهذا المقدار، حتى أن الجارية لا يمكن أن تخون مولاها إلا إذا كان الأولاد يخونون والديهم فإذا مرض سيدها بذلت روحها وقلبها في سبيل خدمته مخافة أن تفقده، وكان مثلها في هذا الأمر مثل الأولاد الذين تأخذهم الرعدة والمخاوف من فقد وضياع أمهم وأبيهم ثم هي إذا أصابها ألم في الرأس حصلت عناية سيدها على مثل ما عاملته تماما، ومع أن للجواري المعتوقات كل الحرية في الذهاب إلى أني شئن فلم يتفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حتى الآن أن الجارية تركت حماية سيدها الواجبة عليه حتى الموت وعادت إلى حيث يقيم أبوها وذوو قرباه. قالت: لا جرم إن ذلك منبعث عن نفرتها من أبيها وأمها وذوي قرباها الذين باعوها أليس كذلك؟ فقلت: عفوا أيتها المادام ليس الأمر كذلك فإذا سمحت أتيتك بالإيضاح الوافي قالت يا عجبا، تطلبين مني الإذن للإيضاح، وأنا أرجوه وأسترحمه إنني رأيت الأرقاء في حالة تختلف عما سمعته عنهم حتى إن الذي سمعته منك عن الأسرى هو يباين الذي كنت فهمته على الخط المستقيم، فلو تماهلت في بيان الإيضاحات لرأيت من نفسي ما يحملني كرها على تقديم الرجاء إليك بان توافيني ببيان شاف عنها فأرجوك أيتها السيدة أن تواصلي الحديث. قلت: لا يخفى أنه متى ولد للجراكسة ابنة جميلة يأخذون في الحداء لها لكي تنام سالكين في ذلك على طريقة الإفرنج الذي يعودون أولادهم على أن يسمعوهم وهم في دور الطفولية اسم رتبة المارشال والجنرال لترسخ في أذهانهم فيكون لهم ميل إلى الانخراط في الجندية، والجراكسة أيضا يسمعون بناتهم الجميلات في دور الطفولية مثل هذه الأقوال حيث يقولون للطفلة إنك تذهبين إلى الأستانة فتصيرين زوجة أحد الباشوات فلا تنسين أهلك وذوي قرباك بلا اجتهدي في إعانتهم، حتى إذا أدركت الطفلة معنى الكلام يملؤون آذانهم بمدائح سعادة وحسن حال خالتها وعمتها الموجودة في الأستانة فيتجسم الميل في الطفلة تجسما كبيرا، وتبتدئ أن تسأل نفسها عن الزمن الذي تذهب به لتحظى بالسعادة الموعودة. أما والداها فإنهما يبذلان روحهما ومطلق عنايتهما في الاهتمام بها والسبب في ذلك أنها جميلة وأنه سيأتي يوم تصير به ولي نعمتهما وعندما توصل الفتاة إلى السن الذي تعرف به نفسها تخجل لا محالة من مخاطبة والديها فتأخذ في مخابرة الفتيات اللاتي ينبئنها عن المستقبل الذي يبتسم لها وتتذمر مشتكية من الإهمال الواقع في إرسالها. ومن ههنا يتضح جليا أيتها المادام أن ذا الوالد وهاته الوالدة يرسلان ابنتهما إلى البلدة التي ينتظرها بها خاطبها، ولكن هو الخاطب الذي يقبل بنتهما بلا جهاز ولا يكلفها، نفقات، وفضلا عن ذلك فإنه الخاطب الذي يهيل عليها من سائر أنواع الحلي والمجوهرات. وأما الابنة فإنها تنفصل عن أبيها وأمها وذوي قرباها لتبحث لهم عن السعادة والمستقبل الذي ينظرونه منها، ولكن كيف تنفصل إنها تنفصل بشجاعة وبسالة تدل على أنها تخاطبهم بلسان حالها قائلة لهم: "إنني لا أحملكم ثقلة في إيجاد زوج لي، وإنما سأجده بنفسي فانظروا كيف إنني سأفيكم حقوقكم وعنايتكم بي حتى بلغت هذا الطول بصورة تظهر بها العظمة وعزة النفس". وما ينطقها بهذا القول إلا الأمنية والثقة بأنها بواسطة جمالها المنصوب مثاله في المرآة ستحصل على الزوج الذي تريده والسعادة التي ترغب فيها، والمفهوم أيتها المادام أنهم إذا لم يرسلوها أصبحت في ذلك الوقت عدوة لعائلتها ثم نأتي الآن للبحث بالفتيات غير الجميلات، فهؤلاء لما كن محرومات من آمال أولئك الجميلات من حيث إنهن لم ينلن الأمنية والثقة في النظر إلى مرآة وجوههن، بينايكن مأيوسات من حالتهن واضطرارهن إلى صرف العمر والسعي والاهتمام والخدمة في بلادهن إذ تتوارد عليهن الرسائل من بنات أعمامهن وأخوالهن غير الجميلات مثلهن اللاتي ذهبن إلى الأستانة فيقرأن في سطورها ما يفيد أنهن متمتعات بالراحة وإنهن قد حصلن على الاستراحة التامة لتملصهن من عذاب الخدمة والاهتمام بحرث وفلاحة الأراضي، ثم يتبين لهن من الرسائل التي يأخذها بعد ذلك أن الجارية التي قامت بخدمتها قد أخذ لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 سيدها منزلا مكافأة لها على صداقتها وزوجها من رجل ملائم لها ثم متى وضعت طفلا ترسل إلى أهلها سلام هذا الطفل بمعنى أنها تلوث أصابع الطفل بالحبر وترسمها في هامش الرسالة فتنوب هذه العلامة عن إهداء السلام ويظهر لهن من تلك الرسائل أن الجارية بعد زواجها لم تزل متمتعة بحماية سيدها وعنايته بها فتقع هذه الأنباء في قلوب البنات موقعا عجيبا إلى حد أنهن ينفرن من البقاء منزلهن الذي شببن به ويصير في عينهن ظلاما وتتولد فيهن الكراهة من الأطعمة التي ألفنها، وكانت لذيذة الطعم في أفواههن. وبالجملة فإنهن يرين الخدمة التي تعودن عليها ثقيلة جدا وبالنظر إلى هذه الخيالات التي تتجسم في أذهانهن لا يبقى لهن من ميل إلى العمل فيستولي عليهن الخمول والكسل، ويعرضن حينئذ أنفسهن للإهانة والتكدير من أمهاتهن وآبائهن، أو يسمعن منهن كلاما أمر من الصبر وأثقل من أتعاب الأعمال مثل قولهم لهن: (إن الخبز لا يؤكل بدون عمل) . وغير ذلك من الكلمات التي تمس كرامتهن، فتأخذ كل واحدة منهن أن تناجي نفسها قائلة: ألي غريبا أن أضطر أولا إلى الزرع، ثم إلى الحصاد، ثم لصنع الخبز لأجل أن آكل لقمة من الطعام فإذا ذهبت إلى الأستانة صرت هناك مصاحبة لأحد الأفندية فيأتيني الخبز والطعام المطبوخ، وفي مقابلة ذلك لا أسأل إلا عن خدمة المنزل، فإذا أصبحت سيدة أليس أنني أهتم بإدارة منزلي وتدبيره أما هنا فما هي المكافأة التي من المحتمل أن أراها بإزاء ما أؤديه من الخدمة؟ على أنني إذا خدمت أحد الأفندية حصلت ولا ريب على المكافأة، ثم أصير حرة وأستخدم الخدم وحينئذ أصبح سيدة. وعلى أثر هذه المناجاة تشتد بها الرغبة في الذهاب إلى الأستانة واشتغال فكر الفتيات بتصور هذه الخيالات مع محبتها أمها وأباها تنظر إليهما من قبيل شكرها النعمة، وإذا كانت الأحوال لا توجب التحسين الكلي إلا أنه من حيث إنني لم آتك بهذه الإيضاحات إلا على سبيل الحكاية والمعلومات وحيث إنني لم أتعرض فيه للحكم على إصابتها والعكس أطلب منك إذا كانت لا ترين هذه الخيالات التي تتجسم في ذهن الفتاة الجركسية موافقة لحب وطنها وعائلتها وتحميلها على حب الذات الصرف فصرحي بملاحظتك المقنعة. قالت: أرى أيتها السيدة أنك عرفت الرقيقة تعريفا لطيفا بهذا المقدار حتى يكاد يجعل كل إنسان ميالا إلى أن يكون رقيقا. قلت: كلا أيتها المدام لا يجد أن نكثر سواد الأرقاء إلى هذا الحد فإن ذلك يصيب نقصا في عدد حماتهم بالنسبة إليهم وبالنتيجة تقل قوة الحماية أيضا. وبينا كنا نحن الثنتان نتضاحك من ذلك كانت الراهبة إلى هذا الوقت لم تشترك معنا بالمحاورة، وربما لم تنتبه إليها أيضا كما ينبغي حسب ما استفيد ذلك من مرآها، أما أنا فقد انتبهت لكلام المدام انتباها يختلف عن صورته الأولى. فقلت: إن المعلومات التي بينتها لك عن الجواري إنما هي مبنية على القواعد الشرعية الأساسية وعلى عادات وأفعال الأسر التي تراعي هاته القواعد مع سائر المقتضيات الإنسانية وإلا فإن العالم منه المليح والقبيح حتى إن القبيح في بعض الأشياء متغلب على الحسن والفطرة البشرية منهمكة في تغيير وتحويل الأشياء الحسنة إلى الوجهة الرديئة، ميالة مع سوء الاستعمال، فبناء على ذلك لا ينكر بالكلية أن يتخلل مسألة الأسارة أمور شتى من القبائح إذ إنه لا بد من يوجد أيضا آباء يبيعون بناتهم اللاتي يكن غير راغبات فيا لخروج عن أوكارهن وذلك لمجرد أن يستفيدوا من ثمنهن، كما أن هناك سادت عاملون الجارية التي يكونون قد اشتروها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 معاملة تخالف المروءة الشرعية فبعد أن يستخدمونها ثلاث سنين أو خمس سنين يبيعونها أيضا من شخص آخر تكرارا، ميلا في ذلك إلى المنفعة الشخصية. ألي أن الناس [يسيئون] الاستعمال ويخبطون في لجج التأويلات الفاسدة فيما يتعلق حتى بأكثر القوانين نفعا وأشد القواعد فائدة وحسنا تبعا لأغراضهم الذاتية؟ وأما بحسب الإنسانية فإن الأمر الذي يوجب التأسي والتسلي أن الذين يذهبون هذا المذهب في سوء استعمال الشريعة وسوء تأويل العرف والعادات الإسلامية إنما هم دون الطفيف وهؤلاء من حيث الأنظار والأفكار العمومية معدودون من أرباب التجاوز الذين خرجوا عن الحق ودائرة المروءة وتلطخوا بالعار. أما المدام فإنها قد تلقت هذه الملاحظات بأهمية مخصوصة. وبعد أن اعترفت أنه كثيرا ما يطرأ على المروءة أمور من عدم الرعاية بين الآباء والأولاد والزواج والأخوة في أوروبا أيضا. قالت: أيتها السيدة إنه مهما يكن أن يقال من المطاعن على الرقيق فجميعه قد قيل في أوروبا وسطر في الأوراق وأصبح معلوما عند كل إنسان، غير أن المسائل التي كانت مجهولة لدينا عن الرقيق إنما هي النقط التي أتيت على تعريفها وبيانها، فلقد أصبحت من جراء بيانك ممتنة شاكرة على أن لي شيئا آخر أسألك إياه وهو أنك قد أحسنت كل الإحسان في بيان الآمال والرغائب التي تتجسم في مخيلات الفتيات الجركسيات عندما يفارقن آباءهن وأمهاتهن، ولكن ما رأيك وقولك فيمن يبيعون الأطفال الذين يكونون لم يبلغوا بعد السن الذي يتسنى لهم فيه أن يميزوا مراكزهم ولا يكونوا عرفوا فيه شيئا من أحوال العالم؟ قلت: أيتها المدام، إن هؤلاء لا يكتفون بان تصبح بناتهم ذات يوم من السيدات، وإنما يتشوقون إلى تزينهن بحلى العلم والتربية التي ترفع شان المرأة وتمكنها من السيادة، وهم يحبون أولادهم محبة كلية إلى درجة إنهم يأبون إبقاءهم في ذلك الاحتقار لديهم إذ تعلمين من هم الذين يشترون الجواري الصغيرات. قالت: لا جرم إن مجرد التفكر في بيعهن قد أورث فؤادي دهشة هذا حدها حتى إنه لم يبق لدي من ميل لأن أفتكر فيمن هم الذين يشترونهن. قلت: أتمنعك هذه الدهشة من الإصغاء إلى ما سألقيه عليك من الإيضاحات؟ قالت: إن بعض ممن يشترون الجواري الصغيرات هم العقيمون من البنين فيجعلوهن بمثابة أولادهن والبعض الآخر يأخذون الجميلات منهن فيهيؤنهن للسيادة بمعنى أنهم يعلموهن القراءة والكتابة ويربونهن تربية بنات المدن العظيمة ليصبحن في المستقبل بمقام السيدات، وعليه فإن سيد الجارية التي يمكن في المستقبل أن تباع بخمسمائة لير إلى ألف لير لا يقصر في الاهتمام بها والإحسان إليها بما تصل إليه يد الإمكان وأكثر العيال التي تشتري الجواري ليتزوجوا بهن إنما هي من هذا البعض الذي أشرت إليه والبعض أيضا يربون هؤلاء البنات الصغيرات في بيوتهم إلى أن يكبرن فيكن زوجات لأولادهم ويوجد قسم من هؤلاء الصغيرات تأخذن العيال الكبيرة ليكن بمنزلة مصاحبات أو رفيقات لأولادها ولكل فتاة من ذوي البيوتات الكبيرة جارية صغيرة مماثلة لها بالسن، فهذه الجارية تتعلم القراءة والكتابة مع سيدتها وتتربى التربية عينها، ومتى تزوجت السيدة يطلق سراح هاته الجارية في اليوم الذي يحتفل فيه بعرسها، ومن المعلوم أن تهذيبها كسيدتها يؤهلها للحصول على زوج ملائم لها فهذه أيتها المدام هي الأسباب التي تبعث على بيع الجواري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الصغيرات لأن الجراكسة بالنظر إلى ما يرون من هذه المعاملات الحسنة يبيعون بناتهم اللاتي يتيتمن بعد وفاة أمهن فينقلنهم بذلك من حضن والدتهن إلى أحضان والدات أخر، يعتنين بخبرهن ويحصلن في جانبهن على منتهى السعادة. قالت: لا أخفي عنك أن الإيضاحات التي سمعتها منك تخيل لي بالنظر إلى ما سمعته ووعيته قبلا إنني لم آت إلى تركيا وإنما آتيت بطريق الغلط إلى بلاد أخرى. قلت: إن السبب في ذلك منحصر في كون الأوروبيين الذين يأتون إلى دار السعادة يذهبون توا إلى الفنادق في (بك أوغلي) فيصرفون أوقاتهم بين أهالي هذا القسم من دار السعادة ليس إلا، ويتمكنون إلى حد ما من الوقوف على شؤونهم. وأما جهات إستانبول وإسكدار، داخل البوغاز فلا يعرفون منها إلا الطرق والأرصفة، ولا أكتمك أن صور المعيشة فيها وطرق أصولها وعاداتها لا تنطبق على ما ماثلها في (بك أوغلي) بل ليس بينهما قياس على وجه الإطلاق، وزيادة على ذلك إن الترجمة الذين يتخذونهم بصفة أدلاء لا يعرفون على الحقيقة شيئا مما خرج عن عالم (بك أوغلي) ، ولما كانون مضطرين إلى الإجابة عن الأسئلة التي تلقى عليهم كانوا يتكلمون بما يوافق عقلهم ولا يلائم أفكارهم وبعبارة أوضح إنهم يهرفون بما لا يعرفون، والسواح أيضا يظنون كلامهم صوابا فينزلونه منزلة الحقائق ويسطرونه فيكتب سياحتهم حتى إننا نكاد عند قراءة بعض هذه الكتب نتوهم وهما أنها تبحث في إحدى البلاد التي لا نعرفها. وفي أثناء ذلك دخلت علينا جارية حبشية، ولما كانت منذ ربيت إلى أن شبت على محبة الزينة والانتظام كانت زينتها التي دخلت علينا بها حسنة جدا، فلما رأتها المدام قالت باستغراب: من تكون هذه؟ أرى حلاها تفوق حسنا وإتقانا على حلي رئيسة الخدم عندكم؟ قلت: إنها جارية قد تربت عندنا منذ الصغر إلى أن كبرت. أما عملها فكثير، فلما حان زمن عتقها عرضنا عليها الحرية فأبت. قالت: لماذا؟ قلت: أبت ذلك محتجة أنها لن ترى في الحرية ما تراه هنا من الراحة، ولكن نحن قد تركناها مخيرة فيما ترغب أي إننا أعطيناها سندا يحق لها بمقتضاه أن تعتق نفسها بنفسها متى شاءت. ثم إن المدام نادت الحبشية - المذكورة - وأجلستها على مقربة منها وسألتها بواسطتي لماذا تأبى العتق والحرية فترجمت جواب الحبشية للمدام باللغة الفرنسية كما يأتي: قالت لها: ما فائدتي من الحرية إنني متى رأيت زوجا ملائما لي فحينئذ أعتق نفسي بنفسي، فعندئذ سألتها المدام عن الزوج الذي ترغب فيه وكيف تحب أن يكون. فأجابتها الحبشية: إنها إذا لم تحصل على زوج يطعمها نظير الطعام الذي تتناوله في بيت سيدها ويكسوها بمثل ما تكتسيه من الألبسة، ولا يحملها أكثر من الخدمة التي تقوم بها في منزل مولاها فلا تتزوج. وفي أثناء ذلك أطلق مدفع الإفطار فذهبنا إلى غرفة الطعام وجلسنا على المائة. أما المدام بعد أن أمعنت النظر في صينية الإفطار قالت: لقد جرت العادة عندنا أيضا أن يكون على المائدة بعض أشكال متنوعة مما يسمونه عرفا واصطلاحا بمقدمات الطعام أو النقول (هوردور) فينتج من ذلك أن هذه العادة مألوفة عندكم أيضا. قلت: أجل إنها عادة مخصومة بشهر رمضان ومماثلة لمائدة التي أنزلت على حضرة عيسى - عليه السلام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أما الراهبة التي كانت ملازمة للصمت المطلق ولم تشترك معنا بالحديث بل ربما كانت لم تهتم بمحاورتنا أصلا فإنها عندما سمعت مني هذا الجواب التفت إلى قائلة: ما هي مائدة عيسى التي تقلدونها. قلت: لا يخفى أن الحواريين وإن كانوا قد أبصروا لحضرة - عيسى عليه السلام - أعمالا كثيرة من خوارق العادات إلا أن جميع ذلك كان من المعجزات الأرضية، فلما رغبوا في أن يبصروا معجزة سماوية وقالوا له: (يا عيسى بن مريم أينزل ربك علينا مائدة من السماء) أجابهم قائلا: (إذا كنتم مؤمنين فاتقوا الله) فقالوا له حينئذ: (نريد أن نأكل من هاته المائدة وتطمئن قلوبنا ونعلم علم اليقين أنك من الصادقين ثم نكون على المائدة المذكورة من الشاهدين) . فقال حضرة عيسى: (يا رب أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا منك على نبوتي) . فقصة المائدة مذكورة في القرآن الكريم على الوجه المشروح. قالت الراهبة: فهل نزلت مثل هذه المائدة. قلت: نعم فقد ذهب المفسرون إلى أنه بناء على دعاء حضرة عيسى أنزلت الملائكة مائدة من السماء وكانت مائدة مغطاة بمنديل قد نزلت على حين كانت من طرفيها الأعلى والأسفل ملفوفة بقطعة من نسيج فرفع عيسى - عليه السلام - غطاءها بعد أن شكر الحق سبحانه وتعالى وقد رأى الحواريون ذلك رأى العين فكان عليها مأكولات متنوعة، وقد اختلفت الرويات في أشكال وأنواع هذه المأكولات. والرواية المشهورة تفيد أنه قد كان على المائدة - المذكورة - خبز وسمك وبعض الخضروات، وسمن وعسل وجبن ومقددات، فنحن نجمع مثل هذه الأشياء ونرتب مائدة الإفطار على هذا الوجه وبعد الإفطار منها تبركا نبدأ بمناولة طعام المساء الأصلي. وعقيب هذه المحاورة تكلم الزائرتان عن طعام الأتراك فوقعت لديهما حلوى صدر الدجاج موقع الاستحسان التام وأثنتا على لذتها واعترفتا بأن الطعام إجمالا خفيف جدا، ثم انتقلتا إلى البحث عن الصيام فبعد إذ أحاطت المدام علما أن الصيام هو عبارة عن عدم الكل والشرب من قبل الفجر إلى المساء. قالت بلسان رقيق: إن الصيام على هذا الوجه إنما هو عبادة صعبة جدا. وكأنها تحاول أن تجعلنا نعترف نحن أنفسنا بقدر هذه الصعوبة. فقلت لها حينئذ: ليس في ذلك من صعوبة على الإطلاق بالنظر إلى ما أوتيناه من الألطاف الإلهية. لا جرم أن القطاعات والرياضات عند المسيحيين ليست بأقل كلفة من الصيام حتى إنه على حين إن أرباب الزهد والتقوى في النصرانية من رجال ونساء وهم الذين انقطعوا إليهما وتحرروا من سائر الأشياء لم يكونوا بنادرين نرى إنهم لا يكاد يمرون على خواطرهم قضية كونهم عرضوا أنفسهم لصعوبة خارجة عن حد الاستطاعة بانقطاعهم عن الانتفاعات واللذات الدنيوية فما تقولين بذلك يا عزيزتي؟. قالت الراهبة: أقول إنه مهما حصل من العبادات في سبيل الشكر للطف الله وإحسانه يكون قليلا. قلت: لا ريب في ذلك حتى إنه قد ورد النص في القرآن الكريم بحق الرهبان حيث تفضل الحق سبحانه وتعالى بقوله: من أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود والمشركون وأقرب الناس مودة للمؤمنين الذين قالوا إنا نصارى وذلك لأن منهم قسيسين (علماء) ورهبانا (زهادا) وإنهم لا يستكبرون ولا يأبون قبول الحق وبعد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 انتهينا من الأكل نهضنا عن المائدة وسرنا إلى القاعة حيث تناولنا القهوة، وبعد هنيهة أخذت أترجم بني الزائرتين وبين صاحبة المنزل وأفراد العائلة، ثم إن المدام بناء على الرغبة التي أظهرتها قبلا سارت بصحبة بعض أفراد العائلة للتفرج على غرف منزلنا، وكنت وقتئذ مرافقة لهم، وكان في إحدى الغرف واحدة تقرأ تفسير المواهب، وحيث إنها كانت تقرؤه وهي مستورة الرأس بكمال الاحترام التفت الراهبة إلي وقالت سائلة: هل إن هذه السيدة تقرأ القرآن؟ قلت: تقرأ تفسيره في اللغة التركية. قالت الراهبة: بأي شيء تتعلق الآيات التي تقرؤها يا ترى؟ فسألت القارئة: (في أي سورة تقرأين) . قالت: في سورة آل عمران. فما فهمت الراهبة جوابها باللغة الفرنسوية. قالت: من تعنين بعمران؟ قلت: يوجد باسم عمران اثنان الأول والد حضرة سيدنا موسى - عليه السلام - والثاني والد حضرة مريم والاثنان من بيوت بني إسرائيل. قالت الراهبة: بأي مناسبة ورد هنا ذكر عمران؟ قلت: إن عمران قد توفي بينما كانت زوجته حنة حاملا، وقد نذرت الطفل الذي ستضعه لخدمة بيت المقدس لأنه في ذلك الزمن كانت عادة جارية عند ذوي البيوتات أن يقدموا أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس فحنة أيضا على أمل أنها ستضع ولدا ذكرا كانت نذرته لخدمة بيت المقدس، ولما وضعتها أنثى سمتها مريم ومعناه بالعبرانية (عابدة زاهدة) ، ولكن بما إنها لم تضع ذكر أصبحت حزينة متحسرة. وقالت: (رب إني وضعتها أنثى) (آل عمران: 36) أما جناب الحق فقد قبلها بقبول حسن ورباها تربية حسنة، ولما عرضتها حنة لخدمة بيت المقدس لأجل أن تفي بنذرها تسابق الجميع لأجل تربيتها لأنها بنت إمامهم ووقعت بينهم المنافسة فاقترعوا عليها فيما بينهم، فكانت القرعة لحضرة زكريا فخصصوا لها حجرة في المسجد وتعهد حضرة زكرياء بتربيتها، وفي أنا ذلك أتته البشرى من الله أنه سيأتيه ولد يكون اسمه حنا على أن في القرآن الكريم سورة منسوبة لمريم يقال لها: (سورة مريم) فيها تفصيل هذه القصص. قالت الراهبة: أرجو تلاوة هذه السورة لنسمعها. وحينئذ فتحت (سورة مريم) وصار تلاوة الآيات المتعلقة بحضرة زكريا وحضرة مريم وتفاسيرها أما أنا فبادرت بترجمة ذلك بالفرنسوية فأهمتها أن حضرة مريم رأت جبرائيل - عليه السلام - بصورة بشر وإنه نفخ الروح في طوق قميصها، وبينت لها تفصيلا أن حضرة مريم عندما شعرت من نفسها بعلائم وضع الحمل جاءت إلى جذع النخلة وقالت: بأي وجه أقابل قومي (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) (مريم: 23) ثم كيف جاءها جبرائيل وواسها وكيف تكلم حضرة عيسى وهو في المهد وما كدت أنتهي من هذا البيان المأخوذ عن القرآن الكريم والتفاسير حتى ظهرت دلائل التأثير العظيم على وجه الراهبة وقالت: يتضح من ذلك أنكم تعتقدون أن حضرة عيسى ولد بلا أب؟ فقلت لها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 كيف وعندنا أن من لا يعتقد هذا الاعتقاد يكون كافرا، فنحن لا نفرق بين أحد من الأنبياء لكن نعلم أن ستة منهم - يعني محمدا وعيسى وموسى وإبراهيم ونوحا وآدم - عليهم الصلاة السلام - هم أفضل الأنبياء فإن الله الذي خلق آدم من تراب لا يرتاب احد في كونه قادرا أن يخلق إنسانا آخر بلا أب، وهذا لا يمكن استبعاده لا عقلا ولا حكمة أيضا. قالت الراهبة: أتعتقدون أنتم بالأناجيل الشريفة. قلت: أجل، نعتقد أن الحق جل شأنه قد نزل على حضرة عيسى كتابا اسمه الإنجيل الشريف، وقد ورد ذكر الإنجيل في عدة مواضع من القرآن الكريم وذكر فيا لقرآن بعض مندرجات الإنجيل الشريف، وقد صرح القرآن الكريم: أن حضرة عيسى عليه السلام بشر بقوله: إنه سيأتي نبي بعدي يقال له أحمد. قالت الراهبة: ما المعنى من ذلك؟ إنني لا أعرف مثل هذه الرواية. قلت: فلننظر في الفصل الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر من إنجيل يوحنا. قلت: هذا وأخرجت نسخة الأناجيل الفرنسوية من المكتبة، ثم فتحت هذه الفصول الثلاثة وقرأت الآية السادسة عشرة والتاسعة والعشرين من الفصل الرابع عشر، والآية السادسة والعشرين من الفصل السادس المتعلقة بمجيء نبي بعد حضرة سيدنا عيسى - عليه السلام - قالت الراهبة: ليس في هذه الآية معنى يشير إلى مجيء نبي بعد حضرة سيدنا عيسى والكنيسة قد فسرتها تفسيرا يختلف عما ذهبت إليه. ولما كان إنجيل يوحنا دقيقاً كان لا يمكن لكل إنسان أن يفهمه. قلت: نعم، إن فهم إنجيل يوحنا كما ينبغي لفي غاية الصعوبة لكن من قراءتنا لهذه الآية يستفاد في أية حالة أنه سيأتي نبي آخر بعد حضرة سيدنا عيسى. قالت: والذات الذي يشير به أنه سيأتي قد ورد ذكره في الإنجيل باليونانية (بارقليط) ومعناه في الفرنسوية (المضري) . قلت: نحن نظن إن البارقليط محرف عن (بريقليت) . قالت: إنني لم أسمع قط بكلمة (بريقليت) . قلت: أما أنا فقد رأيتها في الكتب الفرنسوية. وأخرجت ترجمة القرآن الكريم بالفرنسية من المكتبة وقرأت الآية السادسة من سورة الصف وأشرت إلى حاشية المترجم (فارميرسكي) المتعلقة بذلك وها أنا أنقلها حرفياً وذكرته حرفياً وصار تعريبه كما يأتي: إن لمحمد عن المسلمين عدة أسماء بمعزل عن النعوت وبعض الصفات وهي تبلغ نحو المائة عدا فهو يسمى أحمد والمعظم والمصطفى والمختار ومحمود والمبجل إلخ. فكلمة (ماهوميت) المتعلمة عندنا مأخوذة عن محمد (المبجل) ، وهذه الكلمة آتية من أصل كلمة أحمد ومعناها تماما وهي - أي كلمة أحمد - مماثلة لكلمة باراقليط باليونانية أي المعظم، فالمسلمون يدعون أن يسوع المسيح - عليه السلام - وعد بمجيء محمد أخذ منه معنى بريكيلتوس (إنجيل يوحنا السادس عشر 11) وأن البارقليط بارا كلينوس الذي يفسر بنزول الروح القدس ليس إلا تغير عن بريكيلنوس وتصوره ضعف إيمان المسيحيين. قالت المدام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 قد توسعنا بهذا البحث الديني ونتائج مثل هذه الحقائق إنما هي من الأشياء التي لا تظهر إلا في الآخرة. قلت: لا شك ولا ريب غير أننا نحن منذ الآن لا يمسنا خوف واضطراب من هذا الوجه على الإطلاق فإن سيدنا ونبينا صلى الله عليه وسلم قد جعل أمته تعرف الأنبياء السالفين - عليهم السلام - وتصدقهم وكأنا بذلك قد استحضرنا توجههم وشفاعتهم لأجلنا. وعند ذلك أذن المؤذن للعشاء فنهض أهل المنزل لأداء صلاة التراويح وحينئذ سألت الزائرتان عن سبب ذهابهن فأنبأتهما أنهن ذاهبات لأداء الصلاة التي تؤديها في ليالي رمضان. قالت المدام: ألا تذهبين أنت لأداء هذه الصلاة؟ قلت: إن وظيفة إكرام الضيوف منوطة بي هذا الوقت وسأذهب لتأديتها بعدئذ. قالت: أيمكن لنا أن نحضر ونرى هذه العبادة؟ قلت: إذا رغبتما في تحمل المشقة فلا بأس من ذلك إن مثل هذه العبادات عندنا غير ممنوع على أحد أن ينظرها ودين المسلمين ظاهر للعيان، وفي ذلك أقوال مشهورة. قالت: نكون في غاية الامتنان. فقلت: تفضلا، وسرت بهما إلى محل النساء المفروز عن محل الرجال وهناك أخذنا في مشاهدة ومعاينة اللاتي يؤدين الصلاة جماعة، وكانت تسألاني عن معاني سورة الإخلاص التي تكرر بعد كل سلام فأترجمها لهما. قالت المدام: لا جرم أن هذا التكرار (لسورة الإخلاص) له قدر فإن بها ألفاظا جميلة جدا. وعندما قرئت الآية الكريمة وهي (ربنا آمنا) إلى بعد سورة الإخلاص في آخر سلام التراويح رفع الجميع أيدهن إلى العلا فسألتني الزائرتان بقولهما: ما الذي تقرؤه المصليات. فقلت: إنها آية من القرآن الكريم وهي حكاية كلام الحواريين ومعناها: (يا ربنا قد آمنا بالكتاب الذي أنزلته علينا واتبعنا الرسول (عيسى) فاكتبنا مع الشاهدين) . وهذه الآية تقرأ عادة في نهاية صلاة التراويح التي تقام في شهر رمضان. فقالت الراهبة: ما قولكم أنتم في الحواريين؟ قلت: هؤلاء نعم من خواص أصحاب حضرة سيدنا عيسى - عليه السلام -. قالت الراهبة: أتقولون إن حضرة سيدنا عيسى ابن الله؟ قلت: كلا، نقول إنه عبد الله ومن كبار الأنبياء. قالت الراهبة: أما تعتقدون أنه ولد بلا أب؟ قلت: نعم كما تقدم سابقا إن الحق سبحانه وتعالى بلا أب على وجه خارق للعادة وخلق آدم من التراب بلا أبد ولا أم، وقد عبر عن آدم أنه ابن الله في آخر آية من الفصل الثالث من الإنجيل لوقا، وورد التصريح في التوراة بعد وقعة قابيل وهابيل أن أولاد آدم قد انقسموا إلى فريقين فكانوا أبناء الله وأبناء الشيطان، ولو اقتضى أن يكون الحق جل جلاله له أبا حيث إنه ولد بلا أب لزم عن ذلك أن يبحث له عن أم ولو قيل: إنه ملك لسقط القائل بذلك في عقائد الميتولوجي الباطلة التي نهت عنها الشرائع والشريعة الموسوية أيضا، ولو كان يعبر عن الله بلفظه أب لكان العبيد المؤمنون والأعزاء يقال لهم: أبناء الله، لا جرم أن لكل ملة مثل هذه التعبيرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 المجازية، وبينما كان التعبير عن الله بالأب من هذا القبيل المجازي إذ نهض للتفتيش عن الأبوة الحقيقية فحصل الإيهام من تعبير الأب والابن بالنبوة والنبوة المادية وبسبب ذلك منع استعمال هذه التعبيرات في الشريعة الإسلامية، وإلا فإننا نحن أيضا نسمي الكعبة المكرمة بيت الله - يعني البيت المحترم والمشرف - عند الله - وذلك لا يفيد أن لله بيتا حقيقيا فإن الحق سبحانه وتعالى منزه عن المكان كذلك يقال: عندنا يد الله والمراد بها قدرة الله لأن الحق جل جلاله منزه عن الجسمانية. قالت الراهبة: أتعتقدون بانتقال حضرة سيدنا عيسى إلى السماء بعد صلبه؟ قلت: نعتقد بصعوده إلى السماء ولا نعتقد بصلبه. قالت: يا عجبا ما هذا القول؟ إن اليهود يقولون نحن صلبناه ونحن نقول: نعم، إنهم صلبوه أليس مما يوجب النظر أن دينا يأتي بعد ستمائة سنة يكذب الطرفين؟. قلت: ليس في هذه المسألة عند المسيحيين من رواية وصلت إليهم بلا انقطاع من تبع يتعلق بهم توا وإنما أخذوا الشيء الذي سمعوه من اليهود فقبلوه. فالإسلامية والحالة هذه لا تجرح رواية النصارى على الإطلاق وإنما تجرح رواية اليهود لأنه من المعلوم أن اليهود أخذوا سيدنا عيسى - عليه السلام - ليلا إلى أحد البيوت وإذ ذاك تفرق الحواريون بأجمعهم على انه وإن كان أحدهم قد ذهب من خلفه حالة كونه بعيدا عنه إلا أن هذا قد ذهب بحال سبيله حينما أدخلوا حضرة سيدنا عيسى - عليه السلام - إلى ذلك البيت ولم يطلع أحد على ما حصل في الداخل، وقد كان في ذلك اليوم أشخاص أخر حكم عليهم بالإعدام فمن اشتداد الظلمة ظن أنهم أخذوا سيدنا عيسى، والحال أنهم صلبوا شخصاً شبه به والحق سبحانه رفع سيدنا عيسى - عليه السلام - إلى السماء فهذا هو الحق الذي بلغناه. وحينئذ تمت الصلاة فتقدمت المرطبات على جاري العادة وأخذنا في مداولة أحاديث الوداد وبعض النوادر ثم إن المدام أوضحت لنا إذ ذاك أنها قد حصلت على المعلومات اللازمة من سياحتها، واطلعت على أشياء كثيرة كانت تجهلها من قبل فشكرت لنا كل الشكر وحمدت ما رأته منا من الإكرام لها والعناية بها، واشتركت الراهبة بالثناء أيضا مصرحة بامتنانها وسرورها مما رأته ووقفت عليه، وكلاهما ودعتانا أحسن وداع وذهبتا ممتنتين شاكرتين. المحاورة الثانية بعد أسبوع واحد من اجتماعنا بتينك الضيفتين - كما فصلنا ذلك فيا لمحاورة الأولى - أخذت كتابا، ولما فضضت ختامه وجدت ضمنه رقعة زيارة وكتابا آخر مظروفا وقد خط على رقعة الزيارة كلمات معناها أن مرسلتها تود أن تعلم ما إذا كان يمكننا قبولها في منزلنا أم لا. وإذا أمكن ففي أي وقت يتسنى لها أن تزورنا، وبما أنني لم أعرف اسم المرسلة المومى إليها فضضت ختام الكتاب الثاني فعرفت توقيع صاحبته وهي مدام من معتبري السواح كانت جاءت منذ السنة الماضية إلى دار السعادة واجتمعت بها في منزلنا وقد ذكرت بكتابها اجتماعنا الماضي. ثم قالت: إن مدام ر. إحدى حبيباتها الأعزاء متهيئة للذهاب بصحبة زوجها لمشاهدة دار السعادة، وإنها قد طلبت منها الإيضاحات اللازمة عن المحال الحرية بالنظر والفرجة فيها من حيث إنها كانت ذهبت قبلا إليها، وإنها كثيرة الشوق والميل للاجتماع مع العائلات التركية وسألتها عن الواسطة التي تمكنها من الفوز بهذه الأمنية وإن هذه المدام من العالمات الفاضلات اللاتي يسر الاجتماع بهن ولأجل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أوصتها أن تذهب إلى منزلنا، وإنها على أمل تام من أنها ستلاقي فيه مطلق الحرية. ثم زادت على ذلك بأن مدام (ر.) وإن كانت إنكليزية المحتد والنشأة إلا أنها عارفة بعدة لغات، وهي تعرف اللغة الفرنسوية، كما تعرف لغتها وأنه لا يمكن أن تجعل لنا ثقلة من التكلم معها واختتمت كتابها بقولها إن مدام ر. المومى إليها الحرية بأن تدعى فيلسوفة وإنه ليس في هذا الوصف مغالاة على الإطلاق وحيث عن الشخص الذي أحضر الكتاب كان لا يزال في انتظار الجواب بلغته أن يخبر المدام المومى إليها أن تتفضل لزيارتنا في اليوم الثاني وأن تؤانسنا بمناولة طعام الإفطار معنا. وفي اليوم - المذكور - وفد على منزلنا عدد من ذوي قربانا للإفطار وذلك جريا على العادة المألوفة في شهر رمضان من التزاور الذي يحصل بين الأهل والأقرباء وبينما كنا جالسين في القاعة قبيل الساعة الحادية عشرة من النهار دخلت علينا جارية، فقالت: أنبئت من الخارج أن المدام قد أتت وأنها على أهبة الدخول إلى فناء الدار. وما كادت تتم عبارتها حتى نهضت مسرعة لاستقبال الضيفة المومى إليها وقد كنت أظن مما اقتبسته من رواية صاحبة الكتاب أنني فيلسوفة طاعنة في السن فإذا بي أرى غيداء حسناء لا تتجاوز الثلاثين من العمر، وكانت هذه المدام مرتدية بلباس في غاية الحسن، وملقية على كتفيها شتوية موافقة لآخر زي ولائقة بأعظم الزيارات. وعند مقابلتي إياها رفعت قبعتها عن رأسها فتجلى للعيان شعرها المعقود بيد أمهر المواشط، وكان مجموعا في أم رأسها بطريقة تستجلب الأنظار. لا جرم أن كتابة صاحبة الكتاب السابق الإيماء إليها كانت تحملني على الاعتقاد بأن الفيلسوفة التي سأراها في دار السعادة يجب أن تكون من النساء المسنات اللاتي لا تهمهن الزينة ولا يعتنين بالأزياء. ولكنني بعد أن تمكنت من معرفة مدام ر .... علمت أنها ليست من الجاهلات اللواتي بيضت المطاحن شعورهن وإنما هي قد تلقت العلوم والفنون منذ سن الصبا عن والدها الذي يعد من عشاق العلم والمعارف وأنها ما فتئت إلى الآن صارفة قصارى جهدها وجدها إلى اقتباس الآداب، فما وصلت إلى الثلاثين من عمرها حتى كانت قد صرفت معظمه في سبيل التحصيل وبلغت شأوا رفيعا في التهذيب وثبت عندي مما رايته فيها من الميل والاجتهاد إلى الوقوف والاطلاع على جميع ما تعرفه دون الطفيف وأن الطواحين لن تبيض شعرها الذي لا يزال غير مبيض، ولا يمكن أن تصل أوقاتها بالبطالة وأنها ستصرف بقة عمرها في طلب المعارف وتحصيل العلوم والفنون كما صرفته إلى هذا الوقت فكانت حرية بأن يطلق عليها اسم الفاضلة، وأما إتقانها للزينة وتغاليها في الكسوة وترتيب شعرها فلم يكن إلا لأجل المحافظة على شرف اسمها وعنوانها بين قريناتها ولكي لا يمزق عرضها الناقدون وينسبوا إليها الخسة والبخل مع ما هي عليه من الثروة العظيمة. والغريب أن هذه المدام ليست من النساء اللاتي يحملن جمالهن على الكبر والغرور فإنها كانت كأنها لا تعرف هذا الجمال ولا تنظر إليه بل لا تهتم به، وإنما كانت تنظر إلى جمال طبيعتها وأخلاقها وأغرب من ذلك أن هاته الحسناء التي هامت بالعلم وتيمها عشقه ولم يكن في قلبها أدنى فراغ يسع غيره قد اقترنت برجل هو في سن والدها لأنها قد سلبت بعلمه وعشقت فضله، وكان هذا الزوج العالم واسع الثروة فتمكنت بواسطة ذلك من تحصيل سائر العلوم ووقفت على جملة أشياء، ولما كانت راغبة في أن تشرك حاسة النظر بحاسة الإدراك وان تشاهد بأم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 رأسها ما درسته من الفنون وما اطلعت عليه من سائر آداب وآثار الدنيا أخذت تطوف في كل جهة من العالم بصورة لائقة بمركزها قصد التسوح والتفرج على آثار الكون. وكانت هذه المدام ناقلة مروحة جميلة جدا قد سلمتها مع ردائها إلى الجارية، وهذه المروحة من المراوح ذات القيمة التي تنقلها أكبر المدامات لا لأجل رفع الحر وترطيب الهواء، ولكن لأجل إظهارها للناس وبيان قيمتها وغلاء سعرها حتى ولئن كان الهواء رطبا وليس من حاجة إليها، ولما كان هواء تلك الليلة غير حار إلى حد أن يكون هناك حاجة إلى استخدام المروحة لم تشأ هذه المدام أنت تبقيها معها عند دخولها إلى القاعدة فتركتها مع الجارية في الخارج، وقد دل هذا العمل دلالة واضحة على أنها لم تنقل هذه المروحة بقصد الفخفخة وإنما تقصد المحافظة على شأنها وشهرتها ليس إلا، وبالجملة فإن هذه الرقة المجسمة التي لم تكن تعرف ما هو الغرور ولم تختبر العظمة والكبر كانت بادية عليها آثار التواضع ومخايل أنس الجانب وكانت تتكلم بصوت لطيف يقع إلى أعماق القلب، ويدخل الآذان بلا استئذان، وكان شعرها الكستنائي النادر في الإنكليز وعيناها الزرقاوان تزيدان سيماها الجميلة جمالا وعذوبة. أما ألبستها لأنها وإن كانت كما فصلت قبلا حسنة، ومن آخر زي غير أنها كانت في غاية البساطة ولم تكن مزينة بالأزهار وما مائل من أنواع البهرجة، وكانت تشير إلى نبالتها وكمالها. بعد أن نزعت ردائها وقبعتها وكنت قد سرحت بجملتها نظر الانتقاد قدمت لها ساعدي. قالت: أيتها المدام إن جمعيتنا لما كانت خلوا من الرجال أقدم لك ساعدي فعساك أن تتفضلي بقبوله. قالت: أشكر لك أيتها السيدة مكارم أخلاقك أفلست أنا متشرفة بالسيدة التي أثنت عليها صديقتي مدام ج. قلت: إن العناية بالضيف فرض واجب القضاء علي فلا حاجة لما تفضلت به من عبارات الشكر والشرف الذي أشرت إليه إن هو إلا إحسان أولتنيه مدام ج. ... على غير استحقاق. وبعد أن أخذت المدام بذراعها إلى القاعة عرفتها بصاحبة المنزل وأفراد العائلة وسائر من كان من الأقرباء والأنسباء كل منهن على حدة وترجمت لصاحبة الدار وأفراد العائلة التحيات التي كلفتها بها مدام ج. المومى إليها وبلغتها تشكر كل واحدة منهن وحينئذ تقدمت للمدام القهوة فشربت فنجانا كاملا وقالت: إنها مل تكن تألف شرب القهوة ولكن إنها لم تذق إلى الآن مثلها، ولذلك شربت الفنجان بتمامه أما أنا فقد بينت لها أن للترك طريقة مخصوصة لطبيخ القهوة تختلف عن طريقة الإفرنج وعرفتها كيفية طبخها، ثم أنبأتها أن القهوة هي من البن عكس التبغ فبمقدار تطوافها في البحر بمقدار ذلك يفسد طعمها، وأن هذه القهوة هي من البن اليمني قد أتى بها إلى الشام بواسطة عربان غزة وجلبت منها إلينا فلم تمر على البحر إلا من بيروت إلى هنا ولذلك كانت مرجحة على غيرها، ثم سألتني المدام عما إذا كان في عزم السيدات الموجودات عندنا أن يبتن في منزلنا هذه الليلة أم لا فقلت: أن منازل أكثرهن قائمة على الخليج فسيذهبن إليها على ضوء القمر وأن هاته الليلة هي الليلة الرابعة عشرة من الشهر فقد اخترنها للإفطار على قصد أن يستفدن بل يتمتعن بلطافة نور القمر وقت تمه. قالت: إنني على حين كنت راضية بأن أجتمع بعائلة تركية فاجتماعي هذه الليلة اتفقا بعدة عائلات قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ملأ فؤادي سرورا فأنا أشكر لهن اختيارهن هاته الليلة للإفطار ومجيئهن إلى هذا المنزل حيث أسعدني الحظ بمرآهن. فترجمت كلام المدام لهن ونقلت لها كلامهن الدال على أنهن يشعرن بمثل ما تشعر به من المسرة والامتنان، ثم قلت لها: إن السيدات قد تولتهن الدهشة من جمالها ورقتها وأنهن لن يقنعن ببيان منتهن لها ولكن يتأسفن لعدم معرفة اللسان لمسامرتها مباشرة. وجملة القول: إنني بواسطة الترجمة ونقل كلام الفريقين إلى البعض الآخر مكنت اللغة والصحبة بين المدام وبين السيدات ومع أنه لم يمر على مجيء مدام ر. ... إلى دار السعادة أكثر من أسبوع واحد فقد خصصت من وقتها ساعة واحدة لتعليم التركية فحفظت منها جملة مفردات، وبينا كنت أترجم لها كلام السيدات المومى إليهن كانت في بعض الأحيان تجيب بلفظة نعم أو لا إشارة إلى أنها كانت تفهم بعض الكلمات، وكنت أترجم لها ما خفي عنها من سائر العبارات، وكانت المفردات التي حفظتها في خلال أسبوع مسطرة في محفظتها وهي كثيرة جدا إلى حد يوجب التعجب وقد أنبأتني أنها عند رجوعها إلى بلادها لا تهمل تعلم التركية وإنما ستستمر على الدرس والمطالعة، وكانت تلفظ المفردات التي تعلمتها لفظا حسنا مما يثبت لها الاستعداد الطبيعي ومع أنها إنكليزية المحتد والمولد فقد كانت تتكلم الفرنسية كإحدى الباريسيات. وكانت منذ دخولها إلى القاعة تمعن النظر أيما إمعان بجميع من كان هناك من السيدات منتقلة من الواحدة إلى الأخرى على أنها لم تكن تنظر إليهن بعين البلهاء الحمقاء، وإنما كانت تلقي عليهن نظرة التدقيق والإمعان أما أنا فقد حملت ذلك عنها على رغبة التأمل بالنسبة للسيدات التركيات وطريقة زينتهن، وبعد مدة انقطعت عن الكلام توا وضاعفت تدقيقها وإمعانها لكل من الخواتين على حدة، ثم ما عتمت أن ظهرت على وجهها آثار التفكر كما يحصل في الغالب لكل إنسان يحاول الحصول على شيء يراه ممتنعا عليه وقرنت حاجبيها قليلا فباحت شفتاها بما في ضميرها والتفت إلي قائلة: لقد بذلك جهدي هذه الفترة على أمل أن أتمكن من كشف شيء كنت أدعي الحصول عليه فلم أتوفق إليه وذهب ذلك التفكر أدراجا فإني ألجأ إلى مروءتك بإزالة ما حصل لي من اليأس على أثر إخفاق مسعاي وعساك أن تمني بإيضاح يكون لي منه ما أرجوه من السلوى. فقلت: مري أيتها المدام. قالت: مَن مِن هؤلاء السيدات الموجودات في القاعة ضرة للأخرى؟ قلت: عفوا أيتها المدام أتسمحين لي قبل أن آتيك بالبيان عما أمرت به أن أسألك سؤالا واحدا. قالت: تفضلي أيتها السيدة. قلت: على أية صورة تدعين كشف المسالة. قالت: بنظر أن كلا منهما ضرة للأخرى فلقد مر علي هنا نصف ساعة تحريت بها عمن تنظر إلى الثانية منهن بعين الخصومة والبغضاء، ولكنني لم أر إلا أن كل واحدة منهن تنظر إلى الأخرى بعين الحب والتودد لا جرم أن فقدان الضرائر في مثل هاته الجمعية الكبيرة كان يحملني على التفكر بأن ذلك ممتنع الإمكان في تركيا لعلمي أن عدم وجود الضرائر نادر بدرجة يشير بها الزوج إلى زوجته بالبنان أما الآن فدق تأسفت إذ علمت أن نظري الذي كنت أظنه قد خدعني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قلت: لم يخطئ نظرك أيتها المدام وإنما أنت على مثل ما علمت إلا أن الجهة الثانية معاكسة لما تعلمين على الخط المستقيم لأن وجود الضرائر هو نادر إلى درجة يشار إليها بالأصابع. قالت: عفواً أيتها السيدة، فما هذا القول؟ قلت: لا أقول إلا الحقيقة أيتها المدام. قالت: فإذن لا يوجد ضرائر بين السيدات الموجودات هنا في الوقت الحاضر. قلت: كما أنه لا يوجد بينهن ضرائر كذلك لا ضرة لإحداهن مع الأخرى. قالت: إنني بحسب الأنوثة ولئن كنت ممتنة بسبب محبتي وميلي إلى السيدات بنات النوع من ندرة تلك الحال إلا انه من حيث وجود الضرائر فلو تمكنت من مشاهدة مثل هؤلاء لأصبحت في غاية الامتنان. قلت: لقد نطقت بالصواب من ذلك أنه على حين أنك تركية فأنت بهذا الخصوص من رأيي. قلت: إنني إلى الآن لم أفهم ماهية فكرك أيتها لمدام فإنني لست منفردة بالتأثر على السيدات اللاتي يتزوج رجالهن بعيرهن وإنما السيدات التركيات بجملتهن متفقة معك على فكرك. قالت: أما أنا فقد كنت أسمع أن المرأة التي يقترن زوجها بامرأة غيرها لن تتذمر من فعله وإنما تحسب ذلك أمرا إلهيا فتمتثله بالطاعة والإذعان. قلت: لو كان ذلك أمرا إلهيا على الإطلاق لوجب على كل رجل أن يقترن بأكثر من زوجة واحدة إن الله سبحانه وتعالى يأمر الرجال أن يقترنوا حالا بزوجات على زوجاتهم وغنما سمح وأجاز ذلك عن مسيس الحاجة فلو كان هناك أمر إلهي كما تقولين ففي وقت الموت أيطلب فقط أمر الله لا جرم إنك تعتقدين مثلنا أن أمر الموت بيد الله ولكن هل أتى عليك زمن طلبت به هذا الأمر. قالت: لا أنكر عليك الحق في مثل هذا الوجه ولكنني سمعت أن الله في الشريعة الإسلامية أمر الرجال أن يقترنوا بأربع زوجات. قلت: إن هذا الأمر الذي تقولين عنه إنما هو بمثابة إذن إجازة الله بحسب الإيجاب، ولقد كان تعدد الزوجات جائزا في الشرائع السالفة بل لم يكن له حد معلوم أيضا، فالشريعة الإسلامية نهت عن أكثر من أربع وهذه مقيد بقيود وشروط صعبة جدا بحيث إن في إجرائه على صورة موافقة للشرع إشكالا لا مزيد عليه لأن الرجل الذي يقترن بزوجات متعددات يجبر أن يفرز لكل منهن منزلا على حدة وأن تكون نقوش غرفه مماثلة لبعضها البعض الآخر فضلا عن الأثاث والرياش وأن لا يكون ثمة بون وفرق بين ألسبتهن وزينتهن، وفي مثل ذلك لا أزيدك علما بما هناك من صعوبة المتعسر تذليلها، ولما كان من واجبات الرجل عندنا أن يهتم بإدارة زوجته وطعامها وكسوتها وسائر حاجاتها كان تعدد الزوجات نادرا بالنظر إلى تعذر القيام بضروريات واحدة فضلا عن كثيرات في عصرنا الحاضر، وزيادة عن ذلك أن المرأة التي لا ترى من زوجها عناية بشؤونها وإدارتها يحق لها أن تذهب إلى المحكمة فتشكو ظلامتها والمحكمة تأمر الرجل أن ينفق على زوجته كما أمن الزوج يصبح حينئذ مجبرا على امتثال هذه الأوامر. قالت: إن الرجل المتمول يقتدر على إدارة أربع زوجات فلا يمنعه ذلك من تعددهن. قلت: كلا، لا يمنعه من ذلك ولكن مشروط عليه أن يساوي بين كل من زوجاته وان لا يميز إحداهن عن الأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 بالعطايا والهدايا ولا يظهر لواحدة منهن حبا يزيد عن حبه للأخرى فإذا خاف أن لا يعدل بينهن فيجب عليه شرعا الاكتفاء بواحدة. قالت: يا عجبا إن المشاكل كثيرة أمل يكن أولى من التعصب ووضع هذه المشاكل والعقبات منع هذا الأمر؟ قلت: يا أيتها المدام فإذا كانت الزوجة عقيمة والزوج راغبا في البنين أو كانت المرأة مريضة والزوج يطلب زوجة أفلا يساعد بزوجة أخرى؟ قالت: ألا يوجد طلاق فإن طلقها ويأخذ غيرها ويجتمع بزوجة واحدة. قلت: إننا نصرف النظر مراعاة لخاطرك عما تلاقيه المرأة العقيمة من المحنة والمشقة إذا لم تتمكن من الحصول على زوج آخر ولكن كيف نسمح بطرح الزوجة المريضة في قارعة الطريق؟ قالت: إنني أوافق على هذا القول بالنظر إلى كونه صوابا فقط ماذا تقولين عن رجل يتزوج على زوجته مع أنه ولدا ومع أن زوجته حسناء ومتمتعة بأحسن صحة؟ قلت: أيتها المدام إن الحمام يكتفي بأنثى واحدة على أن الديك يتسلط على عدة دجاجات أليس الإنسان نوعا من أنواع الحيوان؟ قالت: أليس التمثل بالحمام أقرب إلى الملاءمة والصواب؟ قلت: لا جرم أن ذلك منتهى الحكمة والحق والأكثرية على هذا المذهب إلا أن الشريعة اللازمة لجمعية مدينة مؤلفة من ملايين من النفس يجب أن يكون لها أحكام موافقة لأي الأحوال تدفع بها عن ذويها سائر المحذورات وتنيلهم ما يبتغون المسرات والطيبات وإنني لأحكم معك أيضا أنه في سوء استعمال المساعدة الممنوحة في تعدد الزوجات مظلمة للنساء غير أن النساء اللاتي لا يحتلمن هذا الظلم والاعتساف لهن حقوق معلومة على حدة تنقذهن من هذا الجور، فالمنع القطعي في تعدد الزوجات قد أورث الجمعيات المدنية أضرارا وخسارات شوهدت رأى العين. ومن جملة ذلك أن كثيرا من الرجال الأوروبيين في الوقت الحاضر أصبحوا بلا زوجات وعددا غفيرا من النساء بتن بلا أزواج فاتسع بذلك مجال العادات السيئة ألا وهي كثر المسيكات والخليلات، فول شئنا أن ننقذ النساء من تأثر الضرائر أي من أن يكون لرجل واحد ثنتان أو ثلاث لفتح خرق أمر وأنكى من الخرق الأول، بمعنى أنه يظهر إذ ذاك أكدار لعدد من بني الإنسان وأورثهم هذا الأمر خجلا يلازمهم طول العمر، على انه إذا اتفق عندنا أن رجلا كان قليل الوفاء واقترن بامرأة ثانية علاوة على زوجته الحسناء الفتاة الصحيحة البنية أمكن لها أن تطلق منه وتقترن بزوج آخر كما تريد وتجدد سعادة حالها. ولكن هل في وسع الأطفال الذين لا علم لهم بأنفسهم وما يصيرون إليه في مؤتنف الأيام وما يتقلب عليهم يوميا من صنوف الضر الذي تسود به وجوههم أن يمتنعوا عن المجيء إلى الدنيا؟ إن المرأة المسلمة تحرم شيئا من الحقوق الإنسانية في أي الأحوال على أن أولئك المساكين الذين يدعون أولادا طبيعيين محرومون من جميع الحقوق الإنسانية فإنهم مهما بذلوا من السعي والإقدام ومهما أجهدوا نفوسهم ومهما بلغوا من المعرفة والعلم والثروة الواسعة لا يمكن الافتخار بهم. وإنما يكونون حطة لوالديهم ويضعون من قدرهم ويوجبون لهم الحياء والخجل، وليس من عائلة تقبل في تزويج إحدى بناتهم برجل منهم إذ من حيث إنه لا عائلة له لا يليق به الانتساب إلى عائلة ما. أما البنات ومصيرهن فلا أرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 من حاجة للإفاضة بهذا الموضوع لما أن ذلك معلوم لديك فإنهن محرومات من أن يحببن ويكن محبوبات لأن علامة (النقولة) منقوشة على جباههن بصورة لا تمحى على الإطلاق فما ذنب هؤلاء أيتها المدام؟ قالت: لا جرم إن هؤلاء المساكين لم يأتوا إلى الدنيا في الحالة التي يرغبون بل بعد ذلك لا مناص ولا مخرج لهم من هاته الحال وإن كانوا غير راضين عنها. قلت: أما المرأة المسلمة فتكون ضرة برضاها وإذا أبت ذلك فتطلق وتذهب إلى زوج آخر، والشريعة الإسلامية لكي تمنع مجيء أولاد الزنا إلى الدنيا منعت الزنا قطعيا وأجازت للرجال الذين لا يكتفون بزوجة واحدة تعدد الزوجات، ومقابلة لذلك وضعت الطلاق بحيث إن النساء اللاتي لا يرغبن أن يكن ضرائر يمكنهن أن يبحثن عن زوج يرضى بزوجة واحدة. قالت: لقد أصبت فيما رويت من هذه الجهة فلا أزيد على لفظة الاستحسان شيئا ولكن من حيث إننا من نوع النساء يجب أن تندرج في مراقي الغيرة قليلا ونتكلم كلمات لأجل حماية أهل النوع إن الزوج والزوجة هما جسم واحد فبينا يجب أن يعيشا بالحب الكائن بينهما دون أن يتخلله شيء من الشبهات إذ نرى الزوجة المسكينة في كل يوم بل في كل ساعة تناجي نفسها قائلة: (هل إن زوجي يتزوج علي بامرأة أخرى) فبحقك أية لذة من حياة الخوف والقلق والاضطراب؟ قلت: إذا وجد نساء يفتخرن بمحبة أزواجهن فليس إلا نساء المسلمين أيتها المدام إن تزوج الزوج على زوجته حالة كونها في قبضة يده أي حالة كونه لم يتركها فيفيد كأنه لم يتزوج، لأن المحافظة على زوجته دليل محبته لها ولا يمكن أن يقام أعظم من هذا الدليل على إثبات حب الزوج ووفائه والرجال عندنا لا يكونون تحت منة النساء كما يحصل عندكم بسبب المهر المعكوس ليتحاشوا الزواج ثانية بل بعكس ذلك فإن الرجل حين الزواج هو الذي يدفع الدراهم لتجهيز البنت، وهناك قسم من المال يبقى دينا بذمته واجب الداء وهو المهر المؤجل فإذا وقع بحيث إنها لا تتحمل شيئا من الضيق حتى تتمكن من الحصول على زوج آخر. قالت: ف الواقع إننا وإن كنا ندفع الأموال إلا أن الرجال راغبون فينا كل الرغبة. قلت: إذا انتقلنا إلى البحث بأمر الرغبة نرى الحرمة والرعاية التي تؤدي للنساء عندنا لا تقل عن مثلها عندكم وربما كانت على نوع ما أعظم نحن لا نغتر بالظواهر ننظر إلى الحقائق فإن النساء في الإسلام محترمات بمرتبة القرآن حتى إنه لا يجوز لفرقة عسكرية سيارة صغير غير خليقة بالأمنية أن تستصحب معها المصحف الشريف والنساء، واما الفرق الكبيرة العسكرية التي تكون سلامتها مأمولة في الغالب فتستصحب معها المصحف الشريف والنساء أيضا. أما المدام فإنها بعد أن أعملت الفكرة قليلا التمست مني أن أترجم كلامها والتفتت إلى النساء قائلة لهن إجمالا: من حيث في الإسلام يجوز للرجال متى أرادوا أن يقترنوا بزوجات علاوة على زوجاتهم أفليس عندكن خوف من ذلك؟ فأجابت إحدى السيدات قائلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 أواه إن زوجي يحبني فلا يمكن أن يتزوج. فأجابت الثانية: فليتزوج ليرى أنني لست ممن يرضين في البقاء عنده. وقالت الثالثة: إذا كان لا يحبني فبعد أن يتزوج لا أخشى من وقوع القحط في الرجال للحصول على زوج لي. وأجابت سيدة أخرى: إن لزوجي حقا في أن يتزوج لأنني أنا أكبر منه بثمان سنوات أو تسع سنوات فهو الآن كهل في الخامسة والأربعين من العمر أما انا ففي الرابعة والخمسين، وإنني متى كنت معه في محل واحد لأخجل من أن نمر معا بإزاء المرآة. وبعد أن ترجمت لها هذه الفقرة التزمت المدام الصمت وبعد تفكر قليل التفتت إلي قائلة: يقال: أن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحب النساء كثيرا أليس كذلك؟ قلت: أجل إن نبينا تفضل بقوله: (حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب - أي الرائحة العطرية - والنساء وقرة عيني في الصلاة) . قالت: الظاهر أنه لذلك أخذ كثيرا من النساء حتى أن أحد عبيده بعد أن طلق زوجته تزوجها وقيل: إن ذلك سبب اعتراض بعض المعترضين. قالت: إن جواب كلماتك يحتاج إلى التفصيل فإذا لم يكن مما يوجب تصديع الخاطر أقدم إلى بيانه. قالت: إنني أشكر لك شكرا جزيلا لأنني أرغب كثيراً الوقوف على حقائق هذه الأشياء. قلت: إن نبينا صلى الله عليه وسلم تزوج في بادئ الأمر بخديجة الكبرى، وفي مدة حياتها لم يتزوج بامرأة غيرها فالذرية النبوية إنما هي باقية عنها وبعد وفاتها زوجه حضرة أبو بكر صديقه الحميم بابنته عائشة، فلما ترملت حفصة ابنة حضرة عمر رغب بها كل من أبي بكر وعثمان، فلم يتم شيء من ذلك على أن نبينا رغبة منه في تلطيف عمر تزوج بها وانتم تعلمون ما كان عليه حضرة عمر من رفعة والشأن والقدر وجميع نسائه إنا اقترن بهن لسر وحكمة - مما تقدم بيانه - وهناك سبب مستقل يتعلق بمسألة التحري والبحث عن الكف، في أمر الزواج فهذا من أن تصل بناتهن ونساءهن إلى رجال غير أكفاء لهن، ومن حيث أن المشركين في أوائل الإسلام كانوا يسومون المسلمين جوراً وعسفاً وجفاء هاجر عدد من سراتهم بأهاليهم إلى بلاد الحبشة، ثم بعد ذلك كانت الهجرة إلى المدينة بوجه عام وهذه المهاجرة أفقرت المسلمين وفي أثناء هذه الجلية أصبح عدد كبير من الرجال عزبانا وكثيرات من النساء أرامل. ولما كان الزنا من المحرمات العظيمة في دين الإسلام لم تراع مسألة الكفاءة تماما ومع ذلك فإن هذه المسألة أي أمل وجود الأكفاء لم تبرح من أذهان المهاجرين ولم تكن تطمئن قلوب المسلمين على النساء اللاتي لم يحصلن على الأكفاء فهذا هو السبب الرئيس في تكثير الزوجات المطهرات بعد الهجرة النبوية، وها أنا أورد لك بعض أمثلة في هذا الشأن إن أم حبيبة ابنة أبي سفيان من رؤساء قريش كانت أول من آمن فهاجرت مع زوجها إلى البلاد الحبشية فتوفاه الله هناك ولبثت هي ثابتة في دين الإسلام، وحيث إن أكثر رؤساء قريش قتلوا في غزوة بدر صار أبو سفيان رئيسا لقريش في مكة وبلغ مكانة قصوى من النفوذ حتى إنه ليقال: إنه بعد عبد المطلب لم يأت رئيس صاحب نفوذ كأبي سفيان فإنه كان يسوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 قريشا بجملتها في السبيل الذي يريده ولو كانت أم حبيبة راغبة فيا لدنيا لذهبت توا إلى مكة على أمل أن تستفيد من نفوذ والدها وإقباله ومكانته. غير أنها مل تكن من أولئك الذين يبيعون دينهم بدنياهم فحالة هاته المرأة المتدنية الصابرة التي انقطعت في ديار الغربة قد استجلبت شفقة أهل الإسلام، فكان من الأمور الطبيعية الافتكار بمعاملتها باللطف لتحصل على السلوى، وحيث لم يكن من أهل الإسلام أكفاء لها إلا بنو عبد المطلب ولذلك أرسل الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم سفيرا إلى النجاشي مظهرا رغبته في الاقتران بأم حبيبة، والنجاشي أيضا عقد نكاحها فيا لحبش على الرسول الأكرم وأرسلها بكمال الاحترام إلى المدينة المنورة، فالنساء بالطبع لا يردن أن يكون لهن ضرائر إلا أن الزوجات المطهرات - وعلى الخصوص حضرة عائشة زوجة النبي المحبوبة لديه والمزينة بالعلم والفضل - لم يكن يقلن شيئا عن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن كن يقدرن هذه المسائل المهمة حق قدرها. كذلك أبو سلمة بن برة بنت عبد المطلب كان أول الذين آمنوا ومن أصحاب رسولا لله صلى الله عليه وسلم مع زوجته أم سلمة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. وتوفي من جرح أصابه في حرب أحد فظلت أم سلمة أرملة ولما كانت من أشراف قريش ومن ربات الحسن والجمال طلبها كل من أبي بكر وعمر فلم تقبل ثم طلبها حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فرضيت فتزوجها، وبعد ذلك تزوج الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة معتوقة فهذا ما بعث المعترضين على الاعتراض كما قلت. أما نحن فنعتبر أمر هذا الزواج مسألة مهمة والراغب في الوقوف على الحقيقة يلزم أن يكون على معرفة من ترجمة حال زيد وزينب إجمالا. أما زيد بن حارثة فهو من قبيلة قضاعة أخذ أسيرا بينما كان صغيرا وبيع في مكة فاشترته حضرة خديجة ووهبته إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه وكان الناس يسمونه بزيد بن محمد. وهو أحد الأربعة الذين آمنوا ابتداء - وهم خديجة، وأبو بكر، وزيد، وعلي - وكان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يستخدم زيدا في أهم الأشغال ويوليه قيادة الجيش إلى أية جهة كان يرسل إليها الجند. وجملة القول: إن زيد بن حارثة كان مظهر الحسن توجه الرسول الكرم صلى الله عليه وسلم، وكان من أعاظم الملة الإسلامية فزوجه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بابنة خالته أي بزينب بنت أميمية بنت عبد المطلب، غير أن زيد بن حارثة مع أنه كان عربي الأصل لم يكن قرشيا. أما بنات قريش فلم يكن يعرفن أكفاء لهن في سائر القبائل خصوصا أولا عبد المطلب فإنه يبحث لهن عن الأكفاء في أشراف قريش على أن حضرة زينب لو كانت مسرورة من زيد لوجب أن تكون متكدرة من حيث إنه لم يكن كفأ لها كما أن زيدا أيضا أخذ يفتكر في تلك المسألة الدقيقة فحمل أطوار زينب العادية على الكبر والعظمة، وهو أمر طبيعي - كما لا يخفى - فذهب ذات يوم إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ما يراه من عظمة زينب بالنظر إلى قرابته منها وأنبأه إنه سيطلقها إذ بذلك يكون قد أنقذها من زوج غير كفء لها، وخلص نفسه من عظمتها على أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم قال له: ما معناه دع عنك هذا الفكر وخف الله إن المرأة لا تطلق لمثل هذه الأشياء. ومع هذا فإن زيدا لو طلقها لما أمكن أن يكون كفأ لمثل هذه السيدة الشريفة إلا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فكان يمر بخاطره الرفيع وجوب الاقتران بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 تطييبا لخاطرها وإحقاقا على انه لم يكن يظهر ذلك لأن الشخص الذي كان يتخذ ولدا في ذلك الزمان كان عند الناس بمثابة الوالد الحقيقي تماما فكانوا يزعمون بل يعتقدون أن من كان في مقام الأب لا يجوز له أن يتزوج بمطلقة من تبناه على أن الحكام الشرعية لمثل هذه المسائل لم يكن حاصل التفصيل بوضعها إذ ذاك. أما زيد فإنه بعد إذ أظهر أنه لم يعد يتحمل عظمة زينب ذهب إليه فطلقها وبعد أن انقضت عدتها نزلت الآيات الكريمة بالوحي الإلهي في بيان الحكام الشرعية وبموجب هذا الوحي الرباني تزوج النبي الأكرم صلى الله عليه ولسلم وصدر الأمر بالتفريق بين الأولاد بالتبني وبين الأولاد الحقيقيين وأن ينتسب أولئك إلى آبائهم، وبعد أن كان يدعى زيد بن محمد صار يدعى يزيد بن حارثة. قالت يفهم من ذلك أن هذه الكيفية متبعة أيضا عن مسألة الأكفاء. قلت: نعم، إن الأصل فيها عبارة عن ذلك وفروع حكمتها أيضا إنما هي توثيق الأحكام الشرعية التي ستكون قانونا للأمة في المستقبل. ثم إن المدام أخذت بأطراف الحديث مع السيدات وكانت تسأل عن أسماء بعض مسميات في اللغة التركية وتقيدها في محفظتها وبعد انقضاء برهة على مثل هذه الحالة التفتت إلي وقالت: ألا تشتكين من إجباركن على التستر والحجاب ومن حرمانكن من مصاحبة الرجال. قلت: أيتها المدام، إن الجواب الذي سأجيب به عن سؤالك ينقسم إلى قسمين: الأول يتعلق بالأمر الشرعي. والثاني بالعرف والعادة بمقتضى إيجاب الحال والزمان وإليك البيان: إن شعور النساء زينة لهن وداعية لاستجلاب الأنظار كثيرا بناء على ذلك كما أن الملة الموسوية قد منعت من إراءة هذه الزينة المبهجة للرجل هكذا الشريعة الإسلامية نهت عنها أيضاً. قالت: إذن كان يجب عليكن أن تسترن شعوركن فقط حالة كوني رأيت النساء المسلمات في الأزقة يحتجبن تمام الاحتجاب عير مكتفيات ستر الشعور. قلت أجل إن ستر الشعر كاف أيتها المدام على أن المرأة يجب أن تحافظ على كل طرف من ألبستها المكتسية بها وأن تكون في حالة لا تجعل بها سبيلا لإظهار قوامها وكسمها فالنساء التركيات اللاتي ترينهن الآن يكتسين بمثل ما تكتسي النساء الأوروبيات، والسيدات اللاتي تشاهدينهن في هاته الجمعية هن الآن بألبسة الزيارات فإذا كان هناك عرس أو وليمة اكتسين بمثل ما تكتسين أنتن به في الليالي الراقصة وفي الولائم، فإذا ليس شيء عارض الزينة فوق هذه البهرجان وستر الرأس بستار فوق الشعر عد ذلك تسترا موافقا للشريعة أما النقاب (يا شمق) والغطاء المسمى (رجة وجارشاف) فهي من عادات البلاد التي اتخذت مؤخرا. ومازال القرويات ونساء العشائر يكتفين بستر الرأس فقط لأن ملابسهن خالية من ضروب الزينة فهن والحالة هذه يجالسن الرجال ويجلن معهم ويشاركنهم في الأشغال وأذكر لك قبيلة الملثمين الضاربة في صحاري أفريقيا وهي القبيلة التي تشكل منها دولة في بلاد المغرب ونساء هذه القبيلة إلى الآن يجلن سافرات الوجوه. أما الرجال فإنهم يسترون وجوههم وهذه عادة مألوفة عندهم فإذا كانت شعور النساء المسلمين مستورة فالوجه شرعا غير محرم، وعليه فإن النساء لا يمتنعن شرعا من محادثة الرجال والاجتماع بهم إذا كانت أجسامهن مستورة بالملابس ومضروب على شعورهن الخمار. قالت: فإذن لماذا لا تجتمعن بالرجال ولا تجالسنهم. قلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 إن في كل ملة عادات كثيرة واصطلاحات شتى حادثة وهذا أصبح عندنا عادة مألوفة والحالة هذه لم يكن ذلك من الضروريات الدينية. إن النساء في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كن يسترن رؤوسهن وكن يجتمعن بالرجال حالة كون شعورهن مغطاة وكل يعلم أن كثيرا من السراة كانوا يذهبون إلى حضرة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - كريمة حضرة الرسول الكرم صلى الله عليه وسلم ويتذاكرون معها. وفي التواريخ أن أهالي مكة بينما كانوا من ذوي العصيان على النبي صلى الله عليه وسلم وفد أبو سفيان رئيس رؤساء مكة على المدينة يعقد الصلح، ولما لم يفز بوعد من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ذهب إلى حضرة فاطمة الزهراء - رضي الله علنها - يرجوها التوسط في الصلح وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم العلماء وأفاضل الأصحاب الكرام يتواردون على مجلس زوجته المطهرة عائشة - رضي الله عنها - ويطرحون عليها المسائل وينالون الأجوبة عنها، وكان النساء المباركات في ذلك العصر فاضلات عالمات كالرجال، أما حضرة فاطمة وحضرة عائشة - رضي الله عنهما - فقد اشتهرتا أيما اشتهار بالعلم والفضل، وقرض الشعر، وفصاحة الإنشاء. وكان الرجال فضلا عن النساء يستفيدون من علمهما وفضلهما وبعد زمن السعادة كان كثيرون يتعلمون السنة من حضرة عائشة - رضي الله عنها - وكانوا يذهبون إلى مجلسها العالي فيلتقون ذلك عنها فكما أن تبليغ الشريعة كانت على مثل ما وصفت في زمن حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هكذا كان أزواجه وبناته المطهرات يسترن رؤوسهن أيضا. وكانت أمهات المؤمنين بجملتهن جائزات على شرف لا يضاهي ومنزلة لا تبارى لدى جميع الناس، وكانت الناس تتبرك بزيارتهن غير أأن حضرة عائشة - رضي الله عنها - كانت ممتازة عنهن بالعلم والفضل فكان الأصحاب الكرام يرجعون إليها زيادة عن غيرها ويتعلمون منها الحكام الدينية، ولذلك كان كلامها مسموعا ومعتبرا أكثر من سائرهن، وكانت هي محترمة كل الاحترام. قالت: أهي عائشة التي افتري عليها؟ قلت: هي عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها - التي كان افترى عليها بعض المنافقين أليس أن اليهود قد افتروا هذا الافتراء على حضرة مريم سيدة النساء؟ قالت: أسألك عفوا على قطع حديثك فداومي ما بدأت به. قلت: إن قاعدة التستر ظلت وقتا طويلا على مثل هاته الحال إلا أن فساد الزمان قد أفرغها في صور أخرى فالعادة منعت النساء من الاجتماع بالرجال ومجالستهم. قالت: إذا كانت أحكام الحجاب في دين الإسلام كما وصفت فلماذا لا تسمحون للرجال برؤية البنات اللاتي سيكن لهم زوجات؟ قلت: إن هناك أماكن تجيز ذلك وخصوصا في بوسنة فإن الرجال لا يقترنون بالبنات إلا بعد أن تتمكن من الفريقين روابط المحبة وهذه أصبحت عادة عندهم وفي كل محل يجوز شرعا أن يرى الرجل وجه الفتاة التي سيقترن بها حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا وخذوا خيرهن) . لكن لكل بلدة عادة مخصومة بها فأهل تلك البلدة لن يتمكنوا من نبذ هذه العادة والخروج عن دائرة الحد المرسوم، وجميع ذلك من العادات لا من المسائل الدينية. قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 لا جرم أنها عادة غير ملائمة فالواجب تركها ألي أن اقتران الرجل ببنت لا يعرفها وانتقال البنت إلى رجل تعرفه من أعظم المشاكل؟ قلت: إن هذا لم يكن من المشاكل العظيمة عندنا فلو كان في شيء من ذلك لنبذ ظهريا غير أنه بمقتضى المساغ في ديننا يمكن إذا حصل اتفاق بين عائلتي الفتاة والشاب أن يرى كل منهما الآخر قبل الزواج. قالت: أتكفي نظرة واحدة؟ لا جرم أنه يجب عليهما أن يجتمعا مليا ببعضهما بعضا وأن يتسامرا وقتا طويلا وأن يدرس كل منهما طبيعة الآخر وأخلاقه، وأحسن من ذلك أن يتحابا وتتمكن بينهما عقود الحب ليعيشا في الزواج عيشة راضية. قلت: في اعتقادنا أن الوسيلة المفيدة في الألفة وحسن الامتزاج ليست في شيء مما ذهبت إليه أن ثمانين بل تسعين في المائة من الزواج عندنا على مثل هاته الأصول تأتي بأفضل نتيجة من حسن الامتزاج مع أن المناكحات التي تحصل في أوروبا جميعها بوجه الحب والعشق لا يترتب عليها امتزاج بين الزوجين، فإن كثيرا ممن تزوجوا عشقا وهياما قد انطفأت جذوة حبهم بعد ستة أشهر أو سنة من زواجهم، وأصبح عشقهم هباء منثورا، كأن لم يكن بالأمس شيئا مذكورا، ثم كثيرا ما أدى بهم ذلك إلى الانفصال عن بعضهما بعضا واضطر كل منهما أن يعيش منفردا. ولعمري إن العشق الحقيقي إنما هوي أندر من النادر لكن كثيرون الذين يسعون إليه أليس أنه يوجد عدد لا يحصى من الفتيان يتوهمون الوساوس عشقا ويظنونه حباً فيسقطون في أوحال الخيال أليس أن هذا الظن الخيالي يصل بهم إلى حد أنهم ينفصلون عن آبائهم وأمهاتهم فيفرون من منازلهم وينعزلون عن أقاربهم غير أنهم يشعرون بعد ذلك بفساد هذا الوهم والظن فيندمون ولات ساعة مندم ويكرهون ظنونهم وينقلب عشقهم حقدا وبغضا؟. فيصيرون إلى أسوأ الأحوال، ومعلوم أنه لا يجب الحكم على الظنون في انتخاب الزوجة والزوج بل يجب أن تهتم العيال في الوقوف على الحقائق وعندي أن الشاب والفتاة متى كانا متعاشقين متحابين فلا يتأنى لهما أن يدرسا أخلاق بعضهما بعضا ولا آدابهما وطبيعتهما وصفاتهما ومزاياهما ولا أن يقدراها حق قدرها وإنما تقدير ذلك منوط بأكابر العائلتين فينبغي للوالدين أن يعقدا العقد بعد استشارة أولادهما وبناتهما واستحصال رضاها وبخلاف ذلك إذا تركت لمثل هؤلاء الفتيان أنتجت أكدارا كثيرة للوالدين والأقرباء والمحبين، وربما أبلتهم بلاء مرا، وأظن إن في أوروبا أيضا لا يطلقون العنان للبنات والشبان ولا يمنحونهن الحرية التامة في مثل هذا الزواج أليس كذلك أيتها المدام؟ قالت: هكذا لا يطلق للفتيان عنان الحرية للتفكر في نهاية عواقب الأمور. قلت: وجملة القول: إنه من الخطأ أيتها المدام حسبان هذه الأمور من مقتضى الدين فليست سوى عادات وان لكل بلاد عادات مخصوصة بها والإنسان أسير العادة أما تعديل العادة فإنه يتم تدريجا والطفرة محال والمسلمون قد ازدادوا تمسكا بعادة ستر الوجه بالنظر إلى الفائدة التي رأوها منها والعادات الحسنة والقبيحة ليست مخصوصة بقوم بدون آخرين وإنما ذلك متساو في جميع الملل. ثم إذا أمررت النظر على الشرائع السالفة رأيت أن الدين الذي يصدق على دين جاء قبله قد بدل وعدل بعضا من أحكامه أيضا ولحكم الزمان تأثير كلي في هذا الباب إن حضرة حواء - عليها السلام - كانت تضع توأمين ذكر وأنثى ولم يكن من الجائز في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ذلك الزمان أن يقترن الفتى بالفتاة في حين إنهما نزلا من بطن واحد بل كان من المقتضى شريعة آدم أن يكون الزواج بمن وضع في بطن آخر، وعليه فإن حضرة آدم - عليه السلام - عندما أمر أن يتأهل قابيل الذي ولد ابتداء بتوأم وهابيل وهذا بتوأم قابيل لم يرض بذلك قابيل فقتل أخاه هابيل، فما تقدم يعلم أن اقتران التوأمين كان ممنوعا. ثم بعد ذلك حرم نكاح الأخت تحريما مطلقا، وكان من لجائز أن يقترن الرجل بأخته ويجمع بينهما إلى أن جاء حضرة موسى - عليه السلام - فأصبح هذا الحكم أيضا منسوخا وإنني أضرب لك مثالا آخر من إنجيل متى فقد ورد في الفصل التاسع عشر منه: أن حضرة عيسى - عليه السلام - حالة كونه صدق على التوراة فقد منع الطلاق وقت ذلك سئل بما معناه: (إذا لماذا أذن موسى بالطلاق) ، فأجاب حضرة عيسى: (إن موسى إنما كان أذن بالطلاق بالنظر إلى قسوة قلوبكم) . وبناء عليه فإن حضرة عيسى منع الطلاق لغير على الزنا. قالت: أجل. وفي أثناء ذلك أطلقت مدافع الإفطار فذهبنا إلى المائدة أما المدام فكانت تتناول من كافة ألوان الطعام بقابلية ولم تره غريبا عن ذوقها وكانت تسألنا عن أسمائها، فلما صار الطعام على وشك الختام أقبل الأرز فقالت: سائلة: إن الأرز عند الأتراك فغنما يقدم في آخر الطعام وهو دليل على نفاد الألوان؟ قلت: نعم، إنه لكما أشرت. قالت: إن إستانبول هي بمثابة فهرست للإنسان كما إن مائدة الأتراك بمنزلة فهرست للطعام فقد أكلت على هذه المائدة من طعام جميع الأمم. وفي الواقع إن ما قالته المدام كان صحيحا وقد كنا ذكرنا لها أسماء الطعام إجابة لسؤالها فكان مؤلفا في ذلك المساء من اللحم والسمك وكانا مطبوخين على النسق الإفرنجي وكان ثم دجاج جركسي وكشك الفقراء المعروف في البلاد العربية وشيخ المحشي والباذنحان بالزيت، وكنت أترجم للسيدات اللاتي على المائدة كلام المدام وكانت الغرفة التي تناولنا فيها لطعام قائمة في الطابق العلوي من المنزل وعلى طرف الجنينة وكان لها باب كبير بمصراعين يفتحان على جنينتها فبعد إذ نهضنا عن المائدة لم نعد إلى القاعة وإنما أرسلنا كرسيين إلى الجنينة من الباب المطل عليها قصد أن نروح أنفاسنا بعبير الزهر التي كانت تتضوع كأريج المسك وتناولنا القهوة هناك وكان القمر بدرا، (أي في اليوم الرابع عشر يرسل أشعته فينير ظلمات الأرض) والهواء كان عليلا لطيفا جدا. وبعد إذ انتهينا من شرب القهوة تبادلنا مناولة الأذرع وتفرقت جمعيتنا التي كانت مؤلفة من طبقات متفاوتة في السن في أطراف الجنينة العريضة الواسعة وكانت تجتمع أحيانا لمبادلة بعض الكلمات، ثم تفترق ذهابا وإيابا أما جمعيتنا فكانت مؤلفة من خمس وهن المدام، وهذه العاجزة وثلاثة أفراد العائلة، وكان أكثر جمعيتنا يتعاطين التدخين بالسيكارات يدخن بعد الإفطار بمزيد اللذة وكانت شرارات السيكارات تضيء وتلمع من خلال الأزهار والأشجار وكانت تلك الليلة من أحسن الصدف التي تتمناها المدام لأنها كانت جامعة عددا كبيرا من الأقارب، وهو ما كانت تلك المدام تود مشاهدته. ولما أعيانا السير على القدمين دخلنا إلى كشك حجم القاعة محاط من أطرافه بالنوافذ والشبابيك، وألقينا فيه عصا التسيار، ثم أقبل سائر الخواتين ودخلنا إلى هذا الكشك وأخذنا معا بأطراف الحديث وقد جلست المدام وهذه العاجزة تجاه النافذة القائمة في الوسط وكانت المياه تتدفق من شلالات الحوض الكبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 القائم بإزاء الكشك تطرب الآذان بأصوات خريرها وتكسرها وحبوبها المنتشرة في الحوض كقطع الماس تمثل منظرا لطيفا جدا، وكان محل جلوسنا وموقعه جميلا للغاية. فإننا فضلا عن مشاهدة الجنينة والحوض كنا نشاهد البحر من وراء الجنينة، ولكن ما أدراك ما هو ذاك البحر إنما هو البحر الذي كان يتراءى للعين كأنه من صفائح الفضة واللجين بما انتشر فوقه من أضواء النور المنبعثة من القمر الليل بل البحر الذي تغزلت به الشعراء فوصفوه بأشعارهم وصفا لا يتحمله المقام، وكان في تلك الليلة ساكنا كل السكون والهواء كان يهب صحيحا فيعود عليلا بأرجاء الأزهار، وكانت السماء صافية والأفق خال من الكدورة فكنا لا نعرف أين نوجه الأنظار في تلك الليلة البديعة. أنوجهها إلى البحر الذي كان صفيحة من لجين؟ أم نوجهها إلى الأجرام السماوية التي كانت تلمع وتضيء في ذاك الفضاء عيانا كغادة حسناء ألقت عنها حجابها؟ أو نوجهها إلى البدر المنير الذي كان يفوق عليها ضياء ونورا ولألأة؟ أم نوجهها إلى الحصى الصغيرة التي كانت تلمع وتبرق في الجنينة من انعكاس نور البدر فتمثل دمالج من ألماس تلمع في زنود الحسان لا جرم أن تلك المناظر كانت تحير المرء فلا يهتدي إلى أحسنها سبيلا على أن المدام قد وجهت أنظارها إلى العلاء فأرسلت عينيها في فضاء السماء وكانت هذه الخاتون العالمة بفن الهيئة والهندسة قد طبقت دروسها على خريطة العالم بما استفادته تلك الليلة من لمعان السماء فبعد سكوت مستطيل صرفته في النظر إلى هاته المناظر التفتت إلى قائلة: هل لك إلمام بفن الهيئة؟ قلت: قليل جدا. قالت: أيمكن لك أن تري كوكب القطب الشمالي؟ قلت: نعم إن رأس الدب الأصغر يرى من ورائنا. قالت: أيمكن لنا تفريج الأبراج؟ قلت: إن القمر بدر وكثير اللمعان وفي ظني أن ذلك متعذر علينا وعلمي في هذا الفن ناقص جدا فهل لك أن تلذي سمعي ببعض التفصيلات؟ قالت: أجل مع المنة. ثم أخذت المدام تنقل لي أسماء السيارات ووضعيتها ودوراتها وأبعادها وتبدلات أشكالها بصورة بالغة حد الإتقان والكمال في بسط النقل وحسن البيان حتى دهشت لتلك قوة الحافظة التي وهبتها لأنه مهما حصل المرء من العلم والمعرفة فليس من السهل أن يحفظ في ذهنه أبعاد النجوم عن بعضها ويذكره بتدقيق تام. وكانت تروي لي بإيضاح وتفصيل أقوال الفلاسفة والحكماء المتعلقة بفن الهيئة ومقدار ما تغلب عليهم من تغير الأفكار والآراء وكيف أن المتأخرين قد جرحوا أقوال من تقدمهم وكيف أن الذين جاءوا على إثر هؤلاء المتأخرين قد عادوا إلى تصويب واستحسان كلام الأولين والتصديق عليه وتشرح شرحا مستوفيا عن أوضاع النجوم السيارات ومع أن المدام كانت في المحاورات الأولى تلقى علي كثيرا من الأسئلة فصرت الآن أسألها عن عدة أشياء، أما هي فإنها بعد إذ لم يبق في كنانة علمها منزع ولم تضن علي بإيضاح وبيان ما حولت نظرها إلى جهة البحر وأخذت تشرح لي بتفصيل عن عكس القمر في البحر وعن كيفية ضيائه وأسباب لمعانه، ثم وجهت نظرها إلى الجنينة وصارت تبحث في المعادن والنباتات وتأتي عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 بما يحتاج إليه المقام من الإيضاحات، وكانت تتكلم عن هذه الفنون بلذة تفوق لذة العاشق الذي يتحدث بذكر عشيقته وتظهر على سيماها آثار الرقة واللطف بادية فيها دلائل الكياسة والظرف، ولا غرابة في ذلك لأنها إنما كانت تتحدث بذكر العلوم الحكيمة التي كانت تعشقها وبعد هنيهة ألقت نظرها على الشجار الكبيرة وكانت تخمن مقادير أعماره. فقلت لها: إنني سأريك شجرة معمرة أكثر من أشجار الفستق، ثم أخذتها بيدها حتى وصلت بها إلى شجرة ضخمة وأريتها إياها فتقربت إليها، وبعد أن دققت فيها تدقيقا تاما قالت: أيتها السيدة، إن هاته الشجرة هي أقدم من العثمانيين في الأستانة وهي باقية من زمن الإمبراطورية لأن وصولها إلى هذا الطول يحتاج إلى عدة أعصر، ثم عدنا بعدئذ إلى الكشك فاستأنفت المدام حديثها العلمي وأخذت تلقي علي ضروبا من الحكمة، ثم قالت: أخشى أن أكون أورثت لك مللا بكلامي في هذا الموضوع، ولكن ما حيلتي وأنا أرى في مثل هذه المحاورات لذة مزيدة. قلت: ماذا تقولين أيتها المدام إنني كثيرا ما كنت أود أن أبين شكري لما استفدته في هذه الليلة من ألفاظك البليغة وعلومك العالية إلا أنني خشية من قطع الحديث عليك توقفت عن تأدية الشكر، بل لم أتجرأ أن أبديه فانا أهنئك بهذه المنزلة العلية، وأشكر لك عنايتك فقد استفدت بآدابك كثيرا. قالت: أنا أطوف الجهات وأذهب إلى المراقص وليالي الفرح والمسرات، ولا أحب الخروج عن دائرة العادات لكن لا بنية لإظهار زينتي وعرض نفسي على الأنظار كما تفعل أكثر النساء، ولا أكتسي بالألبسة الحريرية الرفيعة الأثمان بقصد العظمة والافتخار. وإنما ألبسها لأجل أن يلتذ سمعي بصدى اهتزاز أمواجها وخشيشها في الهواء متخذة ذلك بمثابة اختبار لدروس الحكمة التي تلقيتها. ماذا أقول عن أولئك الناس الذين يدخلون إلى قاعات المراقص فتأخذهم نشأة الحظ والسرور من ضياء القناديل والشموع المتلألئة فيها ومن لمعان الثريات وأنوارها المنعكسة ولكنهم لا يعلمون شيئا من أسباب هذا الحظ ولا يفقهون ماهية تلك الأشياء التي تبعهم على هاتيك المسرات. لعمري إنهم لو أحاطوا علما بها لتمثلت لهم فيها حكمة الله بأجلى بيان ولازدادوا اندهاشا بقدرته وقوته التي حيرت بني الإنسان، ولانشغلوا بذكره وتسبيحه أكثر من اشتغالهم بالملاهي نعم، إنني أرى فرقا بين الحجارة الماسية التي أصفها وبين حجارة الثريات العلوية وعندي أن هذا الفرق إنما هو ناشئ عن الحجارة الماسية بواسطة انعكاس ضياء القناديل والشموع عليها تمثل للعيان الألوان السبع الأصلية بمنتهى الرقة واللطف والظرف ما لا يوجد في الحجارة البلورية. ويشهد الله أنني لا أنظر إلى النساء في تلك الليالي نظرة الحاسدة لجمالهن الباحثة عن قصورهن الراغبة في كشف عيوبهن بل ربما كنت أدقق في أكثرهن جمالا وفي أخلاق أوار الفتيات المعصومات لأنقش هذا الجمال وهاته الأطوار في مخيلتي واتخذ الخيال الذي أرسمه قاعدة أتصورها في كل وقت، وإنني أدخل إلى قاعات [الميس] في المراقص واتفرج على الألعاب، ولكن لا لأحد الذين يربحون ولا لتأخذني الشفقة على من يخسرون لأنهم إنما يخسرون أموالهم بطيبة خاطر منهم بل أدخلها لأنظر مع التعجب تلاعب هذا المعدن الأصفر بالألباب، واستهزاءه بأولئك الذين ينفقونه جزافا على مذابح شهواتهم كأن لا قيمة له مع أنهم لم يجمعوه إلا بش الأنفس لم يجمعونه إلا بعرق الجبين لم يجمعونه إلا بالمتاعب والمشقات التي تقرض العظم قبل اللحم لم يجمعونه إلا بإهراق الدماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فهم يلعبون به، لكن بعد أن يلعب بألبابهم وأرواحهم وشرفهم، ألي من موجبات الدهشة والاستغراب أن أولئك الذين يتلفون أنفسهم في سبيل الحصول على واحد من هذا المعدن يستبدلون تعبهم ويعتاضون عن مشقاتهم بساعة من الحظ ما من شيء حري بالفرجة أكثر من مناظر الجمعية في المراقص وليالي الأفراح والتدقيق بنظر الأفراد المجتمعين الذي يتبادله كل منهم بل ما من لذة تضاهي لذة مشاهدة الأنظار التي يتسارقها الفتيان العشاق الذين يرهبون من آبائهم، ويتحببون أمهاتهم، ويتضايقون في الازدحام فإن العيون وهي منافذ القلوب تغني عن لسان المقال. إما إذا اجتمع الجمال في العيون فإن الكلمات التي ترسلها إلى الأفهام لتسمو وتعلو فبولا على الألفاظ التي تخرج من بين الأسنان الدرية والشفاه المرجانية، إذ أن الكلمات التي تصدر من الفم لا تكون بجملتها صحيحة وجوابا وغنما تصدر موزونة مموهة بالكذب ولكن العيون البعيدة عن التمويه منزهة عن التصنع والتقليد فبينا يتكلم الفم بالمحال إذ تظهر الحقيقة من مجرد النظر على العينين. نعم، إنه لا حاجة للسؤال في مثل هذه الجمعية عن أربا الدسائس والكذبة والمنافقين فإن العيون تكشف الخفايا وتشير إلى كلام المحبين والأعداء والوالدين والوالدات والأولاد، إن حماية الآباء وشفقة الأمهات وهيام العشاق ومحبة الأصدقاء وغرض الأعداء كل ذلك يعلم من العينين والعيون تطلع تمام الاطلاع على جملة أشياء لا يستطيع الإنسان أن يسأل عنها بلسانه فالعيون ترجمان القلب. فلما وصلت المدام إلى هذا الحد من البيان التزمت جانب الصمت، ثم وضعت مرفقها على النافذة وأسندت رأسها بيدها كأنما كانت تتناجي الأرواح، ومع أنها قطعت حديثها كنت أصغي إليها كأنها لا تزال تتكلم وبعبارة أقرب للحقيقة إن أذني كانتا راغبتين في الاشتغال بعكس خيال هاتيك الألفاظ الدرية وكأنهما لا تريدان أن تبعدا عن عين تصورهما ذاك الخيال الفتان، وأن تغلقا دون استماع خطبتها المملوءة حكمة وأدابا. ليس أن ما تجملت به هاته العالمة العالية الأخلاق من الحسن والظرف إنما هو صحيفة جميلة لكتاب الحكمة الدال على حكمة وقدرة الخالق القادر الحكيم، أما أنا فقد توغلت في مطالعة تلك الصحيفة التي فتحت أمامي أن البعض إذا فهموا أن في أرباب الجمال قصورا لم ينظر بالكلية فبعد، أن يتفكروا مليا بهذا القصور الذي لم تعرف ماهيته يتمكنون من الوصول إلى إدراكه بما آتاهم الله من المعرفة التي هي سر من أسرار حكمته المستورة عنا، وهكذا المدام فإن الخالق قد حباها بنعمته ولطفه ولم يحرمها من هاته الجاذبة التي تسترق الألباب. أليست تلك الجاذبة هي التي تجعل القبيح محبوبا كالجميل، ولكن ما هو تعريف هذه الجاذبة؟ لعمري إنها لا تظهر للعيان ولا تمثل إلا بالأذهان ليس لها شكل معروف ولا جسم موصوف، فالبصيرة تدركها ولا تنظرها الأبصار وتعشقها القلوب قبل الأفكار، وكما أنها بادية في الوجه والهيئات، فهي أبدا ممثلة في الكلمات ظاهرة في الأصوات، أما لطافة كلمات هذه المدام وحلاوة صوتها فإنها متناسبة مع ملاحة وجهها، ولأجل ذلك كانت تلفظ كلماتها اللطيفة بصوت رقيق ولجهة مؤثرة تفوق رقة ولطافة الأصوات الجميلة عند نشيد الأشعار، وكانت الجهة المعراة من عنقها ويديها مغطاة بنسيج أسود يسترسل فوق فرعها فكانت تمثل الضياء المنعكس من سماء ذلك الليل أعني أنها تمثل الألوان الصافية الزرقاء التي تبدو من السماء في خلال احتجابها بالغيوم، وكان جسمها الأبيض الشفاف يظهر من تحت النسيج الأسود كأنه صفائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 من الثلج الأبيض الناصع والصدف المضيء اللماع، وبينما كنت سائحة في قضاء التصور بهذا الهيكل العجيب التفتت إلي المومى إليها وقالت: بأي شيء تفتكرين؟ ولماذا أراك ملتزمة جانب الصمت؟ فقلت: إنني أفتكر بك كما تنظرين لا جرم أنك قد وقفت على جميع الأشياء وأمعنت فيها نظر التدقيق فعرفت حكمتها ففي حين أنك أحطت بها علما يقتضي حتما أن تكوني صرفت وقتا طويلا في النظر إلى المرآة لأجل التدقيق بجمالك ومحاسنك لأنك لست بمحتاجة إلى مثال آخر في مشاهدة الجمال. قالت: أجل إني غير ناكرة وأعلم قدر إحسان حضرة الخالق سبحانه بالحسن والملاحة التي خصني بها وشاكةة هذا الإحسان، ولست كبعض النساء اللاتي يتظاهرن بأنهن لا يعرفن أنفسهن أهن جميلات أم لا وهن يقصدن أن يكن معروفات بأنهن أكثر النساء جمالا، ولا أحسد اللاتي هن جميلات أكثر مني كما أنني أعرف قصوري أيضا فانظري أيتها السيدة هل ترين تناسبا بين ما أوتيته من الجمال وبين هاته الأيدي والأقدام إن كبرهما إنما هو نقص محض ولكني لست بآسفة على ذلك بل أنا ممتنة إذ لو لم يكن بي هذا القصور لربما كان استولى علي الغرور، ولكنت لا أدرك أن الغرور غير لائق بالعبيد على أن قصوري قد عرفني أن العبد لا يمكن أن يكون بلا قصور، وأنه لا يليق بنا الغرور مع هذا النقص ولأجل ذلك لا أشكو مما أراه من النقص في يدي ورجلي وذلك لأكون على الدوام مسرورة. لا جرم أن المدام كانت تتكلم بالصواب لأن يديها ورجليها لم تكن متناسبة مع مجموع حسنها ولكنني لا أعلم إذا كان يتيسر لكل عبد أن ينظر قصوره ويكسر عظمته وكبرياءه أما إذا اجتمع العلم مع علو الأخلاق فيتولد من ذلك إنسان كامل المدام المومى إليها. ثم قالت المادام: وفي حين إن الناس تبدو مظاهر عجزهم وضعفهم لأعينهم بكثير من الدلائل تراهم ينسون أنفسهم ويجترؤن على الغرور كأن لم تكن تلك الأدلة شيئا مذكورا مع أننا إذا خفضنا رؤوسنا إلى الأسفل ورفعناها إلى الأعلى نشاهد عظمة الله جل جلاله وضعف ذواتنا, نحن لا يلزمنا أن نتوغل في أغوار نفوسنا ولا أن نصعد في درجات الأوج الأعلى, وإنما علينا أن ننظر إلى البحر والسماء فما هي المناظر والمظاهر التي تجلوها لنا السماء؟ أليست تقول لنا بلسان حالها: أنكم عاجزون عن مشاهدة أقماري والوصول إلى معرفة أسراري لماذا لا نتسوح في الأجرام السماوية التي فهمنا أن كلا منها إنما هو عالم مستقل ألم نهتم بذلك كثيرا بلى لقد اختراعنا المنظار زعما منا أننا سنوفق إلى الوصول إلى تلك الأجرام, فخاب الظن وكنا إذ ذاك في حالة الغرور, ولكن كان كل اقتدارنا أن بلغنا بعد الجهد الجهيد والسعي المتواصل للصعود إلى عدد معلوم من الكيلومترات هذا ما فهمناه وقد هبطنا من ذاك العلو بصورة هائلة أرتنا الموت عيانا, وسمعنا كلمات التهديد تخاطبنا قائلة بلسان الجلل إنكم غير مأذونين أن تصعدوا إلى أعلى من هذا الحد وأنتم لم تخلقوا لتعيشوا في هذا الفضاء فإما أن تعودوا من حيث أتيتم وإما أن ترضوا بالموت صاغرين حتى إذا أخذ الدم يتدفق من مسامنا ورأينا هاته الحال المدهشة أجبرنا على الرجوع أفلم يكن ذلك من الغرور المحض. قلت: لقد نطقت بالصواب على أن صاحب هذه الأفكار يجب أن يكون نظيرك من ذوي الأخلاق الحسنة والعلم الواسع إذ لا يختلف اثنان أن الإنسان أينما وجه التفاته وفي أي شيء حصر فكره وتأمله تتجلى له عظمة الله ووحدانيته عيانا, ولكن هل تحسبين أن أي الناس ينظر إلى ذلك بهذا النظر المجرد أو أنه يسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فقط من لون السماء الصافي, ولمعان الكواكب وسكون البحر ونور القمر وضياء الشمس فيكتفي بهذا السرور ليس إلا. لا جرم أن الإنسان كيفما التفت وأينما وجه نظره يتمثل لدى عينيه عظمة الله ووحدانيته. ولكن أنت تعلمين أن أكثر مذاهب النصارى يعتقدون بالتثليث فلا أدري كيف يمكن توفيق ذلك مع الوحدانية. قالت: من المعلوم أن المسائل الدينية مستندة إلى الرواية لا إلى أدلة عقلية أما أنا فقد افتكرت كثيرا في مسألة التثليث, فلم أتمكن من توفيقها على العقل والحكمة ولأجل ذلك أعتقد بوحدانية الله. قلت: إذن يقتضي أن تكوني على مذهب الأربانيين. قالت: كلا, إن هذا المذهب قد انقرض فإن مجمع أزنيق قد محاه محوا فالتثليث عند النصارى إنما هو بمثابة سر لا يدركه العقل فليس لهم إلا التسليم والاعتقاد. قلت: إن الإنجيل الشريف خال من النص والتصريح المتعلق بمسألة التثليث فليس ثمة إكراه في الاعتقاد بشيء لا ينطبق على المعقول. أما مسألة التثليث فقد ظهرت بعد حضرة سيدنا عيسى وبعده بأعصر ولا يوجد في الأناجيل قول يثبت ذلك, وما هناك من بعض التعبيرات لا تتخذ سندا وحجة لأن التوراة الشريف والإنجيل الشريف لو ظلا كما نزلا دون أن يطرأ عليهما تغيير أو تحريف لكانا حجة على إثبات هاته الأمور: ومعلوم أن الإنجيل الشريف لا يعرف في أية لغة كتب بادي بدء إذ لا يزال ذاك مختلفا فيه فمن المحتمل أن الوقت لم يمكن من كتابته فيبقى محفوظا في الأذهان حتى إذا عرج حضرة سيدنا عيسى -عليه السلام- إلى الملأ الأعلى درج ما بقي مستظهرا في أذهان الحواريين من الآيات الإنجيلية في الأناجيل على طرز الحكاية. وعلى ذلك فإن الأناجيل التي كتبت وهي تزيد عن الخمسين عدا إنما جرى التدقيق بها بعد ثلثمائة سنة من ميلاد سيدنا عيسى -عليه السلام- فأبقى منها أربعة وترك الباقي وفي جهات كثيرة من هاته الأناجيل الأربع مباينات كلية يناقض بعضها البعض الآخر وهذا من الأمور الطبيعية لأن النصرانية ظلت ثلثمائة سنة تحت طي الخفاء وفي الوقوف على الحقيقة في إخلال هذا المقدار من السنين إشكال لا يحتاج إلى إيضاح. قالت: ما قولك في التوراة؟ قلت: لا يخفى أن التوراة قد أحرقت وفقدت حينا من الزمن, ثم كتبت عن الحفظ مجددا فمن هذه الجهة لا تفيد علم اليقين بخبر واحد وبين أيدينا الآن ثلاث نسخ منها يناقض بعضها بعضا وفي ذلك دليل كاف على أنها محرفة لأن كلام الله لا يمكن وجود التناقض فيه. قالت: ما هي المناقضات التي رأيتها في التوراة. قلت: مهلا فأنني سأجد لك فيها تناقضا مهما. قلت ذلك والتفت إلى جارية كانت على مقربة مني وأشرت إليها أن تأتيني بالمحفظة الحمراء الموضوعة على الطاولة فأسرعت الجارية وجاءت بالمحفظة المطلوبة ودفعتها إليها فاستأنفت الحديث مع المادام. قلت: إليك بيان التناقض إن المدة التي مرت من خلقه آدم -عليه السلام- إلى طوفان نوح -عليه السلام- إنما هي بمقتضى النسخة العبرانية (1656) سنة وبموجب النسخة اليونانية (2262) سنة, وبموجب النسخة السامرية (1307) سنوات. ولما كان هذا التناقض والاختلاف فاحشا جدا كان يتعذر التوفيق بين هاته النسخ وبموجب النسخ الثلاث أيضا يظهر أن نوحا -عليه السلام- كان حين الطوفان بالغا ستمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 من العمر وبحسب النسخة السامرية يلزم أن يكون نوح -عليه السلام- حين وفاة آدم -عليه السلام- بالغا 223 سنة من العمر وهذا مردود باطل باتفاق المؤرخين والنسخة العبرانية مع النسخة اليونانية أيضا تكذب ذلك, لأن ولادة حضرة نوح بموجب النسخة اليونانية إنما كانت بعد سبعمائة واثنتين وثلاثين سنة. ثم إن المدة من الطوفان إلى ولادة إبراهيم -عليه السلام- هي 292 سنة بمقتضى النسخة العبرانية و 1072 بموجب النسخة اليونانية و 942 بحسب النسخة السامرية, وهذا اختلاف فاحش أيضا ومما تقدم أعلاه يظهر أنه بحسب النسخة العبرانية كانت ولادة إبراهيم -عليه السلام- بعد طوفان بمائتين واثنتين وتسعين سنة حالة كونه قد جاء مصرحا في الآية الثامنة من الباب التاسع من سفر التكوين إن نوحا -عليه السلام- قد عاش ثلثمائة وخمسين سنة بعد الطوفان فمن ذلك يلزم أن يكون إبراهيم حين وفاة حضرة نوح في الثامنة والخمسين من عمره هذا باطل باتفاق المؤرخين, والنسخة اليونانية والسامرية أيضا تكذبانه لأن ولادة حضرة إبراهيم بحسب النسخة الأولى كانت بعد وفاة نوح بتسعمائة واثنتين وعشرين سنة, وبموجب الثانية بخمسمائة واثنتين وتسعين سنة, ولما كان من المستحيل العقلي وجود التناقض في كلام الله كانت آيات التوراة الشريفة المتعلقة بهذا البحث محرفة لا محالة. قالت المادام: أجل إنني أعلم أن القرآن قد وصل إليكم كما سمع من نبيكم دون أن تطرأ عليه العوارض. قلت: هو كذلك وعلاوة على هذا فإن المجتهدين عندنا لم يزيدوا شيئا على عقائدنا الدينية مخالفا للعقل والحكم, ونحن يمكننا أن نزن عقائدنا في ميزان الحكمة أما النصرانية فإن أبواب الحكمة مقفلة عندها. قالت: في الحقيقة إن دينكم موافق للعقل والحكمة وهو من الأديان التي يمكن لكثير من العلماء الذين جردتهم مسألة التثليث من الدين قبوله والتدين به, ولقد توصلت بواسطة هذه الإيضاحات التي وقفت عليها إلى حل إشكال كنت مترددة في حله وذلك أن المرسلين عندنا في حين إنهم أنفقوا كثيرا من ألموال وألقوا بأنفسهم في التهالك والأخطار رغبة في دعوة الخلق إلى النصرانية فلم ينجحوا تمام النجاح, وأما حجاجكم وتجاركم فقد تمكنوا من دعوة ألوف من الناس إلى الإسلامية بمزيد السهولة في كثير من الأماكن التي مروا فيها ولقد طالما افتكرت في سر هذا الأمر وحكمته فلم أهتد إليه سبيلا أما الآن فقد فهمت أن لطافة دينكم وسهولته وانطباقه على الحكمة قد حمل الخلق على قبوله بهذه السهولة. وفي الحقيقة إن دينكم لا مرية في حقيته ولا مطعن عليه ولكن هناك مسألة واحدة تجعل الناس نفورا منه وتقوم سدا في وجه حسنه ألا وهي مسألة الحجاب عند النساء فإنه من الصعب جدا على الرجال والنساء من المسيحيين الذين ألفوا الحرية وعدم التستر أن يرضوا به ولو لم تكن فيه هاته المسألة لأصبح عدد كثير من الخلق الذين يبحثون عن دين لهم مسلمين. قلت: لقد بينت لك أن قاعدة الحجاب في الشريعة إنما هي ستر الشعور. قالت: وهذا لا يرضونه لأنهم متى صاروا مسلمين أجبروا على اتباعه. قلت: إن المرأة التي لا تستر شعورها لا تخرج من الدين, وإنما ترتكب إثما وأساس الدين الإسلامي الاعتقاد بوحدانية الله تعالى ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام فالشخص الذي يعتقد ويسلم بهاتين القضيتين على أي دين ومذهب كان فهو مسلم ولا شرط في ذلك كليا نعم إن على المسلم بعض تكاليف إلهية كالصلاة والصيام وهي الفروض التي أمر بها الحق سبحانه وتعالى وقتل النفس وارتكاب المعاصي وهي الأمور التي نهى عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 لأن الذين لا يمتثلون أمر الله ولا يجتنبون نهيه يكونون من الفاسقين ويستحقون في الآخرة العذاب ولكن مع ذلك فهم مسلمون إذ ينالون في نهاية الأمر جنة النعيم والله إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم بقدر إثمهم, ثم يدخلهم جنته ولا يدخل بين الله والعبد والمسلمون لا يحتاجون في استحصال العفو عن آثامهم كالنصارى إلى القسس وليسوا بمجبرين على الذهاب حالا إلى الجامع لأداء العبادة نظير المسيحيين الذين يكونون مجبرين في عبادتهم للذهاب إلى الكنيسة فإذا رغبوا في التوبة والاستغفار انسحبوا إلى زواية ما فناجوا الحق سبحانه وتعالى وليسوا بمجبرين أن يكشفوا ضمائرهم وخفاياهم لغير الله. أما المادام فإنها بعد صمت قليل عادت إلى التفكر والتأمل بمقتضى لطافتها الطبيعية وصرت وإياها على اتفاق في الرأي وأما اللاتي كن في الرواق فكان بعض منهن يتحادثن مع البعض الآخر وبعض يجلسن في الرواق مسرورات بضوء القمر حتى إنهن طلبن القهوة مرة ثانية وأحببن أن يكرمننا بفنجان آخر على أننا اعتذرنا عن قبوله وكانت إحدى الزائرات في تلك الأثناء تنشد نشيدا تركيا بصوت خافت, وقد لاحظت على المادام أنها سرت من صوتها ونشيدها فإنها كانت ترعاها السمع, ثم ما عتمت أن باحت بسرورها وانشراحها من صوت المنشدة في مثل هذا الوقت الذي كان الهواء ساكنا به أما أنا فالتفت إلى المنشدة. وقلت: إنه حسن فأنشدي شيئا محزنا مؤثرا يناسب هذا الصوت المهموس. قالت: ما الذي يجب أن أنشده. قلت: شيئا من الحجاز. فأخذت السيدة تنشد نشيدا لطيفا من الحجاز بصوت رخيم مؤثر للغاية وكانت المادام تصغي إليها تمام الإصغاء. فقلت: أيتها المادام, أليست الأمواج التي تحصل من ارتجاج الهواء على ثوبك الحريري في المراقص تشابه هذا الصوت. قالت: أجل إنني أفتكر بهذا الأمر ويلذني سماع الأنغام على اختلاف خروجها وفي الحقيقة إن المادام كانت تستمع الغناء بلذة لا مزيد عليها وبعد انتهاء الإنشاد حولت المادام ذهنها إلى التفكير في الصدى والموسيقى من حيث العلوم الحكمية كما أن هاته العاجزة على كوني لست بواقفة تماما على ما يمر في ذهن هاته المرأة العالمة من ضروب الحكمة العالية إلا أنني قد أخذت افتكر ببعض أشياء تواردت على ذهني القاصر, فسبحت في فضاء التصور مدة لا أعرف مقدارها ولكنني أعلم أن يدا مستني وصوتا دخل في أذني فالتفت, وإذا بجارية خدمتي الخاصة تنبهني قائلة: يا سيدتي, لقد مسك البرد. قلت: إن يدك حارة فمن أين أتاك إنني بردت حتى أيقظتني. قالت: إنني منذ هنيهة قد شعرت بالبرد فارتديت بالكساء, ولما رأيتك جالسة هنا ملتزمة جانب الصمت ظننتك راقدة فخفت أن تصابي بالبرد ولذلك نبهتك لأنني ما تمكنت من مشاهدة وجهك, فلما لمست يدك شعرت أنك باردة حقيقة. قلت: فالحق معك فاذهبي وأتينا بغطاءين لأن ضيفتنا المادام تكون قد بردت أكثر مني من حيث إن يديها وعنقها لا يسترهما إلا ستار شفاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أما المادام فقد استيقظت على صوت محاورتنا فهبت من بحراتها وأخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال فلم تر غير الجارية إذ إن رفيقاتنا كن خرجن وأبقيننا وحدنا. فقالت: لقد ضاقت صدورهن من سكرتنا فتفرقن وتركننا منفردتين, فما هاته الحال الغريبة؟ لا جرم أنه ليس من أحد يرضى عمن يكونون في حالة الصمت والراقدون لا يرون أحدا عندهم, وقد تذكرنا حال الرقاد بحالتنا أوان الموت. وفي الحقيقة إن حالتنا الحاضرة تمثل حالة الموت. قلت: هيهات أيتها المادام أن يكون في النوم وفي الموت راحة مثل التي رأيناها في هاته الليلة حينما كانت أفكارنا سائحة في بحور التصورات اللذيذة. أما هذه الكلمات فقد ذهبت بصفاء وانشراح كل منا فإن ذكر الموت الذي سيكون خاتمة عمرنا قد جعلناه ختاما لفرحنا وسرورنا في تلك الليلة على أن الموت الذي مع كوننا نرغب أبدا في أن نهرب منه نرى أنفسنا متقربين إليه فقد تمثل لنا كثيرا في تلك الليلة فتجلى لنا كأنه يقول بلسان الحال: إياكما أن تنسياني وفي هذا الوقت أيضا قد بدت لنا عظمة الخالق الباقي, وظهر لدينا عجزنا فرأينا بعين الحقيقة أن كل شيء فان ولا دائم إلا الله سبحانه, فهذا الفكر الرهيب لم يمكنا من البقاء حيث كنا فخرجنا نفتش على رفيقاتنا لنجتمع بهن ثم دخلنا جملة إلى القاعة في ضمن المنزل, وقد أثرت فينا تلك الأفكار تأثيرا شديدا, فصرنا نرجف من هولها وتنتفض من دهشتها, وفي تلك الأثناء أتي بالمبردات فطافت بها الجواري على الزائرات غير أن المادام ترددت في قبولها ومذ لحظت منها قلت: إنني راغبة في كأس من الشاي فهل ترغبين أيتها المادام أن يأتوك بكأس منه؟ قالت: لله أيتها السيدة, إنني اشكر لك وأرغب بالشاي وأرجو أن يؤتى إلي بكأس منه. وما مر على ذلك بضع دقائق حتى أتي بالشاي المطلوب فشربناه فعاودتنا الحرارة, وبعد جلوس هنيهة من الوقت اتصل بالآذان صدى ترتيب مائدة السحور, فهبت المسافرات لاستدعاء القوارب. أما المادام فأوصت أن يأتوها بعجلتها, ولما كانت القوارب رابطة على الرصيف وكانت تهيئتها أسهل من تهيئة العجلة تمكن الزائرات من ركوبها قبل مجيء العجلة فذهبت كل واحدة منهن في وجهتها المقصودة, ثم جاء النبأ إلى المادام بتهيئة العجلة فنهضت على أقدامها وارتدت بثوبها وأخذت مروحتها بيدها, ثم قالت وهي على قدم الذهاب: إنني أشكر لك شكرا جزيلا لما أوليتيني من المعروف في هاته الليلة ولا يخفى أن المقصد من السياحة إنما هو مشاهدة ما لم تشاهده العين ومعرفة الأشياء غير المعروفة وكما أنني ميالة إلى الوقوف على أحوال كل مكان هكذا كان من أخص آمالي أن أطلع على تركيا وعاداتها وأفكارها وعقائدها ولأجل ذلك صرفت في هذا السبيل وقتا طويلا ولم أقصر في النفقات ولكنني أقول الحق: إن المعلومات التي حصلت عليها إلى الآن لا توازي شيئا من العلم الصحيح الذي وقفت عليه هذه الليلة فأنا ممتنة جدا. فقلت لها: إن إكرام الضيف ملتزم عندنا فمهما حصل في سبيل ذلك من المشقة فما نحسبه إلا محض راحة, لا جرم أن رغائبك لا تتعدى حد الكلام وهذا الكلام وهذا سهل للغاية فيا حبذا لو تكرر هذا الاجتماع ويا حبذا لو أمكن مصادفة كثيرات من أمثالك لأن محادثة عالمة وفاضلة نظيرك إنما هو من حسن الطالع, ولذلك أقدم لك تشكراتي القلبية على ما أنلتينيه من الحظ في هاته الليلة, وهاته العاجزة قد تحصلت بهذه المدة الوجيزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 على معلومات كثيرة كان يلزم أن أطالع عدة كتب حتى أتمكن من الحصول عليها فأبثك أيتها المادام شكري وأعلن امتناني الحقيقي. قالت المادام: سيبقى أثر هاته الليلة وأثر الاجتماع بك ثانيا في الذهن إلى ما شاء الله. قالت هذه العبارة الأخيرة ثم ودعتني وذهبت في عجلتها. على أنني وإن كنت لا أعرف ما إذا كانت تحافظ حقيقة على الذكرى كما قالت قد شعرت بتأثير كلماتها في قلبي فإنني لا أزال أهز بذكرى تلك الليلة وأفتكر بمحادثتنا غير أنني لم آخذ منها حتى الآن كتابا, وقد علمت أنها ذهبت للتسوح في البلاد العربية, وسمعت أنها ستضع كتابا في سياحتها, فلا ريب أن هذا الكتاب سيكون مجمعا للحقائق, وهذا متوقف على إتمام السياحة ومتعلق بالتوفيق الإلهي. المحاورة الثالثة إن شهر مايس (نوار, أو أيار) بغاية اللطف والنشاط فهو متوسط بين حر الصيف وبرد الشتاء بمعنى أن حره أقل من حر الصيف وبرده أخف من برد الشتاء، ففي مثل هذا الشهر الذي انتشرت به الروائح الزكية وضاعت أرواح الأزهار المتنوعة كنت جالسة صباح يوم منه في إحدى عرف البستان وكانت نوافذ الغرفة مفتوحة يدخل منها ألطف الروائح العطرية التي تشبه المسك أستغفر الله إنني لم أحسن الوصف والتمثيل، فشتان بين تلك الرائحة وبين رائحة المسك التي قد توجب لبعض الناس سروراً ولبعضهم كدراً في حين أن رائحة الورد والقرنفل والياسمين وما ماثل من الأزهار التي كانت منتشرة في أرض الجنينة وفي جدرانها يتضوع منها أريج ينعش الأرواح، ورائحة الأشجار التي كانت قريبة من نوافذ الغرفة وأزهارها الناصعة البياض كل هاته الروائح الزكية كانت تفوق بنشرها على رائحة المسك، ومع هذا فإن رائحة كل فصيلة منها تختلف عن الأخرى فلم يكن ثمة مشابهة بينها الإطلاق، حتى أن رائحة الجنس الواحد منها كانت تختلف باختلاف أشكاله بين الأصفر والأحمر والأبيض، وهكذا يقال عن سائر أنواع الأزهار. وفي ذلك حكمة صمدانية تدق على الأفهام أما البلابل فكانت في صباح اليوم -المذكور- تطرب الجماد بنغماتها الشجية وتغرد تغريداً ترقص له القلوب في الصدور فتردد بأصواتها المطربة ما يمثل حالة العاشق الذي يطارح معشوقه كلمات الحب حتى إذا لم ينل منه جواباً ظهرت في عنقه إشارات الذل والانكسار. وجملة القول: إن روائح الأزهار المتنوعة، وأصوات البلابل، ومناظر الأشجار المنتشرة في البستان كانت تشترك بلذتها حاستا السمع والنظر. وعلى مثل ما تقدم وصفه كانت هذه العاجزة جالسة حوالى منفذة يحيط بها اثنتان من صويحباتي لمناولة قهوة البن بالحليب، وكانت إحداهما تدعى ص.. خانم، أما هذه السيدة فإنها تحسن اللغة الإنكليزية وتعرف قليلاً من الفرنسية بمعنى أنها تفهم هذه اللغة ولكن ببطء، وتتكلم ولكن بصعوبة، وتكتب باللغة التركية بدرجة تتمكن بها من التعبير عن فكرها وإفهام مرادها، والسبب في تضلعها في اللغة الإنكليزية زيادة عن اللغة التركية إنما كان منشؤه مربيتها التي كانت إنكليزية المتحد ولأجل ذلك تلقت منذ الصغر عنها اللغة الإنكليزية فأتقنتها كل الإتقان، فكانت أخلاق هاته السيدة قريبة من أخلاق الإنكليز إذ إن للتربية تأثير كلياً في الأخلاق كما لا يخفى، فكانت منزهة عن شوائب الكلفة تحب الصحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وتألف العزلة وتميل إلى الأزياء، ولما كنت على بينة من صفاء نيتها وحسن طويتها وكانت من قلبها ظاهرة للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار قلت لها: إنني سأعرض ذكرها في رسالتي، والتمست لها أن تأذن لي في ذلك فلبت طلبي، وأجابت مسؤلي، وصرحت بسذاجة تامة أنها لا مانع من ذلك أصلاً حتى حملني هذا التصريح على أن أسألها عن الطريقة التي تحب بها آتي على ذكرها في هاته الرسالة. فقالت جواباً عن ذلك إنها على يقين من محبتي لها فهي واثقة بأنني لا يمكن أن أذمها أو أعرض في ذكرها بالسوء ثم قالت: وهب أنك هوجتني أو طعنت علي فلا يؤثر ذلك شيء في قلبي لما أنك ستكتمين اسمي ولا تصرحين به بل إن الانتقاد علي أحسبه مفيداً جداً لي لما أنني أضطر على إصلاح الفاسد من صفاتي وأخلاقي. وأما رفيقتي الثانية فكان اسمها ن ... خانم فكانت تحسن لغتها التركية تكلماً وقراءة وكتابة على أنها كانت تدل بعلمها وتحسب نفسها فوق درجتها، وهذا الوهم قد بعثها على الوقوف عند الحد الذي كانت فيه فلم تتقدم عن تلك الدرجة شيئاً على أنها لم تكن خالية من الذكاء، وكانت أيضاً ميالة إلى مساعدة غيرها، راغبة في فائدة السوي وكانت ودودة راسخة في الصداقة لأحبائها تكره الأزياء إلا أنها كانت تضطر عند الذهاب إلى الولائم وجميعات الأفراح أن تجاري غيرها في الاكتساء بألبسة على آخر طرز، وأما في سائر أوقاتها فكانت تلبس الألبسة التركية وهذه الألبسة التركية هي عبارة عن ثوب بسيط مما يقال له: ثوب الغرفة على أن هذا الثوب إن لم يكن يعرف حقيقة ما إذ كان يصح أن يقال له ثوب تركي إلا أنه يستعمل على هذه الصورة. وجملة القول أن السيدة "ن" كانت تميل إلى الأزياء التركية في حين إن السيدة (ص ... ) كانت لا تهوى ولا تحب سوى الألبسة الافرنجية. وكانت السيدة (ص ... ) كثيرة الملل والضجر في ذاك الصباح لأنها قد اضطرت على عمل ثوب جديد للذهاب به إلى أحد الأفراح كلفها 35 ليرة، وحيث أن الزفاف تأخر إلى فصل الشتاء مست الحاجة إلى عمل ثوب آخر إذ أن الثوب الأول لا يصلح للفصل المذكور وفضلاً عن ذلك فإنها لو قصدت أن تلبس ثوب السنة الماضية الذي لم تلبسه أصلاً لامتنع عليها الأمر بسبب ما طرأ على الزي من تغير، وقد صرحت هذه السيدة بضجرها وكدرها من التغيرات المذكورة ومن غلاء الأسعار في قيم الأقمشة وغيرها من صاحبات الأثواب ذاكرة أنها ابتاعت ذراع التخريم بثلاث ليرات، ونظراً لتغير الزي الأول قد أحوجها الأمر إلى طرحه في زاوية الاهمال. وكانت السيدة (ص ... ) تروي أسباب كدرها على الوجه المذكور غير أن السيدة (ن ... ) التي كانت تكره الأزياء قد أدت بها تلك الرواية إلى الحدة والانتقاد، فصرحت بما أورثها بيان تلك السيدة من التأثر والكدر، ثم عقب ذلك جرت المباحثة الآتي بيانها بين السيدتين فقالت السيدة (ص ... ) : إنني منذ السنة الماضية قد ازددت سمناً بحيث إن مشد الألبسة قد ضاق علي فهل يمكنني أن أجد من جنس القماش من أجل توسيعه، وعلى كل فإنني لو وضعت له قماشاً بسيط اللون لوجب مزجه لا فقط من جهة الصدر بل من سائر أطرافه. قالت السيدة (ن ... ) : (كلا لا يجب أن تحملي نفسك ثقلة لهذا الأمر) . قالت "ص" لها: ولماذا؟ قالت: ربما هزلت إلى أن يحل الأجل المضروب فحينئذ ينطبق عليك المشد كما يلزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 قالت لها: إنك تحملينني عناء بهذا الفكر. فقالت: (كلا إنني لم أقصد ذلك وإنما أنت التي تحملين نفسك عناء فلا أخفي عنك إنني سأدعى إلى ذلك الزفاف ولكنني إذا رأيت أنه سيطول الأجل علي الذهاب إليه فإنني أستغني عن ذلك. فقال السيدة "ص": كأنما تعنيني بما تقولين أنك لا تحبين أن تكتسي في الأفراح على مقتضى أصول الزي. قالت: لا، لا أقصد ذلك وإنما متى أردت أن أصنع ثوباً آخذ القماش إلى الخياطة وأطلب منها أن تصنع لي ثوباً من آخر زي، وعند الحاجة أكتسي بهذا الثوب. قالت: فإذا بطل زي الثوب التي تكونين لم تكتسي به فماذا تصنعين؟. قالت لها: أنادي الخياطة وأطلب منها أن تحوله إلى الزي الجديد. قالت: لا أعترض على ذلك وإنما أخبرك أنني أنفقت على هذه الأثواب خمساً وثلاثين ليرة، والنظر إلى التغيير الذي طرأ على كسمه أصبح يحتاج إلى خمس أو ستة أذرع من القماش. آخر ومعلوم أن القماش العاطل لا يصلح أن يضاف على الجيد وأقل ثمن ذراع القماش فهو من نصف ليرة إلى ثلاث ليرات ويلزمه خمسة عشر ذراعا من التخريم فإذا كان الذراع بخمسين غرشا بلغ ثمن الأذرع سبعمائة وخمسين غرشا , وإذا أضيفت إليه أجرة الخياطة وهي ثلاث ليرات كان المجموع ثلاث عشرة ليرة ونصفا, ثم إن الخياطة لا بد أن تضيف إلى ذلك لا أقل من ليرتين بحجة أنها أنفقت على بعض اللوازم الطفيفة فتصبح النفقات خمس عشرة ليرة ونصفا, أليس إن هذه القيمة تكون قد ذهبت جزافا؟ قالت السيدة "ن": إذن ما تقولين عن الخمس والثلاثين ليرة الأولى ألم تذهب جزافا أيضا؟ قالت: لسنا نجول عراة, كما لا يخفى. قالت السيدة "ن": لا أقول يجب أن نكون عراة الأبدان ولست أتأسف على الدراهم التي تنفق في مشتري الأقمشة وإنما أتأسف على الأموال التي تصرف في سبيل التخاريم وما ماثل ذلك من الزوائد والأطراف, وعلى القيم التي تدفع للخياطة لأنها تكاد توازي نصف الخمس والثلاثين ليرة. قالت السيدة "ص": ما العمل هل يمكننا أن نلبس القماش كما هو ألست أنت تخيطين أثوابك أيضا ثم تلبسينها؟ قالت لها: لقد أتيت بشيء يمنع ضرر الأزياء في الوقت الحاضر فإنني فصلت ثوبا على الزي التركي من القماش الثقيل لا يضيق ولا يحتاج إلى الإبدال والتغيير, وجعلته بسيطا لا زخرفة فيه, ولا زوائد وقد اقتصدت من إهمال التكاليف وزوائد عدة الأثواب, واشتريت قطعة من الماس البرلنتي بحيث إنني متى رغبت في بيعها لا أخسر من ثمنها شيئا بمثلها وبما ماثلها. قالت السيدة "ص": ستكونين بمعزل عن العالم! قالت لها: أنا لا أقول إنه يجب على الجميع أن يكتسوا بمثل كسوتي ولكن لو اكتسيت بالثوب الذي تغير زيه الأول لعرضت نفسي للهزء والسخرية. فقلت للسيدة "ص": إن ذلك ليدهش كثيرا ولست بمنفردة فيه بل إن الأوربيات أنفسهم يرينه غريبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أتحسبين متانة أقمشتنا الوطنية ورخص أثمانها قبيحا ونبتاع ذراع القماش الإفرنجي المزركش بالنحاس بليرتين لا تعجبنا أقمشة حلب والشام وبغداد وديار بكر وكلها من الفضة الخالصة لأن ذراعها لا يتجاوز ثمنه الخمسين غرشا إن كون القماش من متاعنا لا يمنع من أن نخيطه على الطرز الإفرنجي أفلا يعجبك هذا القماش الذي ترينه علي فإنه عبارة عن ثوبين طولهما عشرون ذراعا دفعت ثمنها ثمانية مجيديات فيكون ثمن الذراع ثمانية غروش, ولو كان هذا القماش من أقمشة أوروبا الحريرية ما أمكن مشترى الذراع منه بأقل من عشرين غرشا, ولقماشنا مزية أخرى وهي أنه إذا تلوث بشيء فيمكن غسله وكيه وحينئذ يعود إلى حالته الأولى! فقالت السيدة "ص": لا جرم غير أن أقمشتنا كلها على نسق واحد فلا يمكن تغيير أزيائها. قلت لها: الإنصاف أيتها السيدة لو كان عندنا للأقمشة الوطنية نصف الرغبة في الأقمشة الإفرنجية لترقت أقمشتنا أيما ترق فعلينا في بادئ الأمر أن نسعى في أن تباع أقمشتنا الحاضرة ليمكن إيجاد ألوان أخرى وأن نهتم بها اهتمامنا بالأقمشة الأوروبية إذ لا يحق لنا أن نقول: إننا طلبنا اللون الفلاني من الأقمشة الوطنية فلم نحصل عليه ومعلوم أن في الوقت الحاضر أخذت تنسج في البلاد المحروسة الشاهانية جميع الأقمشة كالأطلس والخز وغير ذلك وهي أكثر مما يلزمنا, وهذه الأقمشة لها محل من القبول في أوروبا فلا أدري لماذا نحن ننفر منها, أتظنين أن الإفرنج يرضون ويسرون بما نفعله وما نسلكه من طرق التقليد لهم؟ كلا, إنهم يعيبون علينا هذا الأمر ولقد يخجلني ما تقول كثيرات من النساء الإفرنجيات عن ميل الأوروبيين إلى أقمشتنا ونفرتنا منها إذ إن هاته الأقمشة ترسل إلى أوروبا على سبيل الهدايا ونحن لا نكتسي بها على الإطلاق نعم إننا مضطرون إلى الاكتساء ببعض الألبسة الإفرنجية ولكن هاته الألبسة هي كناية عن الفانيلات والجوارب والشيت والباتسته فإن بلادنا خالية منها. قالت السيدة "ن": أليس عندنا من القماش الكتاني ما يعادل الشيت (بصمه) ؟ فقلت لها: كلا, إن الأقمشة الكتانية لا تغني عن الشيت شيئا, فإن الفقير يمكنه أن يشتري ذراع الشيت بستين باره, ثم يخيطه ثوبا فيلبسه ويغسله وهلم جرا. أما الأقمشة الكتانية فإنها قاسية بحيث إذا غسلت ازدادت خشونة عن الأول, انظري إلى هذا الجمع الحاضر فإنك ترين أن الألبسة الليلية التي نكتسي بها في هذا الوقت كلها من الباتستة ولا يمكن أن نظفر لهذه الغاية بأحسن منها, أما أنت فترجحين الأقمشة الكتانية عليها. قالت السيدة "ن": كلا, إن ألبستي الليلية كلها من الباتستة ولا أكتسي بقماش آخر على الإطلاق. قلت لها: إذن يجب على الإنسان في بادئ الأمر أن يهتم بنفسه ثم بغيره وأنا لا أقول أنه يجب أن نحرم أنفسنا من المتاع الإفرنجي تماما ولكن أريد أنه يلزمنا أن نروج بضائعنا ولا ننبذها ظهريا. قالت السيدة "ن": صدقت, فإن الشيت أفاديا كثيرا واستنفد أموالنا أيضا. قلت لها: أجل إن الشبت والباتستة تتوارد إلى بلادنا من أوروبا بكثرة لأن الحاجة إليها عمومية ولا شك أنه إذا أردنا أن نحسب الأموال التي تخرج من بلادنا بمقابلة هذه الأقمشة نراها كثيرة جدا وموجبة للحيرة والدهشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قالت السيدة "ص": إذن عزمت أن اشترى بالخمس عشرة ليرة التي سأنفقها على إصلاح ثوبي للسنة الماضية قماشا وطنيا وأخيطه على الزي. قالت السيدة "ن": ما المانع من أن تخيطيه على الطرز التركي. قالت لها: أي طرز تعنين؟ أمثل ثوبك الذي تلبسينه الآن -يعني ثوب الغرفة وثوب الصباح- فإن هذا لما أنه يسمى العلوي أيقال عنه إنه طرز تركي؟ قالت السيدة "ن": إن ثوب الغرفة (روب دي شامير) إنما يكتسى به في الغرف بمعنى أنه لا يمكن الظهور به أمام الناس والقصد منه أن يحصل المرء على راحته, وثوب الصباح يكتسى به لكي يكون الإنسان مرتاحا في وقت الصباح أي إنه بعكس ثوب الغرفة أما نحن فإنه يمكننا أن نلبس أيا شئنا منهما قصد الحصول على الراحة في جميع الأوقات. فقلت لها: إن السيدة "ص": يميل قلبها إلى الأزياء الإفرنجية فتخيطها كما تريد, وأنت أيتها السيدة تميلين إلى الزي التركي وهكذا تفعلين, أما أنا فلأنني لا أكره الطرزين ترينني أخيطها أحيانا على الزي الإفرنجي وأوقاتاً على الطرز التركي حسب ما تميل إليه نفسي, ولقد قلت: إنه بما أننا لم نخرج عن عاداتنا لذلك لا نعرض أنفسنا للهزء, على أنه متى أردنا أن نكتسي على الطرز الإفرنجي ولا شك أن حريتنا في مسائل الكسوة إنما هي نعمة مخصوصة والخلاصة أقول وأرجو أن لا يصعب عليكما مقالي إنني لا أذهب مذهب إحداكما من جهة التمسك بالتقاليد الإفرنجية ما أقيد نفسي فيها تقييدا, ولا أرد بعض الفوائد التي تشاهد في الألبسة الإفرنجية تعصبا للعادات التركية إذ إنه لا ينكر أن الأزياء قد أتت بفائدة أخصها منع جر الأذيال. قالت السيدة "ن": إن الأزياء تختلف كثيرا فلا تستقر على حال فيبينا تكون على النسق الفلاني إذ انتقلت إلى طرز آخر وبينا تكون ضيقة على الحقوين إذ تنفرج عنهما وبينا يجب أن تكون بسيطة للغاية إذ تتغير تغيرا مطلقا، ثم ترين أيضا أن زي الأذيال قد عاد تكرارا. فقلت لها: نحن، يجب علينا أن نتبع الأزياء التي تعجبنا ونرضاها فالتي نراها غير ملائمة في ذاك الوقت يلزمنا أن ننبذها ظهريا. وفي تلك الأثناء دخلت علينا سيدة مسنة فقالت: آه من فتيات هذا الزمان أرى أنهن لا يزلن مكتسيات بألبسة النوم حتى أنهن لم يسرحن شعورهن أيضا وا أسفاه عليهن من مسكينات إنني لما كنت مثلكن لم أكن أعرف المحل الذي أطؤه. فقلت لها: ألم تكوني تفتكرين بأي إنسان؟ قالت العجوز: كلا، يا روحي لا أقصد ذلك مما قلت وإنما قصدت فيما ذكرت مجرد المزاح لا غير ولعمري إنني إلى مثل هذه الساعة لم أكن أقف في محل معلوم بل كنت ألبس ثيابي وأطير ركضا. قالت السيدة "ص": هل لك أن تنبئينا كيف كانت كسوتك في أيام صباك؟ قالت: عند النهوض من الرقاد كنت أقف أمام المرآة فأربط عصابتي - المسماة (حوطوز) - وألبس ثيابي التي كانت مفتوحة تماما على الصدر. قالت السيدة "ص": هل كان الثوب المفتوح من الصدر موجودا في ذلك الزمان إذن يفهم مما قلت إن هذا الزي كان هو الزي الدارج في العصر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 قالت العجوز: لا جرم فإنه كان من جهة مفتوحا على الصدر، ومن جهة ضيقا كثيرا وا أسفاه عليكن أيتها الفتيات إنكن لم ترين شيئا فأين هذا العصر من عصرنا الماضي. قلت لها: ألم يكن في عصر صباك عجائز لم يكن يستحسن ذوقك؟ قلت: كيف لا؟ فإن عجائز ذلك العصر لم يكن يرضين ذوقنا وزينا. قلت: ماذا كن يقلن عنه، وكيف كانت كسوتهن؟ قالت العجوز: إن العصابة المسماة (حوطوز) لم تكن عامة وإنما كان للعجائز عصائب مخصوصة بهن يسمينها (قايق حوطوز) وكانت مؤلفة من سبعة أو ثمانية مناديل يعلوها ثلثمائة إبرة. قالت السيدة "ص": خطابا إلى السيدة "ن": أيتها السيدة الميالة إلى الأزياء التركية إنك ما دمت شديدة الميل إلى هذه الأزياء فعليك بعمل هاته العصابة لأنها تمثل الأكسام التركية كل التمثيل وإلا فاقصري عن التضجر من الألبسة الغربية كأثواب الصباح والغرفة والجاكتا إلخ. قالت السيدة "ن": إنني أرى راحة في استعمال الأثواب التركية ولأجل ذلك أكتسي بها وما الفائدة من وضع مثل هذه الأحمال على رأسي. قالت السيدة "ص": إذن أرجوك أن لا تعترضي على كل الناس لأنه قد تبين لك أن الأزياء تتغير من وقت إلى آخر وأن هاته الحال موجودة عندنا أيضا على أن الفرق بين الزمانين أن الألبسة - في الماضي - كانت تتغير مرة في كل أربعين أو خمسين سنة، أما الآن فإنها تتغير في كل ستة شهور. فقلت: أجل، إن ذلك تأثير السرعة في أزمنتنا، فإن سكان الدنيا الذين يتقلبون أبدا من حال إلى حال لا يمكن أن تبقى ألبستهم على حال واحدة. قالت: فإذن صار يجب أن نلبس ثيابنا. قلت: فليأتوا بألبستك إلى هنا. وبعد أن قلت ذلك جاءوا إليها بالألبسة فأخذت الجارية تلبسها، وبينما كانت تربط رباطات المشد قالت: آه إنني حتى الآن لم أتعود تحمل هذه المشد فإنه يضايقني ويسلب راحتي، فكيف أعمل لا أدري؟ فقلت لها: لا تلبسيه. قالت: إذ لم يلبس لا يبقى من كسم للأثواب. فقلت لها: إلبسيه إذا قالت: أنا لم أقل لك إنه يؤثر على معدتي. فقلت لها: ماذا أقول يا سيدتي فإما أن تلبسيه أو لا. قالت: الأمران ممتنعان. قلت لها: إذا وجدت لهما ثالثاً فافعليه. قالت السيدة "ن": آه يا عزيزتي إن ثوبي الواسع لا يحملني شيئا من هاته الأثقال. فقالت السيدة "ص": إنه لا يعرف لك كسم لأنه لا ينظر بل يبقى محجوبا. فقالت لها: أيحسب ذلك عيبا فإنه إذا كان به قصور فلا يشاهد؟ فقلت للسيدة "ص": ألم تقرئي ما كتبه مدحت أفندي بشأن المشد في كتابه المسمى بالمصاحبات الليلة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 قالت: أمان يا عزيزتي ماذا قال بهذا الشأن؟ فقلت لها: ها هو على مقربة منك فخذيه واقرئي. قالت: أريني المحل المقصود منه. فأخذت الكتاب ولما عثرت على الفقرة المتعلقة بالمشد دفعته إلى السيدة "ص": فما أعتمت بعد قراءته أن قالت: يا عزيزتي إن لم يضع له قرارا قطعيا فقد استصوب المرين أي أن يلبس وأن لا يلبس. فقلت لها: إذا تريدين أن يقول أكثر من ذلك، فإنه وافق على قول الحكماء وعلى قول الخياطين فقد قال مدحت أفندي: إذا شاءت المرأة عمرا عزيزا فلتبسه، وإذا أرادت عمرا لذيذا فعليها أن لا تلبسه، وأنت مخيرة بين المرين وبعد أن انتهت الجارية من تلبيس السيدة وتبكيل الأزرار أخذت ملاقط الشعر لتحميها على النار ثم تعود بها لتصلح شعر سيدتها فقالت السيدة "ص": ما هذا الكسل أيتها السيدات أليس في نيتكن أن تلبسن أثوابكن؟ فقلت لها: لا يجب أن تهتمي بهذا الأمر إنني أستطيع أن ألبس ثيابي قبل أن تنتهي من تزيين شعرك. فقالت مخاطبة إلى جاريتي اذهبي أنت وألبسي سيدتك ثيابها فإنني أراها لا تحب أن تفعل ذلك من نفسها. فقالت لها الجارية: إن سيدتي تكتسي بيدها ولا تحب أن ألبسها ثيابها. قالت: أصحيح أنها متعودة على ذلل؟ لعمري إنها لا تعرف راحتها. فقلت لها: لا يمكن أن أتصور تعبا يزيد عن الاحتياج إلى شخص آخر في أمر اللبس وكثيرا ما كنت ألاقي من العذاب ألوانا عندما كانت تأتي البنات أحيانا إلي ويطلبن مني أن أسمح لهن في مساعدتي بلبس الثياب، وقد قلت لهن مرارا: إنكن إذا كنتن راغبات في راحتي فدعنني وشأني ولا تتعرضن لمساعدتي، ومذ حينئذ أصبحن لا يتعرضن لي بشيء من ذلك. قالت: كيف تستطيعين أن تعقدي ربط المشد؟ فقلت لها: عندما ألبسه لأول مرة أضيقه من الوراء إلى درجة اللازمة وأتركه معقودا هكذا فلا يبقى إلا ربطه من جهة الصدر وتزريره، فأفعل ذلك بنفسي خصوصا وأنت تعلمين أنني لا أستعمل المشد يوميا إذ لست بميالة إليه كل الميل ومتى استعملته لأشد كثيرا. قالت: أنت تسرحين شعرك بنفسك أيضاف أما أنا فإنني منذ صغري كانت مربيتي هي التي تسرحه والآن قد تعلمت هذه الفتاة طريقتها فصارت ترتب شعري أحسن ترتيب. قلت لها: فإذا لم تكن هذه الفتاة ماذا تفعلين؟ قالت لا جرم، إنني حينئذ ألاقي كثيرا من المشقة لأنني ميالة إلى الترتيب التام، وأولئك البنات لا قدرة لهن على هذا العمل. فقالت جاريتي: إن سيدتي تحسن تنظيف وصف الشعر كل الإحسان حتى إننا عندما نكون متهيآت للذهاب إلى فرح ما تأخذ هي في تسريحنا إذ ترى أننا لم نحسن صنعته. فقالت: لعمري إن ذلك حسن جدا فإن أمكن رتبي لي شعري إلى أن تكون الفتاة قد انتهت من إحماء الملاقط. فقلت لها: أتحبين أن أرتبه كما كان مرتبا بالأمس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 قالت: نعم. فبادرت في الحال إلى جمع الشعر وتسريحه ثم قلت: قد تم المقصود يا سيدتي. قالت: يا عجبا ما هذه العجلة. فقلت: ماذا يهمك الاستعجال ما عليك إلا أن تنظري إذا كان أتى حسب المرغوب أم لا فأخذت السيدة "ص" شعرها بيدها ونظرت إليه مليا ثم قالت: لا جرم انه في غاية الإتقان. غير أن زينتها لم تكن قد تمت لأنها كانت تنتظر (الكي بالملاقط) وفي تلك الأثناء دخلت جاريتها الملاقط المحماة فخرجت إلى غرفة ثانية لألبس ثيابي وبعد أن لبستها عدت إلى حيث السيدة "ص" فوجدت أن عملية الكي لم تنته. فقالت: يا عجبا، أراك قد لبست ثيابك وزينت شعرك في هذه الفترة. قالت السيدة "ن": لقد رأيت هناك رسما فما هذا الزي؟ فقلت لها: وجدته في غرفة صناديق والدتي فهو رسم إحدى المادامات في الزمن القديم. قالت: ما هذا الفستان أرى أنه لا فرق بينه وبين المضرب (الخيمة) انظري إلى هذه العصبة وأنت أيتها السيدة "ص" تعالي وشاهدي زي ذاك العصر. فقالت لها: أتقصدين أن أستعجل ليحترق جبيني. قالت السيدة "ن": إذا كنت لا أصنع مثل هذا الفستان فإنني أقدر (أن) أصنع نظير عصبتها أنت تزينت بالزي الجديد، وأنا أنيا بالقديم أليس كله يحسب زيا فلا فرق بين أن يكون جديدا أو قديما، ثم قالت لي: يا عزيزتي وصديقتي أيوجد عندك قليل من البطانة السوداء وشيء من القصب؟ فقلت لها: بلا كسل، أتشغلين نفسك بهذا الآن؟ قالت: لا جرم إن الزهور الموجودة في البستان هي مرجحة على الزهور المنتشرة في هذا الرسم لكونها طبيعية فإذا لم يكن ثمة مانع أن أجمع شيئا منها. قالت ذلك وخرجت إلى الجنينة ثم عادت بالزهور التي رغبت فيها فصنعت شيئا مماثلا تماما لشكل العصبة المرسومة في الرسم تعصبت بها، وقد اشتهينا أن أحدا يسمع قهقهتنا إذ ذاك. فقالت السيدة "ص": عجبا، هل كانت هاته العصبة في زمن عصبة القايق الذي أشارت إليه المربية فإن من تأمل شكلها الغريب أدرك أنهما كانتا متعاصرتين. قلت: يحتمل ذلك. وفي تلك الأثناء أطلت إحدى الجواري رأسها من الباب قائلة: لقد جاءت السيدة الكبيرة، أما السيدة "ن" فإنها لم تجد فرصة لرفع العصبة عن رأسها، ولذلك دخلت الخزانة الموجودة في الداخل لتعلق الثياب محتجبة عن أعين والدتي التي دخلت علينا وخاطبتنا بما يأتي: لقد ذهب عني أن أخبركن أيتها الفتيات أنه جاءنا أمس خبر يفيد أنه سيأتينا اليوم زائرتان أجنبيتان وأنهن يرجوننا أن نستقلهن بالأزياء التركية. وفي ذاك الوقت ظهر وجه السيدة "ن" وكشفت العصبة لأن المومى إليها لم تتمكن من إخفاء نفسها ضمن الخزانة فتمسك بالتعليق ولكن لم يجدها ذلك نفعا حيث فتح باب الخزانة وظهرت العصبة التي كانت تحاول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 إخفاءها، فأخذنا جميعنا بالقهقهة بحيث اضطرت السيدة "ن" أن تهرب إلى خارج الغرفة، ولما سكنت ضوضاة القهقهة سألتنا الوالدة عن أسبا الضحك فأفهمناها حقيقة الواقعة. فقالت الوالدة: أسرعن بارتداء ملابسكن فإن السعاة قريبة من الرابعة. فقلت: يا عجبا، ترى في أية ساعة عزمن على المجيء؟ قالت: لقد أنبأن أنهن يحضرن بعد الظهر على أنهن لم يعين ساعة معلومة. ثم خرجت ولما كانت السيدة "ن" تحب الاكتساء بألبسة تركية لم تكن معرضة للنقلة وقد قضت الضرورة أن أحضر رداء للسيدة "ص" فأحضرت ثوبين من الأثواب التركية أحدهما للسيدة "ص" والآخر لي. وبعد أن ارتدينا بهما وضعت كل منا على رأسها عصبة مزينة بالأزهار المماثلة للون الأثواب مما كنت صنعتها بيدي، ولما مررنا من أمام المرآة رأيت أن زينة السيدة "ص" تفوق زينتنا حسنا وجمالا، وقد اعترفت لها بذلك لأن المشد الذي كانت تلبسه قد زاد بحسن كسمها فظهرت بمظهر لا يكون إلا بمن يستعملن المشدات، وقد تبين لي أن المشد يجعل انتظاما كليا للألبسة التركية أكثر منه للألبسة الإفرنجية، كما أن وضع الزهار في مفرق الشعر مما يزيد الوجه رونقا ولطافة. فقالت السيدة "ص" إذا كان أعجبك هذا المظهر فعليك أن تفرقي شعرك كشعري وأن تلبسي المشد فقلت لها: نعم، إنني سألبس المشد ولكن فرق الشعر يستغرق وقتاً طويلاً، ولقد آن وقت مناولة الطعام وكما كنا لا نعمل الساعة التي يأتي بها القادمات إلينا أرى من المناسب أن نكون على استعداد لاستقبالهن. وبعد عشر دقائق كنا جميعا على قدم الاستعداد، فدعونا إلى المائدة وبعد الطعام عدنا إلى غرفتنا. فقالت السيدة "ص": إن الظلم الذي تلاقيه من زوجها قد سلب راحتها ومنعها من الخروج. قالت السيدة "ن": من العبث أن يعيشا معا على أنهما إذا افترقا زالت تلك الصعوبة في الحياة وكثرا ما قالت السيدة "ق": إنني لا أريدك فلنفترق، أما هو فقد كان له عن قولها إذن صماء. قلت: ما هي أسباب عدم راحتها؟ قالت السيدة "ص": إن الرجل سيء الأخلاق وهو لأقل سبب يضربها وهي كثيرا ما قالت له أن يتركها لأنها لم تعد تتحمل معاملته وهو كان يقول لها إنه يموت ولا يتركها. قالت: فإذا هو يحبها؟ قالت السيدة "ص": ليتها لم تكن هذه المحبة. قالت السيدة "ن": إن الرجل لا خلاق له فإنه لا فقط يعامل امرأته هذه المعاملة بل هو كذلك مع الخادم والخادمة ولا قبل له على نبذ هذه الأخلاق السيئة ولا على ترك امرأته. قالت السيدة "ص": إن زوجته لا تقبله فهل تجبر على البقاء معه. قالت السيدة "ن": أجل إنها في اليوم الماضي كانت تقول: إنه من نفسه لا يريد أن يتركها وإنها ستضطر في آخر المر إلى مراجعة المحكمة. قالت لها: إن الطلاق إنما هو راجع لإرادة الرجال لا غير فإذا قصدوا أن يطلقوا نساءهم أمكن لهم ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 بكلمة واحدة، أما المرأة فإذا كانت راغبة في الطلاق تضطر إلى مراجعة المحكمة، ثم قالت لي: وأنت كنت تقولين منذ مدة أن الأمر مشكل عن المسيحيين فإنهم لا يستطيعون أن ينفصلوا عن بعضهم بعد الزواج وإنما يجبر الرجل أو المرأة - أي منها كان سيء الأخلاق - أن يصرف عمره بالنكد والكرب بعد جواز الطلاق وإننا نحن أحسن حالا لوجود الطلاق عندنا فانظري لنا وسيلة للطلاق؟ فقلت لها: كيف ترغبين أن يكون؟ قالت: أرغب أن يكون في الأمر مساواة بين الرجل والمرأة بمعنى أن النساء يكن كالرجال قادرات أن يطلقن رجالهن بنفس السهولة الموجودة عند الرجال. قالت: ماذا تقصدين بذلك؟ قلت: إن المرأة متى لبست ثوبا أزرق تطلق من زوجها والسلام. قالت السيدة "ن": أتقولين حقيقة أم أنت راغبة في المزاح؟ قلت لها: إذا كنت ترتابين في قولي اذهبي إلى إنطاكية وتتأكدي ما قلت. قالت السيدة "ص": وضحي أكثر من ذلك وزيديني معرفة. قلت: إن المرأة في إنطاكية عند زفافها تأخذ معها ثوبا أزرق ففي أي وقت أرادت ترك زوجها تلبس الثوب الأزرق وحينئذ يعتقد بأنها صارت مطلقة، وهذه الحال معتبرة في عرف البلدة أيضا. وأما المرأة الفقيرة التيب لا تملك ثوبا أزرق فإنها تستعيره من امرأة أخرى وتلبسه، ومتى انتهت من غرضها تعيده إلى صاحبته. قالت السيدة "ن": كيف يمكنهم توفيق هذا الأمر على الأحكام الشرعية؟ فقتل: ألم تكن المسألة الشرط موجودة شرعا فالظاهر أنهم حين الزواج يتزوجون بهذا الشرط فيعتقدون مقاولة من مقتضاها أن المرأة تطلق متى لبست ثوبا أزرق. قالت: الذي اعلمه أن النساء يشترطن على رجالهن المر الذي يرغبنه فإذا فعلوه أصبحن طالقات منهم على أنني ما كنت سمعت بما تقولين الآن؟ فقلت: يفهم من ذلك أن نساء إنطاكية أعقل منا كثيرا فإنهن متى تزوجن يضعن شروطا ويتزوجن بموجبها وليس ذلك منحصرا بنساء إنطاكية فقط وإنما في عشيرة (عنزة) عادة مألوفة وهي أن يربط سجف في المضارب ويبقى مربوطا على الاستمرار فإذا كانت المرأة راغبة في ترك زوجها حلت رباط السجف وفي ذلك إشارة إلى أنها أصبحت طالقة منه ولعشيرة التركمان - المسماة (تحبر لي) - عادة أخرى من هذا القبيل وذلك أن المرأة متى أرسلت سفيرا إلى زوجها تخبره بواسطته أنها نفرت منه فحينئذ تصير طالقة وكل ذلك موقوف على الشرط. قالت السيدة "ص": لعمري إنهم عند النكاح عندنا لو وضعوا شرطا بثوب وردي أو أفلاطوني لكان ذلك حسنا جدا. فقلت: لو وضعوا عندنا مثل ذلك من يعلم عدد الرجال الذين كنا نطلقهم فيكل شهر؟ قلت: لأي سبب، أليس عندنا عقل يوازي عقل نساء إنطاكية ونساء العشيرة؟ قلت: إن الأشياء التي تولد عندنا الأسباب كثيرة إذ من المعلوم أن نساء الخارج متى شبعت بطونهن ولبسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ثوبا ما لم تبق لهن حاجة من الحاجات وليس عندهن ما عندنا من ضروب النزهة والترف حتى تأخذن الحدة من أزواجهن إذا منعوهن عن الذهاب إلى الحدائق والمنتديات. قالت: ما معنى هذا الكلام إن أكثر رجال الخارج والعشائر يتزوجون عدة نساء فهل من سبب يبعث على الحدة والكدر أكثر من هذا السبب؟ فقلت: إنهن يكن مسرورات من الضرائر وهن اللاتي يرغبن في تزويج رجالهن حتى تبلغ أزواجهم أربعا لأنه كلما كثرت الضرائر قلت عنهن الخدمة، فإذا أخذ الرجل على زوجته امرأة ثانية خفت عنها نصف الخدمة فإذا اقترن بثالثة كانت مطالبة بالثلث، وإذا أخذ الرابعة هبطت خدمتها إلى الربع، وهؤلاء النساء المسكينات يرغبن في تخفيض خدمتهن إلى الخمس لو كان ذلك بالإمكان، ولكن الشريعة لا تأذن بأكثر من أربع. قالت: إن ذلك للعجب لأجل الخدمة يقبلن الضرائر. قلت: أيتها السيدة أعندك نظيرهن حيوانات وبهائم وجمال ومعاول لنقب الأرض؟ وهل تضطرين إلى تحميلها الأخشاب والأعشاب؟ أذهب عنك كيف نستثقل عقص الشعر وتسريحه وإنا مفتقرات إلى أن نستمد المعونة والمساعدة من الجواري؟ قالت: أنا لا أريد هذه الخدمة التي يتحملنها ولا الضرائر أيضا وإنما يعجبني من عادتهن مسألة الثوب الأزرق قالت السيدة "ن": لننظر فيما إذا كان ذلك حسنا هنا وإلا فإنه كما قالت رفيقتنا إذا لبس النساء ثوبهن أبصرن إلى حالة الرجل غير المتأهل. قلت: إنني أنقل لكن فقرة تكون مثالا لما نحن بصدده فقد اتفق أن امرأة كانت في أثناء بحثها مع زوجها عن محبتها له تقول دائما: (آه يا سيدي إنني أسأل الله أن يقبض روحي بين يديك فإنني أفضل الموت على الانفصال عنك) . وكان الرجل نبيها واقفا على أسرار العالم. أما المرأة فقد كانت جاهلة بالقراءة والكتابة لا تعلم شيئا من أحوال الدنيا، ففي ذات يوم جاء الرجل إلى بيته وكان مغموما جدا بحيث إنه كان لا يقوى على فتح فيه والتلفظ بكلمة من الكلمات فزوجته حملت ذلك على انحراف في صحته، وأخذت تسأله عن سبب كدره. أما هو فأجابها إنه لم يكن منحرف الصحة وإنما طرأ عليه حادث عظيم كدره جدا وان هذا الحادث مهم إلى حد أنه لا يقوى على بيانه، وبعد إلحاح كلي من المرأة عقبه سكوت طويل من الرجل قال لها (أخيرا) : آه يا زوجتي المحبوبة أنت تعلمين أنه لحد الآن كان الرجال يطلقون نساءهم ولكن وضعت الآن أصول جديدة من مقتضاها أنه يجوز من الآن فصاعدا للنساء أن يطلقن رجالهن فأنت لا تنكرين علي محبتي لك وتعلمين أنه لما كان عدم الانفصال عنك متعلقا بي دون غيري لم يكن لي أقل هم وكدر من هذا القبيل، أما الآن فإنني أفتكر ماذا يحل بي من القهر والنكد لو قصدت أن تطلقيني) . فأجابته هي قائلة: أقلع عن هذا الفكر ولا تهتم به فأنا لا أتركك ولا أطلقك بالكلية) . وبعد أن مر على ذلك نصف ساعة طلب الرجل منها شربة ماء فالتفتت إليه قائلة: (عفوا أنا لست بقائمة فقم أنت واشرب) ، فأجابها الرجل بقوله: (يا عزيزتي، هل من العدل أن أقوم أنا وأنت لا تقومين إنني أشتغل من الصبح إلى المساء لأجل القيام بحاجتك رغائبك، والله يعلم ما ألاقي من المتاعب حتى إذا أتيت إلى البيت بعد تلك المشقات ألا يلزم أن أرتاح فيه قليلا) أما هي فأجابته قائلة: (إن رجليك غير مكسورتين، فقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 واشرب) . وفي خلال هذه المحاورة بينهما غلبت الحدة على المرأة فقالت له: (لا تزدني فوق طاقتي فإنني أسمعك من فمي ما لا تحب) . قالت السيدة "ص": إن هاته الأمثلة قد وضعت بقصد المزاح بين الرجال والنساء وإنني أتأسف على كلامك الذي قلته. فقلت لها: أنا لم أر وما رويتك حقيقة وإنما نقلته من الفكاهة ولكنه مثل ما جرى بالنقل ومع ذلك فإنه لا يسعنا أن ننكر أن النساء هن أقل صبرا وجلدا من الرجال. قالت: لماذا إنه ليوجد بين النساء من هن أكثر عقلا وأشد صبرا من الرجال، كما ان كثيرا من الرجال هم أدنى معرفة واقل جلدا وأعظم جهلا من النساء. قلت: نعم، لا أنكر صواب القول ولكن ذلك من قبيل الاستثناء أيتها الصديقة والاعتبار في كل شيء للأكثرية وهكذا تصدر الأحكام حتى إن الأوروبيين الذين يطلقون عنان الحرية لنسائهم لما أنهم يعلمون أن النساء أدنى معرفة من الرجال يسلمون المهر الذي يخصصونه كثمن جهاز لبناتهم إلى الرجال ولا يبقونه بأيدي النساء قالت: وهذا لا أريده بأن أرى أموالي بيد زوجي. قلت: حيث إن الرجال يستطيعون أن يحسنوا إدارتها جرت العادة عندهم أن يسلموها لهم. قالت: فإذا خطر للرجل ابتلاع أموال زوجته مع أهوائه واسترسالا إلى إهانتها واحتقار لها؟ قلت: هذا محول علي طالعها. قالت: كلا، أنا لا أمكنه أن يخونني بواسطة دراهمي. قلت: ماذا تعملين؟ قالت: إنني أطلقه من تلك الساعة. قلت: إن الطلاق عندهم لفي غاية الأشكال، والطلاق لأجل بلع أموال المرأة إنما هو في عداد المستحيلات وأما عندنا فلا حاجة أن نتحمل مشقة الطلاق لأجل ذلك لأن أموال المرأة لا تدخل تحت حكم الرجل حتى يتمكن من هضمها. وحينئذ سمعنا صوتا يشير أن إحدى السفن تتقرب من الشاطئ، فانصرف ذهننا إلى أن الضيوف قادمون عليها، فنهضنا ووقفنا على النافذة المطلة على الساحل، فرأينا في جملة الخارجين منها ثلاث نساء مرتديات بألبسة جميلة. قالت السيدة "ص": انظري إلى هاته المدام البيضاء وتأملي في حسن ألبستها البسيطة. قلت: لعلهن من ضيفاتنا. قالت: ولكن أراهن قد تجاوزن الباب. قالت السيدة "ن": ربما أنهن يأتين إلينا من باب المنزل انظري الرجل الذي يصحبهن وهذا طبيعي لأنهن لا يحضرن منفردات. قالت السيدة "ص": أنعم ها قد دخلن من باب المنزل ولعمري إنهن جميلات وألبستهن من آخر زي فكيف تحبين أن تدخليني عليهن بألبستي الحاضرة لا جرم أنهن يحسبننا لا ندرك (شيئا) فلا أحب أن أظهر أمامهن بألبسة بسيطة في حين إنهن مكتسيات بألطف كسوة، ولو عرفت أن الأمر سيكون كذلك للبست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أحسن الأثواب وأكملها فتفضلي يا عزيزتي بإعطائي ثوبا من الأثواب الإفرنجية الجميلة لأرتديه وأظهر به أمامهن. قلت لها: يا عزيزتي، هل من الممكن أن تحضر خياطة لتخيط لنا أثوابا موافقة؟ نعم إن ثوبي التركي قد جاء ملائما لك من حيث إنه مفتوح الصدر ولكن مشدي لا يمكن أن يلائم كسمك وأنت تعلمين أنه لو وجد قماش من لونه وأحضرنا خياطة مخصوصة لتخيطه على طريقته موافقا لك من آخر زي للزم لأجل ذلك نهارا كامل، فهل نؤجل مقابلة ضيفاتنا إلى غدا؟ قالت لعمري، إنني أخجل من الظهور أمامهن في حالتي الحاضرة. قالت السيدة "ن": يا عزيزتي، يمكن أن تحتجبي فلا تظهري أمامهن. قالت: ما شاء الله، كيف يمكن ذلك وأنا راغبة فيا لتفرج عليهن وعلى ألبستهن الجميلة؟ قالت: (أيتها السيدات، إن المدامات القادمات إلينا لو لم يكن عارفات بأن لنا ألبسة إفرنجية ما كن طلبن منا أن نكتسي بألبسة تركية، ومن المعلوم أنه يجب علينا أن نخدم ذوق ورغبة الضيف أكثر من ذوقنا ورغائبنا. وبينما كنا نهزل ونهذر على هذا الوجه كانت المدامات دخلن إلى القاعة فنهضنا لاستقبالهن وبعد أن حيياهن جلسنا إلى مقربة منهن، وقد تبين لنا من منظرهن أن إحداهن ذات بعل وتبلغ السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من سني العمر، ممشوقة القوام طويلته، حسنة الكسم، زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، جميلة الجملة. والثانية: ذات خدر في التاسعة عشر أو العشرين من العمر وكانت هاتان الصبيتان شقيقتين، والشقيقة الثانية معادلة للأولى بحسنها ولطفها ومع أن الجمال واحد لا أكثر غير أن أنواعه متعددة جدا إلى حد أن ما يراه هذا جميلا يراه ذلك بالعكس، بمعنى أن الأميال مختلفة في الناس لا يمكن أن تتفق على وجه واحد، وذلك مما يمنعنا من البحث في أسرار الطبيعة. ألا ترى أن فلانا يستحسن الحاجب الأسود والعين السوداء، وفلانا يميل إلى الشعر الأشقر والعين الزرقاء، وفلانا يقف بين الذوقين فيعجبه الحد الوسط من النوعين والبعض لا يرى جميلا في غير السمينات، والآخر يحسب الجمال في الرفيعات الهزيلات. وكثيرا ما نسمع قول فلان عندما يرى سمن: آه لو كانت أقل سمنا مما هي عليه الآن. وقول الآخر عن الهزيلة: لو كانت أثر سمنا لبلغت أقصى درجات الجمال. لا جرم أن القول هذه وعدم جمال تلك بالنظر إلى الأمزجة والأذواق ليس من الإنصاف في شيء. نعم، إن كلا من الناس مخير في ميله ورغبته له أن يستحسن ما يستقبحه الآخر وبالعكس، غير أنه لا يناسب أن يقال: هذا جميل، وذلك غير جميل بالنسبة إلى الميال والأذواق لأن الحق سبحانه وتعالى قد برأ أهل الجمال على ألوان وأشكال شتى فإغماض العين عن قدرته وحكمته غير موافق للحقانية. وقد كانت الصغيرة جميلة الصورة إلا أن جمالها يختلف عن جمال الكبرى ومع أنها أقصر من شقيقتها بأصبعين غير أن هيف قامتها ووجود الأولى أكثر سمنا منها يظهر للعين أنهما متساوين قدا. وهي أن الصغيرة ذات عينين زرقاوين مائلتين إلى الاخضرار وأهدابهما طويلة سوداء، وحاجباها معتدلان في الوضع والرسم متوسطان بين القصر والطول، وشعرهما أسود وشعر رأسها أكلف (كستنائي) وهي بيضاء اللون كشقيقتها غيران الفرق بين بيضاء الاثنتين إن بياض الكبرى مشرب بلون أحمر على حين أن بياض الصغرى كان ناصعا شفافا. وكان جمال الكبرى لأول نظرة بالعين الناظرة. أما الثانية فكانت على حد قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا والمباينة الموجودة بينهما في الهيئة من حيث إن الأولى: كانت شقراء الجملة، والثانية: سوداء شعر الحاجبين والهدبين زرقاء العنين كستنائية الشعر على كونهما شقيقتين لا تقد غريبة في بابها لأن الأولاد الذين يأتون من آباء شقر وأمهات شقر تكون هيآتهم كهيآت آبائهم وأمهاتهم، وهكذا الذين يكونون من أب أشقر ووالدة سوداء العنين والحاجبين، والشعر وبالعكس فإن بعضهم يشبه الأب والبعض الآخر يشبه الأم كما حصل في هيئة ذات الخدر المختلفة عن هيئة شققتها. ولما زايلنا ظهر السفينة رفعتا عنهما ثوب الزيارة الذي كنا نظرناه عليهما فتبدت للعين ألبستهما التي كانت مستورة بالثوب المذكور، وكانت جميلة جدا، وكانت ذات الخدر تلبس ثيابا حريرية بيضاء وقماشها بسيط للغاية، والثانية لابسة ثوبا يضرب إلى لون الفضة ظريفا وبسيطا أيضا. فلنأت الآن على وصف الضيفة الثالثة التي عرفنا أنها ذات خدر أيضا وهي كانت حسنة في وقتها أما الآن فإنها تبلغ نحو الخمسين من سني الحياة ومع أن محياها وجسمها قد أقالهما العمر من عذاب الزي والزينة إلا أنها كانت تحملها هذه المشقة، فقد كانت ألبستها وشعرها الممزوج بياضا في غاية الترتيب ومنتهى الانتظام. وقد كنا في القاعة مع الضيفان والوالدة وسائر أفراد العائلة فعرفتهن بالوالدة وتبادلن معها رسم السلام بالإشارة وقد فهمنا أن ذات الخدر المسنة تكون خالة الصبيتين الشقيقتين. وكانت السيدة "ص" تشارك هذه العاجزة في الترجمة باللغة الفرنسية فأخبرتنا الضيفات أنه لم يمر على مجيئهن إلى الأستانة إلا ثلاثة أيام، صرفن اليوم الأول في الراحة من عناء السفر، واليوم الثاني في قبول زيارة أقربائهن وأحبائهن الساكنين في دار السعادة، واليوم في التفرج على أسواق (بك أوغلي) ومخازنها بحيث اتضح لنا من إفادتهن أنهن كن ينظرن إلينا كأنهن من عالم الترك ونسائهم. وفي خلال ذلك أخذت الشقيات تتكلمان معا باللغة الإنكليزية. فقلت خطابا للسيدة "ص" إليك لقد تم الأمر فإنهما سيتكلمان باللسان الإنكليزي بمعزل عنا ولذلك يلزم أن لا تجعلي لهما سبيلا يدركان أنك تفهمين اللسان المذكور. قالت: كلا، لا أتركهما يفهمان ولكن أرى أنهما ينما هما يتكلمان بالإنكليزية فخالتهما ملتزمة جانب الصمت فالظاهر أنها لا تعرف اللسان المذكور. فقلت لها: ماذا تقولان؟ قالت السيدة "ص": إنهما قالتا إننا نعرف المعاملة الحسنة آه يا عزيزتي أمل أقل لك إنه يجب أن نلبس من آخر زي ثم نظهر أمامهن فلا نشك أنهن سيحسبننا جاهلات لا ندرك شيئا. وفي خلال ذلك التفتت إلينا ذات البعل قائلة: إننا كنا رجوناكن أن تكتسين ألبسة تركية فهل كان ثمة مانع لو أنكن قبلتن رجاءنا؟ فحينئذ التفتت إلي "ص" قائلة بحيرة واستغراب: (يا عجبا أيوجد أكثر من هذه الألبسة ألبسة تركية؟) . وكادت تصرح عن فكرها وتلفظ هذه الكلمات بالإنكليزية إلا أنها لما كانت على مقربة مني وكان كلامها همسا وقد فطنت إلى الزائرات اجتهدت في تحويل الكلام إلى الفرنسية، ثم مزجته بالتركية فصار كلامها مركبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 من ثلاث لغات بحيث لا يمكن لأحد أن يفهمه وعلى ذلك لم يشعر الزائرات بأن أحدا منا يعرف اللسان الإنكليزي، وكان هو المطلوب. فقلت: إن ألبستنا وأكسامنا هي تركية محضة. قالت ذات البعل: لا يا عزيزتي ليست هي الأكسام التركية فننا نرغب في مشاهدة الأكسام المذكورة. قالت السيدة "ص": كيف تكون الألبسة التركية تشيرين إلهيا. قالت: ألا يوجد أثواب مذهبة؟ قلت إلى (ن خانم) : اذهبي يا صديقتي والبسي ثوبي المقصب الذي أعجبك منذ برهة وتعالي به، ثم التفت إلى ذات البعل وقلت: إن السيدة ستلبس الثوب المذهب وتأتي به على الفور. قالت ذات البعل: أشكركن كل الشكر ولعمري إنكن عنوان الرقة. وما مر على ذلك غير برهة قصيرة حتى دخلت (ن خانم) مكتسية بثوبي المذهب غير ان زائراتنا لم يكن مطمئنات تمام الاطمئنان. قالت ذات البعل: لا ليس مقصدنا هذا وإننا نحن راغبات في الأكسام التركية الصرفة. قالت ذات الخدر: نعم، الزي التركي ما أجمله. فقتل: أيمكنكما أن تفهمانا ما هي الأكسام التركية التي ترغبانها وقد أعجبتكما وكيف يكون شكلها. قالت ذات البعل: إنها جاكيته (نوع ملبوس يصل للحزام فقط) قصيرة مطرزة بالذهب، وقميص رفيع وشروال مقصب. فقلت لها: ا؟ لآن ترين هذا الزي. قالت السيدة "ص": ماذا تقولين من أين يمكنك إيجاد هذا الزي والظهور به. قلت: الآن تنظرين. وحينئذ نهضت فأحضرت مجموعة الرسوم وقد كنت شاهدت في الطريق امرأة مكتسبة بصدرة مطرزة بالذهب وشروال مقصب فأخذت رسمها وقد فتحت المجموعة وعرضت على الزائرات الرسم المذكور. وقلت: أهذا الزي الذي تطلبينه؟ فأجاب الزائرات الثلاث بصوت واحد: نعم، نعم هذا هو بعينه وكنا نود أن نراكن وأنتن مكتسيات بمثل هذا الزي. قلت: أين رأيتن النساء اللاتي يلبسن هذه الأزياء؟ قالت ذات البعل: لم نشاهد المكتسيات به عيانا وإنما رأين رسمهن في باريز. قلت لها: ففي مثل هذه الحال لا يمكنك هنا أيضا أن تشاهدي أكثر من ذلك. قالت ذات البعل: لماذا لم يبق بين النساء التركيات من يكتسين بهذا الزي؟ فقلت لها: كلا. قالت ذات الخدر: وا أسفاه إنه لزي جميل للغاية فإذا لا يتسنى لنا أن تشاهد في دار السعادة من ربات هذا الزي. فقلت لها: لا يمكن أن تشاهدن إلا مثل هذا الرسم. قالت الخالة: من هي صاحبة هذا الرسم؟ فقلت: لا أدري لقد رأيتها في الطريق فأخذت رسمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فقالت ذات البعل: كأنما هي من ممثلات الروايات. فقالت الخالة: لا جرم إنها كما أشرت. فقلت: إن ممثلات الروايات عندنا جميعهن مسيحيات ففي مثل هذه الحال لا تكون هذه المرأة تركية وهي امرأة مسيحية. قالت ذات البعل: إننا في باريز ننظر إلى مثل هذه الرسوم كأنما هي من رسوم السيدات التركيات وندقق كثيرا في زينتهن ووجوههن فإذا يفهم من ذلك أن الزينة ليست بزينة التركية وذوات هاته الأزياء لسن من السيدات التركيات. قلت: أجل، فكما أنه يمكن لأي الناس أن يرتسم بالزي الذي يرغب فيه هكذا أيضا بعض النساء المسيحيات يرتسمن بمثل هذه الأزياء غير أنني لا أدري ما هو الزي الذي يلبسنه لأنه على نحو ما تشاهدن في هذا الرسم ترين على رأس صاحبته كفية من صنع البلاد العربية وعلى عاتقها صدرة من صدرات نساء الأرناوط وفي رجليها شروال والكرسي المنزل بالصدف الذي على قرب منها إنما هو من صنع الشام والفنجان الموضوع عليه من متاع الهند والنارجيلة التي في يدها لا أعرف حقيقة من استعمال نساء أية ملة من الملل أما شعرها فإنه مقصوص على الزي الإفرنجي، وقد قص من أسفل على النسق الأوروبي فإذا أمعنت النظرية حققت ذلك. قالت ذات البعل: لا جرم أنه على الزي الإفرنجي تماما فإذا كان هذا الزي لم يمكن من الأزياء التركية كذلك لم يكن هو زيا منه آخر فليس إلا زيا قد ركب عن عدة أزياء. ثم جاءوا إلينا بصينية القهوة على العادة التركية وقد وضع الإبريق في السلسة (أو السنبل) أو العازقي باللغة المصرية وهي مغطاة بمنديل فأعجب المسافرات بها كل الإعجاب وساتأذننا في معاينة كل قطعة منها على حدة وقد استحسن غطاء الصينية لنه كان مزركشا بالذهب وسألننا عن المحل الذي يباع به أباريق القهوة الفضية فهديتهن إلى سوق الصاغة، ثم بين لنا رغبتهن في مشترى الأقمشة التركية وطلبن إلينا أن نعرفهن عن الموضع إلي يباع به أحسنها فعرفتهن أن أقمشتنا متنوعة جدا وأوصيتهن أن يشترين من أقمشة بورسة أو الأقمشة العربية، وقد صرفنا في هذا الحديث قسما من الوقت، وبعد ذلك فهمنا أن الشقيقتين هما بنتا تاجر كثير الثروة، وأن أمهما وأباهما في باريز، وأن الأخت الكبيرة متأهلة من خمس سنوات، وأن زوجها أيضا من مسلك والدها، وأن خالتها تسكن مع والديهما، وأن ذات البعل تقيم في بيت زوجها. قالت السيد "ص" إلى الخالة: لماذا أنت لم تتأهلي؟ قالت: هكذا كان نصيبي. فقالت لها: أأنت لم ترغبي في الزواج؟ قالت: إن الزواج عندنا لا يخلو من الصعوبة. فقالت لها: لأي سبب؟ قالت: لمسألة المهر (الدوتة) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فقالت: ولكن أليس إن عدم الحصول على زوج بلا مهر إنما هو مخصوص بغير الجميلات فإننا نستمع أن المجيلات يتزوجن بلا مهر. قالت: نعم، يتفق مثل ذلك ولكن غير الجميلات ذوات المهر كثيرا ما كن سببا في حرمان الجميلات اللاتي لا مهر لهن من الزواج لأنه لا تبقى واحدة منهن بلا زوج على حين إنه ينذر وجود من يقترن بالجميلات الخاليات من المهر. فقالت لها: ألم تقترن شقيقتك. قالت ذات البعل: إن والدي أخذ والدتي عن حب ولقد كان يهوى أن يقترن بها ولو لم يكن لها مهر غير أن جدي دفع المهر بإرادته وبعد تأهل والدتي بست أو بسبع سنوات أفلس جدي وكانت خالتي فتاة في ذات الوقت. قالت السيدة "ص": وبعد ذلك ألم يتفق لها راغب على الإطلاق. قالت الخالة: نعم، تيسر ذلك وليس فقط أنه رغب في الاقتران بي وإنما حصل بيننا حب. فقالت السيدة "ص": ففي هذه الحالة لم يبق حكم لمسألة المهر ولماذا لم تقترني به؟ قالت لها: إنني أنقل إليك المسألة من أولها فأقول بعد إفلاس والدي كنت قطعت أملي من الزواج على الإطلاق، ثم اتفق لي أن صادفت شابا غنيا بالمال والتهذيب والمعرفة محبا للعمل، موافقا من سائر وجوهه قد اكتسب ثروة بكده واجتهاده، فوقع في قلب كل منا حب الآخر وهو الحب الظاهر الذي يتم به الزواج، ولما كنت خالية من المهر اجتهدت كثيرا أن أتغلب على حبي وانبذه ظهريا إلا أن ما رأيته فيه من الميل القلبي إلى الزواج قد ولد في الجراءة على توطيد الآمال، وتقررت المسألة بيننا قطعيا، كما أن والدي قد قبل بكمال الامتنان حسن نية هذا الشاب الذي سيقبلني على علاني خالية الوفاض من المال وثروته كافية لأن أعيش فيها بكمال الراحة ولهناء، وكنا إلى ذاك الوقت نعرف هذا الرجل أنه ينتسب إلى إحدى العائلات من الإيالات فلما حان الزمن الذي سيتقرر به زواجنا نهائيا اجتمع به والدي اجتماعا طويلا، وتحادثا مليا، وطلب منه إيضاحات عن أحواله وعن عائلته، ففهم حينئذ أنه لا ينتسب إلى عائلة معلومة وإنما هو من الأولاد الطبيعيين (المنبوذين) . قالت السيدة "ص": وا أسفاه ما أصعب ذلك إذا وجد الحب. قالت لها: نعم، إنني كنت أحبه ولكن أيبقى موجب بعد ذلك لهذه المحبة إن معرفتي كونه ولدا منبوذا كافية لأن تبعثني على النفرة منه ولا يلزم الحب أكثر من هذا النفور. قلت لها: وهل أمكن له أن يتناسى ذاك بمثل هذه السهولة؟ قالت: كلا إنه تأسف أسفا لا مزيد عليه، وأصر كثيرا على الفرار بي إلى بلد آخر حيث يقترن بي قائلا لي أنه لا يتركني أن أفتقر إلى أي كان مادامت عائلتي لا تقبله، أما أنا فكيف يمكنني أن أرضاه فإنني إذا لم أفتكر بنفسي فيجب أن أفتكر بأولادي لأنن من حيث وضعتهم في هذا العالم من أب منبوذ (نفل) سأبقى مخجولة أمامهم طول العمر، وعندما افتكرت بأنني سأترك اسم عائلتي للانضمام إلى رجل لا تعرف له عائلة ولا اسم لكي افتخر بالانتساب إليه رددته خائبا وأخبرته إنني لن أقترن به وأنني صممت على أن لا أكلم رجلا، فلست بمكلمته على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 قالت السيدة "ص": هل تزوج هذا المنكود الحظ بعد ذلك بسواك؟ قالت: لم اعد أره بعد هاته الحادثة لأنه زايل بايز قاصدا وجهة أخرى، ولا أدري ما الذي جرى به أما أنا فحيث لم يكن عندي مهر (دوته) لم يتقدم لي طالب آخر، وبعد، فأنبئني أنت ألا يوجد عندكم بنات متقدمات في السن بلا زواج. قالت لها: لو دفع مليون من الدراهم لما وجد واحدة على الإطلاق فإن القبيحات والفقيرات لا يكن قواعد في البيوت. قالت ذات البعل: إنه يوجد عندكن مسألة لا تخلو من الإشكال ألا وهي أن الرجال يستخدمون النساء كالجواري. قلت: إن إدارة البيت والإنفاق على الزوجات عندنا إنما هو من وظائف الرجال والنساء مهما كن مثريات فلسن مطالبات بالإنفاق على البيت، أما الرجل المقتدر فإنه يستخدم في يته خادمة وطباخة وإذا لم تتجاوز مقدرته حد الخدمة نفسه فزوجته مروءة تقوم بخدمة البيت وإلا فإن الرجل لا يستطيع أن يجبرها شرعا بذلك، فقد اتفق في أيام خلافة عمر خارجا من حرمه الأصحاب الكرام جاء إلى دار الخلافة متظلما مشتكيا من زوجته فنظر عمر خارجا من حرمه وهو يتكلم بحدة فقال له: (أي شيء حدث يا أمير المؤمنين) فأجابه عمر بقوله: (إن حال النساء معلوم لا يحتاج إلى إيضاح فزوجتي قد سببت لي هذه الحدة. وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا. فأجابه: إنني لأشكو إليك زوجتي أما وقد رأيتك على مثل هذه الحال فلا أرى محلا للشكوى) فقال له عمر: صه لا يجب أن نرفع صوتنا فإن نساءنا يقمن بإدارة بيوتنا مع أن ذلك خارج عن وظيفتهن ويرضعن أولادنا ولسن مكلفات به فإذا أظهرنا هذه المسائل ينتج عنها ضرر لنا) . فمن هذه القصة يتضح لك جليا أن النساء غير مطالبات ولا مكلفات شرعا بالخدمة. قالت ذات البعل: أحسنت وإنني منك سؤالا من عاداتكم أن الأزواج عندما يدخلون على زوجاتهم في غرفتهن ينظرون من داخل باب الغرفة فإذا رأى الزوج أن زوجته وضعت خفها أمام الباب يدخل إلى الداخل حسبان أن ذلك إشارة على السما له بالدخول، وإن لم ينظر الخف فيعود من حيث أتى. قالت السيدة "ص": باللغة التركية أحسنت أن يكون ذلك من الغلط المأخوذ عن الفرجية الزرقاء قالت ذلك ولم نستطع نحن الاثنتان من ضبط قهقهتنا. أما السيدة "ن" فلما كانت لم تعلم شيئا عن مسألة الفرجية ولم تكن أحاطت عملا بعبارة الخف التي أشارت إليها الزائرة التفتت إلي قائلة: ما الذي طرأ عليكما؟ فأفهمتها القضية، وحينئذ اشتركت معنا بالضحك، وكان دوي قهقهتنا يملأ فضاء القاعة. أما الزائرات فقد استغربن منا ذلك وقد لاحظت استغرابهن فقلت: عفوا أيتها الزائرات إننا لم نضحك من كلامكن وإنما قد اتفق أن سبقت بيننا عبارة قبل مجيئكن مشابهة لعبارة صدرت منكن فكان ما كان من داعي الضحك. ثم نقلت لهن مسألة الفرجية الزرقاء وقلت: إنه كما يوجد بعض منا لا يكون لهن علم بأشياء واقعة في بلادنا هذه ألا يستبعد أن تتصل بكن معلومات مغلوطة عن كثير من الأشياء، ولا جرم أنه كلما بعدت المسافة كثر الوهم وزاد الغلط. قالت ذات الخدر المسموع عندنا: إن النساء التركيات كلهن سمينات يندر بينهن وجود الهزيلات فهل ذلك صحيح؟ قلت لها: عجباً، فما الموجب لذلك يا ترى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 قالت: يقال إن ذلك ناشئ عن احتجابهن وعدم خروجهن إلى الأسواق إلا نادراً على إنني مذ وصلت إلى هذه العاصمة دققت كثيراً بنسائها فرأيت عكس ما سمعت، أي إن السمينات بينكن قليلات جدا كما أنني قد رأيت في الطريق من (بك أوغلي) حتى وصلت إلى الوابور كثير من النساء المستترات، وفي الوابور أيضا يوجد نساء مستترات متحجبات. فقلت: إن النساء عندنا لا ينحبسن في البيوت وإنما يمكن لهن أن يخرجن إلى الأسواق في أي وقت شئن وأن تشتري ما ترغب. فقالت ذات البعل: إن النساء التركيات هن أسيرات بأيدي أزواجهن فإننا نسمع أنهن لا يستطعن أن يعملن شيئا بدون إذن رجالهن. قلت: لا جرم إنه من وظيفة النساء في أية ملة كانت أن يطعن أزواجهن على أن مثل هذه الوظائف هي عند المسيحيين أشد منها عن المسلمين لأن صك النكاح عندكن إنما يحرر مشروطا فيه أن تكون الزوجة في كل حال تابعة لزوجها ومرتبطة به ففي مثل هاته الحال يحق للرجل أن يذهب بزوجته جبرا أي محل شاء. قالت: لا شك ولا ريب في وجوب ذلك إنه من الأمور الحسنة أن يكونا دائما مجتمعين. قلت: فما قولك إذن فيما لو كان الزوج من عشاق السياحة وأراد الصعود توا إلى القطب للاكتشاف أو كان ممن يميلون إلى السياحة البحرية وأحب التوغل في أعماق البحر على ظهر جارية تميل مع الأرياح أو كان من المنطاديين (البالونجيين) ورغب في الصعود على طبقات الهواء. قالت: ألا يحق للرجال عندكم إجبار النساء على الذهاب معهم؟ قلت: يمكن لهم أخذهن إلى الأماكن القريبة غير أنهم إذا كانوا قادرين الأسفار الطويلة الشاسعة فالمرأة ذات الشهامة إنما تذهب مع زوجها طوعا ومروءة لا غير وإذا لم تذهب فلا تجبر وعندكم لا يجوز للمرأة أن تبيع شيئا من ما لها إلا بإذن من الرجل أما نحن فإن المرأة عندنا حرة مستقلة في بيع واستهلاك ما تملكه. قالت الخالة: كنا سمعنا أن السيدات التركيات يلبسن الألبسة الإفرنجية أكثير من الألبسة التركية، وذلك ما حدانا إلى الرجاء بان تقبلننا وأنتن بالأكسام التركية أحقيق ذلك؟ قلت: أجل، إن أكثرهن على مثل ما وصفت. ثم التفتت ذات البعل إلى البيانو قائلة: أتعزفين بالبيانو (آلة موسيقية) ؟ فأجبت مشيرة إلى السيدة "ص": إن هذه السيدة تحسن العزف أكثر مني بها لأنها درسته نحو عشر سنوات. قالت: لا جرم أن الضرب على هذه الآلة لا يمكن بأقل من عشر سنوات. فقلت لها: يمكن الضرب على البيانو بعشر سنوات على شريطة الاستمرار والتعود بلا انقطاع، ولكن في كم سنة يمكن حفظه تماما. قالت: أما أنا فقد ابتدأت به منذ السنة السادسة من عمري وها أنا ذا في الثامنة والعشرين وقد مر على زواجي ست سنوات كنت إلى ذلك العهد أي مدة ست عشرة سنة أعزف يوميا بهذه الآلة أربع ساعات وعند ما تأهلت صرت أعزف به يومين في الأسبوع، وحتى الآن لم أتعلم البيانو، أتعلمين ما المراد وما المعنى بعلم البيانو؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قلت: نعم إن علمي به قد حداني إلى صرف النظر عن تعلمه فما أكثر العازفين عدا وأقلهم معرفة تامة به لأن علم البيانو إنما هو علم يراد هـ معرفة الأنغام من أول مرة بحسب أية نوطة كانت وسرعة عزفها والوصل إلى هذا الحد من المعرفة لا يحصل بمدى عشر سنوات، وإن كانت متمادية وها نحن الآن نكلف هذه السيدة أن تضرب على الآلة فتنظرين أنها تحسن الضرب جيدا ولكن ليكن معلومك أن الأنغام التي ستطربنا بها قد كررتها على النوطة عدة مرات حتى أمكن لها الإجادة بها على أن المقصد من البيانو هو غير ذلك وما دام أنه يوجد من يعزف على البيانو في هذا المجلس فالبيانو موجود والنوطة موجودة أيضا، وفي هذا الحال يجب ضرب النغم على البيانو عند النظر إلى النوطة، لن مراجعة الأنغام على النوطة عدة مرات وتكرير العزف بها لا يسمى عزفا ولا يترك في المرء ميلا لسماعها. أما أنا فإنني عندما بدأت في درس البيانو اشتغلت به أربع سنوات متولية بمزيد الرغبة والاجتهاد، وتعلمت النوطة بسرعة لا مزيد عليها، وقد أخبرني العارفون بالبيانو أن عزفي به كان حسنا وملذا غير أن وصولي إلى الدرجة المقصودة حقق عندي ما جيب من المدة لبلوغ المطلوب فإن تجربتي أرتني أن أستاذي لم يتوفق إلى هذا الأمر فحملت ذلك على عدم كفاءته واستبدلته بأستاذ طائر الشهرة في هذا الفن، وأول عمل بدأت به أنني فتحت أمام نوطة لم يكن له عهد سابق فلم يسحن نغمها إلا عد أن كررها ثلاث مرات فعدلت عن التحري على أستاذ آخر ولكن أخذوا يستغربون عملي ويقولون: إنه لا يمكن الحصول على أستاذ اعرف به فأخبرتهم بمطلوبي فأنبؤني أنه قد يمكن أن يوجد في دار السعادة شخص أو شخصان من الطرز المطلوب وعلمت من نتيجة تحقيقاتي أن مع الاستعداد التام والاستمرار على العزف يوميا أربع أو خمس ساعات يمكن تعلم البيانو خلال خمس عشرة سنة من حياتي على تعلم هذه الآلة تأسفت على التعب الذي نالني في مدة أربع سنوات وضربت صفحا عن درس البيانو، فالآن صرت إذا رأيت نغما أعجبني أفتح النوطة ولا أتمكن من إتقانه إلا بعد أن أكرره لا أقل من خمس عشرة مرة، فهل ذات الخدر تحسن العزف بالبيانو؟ قالت ذات البعل: نعم، تعرف أن تعزف به ولكنها لم تصل بعد إلى درجتي بل يلزمها وقت أيضا. قلت: تلطفي وأسمعينا قليلا من أنغامك اللطيفة. فنهضت ذات البعل وجلست إلى البيانو ورفعت غطاءه وبعد أن نظرت إلى العلامة التي في داخله قالت: إنه بيانو بارزي لا جرم أن أحسن أجناسه إنما تصنع في باريز غير أن في بعض الجهات في أوروبا يصنعون منه جنسا حسنا ما أمكن، ولقد نظرت في حوانيت (بك أوغلي) كثيرا من هذه الآلات التي تنتسب إلى عدى أماكن فسألت عما إذا كان يوجد كمن صنع هذه البلاد فأخبروني انه لا يوجد فتعجب ولأجل ذلك أسألك ألا يصنعون عندكم من هذه الآلات. فقلت لها: كلا، فإن العامل عندنا لم تترق الترقي المطلوب إلى هذا الحد ولقد كانت هذه الأشياء في الأزمنة السالفة ترسل من الشرق إلى أوروبا فانعكس الموضع وأصبحت ترد إلى الشرق من أوروبا. قالت: هل إن البيانو أرسل إلة أوروبا من الشرق؟ قلت: معلوم أن (شارلمان) كان أرسل بعض الهدايا إلى هارون الرشيد وبالمقابلة أهداه هارون الرشيد ساعة (وأرغون) وبعض الأقمشة النفيسة بحيث لما وصلت إلى أوروبا كان لها عند الأهالي وقع أشبه بالأمور السحرية، فكما أن الشرقيين يقلدون الأوروبيين في هذه الأيام هكذا كان (شارلمان) في عصره يقلد الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 العباسية بعلومها ومعارفها إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك، ولا يخفى أن الأرغون الذي يعزف به في كنائس أوروبا في الوقت الحاضر إنما ورد إليها من بغداد في لأزمنة السالفة. أما البيانو فليس إلا فرعا منه. قالت: يا عجبا أيصنع إلى الآن (أرغون) في بغداد؟ فقلت: كلا، فإنه ليس في بغداد حتى ولا من يعرف ما هو الأرغون. قالت: إن ثروة البلاد إنما تحصل بترقي مثل هذه الصنائع والمعارف. قلت: أن العلوم والمعارف والصنائع إنما هي مع المدنية نظير اللازم والملزوم تترقى بنسبة ترقي المدنية. أما المدنية فهي نظير سائح يطوف العالم مصحوبا بالعلوم والمعارف وسائر أنواع التجملات واللطائف ففي الأزمنة المتوغلة في القدم جالت في مصر وبابل ومرت في طريقها على البلاد اليونانية حتى إذا سقطت هذه البلاد وصارت خرابا سارت إلى الإسكندرية وأشرقت أنوارها في حكومة الملوك البطالسة وزادت أيامها رونقا وبهاء. ثم ذهبت في أيام الدولة العباسية إلى العراق وألقت عصا التسيار في بغداد مستعيضة بها عن باب، ثم سرت أشعة عمرانها إلى إيران وتركستان، وفي خلال ذلك امتدت من جهة إلى العرب فحلت فيا لأندلس. ثم وردت على أوروبا فأشرقت فيه إشراقا، وكما أن الحكماء المسلمين أخذوا العلوم الحكيمة عن اليونانية وأضافوا محصول أفكار الحكماء اليونانيين على اختراعاتهم فوصلوا بالعلوم إلى درجة هي من الرفعة والتقدم بمكان عالي هكذا فعل الأوروبيين فإنهم رأوا محصول مساعي العرب حاضرا مهيئا فصرفوا إليه أفكارهم وغاياتهم، ورفعوا بجدهم شأن العوم والمعارف إلى درجة تحير العقول وتسحر الألباب، وفي الوقت الحاضر يوجد سهولة كلية للاستفادة من محصول مساعي الأوروبيين المشاهدة عيانا لأجل انتشار العلوم والصنائع عندنا. قالت: إذا كان الواقعة هكذا يلزم الاهتمام بأصدقائهم القدماء. قلت: لا شك أننا راغبون فيهم في حضرة سلطاننا الحالي فإنه منذ جلوه الهمايوني قد تقدمت المعارف والصنائع في بلادنا تقدما خارقا للعادة، ولا نرتاب أنه في وقت قريب نرى المعارف والصنائع إجمالا بحالتي الكمال والإتقان، ولا جرم أن مجيء السواح من أصحاب المعارف نظيركن إنما هو علامة بينة على ما تقدم. قالت ذات الخدر: إذا حسن لديك أعطنا نوطة يروق لديك نغمتها وشقيقتي تعزف فيها البيانو. فبيت الطلب وأتيتها بنوطة مخصوصة (بالأوبرا) فأخذتها ذات البعل ولحنتها على البيانو بأحسن تلحين أطربنا وأدهشنا ولعمر الحق إنني إلى هذا العهد ما كنت سمعت بمثل عزفها، وقد كانت كلما جئناها بنوطة تبادر إلى تلحينها في الحال فتحققت من ذلك أنها بلغت في هذا الفن الدرجة المطلوبة، ثم أطربتنا بإيقاع بعض الألحان المحفوظة في ذاكرتها، فجعلتنا حيارى من مهارتها، ثم أخذت الشقيقتان تعزفان على البيانو بوقت واحد أي بأربع أيد مما يقال له بالفرنسية: (كاترمن) فأطربتنا أيما إطراب وشهدنا لذات الخدر أنها من البارعات جدا في هذا الفن. فقلت لهما: ناشدتكما الله أن تعفيانا من الإيقاع على البيانو بعد هذا الذي سمعناه. فقالت ذات البعل: إذا حسن أطربينا ببعض الأنغام التركية. فقلت لها: لا بأس، إننا نلحن بعض الألحان التركية وإذا شئت بآلة تركية. قالت: أكون ممتنة للغاية. وبعد أن وقعت والسيدتين "ص" و"ن" كل منا بفصل على البيانو من الأنغام التركية نهضت إحدانا إلى العود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والثانية: للكمنجة، والثالثة: لقانون فوقع على هاته الآلات فحينئذ سألننا ذات البعل وشقيقتها عما إذا كان يمكن إيقاع الألحان الإفرنجية على العود والقانون مثل الكمنجة التي تلحن في الإيقاع وبناء على ذلك ممكن على أن عند الوصول إلى نغمة سريعة تنفرد الكمنجة في الإيقاع وبناء على ذلك أخذنا نلحن بعض القطع الإفرنجية الممكن تلحينها، ثم نهضت إلى البيانو ورفعت عليه بالاشتراك مع السيدة "ن" التي كانت توقع على الكمنجة قطعا إفرنجية على هذه الصورة مرحلة من الوقت وبعد مناولة الطعام أحضرنا للضيفات أثمارا محلية، وجبنا محليا، وزيتونا، ومقددات وغيرها من الأشياء المسماة عندنا قهوة ألتي فاستحسن جبننا كل الاستحسان، وأنبأننا أن مربياتنا مصنوعة على النسق الأوروبي تماما. وجملة القول: إنهن تناولن منها بكمال الشكر والتقدير فجعلننا ممتنات منهن امتنانا لا مزيد عليه، ثم طفنا بهن في الحديقة وخضنا عباب الحديث المعقود بأهداب الولاء، فلما أزفت الساعة الحادية عشرة موعد مجيء الوابور تناولت كل منهن قبعتها وسترته، وكانت الشقيقتان في خلال الحديث تتكلمان فيا للغة الإنكليزية أحيانا، وكان كلامهما يتعلق بالثناء علينا وبينان امتنانهما منا، فالحمد لله أن كلامهما لم يكن علينا لأن سماع المذمة مواجهة مما لا تصبر عليه النفوس الأبية. ولما كان احترام الضيف دينا واجبا كان عدم مقابلة احترامهما بالمثل مما يؤثر في قلوبنا كل التأثير، وقد تصورت السيدة "ص" أن تبدي امتنانها للضيفات بلهجة إنكليزية فصحى غير أن تسترها في أثناء الاجتماع منعها عن إيفاء هذا الواجب لعلمها أن التظاهر بمعرفة الإنكليزي بعد التجاهل به لا يكون مشكورا وقد صرفنا ذاك النهار بالسرور والانشراح، فإننا قطعنا قسما منه أي من الصباح إلى الظهر بمنتهى ما يكون من الحبور حتى إذا جاءت السائحات الإفرنجيات صرفنا القسم الباقي على نغمات الألحان فكان ذلك من ألطف الصدف. أما السيدتان "ص" و"ن" فإنهما بقيتا تلك الليلة عندنا لأنهما من جهة لم يريدا ترك تلك الجمعية، ومن جهة أخرى لم يتيسر لهما وأبور بعد ذهاب الضيفات، فصرنا تلك الليلة كما صرفنا ذاك النهار بغاية ما يمكن من إمرار الوقت بالسرور، وقد كنا في أثناء حديثنا مع الضيفات المومى إليهن بينا لهن أن سنصرف ليلة لطيفة مع رفيقاتنا المذكورات. ثم قالت السدة "ن": إن طالعنا اليوم فتح الزهور والمسرات، فهل من ساعة أشرف منها. فقلت لها: لا جرم أننا لو قصصنا حوادث هذا النهار على أحد المنجمين لأنبأنا أن طالعنا اليوم في برج الدلو من البروج الهوائية، ولكان أفاض بي بيان أن السعد يتناظر في بيت شرفه مع عطارد وأن السعد الكبر ناظر إليه بعين المودة والولاء وإلى غير ذلك من الاصطلاحات الفلكية لا جرم أن هاته الأشياء إنما هي اتفاق حسن. فنسأل الله أن يحفظنا من الصدف المعكوسة والمنكوسة. وحقيقة ما يقال: أخيرا أننا صرفنا هذا النهار والحمد لله على أحسن حال من الزهو والسرور. انتهى. فاطمة بنت الأمير أسعد الخليل هي بنت الأمير أسعد الخليل أحد أمراء الشيعة القاطنين في جبل عامل من أعمال سورية, وهو من كبراء (عائلة علي صغير) . ولدت سنة 1256 من الهجرة وتوفي والدها وهي صغيرة جداً فتولى تربيتها شقيقها الأمير محمد بيك الأسعد. فلما بلغت سن التعليم سلمها للمعلمين لتدريس العلوم فتلقت جملة علوم في أقرب وقت, وكانت ذات عقل وفطنة ونباهة وكياسة, فحفظت القرآن الشريف, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ودرست النحو والصرف والبيان حتى فاقت نساء عصرها وأهل جلدتها, فذاع صيتها في الآفاق, ولما بلغت الثامنة عشرة من سنيها تقدم إليها الأمير علي بك الأسعد بالخطوبة فأنعم له شقيقها بها. وكان الأمير المذكور حاكماً على بلاد بشارة ومحل إقامته قلعة تبنين التي هي قاعدة بلاد بشارة وتلك القلعة بناها هيوسنت أومر صاحب طبرية سنة 1107 م وجعلها معقلاً لغزو وصور وما يليها وهي على مرتفع صعب المرتقى في وسط بقعة خصبة وعامرة بين الجبال تكثر فيها الكروم والثمار والغابات, ويسميها الإفرنج "طورون" وكانت حصناً منيعاً مهماً وسمى بها عائلة أصحابها. وسنة 1551 م أقيم "هونفردي" صاحب"تبنين" عاملاً للملك "بلدوين الثالث" وقد فتح هذه البلاد صلاح الدين الأيوبي سنة 1187 م الموافقة لسنة 583 هجرية, وذلك أنه سير إليها ابن أخيه تقي الدين ففتحها وأخرج الإفرنج منها. وسنة 594 هـ كانت "تبنين" بيد الملك العادل بن صلاح الدين فرحل إليها الإفرنج وحاصرها وقاتلوا من بها وجدوا في القتال ونقبوا الحصن من جهاتهم, فلما رأى من القلعة ذلك خافوا على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة فقال لهم بعض الإفرنج: من يحمي نفسه وكان الملك العادل قد كاتب أخاه الملك العزيز بمصر فسار مجداً حتى وصل إلى عسقلان. فلما علم الإفرنج ذلك وأن ليس لهم ملك أرسلوا إلى ملك قبرص وزوجوه ملكتهم وكان هذا محباً للسلم فكف عن حصار تبنين, ثم اصطلحوا مع الملك العادل وتعاقبت الملوك والأمراء على تملك تلك القلعة مدة مديدة حتى تملكها أمراء بيت علي صغير المذكورين الذين منهم الأمير علي بك الأسعد, وكانت السيدة فاطمة من تلك العائلة وأنهم كانوا في ذاك الوقت يحافظون على نسبهم الشريف من أن يخلطوا به نسب آخر من عامة الناس ولا يزوجون إلا لبعضهم البعض. وكان الأمير علي بك الأسعد إذ ذاك كبير تلك العائلة مقاماً ورفعة وهو الحاكم الوحيد على بلاد بشارة من قبل الدولة العلية وكان مشهوراً بالكرم وحسن السياسة ومتصفاً بالعدل في أحكامها, ولما زفت إليه السيدة فاطمة نقلها من "الطيبة" التي هي بلد والدها ومسقط رأسها ومنبت صباها ومهد طفولتها إلى "تبنين" فشق ذلك على شقيقها محمد بك الأسعد وعلى أهلها وأهل بلدتها لأنها محسنة إلى الفقير من أهل البلد ومعنية للمسكين وعائدة للمريض, وكان يحبها كل من في تلك البلدة وكان شقيقها يعتمد عليها في بعض الآراء الإدارية وغيرها على صغر سنها. ولما نقلت إلى تبنين نالت بحسن آدابها وكمال عقلها ورقة لطفها ونضارة جمالها حظوة عظيمة عند زوجها حتى ملكت زمام الأمور فضلاً عن تملكها فؤاد زوجها، وتقلدت إدارة الأشغال المنزلية، وفازت على كل نسائه وأهل ذاك النادي. فلما رأى منها علي بك ذلك الحزم والعزم الذي يفوق حزم أعاظم الرجال أحب مشاركتها في الأحكام، واعتمد على آرائها السديدة، فتعاطت الأحكام مع زوجها وشاركته بالرأي وحكمت وعدلت في حكمها بين الناس حتى أحبها الكبير والصغير والغني والفقير ولم يغيرها في مركزها الحقيقي ما صارت إليه من الدولة والسلطة عن حبها لفعل الخير والإحسان إلى الفقراء كما كانت تفعل في بيت أبيتها بل جعلت في دارها محلاً مخصوصاً لتربية الأولاد اليتامى وأولاد السبيل، وشهرت بفعل الخير وقصدها المضطرون ولجأ إليها الخائفون. وكل ذلك لم يبذل لها حجاب بل كانت تتعاطى الأحكام من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وراء الحجاب وتنظر في الدعاوى داخل الحجاب، وكان كل من في ديوان الأمير علي بك يعجبون بآرائها وسمو أفكارها لدقائق من الأمور الغامضة من الأحكام الشرعية ولم تزل كذلك إلى سنة 1281 هجرية وكان البيك المومى إليه قد تأخر عليه شيء من الأموال الأميرية لأن كرمه الحاتمي كان يضطره إلى ذلك حيث إنه كان في دولة عظيمة، وكان إذا ركب يركب معه فوق المائتي فارس من حشمه، وذلك خلاف الخدم والسياس والعمال، والطباخين والفراشين، وما يتبع دائرة الحريم من وكلاء وخدم وطباخين وغير ذلك. وكان في قلعة تبنين محل للضيوف يسع ألفي شخص وفيه من المفروشات والأثاث ما يليق بذلك القصر الفاخر كل غرفة بما يلزم لها الراحة الضيوف وله فراشون مختصون لخدمة الضيوف فقط والطباخون كذلك غير الذين يخدمون المقيمين من العائلة، وكل هؤلاء الأتباع لهم الروات من دائرة الأمير المومى إليه، وكانت تأتي الشعراء والطالبون من كل صوب وهو لا يدر أحداً بدون جائزة ويفد إلهي الزائرون من كل المدن الشهيرة من كبار المتوظفين وغيرهم يمضون عنده فصل الصيف في القلعة لحسن هوائها وطيب مركزها وخصب تربة تلك الأراضي والجبال النضرة. وقد كان له حساد وأعداء من أقرب الناس إليه قد أضمروا له الضغينة وألقوا الدسائس حسداً منهم لما ناله من المجد والرفعة وعملوا على إلقاء القبض عليه ومحاسبته على الأموال الأميرية فحوسب في مدة ثمانية شهور وهو تحت الحجز، وظهر طرفه مبالغ جسيمة. فقامت السيدة فاطمة في أثناء ذلك بأعباء هذا الحمل الثقيل وتدبرت الأموال المطلوبة من بعلها وقد جمعتها من مالها وأموال عائلتها وباعت حليها وحلي كل امرأة في دائرتها حتى تمكنت من سداد الأموال المطلوبة، وكانت تفعل ذلك بكل حزم يفوق شهامة الرجال وصدر الأمر بخلاصة في أواخر سنة 1281 هجرية. وبعد ذلك أراد الرجوع إلى وطنه من محل ما كان محجوراً عليه وهي قلعة دمشق الشام، فدخلت سنة 1282 هجرية التي جاء فيها الوباء العام المشهور (بالكوليرة) ، وهنالك قبل انتقاله إلى وطنه أصيب بالكوليرة بدمشق الشام ومكث ثلاثة أيام، وتوفاه الله تعالى. وكان برفقته أخوها الأمير محمد بك الأسعد فأصيب الأمير أيضاً بهذا الداء ولحق بابن عمه وكانت وفاتهما في أسبوع واحد تاركين لآلهما الحزن الطويل فكانت نكبة عظيمة على السيدة فاطمة -المذكورة- ونكبت تلك العائلة أيضاً بوفاة أميرها فلازمت المترجمة الأحزان والأكدار بسبب فقط بطليها الزوج والأخ في آن واحد وانقطعت إلى (الزريرية) وهي مزرعة من مزارع زوجها فاقتسمت ما يخصها ويخص بناتها الثلاثة لأنها كانت ولدت له جملة أولاد من ذكور وإناث فلم يعش لها إلا هؤلاء الثلاث بنات. وكان للأمير علي بك أولاد من غيرها ذكور وإناث أيضاً فضمتهم جميعاً بحسن إدارتها إلى بعضهم، وقسمت عليهم الأرض بحسب الفريضة الشرعية بدون أن تجعل للحكومة مدخلاً في ذلك وشرعت في بناء دار لكل من أولادها وأولاد زوجها للسكنى وأرضت الكل بحسن تدبيرها وسداد رأيها وأتمت ذلك البناء على ما أحب الأولاد. وخصصت من مالها شيئاً مخصوصاً لتربية اليتامى، وفك كرب المكروب، وقسمت وقتها بين سكناها (بالزريرية) و (الطيبة) عند شقيقها الأصغر الأمير خليل بك الأسعد، ولم تزل -حفظها الله- على هذه السجايا الحسنة إلى الآن يضرب بها المثل في تلك الأصقاع. ولها في الشعر قليل، وأما في النثر فيشهد لها اليراع، وتنطق لها الطروس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فكيهة جارية أحيحة بن الجلاح كانت أحسن الناس صوتاً في زمانها وأعلمهم في ضروب الغناء وأنواعه وكانت قينات المدينة يأخذن عنها فنون هذا العلم ومن حسن صوتها قد افتتن بها كثير من النساء والشبان، ولها حكاية مع تبع لطيفة نذكرها لحسن موقعها وثبات جأش تلك الجارية وهي: أن تبعاً أبا كرب بن حسان بن سعد الحميري كان سائراً من اليمن يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل قبله، فمر بالمدينة فخلف بها ابنا له ومضى حتى قدم الشام ثم سار من الشام حتى قدم العراق فنزل بالمشقر فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه وهو بالمشقر فكر راجعاً إلى المدينة وهو يقول: يا ذا المعاهد لا تزال ترود ... رمد بعينك عادها أم عود منع الرقاد فما أغمض ساعة ... نبط بيثرب آمنون قعود لا تسقي بيديك إن لم تلقها ... حربا كأن أشاءها مجرود ثم اقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية فنزل بسفح أحد فاحتقر بها بئرا وهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئر الملك، ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوا فكان فيمن أرسل إليه زيد بن أمية بن زيد وابن عمه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وابن عمه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد -وكانوا يسمون الأزياد، وأحيحة بن الجلاح، فلما جاء رسوله قال الأزياد: إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب. فقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير. وقال: ليت حظي من أبي كرب أن يرد خبره جبله فذهبت مثلا، فخرجوا إليه وخرج أحيحة ومعه فكيهة جاريته وخباء وخمر، فضرب الخباء وجعل فيه الجارية والخمر. ثم خرج حتى استأذن على تبع فأذن له وأجلسه معه على زريبة تحته وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة، فجعل يخبره عنها، وجعل تبع كلما أخبره عن شيء منها يقول كل ذلك على هذه الزريبة يريد بذلك تبع قتل أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتاً وأمر فكيهة أن تغنيه بها، وجعل تبع عليه حرسا والأبيات هي: يشتاق شوقي على فكيهة لو ... أمست قريبا ممن يطالبها لتبكني فينه ومزهرها ... ولتبكني قهوة وشاربها ولتبكي ناقة إذا رحلت ... وغاب في سردح مناكبها ولتبكني عصبة إذا جمعت ... لم يعلم الناس ما عواقبها فلم تزل فكيهة تغنيه يومه وعامة ليلته، فلما نام الحرس قال لها: إني ذاهب إلى أهلي فسدي علك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي هو نائم فإذا أبوا غلا أن يوقظوني فقولي: قد رجع على أهله وأرسلني على الملك برسالة، فإذا ذهبوا بك إليه فقولي له يقول لك أحيحة أغدر بقينة أو دع، ثم انطلق فتحصن في أطمه الضحيان وأرسل تبع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على قفارة من قفار تلك الحرة، وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم فكيهة فقالت: هو راقد فانصرفوا وترددوا عليعا مرارا، كل ذلك تقول هو راقد، ثم عاودوا فقالوا: لتوقظنه أو لندخلن عليك. قالت: فإنه قد رجع على أهله وأرسلني إلى الملك برسالة فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه فأخبرته خبره وقالت: يقول لك: اغدر يقينه أو دع. فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا فجرد له كثيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصن في أطمه، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 إلى تبع فقالوا: تبعثنا على رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا بالليل فتركه وانصرف. فريدة مولاة آل الربيع هي مولدة نشأت بالحجاز، ثم وقعت إلى آل ربيع فعلمت الغناء في دورهم، ثم صارت إلى البرامكة، فلما قتل جعفر بن يحيى ونكبوا هربت وطلبها الرشيد فلم يجدها ثم صارت لى الأمين. فلما قتل خرجت فتزوجها الهيثم بن مسلم فولدت له ابنه عبد الله، ثم مات عنها فتزوجها السندي بن الجرشي وماتت عنده ولها صنعة جيدة في شعر الوليد بن يزيد: ويح سلمى لو تراني ... لعناها ما عناني واقفا في الدار أبكي ... عاشقا حور الغواني ومن صنعتها أيضا: ألا أيها الركب النيام ألا هبوا ... نسائلكم هل يقتل الرجل الحب ألا رب ركب قد وقفت مطيهم ... عليك ولولاك أنت لم يقف الركب فريدة جارةي الواثق كانت لعمر بن بانة وهو أهداها إلى الواثق وكانت من الموصوفات المحسنات، وكانت حسنة الوجه حسنة الغناء حادة الفطنة والفهم وتزوجها المتوكل بعد الواثق. وقال صاحب "الأغاني" عن محمد بن الحارث إنه قال: كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة إذا حضرت ركبت على الدار فإن نشط إلى الطرب أقمت عنده. وإن لم ينشط انصرفت. وكان رسمنا أن لا يحضر أحدنا إلا بنوته فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي غذ أرسل الخليفة من هجموا علي وقالوا لي: أجب أمير المؤمنين فقلت: هذا اليوم لم يحضرني امير المؤمنين قط لعلمكم غلطتم. فقالوا: الله المستعان لا تطول وبادر فقد أمرنا أن لا ندعك تستقر على الأرض، فداخلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي أو بلية حدثت في رأي الخليفة علي، فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار، فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كانت أدخل فمنعت وأخذ بيدي الخدم، فأدخلوني وعدلوا بي إلى طرق لا أعرفها فزاد ذلك في جزعي وغمي. ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم على خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت غلة رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا بالواثق في صدره على سرير مرصع بالجواهر وعليه ثياب منسوجة بالذهب وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي جحرها عود، فلما رآني قال: جودت والله يا محمد غلينا إلينا فقبلت الأرض ثم قلت: خيرا يا أمير المؤمنين، قال: خيرا أرى أما تنظر ما نحن فيه أنا طلبت والله ثالثا يؤانسنا فلم أر أحق منك فبحياتي بادر فكل شيئا من الطعام وبادر غلينا فقلت: قد والله يا سيدي أكلت وشربت أيضاً. قال: فاجلس فجلست. وقال: هاتوا لمحمد رطلا في قدح، فأحضر ذلكن ثم قال لفريدة: غني. فغنت: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها وما هجرتك النفس يا ليل أنها ... قلتك ولا إن قل منك نصيبها فجاءت والله بالسحر وجعل الواثق يجاذبها، وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت، وأغني أنا في خلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 غنائها فنزلنا أحسن ما أمر لأحد فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب صدر فريدة بها ضربة تدحرجت من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتت عودها، ومرت تعدو وتصيح، وبقيت أنا كالمنزوع الروح، ولم أشك أن عينه وقعت إلي وقد نظرت إليها، ونظرت إلى فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق فإني لكذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت. فقال: ويحك، أرأيت أغرب مما تهيأ علينا فقلت: يا سيدي الساعة والله تخرج روحي فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله، فما كان سبب الذنب. قال: لا والله، ولكن فكرت أن جعفرا يقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت، فسري عني وقلت: بل يقتل الله جعفراً ويحيا أمير المؤمنين أبداً وقبلت الأرض وقلت: يا سيدي، الله الله ارحمها ومربدها، فقال لبعض الخدم: الوقوف من يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها قبل، فلما رآها جذبها وعانقها فبكت وجعل هو يبكي واندفعت أنا بالبكاء. فقال: ما ذنبي يا مولاي وبأي شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي أيضاً. فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين غلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من هذا الفكر وأرحت نفسك من الهم بي وجعلت تبكي وهو يبكي. ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها وأومأ إلى الخدم الوقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا أحضروا أكياساً فيها دراهم دنانير ورزما فيها ثياب كثيرة وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهره فألبسها إياه: وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا، فلم نزل كذلك إلى الليلة. ثم تفرقنا وضرب الدهر ضربه وتقلد المتوكل فو الله إنني لفي منزلي بعد توبتي إذ هجم علي رسل الخليفة فما أمهلوني حتى ركبت, وصرت إلى الدار فأدخلت والله والحجرة بعينها وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير وإلى جانبه فريدة, فلما رآني قال: ويحك, أمل ترى ما أنا فيه من هذه أنا منذ غدوة أطالها بأن تغنيني فتأبى ذلك؟ فقلت لها: يا سبحان الله أتخالفين سيدك وسيد البشر بحياتي, غني فعرفت والله أنه تم التفاؤل ثم اندفعت تغني: مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر فالثماد فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير, ومرت تعدو وهي تصيح: وا سيداه. فقال لي: ويحك, ما هذا؟ فقلت: لا أدري والله يا سيدي فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى أن أنصرف أنا وتحضر هي ومعها غيرها فإن الأمر يؤل إلى ما يريد أمير المؤمنين. قال: فانصرف في حفظ الله. فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة. وقال محمد بن عبد الملك سمعت فريدة تغني: أخلاي بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ مما بصاحبه خلو أذاب الهوى لحمي وجسمي ومفصلي فلم يبق إلا الروح والجسد النضو وما من محب نال ممن يحبه ... هوى صادقاً إلا سيدخله زهو بليت وكان المزح بدء بليتي ... فأحببت جهلاً والبلايا لها بدو وعلقت من يزهو على تجبرا ... وإني في كل الخصال له كفو قال: فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه. وقال عمرو بن بانة غنيت أمام الواثق يوماً قلت خلي فاقبلي معذرتي ... ما كذا يجزي محباً من أحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فقال لي: تقدم إلى الستارة فألقه على فريدة. فألقيته عليها. قالت: هو خلي أو خل كيف هو؟ فعلمت أنها سألتني عن صاحبه لها اسمها خل وكانت ربية معها وأخفت ذلك عن الواثق. وبقيت مدة في دار خلافة الواثق حتى ماتت عنده. فضل المدينة كانت حاذقة بالغناء, كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد. ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المنورة فازدادت طبقتها في الغناء وأخذ عنها جملة من المغنين, ولها أصوات حسنة مذكورة بالأغاني وبقيت بالمدينة إلى أن ماتت بها. فضل الشاعرة كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة وكانت أمها من مولدات اليمامة بها ولدت ونشأت في دار رجل من عبد القيس وباعها بعد أن أدبها وخرجت واشتريت وأهديت إلى المتوكل, وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها وأن أباه وطئ أمها فولدتها منه فأدبها وخرجها معترفاً بها وأن بنيه من غير أمها (تواطؤوا) على بيعها وجحدها ولم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبيدية, وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام أديبة فصيحة سريعة البديهة مطبوعة في قول الشعر. ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها. قال أحمد بن أبي طاهر: كانت فضل الشاعرة مع رجل من النخاسين بالكرخ يقال له: حسنويه فاشتراها محمد ابن الفرج أخو عمر بن الفرج أخو عمر بن الفرج الراجحي وأهداها إلى المتوكل فكانت تجلس للرجال ويأتيها الشعراء فألقى عليها يوماً أبو دلف القاسم بن عيسى: قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تنقب فقالت فضل مجيبة له: إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب والدر ليس بنافع أصحابه ... حتى يؤلف للنظام بمثقب ولما دخلت على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت؟ قالت: كذا زعم من باعني واشتراني, فضحك وقال: أنشدينا من شعرك, فأنشدته: استقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الناس ثمانينا لا قدس الله امراً لم يقل ... عند دعائي لك آمينا فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم وأمر عريب فغنت فيها. وكان المعتمد بن المتوكل عرضت عليه جاريته وهو صغير في خلافة أبيه فاشتط مولاها في السوم فلم يشترها وخرج بها مولاها إلى ابن الأغلب, فبيعت هناك. ولما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها فقيل له: إنها بيعت وأولدها مولاها الذي اشتراها فقال لفضل: قولي فيها شيئاً. فقالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم ونصبتي يا خيبتي ... غرض المظنة والتهم فارقتني بعد الدنو ... فصرت عندي كالحلم لو أن نفسي فارقت ... جسمي لفقدك لم تلم ما كان ضرك لو وصلت ... فخف عن قلبي الألم أو لا فطيفي في المنا ... م فلا أقل من اللمم صلاة المحب حبيبه ... الله يعلمه كرم وكتب محمد بن العباس اليزيدي يوماً لها هذه الأبيات: أصبحت فرداً هائم العقل ... إلى غزال حسن الشكل أخني فؤادي طول عهدي به ... وبعده عني وعن وصلي منية نفسي في هوى فضل ... أن يجمع الله بها شملي أهواك يا فضل هوى خالصاً ... فما بقلبي عنك من شغل فأجابته: الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت بعيد أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى ... من أن يطاع لديك في حسود وكانت تهوى أحد جلسائها في مجلس الخليفة, والخليفة لا يعلم ذلك, فكتب لها خليلها يوماً رقعة وسلمها لها بحيث لا أحد يراهما, فلما فضتها وجدت فيها: ألا ليت شعري فيك هل تذكرينني ... فذكراك في الدنيا حبيب وهل لي نصب من فؤادك ثانياً ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب ولست بموصل فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب فكتبت إليه: نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب لمن أنت منه في الفؤاد مصور ... وفي العين نصب العين حين تغيب فثق بوداد أنت مظهر مثله ... على أن بي سقماً وأنت طبيب ومرة اتكأ المتوكل على يدها ويد بنان الشاعر وجعل يمشي في داره وقال لهما أجيزا إلي قول الشاعر: تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها ... وعلمها حبي لها كيف تغضب فقالت فضل: تصد وأدنو بالمودة جاهداً ... وتبعد عني بالوصال وأقرب فقال بنان: وعندي لها العتبى على كل حالة ... فما منه لي بد ولا عنه مذهب وألقى أحد أصحاب أحمد بن طاهر عليها يوماً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر فقالت بديهة: فو الله لا يدرى أندري بما جنت ... على قلبه أو أهلكته وما ندري وكان علي بن الجهم يوماً عند فضل الشاعرة فلحظها لحظة استرابت بها فقالت: يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه فقال مجيباً لها: أي فتى لحظك لم يمرضه ... وأي عقد محكم لم ينقضه فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث. وكان بينها وبين سعيد بن حميد الشاعر مراسلات ومواصلات أدبية فحضر مجلسها يوماً ومعه بنان فأقبلت على بنان وتركته, وذهب مغضباً لها وظهر لها في وجهه ذلك فكتبت إليه: وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لا قصرت عن أشياء بالهزل والجد ولنني أبدي لهذا مودتي ... وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد مخافة أن يغرى قول كاشح ... عدو فيسعى بالوصال إلى الصد فكتب إليها سعيد: تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد وجاءها أبو يوسف بن الدقاق الضرير وأبو منصور الباخرزي زائرين فحجبا عن الدخول إليها, ولما رجعا وعلمت بمجيئهما وانصرافهما قبل مقابلتها غمها ذلك فكتبت إليهما تعتذر: وما كنت أخشى أن تروا لي زلة ... ولكن أمر الله ما عنه مذهب أعوذ بحسن الصفح منكم وقبلنا ... بصفح وعفو ما تعوذ مذنب فكتب إليها أبو منصور الباخرزي: لئن أهديت عتباك لي ولإخوتي ... فمثلك يا فضل الفضائل يعتب إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقيل العذر مذنب وقال المتوكل يوماً لعلي بن المنجم: كان بيني وبين فضل موعد وقبل مجيئها قد شربت وسكرت فنمت وجاءت فضل للموعد فحركتني بكل ما ينتبه به النائم فلم أنتبه فلما علمت أن لا صلة لها في كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي وانصرفت, فلما انتبهت وجدتها فإذا مكتوب فيها: قد بدا شبهك يا مو ... لاي يحدو بالظلام قم بنا نقضي لبانا ... ت التزام والتآم قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام وكانت فضل تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف -وكانت شاعرة- فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلاً عليها ويهجوها مع فضل, وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل على لسان فضل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 خنساء طيري بجناحين ... أصبحت معشوقة نذلين من كان يهوى عاشقاً واحداً ... فأنت تهوين عشيقين هذا القصيدي وهذا الفتى ل ... حافصي قد زاراك فردين فضحت من هذا وهذا كما ... ينعم خنزير بحشين فقالت خنساء تجيبها: ماذا مقال لك يا فضل بل ... مقال خنزيرين فردين يكنى أبا الشبل ولو أبصرت ... عيناه شبلا راث كزين وقالت فضل في خنساء: إن خنساء لا جعلت فداها ... اشتراها الكسار من مولاها ولها نكهة يقول محادث ... ها أهذا حديثها أم فساها وقالت خنساء في فضل وأبي شبل: تقول له فضل إذا ما تخوفت ... ركوب قبيح الذل في طلب الوصل حرام فتى لم يلق في الحب ذلة ... فقلت لها لا بل حرام أو شبل وقالت خنساء تهجو أبا شبل لمساعدته فضل عليها: ما ينقضي فكري وطول تعجبي ... من نعجة تكنى أبا الشبل لعب الفحول بسفلها وعجانها ... فتمردت كتمرد الفحل لما اكتنيت بما اكتنيت به ... وتسمت النقصان بالفضل كادت بنا الدنيا تميد ضحى ... ونرى السماء تذوب كالمهل ولما وصلت هذه الأبيات إلى أبي شبل غضب منها ولم يجب عليها وقال يهجو مولاها هشاماً: نعم مأوى العذاب بيت هشام ... حين يرمي اللثام باغي اللثام من أراد السرور عند حبيب ... لينال السرور تحت الظلام فهشام نهاره ودجى الل ... يل سواء نفسي فداء هشام ذاك حر دواته ليس تخلو أبداً من تخرق الأقلام وزارت فضل سعيد بن حميد ليلة على موعد بينهما, فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها, فقامت مبادرة, فمضت فلما كان من غد كتب إليها ابن حميد: ضن الزمان بها فلما نلتها ... ورد الفراق فكان أقبح وارد والدمع ينطق للضمير مصدقاً ... قول المقر مكذباً للجاحد وقال لها عبيد بن محمد صبيحة قتل المنتصر والمعتز ماذا نزل بكم البارحة؟ فقالت: أن الزمان بذحل كان يطلبنا ... ما كان أغفلنا عنه وأسهانا مالي وللدهر قد أصبحت همته ... مالي وللدهر ما للدهر لا كانا وخرجت فيحة جارية المتوكل إلى سيدها يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صاف فقال لها: ما هذا فديتك؟ قالت: هديتي لك في هذا اليوم عرفك الله بركته, فأخذها من يدها ونظر إليها فإذا مكتوب على خدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 نقطة جعفر بالمسك فشرب الكأس وقبل خدها وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت: وكاتبة بالمسك في الخد جعفراً ... بنفسي سواد المسك من حيث أثرا لئن أثرت بالمسك سطراً بخدها ... لقد أودعت قلبي من الحزن أسطرا فيا من مناها في السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا ثم قالت أيضاً: سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر فلما سمع المتوكل هذه الأبيت طرب طرباً شديداً وأمر فغنى بها وأنعم على فضل إنعاماً زائداً وكتبت فضل إلى سعيد بن حميد يوماً. تبث هواك في بدني وروحي ... فألف فيهما طمع بياس فأجابها سعيد في وقتها: كفانا الله شر الياس إني ... لبغض الياس أبغض كل آس قال ابن أبي المدور الوراق: كنت يوماً عند سعيد بن حميد وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل يتشعب وقد بلغ ميلها إلى بنان المغني وهو بين المصدق والمكذب بذلك, فأقبل على صديق له فقال: قد أصبحت والله من أمر فضل في غرور أخادع نفسي بتكذيب العيان, وأمنتها ما قد حيل دونه, والله إن إرسالي بعدها قد لاح من تغيرها لذلك وإن عدولي في أمرها مشبه بالعجز وإن تصبري لمن دواعي التلف ولله در محمد بن أمية حيث يقول: يا ليت شعري ما يكون جوابي ... أما الرسول فقد مضى بكتابي وتعجلت نفسي الظنون وأشعرت ... طمع الحريص وخيفة المرتاب وتروعني حركات كل محرك ... والباب يقرعه وليس ببابي كم نحو باب الدار لي من وثبة ... أرجو الرسول بمطمع كذاب والويل لي من بعد هذا كله ... إن كان ما أخشاه رد جوابي قال ابن المنجم: غضب بنان المغني على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل معذرتها فأنشدت في ذلك مصبرة نفسها. يا فضل صبراً إنها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق ظن بنان أنني خفته ... روحي إذا من بدني طالق وقال المتوكل لعلي بن الجهم: قل بيتاً وطالب فضل الشاعرة بأن تجيزه. فقال علي: أجيزي يا فضل: لاذبها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا فأطرقت هنيهة ثم قالت: فلم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا فعاتبوه فزاد عشقاً ... فمات وجداً فكان ماذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فطرب المتوكل وقال: أحسنت وحياتي وأمر لها بمائتي دينار وأمر عريب فغنت بها وكتب سعيد بن حميد إلى فضل رقعة قال في آخرها: تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن إثم ومنكر إذا كان قلبي في يديك رهينة فكيف بلا قلب أصافي وأهجر قال إسحاق بن مسافر: كنت يوماً عند سعيد بن حميد إذ دخلت عليه فضل على غفلة فوثب إليها وسلم عليها وسألها أن تقيم عنده فقالت: قد جاءني وحياتك رسول من القصر فليس يمكنني الجلوس وكرهت أن أقيم ببابك ولا أراك فقال: سعيد من وقته على البديهة. قربت ولا نرجو اللقاء ولا نرى ... لنا حيلة يدنيك منا احتيالها فأصبحت كالشمس المنيرة ضوءها ... قريب ولكن أين منا منالها وظاعنة ضنت بها غربة النوى ... علينا ولكن قد يلتم خيالها تقربها الآمال ثم تعوقها ... مماطلة الدنيا بها واعتلالها ولكنها أمنية فلعلها ... يجود بها صرف النوى وانتقالها وتغاضب سعيد بن حميد وفضل أياماً ثم كتب إليها: تعالي نجدد عهد الرضا ... ونصفح في الحب عما مضى ونجري على سنة العاشقين ... ونضمن عني وعنك الرضا ويبذل هذا لهذا هواه ... ويصير في حبه للقضا ونخضع ذلً خضوع العبيد ... لمولى عزيز إذا أعرضا فإني مذلج هذا العتاب ... كأني أبطنت جمر الغضى فسارت إليه وصالحته. وكان سعيد بن حميد صديقاً لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوماً وجاءه رسول فضل يسأله المصير إليها, فمضى معه وتأخر عند أبي العباس, فكتب إليه رقعة يعاتبه معاتبة فيها بعض الغلظة فكتب إليها سعيد: أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل تارة ويميل لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول ولكل نائبة ألمت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل ولعل إحداث الليالي والردى ... يوماً ستصدع بيننا وتحول فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن على منك عويل ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول وحضر يوماً في منزل بعض إخوانه فوجد عندهم فضل, فأقام معهم عامة يومهم, وآخر النهار غضبت منهم على النبيذ, ثم انصرفوا وهم على ذلك وبعد أيام اجتمع سعيد مع إخوانه المذكورين وتصادف مجيء فضل على غير موعد, فدخلت عليهم وسلمت عليهم سواه فقالوا لها: أتهجرين أبا عثمان؟ فقالت: أجب أن تسألوه أن لا يكلمني. فقال سعيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 اليوم أيقنت أن الهجر متلفة ... وأن صاحبه منه على خطر كرب الحياة لمن أمسى على شرف ... من الميتة بين الخوف والحذر يلوم عينيه أحياناً بذنبهما ... ويحمل الذنب أحياناً على القدر تنأون عنه وينأى قلبه معكم ... فقلبه أبداً منه على سفر فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت: لا أهجرك والله أبداً ما حييت. وبعد ذلك بمدة غضبت عليه فكتب إليها: يا أيها الظالم ما لي ولك ... أهكذا تهجر من واصلك لا تصرف الرحمة عن أهلها ... قد يعطف المولى على من ملك ظلمت نفساً فيك علقتها ... فدار بالظلم على الفلك تبارك الله فما أعلم الله ... بما ألقى وما أغفلك فراجعت وصله وسارت إليه جواباً لرقتها: وكان سعيد يوماً في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه غلام برقعة فضل, فقرأها وضحك فقال الحسن بن مخلد: بحياتي عليك أقرأتها فدفعها إليه فقرأها وإذا هي تشكو فيها شدة شوقها إلى سعيد فضحك وقال: قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها: يا واصف الشوق عندي من شواهده ... قلب يهيم وعين دمعها يكف والنفس شاهدة بالود عارفة ... وأنفس الناس بالأهواء تأتلف فكن على ثقة مني وبينة ... أني على ثقة من كل ما تصف فلما وصل إليها الجواب طاب قلبها وسارت إليه وأقامت عنده عامة النهار وكرت راجعة. ولما تعشقت بنان ابن عمر المغني وعدلت عن سعيد أسف عليها وأظهر تجلداً ثم قال فيها: قالوا تعزى وقد بانوا فقلت لهم ... بأن العزاء على آثار من بانا وكيف يملك سلوانا لحبهم ... من لم يطق للهوى سراً وكتمانا كانت عزائم صبري أستعين بها ... صارت علي بحمد الله أعوانا لا خير في الحب لا تبدي شواكله ... ولا ترى منه في العينين عنوانا قال محمد بن السري: إنه توجه إلى سعيد بن حميد في حاجة له فوجده في منزل الحسن بن مخلد فقصده وإذا برسول فضل ناوله رقعة منها وفيها الأبيات التي أرسلتها إلى محمد بن العباس اليزيدي وأولها: الصبر ينقص والسقام تزيد وفي آخرها أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري فأخذ بيد ابن السري ومضيا إليها فسألها عن خبرها فقالت: هو ذا أموت وتستريح مني. فانشأ يقول: لا مت قبلي بل أحيا وأنت معاً ... ولا أعيش إلى يوم تموتينا لكن نعيش بما نهوى ونأمله ... ويرغم الله فينا أنف واشينا حتى إذا قدر الرحمن ميتتنا ... وحان من أمرنا ما ليس يعدونا متنا جميعاً كغصني بانة ذبلاً ... من بعدما نضراً واستوسقا حينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ثم السلام علينا في مضاجعنا ... حتى نعود إلى ميزان منشينا وبلغها حينما كانت مائلة إلى بنان أن سعيداً عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه: يا عالي السن سيئ الأدب ... شبت وأنت الغلام في الطرب ويحك إن القيان كالشوك ال ... منصوب بين الغرور والعطب لا يتصدين للفقير ولا ... يطلبن إلا معادن الذهب بينا تشكي هواك إذ عدلت ... عن زفرات الشكوى إلى الطلب تلحظ هذا وذا وذاك وذي ... لحظ محب وفعل مكتئب وافتصد سعيد بن حميد يوماً فقالت فضل لعريب: وهل لك أن نذهب فنزور سعيداً؟ قالت لها: فلا مانع من ذلك وأرسلت إليه قبل زيارتها هدايا منها ألف جدي وجمل وألف دجاجة فائقة, وألف طبق ريحان وفاكهة ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان فكتب إليها سعيد: وإن سروري لا يتم إلا بحضورك فجاءته في آخر النهار وجلست معه على الشراب وغنتهم عريب بما لزم. فبينما هم كذلك وإذا بالغلام يستأذن لبنان فإذن له فدخل إليهم وإذا هو شاب طرير حسن الوجه حسن الغناء نظيف الثياب شكل فذهب بفضل كل مذهب, فأقبلت عليه بحديثها ونظرها فتنمر سعيد واستطير غضباً وتبين بنان القصة فانصرف وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة, ثم أمسك فقالت منشدة: يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي أفديك من متدلل ... يزهو بقتل الأنفس هبني أسأت وما أسأ ... ت بلى أقول أنا المسي أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلسي فنظرت نظرة مخطئ ... أتبعتها بتفرس ونسيت أني قد حلفت ... فما عقوبة من نسي فقام سعيد وقبل رأسها وقال: لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته, وغنت عريب في هذا الشعر وشربوا عليه بقية يومهم, ثم افترقوا وأثر بنان في قلبها وعلقت به ثم لم تزل حتى واصلته وقطعت سعيداً. وكان إبراهيم بن المهدي يقول: إن فضل كانت من أحسن خلق الله خطاً وأفصحهم كلاماً, وأبلغهم في مخاطبة, وأثبتهم في محاورة فقال يوماً لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتجيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك فقال له وهو يضحك: ما أخيب ظنك ليتها تسلم مني لآخذ كلامها ورسائلها, والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وما ماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك, انتهى. فضة النوبية هي جارية السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من النساء العاقلات الصادقات وقد اشتهرت بالفضيلة. وقيل" عن أبي العباس في قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان: 7-8] قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما صلى الله عليه وسلم وعادهما عامة العرب فقالوا: يا أبا الحسن, لو نذرت على ولدك نذراً. فقال علي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 إن برءا مما بهما صمت لله -عز وجل- ثلاثة أيام شكراً. وقالت فاطمة: كذلك, وقالت جاريتهما فضة النوبية: إن برأ سيداي صمت لله -عز وجل- شكراً, فلبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير, فانطلق علي إلى شمعون الخبيري فاستقرض منه ثلاثة آصع من شعير فجاء بها فوضعها فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته, وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف على الباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد, مسكين من أولاد المسمين أطعموني أطعمكم الله -عز وجل- على موائد الجنة فسمعه علي فأمرهم بإعطائه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء. فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى الصاع وخبزته وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم يتيم فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد يتيم بالباب من أولاد المهاجرين استشهد والدي أطعموني فأعطوه الطعام فمكثوا يومين ولم يذوقوا إلا الماء. فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته وأختبزته وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت النبوة تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا, أطعموني فإني أسير, فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما بهم من الجوع فأنزل الله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) [الإنسان: 1] إلى قوله (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) [الانسان: 9] . ومن ذلك يعلم أن المترجمة ساوت نفسها بسيدتها فاطمة الزهراء, فنالت بذلك فخراً لم ينله غيرها من نساء العرب وبقيت بخدمة هذا البيت حتى توفاها الله رضي الله عنها. فطنت بنت أحمد باشا والي طرابزون ولدت في طرابزونه سنة 1258 هجرية وتربت في بيت أبيها أحسن تربية إلى أن ترعرعت قابلة للتعليم, فقدمها والدها إلى مكتب حافظ أفندي أحد معلمي القراءة بتلك المدينة فصار يعلمها مبادئ القراءة التركية والفارسية والقرآن الشريف. فلما تعلمت تلك المبادئ انتقل والدها إلى الروملي الشرقية فأحضر لها المعلمين للخط وتدريس باقي العلوم حتى تعلمت كافة ما تحتاج إليه من التهذيب والتأديب ومالت نفسها إلى العروض وبحوره وبرعت فيه أيضاً حتى صارت نادرة زمانها, ولها ديوان شعر باللغة التركية ومثله بالفارسية, ولما أتمت علومها وبرعت في كل ما ألقى إليها وآن أوان زواجها زوجها والدها من أحد الأدباء الأفاضل, فعاشت معه عيشة حسنة, وولدت له أولاداً وبنات, وتوفي عنها وهي في زهرة شبابها وبعد وفاته بمدة خطبها محمد علي بك أفندي كاتب أول نظارة البحرية في الأستانة وهي معه لغاية الآن في عيشة راضية. ولها مؤلفات عقلية وحكمية باللغة التركية وأشعار غزلية وغيرها منها: سرنكون ايتدى فلك اسابني بيمانه سن ... ?ونكه دلشادا يلمزنا شادا ولان مستانه سن عزم سوى مكيده الوير مدى جكدم اياق ... باشنه جالسون همان أول بيوفاد مخانه سن عيش ونوش وصحبتي ذكمزانك هيج بر?وله ... نيلرم ظل سراب آسابو مهما نخانه سن جرعه نوش باده ألطافي أو لمقدر محال ... بند كان ترك ايتمسونمي مجلس شاهانه سن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وادئ الام وغمده قالدم أي ساقئ دهر ... محرم ايتدى يا رزيرا مجلسه بيكانه سن شمعه سوزانه حاجت قالمدى جونكه يتر ... آتش كورنده يا قدى عاقبت بروانه سن برتوجام جمم داراايله فخر ايلسون ... بعدازين يادا يتمسون (فطنت) كبى ديوانه سن ومنها: ايلسون تأثير دردك جانه الله عشقنه ... كيرمسون غمنخانمه بيكانه الله عشقنه كيم بيلوردرداهلنك حالن ينه يارى بيلور ... قيل ترحم ديده كريانه الله عشقنه بزم جانام اوزاق بوسوزش حسرت ايله ... كل سنكله يانه يم بروانه الله عشقنه زخم فرقت بك بتوردى قالمدى بنده مجال ... سويليك بوحالمي جانانه الله عشقنه دل خراب اباد عشقكدرا نوتمه رحم ايدوب ... فطنتنى كل ايلمه ديوانه الله عشقنه ومنها: ايتمه رغبت دشمن بدكاره الله عشقنه ... ويرمه فرصت أو يله هرمكاره الله عشقنه أولمسون محرم رقيب أسراره الله عشقنه ... سن إيدرسك راضيم ازاره الله عشقنه قيل مروت ويرمه يوزاغياره قابلادي مرآت قلبم غم ورنج ملال ... بسترغمده ياتوب دردكله أولدم بي مكجال حسرت ديدارك ايمه ايلدى بك خسته حال ... أويله زارا ولدى تئم كلسه أجل بولمق محال بن شهيد غمزه كم برجاره الله عشقنه أي طبيب جان ودل رحم ايله بوبيماركه ... منتظر دوكوز كوز اولمش زخمله يتماركه بارى بركون مظهر ايله مهر لطف اشاركه ... دست لطفكله دواقيل خسته نا?اركه مرهم كافور استرياره الله عشقنه هي نه سحرا يتدك بكا أول جشم جادولرايله ايلدك علقم بر يشأن زلف شبولر ايله شأنه وش صد جاك سينه م فكركيسولرايله ... تازه ياره ايلمه مج كان وابر ولرايله بند زخمى اجمدك بيماره الله عشقنه قالمدى دلده تحمل غيرى درد فرقته ... ايله محرم سويكم بركره بزم وصلته صون لب جانبخشكي بومبتلاى محنته ... لعل نابك ايله جان ويرتا أميد صحته صوك نفسده برمددنا جاره الله عشقنه سروقدك صورتى آيرلمز أصلا ديده دن ... رخلرك كيتمز خيالى خاطر رنجيده دن نونها لم قاجمه لطف ايت عاشق غم ديده دن ... صاقلامه كل رويني بوبلبل شوريده دن عرض ديدارايله أي مهباره الله عشقنه غمزه دنكم تاب ميدن كاه خون الود أولور ... لحظه ده ببك عاشق اشفته دل نابود اولور نظره خمشك دخى احساندن معدوداولور ... هرنكاهك آفت جان دل ينه خشنوداولور نه بلايه دوشمش اول آواره الله عشقنه زنك غمدان صاف ايله سوديكم ايينه كى ... قيل جراغ بزم وصلك عاجزبى كينه كى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 شويله دلسوزا يلدى بونبذه ديرينه كى ... سينه سينه يا ندى سينه م كورميلدن سينه كى مرحمت قيل (فطنت) غمخواره الله عشقنه ومنها: هريرده سنك سايه صفت همدمك أولسه م ... قلب ايله لرساكى بنى مد غمك أولسه م بيله مم كيمه درميل نهنى درونك ... كيرسه م يوركك ايجنه هب محرمك اولسه م غرق ايلر ايدم قطره ناجيز وجودم ... كلبزك جمالكده سنك شبنمك أولسه م فكتوريا ملكة الإنكليز وإمبراطورة الهند كانت ولادة "قكتوريا" في الرابع والعشرين من شهر أيار (مايو) أحد شهور سنة 1819م وأبوها دوق كنت ابن الملك جورج الثالث ملك الإنكليز, وأمها الأميرة "فكتوريا ماري لويز" أخت "ليوبولد" ملك بلجيكا توفي أبوها "دوق كنت" في أوائل سنة1820م وعمرها ثمانية أشهر فقط وكان من الرجال العظام المشهورين بالفضائل والفواضل الساعين في ترقية شأن الأمة السابقين إلى عمل الخير والإحسان فإنه كان مشتركاً في أكثر من ستين جمعية خيرية, فقامت أمها على تربيتها واهتمت بأمرها فوق ما ينظر من الوالدات ولا سيما إذا كن أميرات فإن أولاد الملوك والأشراف قلما ينالهم من الاعتناء الوالدي ما ينال غيرهم من أولاد العامة, ولكن "فكتوريا" نالت من ذلك الحظ الأوفر لا سيما لأنها كانت وحيدة لأمها, فانقطعت إلى تربيتها منتظرة أن يسلم لها زمام الملك يوماً ما وتناط بها مهام السلطنة. ولما صار "لفكتوريا" خمس سنوات من العمر عين لها البارلمنت (أي مجلس الشورى الإنكليزي) ستة آلاف ليرة في السنة لتنفق على تعليمها وتهذيبها فأكبت على الدرس حتى إذا صار لها من العمر إحدى عشرة سنة فقط كانت تتكلم بالفرنسوية والجرمانية جيداً, وتقرأ اللاتينية والطليانية. وبرعت في الموسيقى والتصوير وظهر منها ميل شديد إلى العلوم الرياضية, ولم يقتصر في تربيتها على تهذيب عقلها وتوسيع معارفها بل صرفت إلى ترويض جسمها, لأن العقل السليم لا يكون في الجسم السقيم, فمرنت على ركوب الخيل, وقطع البحار ونحو ذلك من الأعمال التي تقوي البنية وتجيد الصحة وتزيد الشجاعة وتنزع الخوف وبغير ذلك لم يكن ممكناً لامرأة أن تحكم على مئات الملايين وتتولى أمورهم أكثر من خمسين سنة متوالية على اختلاف أجناسهم, وبلدانهم, وأغراضهم وحياتها عرضة للخطر من الخارجين عليهم من أهل البغي والمجانين. وسنة 1830 م رقي عمها الملك وليم الرابع إلى سدة الملك, ولم يمن له أولاد أحياء من زوجته الشرعية فعنيت "فكتوريا" وارثة له قبل أن تبلغ أشدها, وجعل راتبها السنوي ستة عشر ألف جنيه ولكن لم تزل مكبة على الدرس والتجول في البلاد لتقرن معارفها التاريخية والجغرافيا بالمشاهدة وتطلع على أحوال البلاد من حيث الزراعة والصناعة, ولما بلغت سن الرشد عند الإنكليز وهو السنة الثامنة عشرة. وذلك سنة 1837 م جرى لها احتفال عظيم في البلاد, وفي تلك السنة توفي عمها الملك وكانت وفاته في العشرين من شهر حزيران (يونيو) فجاءها رؤساء المملكة وكانت نائمة فأيقظوها من نومها وأخبروها بوفاة عمها, وبأن الملك صار إليها فأبدت من الحزم والنباهة ما أدهشهم. وفي اليوم التالي نودي بها ملكة بريطانيا العظمى وإرلند في قصر سنت جمس وللحال شرعت تحمل مهام مملكتها الواسعة وتهتم في شؤونها حتى خيف على صحتها من الاعتلال, وأشار عليها الأطباء أن تنقطع مدة عن الأشغال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وفي العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) فتحت البرلمنت أول مرة وعين راتبها السنوي فيه 385 ألف ليرة وكان وزيرها الأعظم اللورد "ملبرن", وكان رجلاً جليلاً محنكاً في السياسة, إلا أنها علمت أنه لا يدوم لها وأنه لا بد لها من أن تهتم بسياسة مملكتها بنفسها, فكانت تطلب منه أن يشرح لها كل قضية من القضايا السياسية ولم تكن تمضي ورقة ما لم تفهم مؤداها جيداً. وفي الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) سنة 1838 م توجت في دير وستمنستر ووزعت أوراق على المدعوين بقدر ما يسع المكان ولكن أتى جم غفير من كل أنحاء البلاد لمشاهدة تتويجها فصارت ورقة الدخول تباع بخمسين جنيه لشدة ما في نفوس رعاياها من التشوق إلى مشاهدتها, وكان التاج الذي توجت به مرصعاً بالحجارة الكريمة وثمنه (112760 ليرة إنكليزية) , وبلغت نفقات تتويجها 69421 ليرة, وهذا المبلغ قليل في جانب المبلغ الذي أنفق على تتويج عمها فإنه بلغ 238 ألف ليرة وأما تاجها فإنه صاغه لها أبرع الصناع الموجودين في تلك السنة, وهو معجزة هذا الزمان وفيه يقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان قد صيغ من الذهب على شكل بديع ورصع بألفين وسبعمائة وثلاثة وثمانين حجراً من الماس بألطف ترصيع , وفي مقدمته ياقوتة كبيرة حمراء تضيء كالمشكاة في الليلة الليلاء قيل: إنها أهديت من الملك قشتيلة بالأندلس إلى الأمير الأسود أحد ملوك الإنكليز سنة 1367 ميلادية, وفي ذلك التاج ياقوتة زرقاء على غاية من الرونق والبهاء. وكانت قد رأت أميراً جرمانياً في صغرها اسمه البرنس"ألبرت" ابن دوق "كويرج", والظاهر أنها أحبته من ذلك الحين, فلما استوت على عرش المملكة أرادات أن تتبع سنة الله في خلقه, فكاشفت مجلس الشورى بأنها عازمة أن تتزوج بهذا الأمير, فصوب المجلس رأيها وعين ثلاثين ألف ليرة راتباً سنوياً, ولكنه اختلف في نسبته إليها وفيمن منهما يكون له التقدم ففضت الملكة هذا المشكل بقولها: إن مقامه يكون بعد مقامها بالنسبة إلى المملكة, فاقترنت به في العاشر من شباط (فبراير) سنة 1840 م وكان لاقترانهما احتفال عظيم في البلاد كلها. وفي الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1840 م ولدت ابنته وهي التي صارت زوجة ولي عهد جرمانيا, وفي السنة التالية ولدت ولي عهدها برنس "أوف ويلس" فعم الفرح والحبور في البلاد كلها, وقدروا النفقات التي أنفقت احتفالاً بعماده بمائتي ألف ليرة وفي السنة التالية أي سنة 1842 م زارت اسكتلندا فاحتفل الشعب الاسكتلندي بها وبزوجها احتفالاً عظيماً, ثم زارتها مراراً كثيرة وكانت أحوال المملكة في اضطراب بسبب مرض البطاطا وما رتب عليه من الضيق في "إرلند" فصرفت عنايتها وعناية مجلسها إلى تخليص رعاياها من هذا الضيق والاقتصاص من المجرمين الذين يكثر عددهم في كل بلاد اشتد الضيق فيها فوقعت في مخاطر كثيرة بسبب ذلك كما سيجيء. وسنة 1852 م توفي القائد العظيم دوق "ولنتنون" الذي قهر بونابرت في واقعة "وطرلو" فحزنت عليه الملكة حزناً شديداً وكتبت تقول إنها فقدت فخر إنكلتر ومجدها ورأسها وأعظم من قام فيها وهذا شأن كل ملك عظيم بقدر رجاله قدرهم ولا يبخس الناس أشياءهم. ثم انتشبت حرب القرم وكان الشعب الإنكليزي يرى من واجباته مساعدة الدولة العلية ضد هجمات الروس, فظن أن رأي البرنس "ألبرت" زوج الملكة مخالف لرأيه في ذلك, فاتهمه بالخيانة والتشيع للروس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وكثرت القلاقل والإشاعات فأشاع بعضهم أن ألقي القبض عليه وأودع السجن, وألقي القبض على المكلة أيضاً لتشيعها له, ولكن البرنس أعرب عن آرائه السياسية في البرلمنت فهدأت أفكار الناس وزال اضطرابهم. وفي الشهر التالي استعرضت الملكة الجيوش الذاهبة إلى القرم وزارت العمارة البحرية قبل سفرها إلى البلطيك, وهتمت بحوادث هذه الحرب أشد اهتمام وفي نيسان (أبريل) سنة1855 م زارهما الإمبراطور نابليون وزوجته فردت لهما الزيارة في شهر آب (أوغسطس) مع زوجها. ثم جاءتها سنة1861 م بأشد المصائب فتوفيت أمها في السادس عشر من آذار (مارس) وتوفي زوجها في الرابع عشر من (ديسمبر) وله من العمر اثنتان وأربعون سنة, فحزنت عليهما حزناً مفرطاً, ولم تعد ترى في المحافل العمومية, إلا نادراً حتى لما احتفل بزواج ابنها ولي العهد لم تمض إلا إلى الكنيسة. وسنة 1867 م زارها جلالة السلطان عبد العزيز خان وملكة بروسيا وإمبراطورة فرنسا وداهمتها مصيبتان أخيريان. الأولى: وفاة ابنتها الأميرة "ليس" سنة 1868 م. والثانية وفاة ابنها دوق"الني" سنة 1884 م. وأما الملوك بمعزل عن المصائب والنوائب ولا ينجيهم منها حصن ولا معقل. وقد مر الآن على هذه الملكة السعيدة زيادة عن خمسين سنة وهي مستولية على سدة الملك ولم يملك أحد غيرها من ملوك الإنكليز خمسين سنة فأكثر إلا ثلاثة وهم: الملك هنري الثالث الذي ملك من سنة 1216 م إلى سنة 1272 م, والملك إدوارد الثالث الذي ملك من سنة 1327 م إلى سنة 1377 م, والملك جورج الثالث الذي ملك من سنة 1760 م إلى سنة 1820 م. وقد ارتقى الشعب الإنكليزي مدة ملكها ارتقاء لا مثيل له وامتدت السلطنة الإنكليزية في الأقطار المسكونة حتى يقال: إن الشمس لا تغرب عنها كلها في الأربع والعشرين ساعة. وحدث في السلطنة الإنكليزية حوادث كثيرة تستحق الذكر غير ما ذكر. منها: تخفيض أجرة البوسطة وتعديل شريعة المساكن واسكتلندا وإرلندا حتى صاروا ينتفعون نفعاً حقيقياً من مساعدة الحكومة, وصارت المساعدة تصل إلى الذين يحتاجونها حقيقة. ومنها: إلغاء شرائع الحبوب وكانت هذه الشرائع تمنع إدخال الحبوب إلى إنكلترا إلا عند الغلاء الشديد بما تفرضه عليها من المكس الفاحش في أوقات الرخص فإذا كان ثمن الكوارتر (نحو 200 أقة) من القمح 62 شلناً أخذت الحكومة مكساً عليه 24 شلناً وثلثي الشلن وكلما قل الثمن شلناً زاد المكس شلناً, وإذا زاد الثمن عن ذلك قل المكس كثيراً فإذا بلغ الثمن 69 شلناً صار المكس 15 شلناً وثلثين وإذا بلغ الثمن 73 شلناً صار المكس شلناً, فإذا اشترى أحد قمحاً حينما كان ثمن الكوارتر 18 شلناً, ثم رخص القمح فصار القمح ثمن الكوارتر 69 شلناً بلغت خسارته في كل كوارتر 18 شلناً وثلثي الشلن لأنه يلتزم حينئذٍ أن يدفع عليه مكساً 15 شلناً وثلثين بدلاً من دفع شلن واحد. ومنها: انتقال أملاك تركية الهند الشرقية إلى الحكومة الإنكليزية وبالتالي استيلاء الحكومة على كل بلاد الهند وجعلها قسماً من السلطنة الإنكليزية مع أن أهاليها يبلغون مائتي مليون وأهالي بريطانيا وإرلندا لا يبلغون الآن 35 مليون. ومنها: إباحة دخول البرلمنت لليهود ووضع نظام التعليم الجديد ولم يكن في بلاد الإنكليز نظام عام للتعليم حتى سنة 1870 م. وما بعدها فأقرت الحكومة ترتيب المدارس على نظام ثابت وساعدتها بالأموال الوفيرة ففتحت أبواب المعرفة لكل ولد من أولاد الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 زمنها: اكتشاف الذهب في أستراليا وكولمبيا ومد التلغراف بين إنكلترا وأمريكا, وبينها وبين كل ولايتها واتساع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة باتساع نطاق المعارف والاكتشافات العلمية وتكاثر السكك الحديدة والسفن التجارية. وفي الجملة تقول: إن الشعب الإنكليزي بلغ أوج مجده في مدة هذه الملكة وتمتع بما يتبعه الناس من الحرية الشخصية حتى إن الحقوق التي طلبها الفيلسوف "جون ستورت" في كتابه المعنون بالحرية لم يبق لها داع لأن الجميع تمتعوا بها وبأكثر منها. ونودي بالملكة "فكتوريا" إمبراطورة الهند سنة 1876 م, وقد ولد لها تسعة أولاد أربعة بنين وخمس بنات وهذه أسماؤهم مع ذكر رواتبهم السنوية: ليرة عدد الأسماء 8000 40000 65000 10000 25000 6000 6000 25000 6000 6000 385000 45000 1 2 3 4 5 6 7 8 9 البرنسيس "فكتوريا أرليد" زوجة ولي عهد بروسيا البرنس "ألبرت" برنس أوف ويلس دخل دوقية كورنول لزوجة البرنس المذكور البرنس "ألسن" وقد توفيت "ألغرد" دوق أدبنرج البرنسيس "هيلانة" البرنسيس " لويزا" البرنس " أرتر" دوق "كونوت" البرنس "لبوبلد" دوق "اليني" فقد توفي وجعل لزوجته في السنة الأميرة "بياثرس" راتب الملكة السنوي دخل دوقية لنكستر والملكة "فكتوريا" مشهورة في حسن تدينها وشدة اهتمامها بتربية أولادها على مبادئ الديانة والتقوى, وفي اهتمامها بالفقراء والمساكين والمحتاجين من رعاياها فتنفق عليهم من مالها وتشتغل بيدها أحزمة وأكيسة وترسلها لهم, وتهتم أيضاً في شأن العلوم والمعارف شديد الاهتمام, وتثيب المشتغلين فيها, وتقطع لهم الوراتب السنوية جزاء لخدمتهم فالأستاذ "هكسلي" مثلاً له راتب سنوي قدره 300 ليرة, والدكتور "مري" له 270 ليرة في السنة, "ومتبو أرتلد" له 250 ليرة, و" ألفردولس" 200 ليرة. ومع فضل هذه الملكة العظيمة وشدة تعلق شعبها بها وحبهم لها لم يصف لها كأس الحياة من المعتدين الطالبين قتلها, فقد صدق من قال: إن المناصب محفوفة بالمتاعب, فبعد زواجها بأربعة أشهر كانت ذاهبة في مركبة مفتوحة مع زوجها فدنا منها شاب اسمه "أكسفرد" وأطلق عليها طبنجة مرتين ولكنه لم يصبها بمكروه فحكم عليه بالموت, ثم وجد فيه اختلال في عقله فأبدل الحكم بوضعه في بيمارستان المجانين مدى الحياة. وسنة 1842 م حاول واحد آخر قتلها وأطلق عليها طبنجة فحكم عليه بالموت, ولكنها خففت الحكم وحكمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 عليه بالنفي المؤبد وبعد أسابيع قليلة حاول واحد آخر أن يطلق عليها طبنجة, فحكم عليه بالسجن. وسنة 1849 م حاول رجل إرلندي قتلها ورماها بالرصاص فلم يلحق بها ضرراً فحكم عليه بالنفي سبع سنوات. وفي السنة التالية هجم عليها أحد الجنود وضربها بالعصا على وجهها فحكم عليه بالنفي سبع سنوات. وسنة 1872 م أطلق عليها شاب طبنجة محاولاً قتلها فلم يصبها ولدى النظر في أمره وجد مجنوناً فأودع البيمارستان. وفي تلك السنة أرسل بعضهم رسالة إلى السير "هنري بولسونبي" يتهدد به المكلة بالقتل فهذه حياة الملوك وهذا هو خلها وخمرها. وللملكة فكتوريا مؤلفان شهيران الأول في تاريخ حياة زوجها ألفة الجنرال "غراي" بإرشادها. والثاني: تاريخ حياتها معه من سنة 1841 م إلى سنة 1861 م وأتبعته بكتاب آخر من نوعه نشرته في أواخر سنة 1883 م وهو يمتد من سنة 1862 م إلى سنة 1882 م. أما زوجها البرنس "ألبرت" فهو ابن دوق "سكس كوبرج كوثا" وهي ولاية في سكسونيا ولد في السادس والعشرين من شهر آب (أغسطس) سنة 1819 م ودرس العلوم العالية في مدرسة بون الجامعة, وبعد أن تخرج في العلوم السياسية تعلق بالكيمياء والتاريخ الطبيعي والتصوير والموسيقى ويقال: إنه نظم رواية من نوع الأوبرا مثلت في لندن بعدئذٍ. وكان بديع المنظر ماهراً بالفروسية. ولما اقترنت به الملكة "فكتوريا" على ما تقدم كان في الحادية والعشرين من عمره فمنح الإعانة الإنكليزية وأعطيت له قيادة ألاي من الفرسان ورقي إلى رتبة قليد مرشال, ثم وجهت إليه ألقاب ورتب كثيرة لأن الشعب الإنكليزي رأى منه رجلاً حازماً ساعياً في خير الأمة من غير أن يعرض نفسه للمسائل السياسية التي تعرض لمقاومة حزب من حزبي المملكة والملكة وجدته زوجاً أميناً محباً. أما السبيل الذي اختاره للسعي في خير الأمة من غير أن يعرض نفسه لمقاومة أهل السياسة فهو تنشيط العلوم والفنون فجعل رئيساً لمدرسة كمبرج الجامعة لكثير من المجامع العلمية, ولما كان رئيساً للمجمع العلمي البريطاني سنة 1859 م أعرب عن رأيه من جهة العلم معتمداً على إحسان المحسنين بل يخاطب الدولة كما يخاطب الابن أمه واثقاً بحنوها ورغبتها في نجاحه, وستجد الدولة في العلم عنصراً من عناصر قوتها ونجاحها وبسعيه فتح المعرض العام ببلاد الإنكليز سنة 1851 م ولكن لم يفسح الله له في الأجل فوافته المنية وله من العمر اثنتان وأربعون سنة. فكتوريا ودهول إن هذه السيدة من بنات أمريكا الجديرين بالذكر والمدح وممن يفتخر بهن في الاجتهاد والتقدم لأنها ربيت مع أختها "تنيس كلفن" في بلاد أمريكا تربية حسنة ومن عهد نشأتهما ربيت معهما ملكة التقدم وحب التظاهر ومناظرة الرجال بالأعمال اليدوية والمضاريب التجارية, ومن شدة رغبتها في التقدم قام بفكرهما أن يسويا بين الرجال والنساء في الحقوق والمعاملات, فأخذتا على عهدتهما من بدء نشأتهما نشر هذه الأفكار والبرهنة على كفاءة النساء في إدارة الأعمال المالية وغيرها مما لم يقم بأدائه إلى الآن سوى الرجال, وبالفعل فإنهما قد أسستا بيتاً مالياً كتبتا عليه عنوانهما, فتعجب من ذلك أصحاب المضاربات (البنوكة) وتضاعف اندهاشهم لما سمعوا بعد تأسيس المحل المذكور بعدة أسابيع أن صاحبتيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 اكتسبتا عدة ملايين من الريالات وقد أعقب ذلك وقوع أرباب البنوكة ذوي اللحى والشوارب في وهدة الإفلاس. وقد رسم بعض المصورين هاتين البنتين وعلى رأس كل منهما تاج رمزاً على القوة والتسلط وأطلقت الجرائد ألسنتها بالثناء الجميل والشكر الجزيل على مهارتهما وتغالت في ذلك حتى إن جريدة تلغراف نيويورك نشرت في صدر أحد أعدادها صورة تمثل البنتين راكبتين على عجلة يجرها رؤساء أكبر البيوت المالية فقامت جريدة نيويورك "هرالد" تصوب نحوهما سهام الانتقاد والتعزير وقالت: إن الشرائع الأمريكية وعادتها الأهلية تمنع النساء من السير في المناهج السياسية والدخول في ميادين الأعمال الاجتماعية مهما بلغت بهن درجة العلم والمعرفة. ولما اتصل بهما هذا الكلام لم تعبآ به بل أخذتا في اتباع طريقهما الأول وحثتا السير فيه, وانتهى الأمر بهما إلى أن أسستا جريدة أسبوعية بلغ عدد مشتركيها في زمن يسير (50000) نفس. ولما كانت القوانين الأميركية تخول لجميع أبناء الوطن الذين بلغوا رشدهم الحق في إعطاء أصواتهم بشرط أن يدفعوا ما عليهم من العوائد والرسوم التي اقتضتها نظامات الحكومة, وكانت السيدة "ودهول" من بنات الوطن اللاتي توفر فيهن شروط بلوغ الرشد ولكنها لم تدفع ما استحق عليها من العوائد والرسوم فقد عرضت على هيئة الحكومة أن تعطي لها الإذن بالدخول في مصاف الهيئة الاجتماعية, وشفت عن استعدادها لدفع الرسوم المطلوبة, ثم أخذت تبرهن بعبارات فصيحة وقياسات صحيحة على وجوب مساواة النساء بالرجال في الحقوق الوطنية وتحزب لمذهبها جم غفير من الناس وخمسمائة عضو من مجلس النواب نائبين عن ست وعشرين مقاطعة. وقد أخذ نجاح الأختين يتدرج في مدارك الزيادة والنمو حتى إنهما عولتا على نشر مبدئهما الحميد ألا وهو تحسين أحوال المرأة في العائلة وكانتا في كل أقوالهما وكتاباتهما توجهان سهام الانتقاد والتبكيت على كيفية تعليم الفتيات وقالتا: إنها مشحونة بقواعد طويلة مملة ومبادئ تميل بهن إلى اتخاذ التملق والخلق الذميم آلة لنوال مآربهن, وذكرتا غير مرة أن البنت تتعلم لتكون في المستقبل امرأة صالحة ووالدة مربية لا لتزويقها وتهيئتها لأن تكون داعية لاستلفات أنظار الشبان وأن أهلها وذوي قرابتها ومعلماتها يخفون عنها أنها لتكون في يوم من الأيام ربة بيتها ومديرة شؤون عائلة ستكون هي قوام نظامها, وركن سعادتها ودعامة عزها وشوكتها. ثم إنهم فوق ذلك لا يذكرونها بواجبها إذا صار بينها وبين الزواج زمن يسير. وبالجملة فكانت جميع هذه الأقوال باعثة على قيام الجميع ضد هاتين الأختين فاتهموهما بنشر المبادئ الفاسدة والعبث بصفة النساء الطاهرات الذيل وقد تغالوا في اتهامهما فنسبوهما إلى بث المبادئ العاطلة في العادات السليمة والأخلاق الحالية. وبناء عليه صاروا يغلوا في غياهب السجن ورغماً عن كون المحكمة قد برأتهما وأطلقت سراحهما فإن الناس استمروا يسومونهما الحيف والخسف وقالت إحدى الجرائد الأمريكية في ذلك ما نصه: كانت إذا احتاجت "فكتوريا ودهول" أن تستأجر حجرة لتبيت فيها وكانت أجرة هذه الحجرة 2000 ريال لا يسمح لها بسكناها بأقل من 3000 ريال, وإذا نزلت بإحدى الفنادق كانت تدفع عشرة أمثال ما يدفعه غيرها وكثيراً ما قضيت الليالي خارج المنازل لعدم قبول أحد أن يضيفها في منزله. ولما وصلت إلى هذا الحد حالتهما ورأتا عدم طيب المقام بارحتا أمريكا قاصدتين مدينة "لوندره" حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 كرمت مثواهما إحدى النساء الإنكليزيات ولم يذهب سعيهما في بلاد أمريكا هباء منثوراً فإنه لا يرى الإنسان في الولايات المتحدة بالقارة المذكورة محلاً من المحلات إلا وجدت المرأة فيه بجانب الرجل تؤدي الأعمال كما يؤديها هو, وتحقق من أن حقوقها صارت مرعية فهي لا تمنع من اكتساب ما يقوم بمعاشها ومعاش آويها من أي عمل رضيت به فهذه هي النساء, وهذا هو الفخر إذ أن امرأة تعجز عن أعمالها الرجال في بلاد مثل أمريكا. قيدر ابنة مينوس الكريني هي حليلة "ثيزى" ملك أثينا هامت أثناء تغيب زوجها بابنه "أبيوليت" المولد من زوجته الأولى "أثيوبا" ملكة الأمازون, وكان جميلاً فتاناً, ولما تمادى بها الوجد والألم وابتلاها الكتمان بالسقم باحت بما تجده من حر الجوى وبرحاء الهوى إلى أمينة سرها "أوتون", أما "أبيوليت" فكان مفتوناً بحب "أديسيا" سجينة أبيه ذات النسب الملكي التي كانت أيضاً كلفت به دون أن يعلم كل بماله في قلب الآخر فكانوا يمثلون سلسلة عشاق ومعاشيق, ولكن تحت طي الستر والخفاء مخافة الافتضاح إذا قدر الجفاء. جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها فلما أرجف بموت "ثيزى" زينت "أوتون" ل "فيدر" مطارحة "أبيوليت" أحاديث الوجد وأطماعه [في إرث] العرش بالنيابة عن ابنها الطفل الذي كانت الأمة تتردد في الاختيار بينه وبين "أديسيا" تلك التي استبشرت بالفكاك من الأسير حال, إيقافها "أبيوليت" على دخيلة الأمر بعد إذ كانت يئست من الخلاص, وتلا عليها لسان الحال ذوقي عذاب ربك لات حين مناص, فعالنتاه كلتاهما بحديث وجد مقيم معقد بلسان أغن ينشد: أرى في فؤادي لوعة الحب لا تهدا ... أهذا الذي سماه أهل الهوى وجدا قال "أديسيا" عقدي وداد وولاء ورمى "فيدر" بسهمي نفرة وجفاء, ولم يمض إلا مثل حسوة طائر, أو لهنة مسافر حتى قيل: عاد "ثيزى" حياً فسقط في يدي "فيدر" وقالت: ويلاه, لقد جئت شياً فرياً, ثم عضت بنانها الخضيب بثنايا الندامة وفوقت إلى قيمتها "أوتون" نبال التقريع والملامة, ولكن كان قد سبق السيف العذل, فلجأت إلى الغدر والختل حتى إذا حل زوجها الصرح قابلته بوجه باسر, ودمع ماطر, وخرطوم كمخلب كاسر وقالت بصوت يقصف كالهذيم: ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم إن "أبيوليت" رماني لاقتناص عن قوس احتياله بحربات نافذات كادت تفري عرضاً وفرو تثلم سد المأرب. وفب رواية إن ذلك كان بلسان "أوتون" ليتم الدست على "ثيزى" المغبون فانطلقت عليه زخارفها وجهر في مجاهل مخارفها, فنشبت برجله الحبالة, ولم يدر أن عرسه أروغ من ثعالة, ففار على ابنه غيظاً كما يفور المرجل ولعنه وهو يحرق عليه الأرم قائلاً: امض إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم, ثم توسل إلى مبعود البحر نبتون أن يهلك ابنه الخؤن, فمضى "أبيوليت" في رهط من حاشيته أسيفاً حزيناً قاصداً مدينة "مسينة" وكان أوعز إلى "أريسيا" أن تلحق به ليشهد المعبودات على اقترانهما وليقطعا غابر العمر في حجر بعضهما فبينما هو سائر على شاطئ البحر إذا بالأمواج علت كالشواهق, ثم هوت متكسرة كأنما رميت بجلاهق, فبان من تحتها تنين أقشر هائل المنظر أجش الصوت تنوب أنيابه عن ملك الموت, ففر القوم هلعاً متوارين عن الأبصار إلا "أبيوليت" فإنه قابله بقلب من فولاذ, وصدر كأنه تيار, ورمى فؤاده بحربة هي للأرواح أحرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 أخبار, وللأعمار أقطع بتار فإنهار عند أرجل الخيل كالنخلة السحوق متشحطاً بدمه, كادماً الصخر بفمه, فنفرت الخيل وأي نفار, وشردت المركبة متسلقة بين الصخور في القفار, حتى تكسرت العواجل وسقط على الصحصحان, وكانت قد علقت رجله بالعنان, فجعلت تجره الخيل مذعورة تتلاطم مدهوشة حتى تمزقت لحمانه بفعل الأشواك والصخور, وتفجرت ينابيع دمه منسابة في تلك الشعاب والوعور, ولم يدركه أصحابه إلا والجريص في ثغره والحشرجة في صدره, فأوصاهم أن يبلغوا أباه ما كان وأنه بريء من افتراء دليلة المكر والبهتان, وأن يتوسلوا إليه عنه بأن يتخذ حبيبته "أديسيا" بدلاً منه عزاء لمصابه, وشهداً يحلى جام صابه, وبعد موته بدقائق أقبلت "أديسيا" بخطو دونه إهماج السوابق, وانقضاض الصواعق, فلما رأت محبوبها في تلك الحالة صعقت بصوت دوى له الجو وانطرحت إلى جانبه لا تفرق ولا تعي, ولما ثاب إليها حلمها عاد الجميع أدراجاً, واتخذوا تواً إلى المليك منهاجاً, فقصوا عليه ذلك النبأ الفاجع, وكان قبل ذلك أن "أونون" -أم البدائع- ألقت بنفسها إلى البحر كمداً لما جرى عن يدها من الفظائع, ولما كاد صبح الحقيقة أن يلوح شربت "فيدر" سماً ناقعاً, وقابلت "ثيزى" كاسرة طرفاً دامعاً, وأنبأته ثمت بوصمتها بما صيرته على هامة من الويل بداعية تلبيتها نداء شهوتها, وكان السم قد استحكم في دورة دمائها, فتحرقت مفردات أحشائها وسقطت أمامه جثة بلا روح, فقامت عليه القيامة, وعاد على نفسه بالتوبيخ والملامة وقطع مع "أديسيا" التي اصطفاها ابنة وخليلة عيشاً ينغصه ذكرى "من يزرع العجلة يحصد الندامة". فيروز خونده بنت السلطان علاء الدين ملك دهلي في بلاد الهند كانت فريدة الزمان حسناً وبهاء, وعقلاً وذكاء, ذات أدب وفصاحة, وكياسة وملاحة, محبة للمكرمات تفعل الخير مع كل من تراه مستحقاً. شاركت أخاها السلطان شهاب الدين في صعاب الأمور, وسلم لها زمام الأحكام حتى إنها بأصالة رأيها ضبطت المملكة أحسن مما كانت عليه في مدة أبيها, وكان أخوها لا يقطع أمراً إلا برأيها, ومن شدة محبته لها لم يرض أن يزوجها خارجاً عن مملكته وزوجها لشخص غريب اسمه الأمير "غدا" ابن الأمير هبة الله بن مهني أمير عرب الشام بقصد أن يقيم عنده كما قاله ابن بطوطة في "رحلته": قال: إنه لما جاء الأمير غدا" ابن الأمير هبة الله سائحاً في بلاد الهند مر على "دهي" فأكرمه السلطان شهاب الدين إكراماً زائداً وأحب أن يأخذه ضيفه من محبته للعرب, فزوجه أخته المذكورة وعمل له فرحاً عظيماً وكيفيته أن عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله المعروف "بشونويس" وعين ابن بطوطة لملازمة الأمير "غدا" والكون معه في تلك الأيام, فأتي الملك فتح الله بالصيونات فظللل بها فسحات القصر الأحمر وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً, وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتى شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص وكلهن مماليك السلطان وأحضر الطباخين والخبازين والشوايين والحلوانيين والثريدارية والتبول وذبحت الأنعام والطيور, وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزاء ليلاً ونهاراً. فلما كان قبل ليلة الزفاف بليليتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينه وفرشنه بأحسن الفرش واستحضر الأمير سيف الدين لكونه عربياً غربياً لا أقران له, وحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له, وكان السلطان قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أمر أن تكون ربيبة أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير "غدا" وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته وأخرى مقام عمته, وأخرى مقام خالته حتى يكون كأنه بين أهله. ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن, وانصرفن إلى قصر الزفاف وأقام هو مع خواص أصحابه وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته وجماعة يكونون من جهة الزوجة وعادتهم أن تقف التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلى إن غلبوا أصحاب الزوجة أو يعطونهم الآلف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم. ولما كان بعد المغرب أتى إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر وبشاشية مثل ذلك, ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده وفي يد كل واحد منهم عصاً قد أعدها وصنعوا شبيه إكليل من الياسمين والنسرين والزيتون وله زخرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأثوابه وأعطوه إلى الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر, فحاوله ابن بطوطة وحلف عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الحرم وعليه جماعة الزوجة فحمل من ثياب وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ودخل إلى القصر. وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج مرصع بالجوهر ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً, فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر فنزل وخدم عند أول درجة منه, وقامت العروس قائمة حتى صعد فأعطته التنبول بيدها فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دانانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه ونقطها النساء والمغنيات تغنين حينئد والأطبال, والأبواق, والأنفار تضرب خارج الباب. ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل وهي تتبعه فركب فرسه يطأ بها الفرش والبسط, ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات وغيرهن من النساء ماشيات وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قد رهمته حتى أوصلوها إلى قصره, ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً, وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر, وكذلك لأهل الطرب وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب إنما يعطيهم صاحب العروس, وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم وانقضى العرس وأمر السلطان أن يعطي الأمير "غدا" بلاد المالوة والجزأت وكيناية وسهر والة. وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها وعظمه تعظيماً شديداً, وكان الأمير جافياً فلم يقدر ذلك حق قدره وغلب عليه جفاء البادية فأداه ذلك إلى النكبة به بعد عشرين ليلة من زفافه وذلك من تعديه على زوجته واحتقاره لها ولأهلها ورجال مملكتها, فحقدوا عليه وأخرجوه من بينهم طريداً فريداً بدون زاد ولا راحلة وبقيت المترجمة في منزل أخيها معززة مكرمة لا ينقصها شيء سوى ما فاتها من محبة زوجها وهكذا الزمان لا يصفو لأحد. حرف القاف [قتيلة بنت النضر بن الحارث] قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن مناف بن عبد الدارين قصي القرشية العبدرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 كان أبوها طبيب العرب وحارب النضر في يوم بدر مع قريش فأسر, ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فقتل. قال التبريزي: كان النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به فقتله صبراً, وكان من جملة أذاه أنه كان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب ويقول: إن محمداً يأتيكم بأخبار ثمود وعاد, وأنا منبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك القدح بنبوته. وقال ابن عباس في قول الله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) [لقمان: 6] إنها نزلت في النضر بن الحارث وكان يشتري كتب الأعجام من فارس والروم وكتب أهل الحيرة فيحدث بها أهل مكة, وإذا سمع القرآن أعرض عنه واستهزأ به, فلما أسر يوم بدر أمر النبي علياً أن يضرب عنقه وعنق عقبة بن أبي معيط صبراً فقتلا فقالت فتيلة ترثي أباها. وفي بعض الروايات أنها أتت محمداً فأنشدت الأبيات الآتية فرق لها النبي وبكى وقال لها: لو جئتني من قبل لعفوت عنه, ثم قال: لا تقتل قريش صبراً بعد هذا والأبيات رواها كثيرون وشرحها شارح الحماسة وهي: يا رابكاً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ به ميتاًً فإن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تعنق مني إليه وعبرة مسفوحة ... جادنت لمانحها وأخرى تحنق فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت أو ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق قسراً يقاد إلى المنية معتباً ... رسف المقيد وهو عان موثق أمحمد أو لست صنو نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يغلو لديك وينفق فالنضر أقرب من تركت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق وبعدما انتهت من قصيدتها وقال لها النبي ما قال. قالت تمدحه بقصيدة مطولة -عثرنا منها على هذا البيت-: الواهب الألف لا يبغي به بدلاً ... إلا الإله ومعروفاً بما اصطنعا وهذه القصيدة لعمري إنها من القصائد التي يحق الافتخار بها لأنها صادرة من ذات قناع, وقد علمت قوة قائلتها من انسجام هذا البيت الذي ذكر منها لأنه في غاية الرقة والانسجام. وتزوجت قتيلة بعبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس فولدت له علياً والوليد ومحمداً وأم الحكم وقد أسلمت بعد قتل أبيها وصارت من الصحابيات المروي عنهن الحديث توفيت في خلافة عمر بن الخطاب. قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب كانت جارية صفراء, حلوة حسنة الغناء والضرب, حاذقة. قد أخذت عن إبراهيم وعن ابنه إسحاق ويحيى الملكي, وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب, واشتراها الواثق, وكان الواثق قد جمع أرباب الغناء فغنى أحدهم بين يديه لحناً لقلم في شعر محمد بن كناس وهو: في انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم فسأل لمن الصنعة فيه فقيل: لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأحضره فقال: ويلك, من هو صالح بن عبد الوهاب هذا؟ فأخبره به قال: ابعث له فأشخصه هو وجاريته فقدما على الواثق فدخلت قلم فأمرها بالجلوس والغناء فغنت, فاستسحن غناءها, وأمر بابتباعها فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر؟ فغضب الواثق من ذلك وردها عليه, ثم غنى بعده زرنب الكبير في مجلس الواثق صوتاً لقلم وهو: أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدك ما رأيت لها معنياً تقطع نفسه من حب ليلى ... نفوساً ما أثبن ولا جزينا فسأل لمن الغناء فقيل: لقلم جارية صالح. فبعث إلى ابن الزيات أن أشخص صالحاً ومعه قلم, فلما أشخصها دخلت على الواثق فأمرها أن تغنيه هذا الصوت فغنته فقال لها: الصنعة فيه لك. قالت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: بارك الله فيك. وبعث إلى صالح فأحضر فقال: أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئاً له فيه رغبة, وقد أهديتها إلى أمير المؤمنين فإن من حقها على إذا تناهيت في قضائه أن أصيرها ملكه فبارك الله له فيها فقال له الواثق: قد قبلتها. وأمر ابن الزيات أن يدفع له خمسة آلاف دينار وسماها احتياطاً فلم يعطه لن الزيات المال ومطله به فوجه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك فغنت الواثق وقد اصطبح صوتاً فقال لها: بارك الله فيك وفيمن رباك فقالت: يا سيدي, وما نفع من رباني مني إلا التعب والغرم علي والخروج مني صفراً قال: أولم آمر له بخمسة آلاف دينار قالت: بلى. ولكن ابن الزيات لم يعطه شيئاً فدعا بخادم من خاصة الخدم ووقع إلى ابن الزيات بحمل خمسة آلاف دينار إليه وخمسة آلاف أخرى معها قال صالح: فصرت مع الخادم إليه بكتاب فقربني. وقال: أما الخمسة آلاف الأول فخذها فقد حضرت والخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة, فقمت, ثم تناساني كأنه لم يعرفني وكتبت إليه كتاباً أقتضيه فبعث إلي اكتب لي قبضاً بها (أي وصلاً) وخذها بعد جمعة فكرهت أن أكتب قبضاً بها فلا يحصل لي شيء فاستترت منه في منزل صديق لي, فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق فبعث إلي بالمال وأخذ كتابي بالقبض, وابتعت بالمال ضيعة, وتعلقت بها وجعلتها معاشي. قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب إشبيلية كانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصنعة الألحان وجلبت إليه من بغداد, وجمعت أدباً وظرفاً ورواية وحفظاً مع فهم بارع, وجمال رائع, وكانت تقول الشعر بفضل أدبها ولها في مولاها تمدحه: ما في المغارب من كريم نرتجي ... إلا حليف الجود إبراهيم إني حللت لديه منزل نعمة ... كل المنازل ما عداه ذميم ومن قولها تشوقاً إلى بغداد: آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها ومحالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذري من أخلاقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سني أشراقها ومن حسن صوتها وجمالها وتهذيبها حظيت عند مولاها وبقيت عنده في عز وإقبال إلى أن ماتت فأسف عليها أسفاً شديداً. حرف الكاف كاترينا هنريات دوبلذاك دوانتزغ مركيزة "فرنل" حليلة "هنري الرابع" ملك فرنسا ولدت في أرليان سنة 1579 للميلاد. توفيت في باريس 24 شباط سنة 1633 م. وهي ابنة "فرنسوا دوبلذاك دوانتزاغ" من زوجته الثانية "ماري توشيت" التي كانت قبل أن تزوجها عشيقة "شارل التاسع" ملك فرنسا. أما "كاترينا" فكانت بديعة المعاني غاية في الجمال والدلال والذكاء فتنة للناس ذكرها رجال الدولة ل "هنري الرابع" بعد موت عشيقته غبرياله دواستري فهام بها قبل أن يراها ولما التقيا ألقته في شرك الغرام فلم يجد عنها بعد ذلك سلوى وكانت برشاقتها ورقتها تزيده شغفاً بها فأعطاها 500 ألف فرنك وعاهدها خطاً على أن يتزوجها إذا ولدت له ولداً ذكراً, فلما نمى الخبر إلى وزيره "سلي" استشاط غيظاً, ومزق المعاهدة. أما "هنري" فكتبها ثانية وقدمها لها في تشرين الأول سنة 1599 م. وسنة 1600 م أسقطت فتزوج الملك "بماري دومديشي" وبعد تزوجه بها لقي كاترينا فأوسعته شتائم ولم يتمكن من إخماد غضبها إلا بجعلها "مركيزة لفرنل" وطلب إليها أن تتقرب إلى الملكة وتؤانسها وألح عليها بذلك فأجابته إلى طلبه ورضيت أن تقيم في اللوفر وولدت هناك عدة أولاد وكانت فيه سبباً لتنغيص عيشه وعيش الملكة وجرى لها مع "سلي" مناقشات شديدة, فكان يذكر لها أمولاً تغيظها, وكانت تطلب إلى الملك أن يفصله فلم يجب طلبها. أما "ماري دومديشي" فكانت تلح على "هنري الرابع" باسترجاع معاهدة الزواج التي عقدها معها وهي تمانع في ذلك أشد الممانعة, وتريها لكل من يرغب في الاطلاع عليها غير أن تمنعها أوقع بينها وبين هنري خصاماً, فطلبت إليه أن يسمح لها بالذهاب إلى إنكليرا مع أولادها فسمح لها بذلك بشرط أن ترد عليه المعاهدة, ولكنها لم تسلمها إلا بعد أن قبضت 100 ألف فرنك, وعدلت عن السفر إلى إنكلترا فبقيت في فرنسا وواطأت جماعة على خلع الملك من جملتهم أبوها والكونت "دواوفرن" أخوها لأمها. فلما كشفت المؤامرة حكم عليها بالموت وذلك في شباط سنة 1605 م غير أنه كان لم يزل لجمالها سطوة على الملك فاسترضته عنها فبدل قصاصها هذا بالسجن وأطلق سبيلها أيضاً ولم يلبث أن قربها ثانية فصار لها عنده من المنزل والحب والإكرام ما كان لها أولاً, ولم تزل هذه حالها إلى أن قرب الملك غيرها فهجرها فتركت البلاط الملكي وصرفت أيامها الأخيرة في فرنل وباريس, ولما استنطقت ابنة "كومان" رفيقة الملكة "مرغريتا" بعد أن قتل هنري الرابع اتهمت "كاترينا" بالاشتراك في قتله غير أنه لما كان قد حكم على الابنة المذكورة بالسجن مدة حياتها بطولها لأنها شهدت شهادة زور في غير تلك المسألة لم يتمكن المؤرخون من الاستناد إلى ما اتهمت به المركيزة. ومن جملة الأولاد الذين ولدتهم "كاترينا" "لهنري الرابع" "غبرياليه أنجليك" التي تزوجت دوق "أبرتون". وتوفيت سنة 1627 م. "وغستون هنري دوفرنل" ولد سنة 1601 م وسمي أسقفاً لمتس. قيل: لبس ثوب الغسيسية غير أنه لم يتم لبسه بل جعل دوقاً ثم بيرام وتزوج بنت الكانشيليا زسفير, وتوفي سنة 1682 م ومن أراد الوقوف على تفاصيل هذه الحوادث فعليه بمطالعة الكتاب الذي ألفه "دولسبكور" وترجمته عنوان عشق هنري الرابع, وقد طبع في باريس سنة 1863 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 كاترينا دوماتوفنادشكوف أميرة روسيا ولدت في سنة 1764 م. توفيت ب "فرر" موسكو سنة 1810 م كانت ثالثة بنت للكونت (رومان قودونثروق) تربت تربية علمية عند عمها الوزير الأول وكانت منذ نعومة أظفارها ميالة إلى الأفكار الحرة وحب الاستقلال, دخلت البلاط وهي صغيرة أخت ولية العهد كارترينا الثانية وتزوجت في سنة م بالبرنس "وسكوف" فأقامت معه مدة في موسكو, ثم رجعت إلى البلاط وكانت أختها أليصابات قد صارت نديمة الإمبراطور بطرس الثالث الجديد, فحملتها الغيرة من أختها وكرهتها لارتباك البلاط وأعمال رجاله على الاشتراك عندما بلغت الثامنة عشرة من السن في مؤامرة أدارتها وخلعت الإمبراطور "بطرس الثالث" وقتلته, وولت امرأته الألمانية الإمبراطورة. وليس من المحقق أن ما استخدمت من الوسائل لتقوية تلك المؤامرة كان موافقاً للناموس فعند قتله لبست ثوب رجل وامتطت جواداً وقادت فرقة من العساكر ولم تكن المكافأة التي حصلت عليها من الإمبراطورة كافية ورفضت أن تجعلها قائدة للحرس الإمبراطوري وآل ميلها إلى الاستقلال وخشونة طبعها إلى حرمانها من رضا الإمبراطورة, فاعتزلت عن البلاط وأكبت على الدرس والمطالعة ومعاشرة العلماء وبعد وفاة زوجها ساحت في غربي أوروبا. وسنة 1782 م عهدت إليها الإمبراطورة رياسة الأكاديمية العلمية وسنة 1784 م عينتها لرياسة الأكاديمية الروسية الجديدة ولها من الكتابات النثرية والشعرية شيء كثير وبعد وفاة الإمبراطورة كاترينا سنة 1796 م أمرها الإمبراطور "بولس" أن تنزل في قرية صغيرة من ولاية نفضودود فتوسطوا أمرها فعفا عنها وخرجت من المنفى وصرفت باقي أيامها في أملاك لها بقرب موسكو. كاترينا إمبراطورة الروسيا الأولى ولدت كاترينا في شمالي ولاية لبغونيا سنة 1682 م وسميت "مرثا", وأبوها من مدبرين الأخانسر في الجيش الأسوجي واسمه يوحنا راب, وتوفي قبل ولادتها بزمن قصير فربتها أمها ثلاث سنوات بالحزن والفاقة الشديدة وتوفيت وتركتها عالة على الناس فشفق عليها رجل من أهالي قريتها وعالها مدة ثم أتى بها كاهن لوتري إلى بيته في مدينة "مرينبرج" خادمة لأولاده ويقال: إنها بقيت في بيته إلى أن توفي وإنها كانت تلتقط من أولاده مبادئ العلوم التي كانوا يتعلمونها في المدارس ولكن كل ما يروى عنها في حداثتها أقاصيص لا يركن إليها والذي يذكره المؤرخون أنها تزوجت في "مرينبرج" بجندي أسوجي سنة 1701 م وأنه في السنة التالية فتح الروسيون مدينة "مرينبرج" وقتلوا زوجها وأخذوها أسيرة فضمها الجنرال "بوراليه". ثم اتصلت بالأميرة فشيكوف ورآها عندها الإمبراطور بطرس الأكبر فراعه جمالها, ولطف حديثها فقربها منه وكان قد طلق زوجته لمخالفتها له في المبدأ والرأي فعمد كاترينا في كنيسة الروم وسماها باسم كاترينا الكسيونا وأشهر زواجه بها سنة 1712 م وكان قد تزوج بها سراً قبل ذلك, ويقال: إن الداعي لإشهار زواجه بها أنه لما فتح الحرب على الدولة العثمانية سنة 1711 م رأى أنه لا صبر له على فراقها لحبه لها ولمشاركتها له في الرأي واجتهادها في مرضاته وإعجابها بأعماله ومآثره, فسافر بها علناً إلى ميدان القتال كملكة محفوفة بالمجد والجلال وكانت تركب معه وتعرض نفسها للمتاعب والأخطار وتتلطف بالجنود العثمانيةحتى أيقن بالوبال ويقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 إنه دخل خيمته حينئذٍ وأمر حرسه أن لا أحد يدخل عليه, فجاءت كاترينا ودخلت عليه بالرغم عن أمره. فلما رآها لم يتضرر من دخولها لاحتياجه إلى سديد رأيها فأشارت عليه أنه يصالح العثمانيين ويرد لهم البلاد التي أخذها منهم وقالت: إنها تتكفل بإرضاء بلطجي محمد قائد الجيش العثماني فسر منها وفوض إليها تدبير الأمر, فاختارت ضابطاً حكيماً وأرسلته إلى عسكر العثمانيين بهدية سنية من الجواهر الغراء والنقود فعقدت شروط الصلح وأمضاها الفريقان, وقد ارتاب كثيرون من المتأخرين في صحة هذا الخبر وقالوا: إنه لا صحة لما يروى من مداخلة كاترينا في عقد الصلح ومهما يكن من الأمر فلا شبهة في أن الإمبراطور نفسه كان يحسب لها فضلاً في نجاته من الجنود العثمانية هو وجنوده وبعد ثلاث سنوات, ولدت له ابنة ففرح بها فرحاً عظيماً وصنع رتبة القديسة كاترينا إكراماً لزوجته, وجعل لها عيداً كل سنة تذكاراً لها, واتفق أنه تغلب قبيل ذلك على الأسطول الأسوجي, وأسر أميره فأتى بالأسرى في هذا العيد ودخل بهم مدينة بطرس برج باحتفال عظيم. ثم سافر في ممالك أوروبا لينظر في سياستها ويسبر غور رجالها وأخذ زوجته معه فولدت في أثناء الطريق ولداً لم يعش إلا يوماً واحداً, وكان هو قد سبقها قليلاً فأسرعت إليه وهي نفساء لكي لا يمل من انتظارها, وهذا دليل على أن رفاهية البلاط الكلوكي لم تغير من طباعها ولا أضعفت من همتها, وكانت تتفقد معه الأماكن التي زارها في سياحته الأولى حينما زار أوروبا لكي يتعلم صنائع أهاليها وفنونهم وسنة 1723 م ألبسها التاج وأوصى لها بالملك من بعده ويقال: إنه سار معها إلى الكنيسة ماشياً بصفة قائد لفرقة جددها سماها "شفاليية" الإمبراطورة ووضع التاج على رأسها بيده وأمر بأن يقرأ الإعلان الآتي الذي أنشأه قبل ذلك وهو من حضرة الإمبراطور المتولى على جميع الدولة الروسية إلى جميع فئات القسيسين والضباط الملكيين والعسكريين والأهليين عموماً الموصوفين بالأمانة لا يخفى على كل منهم العادة المستمرة الجارية في الممالك المسيحية التي بمقتضاها يتوج الملوك زوجاتهم كما هو جار الآن. وكما فعل الملوك المسيحيون الشرقيون في الأزمان الغابرة كالقيصر "بازلند" الذي توج زوجته "زنوبيا" القيصر "بوستنياتوس" الذي توج زوجته "لويسينا" والقيصر "هرقل" توج زوجته "مرتينا", والإمبراطور "ليون" الفيلسوف الذي توج زوجته "ماريا", وكذا جماعة غيرهم من القياصرة قد وضعوا التاج الإمبراطوري على رؤوس نسائهم نسائهم ولا محل لذكرهم هنا جميعهم. ومن المعلوم أننا طالما خاطرنا بأنفسنا واقتحمنا الشدائد والأهوال مدة الحرب الأخيرة التي مكثت إحدى وعشرين سنة متوالية لحفظ وطننا وقد أنهيت هذه الحروب بعون الله بالشرف الكامل, وبالصلح الذي لم يسبق أنه وقع مثله لدولة روسيا ولم تحز قط من الفخار ما حازته بهذه الحروب, وحيث إن زوجتنا الإمبراطورة كاترينا قد ساعدتنا على الخلاص من ربقة هذه الأخطار في عدة وقائع ولاسيما التي حصلت بينا وبين الجنود العثمانية على نهر بروت حيث تضعضع حال جيوشنا وآل أمرها إلى 22 ألف مقاتل وكانت العساكر العثمانية 270 ألف وأظهرت في تلك الأزمنة غيرة عظيمة وشجاعة فائقة كما هو معلوم عند جيوشنا فبالنظر إلى ذلك وبمقتصى التصرف والنفوذ الموهوب لنا من الله تعالى يتم تتويجها في فصل الشتاء من هذه السنة بمدينة موسكو وقد أعلنا ذلك قبلاً لرعايانا المحبين الأمناء ومحبتنا الإمبراطورة لا تزال لهم بدون نقص ولا تغيير. ثم ساء ظن الإمبراطور في أواخر سنة 1724 م وهي السنة التي توجها فيها وأمر بقتل الرجل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 اتهمها به والأرجح أن تهمته لها كانت باطلة ولم تطل حياته بعد ذلك لأنه توفي بداية سنة 1725 م فأخفت هي ورجال بلاطها خبر موته إلى أن يستتب لها الأمر من بعده وقد اتهمها البعض بأنها دست له السم وهذا أيضاً لا دليل على صحة ولا سيما لأنها لم تكن على يقين من وصول الأمر إليها وتضاربت الآراء بعد وفاته فيمن يخلفه, ولكن تحزب لها الأمير "تشكوف" وغيره من أهالي ولما قال ذلك انكسرت شوكة أضدادها وأقر الجميع على مبايعتها فاستقرت على عرش روسيا في خطة زوجها لأنها سلمت تدبير أمور المملكة إلى "فشكوف" الحكيم. ومن الأعمال العظيمة التي عملتها أنها أبطلت مجلس الأعيان وألغت ألقاب المجمع المقدس وقيدت خدمة الدين ضمن دائرة ضمن دائرة الكتب المقدسة, وعضدت مجلس المعارف, وعينت لأعضائه المرتبات الطائلة, وأناطت أشغال الدولة بمجلس شوراها السري ولكنها لم تخيم حياتها بالخير كما بدأتها إذ يقال: إنها مالت إلى المكر في أواخر أيامها, وعاشت عيشة أسرعت بها إلى القبر فتوفيت في السابع عشر من شهر أيار (مايو) سنة 1727 م ولا مشاحة في أنها كانت امرأة عظيمة وقت نفسها من الذل, وتسلطت على قلب ملك من أعظم ملوك عصرها ولم تقنع نفسها الكبيرة بأنها صارت زوجة شرعية لهذا الملك العظيم بل رفعتها همتها إلى عرش روسيا فصارت عالية على أسراف الروس العريقين في النسب وأحسنت السياسة فيهم وأبقت لها بينهم ذكراً مجيداً. كاترينا الثانية إمبراطورة روسيا وهي ابنة دوق أنهلت زرسبت هذه الملكة كانت أديبة عاقلة عالمة بضروب السياسة تبوأت الملك في سنة 1762 م وتوفيت سنة 1796 م فكانت مدة ملكها أربعاً وثلاثين سنة. وفي أيامها اكتسبت روسيا نفوذاً أولياً قاطعاً في السياسة الأوروباوية, واعترف بأنها من دول أوروبا العظمى, وأدركت منافع السلم الخارجي بتوجيه خواطرها واجتهادها إلى تقدم إمبراطوريتها, وبعد استوائها على عرشها محفوفاً بجمهور من رجال السياسة والحرب المشهورين بالحذق أكثر من اشتهارهم بالسجايا. ومنهم "غالستن" "وروميانتزف" و"بانيزه" و"أورلوف" و"ستلينكوف" و"سوفادوف" و"تشرنتشيف", و"بونمكين" وكانت لها اليد الطولى بتقسيم بولونيا في سنة 1772 م. وسنة 1793 م واستولت على نحو ثلثيها وفي أثر حروب كثيرة ضمت إلى روسيا القرم وأزوق وغيرها ومساحة ما ضم إلى إمبراطوريتها أيام ملكها نحو مائتين وخمسة وعشرين ألف ميل مربع ومنها كورلندا وأما أعمالها الأيلة إلى تقدم البلاد الداخلي فلم تكن أعمالها الحربية أعظم منها فإن نحو خمسين ألفاً من الغرباء المجدين استوطنوا أراضي روسيا الزراعية الجنوبية وأنشأت عدة بيوت للتعليم والإحسانات إلى المعوزين وأكسبت التجارة البرية والبحرية والصناعة نجاحاً عظيماً ورواجاً كثيراً, وأصلحت إدارة الإمبراطورية حق الإصلاح. وسنة 1766 م عقدت جمعية من وكلاء الولايات لوضع قانون ونظام جديد وكانت درجة تعليم النساء في أول ملكها منحطة جداً فأفرغت هذه وسعها في سبيل ترقية قواهن العقلية وإعلاء درجتهن في الهيئة الاجتماعية, ومن الوسائل التي استعملتها إنشاؤها مدرسة إكليريكية للبنات في بطرس برج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قوانينها أن الابنة متى دخلتها لا تتمكن من تركها إلا لمضي سبع سنوات لاعتقادها أن هذه المدة تعتبر كافية لكمال التهذيب, وكانت المدرسة المذكورة مقسومة إلى قسمين القسم الأول لأجل تربية بنات الشرفاء, والثاني للدرجة الوسطى من الشعب. وكان عدد البنات اللواتي تلقين التربية فيها 500. ومن ذلك الحين سنة 1764 م أخذت مدارس الإناث بالازدياد في كل روسيا, وأنشأت لهن الإمبراطورة محلات للرياضات الجسدية في كل أنحاء المملكة وبلغ عددها (سنة 1873 م) 200. وعدد التلميذات 23000. وتجمع دارهم خصوصية من البلديات للقيام بمصاريف المدارس المذكورة التي لم ينحصر نفعها في تربية النساء الروسيات فقط, والآن آل تقليل النفور والبغضاء الناتجة عن التفاوت في حقوق الولادة والمركز والثروة فتدهب التلميذات إلى محل الرياضات الجسدية بدون تمييز النسب والقرابة ويلبسن في ظروف كثيرة ملابس واحدة, وفي المدينة المؤلفة من أجناس مختلفة من الأهالي لا يراعون الجنسية فترى البنات التتريات والبشكيريات مختلطات مع الروسيات في الشرق كاختلاط الروسيات والبولونيات في الغرب, وإذا اعتبرنا الزمان الذي ابتدئ فيه بالاعتناء بتربية النساء فيها تحكم بأنهن قد أظهرن من الذكاء والميل الطبيعي لتلقي العلوم والتربية الحسنة شيئاً كثيراً. وسنة 1872 م كان في مدرسة "زوريخ" الكلية 63 تلميذاً و 54 منهن من الروسيات ولا يراعون اختلاف الأديان في إدخال التلميذ إلى المدارس فحقوق الطوائف متساوية في هذا الصدد, ويوجد في كل مدرسة كهنة مخصوصون للاهتمام بأمور التلامذة من مذهب واحد لم يكن كافياً لتعين المدرسة لهم مدرساً دينياً فيترك الاعتناء بأمر دينهم إلى والديهم أو أقاربهم, وقد أبطلت الإمبراطورة فيها القصاصات بالقتل أو الضرب ولا يحكمون بالقتل الآن إلا على مرتكبي أكبر الجنايات, ولا تقوى المجالس الجنائية على الحكم به ولكن تحال الدعوى إلى مجالس عالية تشكل في هذه الظروف ولا يزالون في سبيريا يقاصون المجرمين بالضرب وذلك لأجل المحافظة على الترتيب بينهم وذكر في تقرير سنة 1860 م و 1868 م أن معدل عدد المذنبين فيها 534000 من ذنوب مدنية وجنائية وسياسية وعدد الذين حكم عليهم بالقصاصات من المذنبين وحكم على 1211 منهم بالأشغال الشاقة وعلى 2172 مذنباً بالإبعاد إلى سيبيريا, وعلى 2488 بالنفي المؤبد, وعلى 6667 بالسجن في القلاع حيث يشتغلون بالصنائع اليدوية الشاقة, وعلى 13669 مذنباً بالسجن, وعلى 57757 مذنباً بقصاصات خفيفة. وأما جرائم السرقة فكانت 31 في المائة من عدد المذنبين وحوادث القتل 2 في المائة وكان عدد النساء المذنبات في ألأربعة وثمانين ألفاً نحو 18800 وأكثر قليلاً من عشرة في المائة. وبالجملة فإن نتيجة اجتهاد هذه الملكة جعلت البلاد في تقدم ظاهر حسدتها عليه باقي الدول, وكانت مع ما هي عليه من سمو الأفكار واتساع المدارك لا تألو جهداً من اشتغالها بفن التطريز والتصوير والنقش والحفر بالمعادن والعاج, وذلك لتعلقها في الصناعة وكانت محبة للعلماء مقربة لهم وأخصهم الفلاسفة المشهورون, وكانت مرة أهدت إلى "فولتير" علبة من العاج من صنع يدها فسر "فولتير" لهذه الهدية, وبعد قليل كافأها بأن قدم لها زوجاً من الجربات الحريرية من صنع يده وأرسل لها رسالة يقول فيها. "إن جلالتك تكرمت بإهداء ما هو من أعمال الرجال ولكنه مصنوع بأيدي النساء فأهديتك ما هو من أعمال النساء ولكنه مصنوع بأيدي الرجال, وإني أرجو قبول هديتي وعساها أن تنال حظاً لديك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ولما وصلت لها هذه الهدية سرت سروراً لا مزيد عليه وأكرمته إكراماً زائداً, وبالجملة فإن هذه الملكة لم يتول تخت روسيا من النساء مثلها. [كبشة بنت معدي كرب الزبيدي] كبشة بنت معدي مرب الزبيدي أخت عمرو بن معد يكرب المشهور صاحب الصمصامة. كانت مشهورة بين نساء زمانها بالحسن والجمال, والذكاء والشجاعة, والإقدام. وكانت تقول الشعر ويغلب على شعرها الحماسة, وطالما كانت تعرض على أخيها عمرو وتفاخره, وكانت تزوجت عبد الله بن منقذ الهلالي وقد ائتلفت معه ائتلافاً شديد وأحبته حباً لا مزيد عليه, ومكثت معه مدة وهما على غاية ما يرام من الراحة والرفاهية حتى كان ذات يوم غزا غزوة في العرب فكان فيها يومه وبلغ الخبر كبشة فشقت عليه الجيوب ولطمت الخدود, ورثته بمرات كثيرة منها قولها: وأرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا ... وأترك في بيت بصعدة مظلم ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم فإن أنتم لم تثأروا واتديتم ... فمشوا بآذان النعام المصلم ولا تشربوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم كبك خاتون زوجة السلطان أوزبك قال ابن بطوطة "كبك خاتون (بفتح الكاف الأولى وفتح الباء الموحدة) بنت الأمير نغطى. (بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة) , وأبوها كان مبتلى بعلة النقرس". قال: "وقد رأيته في غد دخولنا على الملكة دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يطرزن ثياباً, فسلمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام وقرأ قارؤنا فاستحسنته, وأمرت بالقمز فأحضر, وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة, وانصرفنا عنها. وقد أجزلت لنا العطاء وهكذا عادتها فإنها تكرم كل من تسمع به إنه غريب ولها مآثر حسنة وخيرات واسعة ومبرات على الفقراء والمساكين لم يسبقها عليها أحد من نساء زمانها". كريمة بنت محمد بن حاتم جاوزت بمكة المكرمة وروت صحيح البخاري عن الكشميهني وروايتها من أصح روايات البخاري, وروت عن زاهر السرخسي, وكانت تصنف كتبها وتقابل بنسخها وهي في الفهم والنباهة وحدة الذهن بحيث ترحل إليها أفضل العلماء, وكان لها مجلس بمكة المكرمة تجتمع فيه الطلبة والأفاضل من رجال كل علم وهي تلقي على كل نوع مما يطلبه فصيحة المأخذ مفهومة المعنى, وكان أكثر ميلها إلى الحديث حتى بلغت فيه حداً لم يبلغه غيرها ولم تتزوج قط وبلغ عمرها 100 سنة, وتوفيت بمكة المكرمة. كيلوباتره ملكة مصر هي من الملوك البطالسة الذين تغلبوا على مصر عقيب دولة الفراعنة اقترنت بأخيها "بطليموس ديوينسيوس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 سنة 52 قبل الميلاد وكان في سن الثالثة عشرة وهي في سن السابعة عشرة فراودتها نفسها على الاستئثار بالعرش دونه, فقاومها رجال البلاط وأوصياء زوجها القاصر حتى إذا أعيتها الحيلة عمدت على الاستنصار بأغسطوس قيصر الرومان, فألف ذات بينهما, ولكنها بعد قليل تزوجت بأخيها الثاني ولم يكن قد أتى عليه إحدى عشرة سنة, فنودي به بأمر قيصر ملكاً على مصر. ثم مات هذا مسموماً بعد زواجه بأربعة أعوام, ولما خلا العرش من ملك بعث أنطنيوس أحد مشتركي دولة الرومان الأربعة, فاستدعى كليوباترة إلى طرسوس حيثما كان ذاهباً إلى محاربة بروتوس الروماني فلبت الدعوة وسارت على أجنحة الرياح حتى بلغت نهر طرسوس, وهنالك اتخذت لها سفينة فاخرة الأثاث أرجوانية السجف والقلاع مزدانة ببديع الأواني ونفائس الجوهر, وأفرغت على قدها الفتان حلة كسروية مدبجة بالدر, وكللت جبينها الوضاح بتاج وهاج, وألبست وصائفها الحور ثياباً خضراً من سندس واستبرق, وتصدرت بينهن كأنها الشمس وكأنهن البدور وهن يضربن بالعيدان والقياثير, ويطلقن البخور والند حتى عبق الشاطئ برياحها, وماج النهر طرباً بنغمات أعوادهن ولألأ محياهن. فلما لقيها أنطونيوس استطار فؤاده شغفاً وذهب رشده هياماً وكلفاً فما عتم أن عاد معها إلى الإسكندرية, وهنالك زفت عليه حليلة فلم يستطع بعد على فراقها صبراً, فغادر واجباته ومهامه إلى التقادير, وأصبح لا يستفيق من خمرة جبها سكراً. ولما طار الخبر إلى زوجته الأولى "أوكتافيا" نزغها من شيطان الغيرة نازغ, فأغرت أخاها "أوكتافيوس" أحد الشركاء الأربعة على مخاصمته والانتقام منه. فحشد جيشاً خميساً وقصد به الديار المصرية, فتغلب عليها بعد نزال بشيب لهوله الوليد. ولما حمى الوطيس وأحس "أنطونيوس" بسوء المنقلب سقط في يده ولات حين ندامة, فتناول مدية وطعن بها ثديه فكانت القاضية. وأما كليوباترة فلما لم تنطل أساليبها على "أوكتافيوس" ولم تقو على اختلابه بما أوتيت من الجمال الباهر واللطف الساحر بفوات عرشها بعد أن أحاطت به جواريها وأترابها, وكانت قد زينت رأسها بالتاج, وأفرغت على جسدها البلوري حلة من نفيس الديباج, ثم زحزحت غلالتها عن نهديها العاجيين وأطلقت حية خبيثة على صفحة صدرها المزري باللجين, فلدغتها لدغة مشوق ملهوف أوردها حياض الحتوف, وكان ذلك سنة 30 قبل المسيح وبموتها قرض الله دولة البطالسة بعد أن حكمت مصر 294 عاماً فسبحانه إذا قضى أمراً فإنه يقول له: كن فيكون. كانت مدة ملك كليوباترة 22 سنة, وكانت حكيمة متفلسفة مقربة للعلماء معظمة للحكماء, ولها كتب مصنفة في الطب والزينة وغير ذلك من الحكمة مترجمة باسمها منسوبة إليها معروفة عند صنعة الطب. وقال العلامة المسعودي في كتابه المسمى "مروج الذهب ومعادن الجوهر" أن سبب وفاة كليوباترة كانت عند ما جمعت في مجلسها أصناف الرياحين استحضرت حية من الحيات التي تكون بين الحجاز ومصر والشام وهي نوع من الحيات التي تراعي الإنسان حتى إذا تمكنت من النظر إلى عضو من أعضائه قفزت أذرعاً كثيرة كالرمح فلم تخطئ ذلك العضو بعينه حتى تتفل عليه سماً فتأتي على الإنسان ولا يعلم بها لخموده من فوره ويتوهم الناس أنه قد مات حتف أنفه فجاءت بحية وضعتها في إناء بلوري. ثم لما علمت أن "أغسطس أوكتافيوس" أراد الدخول في قصر ملكها أمرت بعض جواريها ومن أحبت فناءها قبلها, وأن لا يلحقها العذاب بعدها فسمتها بإناء, فخمدت من فورها ثم جلست كليوباترة على سرير ملكها ووضعت تاجها على رأسها وعليها ثيابها وزينة ملكها, وجعلت أنواع الرياحين والزهور والفاكهة والطيب وما يجمع بمصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 من عجائب الرياحين وغيرها مبسوطة في مجلسها وأمام سريرها, وعهدت بما احتاجت إليه من أمورها وفرقت حشمها من حولها فاشتغلوا بأنفسهم عن ملكتهم لما قد غشيهم من عدوهم ودخوله عليهم في دار ملكهم, وأدنت يدها من الإناء الزجاج الذي كانت فيه الحية فقربت يدها من فيه فتفلت عليها فجفت مكانها وانسابت الحية وخرجت من الإناء ولم تجد حجراً ولا مذهباَ تذهب فيه لإتقان تلك المجالس بالرخام والمرمر والأصباغ, فدخلت في تلك الرياحين ودخل "أغسطس أوكتافيوس" حتى انتهى إلى المجلس فنظر إليها جالسة والتاج على رأسها فلم يشك في أنها تنطق فدنا منها فتبين أنها ميتة, وأعجب بتلك الرياحين, فمد يده إلى كل نوع منها يلمسه ويتبينه ويعجب خواص من معه به ولم يدر ما سبب موتها, فبينما هو كذلك من تناول تلك الرياحين وشمها إذ قفزت عليه تلك الحية فرمته بسمها فيبس شقه من ساعته, وذهب بصره الأيمن وسمعه, فتعجب من فعلها وقتلها لنفسها واختيارها للموت على الحياة مع الذل. ثم ما كان من إلقاء الحية بين الرياحين فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها, وأقام بعدما نزل به ما ذكرنا يوماً وهلك, ولولا الحية قد أفرغت سمها على الجارية ثم على الملكة لكان "أغسطس أوكتافيوس" قد هلك من ساعته. وكانت كليوباترة دائماً تحب القصف والخلاعة وتألف الملاهي وطالما تمنت أن يكون لها حبيب تركن إليه وتعول في أمورها عليه. ولها أيام لطيفة, وليال ظريفة, ووقائع حسنة, ونوادر مستحسنة. كنزة أم شملة بن برد المنقري من ولد قيس كانت من شاعرات العرب المتقدمات في الأدب, اشتراها برد المنقري وتزوجها فولدت له شملة بن برد, وكان من الشجاعة على جانب عظيم, وطالما اقتحم الحروب وأباد الأقران. فمن شعرها حينما هجمت عليهم العرب عند غياث ولدها شملة قولها: إن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً أزلاً فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي ... أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلاً وقالت أيضاً: لهفي على قومي الذين تجمعوا ... بذي السيد لم يلقوا علياً ولا عمراً فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة بحبسهم بها محبساً وعراً وقد صدق قولها وبلغ الشعر ولدها فقال: والله لأصدقنها قولها. وقصد القوم فقابلهم وأبلى بهم بلاء حسناً واسترد منهم ما سلبوه من قبيلته. ومن شعرها قولها: ألا حبذا أهل الملا غير أنه ... إذا ذكرت في فلا حبذا هيا على وجهه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا ألم تر أن الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا إذا ما أتاه وارد من ضرورة ... تولى بأضعاف الذي جاء طاميا كذلك مي في الثياب إذا بدت ... وأثوابها يخفين منها المخازيا فلو أن غيلان الشفي بدت له ... مجردة يوماً لما قال ذا ليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 كقول مضى منه ولكن لرده ... إلى غير مي أولا لأصبح ساليا كلابة مولاة ثقيف كانت عند عبد الله بن القاسم الأموي العبلي, وكان يبلغها تشبيب العرجي بالنساء وذكره لهن في شعره وكانت كلابة تكثر أن تقول لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش حين يذكرهن في شعره ولعمري ما لقي أحداً فيه خير ولئن لقيته لأسودن وجهه, فبلغه ذلك عنها. وكان العلبى نازلاً على ماء لبنى نصر بن معاوية يقال له الضنق على ثلاثة أميال من مكة والعرج أعلاها قليلاً مما يلي الطائف فبلغ العرجي أنه خرج إلى مكة فأتى قصره فأطاف به فخرجت إليه كلابة وكان خلفها في قصره فصاحت به إليك ويلك وجعلت ترميه بالحجارة وتمنعه أن يدنو من القصر فاستسقاها فأبت أن تسقيه. وقالت: لا يوجد والله أثرك عندي أبداً فيلصق بي منك شر فانصرف. وقال: ستعلمين. وقال هذه الأبيات ليتهمها الناس ويوقع بها أمام سيدها: حور بهثن رسولاً في ملاطفة ... ثقفا إذا عقل النساءة الوهم إلى أن أتينا هدأ إذا علقت ... أمراً سنا وافتضحنا إن همو علموا فجئت أمشي على هول أجشمه ... تجشم المرء هولاً في الهوى كرم إذا تخوفت من شيء أقول له ... قد جف فامض بشيء قدر القلم أمشي كما حركت ريح يمانية ... غصناً من البان رطباً طلة الديم في حلة من طاز أكسوس مثرية ... تعفو بهدابها ما أثرت قدم خلت سبيلي كما خلت ذا عذر ... إذا رأته عتاق الخيل ينتجم وهن في مجلس خال وليس له ... عين عليهن أخشاها ولا ندم حتى جلست إزاء الباب مكتتما ... وطالب الحاج تحت الليل مكتتم أبدين لي أعيناً نجلا كما نظرت ... أدم هجان أتاها مصعب قطم قالت كلابة من هذا فقلت لها ... أنا الذي أنت من أعدائه زعموا أنا امرؤ جد بي حب فأحرمني ... حتى بليت وحتى شفني السقم لا تكليني إلى قوم لو انهموا ... من بغضنا أطعموا لحمي إذا طعموا وأنعمي نعمة تجزى بأحسنها ... فطالما نالني من أهلك النعم ستر المحبين في الدنيا لعلهمو ... أن يحدثوا توبة فيها إذا أثموا هذي يميني رهن بالوفاء لكم ... فأرضي بها ولأنف الكاشح الرغم قالت رضيت ولكن جئت في قمر ... هلا تلبثت حتى تدخل الظلم فبت أسق بأكواب أعل بها ... من بارد طاب منا الطعم والنسم حتى بدا ساطع للفجر نحسبه ... سنا حريق بليل حين يضطرم كغرة الفرس المنسوب قد حسرت ... عنه الجلال تلالاً وهو يلتجم ودعتهن ولا شيء يراجعني ... إلا البيان وإلا الأعين السجم إذا أردن كلامي عنده اعترضت ... من دونه عبرات فانثنى الكلم تكاد إذر من نهضاً للقيام معي ... أعجازهن من الإنصاف تنقصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقد أعطاه العرجي جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه, فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان وقال: لا أجد لهذه الأمة شيئاً أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع راتبها من ماله, فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها, ثم أرسل بها بعد زمان على بعير إلى مكة فأحلفها بين الركن والمقام إن العرجي كذب فيما قاله فحلفت سبعين يميناً فرضي عنها وردها فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي: طالما مسني من أهلها النعم قال: كذب والله ما مسه ذلك قط. حرف اللام لبنى بنت الحباب الكعبية كانت أحسن نساء زمانها وجهاً وأرقهن شمائل, وأعذبهن منطقاً, وألطفهن إشارة. ذات فصاحة وأدب ومعرفة بأشعار العرب وهي صاحبة قيس بن ذريح العذري, رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب. وكانت سبب علاقته بها أنه ذهب لبعض حاجاته فمر ببني كعب. وقد احتدم الحر, فاستقى الماء من خيمة منهم, فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة, عذبة الكلام, سهلة المنطق, فناولته إداوة ماء, فلما صدر قالت له: ألا تبرد الحر عندنا, وقد تمكنت من فؤاده. فقال: نعم, فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه وجاء أبوها, فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم ضياء اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها فجعل يكتم ذلك ألى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه ومر بها ثانياً, فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها فوجد عندها أضعاف ذلك, فانصرف وقد علم كل واحد ما عند الآخر, فمضى إلى أبيه, فشكا إليه ذلك فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك, فغم منه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بي أبي طالب وأخبره بالقضية, فرثى له والتزم أن يكفيه هذا الشأن فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب فقال: يا ابن رسول الله, لو أرسلت لكفيت بيد أن هذا من أبيه أليق كما هو عند العرب فشكره ومضى إلى أبي قيس حافياً على حر الرمل. فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين حتى زوج قيساً بلبنى وأدى الحسين المهر من عنده, ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال وفنون المحبة, ولكن لم تلد لبنى فساء ذلك أبويه فعرضا على قيس أنه يتزوج بمن تجيء بولد, وذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك وقال: لا أسوءها قط وقام يدافعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يكنه سقف إلا أن يطلق قيس لبنى فكان إذا اشتد الحر يجيؤه فيظله بردائه ويصلي هو بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل, فتهلك إلى أن قدر الله وطلقها. فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وقد سأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا فسقط مغشياً عليه فلما أفاق أنشد: وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن فلما حملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندم وجعل يتلطف به, فلما أيس منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 استشار قومه في دائه, فاتفقت آراهم على أن يأمروه يتصفح أحياء العرب, فلعل أن تقع عينه من تسليه عن حب لبنى, ففعل حتى نزل بحي من فزارة, فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسناً فسألها عن اسمها فقالت لبنى: فسقط مغشياً عليه, فارتاعت. وقالت: إن لم تكن قيساً فمجنون ونضحت على وجهه الماء, فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس لبنى, وكان أمرهما اشتهر في العرب وجاء أخوها فأخبرته فركب حتى استرده, وأقسم عليه أن يقيم عنده شهراً فقال له: لقد شققت علي, وأجاب. فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه المصاهرة حتى لامته العرب. وقالوا: نخشى أن يصير فعلك هذا سنة في العرب. فقال: دعوني ففي مثل هذا فليرعب الكرام, وألح عليه وزوجه بأخته, فلما بلغ لبنى قالت: إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب. وكان أبوها قد اشتكى قيساً إلى معاوية وقال: إنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان يهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني, ففعل, وأجابت حين علمت بزواج قيس فجعل النساء يغنينها ليلة الزفاف. لبنى زوجها ... أصبح لا حر يوازيه له فضل على الناس ... وقد باتت تناجيه وقيس ميت حقاً ... صريع في بواكيه فلا يبعده الله ... وبعد النواعيه ولما بلغ ذلك قيساً اشتد به الغرام فركب حتى أتى محل قومها فقالت له النساء: ما تصنع بهذا وقد رحلت مع زوجها؟ فلم يلتفت حتى أتى محل خبائها فتمرغ به وأنشد: إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم يتيم جفاه الأقربون فجسمه ... نحيل وعهد الوالدين قديم وحجت لبنى في تلك السنة فاتفق خروج قيس أيضاً فتلاقيا فهبت وأرسلت إليه مع امرأة تستخبر عن حاله وتسلم عليه فأعاد السلام والسؤال وأنشد: إذا طلعت شمس النهار فسلمي ... فآية تسليمي عليك طلوعها بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت ... وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها ولو أبغلتها جارة قولي اسلمي ... بكت جزعاً وارفض منها دموعها وحين انقضى الحج مرض مرضاً شديداً فأنهكه فأكثر الناس من عيادته, فجعل يتفكر لبنى وعدم رؤيته لها فأنشد: ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي ... غداة غد إذ حل ما أتوقع تمنينني نيلاً وتلوينني به ... فنفسي شوقاً كل يوم تقطع ألومك في شأني وأنت مليمة ... لعمري وأجفى للمحب وأقطع وأخبرت أني فيك مت بحسرة ... فما فاض من عينيك للوجد مدمع إذا أنت لم تبكي علي جنازة ... لديك فلا تبكي غداً حين أرفع فحين بلغتها الأبيات جزعت جزعاً شديداً وخرجت إليه خفية على ميعاد فاعتذرت عن الانقطاع, وأعلمته أنها إنما تترك زيارته خوفاً عليه أن يهلك وإلا فعندها ما عنده ولكنها جلدة وجاء قيس إلى المدينة بناقة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 إبله ليبيعها, فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه. ثم قال له: ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن فجاء وطرق الباب فأدخله وقد صنع له طعاماً وقام لبعض حاجاته فقالت لبنى لخادمتها" سليه ما بال وجهه متغيراً شاحباً فتنفس الصعداء. ثم قال: هكذا حال من فارق الأحبة. فقالت: استخبريه عن قصته فاستخبرته فشرع يحكي أمره فرفعت الحجاب وقالت: حسبك قد عرفنا حالك فبهت حين عرفها ساعة لا ينطق بلفظ. ثم خرج لوجهه فاعترضه الرجل وقال: مالك؟ عد لتقبض مالك, وإن شئت زدناك فلم يكلمه ومضى فدخل على لبنى فقالت له: ما هذا إنه لقيس! فحلف أنه لا يعرفه. وأنشد قيس معاتباً لنفسه: أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر كأني في أرجوحة بين أحبل ... إذا فكرة منها على القلب تخطر وقصد قيس معاوية فمدحه فرق له وكان قد أهدر دمه فقال له: إن شئت كتبت إلى زوجها بطلاقها فقال: لا, ولكن إئذن لي أن أقيم ببلدها ففعل فنزل حين زال هدر دمه بحيها, وتضافرت مدائحه فيها حتى غنى بها معبد والغريض وأضرابهما, وقد قصد قيس أبن أبي عتيق وكان أكثر أهل زمانه مروءة فجاء ابن أبي عتيق إلى الحسن والحسين وأعلمهما أن له حاجة عند زوج لبنى وطلب أن ينجداه عليه فمضيا معه حتى اجتمعوا به وكلموه في طلب ابي أبي عتيق وهم لم يعلموا الغرض قال: سلوا ما شئتم. فقال ابن أبي عتيق: أهلاً كان أو مالاً؟ قال: نعم. فقال: أريد أن تطلق لبنى ولك ما شئت عندي. فقال: أشهدكم أنها طالق. فاستحيوا منه وعوضه الحسن مائة ألف درهم وقال له: لو علمت الحاجة ما جئت, ونقلت إلى العدة وعاتبت لبنى قيساً على تزويجه الفزارية فحلف لها أن عينيه لم تكتحل برؤيتها ولم يكلمها لفظة واحدة, وأنه لو رآها لم يعرفها وأخبرته أنها كارهة زوجها وأعلمته أنها لم تتزوج به رغبة فيه بل شفقة على قيس حين أهدر دمه ليخلي عنها, وتوفيت لبنى في العدة سنة 33هـ وإن قيساً حين بلغه ذلك خرج حتى وقف على قبرها وأنشد: ماتت لبينى فموتها موتي ... هل ينفعن حسرة على الفوت إني سأبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجداً على ميت ثم بكى حتى أغمي عليه فحمل ومات بعد ثلاث ودفن إلى جانبها وله فيها أشعار كثيرة منها: إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لفارقتها في حبها فقضيت برت نبلها للصيد لبنى وريشت ... وريشت أخرى مثلها وبريت فلما رمتني أقصدتني بنبلها ... وأخطأتها بالسهم حين رميت وفارقت لبنى ضلة فكأنني ... قرنت إلى العيوق ثم هويت فيا ليت أني مت قبل فراقها ... وهل ينفعن بعد التفرق ليت فوطن لهلكي منك نفساً فإنني ... كأنك بي قد يا ذريح قضيت وقال أيضاً: عيد قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب صعب شديد فإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين لا أرى من أريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ليت لبنى تعودني ثم أقضي ... إنها لا تعود فيمن يعود ويح قيس لقد تضمن منها ... داء خبل فالقلب منه عميد وقال: وقد سأله الطبيب مذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فأنشد: تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعدما كنا نظافا وفي المهد فزاد كما زدنا وأصبح ناميا ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد لبانة ابنة ريطة بن علي بن عبد الله طاهر كانت من أحسن نساء زمانها وأوفرهن عقلاً, وأعظمهن أدباً, فصيحة المنطق عذبة اللسان شاعرة وشعرها مقبول ولها علم بضروب الغناء تزوجها محمد الأمين بن هارون الرشيد فقتل ولم يبن بها فقالت ترثيه: أبكيك لا للنعيم والإنس ... بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على سيد فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس من للحروب التي تكون بها ... إن أضمرت بارها بلا قبس من لليتامى إذا هم سبغوا ... وكل عان وكل محتبس أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس ولما قتل الأمير رجعت إلى منزل والدها ولم تتمالك أن تبقى مع السيدة زينب بنت جعفر أم الأمين لأنها تشاءمت منها فخشيت على نفسها من الإهانة والاحتقار. وبعد أن استتب الأمر إلى المأمون جعل لها إدرارات ورواتب تنفق منها ولم يتركها تذهب إلى حيث شاءت بل جعلها كأنها من حرم دار الخلافة وبقيت على ذلك إلى أن ماتت بآخر خلافته. لطيفة الحدانية توفي أبوها وتركها صغيرة فكفلها عمها, وكانت على أرفع ما يكون من مراتب الجمال ومحاسن الأخلاق والخصال, فربيت في بيت عمها حتى بلغت وكان لعمها ولد شاب يدعى واصفاً وكان كامل الحسن والظرف واللطف والعفة فكانت لطيفة تنظر إليه فيعجبها إلى أن تمكن حبه منها. فمرضت وهي تكتم أمرها وكانت امرأة عمها فطنة مجربة للأمور, فامتحنتها فوجدتها تغيب عن حسها أحياناً فإذا دخل الغلام أفاقت والتمست تأكل, فأخبرت أباه فقال: يا لها نعمة. ثم زوجه بها فأوقع الله حبها في قلبه فأقاما على أحسن حال مدة وهو يأمرها أن تكون دائماً متزينة مطيبة ويقول لها: لا أحب أن أراك إلا كذا, فلم يزالا على ذلك فضعف الشاب فمات, فوجدت به وجداً شديداً, فكانت بأنواع زينتها كما كانت وتمضي, فتمكث على قبره باكية إلى الغروب. قال الأصمعي: مررت أنا وصاحب لي بالجبانة, فرأيتها على تلك الحالة فقلنا لها: علام ذا الحزن الطويل؟ فأنشأت: فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني فعجبا منها ثم انحزنا فجلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشأت: يا صاحب القبر يا من كان يؤنسني ... وكان يكثر في الدنيا موالاتي قد زرت قبرك في حلي وفي حلل ... كأنني لست من أهل المصيبات لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما ... قد كنت تألفه من كل هيآت فمن رآني رأى عبري مولهة ... مشهورة الزي تبكي بين أموات ثم انصرفت فتبعناها حتى عرفنا مكانها, فلما جئنا إلى الرشيد قال: حدثني بأعجب ما رأيته. فأخبرته بأمر لطيفة فكتب إلى عامله على البصرة أن يمهرها عشرة آلاف درهم, ففعل ووجه بها إليه, وقد أنهكها السقم, فتوفيت بالمدائن. قال الأصمعي: فلم يذكرها الرشيد مرة إلا ذرفت عيناه. لويزا ماري كارولين "لويزا" كونتة "أليني" زوجة. آخر رجل من عائلة "ستورت". ولدت في "منس" من بلجيكا سنة 1753 م, وتوفيت في فلورنسا سنة 1824 م. وهي ابنة البرنس "غستاقوس أدولغوس". تزوجت سنة 1772 م "بشارل أدورد ستورت" حفيد "جمس الثاني", وكان يدعي بحق الجلوس على تخت ملك بريطانيا, ويعرف بكونت "أليني". وكان أكبر منها بثلاثين سنة, ويقال: إنه تزوجها أملاً أن يولد له منها وارث شرعي لبيت "ستورت" الذي كان مناظرا لملك إنكلترا إلا أنهما لم يتفقا فإنها كانت جميلة فتينة, مهذبة عاقلة. وكان هو هرماً خشن الطباع سيء الخلق, فعاش في "فلورنسا" وهناك تعرفت ب" الغيارى" الشاعر فحصل لها عنده اعتبار عظيم ويقال: إنه عشقها عشقاً مفرطاً وإنها هي التي حركته إلى تأليف تراجيدياته, ولم تتهم قط بخيانة زوجها إلا أن شدة فظاظته حملتها أخيراً على تركه فالتجأت إلى دير في فلورنسا, ثم انتقلت إلى دير في روميه. وسنة 1783 م تمكنت من فسخ زواجها بتوسط "غستاقوس الثالث" ملك أسوج "وسعى لها "غستاقوس" _المذكور_ بمرتب عينته لها الحكومة الفرنساوية, غير أنه قطع عنها عند حدوث الثورة. ويقال: إنها بعد نحو سنتين من وفاة زوجها سنة 1788 م تزوجت "الغيارى" سراً وكان لها في فلورنسا سطوة عظيمة جداً في المصالح السياسية ونفوذ بين أكابر رجال الدولة فكان "نابوليون" يخافها وبعد وفاة "الغيارى" _المذكور_ كانت تصرف معظم وقتها في فلورنسا ويقال: إنها جرى لها هنا مع "فرنسوا كرافيه فاقر" وهو مصور فرنسوي علائق ودادية متينة, ولما توفيت دفنت في كنيسة "سنتا كروتشا" في فلورنسا في نفس القبر الذي دفن فيه الغيارى وأقام لها "كانوقا" فوقه قبة جميلة. ليلى الأخيلية هي ليلى بنت عبد الله بنت الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية, وهو الأخيل من بني عامر بن صعصعة, وهي من النساء المتقدمات في الشعر من شعراء الإسلام وكان توبة بن الحمير بن عقيل الخفاجي يهواها ويقول فيها الشعر, فخطبها إلى أبيها, فأبى أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع فجاء يوماً كما يجيء لزيارتها فإذا هي سافرة ولم ير منها إليه بشاشة فعلم أن ذلك الأمر ما كان فرجع إلى راحلته فركبها ومضى وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه. فقال توبة في ذلك قصيدته المشهورة هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها وخفت نواها من جنوب عفيرة ... كما خف من نبل المرامي جفيرها يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شق النفوس يضيرها أليس يضر العين أن تكثر البكى ... ويمنع منها نومها وسرورها لكل لقاء نلتقيه بشاشة ... وإن كان يوماً كل حول نزورها خليلي روحا راشدين فقد أبت ... ضرية من دون الحبيب وتيرها يقر بعيني أن أرى العيس تعتلي ... بنا نحو ليلى وهي تجري صقورها وما لحقت حتى تقلقل عرضها ... وسامح من بعد المرام عسيرها وأشرف بالأرض اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها فناديت ليلى والحمول كأنها ... مواقير نخل زعزعتها دبورها فقالت أرى أن لا تفيدك صحبتي ... لهيبة أعداء تلظى صدورها فمدت لي الأسباب حتى بلغتها ... برفقي وقد كاد ارتفاقي يغيرها فلما دخلت الخدر أطت نسوعه ... وأطراف عيدان شديد سيورها فأرخت لنضاخ الذفار منصة ... وذوي سيرة قد كان قدماً يسيرها وإني ليشفيني من الشوق أن أرى ... على الشرف النائي المخوف أزورها وأن أترك العيس الحسير بأرضها ... يطيف بها عقبانها ونسورها حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء دان بريرها وقد تذهب الحاجات يسترها الفتى ... فتخفى وتهوى النفس ما لا يضيرها وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وقصورها أترك حياض الموت ليلى وأفنا ... عيون نقيات الحواشي تديرها ألا يا صفي النفس كيف بقولها ... لو أن طريداً خائفاً يستجرها تجير وإن شطت بها غربة النوى ... ستنعم ليلى أو يفادى أسيرها وقالت أراك اليوم أسود شاحباً ... وأنى بياض الوجه حر حرورها وغيرني أن كنت لما تغيرت ... هو أجر لا أكتنها وأسيرها إذا كان يوم ذو سموم أسيره ... وتقصر من دون السموم ستورها وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها فقل لعقيل ما حديث عصابة ... تكنفها الأعداء ناء نصيرها فإن لا تناهوا يركب اللهو نحوها ... وخفت برجل أو جناح يطيرها لعلك يا قيساً ترى في مريرة ... معذب ليلى إن رآني أزورها وأدماء من حر الهجان كأنها ... مهاة صوار غير ما مس كورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 من الناعبات المشي نعباً كأنما ... نياط بجذع من أراك جريرها من العركانيات حرف كأنها ... مريرة كيد شد شداً مغيرها قطعت بها موماة أرض مخوفة ... مخوف رداها حين يستن مورها ترى ضعفاء القوم فيها كأنهم ... دعاميص ماء نش عنها غديرها وقسورة الليل التي بين نصفه ... وبين العشا قد ريب منها أسيرها أبت كثرة الأعداء أن يتجنبوا ... كلابي حتى يستشار عقورها وما يشتكي جهلي ولكن غرتي ... تراها بأعدائي لبيثاً طرورها أمخترمي ريب المنون ولم أزر ... جواري من همدان بيضاً نحورها تنوء بإعجاز ثقال وأسواق ... خدال وإقدام لطاف خصورها أظن بها خيراً وأعلم أنها ... ستنفك يوماً أو يفك أسيرها أرى اليوم يأتي دون ليلى كأنما ... أتت حجة من دونها وشهورها علي دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنباً غير إني أزورها وأني إذا ما زرتها قلت يا اسلمي ... ويا بأبي قولي اسلمي ما يضيرها قيل: وكان توبة إذا أتى ليلى الأخيلية خرجت إليه في برقع فلما شهر أمره شكوه إلى السلطان فأباحهم دمه إن أتاهم, فكمنوا له في الموضع الذي كان يلتقاها فيه, فلما علمت به خرجت سافرة حتى جلست في طريقه فلما رآها سافرة فطن لما أرادت, وعلم أنه قد رصد وأنها أسفرت لذلك تحذره, فركض فرسه, فنجا وذلك قوله: وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت -البيت المتقدم ضمن القصيدة- وقيل أيضاً: إنه كان يكثر زيارتها, فعاتبه أخوها وقومها, فلم يعتب, وشكوه إلى قومه فلم يقلع. فتظلموا منه على السلطان فأهدر دمه إن أتاهم, وعلمت ليلى بذلك وجاءها زوجها -وكان غيوراً- فحلف لئن لم تعلمه بمجيئه ليقتلنها, ولئن أنذرته بذلك ليقتلنها. قالت ليلى: وكنت أعرف الوجه الذي يجيئني منه فرصدوه بموضع ورصدته بآخر, فلما أقبل لم أقدر على كلامه لليمين فسفرت وألقيت البرقع عن رأسي, فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى, ففاتهم. وخرج يوماً شخص من بني كلاب, ثم من بني الصحمة يبتغي إبلاً له حتى أوحش وأرمل, ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت براز فأقبل حتى نزل حيث ينزل الضيف فأبصر امرأة وصبياناً يدورون بالخباء, فلم يكلمه أحد, فلما كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة وسمع فيها صوت رجل حتى جاء بها فأناخها على البيت ثم تقدم فسمع الرجل يناجي المرأة ويقول: ما هذا السواد حذاءك. قالت: راكب أناخ بنا حين غابت الشمس ولم أكلمه. فقال لها: كذبت ما هو إلا بعض خلانك. ونهض يضربها وهي تناشده. قال الرجل: فسمعته يقول: والله لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا فيغيثك. فلما عيل صبرها قالت: يا صاحب البعير, يا رجل وأخذ الصحمي هراوته ثم أقبل يحضر حتى أتاها وهو يضربها فضربه ثلاث ضربات أو أربعاً, ثم أدركته المرأة فقالت: يا عبد الله ما لك, ولنا نح عنا نفسك. فانصرف فجلس على راحلته وأدلج ليلته, كلها وقد ظن أنه قتل الرجل وهو لا يدري من الحي بعد حتى أصبح في أخبية من الناس, ورأى غنماً فيها أمة مولدة فسألها عن أشياء حتى بلغ بها الذكر فقال: أخبريني عن أناس وجدتهم بشعب كذا وكذا. فضحكت وقالت: إنك تسألني عن شيء وأنت به عالم. فقال: وما ذاك لله بلادك فو الله ما أنا به عالم. قالت: ذاك ليلى الأخيلية وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أحسن الناس وجهاً وزوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن الناس فلا يحل بها معهم والله ما يقربها أحد ولا يضيفها فكيف نزلت أنت بها قال: إنما مررت فنظرت إلى الخباء ولم أقربه وكتمها الأمر وتحدث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل ولم يدر من هو, فلما أخبر باسم المرأة وأقر على نفسه تغنى بشعر دل فيه على نفسه فقال: ألا يا ليلى أخت بني عقيل ... أنا الصحمي إن لم تعرفيني دعتني دعوة فجزعت عنها ... بصكات رفعت بها يميني فإن تك غيرة أبريك منها ... وإن تك قد جننت فذا جنوني وكان الحجاج يقول لليلى الأخيلية: إن شبابك قد ذهب واضمحل أمرك وأمر توبة فأقسم عليك ألا صدقتني هل كانت بينكما ريبة قط؟ أو خاطبك في ذلك قط فقالت: لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر فقلت له: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت قال لها الحجاج فما كان منه بعد ذلك قالت: وجه صاحباً له إلى حضرنا. فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعل شرفاً ثم اهتف بهذا البيت: عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسرى إلي خيالها فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له: وعنه عفا ربي وأحسن حفظه ... عزيز علينا حاجة لا ينالها ولم يزل على ذلك حتى فرق بينهما الموت ومات توبة في بعض الغزوات قتله بنو عوف بن عقيل في خبر يطول شرحه. وكان ذلك سنة 85 هجرية و695 مسيحية, فلما بلغ خبر قتله ليلى الأخيلية رثته بمراث كثيرة منها: نظرت وركن من دنانين دونه ... مفاوز حوضي أي نظرة ناظر لآنس إن لم يقصر الطرف عنهم ... فلم تقصر الأخبار والطرف قاصري فوارس أجلى شأوها عن عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر فآنست خيلاً بالرقي مغيرة ... سوابقها مثل القطا المتواتر قتيل بني عوف ويثبر دونه ... قتيل بني عوف قتيل لجابر توارده أسيافهم فكأنما ... تصادرن عن اقطاع أبيض باتر من الهند وانيات في كل قطعة ... دم زل عن أثر من السيف ظاهر أتته المنايا دون زغف حصينة ... وأسمر خطى وخوصاء ضامر على كل جرداء السراة وسابح ... لهن بشباك الحديد وزافر عوابس تعد والثعلبية ضمراً ... وهن شواج بالشكيم السواجر فلا يبعدنك الله توبة إنما ... لقاء المنايا دارعاً مثل حاسر فإن لا تك القتلى بواء فإنكم ... ستلقون يوماً ورده غير صادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وإن السليل إذ يباري قتيلكم ... كمرجومة من عركها غير طاهر فإن تكن القتلى بواء فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالاً دون جار مجاور ولا تأخذ الكوم الجلاد رماحها ... لتوبة في نحس الشتا الصنابر إذا ما رأته قائماً بسلاحه ... اتقته الخفاف بالثقال البهازر قرى سيفه منهن شاسا وضيفه ... سنام البهاديس البساط المشافر وتوبة أحي من فتاة حيية ... وأجرأ من ليث يخفان خادر ونعم فتى الدنيا وإن كان فاجراً ... وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر فتى ينهل الحاجات ثم يعلها ... فيطلعها عنه ثنايا المصادر كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر ولكم يبن إيراد إعتاقاً لفتية ... كرام ويرحل قبلهم في الهواجر ولم يتجل الصبح عنه وبطنه ... لطيف كطي السب ليس بحاذر فتى كان للمولى سناء ورفعة ... وللطارق الساري قرى غير ياسر ولم يدع يوماً للحفاظ وللعدا ... وللحرب ترمي نارها بالشرائر وللبازل الكوماء يرغو خوارها ... وللخيل تعدو بالكماة المساعر كأن لم تكن تقطع فلاة ولم تنخ ... قلاص لذي بأومن الأرض غابر ويصبح بموماة كأن صريفها ... صريف خطاطيف المدى في المحافر طوت نفعها عنا كلاب وأثرت ... بنا أجهلوها بين غلو وشاعر وقد كان حقاً أن تقول سراتهم ... لما لأخينا عائشاً غير عاثر ودوية قفر يحاربها القطا ... تخطيتها بالناعجات الضوامر فتالله تبني بيتها أم عاصم ... على مثله إحدى الليالي الغوابر فليس شهاب الحرب توبة بعدها ... بغاز ولا غاد بركب مماقر وقد كان طلاع النجاد وبين ... اللسان ومدلاج السرى غير فاتر وقد كان قبل الحادثات إذا انتحى ... وسائق أو مغبوطة لم يغادر وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يعدل سواك بناصر فإن يك عبد الله آسى ابن أمه ... وآب بأسلاب الكمي المغاور فكان كذات البو تضرب عنده ... سباعاً وقد ألقيته في الحواجر فإن تك قد فارقته لك غادرا ... وأنى لحي غدر من في المقابر فأقسمت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من نالت صروف المقادر على مثل همام ولابن مطرف ... لتبكي البواكي أو لبشر بن عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 غلامان كان استوردا كل سورة ... من المجد ثم استوثقا في المصادر ربيعي حياً كانا يفيض نداهما ... على كل مغمور تراه وغامر كأن سنا باريهما كل شتوة ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر وقالت ترثيه أيضاً: أيا عين بكي توبة بن الحمير ... بسح كفيض الجدول المتفجر لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤن العبرة المتحدر سمعت بهيجاً أرهقت فذكرنه ... ولا يبعث الأحزان مثل التذكر كأن فتى الفتيان توبة لم يسر ... بنجد ولم يطلع من المتغور ولم يرد الماء الدام إذا بدا ... سنا الصبح في بادي الحواشي منور ولم يغلب الخصم الضحاح ويملأ ال ... جفان سديفاً يوم نكباء صرصر ولم يعل بالجرد الجياد يقودها ... بسبرة بين الأشمسات قياصر وصحراء موماة يحاربها القطا ... قطعت على هول الجنان بمنسر يقودون قباً كالسراحين لاحها ... سراهم وسيراً لراكب المتهجر فلما بدت أرض العدو سقيتها ... مجاج بقيات المزاد المقبر ولما أهابوا بالنهاب حويتها ... بخاطي البضيع كرة غير أعسر يمر ككر الأندري مثابر ... إذا ما ونين مهلب الشد محضر فألوت عناق طوال وراعها ... صلاصل بيض سابغ وسنور ألم تر أن العبد يقتل ربه ... فيظهر جد العبد من غير مظهر قتلتم فتى لا يسقط الروع رمحه ... إذا الخيل جالت في قنا متكسر فيا توب للهيجا ويا توب للندا ... ويا توب للمستنج المتنور ألا رب مكروب أجبت ونائل ... بذلت ومعروف لديك ومنكر وقالت ترثيه: أقسمت ارثي بعد توبة هالكا ... أحفل لمن دارت عليه الدوائر لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير وما أحد حي وإن عاش سالما ... بأخلد ممن غيبته المقابر ومن كان مما يحدث الدهر جازعا ... بلا بد يوماً أن يرى وهو صابر وليس لذي عيش عن الموت مقصر ... وليس على الأيام والدهر غابر ولا الحي مما يحدث الدهر معتب ... ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر وكل شباب أو جديد إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر وكل قرينى ألفة لتفرق ... شتاتاً وإن ضنا وطال التعاشر فلا يبعدنك الله حياً وميتا ... أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر ويروى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فلا يبعدنك الله يا توب هالكا ... أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر فآليت لا أنفك أبكيك ما دعت ... على فنن ورقاء أو طار طائر قتيل بني عوف فيا لهفتا له ... وما كنت إياهم عليه أحاذر ولكنما أخشى عليه قبيلة ... لها بدروب الروم باد وحاضر وقالت ترثيه: كم هاتف بك من باك وباكية ... يا توب للضيف إذ تدعى وللجار وتوب للخصم إن جاروا وإن عندوا ... وبدلوا الأمر نقصاً بعد إمرار إن يصدروا الأمر تطلعه موارده ... أو يوردوا الأمر تحلله بإصدار وقالت ترثيه: هراقت بنو عوف دماً غير واحد ... له نبأ نجد به سيغور تداعت له أفناء عوف ولم يكن ... له يوم هضب الرهدتين نصير وقالت ترثيه: يا عين بكي بدمع دائم السجم ... وابكي لتوبة عند الروع واليهم على فتى من بني سعد فجعت به ... ماذا أجن به في الحفرة الرجم من كل صافية صرف وقافية ... مثل السنان وأمر غير مقتسم ومصدر حين يعي القوم مصدرهم ... وجفنة عند نحس الكوكب الشئم وقالت لقابض وتعذي عبد الله أخا توبة: دعا قابضاً والموت يخفق ظله ... وما قابض إذا لم يجب بنجيب وآسى عبيد الله ثم ابن أمه ... ولو شاء نجى يوم ذاك حبيبي وسأل معاوية بن أبي سفيان يوماً ليلى الأخيلية عن توبة بن الحمير فقال: ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: يا أمير المؤمنين, ليس كل ما يقول الناس حقاً, والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانت وعلى من كانت, ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران, كريم المختبر, عفيف المئزر, جميل المنظر وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له. قال: وما قلت له؟ قالت: قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه: بعيد الثرى لا يبلغ القوم قفزه ... ألد ملد يغلب الحق باطله إذا حل ركب في ذاره وظله ... ليمنعهم مما تخاف نوازله حماهم بنصل السيف من كل فادح ... يخافون حتى تموت خصائله فقال لها معاوية: ويحك, يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً. فقالت من ساعتها ارتجالاً: معاذ إلهي كان والله سيداً ... جواداً على العلات جماً نوافله أغر خفاجياً يرى البخل سبة ... تحلب كفاه الندى وأنامله عفيفاً بعيد الهم صلباً قناته ... جميلاً محياه قليلاً غوائله وقد علم الجوع الذي بات سارياً ... على الضيف والجيران أنك قاتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وأنك رحب الباع يا توب بالقرى ... إذا ما لئيم القوم ضاقت منازله يبيت قرير العين من بات جاره ... ويضحى بخير ضيفة ومنازله فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى, لقد جزت بتوبة قدره. فقالت: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله. فقال لها معاوية: من أي الرجال: كان؟ فقالت: أتته المنايا حين تم تمامه ... وأقصر عنه كل قرن يصاوله وكان كليث الغاب يحمي عرينه ... وترضى به أشباله وحلائله غضوب حليم حين يطلب حلمه ... وسم زعاف لا تصاب مقاتله فأمر لها بجائزة عظيمة وقال لها: خبريني بأجود ما قلت فيه من الشعر. قالت: يا أمير المؤمنين ما قلت فيه شيئاً إلا والذي فيه من خصال الخير أكثر منه ولقد أجدت حين قلت: جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... فتى من عقيل ساد غير مكلف فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه ولا ينفك جم التصرف ينال الذوب بل أسدي الخلايا شبيهة ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف فيا توب ما في العيش خير ولا ندى ... يعد وقد أمسيت في ترب نفنف وما نلت منك النصف حتى ارتمت بك ال ... منايا بسهم صائب الوقع أعجف فيا ألف إلف كنت حياً مسلماً ... لا لقاك مثل القسور المتطرف كما كنت إذ كنت المرجى من الردى ... إذا الخيل جالت بالقنا المتقصف وكم من لهيف محجر قد أجبته ... بأبيض قطاع الضريبة مرهف فأنقذته والموت يحرق نابه ... عليه ولم يطعن ولم يتنسف قيل: وكان الحجاج جالساً إذ استؤذن لليلى فقال الحجاج: وأي ليلى؟ قيل: الأخيلية. قال: أدخلوها. فدخلت امرأة طويلة, دعجاء العينين, حسنة المشية, فسلمت. فرد الحجاج عليها ورحب بها وأمر الغلام فوضع لها وسادة فجلست فقال: ما أقدمك. قالت: السلام على الأمير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه. قال: وكيف خلفت قومك؟ قالت: تركتهم في حال خصب وأمن ودعة. أما الخصب ففي الأموال وأما الأمن فقد أمنهم الله عز وجل بك, وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم. ثم قالت: ألا أنشدك؟ قال: إن شئت. فقالت: أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث تراها إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذ هز القناة سقاها سقاها دماء المارقين وعلها ... إذا جمحت يوماً وخيف أذاها إذا سمع الحجاج صوت كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها أعد لها مصقولة فارسية ... بأيدي رجال يحسنون غذاها أحجاج لا تعطي العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها ولا كل حلاف تقلد بيعة ... فأعظم عهد الله ثم شراها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فقال الحجاج ليحيى بن منقذ لله بلادها: ما أشعرها. ثم أقبل على جلسائه فقال لهم: أتدرون من هذه. قالوا: لا والله ما رأينا امرأة أفصح ولا أبلغ منها, ولا أحسن إنشاداً. قال: هذه ليلى صاحبة توبة, ثم قال لها: أي النساء تختارين أن تنزلي عندها؟ قالت: سمهن لي. فسماهن, فاختارت هند بنت أسماء, فدخلت عليها فصبت هند حليها عليها حتى أثقلتها لاختيارها إياها ودخولها عليها دون سواها, ولما كان الصباح قال الحجاج لعبيد بن موهب -حاجبه-: مر لها بخمسمائة درهم واكسها خمسة أثواب أحدها خز, ثم قالت: أصلح الله الأمير قد أضر بنا العريف في الصدقة, وقد خربت بلادنا وانكسرت قلوبنا فأخذ خيار المال فقال الحجاج: اكتبوا إلى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته. وقيل: إن ليلى لما دخلت على الحجاج فلما قالت: (غلام إذا هز القناة سقاها) قال لها: لا تقولي غلام وقولي همام, فأمر لها بمائتين فقالت: زدني. فقال: اجعلوها ثلثمائة. فقال بعض جلسائه: إنها غنم. قالت الأمير أكرم من ذلك, وأعظم قدراً من أن يأمر لي إلا بالإبل. قال: فاستح وأمر لها بثلثمائة بعير وإنما كان أمر لها بغنم لا إبل. وبينما الحجاج بن يوسف جالس يوماً دخل عليه الآذن فقال: أصلح الله الأمير بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير. قال: أدخلها فلما دخلت استنسبها فانتسبت له فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم وكلب البرد, وشدة الجهد, وكنت لنا بعد الله المرد. قال: فأخبريني عن الأرض. قال: الأرض مقشعرة, والفجاج مغبرة, وذو الغنى مختل, وذو الحد منفل. قال: وما سبب ذلك؟ قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيلاً ولا ربعاً, ولم تبق عافطة ولا نافطة, فقد أهلكت الرجال ومزقت العيال, وأفسدت الأموال ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدماً. وقال في الخبر, قال الحجاج: هذه التي يقال فيها: نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدب على العصا مشهوراً تبكي الرماح إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعرفنا الرفاق بحوراً ثم قال لها: يا ليلى, أنشدينا بعض شعرك في توبة, فأنشدته قولها: لعمرك بالموت عار على الفتى -القصيدة- فقال: الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانه. فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها فقالت: ويلك إنما قال لك الأمير: اقطع لسانها بالصلة والعطاء, فارجع إليه واستأذنه, فرجع إليه فاستأمره فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه, ثم أمر بها فدخلت عليه فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي وأنشدته: حجاج أنت الذي لا فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد حجاج أنت سنان الحرب إن بهجت ... وأنت للناس في الداجي لنا نقد ودخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها فقال لها: من أنت؟ قالت له: أنا الوالهة الحري ليلة الأخيلية. قال: أنت التي تقولين: أريقت جفان ابن الخليع فأصبحت ... حياض الندى زلت بهن المراتب فلهى وعفى بطن قودي وحوله ... كما انقض عرش البئر والورد عاصب قالت: أنا التي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا. قالت: الذي أبقاه الله لك. قال: وما ذاك؟ قالت: نسباً قرشياً وعيشاً رخياً وامرأةً مطاعةً قال: أفردته بالكرم. قالت: أفردته بما أفرده الله به. قالت عاتكة: إنما جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها, ولست ليزيد إن شفعتها في شتى من حاجاتها لتقديمها أعرابياً جلفاً على أمير المؤمنين فوثبت ليلى على رجلها واندفعت تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ستحملني ورحلي ذات رحل ... عليها بنت آباء كرام إذا جعلت سواد الشام جيشاً ... وغلق دونها باب اللئام فليس بعائد أبداً إليهم ... ذوو الحاجات في غلس الظلام أعاتك لو رأيت غداة بنا ... عزاء النفس عنكم واعتزامي إذا لعلمت واستيقنت أني ... مشيعة ولم ترعى ذمامي أأجعل مثل توبة في نداه ... أبا الذبان فوه الدهر دامي معاذ الله ما عسفت برحلي ... تغد السير للبلد التهامي أقلت خليفة فسواه أحجى ... بامرته وأولى باللثام لثام الملك حين تعد بكر ... ذوو الأخطار والخطى الحسام فقيل لها: أي الكعبين عنيت؟ قالت: ما إخال كعباً ككعبي. وقيل: إن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت وعجزت فقال لها: ما أرى توبة فيك حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك. فضحك عبد اللمك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها. وكانت دخلت على مروان بن الحكم يوماً فقال لها: ويحك يا ليلى بالغت في نعت توبة! فقالت: أصلح الله الأمير والله ما قلت إلا حقاً, ولقد قصرت وما رأيت رجلاً قط كان أربط منه على الموت جأشاً, ولا أقل إيحاشاً يحتدم حين يرى الحرب ويحمى الوطيس بالضرب, فكان وعهد الله كما قلت: فتى لم يزل يزداد خيراً لمذنب ... على أن علاه الشيب فوق المسائح تراه إذا ما الموت حل بورده ... ضروباً على أقرانه بالصفائح شجاع لدى الهيجاء بيت مشابح ... إذا انحار عن أقرانه كل سائح فعاش حميداً لا ذميماً فعاله ... وصولاً لقرباه يرى غير كالح فقال لها مروان: كيف يكون توبة على ما تقولين وقد كان خارباً والخارب سارق الإبل خاصة فقالت: والله ما كان خارباً, ولا للموت هائباً, ولكنه فتى له جاهلية ولو طال عمره وأنسأه لا رعوى قلبه ولقضى في حب الله نحبه وأقصر عن لهوه ولكنه كما قال عمه مسلم بن الوليد: فلله قوم غادروا ابن حمير ... قتيلاً صريعاً للسيوف البواتر لقد غادروا جزماً وعزماً ونائلاً ... وصبراً على اليوم العبوس القماطر إذا هاب ورد الموت كل غضنفر ... عظيم الحوايا ليته غير حاضر مضى قدماً حتى تلاقي بورده ... وجاد بسيب في السنين القواشر فقال لها مروان: يا ليلى, أعوذ بالله من درك الشقاء, وسوء القضاء, وشماتة الأعداء. فو الله لقد مات توبة وإن كان لمن فتيان العرب وأشدائهم ولكنه أدركه الشقاء. فهلك على أحوال الجاهلية. وكان بينها وبين الجعدي مهاجاة وذلك أن رجلاً من قشير يقال له: ابن الحيا وهي أمه واسمه سوار بن أوفى بن سبرة هجاه وسب أخواله من أزد في أمر كان بين قشير وبين بني جعده وهم بأصبهان فأجابه النابغة بقصيدته التي يقال لها الفاضحة (سميت بذلك لأنه ذكر فيها مساوئ قشير وعقيل وكل ما كانوا يسبون به وفخر بمآثر قومه وبما كان من بطون بني عامر سوى هذين الحيين من قشير وعقيل) فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 جهلت علي ابن الحيا وظلمتني ... وجمعت قولاً جاء بيتاً مضللا وقال أيضاً في هذه القصة التي أولها: أما ترى ظلل الأيام قد حسرت ... عني وشمرت ذيلاً كان ذيالا وهي طويلة يقول فيها: ويوم مكة إذا ما جدتم نفرا ... جاموا على عقد الأحساب أزوالا عند النجاشي إذ تعطون أيديكم ... مقرنين ولا ترجون إرسالا إذ تستحقون عند الخذل أن لكم ... من آل جعدة أعماماً وأخوالا لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم ... وتجعلوا جلد عبد الله سربالا يعني عبد الله بن جعدة بن كعب: إذا تسربلتم فيه لينجيكم ... مما تقول ابن ذي الجدين إن قالا حتى وهبتم لعبد الله صاحبه ... والقول فيكم بإذن الله ما قالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا يعني بهذا البيت أن ابن الحيا فخر عليه بأنهم سقوا رجلاً من جعدة أدركوه في سفر وقد جهد عطشاً لبناً وماء فعاش فلما ذكر النابغة ذلك وفخر بما له وغض مما لهم دخلت ليلى الأخيلية بينهما فقالت: وما كنت لو فارقت جل عشيرة ... لأذكر قعبي خازر قد تثملا فلما بلغ النابغة قولها قال: ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أمراً أغر محجلا وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته ... وقد شربت من آخر الصيف إبلا دعي عنك تهجاء الرجال وأقبلي ... على أدلعي يملأ إستك فيشلا وكيف أهاجي شاعرً رمحه إسته ... خضيب البنان لا يزال مكحلا فردت عليه ليلى فقالت: أنابغ لم تنبغ ولم تك أولاً ... وكنت صنياً بين صدين مجهلا أنابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد ... للؤمك إلا وسط جعدة مجعلا تعيرني داء بأمك مثله ... وأي نجيب لا يقال له هلا فغلبته فلما أتى بني جعدة قولها هذا اجتمع ناس منهم فقالوا: والله لنأتين صاحب المدينة وأمير المؤمنين فليأخذن لنا بحقنا من هذه الخبيثة فإنها قد شتمت أعراضنا وافترت علينا فتهيؤا لذلك وبلغها أنهم يريدون أن يتسعدوا عليها فقالت: أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي ساء ذلك معملا وأخبر بعض الرواة قال: بينما معاوية يسير يوماً إذ رأى راكباً فقال لبعض شرطه: ائتني به وإياك أن تروعه. فأتاه, فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إياه أردت. فلما دنا الراكب حدر لثامه فإذا هي ليلى الأخيلية, ثم أنشأت تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 معاوي لم أكد آتيك تهوي ... برحلي رادة الأصلاب ناب قريح الظهر يفرح أن يراها ... إذا وضعت وليتها الغراب تجوب الأرض نحوك ما تأنى ... إذا ما الأكم قنعها السراب فقال: ما حاجتك؟ فقالت: ليس لمثلي أن يطلب إلى مثلك حاجة فأعطاها خمسين من الأبل ثم قال: أخبريني عن مضر فقالت: فاخر بمضر, وحارب بقيس, وكاثر بتميم, وناظر بأسد. ومن جيد أشعارها ما مدحت به آل مطرف قولها: يا أيها السدم الملوي رأسه ... ليقود من أهل الحجاز بريما أتريد عمر وبن الخليع ودونه ... كعب إذا لوجدته مرؤما إن الخليع ورهطه في عامر ... كالقلب ألبس جؤجؤاً وحزيما لا تغزون الدهر آل مطرف ... وأسنة رزق تخال نجوما قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق تخال نجزما ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما وذكر الأصمعي: أن ليلى حينما كانت عند الحجاج أمر لها بعشر آلاف درهم وقال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: نعم أصلح الله الأمير تحملني إلى ابن عمي قتيبة بن مسلم. وهو على خراسان يومئذٍ فحملها إليه فأجازها وأقبلت راجعة تريد البادية فلما كانت بالري ماتت, فقبرت هناك. هكذا ذكر الأصمعي. وقيل: إنها حينما كانت عند الحجاج فقال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: نعم, تدفع إلى النابغة أحكم فيه بما أرى. فلما سمع النابغة بذلك هرب إلى الشأم فتبعته, ثم استأذنت عبد الملك فيه فأذن لها ولم تزل في طلبه حتى توفيت بقومس بلدة من أعمال بغداد على جانب الفرات. وقيل: بحلوان والمدى بينهما قريب. وفي رواية أخرى أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفرة فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودج لها فقالت: والله لا أبرح حتى أسلم على توبة فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن تلم به, فلما كثر ذلك منها تركها فصعدت أكمة عليها توبة فقالت: السلام عليك يا توبة, ثم حولت وجهها على القوم فقالت: ما عرفت له كذباً قط قبل هذا قالوا: كيف؟ قالت: أليس القائل: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح فما باله لم يسلم علي كما قال: وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة, فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر, فرمى ليلى على رأسها فماتت من وقتها ودفنت إلى جانبه وهذا هو الصحيح من خبر وفاتها. ليلى العامرية بنت مهدي بن سعد صاحبة قيس بن الملوح بن مزاحم الشهير بالمجنون, ولم يكن مجنوناً إلا من العشق بدليل قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 يسمونني المجنون حين يرونني ... نعم بي من ليلى الغداة جنون وكان سبب عشقه لها أنه مر على ناقة وعليه حلتان من حلل الملوك بزمرة من قومه وعندها نسوة يتحدثن فأعجبهن, فاستنزلته للمنادمة فنزل وعقر لهن ناقته, وأقام معهن بياض اليوم. وكانت ليلى مع من حضر وحين وقعت عينه عليها لم يصرف عنها طرفاً, وشاغلته فلم يشتغل, فلما نحر الناقة جاءت لتمسك معه اللحم فجعل يحز بالمدية في كفه وهو شاخص فيها حتى أعرق كفه فجذبتها من يده ولم يدر ثم قال لها: أتاكلين الشواء؟ قالت: نعم, فطرح من اللحم شيئاً على الغضي وأقبل يحادثها. فقالت له انظر إلى اللحم هل استوى أم لا؟ فمد يده إلى الجمر وجعل يقلب بها اللحم فاحترقت ولم يشعر, فلما علمت ما داخله صرفت عن ذلك, ثم شدت يده دبهدب قناعها, ثم ذهب وقد تحكم عشقها من قلبه وقد استدعته بعد هذا المجلس للمحادثة وقد داخلها الحب فقالت له: هل لك في محادثة من لا يصرفه عنك صارف؟ قال: ومن لي بذلك؟ فقالت له: اجلس. فجلس وجعلا يتحادثان حتى مضى الوقت ولم يزالا على ذلك حتى حجبها أبوها عنه وزوجها من غيره -كما هو مشهور في قصتها- ومن رقيق شعر ليلى: لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا لكنه باح بسر الهوى ... وإنني قد ذبت كتمانا وقال له رجل من قومه: إني قاصد حي ليلى فهل عندك شيء تقوله لها؟ قال نعم, أنشدها إذا وقفت بحيث تسمعك هذه الأبيات: الله أعلم أن النفس قد هلكت ... باليأس منك ولكني أمنيها منيتك النفس حتى قد أضر بها ... وأبصرت خلفاً مما أمنها وساعة منك ألهوها ولو قصرت ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها قال الرجل: قضيت حتى وقفت بخيامها فلما أمكنتني الفرصة أنشدت بحيث تسمع الأبيات فبكت حتى غشى عليها, ثم قالت: أبلغه عني السلام وأنشدت: نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذا ... ما كان غيرك يجزيها ويرضيها صبراً على ما قضاه الله فيك على ... مرارة في اصطباري عنك أخفيها وقال رباح بن عامر: دخلت من نجد أريد الشام فأصابني مطر عظيم, فقصدت خيمة رفعت لي فإذا بامرأة فسألتها التظليل, فأشارت إلى ناحية, فدخلت ثم قالت للعبيد: سلوه من أين الرجل؟ فقلت: من نجد. فتنفست الصعداء ثم قالت: نزلت بمن فيها؟ قلت: ببني الحريش فرفعت ستارة كانت بيننا وإذا بامرأة كأنها القمر ثم قالت: أتعرف رجلاً فيهم يقال له: قيس ويلقب بالمجنون؟ قلت: إي والله سرت مع أبيه حتى أوقفني عليه وهو مع الوحش لا يعقل إلا أن ذكرت له ليلى, فبكت حتى أغمي عليها فقلت: مما تبكين ولم أقل إلا خيراً. فقالت: أنا والله ليلى المشؤمة عليه غير المساعدة له ثم أنشدت: ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع بنفسي من لا يستقل برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع وكان آخر مجلس للمجنون من ليلى أنه لما اختلط عقله وتوحش جاءت أمه إليها فأخبرتها وسألتها أن تزوره فعساها أن تخفف ما به فقالت: أما نهاراً فلا خيفةً من أهلي وسآتيه ليلاً, فلما جن الليل جاءت فسلمت عليه ثم قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أخبرت أنك من أجلي جننت وقد ... فارقت أهلك لم تعقل ولم تفق فرفع رأسه إليها وأنشد: قالت جننت على رأسي فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين لو تعلمين إذا ما غبت ما سقمي ... وكيف تسهر عيني لم تلوميني وقد امتحنته يوماً لتنظر ما عنده من المحبة لها فدعت شخصاً بحضرته فسارته ثم نظرته قد تغير حتى كاد ينفطر فأنشدت: كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين تبلغينا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثم هوى دفين وأسرار اللواحظ ليس تخفى ... وقد تغري بذي الخطأ الظنون وكيف يفوت هذا الناس شيء ... وما في الناس تظهره العيون فسر بذلك حتى كاد أن يذهب عقله فانصرف وهو يقول: أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ول أهل ولا أحد أقضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل محاجها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل ليلى بنت طريف وقيل: الفارعة. وقيل: فاطمة, والأول أشهر. أخت الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي خلع ربقة الطاعة في خلافة الرشيد, فأرسل إليه يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني, فظهر عليه وقتله سنة 179 هجرية (795) ميلادية. وكانت أخته من شواعر العرب تجيد الشعر, وكانت من الفروسية على جانب عظيم. ولما قتل أخوها صبحت القوم وعلى جسدها الدرع ولامة الحرب, وجعلت تحمل على الناس. ومن شجاعتها وفروسيتها قال القوم: إن الوليد قد قتل وليست هذه إلا أخته ليلى لأنها تشابهه بالفروسية وبالتحقيق عرفت أنها ليلى. وكان يزيد بن مزيد قريباً للوليد بن طريف لكونهما جميعاً من شيبان فقال يزيد: اتركوها ثم خرج إليها وضرب بالرمح قطاة فرسها, وقال: أعزبي, عزب الله عليك قد فضحت العشيرة فاستحت وانصرفت. ورثت أخاها بمراث كثيرة لم يبق منها إلا القليل, وكانت تسلك سبيل الخنساء في مراثيها لأخيها صخر. ومن جملة ما أنشدت فيه قولها: بتل نباتي رسم قبر كأنه ... على جبل فوق الجبال منيف تضمن مجداً عد ملياً وسوددا ... وهمة مقدام ورأي حصيف أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يريد العز إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم ... معاودة للكربين بألوف فقدناه فقدان الربيع فليتنا ... فديناه من ساداتنا بألوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 كأنك لم تشهد هناك ولم تكن ... مقاماً على الأعداء غير مخيف ولم تستلم يوماً لورد كريهة ... من الشرد في غضراء ذات رفيف ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكرنها بأنوف حليف الندى ما عاش يرضي به الندى فإن مات لا يرضى الندى بحليف خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجا لعدو أو نجا لضعيف ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بعده برجوف ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهر ملح بالكرام عنيف وللبدر ما بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس إذ ما أزمعت بكسوف ولليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف ألا قاتل الله الجثا حيث أدمرت ... فتى كان للمعروف غير عيوف فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فرب زحوف لفها بزحوف عليك سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف وقولها فيه أيضاً: ذكرت الوليد وأيامه ... إذ الأرض من شخصه بلقع فأقبلت أطلبه في السماء ... كما يبتغي أنفه الأجدع أضاعك قومك فيطلبوا ... إفادة مثل الذي ضيعوا لو أن السيوف التي حدها يصيبك تعلم ما تصنع نبت عنك أو جعلت هيبة ... وخوفاً لصولك ولا تقطع حرف الميم ماء السماء هي ماوية بنت عوف بن جشم. وقيل: بنت ربيعة التغلي. ملكة العراق التي من سلالتها النعمان وباقي الملوك المناذرة. لقبت بماء السماء لأنها كانت في عصرها آية الجمال, وعنوان المجد والجلال, وكانت المنادرة تفتخر بها وجميع عرب العراق تحلف بحياتها, وكانت مآثرها ومفاخرها على العرب لا يوصف لها حد ولا يدرك لها عد, وكانت مكرمة عند الأكاسرة ونسائهم, وطالما قدمت نساء الآكاسرة الهدايا النفيسة والأكاليل والجواهر اللطيفة, وحق لمثلها أن تفتخر على نساء العرب والعجم بما جاء لها من الأولاد النجباء الذين دانت لهم البلاد وخدمتهم العباد مدة من الزمان حتى أذلوا جبابرة العرب والعجم فسبحان الحي الذي لا يموت. ماريا أدجورت بنت أدورد الثالث ملك إنكلترا ولدت في برك شير سنة 1767 م وتوفيت في أدجورت تون من إيرلاندة سنة 1849 م أخذت العلم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 أبيها وكانت من البشاشة على جانب عظيم ومحبوبة عند الجميع, وكان لها من الأمل والرغبة الذين لا بد منهما لنمو القوى العقلية نمواً تاماً ما حملها على مداومة اجتهادها في سبيل المطالعة والدرس, وكانت مولعة بالروايات فأتحفت قومها بروايات كثيرة النفع مفيدة, وكانت كل رواياتها أدبية مؤثرة فاكتسبت رضا العموم ومديحهم وقد طبعت كتاباً في 14 مجلداً في لندن سنة 1825 م ثم طبعته ثانية في 18 مجلداً سنة 1832 م, وفي 9 مجلدات سنة 1848 م, وفي 10 مجلدات سنة 1856 م وكرر طبعه في الولايات المتحدة الأمريكانية. ماجدة القرشية ذكر في طبقات الشعراني أنها كانت من المتعبدات الصالحات الزاهدات القائمات الليل الصائمات النهار. وكانت -رضي الله عنها- تقول ما حركة تسمع ولا قدم توضع إلا ظننت أني أموت في أثرها. وكانت تقول: يا لها من عقول ما أنقصها سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد غيرهم والتأذين ليس لهم ولا عنى بالأمر سواهم, وكانت تقول لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنة ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان. ماريا تريزيا ابنة كارلوس الرابع إمبراطور النمسا ولدت سنة 1717 م وتزوجت بدوق توسكا سنة 1726 م, ولما توفي والدها سنة 1740 م ورثت الملك عنه واشترك زوجها فيه وقد قامت بعبء هذا المنصب الخطير والبلاد تئن تحت وطأة الدين المتثاقل والخسائر الفاحشة التي لحقتها بسبب الحروب مع روسيا وسكرينا وغيرها من دول أوروبا, وزادت مهاجمات هذه الدول مع وفاة والدها واستولى كل منها على مقاطعة من النمسا بدعوى انقطاع المذكورة من عائلة أبيها, فاستولى "فريدريك الكبير" ملك "بروسيا" على "سيسيليا" وهي أخصب مقاطعات المملكة النمساوية وأغناها, واستولت إسبانيا ونابولي على أملاكها في إيطاليا فقطعت أوصال مملكتها وتركتها اسماً بلا مسمى, غير أن ذلك لم يوهن عزم الملكة "ماريا تريزيا" التي فاقت الرجال حكمة ودراية فجمعت الأموال وحشدت الجنود, ودافعت عن بلادها دفاع اليأس, فانكسرت والتجأت إلى رعاياها المجريين فأنجدوها عن طيبة خاطر. قيل: إنها جمعتهم في قصرها ودخلت عليهم حاملة ابنها ولي العهد وكان طفلاً وأخذت تخاطبهم باللاتينية وتحثهم على الدفاع والذود عن الوطن وكان جمالها مفرطاً وكلامها عذباً, وفصاحتها تأخذ بمجامع القلوب فسحر المجرمون بها ورقوا لدموعها وجردوا سيوفهم, وعاهدوها على الدفاع إلى الموت. وبمساعدة المجريين تمكنت من عقد هدنة "أكس لاشابل" سنة 1748 م بعد حرب سبع سنوات وخسارة كثير من أملاكها, غير أنها تمكنت بذلك من أن سمت زوجها إمبراطور, واضطرت بقية الدول إلى الاعتراف به, ثم صرفت همتها إلى ترقية العلوم والصناعة والزراعة والتجارة, فزادت المكاسب وتحسنت الأحوال, وانتشلت البلاد من ضيقتها المالية, وكانت تسوس البلاد بمساعدة زوجها ووزيرها "كونتز" المشهور ثم تجدد الحرب بينها وبين "فريدريك الكبير" ملك "بروسيا", ودامت سبع سنوات فضعفت البلاد وخسرت ما كانت قد كسبته في زمن السلم, ثم عقب هذه الحرب سلم طويل فعادت إلى ترقية العلوم والصنائع وأدخلت إلى بلادها إصلاحات شتى. سنة 1763 م توفي زوجها فأشركت ابنها يوسف معها في الملك, واشترك مع روسيا وبروسيا في اقتسام بولاندا, افنا لها من ذلك الثلث وأضافت إلى ذلك "غالينسيا" و"لودوميريا", وأخذت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الدولة العالية بوكونيا, وتوفيت سنة 1780 م بعد أن ملكت أربعين سنة أظهرت في خلالها من الشجاعة والحزم والعزم والحكمة في السياسة, وتدبير الرعية, وترقية المعارف والصنائع ما فاقت به على الرجال ووصلت به النمسا في أيامها إلى أوج مجدها, وتوفيت عن ثلاثة بنين وست بنات. وخلفها قي الملك ابنها المذكور آنفاً باسم يوسف الثاني. ماريا متشل الفلكية الأميركية ماريا متشل ابنة رجل أمريكي من طائفة الكواكر, ولدت سنة 1818 م وكان أبوها مولعاً بعلم الهيئة والحسابات الفلكية, فتعلمت منه الحساب, وكان لها ميل شديد إلى العلوم الرياضية, فبرعت فيها مع أنها كانت تقوم بخدمة البيت من غسل الصحاف وما أشبه ذلك, ولم يحاول أبوها صرفها عن ميلها الطبيعي بل قواه فيها بتعليمه إياها العلوم الرياضية كلها حتى سلك الأبحر كما علم بنيه الذكور. وكانت تقول: إن المرأة تستطيع أن تتعلم سبع لغات وهي تعمل بيديها في الخياطة والتطريز, وكان أبوها مستخدماً في اللجنة التي تسمح الشواطئ البحرية فاستعان بها على أعماله الحسابية, ومن ثم تعرفت بكثيرين من مشاهير علماء العصر وكان هؤلاء العلماء يزورونها ويحاورونها في المباحث العلمية, ولم يكن أبوها في بسطة من العيش, فعزمت على أن تساعده على السعي لعائلته, فجعلت مديرة لأحد المكاتب العمومية, وبقيت في هذا المنصب عشرين سنة منقطعة إلى الدرس في منتخبات الكتب, وكثيراً ما كانت تصنع الجوارب بيديها والكتاب مفتوح أمامها وهي تطالع فيه -هذا في النهار- وأما في الليل فكانت ترصد الكواكب في أفلاكها. وسنة 1847 م اكتشفت نجماً جديداً من ذوات الأذناب اكتشفته بالتلسكوب, وحسبت ميلة وصعوده المستقيم بالتدقيق, فكتب أبوها إلى مدير مرصد "كمبردج" يعلمه بذلك فلم يمض على هذا الاكتشاف إلا أسابيع قليلة حتى اشتهر اسمها في محافل العلماء وأذاعته الجرائد العلمية, ومنحها ملك الدانميرك نيشاناً ذهبياً. ولما اكتشفت هذا الاكتشاف الفلكي كان لها في المكتبة عشر سنوات فأقامت فيها عشر سنوات أخرى عاكفة على الدرس ورصد الأفلاك والمساعدة في تأليف الزيح (النتيجة أو التقويم) الأميركي السنوي ومكاتبة الجرائد العلمية. وسنة 1857 م أتت أوروبا قصد مشاهدة مراصدها الفلكية والتعرف بعلمائها المشهورين, فرحب بها العلماء وأكرموا مثواها لأن شهرتها كانت تتقدمها حيثما ذهبت ولم تلبث في أوروبا إلا سنة واحدة, ثم عادت إلى أمريكا واستمرت على تأليف الزيج للحكومة إلى أن أنشأ مسيو "قاسار" مدرسة جامعة للبنات ومرصداً فلكياً فيها فجعلت مديرة لهذا المرصد وأستاذة لعلم الهيئة في المدرسة المذكورة وهي الآن عضو في مجمع العلوم الأميركي. وفي جمعية الفنون والعلوم ولها تأليفان الواحد في أقمار زحل والثاني في أقمار المشتري, ورصود معتبرة في النيازك, وعبور الزهرة. وقد بلغت فوق السبعين من عمرها وكلل الشيب رأسها ولكنها لم تزل تراقب الأفلاك وتعلم بنات نوعها مراقبتها ومشاركة الرجال في أسمى المطالب العلمية. ماريا مورغان الأميركية ولدت في جنوب إرلندا سنة 1828 م من أبوين من ذوي المقامات الرفيعة, وربيت على ظهور الصافنات الجياد منذ نعومة أظافرها, فلم تناهز العاشرة حتى صارت تسابق الفرسان وتكسب الرهان, ثم توفي أبوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 فانتقلت أملاكه كلها إلى بكره بحسب شريعة البلاد, فاضطرت أن تسعى لنفسها في طلب رزقها وكان لها أخت أصغر منها تعلمت فن التصوير وأرادت أن تتقنه في مدينة رومية -أم المصورين ومرضعتهم- فذهبتا إليها سوية, وتعرفت هناك "بهربت هوسمر" النحات الأميركي وكان نزيلاً في رومية, وعنده كثير من جياد الخيل, فجعلت تركبها وتروضها حتى ذاع صيتها في بلاد إيطاليا. ولما مضى عليها سنتان في رومية قصدت مدينة فلورنسا, وكانت كرسي ملوك إيطاليا فدعاها الملك "فكتور عمانوئيل" إليه ورحب بها وأجلسها بجانبه وجعل يحدثها بأمر الخيل فرآها من أعرف الناس بها فأقامها مديرة على الاصطبلات الملكية وبقيت في هذا المنصب العالي سنين كثيرة, وكانت تذهب إلى إنكلترا وإيرلندا من وقت إلى آخر لتبتاع له الجياد, وأهداها نجماً من الماس وساعة من الذهب عليها اسمه بحجارة الماس لما رآه فيها من الهمة والاجتهاد. وسنة 1869 م قصدت الولايات المتحدة الأميركية ومعها مكاتيب التوصية من سفير الولايات المتحدة في إيطاليا إلى رجل من أخصائه فوجدت أن الرجل مات فجأة قبل وصولها فسقط في يدها ولم تعلم ماذا تعمل وعرض عليها مدير جريدة التمس التي تطبع في مدينة نيويورك أن تنشئ له ما يكتب في جريدته عن الخيول وأخبارها فترددت في قبول ذلك, ولما لم تجد عملاً آخر يقوم بمعيشتها قبلته, وجعلت تتردد على أسواق الخيل وميادينها وتكتب فيها الفصول الضافية وتصدت لها بقية الجرائد في أول الأمر وسلقتها بألسنة حداد ولكنها عادت فأثنت عليها بما هي أهله لما رأت من بلاغة إنشائها وسمو مدراكها, ولين عريكتها, وواسع خبرتها وأقامت في هذا المنصب أكثر من عشرين سنة, وكانت تكاتب كثيراً من الجرائد العلمية والأدبية واشتهرت ببلاغة الإنشاء وقوة الحجة وكانت ثقة قومها في معرفة الخيول وزارت أوروبا مراراً عديدة وأختها المصورة برفقتها ومنذ عهد غير بعد أخذت تبني داراً كبيرة وكانت تدفع نفقات البناء من المال الذي أحرزته بقلمها وأختها تعتني بنقش الدار وتزويقها ولكن عاجلتها المنية قبل أن تكسنها وهي في الرابعة والستين من عمرها وقد كتبت على جبين الدهر: (لبس دون الرجال النساء) . ماري جان غومرد دوفويريني "كونتس باري" خليلة "لويس الخامس عشر" ولدت في فوكولور من "شمانيا" سنة 1746 م وقتلت في باريس سنة 1793 م كانت بنت خياطة واستخدمت في مخزن بباريس تباع فيه ملابس الرأس, وكانت ذات جمال بارع سلبت فيه قلوب كثيرين من باريس, ومن ضمن من تعلقوا بها الكونت جان دوباري فأوغر إلى بعض خدمه أن يصفها للملك ويذكر له محاسنها ودلالها محاولاً بذلك بلوغ المناصب العالية وجمع ثروة وافرة. فلما نمى خبرها إلى لويس الخامس عشر زوجها بأخي الكونت -المذكور- ثم فتح لها أبواب البلاط الملكي فكانت تدخله كالخواتين الكريمات وسرى حبها في عروق الملك, فتمكن فيها ولم يعتره فتور مدة حياته بطولها أما ما أنفق عليها من خزينة فرنسا فبلغ أكثر من خمسة وثلاثين مليون فرنك أمدت بجانب منها أقرباءها وأصدقاءها, وتصدقت بجانب آخر على الفقراء كفارة عن إثمها, وكانت تتداخل في مصالح الدولة فحصل لها أهمية كبرى, وهي التي حملت الملك على نفي دوق "سوازول" كبير وزرائه لأنه كان أشد أعدائها وبعثته أيضاً على فض المجلس العالي الذي التأم سنة 1771 م وإبعاد أعضائه غير أن للزمان نكبات فلم يسلم منها من سلك مسلك الغرور. فلما توفي الملك نفاها "لويس السادس عشر" من بلاطه غير أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 سمح لها بالرجوع إلى جناح القصر الملكي الذي بني لها في "لوسيانة" قرب "فرساليا", فأقامت فيه مع دوق برتياله عشيقها وكانت عيشتهما عيشة تنعم. وسنة 1792 م سافرت إلى إنكلترا ولما رجعت منه ألقي عليها القبض سنة 1793 م بدعوى اختلاسها الأموال ومؤامرتها على الجمهورية, ولبسها ثوب احلداد في "لوندرة" على العائلة الملكية, فحكم عليها بالقتل, وكانت قد تشددت مدة المحاكمة غير أن عزيمتها خارت في طريقتها إلى دكة الدم واستمرت إلى آخر دقيقة من حياتها تسأل العفو بكلام يدعو إلى الشفقة فلم يغن عنها ذلك شيأ وكانت ساعدت بعض الشعراء وقربتهم واقتبست منهم بعض معارف, واستعانت بها على مقاصدها. وبالجملة كانت بارة بالفقراء والمساكين. ماري أنتوانت ابنة دوق توسكا من مارياتريزيا ولدت سنة 1755 م, وتزوجت وهي في السادسة عشرة من عمرها بولي عهد فرنسا "لويس السادس عشر" وكانت حينئذٍ على غاية البساطة وصفاء النية, محبة للمزح, أنيسة العشرة بعيدة التأنف والرسوم المرعية في قصور الملوك وسمي زوجها ملكاً على فرنسا سنة 1774 م, وكان ذلك بدأة أتعابها فكرهها الشعب الفرنساوي واتهمها بدسائس عديدة لم يقدر أن يثبت واحدة منها, وكانت هفواتها العظيمة حب الفخفخة والولائم والمسرات, وقصورها عن إدراك ويلات البلاد ومصائبها. قيل: إنها رأت الفقراء يتضورون جوعاً فقالت: إني أحزن لفقرهم فإذا لم يكن لهم خبز يأكلونه فليأكلوا كعكاً وكان الفرنساويون يزدادون بغضاً لها وعداوةً, واتهموها بسرقة أموال البلاد وإنفاقها على ما لا فائدة منح وهجم جمهور من رعاعهم على قصر فرساليا بقصد قتلها, وطلبوا أن تخرج إليهم فخرجت بشجاعة وثياب يندرو جودهما في مثل تلك الأحوال, وأمسكت بيدها ولي العهد ابنها الطفل فلم يجسر أحد أن يرميها بشيء مخافة أن يصيبه. وكان ذلك سبب نجاتها ثم أرادت مصالحة الأمة فزارت بعض المعامل وأظهرت سرورها من تقدم الصناعة فيها, وبينت اهتمامها بأحوال الشعب غير أن الخرق كان اتسع على الراقع فازداد الفرنساويون بغضاً وكرهاً لها, ولما رأت متهم ذلك صممت على الهرب من البلاد هي وزوجها فمانعها زوجها حاسباً أن هربه في تلك الأحوال ضرب من الخيانة لبلاده. وكان شريف النفس أبيها, محباً للأمة لا يشوبه إلا ضعف الهمة. وفي أحد الأيام هجم البعض عليه وأوقفوا مركبته فساءه ذلك وحسبه تعدياً شخصياً, فهرب مع عائلته في 20 يونيه سنة 1791 م ولسوء حظه أمسك في فاران وأرجع أسيراً إلى باريس, وراد هياج الشعب ضد الملكة واتهموها بدسيسة مع النمسا, وقويت حجة فرنسا وبعد عراك طويل ومعاناة أخطار شتى أظهرت أثناءها شجاعة غريبة وقوة نادرة, وعزماً وحزماً تقصر عنهما الرجال حكم عليها المجلس بالقتل في 15 أكتوبر سنة 1793 م وأنفذ الحكم في اليوم الثاني وذلك بعد ما قتل زوجها بثمانية أشهر. وهكذا انتهت حياة هذه الملكة الفريدة التي فاقت الرجال عزيمة وثباتاً, وقاسمتهم الأتعاب والمشاق. ماري ستوارث ابنة يعقوب الخامس دوق سكوتلانده هي شهيرة عصرها جمالاً ونجابة, وزينة العالم الغربي علماً ومهابة. ولدت سنة 1542 م من زوجته "ماري دي لورين" التي ماتت بعد ولادتها بثمانية أيام. وفي سنة 1558 م تزوج بها "روفان" الذي تولى تخت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فرنسا باسم فرنسيس الثاني, ثم مات عنها بعد سنة ونصف فعادت إلى بلادها حزينة, وهناك ودعت فرنسا بأبيات هي غاية في الرشاقة واللطف تعريبها ما يأتي. "وداعا يا فرنسا الأنيقة يا بلادي التي رشحت صباي والتي فيها مشتهاي, وداعاً يا أمي الغراء في مملكة العز والصفاء إن الفلك الذي فصلني عنك لم يفصل سوى شطري, وأما الشطر الآخر وهو ملك سأتركه في مغناك ذريعة لذكراك". وكان تغاليها في الاستمساك بالمذهب اللاتيني الذي كان استبدله قومها بمذهب لوثير جعلها بغيضة لدى الأهليين, فرأت أن تتزلف إليهم بزواجها بابن عمها "هنري" الذي لم يكن له من مزية سوى بسطة في جسمه ومسحة في جمال وجهه, فزفت عليه سنة 1565 م وكان لئيماً غيوراً فاتهمها بحب كاتم أسرارها "داود بيز يوالا يتالي" الذي كان جميلاً فتاناً وموسيقياً شهيراً, فهجم عليه ليلة من باب خفي في قصرها, ولما رآه يعزف أمامها اشتعل حسداً وغيرة, فقتله غيلة عند الباب الخارجي. وفي سنة 1567 م هلك "هنري" بكيفية تجلب الشك في أمر موته, فاتهمت به, وعقيب ثلاثة أشهر تزوجت بلا تدبر في العواقب بالكونت بوتويل الذي قيل عنه إنه المجهز بأمرها على زوجها, فهاج فعلها هذا القوم فاتهموها بالخيانة والفاحشة, وزجوها في معقل "لوس ليفان" وساموها جحد مذهبها علناً فأبت ولبثت سجينة حيثما تمخضت عن ولدها "جمس الأول" الذي وحد مملكتي "سكوتلاندا" والإنكليز, ثم حاولت الفرار فتدلت من شرافة عالية ونجت بنوع عجيب, وكتبت إذ بئست من الملك مستجيرة بابنة عمها الملكة "اليصابات", وذلك سنة 1578 م, فاستقدمتها بأمان ولما رأت ما أوتيت من محاسن الذات والصفات أضمرت لها شراً وحسداً. ثم افترت عليها أموراً منها أنها قتلت زوجها فأودعتها سجناً ضيقاً مكثت فيه 18 عاماً اتخذت في خلالها وسائل جمة للخلاص فلم تفلح, ومن تلا نبأ سجنها وما لقيت فيه من الضر والنكد لا يكاد يملك عبراته حزناً ووجداً, ولو كان فؤاده حجراً صلداً, ولم يكف "أليصابات" ذلك حتى اتهمتها ظلماً ولؤماً بأنها عاونت فريقاً من أهل مذهبها على إهلاكها, فخفرت ذمتها وحكمت عليها بالموت. ثم أمرت الأمير "بيل" وكان من أشد الناس عداوة لماري بأن يزورها في السجن وينذرها بوشك القتل, فسار مع فريق من الأمراء وأبلغها الرسالة بلسان أمر من الصبر وفؤاد أقصى من الصخر, فأجابته متجلدة: إني لست من رعية ابنة عمي فكيف تأمر بقتلي وإذا كان رضاها بموتي فأهلاً به إلا أن نفساً لا تسمح لجسم بأن يتحمل ضربة جلاد فهو إذن غير جدير بنعيم الملك الجواد. ثم دعت قسيسها وكانوا قد حالوا بينهما فقال لها بعض النبلاء: لو فوضت أسقفاً لوتيريا لكان أقرب للتقوى. فأبت وكان أمير "كنت" متحمساً في البروتستانية فقال: إن حياتك لدينا موت وموتك حياة لنا. ولما انصرفوا أمرت بالطعام وتناولت قليلاً منه على عادتها وحانت منها لفتة فرأت خدامها يبكون. فقالت لهم: كفوا يا أخوتي وافرحوا بانطلاقي من هذا العالم عالم الشقاء, ثم شربت بعد العشاء على أسمائهم رجالاً ونساء فشربوا معها ركعاً وقد مزجوا شرابهم من عيونهم بماء والتمسوا عفوها فعفت عنهم واستعفتهم عنها ثم كتبت وصيتها ووزعت بينهم حلاها وألبستها, وكتبت إلى ملك فرنسا رسائل وصاة في حق جميع حاشيتها ثم تودعت من النوم بالغرار, وأحيت سائر ليلها بالتهجد والاستغفار. ولما ألقت الغزالة لعابها جاء أمر في طلابها وكان النهار صاحياً, ووجه السماء ضاحكاً ضاحياً, فلبست أبهى ثيابها وأسدلت عليها رداء من كتان, وخرجت على الفور وسجتها في بنانها, وعلى محياها الصبيح الوقور سمات الخفر والتجلد وكان المجد والإجلال يسيران في خدمتها. ولما بلغت مقتلها استقبلها الأعيان والأمراء وبينهم خادمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 "ملفن" يشرق بالبكاء فقالت له: رويدك يا "ملفن" وكفاك نحيباً فإنك عما قليل ترى ماري معتوقة من قيد أحزنها فقل لأهل سكوتلاندة إني أموت كاتوليكية حافظة لفرنسا وسكوتلانده عهدي. إلهي اغفر لمن ظمئ إلى دمي كما تظمأ الإبل إلى الماء. إلهي إنك تعلم سرائري وخفايا ضمائري فبرئني عند ابني اليتيم أو ألهمه أن حياتي لم تدنس حرمته, ولم تشن مملكته. إلهي وفقه إلى أن ينهج مع ملكة الإنكليز منهج صدق ووداد إنك لغفور سميع جواد. ثم ذرفت مدامعها ككريات من الماس تقذف من لجين وتدحرج على صفحتي لجين, وودعت خادمها الوداع الأخير فاندفع في البكاء حتى تولاه الإغماء, ثم التفتت بجلالها إلى الأمراء ورغبت إليهم أن يساعدوا خدمتها على إحراز مالهم من وصيتها, وأن يمكنوهم من القيام حولها ساعة قتلها فتجافي أمير "كنت" عن مطلبها الثاني لوساوس شيطانية فقالت له: لا تخف دركاً من هذه النعاج الوديعة الوريقة التي لا مأرب لها إلا التملي مني بهذا الوداع الأليم, وعندي أن حبيبتي لا تمنعني ذلك كيف لا وأنا ملكة أيضاً وابنة ملك, وزوجة ملك, وأقرب الناس إليها والله يعلم أنني أقول ذلك بقلب سليم وضمير مستقيم, فلبوها حينئذٍ وسار أمامها الأمراء وخادمها الخاص وراءها رافع رداءها حتى إذا بلغوا المذبح استوت على أريكة سوداء فتلى أمر قتلها فسمعته بإصغاء. ثم حاول الأسافقة أن يميلوا بها عن مذهبها, فأجابتهم: إني أموت على ما ولدت. فطلب الأمراء أن يشتركوا معها في الصلاة والدعاء فقالت: لكم دينكم ولي دين. ثم جثت وأخذت تصلي باللاتينية فتابعها خدمتها, ولما فرغت كررت الاستغفار عن الملكة والدعاء لابنها فتقدم الجلاد مستسمحاً فأجابته مسامحة, ثم نزع عنها خدامها رداءها الأعلى باكيات نائحات فقابلتهن بالصبر وكف العبرات, ثم غطت وجهها بقناع أسود واستوت على الخشبة قائلة: إلهي استودعتك روحي واستقبلت الموت. بعزمة بعثتها همة زحل ... من دونها بمكان الأرض من زحل فتقدم الجلاد وقطع هامتها فهتف الأسقف: هكذا لتهلك أعداؤنا. ثم حنطت جثتها ودفنت باحتفال في كنيسة "بيتير بورغ" وصنع لها في باريس مأتم حافل, وكان لها من العمر يوم قتلها أربع وأربعون سنة وشهران, وما زال رسمها محفوظاً فوق سريرها في "أيدنبورغ" قاعدة سكوتلاندة ولها رسم آخر في محبسها الأول محفوظاً مع تاج الملك والسيف والصولجان, ووسام وخاتم ياقوتي فصه أكبر من البندقية, وقد ألف مشاهير الكتبة بحياة "ماري" وبراءتها روايات كثيرة شعراً ونثراً تركوها بهدها للناس أمثولة وذكرى. إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء وكتبت إلى "أليصابات" وهي في سجنها تقول من "ماري ستوارث" إلى "أليصابات" ملكة إنكلترا لقد برح الخفاء أيتها السيدة وظهرت عقبة من يتكل على عدلك في حفظ الذمام وكرم الأخلاق وقد تبين لي أن المستجير بك عند البلاء كالمستجير بالنار من الرمضاء. فعلام لا تقابلنني ولأي ذنب تلقينني في السجن وقد كنت آمل أن أرتع عندك في القصور المنيعة, ولماذا لم أر منك إلا الضغينة والبغضاء عوضاً عن المودة والولاء. وهل السجون والقبور لمثل "ماري ستوارث" حتى يحكم عليها مجلسك بها. وعلى أي ذنب بنوا حكمهم ووافقتيهم عليه يا ترى أساءك مني أن معتقدي يخالف معتقدك وإني لست لبنة كنيستك؟ أو تعدين هذا ذنباً سياسياً حتى انقضت علي من أجله منتقمة متشفية على حين سلمت نفسي إليك, وألقيت أمري بين يديك وقلت: خذوها فغلوها. آه لقد قضى أهل المروءة فواحر قلباه. وآخر ما أقوله أيتها السيدة: إنك إذا كنت لا تنظرين في سوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 حالي وشدة مصابي فتنازلي وانظري بعض النظر في مقامي واعلمي أن في "ماري ستوارث" خلفاً وأي خلف لعرش "اسكتلانده" إنما أنا عالمة أنك تقصدين التنكيل بي, وأعلم السبب الداعي إلى ذلك ولكنني لا أخاف تنكيلاً, ولا أرهب وعيداً ولا تهديداً فإن "أليصابات" لم تعرف بعد أي عظيمة ضمها صدر "ماري ستوارث" فسأتحمل الظلم بنفس راضية دون أن أفوه ببنت شفة مكتفية بأن لي رباً ينصف المظلوم من الظالم وهو الذي يشيد الممالك ويقوضها, ويرفع الملوك ويخفضها, فليهنأ لك الملك يا "أليصابات" ولتقر عينك به وقد خلا لك الجو فاملكي واسرحي وامرحي, ولكنني أذكرك في الختام أن لا تحكمي بغير العدل والإنسانية والسلام. فأجابتها أليصابات بما يأتي: إنني لا أقابلك أيتها السيدة حتى يبيض فوداك وتصفر خداك من سجون إنكلترا وأنت لا تتركينها ساعتئذٍ إلا لتمثلي رواية محزنة يكون لك فيها الدور الأول والسلام. ماري دوارليان وهي ابنة الملك "لويس فيلب الثاني". ولدت في بالرمو سنة 1813 م وتزوجت سنة 1837 م بألكسندر دوق دوود تمبرغ, وتوفيت سنة 1839 كانت مغرمة بالفنون المستظرفة ولاسيما صناعة الحفر ومن محفوراتها تمثال جان دارك حفرته, ولها من العمر20 سنة, وهو الآن في قاعة التحف في "فرسالياه" وقد حفرت تماثيل أخرى وصورت صوراً كثيرة ظريفة جداً. مادام بلانشار كانت من اللواتي اشتهرن بفن البالون أي المركبة الهوائية وكان زوجها "بلانشار" قد سقط ثروته وخسر كل ما كان قد جمعه فأمسى فقيراً حتى إنه قال لها وهو على فراش الموت: إنه لا يرى لها فرجاً بعد موته إلا بأن تقتل نفسها شنقاً أو غرقاً. ولكنها صممت على المسير في السبيل الذي كان زوجها يسير فيه وبناء على ذلك شرعت في الصعود في الهواء وغير ذلك, فصعدت مراراً كثيرة ونجحت كل النجاح, وأتقنت العمل وتشجعت حتى إنها كانت تعرض نفسها لأخطار كثيرة, وكانت هذه المخاطرات واسطة لتشديد رغبة القوم في التفرج على أعمالها وبالنتيجة كانت تزيد مداخيلها المالية وكثيراً ما كانت تصادف من المخاطر ما كان يكاد يأتيها بالهلاك, وصعدت مرة فأملت منها عنان مركبتها فسقطت بها إلى مكان موحل يغرق من سقط فيه فتعلقت المركبة في الأشجار. وكانت تندفع من مكان إلى مكان بشدة مخيفة حتى ظن القوم الذين كانوا يتفرجون عليها أنها تهلك إذا لم يبادر أهل القرى المجاورة لتخليصها, أما عدد صعودها في الهواء صعوداً عمومياً فكان بين الخمسين والستين مرة, وكانت في كل مرة تعمل أعمالاً تختلف عن التي عملتها في غيرها. وفي سنة 1819 م للميلاد صممت على أن تقيم وهي طائرة في المركبة أعمالاً نارية كالتي يقيمونها في الأفراح والأعياد والولائم, وكانت تربط الأسهم النارية في المركبة بحيث تقدر أن تشعلها بقضيب طويل في رأسه نار مشتعلة, وكانت تشعلها وتقطع الرباط فتقع مشتعلة إلى أسفل فيراها المتفرجون, هذا ومعلوم أن من أغرب الأعمال التي عملها بشر هذا العمل الذي كانت تتجاسر أن تعمله امرأة لأنها كانت تصعد إلى الهواء وتبعد عن الأرض ألوفاً من الأقدام بواسطة مادة قابلة جداً للاحتراق, وموضوعة في ظرف رقيق قابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 للاحتراق أيضاً وتأخذ في إشعال البارود وغيره من المواد السريعة الاشتعال بقضيب طويل مشتعل. وكان البعض ينظرون إلى ذلك بعين الخوف لأنهم كانوا يعلمون أن شرارة واحدة من القضيب المشتعل الرأس أو من المواد التي كانت تحرقها كافية لحرق تلك المركبة الكبيرة إذا وصلت على الهيدروجين الذي كان يرفعها, وهكذا حدث فإن النار اشتعلت فاشتعل أسفل المركبة فأخذت تسقط بسرعة, ثم احترقت الحبال التي كانت تربط مجلس المركبة وسقط فسقطت ما دام "بلانشار" على سطح من سطوح بيوت المدينة ومنها على الأرض فماتت حالاً. المتجردة هند زوجة المنذر بن ماء السماء كانت من أعظم نساء العرب جمالاً فلما مات عنها أخذها ولده النعمان فكان يجلسها مع نديميه النابغة والمنخل, فشغفت بالمنخل وامتزجا حباً فأمر النعمان يوماً النابغة أن يصفها فقال: وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد وإذا نزعت نزعت عن مستحصف ... نزع الحزور بالرشاء المحصد فقال المنخل: إن هذا وصف معاين وحرض النعمان على قتله فهرب وكان عفيفاً فلما خرج النعمان إلى الصيد رجع بغتة فوجد المتجردة مع المنخل وقد ألبسته أحد خلخاليها, وشدت رجله إلى رجليها فقتله وللمنخل فيها أبيات منها: إن كنت عاذلني فسيرى ... نحو العراق ولا تحوري ولقد دخلت على القتا ... ة الخدر في اليوم المطير والكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت ... مثل القطاة إلى الغدير فلثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير فرثت وقالت هل بحبك ... يا منخل من فتور ما شف جسمي غير حبك ... فاهتدى عني وسيري وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فأنني ... رب الشويهة والبعير يا هند هل من ناهل ... يا هند للعاني الأسير متيم الهشامية كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة وبها نشأت وتأدبت وغنت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله, وعن طبقتهما من المغنين, وكانت من تخريج بذل المغنية وتعليمها لها وعلى ما أخذت عنها تعتمد فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك فما ازدرت أحداً ممن كان يغشاه من المغنين, وكانت من أحسن الناس وجهاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وغناء وأدباً وكانت تقول شعراً مستحسناً من مثلها, وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت عنده على جواريه أجمع, وهي أم أولاده كلهم, فولدت له صفية -وتكنى أم العباس- ثم ولدت محمداً ويعرف بأبي عبد الله, ثم ولدت بعده ابناً يقال له: هارون ويعرف بأبي جعفر, سماه المأمون وكناه, بهذا الاسم والكنية قال: ولما توفي علي بن هشام عتقت. وكان المأمون يبعث إليها فتجيبه فتغنيه, فلما خرج المعتصم على "سر من رأى" أرسل إليها فاستخلصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد على ولدها فتزورهم, ثم ضم غليها قلم وهي جارية لعلي بن هشام. قال الحسن بن إبراهيم بن رياح: سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة. قال إسحاق قلت: ثم من؟ قال: علوية. قلت: ثم من؟ قال: متيم. قلت: ثم من؟ قال: أنا, فعجبت من تقديمه متيم على نفسه, فقال: الحق أحق أن يتبع. وكانت متيم جالسة بين يدي المعتصم ذات يوم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم: لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدوا إذا ما النجم لاحت لواحقه فأشار غليها إبراهيم أن تعيده فقالت ميتم للمعتصم: يا سيدي, إبراهيم يستعيدني الصوت وكأني أراه يريد أن يأخذه. فقال: لا تعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضراً مجلس المعتصم ومتيم غائبة, فانصرف إبراهيم بعد حين على منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق فسمعها تغني هذا الصوت, فضرب باب المنظرة بمقرعة. وقال: قد أخذناه بلا حمدك, وكان المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجباً, فدفعه عن ذلك ولم يكن له منها ولد وقتئذٍ فلما ألح المأمون في طلبها حرص على أن تعلق منه حتى حملت ويئس المأمون منها فيقال: إن ذلك كان سبباً لغضبه عليه حتى قتله. وقال علي بن محمد الهشامي: إنه أهدى على علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجباً وكان إسحاق يرغب فيه رغبة شديدة وعرض لعلي يطلبه مراراً فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوماً يعقب صنعة متيم في هذا الصوت. فلا زلن حسرى ظلعاً كم حملنها ... إلى بلد ناء قليل إلا صادق فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له: بكم تشتري مني هذا الصوت؟ فقال علي بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك! قال: قد أخذته الساعة وأدعيه, فقول من يصدق قولي أو قولك فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن تهبني البرذون وتحملني عليه وأما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته قال: علي يؤخذ قولك ويترك قولي لا والله ما أظن هذا ولا اراه يا غلام قدم هذا البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله لك فيه. وكلم ابن هشام متيم يوماً في كلام فأجابته جواباً لم يرضه, فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتناقلت عن الخروج غليه فكتب إليها: فليت يدي بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكف وساعد فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التنادي بعائد فصنعت له لحناً وخرجت غليه وصالحته وغنته الصوت. وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فقال الدلال: يدعو إلى الملال, ورب هجر دعا إلى صبر, وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه, ولقد صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 العباس بن الأحنف حيث يقول: ما أراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران قد حدا بي على الجفاء وفائي ... ما أضر الوفاء بالإنسان فخرجت إليه من وقتها وقال الهشامي: كانت متيم تحبني حباً شديداً محبة الأخت لأخيها, وكانت تعرف أني أحب النبق, فبينما أنا جالس في داري في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق فقيل: من هذا؟ فقالوا: خادم متيم يريد أن يدخل إليك. فقلت: يدخل, فدخل ومعه صينية فيها نبق, فقال لي: إن متيم تقرئك السلام وتقول لك: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله فجاءه نبق من أحسن ما يكون فأمر أن يوضع في صينية ويقدموها إلى متيم ففعلوا فأمرتني أن آتي بها إليك ودفعت إلي كمية من النقود حتى أدفعها إلى الحراس ليخرجوني بها وها هي عند المعتصم. ووفدت على علي بن هشام جدته من خراسان فقالت له يوماً: اعرض علي جواريك. فعرضهن عليها ثم جلس على الشراب وغنت متيم وأطالت جدته الجلوس, فلم ينبسط ابن هشام إليهن كما كان يفعل فقال هذين البيتين: أيبقى على هذا وأنت قريبة ... وقد منع الزوار بعض التكلم سلام عليكم لا سلام مودع ... ولكن سلام من حبيب متيم وكتبها في رقعة ورمى بها إلى متيم فأخذتها ونهضت إلى الصلاة ثم عادت وقد صنعت فيه لحناً فغنت فقالت: شاهك وهي جدة ابن هشام وما أرانا ألا قد ثقلنا عليكم اليوم وأمرت الجواري فحملن محفتها وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم. ومرت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد قتله, فلما رأت بابه مغلقاً لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت وقالت: يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنني ... أبكيت عيني فيك وإذ ولى قد كان لي فيك هوى مدة ... غيبه الترب وما هلا فصرت أبكي جاهداً فقده ... عند ادكاري حيثما حلا فالعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى ثم سقطت من قامتها وجعل النسوة يناشدنها ويقلن: الله الله في نفسك فإنك لا تؤاخذين الآن فبعد كل جهد حملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع. وقالت متيم: بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد فذهبت غليه فأمرني بالغناء فغنيت: هل مسعد لبكاء ... بعبرة أو دماء وذا لفقد خليل ... لسادة نجباء فقال: أعد لي عن هذا البيت إلى غيره فغنيته غيره عن معناه فدمعت عيناه وقال: غني غير هذا فغنيته. أولئك قومي بعد عز ومنعة ... تفانوا وإلا تذرف العين أكمد فبكى وقال: ويحك لا تغني في هذا المعنى شيئاً فغنيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 لا تأمن الموت في حل وفي حرم ... إن المنيات تفني كل إنسان واسلك طريقك هو لا غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يجني لك الجاني فقال: والله لولا أني أعلم أنك غنيت بما في قلبك لصاحبك وإنك لم تنذريني لمثلت بك ولكن خذوا بيدها فأخرجوها فأخرجت. ولما مات علي هشام جاء النوائح فطرح بعض من حضر من مغنياته عليهن نوحاً من نوح متيم, وكان حسناً جيداً فأبطأ نوح النوائح التي جئن لحسنه وجودته, وكانت زين حاضرة فاستحسنته جداً وقالت: رضي الله عنك يا متيم كنت علماً في السرور, وأنت علم في المصائب. وماتت متيم هي وإبراهيم بن المهدي وبذل في آن واحد, وكانت للمعتصم جارية ذات مجون فقالت: يا سيدي, أظن أن في الجنة عرساً فطلبوا هؤلاء إليه فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره, فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة فقال: ما هذا؟ فأخبر عنه, فدعا بها فقال: ما قصتك؟ فبكت وقالت: يا سيدي احترق كل ما أملكه. فقال: لا تجزعي فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس. مرغريتا الفرنساوية ملكة إنكلترا هي "مرغريتا أف أنجو" زوجة "هنري السادس" كانت من النساء العاقلات العالمات بضروب السياسة والأحكام, تربت تربية مجد وشرف. ولما اقترن بها "هنري السادس" استحوذت على قلبه وملكت الشعب الإنكليزي بحسن سياستها وتدبيرها ملكاً لم يسبق لغيرها من الملكات قبلها وكانت ظالمة عاتية على المذنبين لديها. وكان زوجها حليماً قليل الهمة سليم الطباع لا يلاقي الحوادث بقوة ونشاط حتى نشأ من سبب ضعفه وعدم اقتدار "مرغريتا" بمفردها على تدبير المملكة رجوع عائلة "بورك" على ما كانت تدعيه سابقاً من حقوق التملك, وكان كبار حزب "لنكستر" وهم: الكردينال "بوفورت", ودوق "دولدفورد", ودوق "دوغلوستر" الذين دبروا الملك لما كان "هنري السادس" قاصراً قد توفوا عن آخرهم فقام "رتشرد" دوق "بورك" وهو والد "إدوارد الرابع" وأخذ يظهر بكل رفق ودقة حقه في الملك فعضده في ذلك أرل "ورويك" وارل " سلزيري". وكان من أعيان إنكلترا الأقوياء فجرد السيف لمقاتلة "سمرست" آخر الأشراف الكبار من عائلة "لنكستر" فانتصر في "سنت البنس" سنة 1455 م, وكان ذلك الانتصار بداية الحرب بين حزب "وردة لنكستر الحمراء" وحزب "وردة بورك البيضاء" وتقلبت الأحوال على "رتشرد" فكان ينجح مرة, ثم يصادف فشلاً مرة أخرى إلى أن كسرته الملكة "مرغريتا" وذبحته في "ويكفيلد" سنة 1460 م فتقلد ابنه "إدوارد" رياسة جيش موات من سكان حدود "ولس" ومن سكان الجبال وهزم عساكر جرارة تحت قيادة ارل "بميروك" وارل "أرمند" بالقرب من "هردفرد". ثم سار إلى الجهة الجنوبية وأتي لنجدته ارل "ورويك" الذي انكسر في برنت فسار إلى لندن فدخلها من دون ممانعة, واستمال إليه الناس بحداثة سنه وجراءته وجماله, وأقره المجلس العالي على تخت الملك في 4 آذار (مارس) سنة 1461 م, فصار للمملكة ملكان وجيشان ملكيان مختلفان في البلاد, واستعد الفريقان للقتال كل الاستعداد واجتمع في "توتون" بالقرب من "بورك" 100 ألف مقاتل من الإنكليز من كلا الفريقين واصطفوا للقتال وقر الرأي على أنه لا يعفى عن أسرى الحرب. وانتدأت الموقعة في 29 آذار (مارس) سنة 1461 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 والمظنون أنها أشد موقعة جرت في إنكلترا فإنها دامت أكثر من يوم وقتل فيها 30 ألف رجل, وانكسر حزب "لنكستر" الذي كانت قائدته الملكة "مرغريتا" انكساراً تاماً, وثبت الملك "لإدورد الرابع" فسافرت "مرغريتا" إلى فرنسا, وطلبت مساعدة ملك الفرنسويين. وفي سنة 1464 م رجعت إلى "اسكوتسيا" بخمسمائة مقاتل من الفرنسويين, واجتمع إليها قوم من الاسكوتسيين فأضرمت نار الحرب وجرى لها مع اللورد "مونتا كيوت" الجنرال الإنكليزي موقعة بالقرب من "هكسام" فدارت عليها الدائرة وأسر الملك هنري زوجها وكثيرون من الرؤساء والقواد, وأما هي فهربت إلى فرنسا أيضاً وذبح إدوارد أعداءه ذبحاً ذريعاً في أوائل الانتصار. ثم عمد إلى الحلم والرفق بالرعية, وانتهز فرصة غياب "مرغريتا" فأطلق لنفسه العنان, وتزوج سراً بامرأة اسمها "إليزابيت" أرملة السارجون "غراي" وابنة "رتشرد دوفيل" وهو البارون "ريفرس" وكان قد قابلها في بيت أبيها وهو في العيد في غابة غرفتون وفي شهر أيلول (سبتمبر) أعلن جهاراً أنها زوجته وملكة إنكلترا, ووجه إلى أبيها لقب أرل فساء هذا الاقتران أرل "ورويك" العاتي المتكبر لأن "إدوارد" كان يود أن يقترن بالبرنسيس بونه دوساقوا عهد إليه مخابرتها بذلك واستمالتها إليه فنجح في مخابرته فكان من "إدوارد" ماتقدم فكبر الأمر على الأرل واستعظمه واتحد مع شقيق "إدوارد" -وهودوق كلارنس- وجاهر بالعصيان سنة 1469 م. فظهرت في الحال نتيجة اتحاده مع أشراف البلاد وأكابرها غير المرتضين بتصرفات "إدوارد" وامتدت الثورات في كل جهات البلاد وجند "روبين" من رد سذال في كونيتة بورك 60 ألف مقاتل وشهر الحرب فسار إليه "إدوارد" وكان "ورويك" قد ذهب إلى فرنسا فاستمال إليه لويس الحادي عشر وصالح "مرغريتا" عدوته القديمة, ورجع إلى إنكلترا بعساكر قليلة, فنزل في "درتموت" ولم يمض إلا أيام قلائل حتى صار عنده 60 ألف مقاتل ونيف لأن الشعب كان يحبه كثيراً فتقدم إلى الشمال, وكان تقدمة سبباً لانحلال عزائم الجنود الملكية فهرب إدوارد إلى هولاندة سنة 1470 م, وأخرج خصمة من القصر الذي كان محبوساً فيه, فسمع الناس في أزقة لندن وشوارعها تضج مرة أخرى بذكر اسمه والتأم المجلس العالي بأمر الملك الجديد فحكم فيه على "إدوارد" بأنه غاصب وصادف المتحزبون له إهانة واحتقاراً نقضت كل الأعمال التي جرت في أيامه وكانت سطوة "مرغريتا" في الشعب الإنكليزي نافذة, وأحزابها كثيرون, وكلما أرادت الثورة تجد من يساعدها وآلت على نفسها أن لا تدع إنكلترا في راحة ما دامت على قيد الحياة, ولذلك صارت تلقي الدسائس والفتن, وكلما سمعت بثورة كانت أول من بادر إليها إلا أن دوق برغنديا كان يساعد "إدوارد" سراً فجمع "إدوارد" جيشاً من الفلمنك في مدة قصيرة, وسار بهم إلى "رافنسبور" وتقدم إلى داخلية البلاد متظاهراً أنه لم يأت إنكلترا إلا للحصول على الأملاك التي ورثها من آبائه. وكان يوصي رجاله بأن يصرخوا قائلين: فليعش الملك هنري إلى أن وردت إليه نجدات كافية لمقاتلة أعدائه فجاهر بالعدوان, والتقت العساكر في برنت في 14 نيسان (أبريل) سنة 1471 م فدارت الدائرة على اللنكستريين, وقتل "ورويك" فاستولى "إدوارد" على لندن مرة ثانية, وقبض على "هنري" أيضاً وأرجعه إلى الحبس. وفي تلك الأثناء خرجت "مرغريتا" من فرنسا وأتت إنكلترا مع ولدها "إدوارد" وكان له من العمر 18 سنة, فنزلت في "ويموت" بجيش فرنسوي في نفس النهار الذي جرت فيه موقعة برنت وحدث بينها وبين دوق "سر مرنت" قتال في "تيوكسبري" في 4 أيار (مارس) سنة 1471 م, فانكسرت جنودها وقتل ابنها, وأسرت هي. فبقيت في الأسر خمسة سنين إلى أن افتداها ملك فرنسا. أما زوجها الملك "هنري" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 فمات في الحبس بعد تلك المعركة بأسابيع قليلة. وفي سنة 1474 م تواطأ كل من "إدوارد" ودوق "برغنديا" على قسمة فرنسا إلى قسمين" أحدهما يشتمل على الولايات الشمالية والشرقية تستولي عليه "برغنديا" والآخر تستولي عليه إنكلترا, فعبر "إدوارد" في مضيق "كاني" بجيش إنكليزي إلا أن دوق برغنديا لم يف بعهده فأرسل لإدوارد تحريراً يعتذر فيه عن قصوره. ولما علمت "مرغريتا" بذلك سعت بكونها عقدت معاهدة ما بين "إدوارد" و"لويس" ملك فرنسا آلت إلى نفع "إدوارد" فإنه تقرر فيها أن لويس يدفع لإدوارد ولكل من كبار رجاله مرتبات سنوية وافرة, وجرت هذه المعاهدة من دون قتال, ثم إن "مرغريتا" أوقعت خلافاً شديداً بين "إدوارد" وأخيه "كلارنس" لأن "إدوارد" منع " كلارنس" بمداخلته من التزوج بابنة دوق "برغنديا" وكانت وارثة الملك بعد أبيها وذات ثروة وافرة وبعد ذلك بمدة وجيزة قتل اثنان من أصحاب "كلارنس" لتهمات كاذبة كان جملتها أنهما ساحران فأخذ كلارنس في تبرئتهما فقتله سراً في شهر شباط (فبراير) سنة 1478 م بدعوى أنه طعن الحكومة وانهمك "إدوارد" في آخر حياته في اللذات والملاهي وأهمل مصالح المملكة وبقيت بعده "مرغريتا" مدة من الزمن حتى ماتت في فرنسا وهي قريرة العين بأخذ ثارها من "إدوارد" حيث نكدت عليه كل حياته وتوفيت بعده بمدة طويلة. مرغريتا دي فالوا هي شقيقة فرنسيس الأول ملك فرنسا ومن أشهر النساء الكاتبات اللواتي نبغن في عهده ولدت في "أنكولبم" سنة 1492 م وتزوجت "بشرل دي فالوا" دوق الأنسون سنة 1509 م, ثم توفي زوجها سنة 1527 م فحزنت عليه حزناً شديداً, وزاد حزنها بما كان وقتئذٍ من أسر أخيها وما ألم بصحته من الاعتلال فسارت إلة مدريد وخاطبت الإمبراطور "شرلكان" ووزراءه في أمره فاضطروا على معاملته بالإكرام لما رأوه فيها من الحزم وعند رجوع فرنسيس الأول فرنسا بقي حافظاً لأخته ذكراً جميلاً وعقد زواجها سنة 1527 م على "هنري دالبريت" ملك نافار فرزقت منه دالبريت والدة "هنري الرابع" وكانت "مرغريتا دي قالوا" مجاهرة بالمحاماة عن البروتستانت فرفقت الشكوى عليها إلى أخيها وحرضت إحدى الجرائد الكاتوليكية أن يبتدأ بعقوبتها إذا رغب في استعمال الهرتقات من مملكته, فتصامم الملك عن استماع ذلك وقال: إن أختي لا تعتقد إلا ما أعتقده ولا يمكن أن تدين بدين يضر بمملكتي, وقد اشتهرت هذه الكاتبة بطيبة القلب ومكارم الأخلاق وحب الفقراء فكانت تحسن بالأموال الطائلة على المستشفيات في "لانسون ومورتاني" وبنت مكاناً للقطاء أطلق عليه اسم الأولاد الحمر, واتصف بجميع المناقب حتى سماها بعض شعراء عصرها بالنعمة الرابعة وعروس الشعر العاشرة. ومن الأمور المقررة التي لا يختلف فيها اثنان أن أشغال هذه الملكة بالمركز الأعلى في مراتب الآداب بين بنات عصرها وإحرازها قصب السبق على جميع كتاب القرن السادس عشر وجمعها بين حدة الذكاء وقوة التصور, ودقة النقد, وشدة الاطلاع. فكأنما هي روض زاهر بالمعارف لا يفوتها شيء من متفرقات الفوائد, وقد نبغت في الشعر والنثر والسياسة واللاهوت, واليونانية والعبرانية, ودرست الموسيقى والهندسة وأتقنتهما وكانت غيورة على العلم تجل شأن العلماء وتحب معاشرتهم, فلا يكاد يخلو اجتماع لها منهم, وقد امتازت بسهولة الكتابة نثراً ونظماً. ومن أشهر مؤلفاتها كتاب اسمه "الهتباتيرون" وهو مجموع حكايات حكمية على نسق " كليلة ودمنة" اتخذه "لافونتين" نموذجاً جرى عليه في تأليف حكاياته الشهيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وانتقى منه المواضيع الأدبية التي بنى عليها كتاباته ويقال: إن "مرغريتا" كتبت القسم الأكبر من هذا الكتاب في هودجها أثناء تجوالها وأسفارها, وكانت تكتب بسهولة وبلا مراجعة كأنها تكتب إنشاء يملى عليها وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب أنه حدثت أمطار وزوابع عظيمة في جبال "ألبيرتيبس" وكان الناس يتقاطرون في كل سنة إلى جهة هنالك ذات ينابيع مفيدة للاستحمام بها والشرب منها طلباً للصحة والعافية فاضطروا أن يهجروها على إثر هذه الزوابع وتراكضوا أفواجاً هرباً من الموت المفاجىء, فسقط بعضهم في النهر فحملتهم المياه الطاغية وأغرقتهم, وهرب آخرون على الغابات فافترستهم الوحوش الكاسرة وانهزم فريق منهم إلى بعض القرى التي بعثوا إليها اللصوص وقطاع الطريق, فسلبوهم أشياءهم, وأوقعوا بهم. أما العقلاء منهم (فلجؤوا) إلى "دير سيدة سيراس" ومكثوا هاك ينتظرون الفرج, وكان قد بوششر ببناء جسر يقطعون عليه النهر, فلما طال أمر بنائه عقدوا العزم على أن يقص كل منهم قصته على رفقائه في كل يوم حتى لا يشعروا بطول المدة التي يقضونها بالانتظار, وهذا الكتاب مجموع القصص المذكور وفيها من الوقائع الأدبية والنكات اللذيذة المفيدة ما يرتاح إليه الخواطر, وقد ألحقت كل قصة من هذه القصص بتأملات لا تقل أهميتها عن بقية المؤلف من حيث إصابة المرمى, وحسن الوضع. أما منظومات هذه الملكة فنذكر منها المجموعة التي طبعت سنة 1547 م وهي تتألف من روايات وأسرار وهزليات, ثم منظومة أخرى اسمها انتصار الحمل ورثاء سجين, وكلها من خيار الأشعار النفيسة, وكانت مولعة بالصنائع والفنون الجميلة فشيدت قصر "ليو", وضمت إليه الجنات البديعة, ثم توفيت في "قصر أودوس" في "التارب" سنة 1549 م. وفي سنة 1550 م كتبت "ملوت سنت مارت" سيرة حياتها وصدرتها بصورت مواعظ في اللاتينية والفرنساوية بعبارة فصيحة جداً, فانتشرت بين الناس وأحرزت شهرة عظيمة ولا تزال إلى يومنا هذا موضوع أحاديث الأدباء وقد نصب لها تمثال في جنة ليكسيمبرج إظهاراً لفضلها وإقراراً بما كان لها من عظمة الشأن بين آل الأدب والعرفان. مريم ابنة عمران ابن ساهم بن أمود بن منشا بن حزقيا بن أحرنق بن يوثان بن عزازيا بن أنصيا بن ناوس بن نوثا بن بارض بن نهناساط بن رادم بن ايبا بن رجعم بن سليمان بن داود عليهما السلام. كان زكريا بن يوحنا وعمران بن ساهم متزوجين بأختين إحدهما: عند زكريا وهي "أليصابات" بنت فاقود أم يحيى. والأخرى: عند عمران وهي حنة بنت فاقود أم مريم وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وعجزت, وكانوا أهل بيت بمكان فبينما هي في ظل شجرة إذ نظرت طائراً يطعم فرخاً فتحركت عند ذلك شهوتها للولد, ودعت الله تعالى أن يهب لها ولداً وقد نذرت على نفسها إن رزقها الله بولد تتصدق به على البيت المقدس, فيكون من خدمته, ورهبانه, فتقبل الله دعاءها وحملت بمريم فحررت ما في بطنها. ولكن لم تعلم ما هو فقالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً عن الدنيا وأشغالها خالصاً لك وخادماً لبيتك المقدس. فقال لها زوجها: ويحك, ماذا صنعت إن كان في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في وهم من ذلك وفي حالة توفي زوجها عمران. فلما أتمت مدة حملها وضعت جارية فقالت: (ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) (آل عمران: 36) في خدمة بيتك المقدس (وإني سميتها مريم) (آل عمران: 36) وكانت مريم أجمل النساء وأفضلهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وأحسنهن, وأنبتها الله نباتاً حسناً. وكانت أخذتها أمها ولفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار كما نذرت على نفسها وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافس فيها الأحبار وكل منهم أراد أخذها وقال لهم زكريا -وكان أكبرهم-: أنا أحق بها منكم لأن عندي خالتها. فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك ولا نسلمها إليك ولكن نقترع عليها ومن خرج سهمه أخذها فاقترعوا فطلعت من سهم زكريا, فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى واسترضعت منها حتى بلغت مبالغ النساء وبنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه مرتفعاً لا يرتقى إليها إلا بسلم فلا يصعد إليها غيره, وكان يأتيها بطعامها وشرابها في كل يوم وكان إذا خرج من عندها أغلق بابها فإذا دخل عليها وجد عندها رزقاً -أي فاكهة- فيقول لها: من أين أتى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله. فلما ضعف زكريا عن حملها خرج إلى قومه وقال لهم: إني كبرت وضعفت عن حمل ابنة عمران فأيكم يكفلها بعدي ويقوم بأداء خدمتها كما كنت أفعل بها. فقالوا: لقد جهدنا وأصابنا من الجهد ما ترى فلم نجد من يحملها فتقارعوا عليها بالسهام فخرجت سهم رجل صالح نجار يقال له: يوسف بن يعقوب بن ناثان وكان ابن عمها فتكفل بها وحملها فقالت له مريم: يا يوسف, أحسن الظن بالله سيرزقنا من حيث لا نحتسب فجعل يوسف يرزقه الله برزق حسن ويأتي كل يوم لها بما بصلحها من كسبه فيدخل 'ليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق فتقول له: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فلما بلغت من العمر خمس عشرة سنة وهي إذ ذاك في خدمة البيت المقدس, وكان اعتراهم يوم شديد الحر نفد فيه ماؤها فأخذت قلتها وانطلقت إلى العين التي فيها الماء لتملأها منها. فلما أن أتت إلى العين وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشراً سوياً فقال لها: يا مريم, إن الله بعثني إليك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أعوذ بالرحمن منك إنك كنت تقياً. قال لها: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) (مريم: 20) قال: (كذلك قال ربك هو على هينٌ) (مريم: 21) . فلما قال لها ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ في جيب درعها وكانت وضعته إليه. فلما انصرفت عنها لبست درعها فحملت بعيسى بإذن الله, ثم ملأت قلتها وانصرفت إلى مسجدها, فلما ظهر عليها حملها كان أول من أنكر عليها ذلك ابن عمها يوسف النجار واستعظم ذلك الأمر ولم يدر ماذا يصنع, وكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة واحدة وإذ أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فلما اشتد ذلك عليه وأعياه الأمر كلمها وقال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على أن أكتمه فغلبني ذلك ورأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت له: قل قولاً جميلاً. قال لها: أخبريني يا مريم هل نبت زرع من غير بذر. قالت: نعم. قال: هل نبتت شجرة من غير غيث. قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر. قالت: نعم, ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر, والبذر يكون من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدته. أو تقول: إن الله لا يقدر أن ينبت شجراً حتى استعان بالماء, ولولا ذلك لم يقدر على إنباته فقال لها يوسف: نعم, إن الله قادر على كل شيء وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون. فقالت له مريم: أمل تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى. فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها من أمر الله وأنه لا يسعه أن يسألها عنه وذلك لما رأى من كتمانها لذلك, ثم تولى خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها وضعف قوتها. فلما أثقلت مريم ودنا نفاسها خرجت من المسجد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 بيت خالتها لتلد فيه. فلما دخلت عليها قامت أم يحيى واستقبلتها وأدخلتها ثم قالت لها: يا إلى مريم, شعرت أني حاملة وأنك أنت أيضاً حاملة مثلي فإني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. ولما أقامت في بيت خالتها أوحى الله إليها إنك إن ولدت بجهة قومك قتلوك أنت وولدك فاخرجي من عندهم. فأخذها يوسف النجار ابن عمها وخرج بها هارباً وقد حملها على حمار حتى أتى قريباً من أرض مصر أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة وكان ذلك في زمن الشتاء, وكانت هذه النخلة يابسة ليس لها سعف ولا كراسيف وهي في موضع يقال له بيت لحم. قال: فلما اشتد الأمر بمريم تضرعت على ربها و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) (مريم: 23) , فنوديت أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (وهزي غليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً) (مريم: 25) . فلما ولدت ونزل الغلام من بطنها ناداها وكلمها بإذن الله تعالى. وقد أجرى الله لها نهراً من ماء عذب بارد ولما يسر الله لها أسباب ولادتها رجعت به إلى قومها وكانت قد غابت عنهم أربعين يوماً فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله, فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وقالوا: (يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كنت أمك بغياً) (مريم: 28) فمن أين لك هذا الولد فأشارت لهم مريم إلى الصبي أن كلموه. فغضبوا وقالوا: (كيف نكلم من كان في المهد صبياً) (مريم: 29) فقال عند ذلك الصبي وهو ابن أربعين يوماً (إني عبد الله ءاتني الكتب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة مادمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) (مريم: 30-33) . فلما شاع خبره بين قومه أراد "هيردوس" ملكهم أن يهم بقتله فأخدهما يوسف النجار وهرب إلى مصر, فأقامت مريم بمصر اثنتي عشرة سنة تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحاصادين إلى أن بلغها أن "هيردوس" الملك قد مات فرجعت هي وابن عمها يوسف النجار إلى أن أتوا إلى جبل يقال له: الناصرة فسكنوا فيه إلى أن بلغ ولدها من العمر ثلاثين سنة, ثم خرجوا إلى قومهم وقيل: إن وفاتها قبل رفع ولدها عيسى -عليه السلام- بست سنين. مدام نكر هي ابنة رجل فقير الحال من خدمة الدين اشتهرت في حداثتها بجمالها وآدابها ورآها المؤرخ "كين" الإنكليزي الشهير, وكان سائحاً في أوروبا فراعه جمالها وذكاؤها, ووقعت منه موقعاً عظيماً, وعزم على الاقتران بها, ثم رجع إلى بلاده وكاشف أباه بذلك, فلم يسلم له, بل تهدده بطرده من بيته وحرمانه من ميراثه إن فعل فوقع "كين" بين عصيان الهوى وعقوق الوالدين, فاختار أصغرهما -وهو الأول- وبقيت محبة هذه الفتاة في فؤاده ثم استحالت مع الأيام إلى الإكرام والاعتبار. وبعد قليل مات أبوها ولم يخلف مالاً تعيش به, فأقلعت إلى مدينة "جنيفا" تعلم وتعيش من أجرة التعليم, وهناك رآها المسيو "نكر", وكان كاتباً في أحد البنوك, فأحبها وعزم على أن يقترن بها حينما تنصلح أموره. ولم يمض عليه سنون كثيرة حتى صار من كبار الأغنياء, فتزوج بها سنة 1764 م, واتخذها معينة له ومشيرة وأحبها حباً مفرطاً وهي كانت أهلاً لمحبته واعتباره لأنها جعلت غرضها من الحياة إرضاءه, ودخلت باريس وعمرها 25 سنة وهي غير معتادة على المعيشة في المدن الكبيرة ولا متربية تربية تؤهلها للدخول بين أهل الجاه والمجد وكان بباريس حينئذٍ أشهر فلاسفة فرنسا وكتابها فسولت لها نفسها أن تجعل لزوجها مقاماً بين علمائها مثل مقامه بين أغنيائها, ففتحت بيتها لهؤلاء الفلاسفة وجعلته نادياً لهم, وكانت ترحب بهم وتجول معهم في الحديث وتحاول أن تقتادهم إل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ى التدين والتقوى. وكان زوجها يعتمد عليها في مقابلة زواره وضيوفه وكان إذا دعا بعضهم إلى بيته يقول لهم: هلم نتمتع بحديث مدام "نكر". واعتزل الأشغال التجارية كلها وأناط بزوجته تدير منزله وأمواله فكانت تحل وتربط وتبيع وتشتري. وقد بينت ابنتها مدام دوستايل الكاتبة الشهيرة سبب ذلك بقولها: لما رأى أبي أن أمي فقيرة لا مال معها ورآها شاعرة بذلك خاف أن تستصغر نفسها, فسلمها كل أمواله وخول لها التصرف المطلق فيها لكي تشعر من نفسها أن المال لها فتنفذ تخلص من صغر النفس. وذهب "كين" المؤرخ المتقدم ذكره على باريس فدعاه زوجها إلى بيته وأحسن ضيافته وترحبت هي به وأخبرته أن دخل زوجها السنوي لا يقل عن عشرين ألف دينار, ثم عين المسيو "نكر" وزيراً لمالية فرنسا ومديراً لها, فأصلح شؤون المالية, واهتم بإصلاح السجون والمستشفيات, وكان الفضل الأول في ذلك لزوجته لأنها كانت تتعهد السجون بنفسها وتتفقد كل أحوالها وتدبر الطرق المناسبة لإصلاحها, وأنشأت بيمارستاناً بباريس, فسمي باسمها إلى هذا اليوم. وأقام زوجها في هذا المنصب الرفيع خمس سنوات وكانت هي المدبرة لأموره لصعوبتها, وأقر زوجها بفضلها وكان زوجها يفتخر بها ويعدد فضائلها فلامه البعض على ذلك لكنهم أخطأوا في لومهم خطأً بيناً لأنه إذا حق الحق للإنسان أن يفتخر بآبائه وجدوده وبعلمه وآدابه كما فعل عمرو بن كلثوم والسموأل بن عادياء وأبو العلاء المعري في قصائدهم الفخرية حق له أيضاً أن يفتخر بآل بيته ولاسيما بزوجته إذا كانت ممن يفتخر بها كمدام "نكر" هذه التي كانت مرشدة لزوجها ومدبرة لأموره وزهرة فضل عرفها في بيته ولكن المناصب محفوفة بالمتاعب ومن رقي العلى استهدف لوقع أسهم الردى فلم يمض على المسيو "نكر" خمس سنوات في هذا المنصب حتى كثر حساده وخيف عليه من عدوانهم فعزم على الاستعفاء وحثته عليه زوجته حتى استعفى وتنحى عن الأشغال السياسية فأسف محبو فرنسا على استعفائه ولامها البعض منهم لأنها حثته على الاستعفاء ولكن عذرها واضح وحجتها دامغة ألا وهي أنها خافت عليه من العدوان وما تنفع المناصب والحياة في خطر وإلى ذلك لم أتأمل في عواقبه فاضطررت في الآخر أن أرغبه في تركه وقد أسفت فرنسا كلها على استعفائه, ونحن أيضاً آسفون جداً لاضطرارنا على ترك هذا المنصب ولاسيما لأننا نخاف أن لا تجرى أموره في مجراها بعد أن تركناه. أما مسيو "نكر" فلم يترك الاشتغال بعد تركه للمنصب -المذكور- بل أكب على تأليف كتاب جاء من أبدع الكتب فبيع منه في أسبوع واحد ثمانون ألف نسخة وألفت مدام "نكر" كتاباً في الطلاق أودعته آيات البلاغة, وطبعته سنة 1794 م. وتوفيت في تلك السنة بعد أن أصابها مرض عصبي مؤلم فحزن عليها زوجها حزناً مفرطاً. وأورى ضريحها بالعبرات وحق له الحزن والبكاء عليها لأنها رفعت لواء عزه وأنارت سبل حياته بذكاء عقلها وسمو آدابها. مريم مكاريوس ولدت مريم نمر مكاريوس في ربيع سنة 1860 م في حاصبيا مدينة من مدن سوريا قبل حدوث المذبحة الشهيرة فيها ببضعة عشر يوماً وتيتمت من أبيها بتلك المذبحة التي شابت لهولها الولدان, فحملتها أمها مع أخيها إلى مدينة صيدا بعدما فرت بهم إلى قرية مجدل شمس بقرب جبل الشيخ, ثم أتت على مدينة بيروت وهي تغذيها بألبان الحزن وتغسل وجنتيها بدموع الحسرات وقامت عليها وعلى أخويها تربيهم بما اشتهر عنها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الحكمة والذكاء إلى أن بلغوا سن التمييز فأدخلتهم في إحدى مدارس القدس الشريفة ليتعلموا بها العلم الذي لم يكن لأمهم حظ منه لأنها ولدت وربيت في عصر كان تعليم البنات محظوراً فيه بحجة أنه غير لازم لهن ويخشى منه عليهن كذا ظن أهل ذلك العصر وهو ظن أقبح من إثم, فلم تلبث المترجمة في القدس إلا زماناً يسيراً حتى اختارت لها أمها مدرسة من أحسن مدارس بيروت أدخلتها ولم ترض أن تخرج منها قبل أن تتم دروسها كلها وتأخذ شهادتها فدرست من اللغة العربية وفنونها الصرف والنحو والبيان ومن الإنكليزية كذلك ومن العلوم التاريخية والجغرافية والحساب والفلسفة الطبيعية والهيئة وغير ذلك وتمرنت على الأعمال اليدوية من خياطة وتطريز ونحوهما, ونالت الشهادة المدرسية سنة 1877 م وكانت وهي في المدرسة مشهورة بإخلاص النية وسلامة الطوية وذكاء العقل وشدة الحياء. وبعد خروجها من المدرسة بقليل اقترن بها شاهين مكاريوس, فأنشأت له بيتاً زينته بلطفها ودبرته بحكمتها وفتحت أبوابه للأصدقاء الأدباء من رجال ونساء, فكانوا على مائدتها كأنهم في ناد من النوادي العلمية والمحافل الأدبية وهي تطربهم بعذب كلامها وتكرهم بخمرة معانيه ورزقها الله ثلاثة أولاد ذكرين وأنثى, فربتهم أحسن تربية وعلمت كبيرهم مبادئ العربية والإنكليزية, وكانت عازمة أن تعلم أخاه وأخته متى بلغوا سن التمييز, ولكن أدركتها المنية قبل تحقيق المنى فخسر أطفالها خسارة لا تعوض. وفي غرة سنة 1880 م اتفقت مع البعض من صديقاتها وعقدت جمعية أدبية سمتها "باكورة سورية", وانضم إليهن عدد من السيدات المهذبات, فكن يتناوبن الخطب والمناظرات. ومن خطبها خطبة تاريخية انتقادية في الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة جمعت فيها ما تفرق في كتب الأدب وشفعته بانتقاد مكين يدل على توقد ذهنها ودقة نظرها, وقد أدرجها "المقتطف" في سنته التاسعة. ولها أيضاً مقالة عنونها حرارة الماء أدرجت في السنة الثانية منه ونبذ أخرى ورسائل ومناظرة عنوانها "بنات سوريا" مع البيكباشي الدكتور سليم موصلي. ومناظرة عنوانها "دفاع النساء عن النساء" مع الدكتور شبلي أفندي شميل مؤلف الشفاء سنذكرها في هذه الترجمة لأنها لا يزال صداها يدوي في الأذان حتى الآن وقد كان هذان الدكتوران طبيبيها الخاصين حتى ساعة موتها, وقد بذلا كل الجهد والعناية حفظاً لحياتها الثمينة, فأعياها الداء العياء. ولها في اللطائف مقالة رنانة في حيات زنوبة ملكة تدمر ورسائل شتى لم تطبع. وقالت مرة في مطالعة النساء للقصص والكتب الفكاهية ما نصه: "نحن نميل طبعاً إلى قراءة سير الناس ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب ولا يخفى عليكن أن المرأة الصداقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر وإشغال المخيلة بما يهيج الأطفال ويسلي الأولاد الصغار, ولكنها تقصد أولاً تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها مثل معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال, وصروف الزمان والتصرف في النوائب, وفضل ممارسة الفضيلة, ووخامة مرتع الرذيلة, واعتبار العواطف الشريفة, والافتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم وكرم أخلاقهم وفازوا بجميل صبرهم وأفادوا بحسن تربيتهم واهتمامهم بجبر القلوب الكسيرة, وتشجيع النفوس الصغيرة, وإصلاح شؤون هذه الفضائل وأمثالها تقصدها المرأة الحكيمة أولاً في مطالعة الروايات والسير, وتقصد الفكاهة والتسلية ثانياً وإني طالما وددت لو كان لنا نحن بنات اللغة العربية ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعل وجوهنا حمرة الخجل. ومن السير التي نجد فيها ما يوسع العقول ويهذب الأخلاق ويلطف العواطف, ويكمل الأدب ويعلم أحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 العالم ويكشف لنا خبايا الطبع البشري فلم أنل المنى إلا في قليل مما وقفت عليه ولم أزل أضطر إلى مطالعة كتب الإفرنج لتحصيل ما أشتهيه من هذا القبيل مع أننا في زمان تتبارى فيه أقلام الكتاب ويتباهى فيه أولوا النباهة والذكاء. وقالت أيضاً منتقدة إغفال ذكر الأمهات من تراجم البنين والبنات ما نصه: "ولم يذكر لنا المؤرخون عن اسم أم الخنساء ولم يكلفوا النفس أي كلمة عن التي قاست الأهوال وأحيت الليالي حرصاً على حياة بنتها وحباً لتربيتها فأين الإنصاف من ذلك وفضل البنت من فضل أمها وقد قال الفيلسوف: إن الباري إذا شاء أن يخلق في أرض فيلاً عظيماً خلق فيلة عظيمة تلده. وما أدرانا أن الخنساء لولا فضل أمها لم يكن فيها فضل تشتهر به ولولا حسن تربية أمها لها نبغت بما نبغت نعم إنها ولدت من نسل امرئ القيس أشعر شعراء العرب, والأقرب إلى العقل أن تكون قريحته قد اتصلت إليها بحكم الوراثة ولكنها اتصفت أيضاً بصفات أدبية أسمى من صفاتها العقلية ومن المعلوم أن امرأ القيس لم يفق في آدابه ولو فاق الشعراء في شعره فالمتأمل في سيرة الخنساء يجد مندوحة لإسناد الفضل إلى أمها وإن يكن على سبيل الزعم والتخمين ولو تنازل المؤرخون إلى ذكر أم الخنساء وصفاتها لظهر الحق وانتفت الظنون وكفى بذلك فائدة إن يكن في ذكر الأم غيرها. وقالت أيضاً منتقدة "سكوت" الكتاب في السير والتراجم عما يحدث للإنسان في صباه من الحوادث والنوادر ونحوها: "وقد ضربوا صفحاً أيضاً عما جرى للخنساء في صباها ولم يشيروا إلى أيام حداثتها والحال أن الإنسان لا يتكمل الفائدة ولا اللذة في مطالعة سير غيره إلا متى اطلع على أحوالهم فعرف نقائصهم وفضلهم, وحسناتهم وسيآتهم وما فاقوا فيه وقصروا عنه وكيف طرأت عليهم التجارب والمصاعب فتخلصوا منها وتغلبوا عليها وكيف توسعت قواهم العقلية واستقامت قواهم الأدبية, ونمت أبدانهم واشتدت قواهم الجسدية وما كانت نوادرهم ومزاياهم وسائر خصائصهم وهذه الأمور كلها تظهر في زمان الطفولية والصبا أحسن ظهور, ولذلك يجد القارئ معظم اللذة والطلاوة إن لم نقل معظم الفائدة أيضا في معرفة أحوال الشخص في طفوليته وحداثته". وقد عرفت المترجمة في ردها على الدكتور شبلي شميل بقولها: إن الزوجة الفاضلة هي المعزية الحزين المفرجة الكروب الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه المحافظة على ولائه الطالبة ستره الناسية نفسها في خدمته الباذلة حياتها في مسرته, وتربية عائلته الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة وهذه الأوصاف قد كانت دأبها في حياتها وقد استكملتها واحدة فواحدة كما يعلم ذلك أصدقاؤها ومعارفها وأما أنا فلم يسعدني الحظ برؤيتها وبالاقتباس من أنوار معارفها. وفي سنة 1881 م أنشأ بعض المحسنات الأميركانيات والوطنيات جمعية لتعلم النساء البائسات والتصدق عليهن فشاركتهن في هذا العمل المبرور وجعلت بيتها داراً لتلك الجمعية فكن يجتمعن فيه كل أسبوع يتعلمن ويأخذون ما يتصدق به عليهن من كسا ونقود. وفي أواخر سنة 1885 م انتقلت المترجمة مع زوجها إلى الديار المصرية, ولما استقر بها القرار عكفت على المطالعة والدرس استعداداً لعمل حميد كانت ناوية أن تشرع فيه خدمة لبنات عصرها لو فسح في أجلها ولكن باغتها على غرة مرض له "باشلس" يدخل الأبدان مع الهواء وينشب في الرئتين أظفاره, وهو المنية بعينها ولا دافع له من دواء ولا رقية: أمر رب العباد يقضي بما شاء ... تعالى عن الخلائق سرمد فأرجعت مريضة إلى بر الشام في صيف تلك السنة نزلت في قرية من أطيب قرى لبنان هواء وماء فأقامت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 هناك على ربى لبنان تصارع الداء بجودة الهواء إلى أن دخل فصل الشتاء فقال الأطباء: قد أزف الرحيل ومصر لمن كان مثلها خير دواء, فرجعت إلى مصر ومضت إلى حلوان وعادت على القاهرة وامتحنت كل علاج قديم وحديث أشاربه الأطباء, وكلهم من صفوة المعارف وأخلص الأصدقاء لها ولكن ماذا ينفع الدواء والداء عياء. ولم يذهب المرض الطويل والألم الشديد بشيء من بشاشة وجهها ولا من طلاوة حديثها ولا من حصافة رأيها فكانت تبش بوجه العواد مهما كانت آلامها قوية وتسامرهم وتطايبهم وترتئي الآراء السديدة وتقص الأحاديث المفيدة, وهي عارفة بسير مرضها وبأن الشفاء فيه نادر, ولما قطعت الرجاء من الحياة كاشفت ذويها فأرادوا أن يقووا آمالها فقالت: إليكم عن المحال فقد أزف الرحيل وستحضرني الوفاة هذه الليلة ونادت زوجها وأخاها وكل واحد من أصدقائها باسمه وتكلمت معهم كلاماً يلين له الجماد, ويفتت الأكباد, ثم أغمضت جفنيها وأسلمت الروح في الساعة الأولى من يوم 22 آذار (مارس) سنة 1306 هـ في غرة فصل الربيع وهي في غرة ربيع الحياة. ومن آثارها رسالة بعثت بها إلى جمعية السيدات اللواتي نلن الشهادة المدرسية في مدرسة البنات السورية في بيروت وذلك في شهر نيسان (أبريل) سنة 1887 م وهي: "إلى حضرة الرئيسة المحترمة والأعضاء المكرمات بعد التحية أقول: إني لو خيرت لاخترت الحضور بينكن والتمتع بمجالستكن, واجتناء لذيذ أحاديثكن على المكاتبة وتبادل الأشواق بالحبر والقرطاس, ولكن هذا نصيبنا فقد قسم لنا أن نترك الوطن العزيز وأن نفارق صاحبات حبيبات, وداراً ضمتنا جميعاً فقضينا فيها أوقات أنس من أظرف الأوقات, وتعلقت قلوبنا بها فصارت تحن إليها وتتحسر عليها ألا وهي المدرسة التي أنتن مجتمعات فيها الآن والتي تغذينا منها بألبان المعارف والعلوم. لا ريب عندي أن كلاً منكن تذكر الآن تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها معاً كالأخوات, بنات العائلة الواحدة, مشمولات بنظر اللواتي كن يسهرن علينا سهر الأمهات على البنات ونحن نرتع في نعيم الطهر والصبا نملأ منه صافي كأس الحياة لا هم لنا إلا العلوم ولا غم إلا عدم حفظ الدروس. أما الآن فقد تبدلت تلك الأحوال وتشتت عملنا في كل الجهات حتى صار يصعب علينا الاجتماع جميعاً في محل واحد ومكان كما هو مقتضى جمعيتنا هذه وقد وصلت دعوتكن إلي وأنا بعيدة عنكن غير قادرة على الاجتماع معكن وقد قيل: إن الطاعة خير من الذبيحة فلذلك رأيت أن أكتب إليكن ببضع ما شاهدته بعد اجتماعنا الأخير إجابة لطلبكن في الدعوة راجية منكن المعذرة على إشغال وقتكن بمطالعته لقلة ما تضمن من الفوائد فأقول: فارقت بيروت في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1885 م مع رفيقتي الصادقة الوداد السيدة ياقوت صروف قاصدين القاهرة محل إقامتنا الآن فمررنا بمدن رأيت فيها جماعة من بنات مدرستنا اللواتي سبقننا إلى هذه البلاد, ثم ركبنا القطار وسرنا أسرع من الطير في تلك المركبات العجيبة التي أزالت عناء الأسفار وقربت ما بعد من الديار فقطعنا في نحو ساعات ما يقطع عندنا في أسبوع من الزمان, ولما دخلنا القاهرة وجدناها مدينة كبيرة متسعة الأزقة والشوارع تختلف عن بيروت اختلافاً عظيماً, ولكن لم تطل إقامتي فيها حتى صرت أشعر بالوحشة العظيمة لجبال لبنان التي حوت بيروت في كنفها والبحر المتوسط المنبسط أمامها كالبساط الأزرق في رواق أجمل القصور, هذا ومن يسمع عن القاهرة أو يقرأ كلام الكتاب فيها يتوهم أنها هي الفسطا المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 القديمة الشهيرة والحال أن تلك لم يبق منها إلا أطلال بالية وبيوت قليلة خربة أو متداعية وكلها في جهة تعرف بمصر العتيقة في هذه الأيام. وأما المدينة ففي 30 درجة من العرض الشمالي و 28 درجة من الطول الغربي في وسط سهل فسيح, قد اختلطت فيه رمال البادية بالطين الذي جرفه نهر النيل إلى مصر من قلب أفريقا ويحاذيها من ناحية الشرق الجبل المقطم وهو كبعض التلال المنبسطة في ربى لبنان أو أوطأ منها, ومن ناحية الغرب نهر النيل ملاصقاً للبيوت التي على أطرافها ولغزارة مائه واتساعه العظيم يسمونه هنا بحراً وقد صدقوا فلو جمعت أنهار سوريا كلها معاً لما ساوت جانباً منه. والمدينة مؤلفة اليوم من بيوت قديمة وبيوت جديدة فالقديمة مبنية ومرتبة على الاصطلاح الشرقي والشوارع بنيها ضيقة والأزقة يغلب أن تكون قذرة والهواء غير نقي لانحصاره والمباني غير جميلة ولكنها لا تخلو من محاسن كثيرة يلذ بها ذو الذوق السليم كمنجورها المعروف بالمشربية فإنه بديع الجمال ويزيده طول عهده حسناً وجمالاً لأن طول الزمان كبعد المكان يكسو الشيء أثواباً من الجمال والجديدة مبنية على الطراز الغربي الجديد ولا حاجة لوصفه وأحقر المباني القديمة أكواخ الفلاحين وهي صغيرة قذرة في جميع أنحاء القاهرة فيرى الإنسان في الأرض الواحدة قصوراً فخيمة ومباني رشيقة, وزخارف تسبي العقول وتبهر الأبصار بجانبها تلك الأكواخ الحقيرة البناء القذرة الظاهر النتنة الداخل المعروفة عند المصريين بالعشش فكأني بمصر قد جمعت أبدع الصناعة الأوروبية مع أحقر الصناعة الأفريقية في رقعة صغيرة من الأرض. وكانت القاهرة قديماً محاطة بسور لا تزال آثاره ظاهرة في بعض الجهات إلى الآن. ويقال: عن الرياح كانت تسفي عليها رمال الصحراء قديماً حتى تغشيها بها كما يغشى الضباب جوانب الأنهار, ولذلك كثر رمد العينين فيها وتلفت عيون الجانب الكبير من أهاليها ولكن لما حكم محمد علي باشا وإبراهيم الذي تغلب على سورية وحكم عليها زماناً ولا يزال اسمه أشهر من نار على علم عندنا في بلاد مصر عمرها إلى درجة سامية في التمدن فأنشأ المدارس والمعامل وبنى المستشفيات, وفتح الطرقات, وغرس الأشجار وجعل القاهرة ثانية القسطنطينية في الاتساع, وبنى جامعة المعدود من أشهر جوامعها العديدة على مقربة من الجبل وكله مبني من المرمر اللامع الذي يكاد يكشف عما تحته ومزين بالنقوش والكتابات البديعة, وفيه الثريات الكبيرة والطنافس النفيسة التي لم تر عيني أعظم منها ولا أبدع صفة, ولما توفي إلى رحمة ربه دفن فيه, وأحيطت الحجرة التي دفن فيها بمشبك من النحاس الأصفر المتقن الصنعة البديع الشكل والجامع يطل على المدينة, وقد وقفت بجانبه فرأيت أمامي معظم القاهرة مقطعة بالشوارع تقطيعا هندسيا, وقد رفعت فيه قباب الجوامع على ما سواها من المباني وعلت المآذن مئات كأنها شجر غاب في سهل أو سواري السفن في البحر. ويلي المدنية غرباً نهر النيل جارياً بين حقول الزرع وغياض الشجر, وغابات النخيل كأنه سيف صقيل مسلول على بساط أخضر وثير ويلي حواشيه الخضراء رمال الصحراء والأهرام الناطحة عنان السماء, وهذا المنظر من المناظر التي تستحق أيدي أبدع المصورات وتعرضها قرة للعيون ونزهة للنفوس, وبجانب هذا الجامع قلعة عظيمة كانت تسك فيها النقود ويعرف مكان سكها بالضر بخانة, والقلعة اليوم في قبضة الجنود الإنكليزية التي دخلت البلاد مصر بعد النازلة العربية. وفي القاهرة جوامع عديدة بعضها موصوف بجمال داخله رونق ولكن أشهرها في الاسم يكاد يكون أدناها في البناء أريد به الجامع الأزهر الذي سمعتن به كثيراً فهو جامع للتدريس وفيه من الطلبة ما ينيف من عشرة آلاف طالب على ما يقال فهو أكثر مدارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الأرض طلبة وأقدمها عهداً فيما يظن ومنه يخرج أشهر علماء العربية والفقه والأدب من المسلمين والذي اعتنى كثيراً بتحسين القاهرة وهندستها وترتيبها إسماعيل باشا والد سمو الخديوي الحالي. قيل: إنه كان معلقا خارطة باريس في غرفته الخاصة حيث يقع عينه عليها في دخوله وخروجه, وكان باذلا جهده في تخطيط القاهرة بحسبها, فمد الطرق الواسعة فيها من طرف إلى طرف حتى صارت المركبات تخترقها في أكثر جهاتها وغرس الشجر على جانبيها, ونور أشهر شوارعها بنور الغاز, وشيد فيها المباني الضخمة من قصور ونحوها وأشهرها مرسح للتمثيل يسمونه "الأوبرا" بالاسم الفرنساوي قد أنفقت عليه أموال كثيرة جدا حتى صار الناس لا يستكثرون فيها أعظم المبالغات. وددت لو أن قلمي العجز يستطيع وصف محاسن هذه "الأوبرا" فكنت أوفيها حقها أما الآن وأنا على ما أنا عليه من العجز والقصور, فأكتفي بوصف وجيز لها ففي وسط قاعة التمثيل ثريا -أي نجفة- تنار بالغاز لها أنابيب من الصيني على هيئة الشمع فيتوهم الناظر إليها أنها شمع وقد صنع بعضها أكبر من بعض حتى كأنه ذاب مشتعلا وبعضها كأنه الشمع الذائب يقطر عن جوانبه وقد عبث النسيم باللهيب فأصاب حافة الشمعة فإذا بها إلى غير ذلك مما قلد فيه الشمع تمام التقليد, وحجم هذه الثريا معتدل الاتساع. وفي وسط القاعة أمام مرسح الملعب نحو ثمنمائة كرسي مشدودة بالمخمل العنابي وحولها أربع طبقات مستديرة بعضها فوق بعض وقد قسمت كل طبقة إلى أربعين غرفة في كل غرفة خمس كراسي ومقعد مشدود بالمخمل العنابي اللون وجدرانها مدهونة بمثل ذلك اللون, وعلى بابها ستار من لونها وقد علقت مرآة كبيرة على جدار منها وفرشت أرضها بالطنافس وكل غرفة معدة لخمسة أشخاص, وأما سقف القاعة فمرسوم فيه صور أشهر الممثلين والموسيقيين وللخديوي غرفة خاصة ولحرمه غرفة خاصة مقابلها وكلتاهما على غاية الإحكام والهندام, وفيها من الفرش والوشي والتطريز ما يدهش الأنظار. هذا عدا ما فيها من قاعات الجلوس ومخازن الملابس والآلات وسائر المعادن وملابس للممثلين من المنسوجات المختلفة الألوان والأشكال من حرير وقطن وكتان, ومن يجول في مخازن الأوبرا يحسب أنه يجول في أسواق مدينة قد حوت مخازنها ما لا يوصف بخط القلم على القرطاس. ومن مشاهد القاهرة أيضا الجسر الكبير على نهر النيل تمر عليه المركبات لاتساعه ويمشي على رصيفين بجانب طريق المركبات ولطوله لا تقطعه المركبات في أقل من ثلاث دقائق أو أربع وكله من الحديد المفروش بالبلاط وهو يفتح ويقفل في ساعة معنية من اليوم لمرور السفن بالجسور التي نقرأ وصفها في كتب الإفرنج. ومن مشاهد القاهرة مدارسها العلمية وأشهرها مدرسة قصر العيني حيث يعلم فيها الطب والجراحة, وهناك صف من النساء يتمرن على التمريض ويدرسن علم الولادة وبعض فروع الطب ويمتحن جهارا كبقية التلامذة من الشبان ومدرسة المهند سخانة وتدرس فيها العلوم العالية ولاسيما الرياضيات وصناعة الهندسة والمدارس في مصر كثيرة أعظمها وأشهرها للحكومة ولكن أكثرها تعلم بالأجرة. ومن المشاهد العلمية أيضا المرصد الفلكي والمعمل الكيماوي والمكتبة الخديوية ولعلها أحسن مكتبة في الشرق وخصوصا في كتبها العربية. وأعظم مشاهد القاهرة اعتبارا معرض الآثار المصرية المعروفة هنا بالأنتيكخانة ففيه من الآثار المصرية ما يعز وجوده في غيره من معارض الدنيا من تماثيل وصور ونقوش, وكتابات وآنية وأجسام محنطة قد حنط بعضها من قبل أيام موسى الكليم, ولا يزال على رونقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الأصلي حتى إن الكفن ما عليه من الألوان كالزنجاري والأصفر والأحمر لا تزال على ما كانت عليه من البهاء منذ آلاف من السنين مع أن ألوان هذا الزمان لا تقيم بل تحول وبهاؤها يزول. وهذه الآثار يمتد زمانها من أيام الفراعنة إلى الإسكندر فالبطالسة فالرومانيين فالأقباط بعدهم, وبينها كثير من جثث ملوك المصريين وعيالهم محنطة من قبل أيام الخليل إبراهيم, ولا تزال شعورها على رؤوسها ولفائفها وأكفانها باقية عليها غير بالية وشاهدت هناك شيئا كثيرا من الجواهر والحلي القديمة المصنوعة كحلي هذه الأيام من أقراط وخواتم وأساور وعقود مرصعة بالحجارة الكريمة ترصيعا متقنا. ومن الغريب أن بين الأساور ما هو على شكل الحية وعيناه حجران كريمان كأساور هذه الأيام وشاهدت أيضا أسلحة كثيرة الأنواع مختلفة الأشكال ومرايا مصنوعة من المعادن الصقيلة وأحذية ذات سيور وقمحاً وحمصاً وفولاً وعدساً وبيضاً وإجاصاً ودوماً وهو كبير يشبه السفرجل في هيئته وكتانا من أحسن أنواع البوص, وأمراسا ومكانس. وأدوات البناء من الخشب والنحاس المعروف بالبرنز ولم أر أبين تلك التحف أثرا للحديد حتى مسامير التوابيت وغيرها كلها من الخشب أو النحاس إذ الحديد كان لا يزال مجهول الاستعمال في تلك الأيام على ما أظن. وهناك تماثيل لأكثر الملوك القدماء منها من المرمر أو الحجر الصلد أو النحاس, وأبدع ما في صنعتها بوضع العيون التي رأيتها وهي متخذة من الحجارة الكريمة ولإتقان صناعتها في الشكل واللون واللمعان لا تمتاز عن عيون الأحياء إلا بالجهد وهي أفضل كثيرا من العيون التي يصنعها أبناء هذا الزمان ومن أغرب التماثيل التي رأيتها هناك تمثال من الجميز قد أمسك بيده عصا أظنها من العرعر والمظنون أنه صنع قبل أيام النبي موسى وأنه من أقدم مصنوعات البشر, ومع ذلك فكأنه تمثال رجل من المصريين في هذه الأيام. ويسمى عندهم سيخ البلد, وكل من دخل هذا المعرض علم بعض العلم عن عبادة المصريين واعتبارهم لجثث موتاهم مما يرى فيه من تماثيل الآلهة التي على صورة التمساح والسلحفاة والقرد والنسور والضفدع والخنفساء وغيرها من تماثيل الحيوانات مما يرى من الجثث المحنطة الملفوفة لفا محكما بلفائف الكتان المتناهي في الرقة, وهي موضوعة في توابيت من الخشب. وهذه التوابيت ترسم على ظواهرها صور موتى وتغطى ظواهرها وبواطنها بكتابات بالخط المصري القديم المعروف بالهيروغليف ويوضع فيها من الجثث المحنطة والمآكل المحنطة المجففة مثل الأرز والبيض واللحم والأثمار ونحوها وكانت عادتهم أن يضعوا التابوت المتضمن الجثة ضمن تابوت آخر وهذا ضمن آخر وهكذا حتى يبلغ عدد التوابيت أربعة أو أكثر أحيانا. ثم يضعونها داخل تابوت من الحجر الأصم, وقد رأيت تابوتا لإحدى الملكات قد صنع كله من الكتان المرصوص طاقا على طاق. ثم عولج بنوع من الطلاء حتى صار كالخشب سمكا وصلابة والغالب أن كل أثر من هذه الآثار يكون مقرونا بكتابة هيروغليفية تبين ماهيته وما حالته, وقد رافقنا داخل المعرض رجل مصري يقرأ هذا الخط ويترجمه لنا كما نقرأ نحن كتب الإفرنج ونترجمها. وفي القاهرة منتزهات مختلفة عظيمة الإتقان فيها تصدع الموسيقى وتسمع آلات الطرب في كثير من الأحيان بعضها في وسط المدينة وبعضها خارجها كمنتزه شبرا وهو قديم العهد والعباسية والأزبكية والجزيرة وقد فضلت الجزيرة على ما سواها لأنها قريبة الشبه من بقاع كثيرة في سوريا ولبنان والمفاوز بنظرة واحدة وهي تبعد نحو ميل عن وسط المدينة والطريق إليها واسعة نظيفة محاطة بالأشجار الملتفة على الجانبين ترش بالماء يوميا كجميع طرق المدينة فيتلبد ترابها ولا يثور غبارها تحت الحوافر والعجلات والأقدام, وتظهر من خلالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 المروج المختلفة الألوان, والنيل ينساب في وسط انسياب الأفعوان, وهي تؤدي إلى قصر فخيم بناه إسماعيل باشا الخديوي السابق في وسط حديقة غناء كثيرة الأشجار لطيفة الأزهار, واسعة الطرق, عديدة التماثيل وجلب إليها الأنواع العديدة من الوحش والطير حتى أشبهت معارض الحيوانات في أوروبا, ولم يبق بها إلا القليل في هذه الأيام والمنتزه العمومي قرب هذا القصر مركزه يعرف بالجبلايه ولعل المراد بها تصغير الجبل وهي تقليد الجبل الطبيعي, قد صنعت حجارتها من الحصى والرمل يمر الصاعد إلى قمتها في مغارة واسعة كثيفة الظل رطبة الهواء يتسلسل الماء من نواحيها, ويتدفق من بعض الثقوب التي فيها, ويقطر من سقفها خيوط مدلاة قد رسب الكلس عليها وكستها الطبيعة فأشبهت الرواسب الكلسية التي تتدلى من سقوف بعض الكهوف السورية, وفي جوانبها حياض كالنقر من الصخور قد سدت بالزجاج السميك كأنه ماء قد جمد فكون جدارا من الجليد, وفي أرضها الحجارة كأنها أنفذت من سقف المغارة وجوانبها وتدحرجت في أرضها على ممر السنين وتوالي الحوادث والأيام, ثم يرقى على درج ملتف وكأنه طبيعي لم تمسه يد البشر حتى يصل إلى قمتها فيجد هناك في طريقه بقعة كانت مزروعة بالأعشاب والأزهار والأشجار ويرى حوله منظرا فسيحا من غياض الصنوبر (من شجر الفتنة ولعلها كتبت الصنوبر سهوا) والسنط وسهول القمح, والحبوب والنيل ينسحب بينها كأسلاك الفضة وصحارى الرمال إلى غير ذلك مما يشرح الصدر ويطيل العمر. وأخبت أنه يوجد ما هو أجمل من هذه الجبلاية في قصر يسمى قصر الجيزة, ولكني لم أره -ويوجد جبلاية أصغر منها في المنتزه الكبير في وسط المدينة المعروفة بجنينة الأزبكية- وهي جنينة مساحتها لا تقل عن مساحة إحدى قرى لبنان المتوسطة في الاتساع في وسطها بحيرة متسعة تسير فيها القوارب الصغار والكبار ودائر البحيرة الأشجار الكبيرة والأزهار النضيرة, والأراضي الخضراء, والحدائق الغناء, وفيها مرسح للتمثيل ومبان للطعام وقباب تضرب الموسيقى العسكرية فيها يومياً وأبوابها مفتوحة لعموم الناس, ومخازن القاهرة الكبرى بيد الإفرنج من الأجانب, وأكثر جهاتها المطروقة من الخاصة والعامة مزدحمة بالقهاوي والحانات والخمارات ولم يترك الأوروبيون المتعاطون الأسباب في القاهرة واسطة إلا أجروها لاجتذاب الأهالي إلى الإسارف واللهو والطرب, ولذلك ترى العامة من الأهلية يتهافتون على ما به خرابهم وبوارهم تهافت الفراش على لهب النار, ولم نسمع حتى الآن بجمعية علمية أو أدبية للأهالي تذكرنا جمعيات بيروت أو اجتمعات مفيدة للشبان والشابات كالاجتماعات التي عندنا إلا أننا منذ مدة حضرنا افتتاح جمعية علمية أدبية في دار المرسلين الأمريكيين كان فيها نحو مائة وخمسين نفسا حاضرين واجتماعاتها أسبوعية وقد تزايد عدد الحضور جلسة فجلسة حتى صار يبلغ خمسمائة في هذه الأيام, وقد ضاقت القاعة دونهم فالأمل أن هذه الجمعية تثبت وتنمو وتكون سببا لقيام غيرها من الجمعيات العلمية الأدبية حتى ينتشر التهذيب الصحيح بين الشبان والأهالي الذين أوتوا حظا وافرا من اللطف الطبيعي ولين العريكة وسهولة الانقياد. والله أسأل أن يقدرنا على قضاء خدمة نافعة لبنات هذه البلاد. انتهى. ومن كلامها مقالة أدرجت في السنة الأولى من جرنال اللطائف تحت عنوان تربية الأولاد وهي خطبة الأخلاق من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا وهما قولان جديران بالمراعاة, وحريان بكل اعتبار لأنهما صادران من أعقل الناس وأحكمهم متعلقان بأهم ما في العالم من الأعطية والكنوز فإن الأولاد هم عماد الهيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الاجتماعية منهم يقوم الأفاضل ومنهم يقوم العلماء وولاة الأمور, ومنهم تتألف القبائل والأمم والشعوب فهم أساس الهيئة الاجتماعية وبهم يتم انتظامها وتمدنها وارتقاؤها في مراتب الكمال. ولما كانت تربيتهم أقوى الوسائط لعقولهم المهذبة لأخلاقهم المقومة لاعوجاجهم وكانت هذه التربية متوقفة على الوالدين خصوصا وغيرهم عموما كانت واجبات الوالدين نحو أولادهم من أعظم الواجبات والوديعة التي أمنهم الباري تعالى عليها أجل الودائع, ولذلك لا يسع الوالدين الحنونين إلا الاهتمام بتربية أولادهم والبحث عما يجعلها قويمة المنهاج, شافية العلاج. وهذا ما قصدت الكلام فيه بوجه الاختصار فأقول: إن التربية ليست علما بقواعد وأصول كسائر العلوم يتعلمه الإنسان من بطون الصحف ولكنها نوع من السياسة يراعى فيها الإنسان أحوال الأولاد والزمان والمكان مع أنها لا تخلو من (مبادئ) عمومية يصح الجري عليها في كل حال لكن أكثرها يتوقف على حكمة المربي وفطنته وغيرته وحسن أخلاقه, ويمكنني أن أقول بالإجمال: إن التربية يلزم لتمامها شروط بعضها يتعلق بالمربي وبعضها بالمربى فمن أعظم الشروط اللازمة في المربي أن يكون هو نفسه مرب حسن الطوية, مهذب الأخلاق والأقوال حميد السيرة, صافي السريرة وإلا ذهبت مساعيه عبثا, وربما زادت أضرارها على منافها لأن المربى يميل بالطبع على الاقتداء بمربية في كل شيء وتقليده قولا وفعلا حتى كأنه صورة خلقته أو صدى صوته, فإذا لم يجر المربي على حسب تربيته للمربى كذبت أقواله وأفعاله وأبطلت أمياله ومساعيه. يحكى أن السرطان أراد يوما أن يقوم خطوات ابنه فقال له: ما لك يا بني تمشي مجانبا ولا تقوم خطواتك؟ قال: رأيتك يا أبي تمشي كذلك قبلي فاقتديت بك وحسبي أن أشبهك ولقد أصاب قول من قال: "ومن يشابه أبه فما ظلم". ويلزم المربي أيضا مع ذلك أن يكون حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بمواقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بموقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر الحاجة اللازمة لتقويم أوده وتهذيب أخلاقه ويقصر أفعاله على ما يؤثر في نفس الطفل أحسن تأثير يحثه على الخير وينهاه عن المنكر. وأما الشروط اللازمة في المربي فسأتكلم عليها في أواخر هذه المقالة. قلت: إن التربية تتوقف خصوصا على الوالدين وعموما على غيرهم ومعلوم أن معظم تربية الوالدين يتوقف على الأمهات لا على الآباء لوجودهن غالب الأحيان مع أولادهن أيام الطفولية, ولكون الاهتمام بهم من أخص واجباتهن وبما أن كثيرات منا نحن الحاضرات ههنا أمهات أولاد يقصدن تربية أولادهن أحسن تربية ويتقدن غيرة على تحسين طباعهم وتهذيب أخلاقهم فقد رأيت أن أبدي بعض ما عندي في هذا الشأن لعله يقع موقع القبول عند إحدى السامعات, فيفيد أو اسمع عنه ملاحظات من إحداهن فأستفيد فأتقدم في الكلام بناء على أن الشروط اللازمة متكملة في المربيات السامعات لعلمي أنهن من اللواتي ربين أحسن تربية ولكن يعوزنا الاختبار والانتفاع بأثمار التجارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أرى أن الوالدة لا تقدر أن تربي ولدها على ما تريد إلا بعد ما تستولي على عقله وعواطفه, وتعرف طباعه. والذي يدلني على ذلك هو أن التربية لا تنمي في نفس الطفل ما ليس له أثر ولا وجود فيها بل ما هو موجود قد أودعه الباري تعالى فيها, ولا تقتصر على إنماء هذا الموجود بل تقدم النامي وتهذبه وتقويه وتشدده فمثل الوالدة في تربية ولدها مثل الغارس في تربية غرسه ألا ترين كيف يمهد له الأرض ويسويها ويسمدها ويرويها حتى يتأصل فيها كلما نما وطال يقومه إذا رآه معوجا ويقضبه ويهذبه حتى يقوى ويعلو ويتحسن منظره. هكذا تفعل الأم في ولدها بالتربية تنظر إلى جسده وتقويه بالطعام والرياضة والإتقان من الآفات وتنظر على عواطفه وقواه العقلية والأدبية فتوسعها وتقويها وتقوم اعوجاجها وتهذبها فإن لم تكن هذه بيدها وطوع أمرها فكيف تقدر عليها ولكن تكون خاضعة لها وطوع إرادتها. يجب على الوالدة أن تنبه على تربية ولدها وهو طفل صغير ضعيف الإرادة وتتعهده منذ ذلك الحين تارة بالأمر والنهي كالسلطان المطلق وطورا بالحب والرفق كالصديق الحبيب حتى تكون مهيبة عنده مسموعة الكلمة ومحبوبة منه ومقبولة الأوامر, وهذا غاية عظمة الملوك والحكام, ومنتهى ما يبلغون إليه في سياستهم مع الرعية. وهو أن يكونوا مهيبين محبوبين مسموعي الكلمة معزوزي الجانب. إذا راقبت الأم ولدها وجدت أنه لا يبلغ من العمر نصف سنة حتى تظهر عليه علامات الفهم وتبدو منه أفعال الإرادة فيغضب ويرضى ويبكي وقت الغيظ, ويتبسم وقت الرضا. وحينئذ يجب على الأم أن تتخذ ما عندها من الحكمة لتطبع إرادتها على لوح نفسه وتغرس محبتها في أعماق فؤاده وتنفذ كلمتها في أمرها ونهيها له متدرجة من الأمور الصغيرة إلى المبادئ الكلية على توالي الأيام فمتى صار يطلب شيئا لا يناسب إعطاؤه إياه تمنعه عنه ولا تطاوعه, ولو بكى وصرخ صراخا شديدا, حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك, ولو بكى وصرخ صراخا شديدا, حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك, وأن الطاعة خير من العناد. وإذا أصر الطفل على مسك ما لا يخصه بعدما منعته والدته من ذلك مرارا فلا تخفيه من أمامه خوفا من بكائه بل ترده عنه بكل لطف وحزم وتفهمه بقدر الطاقة أن ذلك الشيء لا يخصه, وأنه يجب أن يطيع والدته ويخضع إرادته لإرادتها ولا تزال تعلمه بمثل هذين المثلين حتى تتأصل الطاعة لوالدته في نفسه وتنمو فيه مع نماء قوى عقله ولكن ليس بالغضب والعنف بل بالرفق واللين واللطف. ومن خطأ الوالدين والوالدات في التربية أنهم يحبون البشاشة في وجه الولد والملاطفة في معاملته تؤل إلى استخفافه بكلامهم وتمرده عليهم, فلذلك تراهم لا يكلمونه إلا زجرا ولا ينظرون غليه إلا شزرا, وإذا ارتكب أقل ذنب أو سعوه ضربا وتعنيفا, وإذا ضحك أو لعب في حضرتهم وبخوه وانتهروه كأنه قد جنى ذنبا زاعمين أن ذلك كله يزيد سطوتهم عليه ويمكن الطاعة في نفسهم لهم. وهذا صحيح ولكن إلى حد معين لأن هذه المعاملة تمكن سلطة الوالدين على أولادهم, ولكنها تكون ثقيلة عليهم مكروهة عندهم يترقبون الفرص لمخالفتها ويتحايلون للتخلص منها, ولذلك كثيرا ما تكون نتيجتها فيهم تربية الخوف والخيانة والبغض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 والكراهة في نفوسهم ويتلو ذلك المكر والرياء أو العصيان والتمرد كما لا يخفى إذا القسوة والعنف في المتسلط يجعلانه مهيبا ولكن مكروها ومطاعا, ولكن مستثقلا والنفوس الأبية لا تذل إلا إلى حين ولا تصبر على الضيم إلا ريثما تجدبا بالدفعة. فيجب على الوالدين والوالدات خصوصا أن يعاملوا أولادهم في التربية بالرفق وأن يقابلوهم بوجوه باشة إلا حيث لا تقبل البشاشة وأن يكون كلامهم في الإنذار والتوبيخ مقرونا بالتأني والهدو حتى يفهم الولد مؤداه ويقبله عن اقتناع لا عن خوف ورعدة كما يكون إذا أدبته أمه عن غضب وحنق إطفاء لنار غيظها والحزم والهدو والتأني في تربية الطفل وتأديبه تلقى لمربيته هيبة في فؤاده ليس فوقها هيبة فتبقى مقرونة بالطاعة له طول أيامه, ولاسيما لأنها تكون ممزوجة في نفسه بالحب والمودة. والخلاصة أنه يجب على الأم أن تجعل لها في نفس ولدها طاعة مؤسسة على الحب تدوم إلى طويل لا طاعة مؤسسة على الخوف تدوم إلى قصير وكما يطلب من الوالدة أن تكون حاكمة متسلطة عل عقل ولدها وعواطفه يطلب منها أن تكون بمنزلة الصديق والرفيق له تخصص جانبا من وقتها لملاعبتها بالملاعب المختلفة وتسليه تارة بقص القصص المفيدة عليه وطورا بتعليمه ما ينير ذهنه وحثه على ما يميل إليه من طبعه حتى تتعلق نفسه بها تعلقا شديدا, ويفضل مجالستها واستماع أقوالها على مجالسة كل واحد سواها فيكتسب منها في أثناء ذلك ما تريد أن تلقيه في ذهنه من الأفكار والمبادئ, وينمو على ما تحب أن ينمو عليه وههنا مندوحة واسعة للكلام على الأتعاب التي يجب على الوالدة أن تهبها لأولادها حتى تدفع عنهم الملل والضجر, وما ينشأ عنهما من المساوئ الكثيرة التي تفسد التربية والأخلاق. وههنا محل الكلام على تدبير ما يلزم لتحسين ذوق الولد وتعويده على حسب ما هو جميل واعتبار ما هو نافع ومفيد وتربيته على مراقبة الأمور, وملاحظة ما حواليه من الكائنات وعجائب طبائعها, وغرائب أفعالها. وههنا محل الكلام أيضا على ترويضه وتقوية جسده ولكني لا أتعرض لشيء من ذلك كله لئلا يضيق المقام واعتمادا على ما هو شائع منه في كتبنا وجرائدنا. وصدق الوالدة مع ولدها في كل مواعيدها أمر لا بد منه في التربية وكذبها عليه يربيه على الكذب لا محالة والدعاء عليه يحط قيمتها في عينه ويفسد آدابه. وتكثير الأوامر عليه والطلبات منه تلقيه في الحيرة والارتباك فيصير يطلب الابتعاد عنها ولا يصدق أن يتيسر له الفرار من وجهها حتى يغافلها ويسرع إلى أصدقائه وملاعبه. قال بعض الحكماء: الصدق أهم ما يجب إتباعه في تربية الصغار وتهذيبهم, فمن كذب على ولده كذبة علمه الكذب. وقال أيضا: إن تهذيب الولد يبتدئ بنظرة أمه والتفات أبيه وتبسم أخته أو أخيها أو أخيه. ومن أغلاط التربية عندنا أنه إذا قامت الأم لتأديب ولدها فكثيرا ما يعارضها الأب ويحمى من التأديب كأن أمه عدو له تقصد الانتقام منه وإذا قام الأب لتأديب ولده عارضته الأم وكل ذلك مما يمنع فوائد التربية عن الولد ويحمله على الظن بأنها صادرة عن الغضب والانتقام لا عن حب الواجب وحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 المقصد ومن أغلاطنا في التربية أيضا إننا لا نتحرى تعويد الأولاد على الاعتماد على أنفسهم والاستقلال عن سواهم بل إذا رأينا في ولدنا ميلا إلى شيء من ذلك أمتناه إجابة لدواعي الخوف والشفقة التي في غير محلها فإذا رأت الأم ابنها يميل إلى حز الخشب والنجارة بسكين أخذت السكين من يده خوفا من أن يجرح إصبعه جرحا طفيفا ولا يخطر لها أن توصي أباه ليبتاع له عدة صغيرة للنجارة ليتعود بها على عمل أعمال كثيرة تنفعه في أيامه وتبعد عنه الضجر والسآمة, والحال أن أكثر مخترعي الإفرنج يربون على حب الاختراع بأمور كهذه وهم أولاد صغار وإذا رأت الأم ولدها يركض في الشمس وراء الفراش والجنادب صاحت وولولت خوفا عليه من حر الشمس وكان الأولى بها أن تشتري له كتابا ذا صور وتربيه على مراقبة المخلوقات الطبيعية. قيل: إن لبنيوس المعدود من أعظم علماء النبات كان في صغره يحب الأزهار, فزرع له أبوه أرضا وقسمها على وفق ذوقه, فكان يتفقدها ويعتني بها, ولما شب ولع بدراسة علم النبات حتى طار صيته في الآفاق ويجب الحذر في التربية من أضعاف عزيمة الولد وإرادته فإن والدات كثيرات يذللن الولد حتى لا تبقى له إرادة فإذا شب كان ضعيفا, وكانت تربيته أعظم مصيبة عليه وكثيرون ينكرون فوائد التربية ويقولون: إن وجودها وعدمها سيان ويستشهدون على ذلك بقولهم: إن فلانا ربي في صغره أحسن تربية فكان أحسن الأولاد وكان يقدر له أعظم النجاح, فلما كبر أتى المنكرات ولم يجن إلا ثمار الذل والفشل, والآخر ربي في صغره أردأ تربية, ولما كبر فاق فضلا ونبلا وكرم أخلاق وخالف ظن الناس فيه. أقول إن إنكار هؤلاء الناس لمنافع التربية مبني على وهم فاسد, وهو أن التربية إنماء الموجود وتحسينه كما مر في بدء الكلام, ولا توجد ما ليس موجودا فقد يخص البارئ بمواهب أناسا دون آخرين حتى إنهم مع قلة التربية يفوقون سواهم ممن ربي تربية حسنة, ولكن لو تساوت مواهب الفريقين لفاق المربي بالأخلاق ولذلك اشترط في المربى أن يكون قابلا للتربية من طبعه وقليل من لا يقبلها ومهما قوي في الفطرة حسك الشرور وغلطت أصول المساوئ والآثام, فإنها تضعف حتى تضجر وتزول بحسن التربية وجميل الاعتناء". اه. ومن كلامها المقالة التي أدرجت في جريدة المقتطف العلمية ردا على الدكتور شبلي شميل ونصها بحروفها: "إن حضرة الفاضل الدكتور شبلي يعد من جملة الذين إذا أطعموا أشبعوا, وإذا ضربوا أوجعوا. فمقالته التي عنوانها "الرجل والمرأة وهل يتساويان" (المندرجة في الجزأين السادس والسابع من مقتطف هذه السنة) قد حوت من الشواهد والحقائق ما يشبع عقول القارئين ومن التحامل على المرأة والإجحاف بحقها ما يوجع نفوس القارئات وليس لنا وجه لدفع قوله بأنه خصم ذو غرض أو رجل قليل المعارف لا يعبأ بقوله لأنه قال: وأعاد القول مرارا إنه ليس قصده حط شأن المرأة بل تقرير الحق الواقع والذي نعهده فيه من الصدق في القول والإخلاص في القصد يكذبنا إن سميناه خصما أو نسبنا إليه الغرض وأقواله وكتاباته تشهد له بسعة الاطلاع وغزارة المعارف, فلا نصدق إذا حططنا في علمه ومعارفه ومع ذلك فلا ريب أنه لم ينصف في حكمه على المرأة ولم يعدل في ذكر مناقبها وأخلاقها, وما ذلك في حكمي إلا عن سهو إذ الإنسان عرضة للسهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 والنسيان. والظاهر أن اعتقاده في المرأة منقول أصلا عن ألسنة العامة, فلما تحرك في أقوال العلماء وغاص على أداتهم لم يلتقط منها إلا ما أيد ذلك الاعتقاد المتداولة خلفا عن سلف, وأغفل ما يؤيد خلافه وكم من مرة زل العلماء وضل الفقهاء من تأثير الأوهام المتوارثة والأغلاط السائرة, ولولا ذلك لكان من المحال أن يرضى حضرة الدكتور الفاضل بما في خطبته من الانحراف والإجحاف كما سنرى. أولا: إن القسم الأول من المقالة المذكورة مقصور على إثبات أن الذكور من الحيوانات العالية أشد من الإناث وأن الرجل أضخم من المرأة جثة وأكبر جمجمة وأثخن عظما, وأقسى عضلا, وأنضر سحنة. ودمه أثقل نبضانا وأغلظ قوما وجسده أكثر فسادا وانحلالا إذ يفرز من الحامض الكربونيك أكثر مما تفرز هي وغير ذلك مما يدل على أن الرجل أشد من المرأة. وما لبث أن جعل هذه الأوصاف دليلا على الشدة حتى انتقل إلى جعلها امتيازا يمتاز بها الرجل ولم يؤيد هذا الامتياز بأن حضرة الدكتور يذكر مقابله امتياز المرأة على الرجل بالجمال واعتدال القوام ولطف التركيب والغضاضة والبضاضة ونحوها من الأوصاف التي تميزها عليه كما هو مسلم به إجماعا أيضا لأنه إن كانت ضخامة الجسم والقوة الوحشية تعدان امتيازا للرجل من وجه فلطف القد وحسن الخلق يعدان امتيازا للمرأة من أوجه, والإنصاف يقتضي ذكرهما عند ذكر غيرهما. لكن حضرة الدكتور أغفلهما تمام الإغفال. ثم إنه ذكر تقوس القدم في الرجل وانبساطها في المرأة دليلا على ارتقائه في الخلق أكثر منها وكذلك يزرر ثيابه عن اليمين وهي تزررها عن اليسار وكذلك بطء نموه وسرعة نموها إلى غير ذلك من الأدلة التي لم يسلم بصحة مدلولها واحد حتى ينفيها آحاد وترك الأمر والإنصاف يقتضي ذكر الأمر المقرر قبل الشواهد التي لم تثبت صحتها ولا صحة ما يشتهد عليه بها. ثانيا: إن فحوى القسم الثاني من مقالة حضرة الدكتور هي إثبات أن الرجل أعظم عقلا وإدراكا من المرأة. وقد عدد فيه القوى العقلية التي زعم أن الرجال يفوقون فيها النساء ولم يذكر للنساء قوة يفقن فيها والذي أعلم أن كل الباحثين (حتى الذين بحثوا قديما عما إذا كان للمرأة نفس) لم ينكروا أن المرأة تفوق الرجل في بعض القوى العاقلة مثل الإدراك عن طريق الحواس المعروف بالشعور وسلامة البداهة والذوق العقلي, ثم إن حضرته يبني حكمه بصغر عقل المرأة عن عقل الرجل بكون دماغه أثقل من دماغها. ولما كان لا يحق لي الاعتراض في معرض مثل هذا فحسبي أن أسأل جنابه هل يعتبر ثقل الدماغ دليلا قاطعا على كبر العقل لأن الذي نعلمه (وهو مأخوذ عن أحدث مناقشة للعلماء في هذا الشأن) إن كبر العقل بمعزل عن ثقل الدماغ فقد يكون الإنسان من أعقل أهل زمانه ودماغه خفيف جدا أو متوسط في الثقل وقد يكون من أصغر الناس عقلا ودماغه ثقيل جدا, ولذلك لا تقنع عقولنا القاصرة بأن ثقل الدماغ دليل كبر العقل حتى يتبين لنا ذلك بالبرهان القاطع. ثالثا: إن معظم الإحجاف كان في كلام حضرة الدكتور عن آداب المرأة وفضائلها. وهنا لا أخشى أن أخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 حضرته تمام إذا المحقق المشهور أن الفضائل نصيب المرأة فهي المعزية الحزين المفرجة الكروب الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه المحافظة على ولائه الطالبة لمسرته الناسية نفسها في خدمته الباذلة حياتها لمسرته وتربية عائلته الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة إلى غير ذلك مما يعد منه ولا يقدر فحسبي ما ذكرت". مريم بنت يعقوب الأنصاري سكنت إشبيلية وأصلها على ما قيل من شلب, وكانت صدر نبهائها وأدبائها, وممن لهن قدر منجبيها ونجبائها, سردت البديع أحسن سرد, وافترست المعاني كالأسد الورد, وأبرزت درر المحاسن من صدفها, وحازت من أفخر الإجادة وشرفها, ومدحت ملوكا طوقتهم من مدائحها قلائد, وزرفت إليهم من معانيها خرائد, وجلتها عليهم كواعب بالألباب لواعب, فأسالت العوارف, وما تقلص لها من الحظوة ظل وارف وقد أثبت المقرى ما يعترف بحقها, ويعرف به مقدار سبقها, وكانت تعلم النساء الأدب وتحتشم لدينها وفضلها وعمرت عمرا طويلا واشتهرت بأشبيلية بعد الأربعمائة وذكرها الحميدي وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي لها بدنانير وكتب إليها: ما لي بشكر الذي أوليت من قبل ... لو أنني حزت نطق اللسن في الحلل يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا ... وحيدة العصر في الإخلاص والعمل أشبهت مريماً العذراء في ورع ... وفقت خنساء في الأشعار والمثل ونص الجواب منها: من ذا يجاريك في قول وفي عمل ... وقد بدرت إلى فضل ولم تسل ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي ... من اللآلئ وما أوليت من قبل حليتني بحلي أصبحت زاهية ... بها على كل أنثى من حلي عطل لله أخلاقك الغر التي سقيت ... ماء الفرات فرقت رقة الغزل أشبهت مروان من غارت بدائعه ... وأنجدت وغدت من أحسن المثل من كان والده العضب المهند لم ... يلد من النسل غير البيض والأسل ومن شعرها وقد كبرت: وما يرتجى من بنت سبعين حجة ... وسبع كنسيج العنكبوت المهلهل تدب دبيب الطفل تسعى على العصا ... وتمشي بها مشي الأسير المكبل مريم صوفيا إمبراطورة الروسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 هي ابنة ملك الدانيمرك وشقيقة إمبراطورة "استوريا" والبرنسيس قرينة الدوق "أوف وليس" ولي عهد إنكلترا, أميرة نساء هذا الزمان وأديبتهن في هذا العصر والأوان, ربيت في بيت أبيها بهيئة بسيطة لا تعلو عن حالة المتوسطات بالغنى والثروة من نساء العالم, وقد طرحت كل كبرياء وتشامخ من صبوتها ولم تزل على ذلك حتى الآن وهي في مقام تنحي أمامها أعناق نحو مائة مليون من البشر وقد زادها الله عزا وكمالا بالمواهب الطبيعية فإنها على جانب كبير من اللطف والرقة ودماثه الأخلاق, ولين العريكة. وعلى جانب أعظم من غزارة العقل وحدة الذهن وصدق التصور وحسن البديهة. وقد استودع الله في هيكلها اللطيف من القوة والشجاعة ما يعزو وجوده في خير أشداء الرجال. ومن شريف طباعها أنها شديدة الحب لجلالة الإمبراطور -قرينها- ميالة إلى عمل الحسنات, منشطة للمعارف, لا تحب التدخل في شؤون السياسة كثيرا, نزوعة إلى العمل, شديدة الكره للكسل والكسالى, مولعة بمطالعة الكتب المفيدة, تخيط أكثر ثيابها بيدها _الأمر الذي يكشف عن ضعة في نفسها الكريمة- لا تحب الإسراف والتبذير تقوم بنفسها مع مساعدة إحدى الفاضلات بتعليم بنيها الثلاثة وابنتها ولشدة ميلها للدروس والمطالعة, أصبحت تتكلم بعدد من اللغات وبالإجمال أن شريف خلالها تقوم واعظا ونذيرا في نساء العالم قاطبة يرد المتكبرات إلى الضعة واللين والواهنات القوى إلى النشاط والإقدام والمسرفات على الاقتصاد والمبتعدات عن عمل البر والإحسان إلى حبه والعمل به. مزروعة بنت عملوق الحميرية كاننت من فصحاء زمانها ومن اللواتي كن في فتوح الشام حضرت الحروب مع خالد بن الوليد بالشام ومصر وشهدت حرب النسوة في قوعة سحور مع خولة بنت الأزور, ولها شعر في رثاء ولدها وهو مأسور في وقعة أنطاكية وهو: أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا ... وقد أحرقت منى الخدود الدوامع وقد أضرمت نار المصيبة شعلة ... وقد حميت مني الحشا والأضالع وأسأل عنك الركب كي يخبروني ... بمالك كيما تستكن المدامع فلم يك فيهم مخبر عنك صادقا ... ولا منهم من قال إنك راجع فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي ... فقلبي مصدوع وطرفي دامع وفكري مقسوم وعقلي موله ... ودمعي مسفوح وداري بلاقع فإن كنت حيا صمت لله حجة ... وإن تكن الأخرى فما العبد صانع فقالت لها: ولمن معها سليمى بنت سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وكانت من الزاهدات العابدات: أبهذا أمركن الله؟ أمركن بالصبر ووعدكن على ذلك الأجر! أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى: (الذين إذا أصبتهم مصيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) (البقرة: 156-157) فاصبرن تؤجرن. فقالت لها مزروعة: إن كلامك هو الحق وأتيت بالصدق ثم سكتن عن البكاء. مسكة جارية الناصر محمد بن قلاوون قد نشأت في داره وصارت قهرمانة منزله, يقتدى برأيها في عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التي تعمل في الأعياد والمواسم, وترتيب شؤون الحريم السلطاني, وتربية أولاد السلطان, وطال عمرها وصار لها من الأموال الكثيرة والسعادات العظيمة ما يجل وصفه, وصنعت برا ومعروفا كبيرا, واشتهرت وبعد صيتها وانتشر, وتقدمت عند السلطان وكانت مسموعة الكلمة عنده وعند حرمه, وذلك لحسن خدمتها وصنعتها وصيانتها لمنزله وقد صنعت مصانع كثيرة مثل مساجد وتكايا ومدارس غير ذلك جميعها تهدم. ومن مآثرها الجامع الذي أنشأته بخط الحنفي بمصر قال فيه صاحب خطط مصر الجديدة التوفيقية إن سوق مسكة قرب جامع الشيخ صالح أبي حديد بخط الحنفي له بابان منقوش بأعلى أحدهما بالرخام: "بسم الله الرحمن الرحيم أمرت بإنشاء هذا المسجد المبارك الفقيرة إلى الله تعالى الحاجة إلى بيت الله الزائرة إلى قبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم الست الرفيعة مسكة سنة ست وأربعين وسبعمائة". ومنقوش بدائرة من الخارج بالحجر سورة يس وبه مكتوب عليه (إنما يعمر مسجد الله) (التوبة: 18) الآية. وكان الفراغ من الجامع المبارك في شهور سنة ست وأربعين وسبعمائة إلى غير ذلك من الأوصاف الحميدة. ولما توفيت الست "مسكة" دفنت فيه وقبرها ظاهر للآن وإنما الجامع معطل وغير مقام الشعائر لتخربه حالة وجود أحكار له في ديوان الأوقاف المصرية. مفضلة الفزارية بنت عرفجة الفزاري كانت تحت محمد بن عوف الطائي, وكانت بديعة الجمال, فصيحة المقال, عالمة بضروب الشعر وشعرها فيه بلاغة تستحسن. ومن قولها في زوجها محمد المذكور حين قتل في بعض غزواته: ألا لا أرى لما تلبد بالثرى ... ولا ميتا حتى ذكرت محمدا حرام على عيني بعد محمد ... طوال الليالي لا تمسان إثمدا فكم من فتى موته لو تجردت ... له الحرب لم يفن الحمار المقيدا وأحمر يدعو الله كل عشية ... ليبعده لا بل هو الآن أبعدا ألم تر يا ما كان أحلى محمدا ... وأجمله إن راح في القوم أو غدا ترى منكبيه ينفضان قميصه ... كنفض الرديني الرداء المنضدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 منفوسة بنت زيد بن أبي الغوار رضي الله تعالى عنها كانت إذا مات ولدها تضع رأسه على حجرها وتقول: والله لتقدمك أمامي خير عندي من تأخرك بعدي ولصبري عليك أولى من جزعي عليك, ولئن كان فراقك حسرة, فإن في توقع أجرك لخيره. ثم تنشد قول عمرو بن معد يكرب رضي الله عنه: وإنا لقوم لا تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهر مهجة القرطبية صاحبة ولادة كانت من أجمل النساء في زمانها وأخفهن, وعلقت بها ولادة ولازمت تأديبها, وكانت من أخف الناس روحا ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن تهجوها. ومن شعرها في ولادة حينما كانتا مصطلحتين. لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم ... فما زال يحمى عن مطالبه الثغر فذلك تحميه القواضب والقنا ... وهذا حماه ممن لواحظها السحر ولها أشعار كثيرة لم نشأ جمعها واقتصر منها على هذا المقدار. مي ابنة طلابة بن قيس بن عاصم الغساني كان جدها قيس من أجلاء ملوك العرب وأفاضلهم حتى ضربت به الأمثال لجلاله وسماحته, وحسن جواره ودماثته, وكانت مي قصيرة, عذبة الكلام, بليغة غزالة العينين زجاء الحاجبين مر عليها غيلان بن معدي الكناني المعروف بذي الرمة, وكان غيسانيا مليحا, وشاعرا فصيحا, فأدركه الظمأ فمال إلى سرداقعلا عروضه وأطنابه, وامتدت أوتاده وأسبابه, وإذا بمي تمشط رأسها وقد أسبلت شعرها كأنه عثاكيل النخل ووجهها يشف من خلاله فقال غيلان: هل من إداوة تنفي الأوام. وتشفي من السقام, فأسرعت إلى ماء شيب باللبن وسقته, ثم رحبت به وأنزلته فجلس يأكل مما هيأت, وعيونها تروي له عن الأيام ما خبأت فما انصرف آخر النهار إلا وفي قلبه لاعج وأوار, كأنهما مارج من نار, فعطف يعاودها على طول الشقة وفرط المشقة, وينشد: وكنت إذا ما جئت ميا أزورها ... أرى اورض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها وحدث يوما عقبة الفزاري فقال: ما معناه: أتاني يوما ذو الرمة. فقال: إن في مية خلوفا فهل لك أن تسعدني في الزيارة؟ فقلت: لبيك, ثم سرنا حتى إذا أتينا الربع نظرت النساء إلى غيلان فعرفنه فجئن يتهادين وبينهن مي حتى جلسن لائذات به فقال حسناء منهن: أسمعنا يا ذا الرمة ما قلت: فالتقت إلي وقال لي: أنشدها ما رويت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 عني فاندفعت أقول قصيدته التي أولها: وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه ولما بلغت قوله: نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه فأسلبت العيان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه بكى وامق حال الفراق ولم تحل ... حوائلها أسراره ومعاتبه هو الألف قد حان الفراق ولم تحل ... محاولها أسراره ومقانبه قالت الحسناء: لكن اليوم فلتحل, ثم مضت في الإنشاد, حتى انتهت إلى قوله: وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أحدثها إلا الذي أنا كاذبه إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرض عدو أحاربه قالت مي: ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله! ثم ما زلت في الإنشاد حتى بلغت قوله: إذا رحت من حب لمي سوارح ... على القلب أمته جميعا عوازبه قالت الحسناء: قتلته يا مي قتلك الله! فقالت مي: ما أصحه وهنيئا له, فأصعد ذو الرمة زفرة كاد حرها يحرق عارضيه أما أنا فداومت إنشادي حتى أنتهيت على قوله: إذا راجعتك القول مية أوبدا ... لك الوجه منها أو نضى الدرع سالبه فيالك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومرحوق تعلل شاربه فقالت الحسناء باسمة: قدر وجع الآن القول وبدا الوجه فمن لنا بأن ينضى الدرع سالبه فضحكت مي ثم قالت الحسناء: إن لهذين شأنا ففرجوا عنهما. فقمت مع من قام وجلست بحيث أرهما فتعاتبا طويلا ولم يبرح غيلان من مكانه ولم يسمع حديثهما سوى قولها: كذبت والله ولا أدري بم كذبته. ثم جاءني ومعه نافجة طيب أهدته إياها فقال: شأنك وهده. ثم قال: وهذي قلادة أعطتنيها فو الله لأقلدنها بعيرا. ثم عقدها في سيفه كالحمائل وانصرفنا, ثم وقفنا على أطلال مي فأنشد: ألا يا سلمى يا دار مي على البلي ... ولا زال منهلا يجر عائك القطر وإن لم تكوني غير شام بقفرة ... تجر بها الأذيال صيفية كدر وانضمت عيناه بالعبرة وقال: إني جلد صبور وإن كان مني ما ترى, ثم انصرفنا وكان آخر العهد به فو الله ما رأيت أشد منه صبابة ولا أحسن صبرا. ومن لطائف أشعاره قوله: إذا هبت الأرياح من نحو جانب ... به آل مي زاد قلبي هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 مية بنت ضرار الضبية كانت ذات أدب وفصاحة وحماسة ولها شعر موزون ورثاء مستحسن في أخيها قبيصة وكان قتل في إحدى الغزوات. زمنه قولها: لا تبعدن وكل شيء ذاهب ... زين المجالس والندى قبيصا يطوي إذا ما الشيخ أبهم فضله ... بطنا من الزاد الخبيث خميصا مية بنت عتبة كانت صاحبة حسن وجمال في زمانها وكان أبوها أميرا في قومه مطاعا في عشيرته, وكانت هي لعلو منزلة أبيها مسموعة الكلمة أيضا, وكان رأيها حسنا يستشيرونها في أمورهم. وكان لها معرفة بمعاني الشعر. ولما مات أبوها رثته بأبيات منها ما عثرنا عليه وهو: تروحنا من اللعباء عصرا ... وأعجلنا إلا لاهة أن تؤبا على مثل ابن مية فانعياه ... يشق نواعم البشر الجيوبا وكان أبي عتيبة شمريا ... ولا تلقاه يدخر النصيبا ضروبا باليدين إذا اشمعلت ... عوان الحرب لا روعا هيوبا مريم نحاس نوفل هي ابنة جبرائيل نصر الله نحاس. ولدت في بيروت في 6 كانون الثاني سنة 1856 م (يناير) , وتهذبت في المدارس الإنكليزية السورية مدة ثمان سنوات بين خارجية وداخلية, فتعلمت اللغتين العربية والإنكليزية مع التاريخ والجغرافيا والحساب والبيانو, وجميع أشغال الإبرة واليد. وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1872 م اقترنت بنسيم أفندي نوفل, في المركز الصيفي في جبل لبنان إذ كان والدها وقرينها -المذكورين- من متوظفي الحكومة اللبنانية. وفي خلال سنة 1873 م شرعت بتأليف كتاب عام لأحياء ذكر بنات جنسها اللطيف, وسمته بكتاب "معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء", وهو يتضمن تراجم شهيرات النساء من الأموات والأحياء مرتبا على نسق القواميس الإفرنجية, وقد أعلنت في أكثر الجرائد عن هذا المشروع المبتكر وصرفت باقي عزيمتها على الاشتغال به باذلة في سبيله كل ما أحرزته من الحلي والمجوهرات حتى لا يقال: إن للرجال العلم والأدب, وللنساء الجمال والذهب. وريثما أصبح القسم الأول منه على وشك النهاية رفعته إلى من اشتهرت بين بنات جنسها, مؤسسة المدرسة السيوفية في مصر القاهرة التي كان فيها نحو الثلثمائة تلميذة يغتذين من أبان معارفها وآدابها, حضرة الأميرة جشم آفت هانم أفندي ثالت حرم سمو إسماعيل باشا الخديوي السابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فأفاضت عليها من نعم القبول ما حمل مقدمته إلى نشر جميل الشكر والامتنان في جريدة الأهرام الغراء ذاكرة ما وعدت به الأميرة من المكارم والأحسان. وفي حزيران (يوليو) سنة 1879 م طبع بأمر دولتها مثال للكتاب يتضمن المقدمة وترجمة حياة الأميرة -المشار إليها- وتراجم بعض النساء الشهيرات, وقد وزع في كثير من البلدان العربية غير أن سفر الجناب الخديوي السابق مع آل بيته الكرام إلى نابولي في تلك السنة أوقف السعي بإتمام القسم الثاني من تراجم الأحياء, ومن ثم فإن الحوادث الغريبة التي أضاعت قسما من المعدات والصور التي حضرت لتزيين الكتاب اضطرت المؤلفة أن تصبر على مضض الأيام وفي صدرها حزازات من حكم الزمان, ومن كساد بضائع الآداب في البلاد الشرقية. وهذه الأسباب والمسببات التي قضت بتأجير هذا الكتاب إلى حين من الزمن ما برحت تتردد مع الأيام في فكر المؤلفة حتى توفاها الله في صباح يوم الإثنين من شهر نيسان (إبريل) سنة 1888 م بعد أن أوصت بإتمام مشروعها الذي قضت بين محابرة ودفاتره مدة العمر. وقد رثاها حضرة الشاعر الأديب إلياس أفندي نوفل بقصيدة رنانة فمن جملة ما قال فيها عن وصف الفقيدة: كانت لها التقوى كأبهى حلة ... وصنيع أيديها أجل خضابها وجمال عنوان أسر جمالها ... وبياض باطنها كلون ثيابها وردت سماحة وجهها عن قلبها ... وبدت معافها بطيء كتابها حرف النون نائلة بنت الفرافصة بن الأخوض ابن عمرو. وقيل: ابن عفر بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن علي بن جناب الكلبية زوجة عثمان بن عفان, وكان سبب زواجه بها أن سعيد بن العاص تزوج هند بنت الفرافصة, فبلغ ذلك عثمان, فكتب إليه: "أما بعد, فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب فاكتب إلي بنسبها وجمالها". فكتب إليه: "أما بعد, فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأخوص, وجمالها أنها بيضاء مديدة. فكتب: "إن كانت لها أخت فزوجنيها" فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب ابنته على عثمان, فأمر ابنه ضبا أن يزوجها إياه, وكان ضب مسلما, وكان الفرافصة نصرانيا, فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها: يا بنية, إنك تقدمين على نساء قريش هن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني خصلتين فتكحلي وتطيبي بالماء حتى يكون ريحك شن ريح أصابه مطر, فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشدت تقول: ألست يا ضب بالله إنني ... مصاحبة نحو المدينة أركبا إذا قطعوا حزنا تحث ركابهم ... كما زعزعت ريح يراعا مثقبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم ... لك الويل ما يغني الخباء المطنيا فلما قدمت على عثمان قعد على سريره ووضع لها سريرا حياله فجلست عليه فوضع عثمان قلنسوته فبدا الصلع فقال: يا ابنة الفرافصة, لا يهولنك ما ترين من صلعي فإن وراءه ما تحبين, فسكتت, فقال: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع. وإما قولك: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فو الله ما تجشمته من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جانبه فمسح رأسها ودعا لها بالبركة, ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك. فطرحته, ثم قال لها: اطرحي خمارك. فطرحته, ثم قال لها: انزعي درعك. فنزعته, ثم قال لها: حلي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحل إزارها فكانت من أحظى نسائه عنده. وروى عن أبي الجراح مولى أم حبيبة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار فما شعرت إلا وقد خرج محمد بن أبي بكر ونائلة تقول: هم في الصلح. وإذا بالناس قد دخلوا من الخوخة ونزلوا برأس الحبال من سور الدار ومعهم السيوف فرميت بنفسي وجلست عليه, وسمعت صياحهم, فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها فقال لها عثمان: خذي خمارك. فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك, وأهوى رجل إليه بالسيف فاتقته بيدها فقطع إصبعين من أصابعها, ثم قتلوه وخرجوا يكبرون, ولما قتل عثمان قالت نائلة: ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل الذي جاء من مصر ومالي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو وكتبت نائلة إلى معاوية بن أبي سفيان وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير وهذه صورة ما كتبت من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد, فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة, وأنقذكم منم الكفر, ونصركم على عدوكم, وأسبغ عليكم نعمه, أنشدكم بالله وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه وبعزمة الله عليكم فإنه قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) (الحجرات: 9) , وأن أمير المؤمنين بغى عليه ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتى لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه في الإسلام وحسن بلائه, وأنه أجاب داعي الله وصدق رسوله والله أعلم, إنه إذا انتخبه فأعطاه شرف الدنيا والآخرة وإني أقص عليكم خبره لأني كنت شاهدة أمره كله حتى قضى الله عليه. إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قياما على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء, يحضرون فيقولون له: الإفك, فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر, وكان علي مع الحضريين ممن أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر, وهذيل, وطوائف من مزينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وجهينة وأنباط يثرب, ولا أرى سائرهم ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره. ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فنهاهم علي وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة, وفي الأمر إلا غراء, ثم أحرقوا باب الدار فجاءهم ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا: إن في المسجد أناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك. فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية, وما أرى أحدا يعادل فدخل الدار وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح, فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعاً فوثب عليه القوم فكلمهم الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة, وبعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقة أن لا تضروه بشيء فكلموا وتحرجوا فوضع السلاح فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر حتى أخذوا بلحيته وذبحوه ودعوه باللقب فقال: أنا عبد الله خليفته فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا بها فأتتني بنت شيبة بن ربيعة, فألقت نفسها معي عليه فتواطؤنا وطأ شديدا, وعرينا من ثيابنا, وحرمة أمير المؤمنين أعظم, فقتلوه -رحمة الله عليه- في بيته وعلى فراشه, وقد أرسلت غليكم بثوبه وعليه دمه, وإنه والله لئن كان سلم من قتله لم يسلم من خذله فانظروا أين أنتم من الله -عز وجل- فإنا نشتكي ما مسنا إليه ونستنصر وليه وصالح عباده ورحمة الله على عثمان, ولعن من قتله وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة, وشفي منهم الصدور, فحلف رجال من أهل الشام أن لا يطؤا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم فكانت هذه الرسالة بسببها واقعة صفين. ناجية بنت ضمضم المري هي أخت هرم بن ضمضم كانت من شاعرات العرب الذين يحضرون الوقائع ويحرضون على القتال ولها أشعار قالتها في أختها هرم -المذكور- حين قتله ورد بن حابس العبسي في حرب داحس: يا لهف قلبي لهفة المفجوع ... أن لا أرى هرما على مودوع من أجل سيدنا ومصرع جنبه ... علق الفؤاد بحنظل مجدوع وقالت فيه أيضا: دعته المنايا دعوة فأجابها ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم عيشة راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم فإن يك غالته المنايا ورببها ... فقد كان معطاء كثير التراحم ولها أيضا: الواهب المائة التلا ... دلنا ويكفينا العظيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والدافع الخصم الألد ... إذا تفوضح في الخصومة بلسان لقمان بن عا ... د وفصل خطبته الحكيمة ألجمتهم بعد التجا ... ذب والتدافع في الحكومة نزهون الغرناطية جوهرة لم يسمح الدهر, وفريدة فاقت على نساء العصر, فما الآداب إلا نقطة من بحرها الرائق, وما الجمال إلا من نور وجهها الشارق. لها ناد لم يؤمه إلا الأفاضل, ومجلس لم يجتمع فيه إلا كل عاقل, وكانت لطيفة المسامرة, حسنة المحاضرة, حافظة لأشعار العرب وأمثالها, ولم يكن بغرناطة إذ ذاك أحد من أمثالها, وهي من أهل المائة الخامسة ذكرها الحجازي في "المسهب" ووصفها بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال, مع جمال فائق وحسن رائق, وكان الوزير أبو بكر بن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها فكتب لها مرة: يا من له ألف خل ... من عاشق وصديق أراك خليت للنا ... س منزلا في الطريق فأجابته: حللت أبا بكر محلا منعته ... سواك وهل غير الحبيب له صدري وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق حب أبي بكر ولما قال فيها المخزومي: على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا قالت: إن كان ما قلت حقا ... من بعد عهد كريم وصرت أقبح شيء ... في صورة المخزوم فصار ذكري ذميما ... يعزى على كل لوم وقال لها بعض الثقلاء ما على من أكل معك خمسمائة سوط فقالت: وذي شقوة لما رآني له ... تمنيه أن يصلي معي جاحم الضرب فقلت له كلها هنيئا فإنما ... خلقت إلى لبس المطارف والشرب وقد اجتمعت مرة مع ابن قزمان في دار الوزير أبي بكر فقالت له عقب ارتجال بديع -وكان يلبس جبة صفراء-: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين. فقال لها: إن لم أسر الناظرين فأنا أسر السامعين, وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 يطلب سرور الناظرين منك يا فاعلة يا صانعة. وتمكن السكر من ابن قزمان وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة, فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرا من الماء ثيابه تهطل. فقال: اسمع يا وزير, وقال له أبياتاً, أضربنا عنها لعدم اللزوم وخروجها عن حد الآداب, فأمر له بما يليق من الثياب وأجزل له الصلة وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى, فدخل عليها أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي: لو كنت تبصر من تجالسه فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئا فقالت نزهون: لغدوت أخرس من جلالته البدر يطلع من أزرته والغصن يمرح في غلالته ومن شعرها: لله در الليالي ما أحيسنها ... وما أحيسن منها ليلة الأحد لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد نعمى جارية ظريف بن نعيم كانت أدبية ظريفة ذات جمال زاهر, ولطف باهر. وكان سيدها شغف بها شديدا, فلما كان يوم وهو جالس في داره إذا بشرطة الحجاج دخلت عليه فأخذوه حتى أدخلوه عليه فقال: علي بالجارية. فقال أصلح الله الأمير إنها روحي فلا تكن سبب هلاكي, فأمر بالقبض عليه وأرسل من جاء بالجارية, فلما رآها علم أنها لا تبقى له إن عرف الخليفة بأمرها فوجه بها إلى الشام من ليلتها إلى عبد الملك وحبس الشاب, فلما زال عقله أطلقه وأخذ ماله وتوجه الشاب إلى دمشق فأقام بها مدة متنغص الحياة, فأراد أن يحتال على الاجتماع بالجارية فلم يمكن فوقع في رقعة أن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته نعمى أن تغني لي ثلاثة أصوات اقترحتها, ثم يفعل ما يشاء أن يفعل, فلما قرأ القصة اشتد غضبه, ثم عاوده الحلم, فلما انصرف أحضر الشاب والجارية وقال: مرها بما شئت. فقال لها: غني قول قيس بن ذريح: لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور سأبكي على نفسي بعين غزيرة ... بكاء حزين في الوثاق أسير وكنا جميعا قبل أن يظهر النوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور فغنت فمزق أثوابه, ثم قال لها غني قول جميل: فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... كليلتنا حتى نرى ساطع الفجر تجود علينا بالحديث وتارة ... تجود علينا بالرضاب من الثغر فليت إلهي قد قضى ذاك مرة ... ويعلم ربي عند ذلك ما شكري ولو سألت مني حياتي بذلتها ... وجدت بها أن كان ذلك من أمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 فغنت فغشي عليه ثم أفاق فقال: غني قول المجنون: عرضت على نفسي العزاء فقيل لي ... من الآن فايأس لا أعزك من صبر إذا بان من تهوى وأصبح نائيا ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر فلما غنت قام فألقى نفسه من شاهق فمات. فقال عبد الملك: لقد عجل على نفسه, أيظن أني أخرجت جارية وأعود فيها خذها يا غلام فأعطها لورثته. أو فتصدقوا بها عليه, فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة معدة للسيل فجذبت يدها من الغلام وهي تقول: من مات عشقا فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت وأقلت نفسها في الحفيرة فماتت. السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي الطالب قال المقريزي: إن أمها أم ولد تزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر فولدت له ولدين: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا وبعده تزوجت بالحسن بن زيد فولدت له نفيسة, وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه فيقال: إنها حجت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون, وكانت تحفظ القرآن وتفسيره, وكانت لا تأكل إلا في كل ثلاث ليال أكلة واحدة وذكر أن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- زارها من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي وكان (ب) صحبته عبد الله بن عبد الحكم وماتت -رضي الله عنها- بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين. وقيل: إنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وقد توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين للهجرة ودفنت في منزلها المعروف بخط درب السباع بمصر ويقال: إنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه مائة وسبعين ختمة وإنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (الأنعام: 12) ففاضت نفسها مع قوله تعالى: (الرحمة) (الأنعام: 12) , وكان سبب دخولها إلى مصر كما قال ابن خلكان: إنها دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر وقيل: مع أبيها الحسن, وإنها لما استقر بها المقام ودخل الشافعي إلى مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم وهو إلى الآن باق كما كان, ولما توفي الإمام الشافعي أدخلت جنازته إليها وصلت عليه في دارها. ولما ماتت عزم زوجها على حملها إلى المدينة فسأله المصريون بقاءها عندهم ودفنت في الموضع المعروف بها الآن. وقال الشيخ محمد الصبان في كتابه إسعاف الراغبين إن السيدة نفيسة -رضي الله عنها- ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة والزهد وكانت ذات مال ولما ورد الشافعي إلى مصر كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 تحسن إليه وربما صلى بها في رمضان. ولما قدمت مصر كانت بها بنت عمها السيدة سكينة ولها بها الشهرة التامة فخلعت عليها الشهرة, فصار للسيدة نفيسة القبول التام بين الخاص والعام, وماتت وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت: وا عجباه لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن هذا لا يكون؟! ثم قرأت سورة الأنعام. فلما وصلت إلى قوله تعالى: (لهم دار السلم عند ربهم) (الأنعام: 127) ماتت ودفنت بمدفنها المشهور الآن. وقال السخاوي في كتاب المزارات إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة, وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس, فزارت قبر الخليل إبراهيم, وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائة وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم تلقاها الرجال والنساء من العريش, ونزلت أولا عند كبير التجار بمصر وهو جمال الديم عبد الله بن الجصاص وكان من أصحاب المعروف والبر, فأقامت عنده شهورا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرك, ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم وسبب ذلك أن بنتا يهودية زمنة تركتها أمها عندها وذهبت إلى الحمام فقدر الله شفاءها على يد السيدة -رضي الله عنها- وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السبعين نفرا, ولما شاع ذلك لم يبق أحد في مصر, إلا قصد زيارتها وكثر الناس على بابها فطلبت الرحيل إلى بلاد الحجاز فشق على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبت, فركب إليها السري بن الحكم وسألها الإقامة فقالت: إني امرأة ضعيفة وقد شغلوني عن عبادة ربي ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف. فقال لها السري: أما ضيق المكان فإن لي دارا واسعة بدرب السباع فأشهد الله أني قد وهبتها لك وأسألك أن تقبليها مني, وأما الجموع الوافرة فقرري معهم أن يكون ذلك يومين في كل أسبوع وباقي أيامك في خدمة مولاك فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفيت. وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم وقيل: إن الحنفي كان يقول عند زيارتها السلام والتحية والإكرام من العلي الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة وابنة علم العشرة الإمام حيدرة السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم أخي الإمام الحسين سيد الشهداء المظلوم السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء وسلالة خديجة الكبرى -رضي الله تبارك وتعالى عنك وعن جدك وأبيك- وحشرنا في زمرة والديك وزائريك. اللهم بما كان بينك وبين جدها ليلة المعراج اجعل لنا من همنا الذي نزل بنا انفراج, واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين. وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها: يا رب إني مؤمن بمحمد ... وبآل بيت محمد بتوال فبحقهم كن شافعا لي منقذا ... من فتنة الدنيا وشر مآل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وكان بعضهم يقول أيضاً: يا بني الزهراء والنور الذي ... ظن موسى أنه نار قبس لا أوالي قط من عاداكم ... أنهم آخر سطر في عبس وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركا بمقامها المنيف, فمنهم ذات الحجاب المنيع والقدر الرفيع, والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أنشأت رباطا بجوارها والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة وشيد بناءه, ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس المعروف بالأسمر في سنة إحدى وسبعمائة أمر السلطان الناصر أن يدفن بالمشهد النفيسي فدفن هناك وأقيمت عليه قبة. ومن النوادر التي حصلت في مشهد السيدة نفيسة كما قال الجبرتي في تاريخه والأمير علي باشا مبارك في خططه أنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف اجتمع الخدام في المشهد النفيسي بواسطة كبيرهم الشيخ وأظهروا عنزا صغيرا وزعموا أن جماعة أسرى من بلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا ذلك العنز لذبحه في الليلة التي يجتمعون فيها للذكر والدعاء ويتوسلون في خلاصهم من الأسر, فاطلع عليهم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز فرأى في المنام رؤيا هائلة فاعتقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين فحضروا إلى مصر ومعهم العنز فذهبوا بها إلى المشهد النفيسي وكثرت فيه الخرافات وتقاويل الناس فمن قائل: إنهم أصبحوا وجدوها عند المقام. ومن قائل: فوق المنارة. ومن قائل: سمعناها تتكلم. ومنهم من يقول: السيدة أوصت عليها وأن الشيخ سمع كلامها من القبر, ثم بعد هذه الشهرة أبرزها الناس وجعلها بجانبه وجعل يقول من الخرافات التي يستجلب بها قلوب الناس ويجمع بها الدنيا وتسامع الناس بذلك وأقبلوا من كل فج رجالا ونساء لزيارتها, وأتوا للشيخ بالنذور والهدايا, وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق, ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر, فأتوه من كل جانب بالقناطير من ذلك وعلموا للعنز القلائد والأطواق الذهبية, وافتتنوا بها وشاع ذلك الخبر عند الوزراء والأمراء وأكابر النساء فجعلن يرسلن كل على قدر مقامه من النذور, وازدحمن على زيارتها فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يتلمس منه الحضور إليه بالعنز ليتبرك بها هو وحريمه فركب الشيخ بغلته والعنز في حجره, وصحبته الطبول والبيارق والجم الغفير من الناس حتى دخلوا إلى بيت ذلك الأمير علىتلك الحالة, وصعد بها إلى المجلس وعنده كثير من الأمراء فتملس بها وأمر بإدخالها إلى الحريم للبركة, وكان قد أوصى بذبحها وطبخها, فلما ذبحوها وطبخوها أخرجوها مع الغداء فأكلوا منها وصار الشيخ يأكل والأمير يقول: كل يا شيخ من هذا التيس السمين. فيقول: والله إنه طيب ونفيس, وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون, فلما أكلوا وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أن الذي كان بين يديه وأكل منه هو العنز, فبهت الشيخ عند ذلك ثم بكته الأمير ووبخه وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته, وأن يذهب به كما جاء بموكبه وبين يديه الطبول والأشائر ووكل به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 أوصله إلى محله على الصورة المذكورة وفي ذلك يقول الأديب الكامل والشاعر الناثر عبد الله بن سلامة الأدكاوي: ببنت رسول الله طيبة الثنا ... نفيسة لذ تظفر بما شئت من عز ورم من جداها كل خير فإنها ... لطلابها يا صاح أنفع من كنز ومن أعجب الأشياء تيس أراد أن ... يضل الورى في حبها منه بالعنز فعاجلها من نور الله قلبه ... بذبح وأضحى الشيخ من أجلها مخزي نصرة إيلياس غريب ولدت نصرة غريب بطرابلس الشام عام 1862 م من عائلة غريب وأمها من فاضلات النساء, فورثت منها طيب الأخلاق وصفاء النية ورقة الجانب وكانت وحيدتها فاعتنت بتربيتها وأرضعتها لبان العلوم في أحسن مدارس طرابلس فتمكنت منها المناقب الحسنة بالقدوة والتربية وهذه القوى الثلاث أي الوراثة والقدرة مصدر الأخلاق ودعامتها, فقلما يطيب فرع أصله خبيث, وقلما يخبث فرع أصله طيب. ولما بلغت السابعة عشرة اقترنت بجناب الوجيه "عزتلو ادوار بيك إيلياس" وسكنا في مدينة الإسكندرية مدة ثم انتقلا إلى مصر القاهرة واشتهرت بين معارفها وسيداتها بالذكاء وصفاء النية, وعزة النفس, وحب الإنسانية. وقيل: إنها كانت تتصدق على الأرامل والمحتاجين الصدقات الكثيرة مع ما كانت عليه من الاقتصاد في النفقات الابتعاد عن الإسراف في المعيشة. وكانت تعين زوجها في جميع أشغاله وفي تدبير بيتها, ولها الرأي الصائب والقول السديد كما شهد هو نفسه ولما جاءت إلى القاهرة ورأت أن ليس فيها عند الطائفة الأرثوذكسية جمعية خيرية أخذت تحث وجهاء هذه الطائفة على إنشاء جمعية مثل جمعية الإسكندرية لمساعدة المساكين. وكانت تحب جريدة المقتطف العلمية وتطالعها وتذاكر في بعض مواضيعها, وتلتذ بالمذاكرة العلمية فتصغي إليها بكليتها كمن يفهم دقائق الأمور وكانت كثيرة المالعة دقيقة الانتقاد, وإذا أعجبها كتاب أشارت على صديقاتها بمطالعته وإذا رأت في كتاب ما لا ستحسن ذمته ولامت واضعيه. وكانت اجتمعت مع مريم مكاريوس وأخريات من الفاضلات يتذاكرن في حالة المرأة الشرقية ووددن أن يعم تعليم البنات وتهذيبهن على أسلوب يصرفهن عن الاكتفاء بقشور التمدن الأوربي ويرغبهن باقتباس الفضائل السامية التي ترفع شأن المرأة وتؤهلها لتربية النوع الإنساني. ولما كانت على هذه الصفات الحسنة لم تكن طويلة العمر مديدة الحياة حتى كانت تنفع بنات جنسها ولكن اختطفتها المنية وهي في ريعان الشباب فتوفيت مأسوفا عليها من الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 نوار بنت أعين بن صعصعة ابن ناجية بن عقال المجاشعي كانت أحسن نساء زمانها وجها وأجملهن خلقا, وأفصحهن منطقا. وكانت ذات أدب زائد, ومعرفة تامة بالأوابد, مكرمة عند قومها مسموعة الكلمة فيهم تزوج بها الفرزدق -الشاعر المشهور- رغما عنها. قيل: إن سبب زواجها به أنه كان خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيت به وكان الفرزدق وليها وهو ابن عمها, فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل. فقال لها: لا أفعل إلا أن تشهدي بأنك قد رضيت بمن أزوجك به ففعلت. فلما توثق منها قال: أرسلي إلى القوم أن يأتوا, فجاء بنو عبد الله بن دارم فلما اجتمعوا في مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى عبد الله بن الزبير حين أعياها أهل البصرة أن لا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود, وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة فلم تجد من يحملها إليه, وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة ويقال لهم: بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم ليحملنها, فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار. وقال: لولا أن يقول بنو عدي ... ألم تك أم حنظلة النوار أتتكم يا بني ملكان عني ... قواف لا تقسمها البحار وقال فيهم أيضا: لعمري لقد أردي النوار وساقها ... إلى اليوم أحلام خفاف عقولها أطاعت بني أم النسير فأصبحت ... على قتب يعلو الفلاة دليلها وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى ... به قلبها الأزواج خاب رحيلها وإن امرأ أمسى يخبب زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها ومن دون أبواب الأسود بسالة ... وبسطة أيد يمنع الضيم طولها وإن أمير المؤمنين لعالم ... بتأويل ما أوصى العباد رسولها فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولعة يوهى الحجارة قيلها وما جادل الأقوام من ذي خصومة ... كورها مشنوء إليها حليلها فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير, فلما قدم الفرزدق إلى مكة اشرأب الناس غليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه فكان مما أنشدهم قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 أمسيت قد نزلت بحمزة حاجتي ... إن المنوه باسمه الموثوق بأبي عمارة من وطئ الحصى ... وجرت له في الصالحين عروق بين الحواري الأغر وهاشم ... ثم الخليفة بعد والصديق وقال أيضا: يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت أنصاره بمكان غير ممطور فأنت أحرى قريش أن تكون لها ... وأنت بين أبي بكر ومنظور بين الحوراي والصديق في شعب ... صبتين في طلب الإسلام والخير ثم شفعوه إلى أبيهم فجعل يقبل شفاعتهم في الظاهر حتى إذا جاء إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك: أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا فبلغ ذلك ابن الزبير فدعا بالنوار فقال: إن شئت فرقت بينكما أقتله فلا يهجونا أبدا, وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فيقتل فقالت: لا أريد واحدة منهما. فقال لها: إنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه, فقالت -وقد فضلت عذابها على هلاكه-: نعم قد رضيت. فدعا بالفرزدق. وقال له: جئني بصداق النوار وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع وأنك تحكم علي لتثب عليها وتصطفيها لنفسك, وكان ابن الزبير حديدا. فقال لها: هل أنت وقومك إلا جالية العرب. ثم أمر فأقيم الفرزدق من مجلسه وأقبل على من حضر فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فأجمعت العرب بما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة, ثم حتم على الفرزدق إن لم يحضر صداقها ليقتلنه شر قتله فبلغ ذلك الفرزدق فقال: إن ابن الزبير يعيرنا بالجلاء ثم قال: فإن تغضب قريش ولتغضبي ... فإن الأرض توعبها تميم هم عدد النجوم وكل حي ... سواهم لا تعد لهم نجوم ولولا بيت مكة ما ثويتم ... بما صبح المنابت والأروم بها كثر العديد وطاب منكم ... وغيركم أخيذ الريش هيم فهلا عن تعلل من غدرتم ... بخونته وعذبه الحميم فعبد الله مهلا عن أذاتي ... فإني لا الضعيف ولا السؤم ولكني صفاة لم تدنس ... تزل الطير عنها والعصوم أنا ابن العاقر الخور الصفايا ... يضنوا حين فتحت العلوم فبلغ هذا الشعر ابن الزبير فأسره في نفسه وخرج يوما للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فعمد إلى عنقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فكاد يدقها. وقال له: لا بد أن تنفذ حكمي فتركه لا يعي ما يفعل, فقيل له: عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فذهب إليه وقص عليه قصته. فقال له: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف دينار فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق في ذلك: دعي مغلق الأبواب دون فعالهم ... ولكن تمشي بي هبلت إلى سلم إلى من يرى المعروف سهلا سبيله ... ويفعل أفعال الرجال التي تمني ولما ذهب إلى ابن الزبير ونقده المال سلمها له ومالها معها فقال الفرزدق: خرجنا ونحن متناغضان فعدنا ومحن متحابان وأنشد يقول لها: هلمي لابن عمك لا تكوني ... كمختار على الفرس الحمارا فجاء بها إلى البصرة فقال جرير: ألا لا تلم عرس الفرزدق جامحا ... فلو رضيت رمح استه لاستقرت فقال الفرزدق مجيبا له: وأمك لو لاقيتها بي مرة ... وجاءت بها جرف إستها لاستقرت وقيل: إنها لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم فقال فيها: بني عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجئ للسوءات دسم العمائم بني عاصم لو كان حيا أبوكم ... للام بنيه اليوم قيس بن عاصم فبلغهم ذلك الشعر وقالوا له: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة: وكانت النوادر دائما تتخاصم معه وتغضب منه وتنفر عنه ومكثت معه زمانا طويلا, وهي في نكد وعدم راحة. وكانت عندما تغضب منه تقول: ويحك أنت تعلم إنك إنما تزوجتني ضغطة وخدعة علي ولم تزل في كل ذلك على مضض حتى حلفت اليمين الموثق, ثم حنثت بها وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها: جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لجرير بن عباد بن ضبيعة فجعل يأتي النوار وبه ردغ وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجها إلا هدادية؟ -تعني حيا من بني أزد بن عمان- فقال الفرزدق: تريك نجوم الله والشمس حية ... كرام بنات الحارث بن عباد أبوها الذي قاد النعامة بعدما ... أبت وائل في الحرب غير تمادي نساء أبوهن الأغر ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهداد ولم يك في الحي الغموض محلها ... ولا في العمانيين رهط زياد عدلت بها مثل النوار فأصبحت ... وقد رضيت بالنصف بعد بعاد ولم تزل النوار بالفرزدق ترفق به وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها أن لا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج غيره بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له. وأخذت عليه أن يشهد الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 البصري على طلاقها فأجابها لذلك واستصحب معه رواية أبي شفقل وراوية أخرى وصحبت النوار رجالا كثيرة كانوا يلوذون بالسواري خوفا من الفرزدق أن يراهم, فساروا جميعا حتى أتوا الحسن البصري. فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد, اشهد أن النوار طالق ثلاثا. فقال الحسن: قد شهدنا فلما انصرفوا. قال الفرزدق لأبي شفقل: قد ندمت. فقال له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق, أتدري من أشهدت! -يعني بذلك الحسن البصري- والله لئن رجعت لترجمن بالأحجار ومضى وهو يقول: ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار ولو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح ما يضيء له النهار وقيل: إن النوار أوصت الفرزدق قبل موتها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق في ذلك. فقال له: إن كانت وفاتها قبلنا فأخبرني بها فكان كذلك, وقد توفيت وأخرجت وجاء الحسن البصري وسبقهما الناس, فانتظروهما. فأقبلا والناس منتظرون, فقال الحسن: ما للناس؟ فقال الفرزدق: ينتظرون خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: لست بخير الناس ولا شرها, ثم صلوا عليها ودفنوها. وقال له الحسن: ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة, ثم نظر إلى قبر النوار وأنشد: لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر التهابا وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يقود الفرزدق نيكتورسيس هي ملكة فرعونية من ملوك مصر وهي من ملوك الدولة السادسة المصرية, كانت أكثر نساء عصرها لطفا وجمالا, وأشهر بنات مصرها فضلا وكمالا, وأغزر علماء زمانها عقلا ودهاء, وأوفر الناس حزما وذكاء قيل: إن المصريين أشربوا حبها وفتنوا بها, فأدخلوها بعد الممات في مصاف المعبودات. ومما ذكر عن دهائها أن فريقا من رجال الدولة وثبوا على أخيها وقتلوه إذ كان ملكا قبلها وكان ذلك منهم بغيا وظلما ولما خلفته على العرش دعت الباغين لمأدبة أعدتها لهم في قصر عظيم جميل قائم على أخدود بجوار نهر النيل ولما مدت الأسمطة وابتدأوا بالطعام وآلات الطرب عازفة تبدد بألحانها كتائب الأشجان, وتغنيهم بأغاريد تغنيهم عن ارتشاف سلافة ألحان, أمرت إذ ذاك بماء نهر النيل فنساب عليهم حتى أغرقهم عن آخرهم وكانوا زهاء الخمسين فلقوا كنودهم الذميم, وأملت عليهم إن كيد عظيم: وما من يد إلا يد الله فوقها ... وما ظالم إلا سيبلى بأظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 حرف الهاء هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام كانت جارية مصرية ذات هيئة جميلة قد وهبها فرعون ملك مصر لسارة زوجة إبراهيم -عليه السلام- حينما كانت عنده وقد وهبتها سارة لإبراهيم -عليه السلام- وقالت له: إني أراها امرأة وضيئة فخذها لعل الله تعالى يرزقك منها ولدا فتزوجها إبراهيم وقد رزقه الله منها إسماعيل -عليه السلام- وذهب بهما إلى مكة لسبب أن إسحاق بن سارة اقتتل مع إسماعيل ذات يوم كما تفعل الصبيان فغضبت سارة على هاجر وقالت: لا تساكنيني في بلد وأمرت إبراهيم بعزلهما عنها وقد أوحى الله إليه أن يأتي بهما مكة ففعل وأنزلهما موضع الحجر وأمرهما أن تتخذ عريشا ثم قال: (ربنا) (إبراهيم: 37) (إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) (إبراهيم: 37) ثم انصرف فاتبعته هاجر فقالت: إلى من تكلنا؟ فجعل لا يرد عليها شيئاً فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم, قالت: إذا لا يضيعنا. ثم انصرف راجعاً إلى الشام وكان مع هاجر قربة فيها ماء فنفد الماء فعطشت وعطش الصبي, فنظرت إلى الجبال التي أدنى من الأرض فصعدت إلى الصفا وتسمعت لعلها تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا ولم تر أحدا, ثم إنها سمعت أصوات سباع الوادي نحو إسماعيل فأقبلت إليه بسرعة لتؤنسه, ثم إنها سمعت صوتا نحو المروة فسعت وما تدري السعي كالإنسان المجهد فهي أول من سعى بين الصفا والمروة. ثم صعدت المروة فسمعت صوتا كالإنسان الذي يكذب سمعه منه حتى استيقنت وجعلت تدعو اسمع اييل -يعني يا الله- قد أسمعتني صوتا فأغثني فقد هلكت ومن معي فإذا هي بجبريل -عليه السلام- فقال لها: من أنت؟ فقالت: سرية إبراهيم -عليه السلام- تركني ههنا. قال: وإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله تعالى. قال: فقد وكلكما إلى كاف ثم جاء بهما وقد نفد طعامهما وشرابهما حتى انتهى بهما إلى موضع "زمزم" فضرب بقدمه ففارت عين (فلذلك يقال: لزمزم ركضة جبريل عليه السلام) . فلما نبع الماء أخذت هاجر قربة لها وجعلت تسقى فيها تدخره فقال لها جبريل -عليه السلام-: إنها روى. وجعلت أم إسماعيل تجعلها بئرا بحيث لا يخرج منها الماء إلى خارجها خوفا من نفادها. فقال لها جبريل: لا تخافي الظمأ على أهل هذه البلدة فإنها عين لشرب ضيفان الله تعالى. وقال لها: أما إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله تعالى بيتا هذا موضعه. قالوا: ومرت رفقة من "جرهم" تريد الشأم فرأوا الطير على الجبل فقالوا: إن هذا الطير لحائم على ماء فأشرفوا فإذا هم سكان مكة حتى شب إسماعيل وماتت هاجر قبل سيدتها سارة ودفنت في الحجز. هجيمة أم الدرداء كانت فقيهة عاقلة جليلة. وهي أم بلال بن أبي الدرداء. قيل: خطبها معاوية بعد أن توفي زوجها, فلم تجب وروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 عنها جماعة من التابعين الكبار, وكانت تقيم ببيت المقدس ستة أشهر. وبدمشق ستة أشهر, وكانت تجلس للصلاة في صفوف الرجال, وكانت تحب مجالس العلماء. وكانت تقول: "أفضل العلم المعرفة". وتقول: "تعلموا الحكمة صغارا تعلموا بها كبارا". وكانت لا تفتر عن الصلاة ملازمة للعبادة. وكانت معظمة عند بني أمية, وتوفيت بعد أبي الدرداء بدمشق ودفنت بباب الصغير. هزيلة الجديسية كانت بنو طسم بن لوز بن أزهر بن سام بن نوح وبنو جديس بن عامر بن أزهر بن سام بن نوح ساكنين في موضع اليمامة, وكان اسمها حينئذ "جوا", وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيرا وكان ملكهم أيام ملوك الطوائف عمليقا, وكان ظالما وقد تمادى في الظلم وإن هزيلة هذه طلقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها فخاصمته إلى عمليق وقالت: أيها الملك, حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شفعا حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله أراد أن يأخذه مني كرها. ويتركني بعده ورها. فقال زوجها: أيها الملك, أعطيت مهرها كاملا ولم أصب منها طائلا إلا وليدا خاملا فافعل ما أنت فاعل. فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تباع المرأة فيعطى زوجها خمس ثمنها ويباع الرجل وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها فقالت: هزيلة: أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأنفذ حكما في هزيلة طالما لعمري لقد حكمت لا متورعا ... ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما ندمت ولم أندم وأني بعترتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما فلما سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوج بكر من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها, فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا ولم يزل يفعل ذلك حتى تزوجت الشموس وهي عفيرة بنت عفار وقيل: يعفر, وقيل عبار أخت الأسود, فلما أراد حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله ومعها الفتيان, فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها فخرجت إلى قومها تعتثر في دمائها وقد شقت درعها من قبل ومن دبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول: لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بذا يا قوم بعل حر ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر وقالت أيضا لتحريض قومها: أيجمل ما يؤتى إلى فتيانكم ... وأنتم رجال فيكم عدد, النمل وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... جهارا وزفت بالنساء إلى بعل ولو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر لذا الفعل فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ... وذبو النار الحرب بالحطب الجزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وإلا فخلوا بطنها وتحملوا ... إلى بلد قفر وموتوا من الهزل فللبين خير من مقام على الأذى ... وللموت خير من مقام على الذل وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغيب عن الكحل ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل فلما سمع أخوها الأسود قولها: وكان سيدا مطاعا. قال لقومه: يا معشر جديس, إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم لا يملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا لما كان له فضل علينا ولو امتنعنا لانتصفنا منه فأطيعوني فيما آمركم فإنه عز الدهر وقد حمى جديس لما سمعوا من قولها فقالوا: نطيعك ولكن القوم أكثر منا! قال: فإني أصنع للملك طعاما وأدعوه وأهله إليه فإذا جاءوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم. فقالوا: افعل فصنع وجعله التلد ودفن وهو وقومه سيوفهم في الرمل, ودعا الملك وقومه فجاءوا يرفلون في حللهم, فلما أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم يأكلون أخذت جديس سيوفهم وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة منهم وقد نجى الله هذه القبيلة بسبب تلك الفتاة. هند أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومية وأمها عائلة بنت عامر بن ربيعة كانت امرأة لأبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد وهاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين, فولدت له هناك زينب ثم ولدت سلمة ودرة وعمر قيل: إنها لما هاجرت إلى المدينة. قالت: حينما أجمع أبو سلمة الخروج رحل بعيرا له وحملني وحمل معي ابني سلمة, ثم خرج يقود بعيره, فلما رآه رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام تترك تسير بها في البلاد ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وأهووا إلى سلمة, وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة وبذلك فرقوا بيني وبين زوجي وولدي, فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبها حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة لزوجها؟ فرقتم بينها وبينه وبين ابنها! فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. ولما علم بنو عبد الأسد بذلك ردوا علي ابني فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري, ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله تعالى فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي إذ كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار فقال: أين ابنة بني أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله, وابني هذا. فقال: والله ما لك من منزل. فأخذ بخطام البعيرة فانطلق معي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 يقودني فو الله ما صبحت رجلا من العرب كان أكرم منه إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله, ثم تأجر عني وقال: اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ننزل, فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة, فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية وكان أبو سلمة نازلا بها فدخلتها على بركة الله تعالى ثم انصرف راجعا إلى مكة. وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب بيت أبي سلمة وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة وهي أول ظعينة هاجرت إلى المدينة وقيل: إنه لما انقضت عدتها بعث أبو بكر إليها يخطبها عليه فلم تزوجه, فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يخطبها عليه فقالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غيرى وأني امرأة مصبية وليس أحد من أوليائي شاهدا. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "ارجع إليها فقل لها: أما قولك إني امرأة مصبية فستكفين صبيانك وأما قولك ليس أحد من أوليائي شاهدا فليس أحد من أوليائك شاهدا أو عاثبا يكره ذلك. وقولك: إنك امرأة غيرى فسندعو الله يصرف عنك الغيرة". فلما بلغها ذلك قالت لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه. وحكي عنها أنها قال: في بيتي نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 33) وكانت من أجمل النساء وشهدت غزوة خيبر وتوفيت بعد قتل الحسين أي سنة 61 للهجرة وقيل: بل توفيت سنة 59 (هـ) وسند الرأي الأول ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أم سلمة ترابا من تربة الحسين حمله إليه جبريل فقال لها: إذا صار هذا التراب دما فقد قتل الحسين, فحفظته في قارورة عندها, فلما قتل الحسين صار التراب دما, فأعلمت الناس بقتله. وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلثمائة حديث وثمانية وعشرين حديثا, وقد عاشت أربعا وثمانين سنة وصلى عليها أبو هريرة ودفنت بالبقيع من أرض الحجاز. هند بنت النعمان بن بشير كانت أحسن نساء زمانها خلقا وخلقا, وأدبا ولطفا, وفصاحة. ولها إلمام بالنثر والنظم فوصف للحجاج حسنها فخطبها وبذل لها مالا جزيلا, وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم, وأقام بها بالمعرة مدة طويلة, ثم إنه رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله ودخل عليها في بعض الأيام, فسمعها تقول وهي واقفة على المرآة: وما هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تجللها بغل فإن ولدت أنثى فلله درها ... وإن ولدت بغلا فجاء به البغل فانصرف راجعا ولم تكن علمت به وأراد طلاقها فانفذ إليها عبد الله بن طاهر وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم وهي التي كانت لها عليه وقال: يا ابن طاهر طلقها بلكلمتين ولا تزد عليهما فدخل عبد الله بن طاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله. فقالت: اعلم يا ابن طاهر أنا كنا فما حمدنا, وبنا فما ندمنا وهذه المائتا ألف درهم هي لك بشارة بخلاصي من كلب ثقيف, ثم بعد ذلك بلغ عبد الملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها فأرسل إليها يخطبها لنفسه فكتبت إليه تقول: بعد الثناء عليه اعلم يا أمير المؤمنين إني لا أجري العقد إلا بشرط فإن قلت: ما الشرط أقول أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك الذي أنت فيه ويكون ماشيا حافيا بحليته التي كان فيها أولا, فلما قرأ كتابها ضحك ضحكا شديدا. وأرسل إلى الحجاج بذلك فأجاب ولم يخالف وامتثل الأمر وأرسل إلى هند يأمرها بالتجهيز وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند فركبت هند في محمل وركب حولها جواريها وخدمها فترجل الحجاج ومشى حافيا, وأخذ بزمام البعير يقوده ويسير بها فأخذت هند تهزأ عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها, ثم إنها قالت لدايتها اكشفي لي ستارة المحمل لنشم رائحة النسيم فكشفتها فوقع وجهها في وجهه فضحكت عليه, وأنشدت: وما نبالي إذا أرواحنا سلمت ... بما فقدناه من مال ومن نشب فالمال مكتسب والعز مرتجع ... إذا النفوس وقاها الله من عطب فلما سمع ذلك منها الحجاج قال مجيبا لها: فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة ... تركتك فيها تسهرين نواحا ولم تزل تلعب وتضحك على أن قربت من بلد الخليفة فرمت من يدها دينارا على الأرض. وقال: يا جمال, سقط منا درهم فرده إلينا فنظر الحجاج إلى الأرض فلم ير إلا دينارا. فقال: إنما هو دينار. فقالت: بل درهم. فقال: بل دينار. فقالت: الحمد لله إذ سقط منا درهم فعوضنا الله دينارا فخجل وسكت ولم يرد جوابا, ودخلت على عبد الملك بن مروان فأعجب بها وبجمالها وسفه رأي الحجاج بتخليه عنها ونالت عنده حظوة زائدة. هند جارية محمد بن عبد الله بن مسلم الشاطبي كانت أديبة شاعرة كتب إليها أبو عامر بن سعيد يدعوها للحضور عنده بعودها وكانت تحسن ضرب العود بهذين البيتين: يا هند هل لك في زيارة فتية ... نبذوا المحارم غير شرب السلسل سمعوا البلابل قد شدت فتذكروا ... نغمات عودك في الثقيل الأول فكتبت إليه في ظهر رقعته تقول: يا سيدا حاز العلا عن سادة ... شم الأنوف من الطراز الأول حسبي من الإسراع نحوك أنني ... كنت الجواب مع الرسول المقبل سارت إليه كما ودعته وأتموا ليلة قلما يسمح بمثلها الدهر حتى عاجلهم نور الفجر فتفرقوا وكل منهما يسخط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 على يوم الفراق ويتمنى أن يكون بعدها التلاق. هند بنت النعمان ابن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم. كانت هند من أجمل نساء أهلها وزمانها وأمها مارية الكندية وكان يهواها عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب الشاعر العبادي ولها يقول: علق الأحشاء من هند علق ... مستسر فيه نصب وأرق وهي قصيدة طويلة وفيها أيضا يقول: من لقلب مدنف أو معتمد ... قد عصى كل نصوح ومعد وهي طويلة أيضا وفيها يقول: يا خليلي يسرا التعسيرا ... ثم روحا فهجرا تهجيرا واعرجا بي على ديار لهند ... ليس إن عجتما المطي كثيرا وقد تزوجها وكان سبب عشقه لها أنها خرجت في خميس الفصح تتقرب في البيعة, ولها حينئذ إحدى عشرة سنة, وذلك في ملك المنذر وقد قدم عدي حينئذ بهديته من كسرى إلى المنذر والنعمان يومئذ فتى شاب, فاتفق دخولها البيعة, وقد دخلها عدي ليتقرب. وكانت مديدة القامة, عبلة الجسم, معتدلة القوام فرآها عدي وهي غافلة فلم تنتبه له حتى تأملها وقد كان جواريها رأين عديا وهو مقبل فلم يقلن لها وذلك كي يراها عدي وإنما فعلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية قد كانت أحبت عديا فلم تدر كيف تأتي له. فلما رأت هند عديا ينظر إليها شق عليها ذلك وسبت جواريها ونالت بعضهن بضرب فوقعت هند في نفس عدي فلبث حولا لا يخبر بذلك أحدا. فلما كان بعد حول وظنت مارية أن هندا قد أضربت عما جرى وصفت لها بيعة رومية ووصفت لها من فيها من الرواهب ومن يأتيها من جواري الحيرة وحسن بنائها وسرجها وقالت لها: سلي أمك الإذن لك في إتيانها فسألتها ذلك فأذنت لها وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فبادر فلبس قباء كان أهداه له فرخان "شاه مرد", وكان مذهبا لم ير مثله حسنا. وكان عدي حسن الوجه مديد القامة حلو العينين حسن المبسم نقي الثغر وأخذ معه جماعة من فتيان الحيرة فدخل البيعة, فلما رأته مارية قالت لهند: انظري إلى هذا الفتى فهو والله أحسن من كل ما ترين من البرج وغيرها قالت: ومن هو؟ قالت: عدي بن زيد. قالت: أتخافين أن يعرفني إن دنوت منه لأراه من قريب؟ قالت: ومن أين يعرفك وما رآك قط فلا تخافي من حيث يعرفك؟ فدنت هند منه وهو يمازح الفتيان الذين معه وقد برع عليهم بجماله وحسن كلامه وفصاحته وما عليه من الثياب فذهلت لما رأته, وصارت تنظر إليه, وعرفت مارية ما بها وتبينته في وجهها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 فقالت لها: كلميه, فكلمته وانصرفت وقد تبعته نفسها وهويته, وانصرف هو بمثل حالها, فلما كان الغد تعرضت له مارية. فلما رآها هش لها وكان قبل ذلك لا يكلمها وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة إليك. قال: اذكريها فو الله لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك إياه فعرفته أنها تهواه وأن حاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند وعاهدته على ذلك فأجاب طلبها, ثم أتت هندا فقالت: أما تشتهين أن تري عديا؟ قالت: وكيف لي به؟ قالت: أعده مكان كذا وكذا في ظهر القصر وتشرفين عليه. قالت: أفعل, فواعدته إلى ذلك المكان. فأتاه وأشرفت هند عليه فكادت أن تموت وقالت: إن لم تدخليه إلي هلكت. فبادرت مارية إلى النعمان فأخبرته خبرها وصدقته الخبر وذكرت أنها قد شغفت به وسبب ذلك رؤيتها إياه في يوم الفصح, وأنه لم يزوجها به افتضحت في أمره وماتت فقال لها: ويلك, وكيف أبدؤه بذلك؟ فقالت: هو أرغب من أن تبدأه أنت, وأنا أحتال في ذلك من حيث لا يعلم أنك عرفت أمره, وأتت عديا فأخبرته الخبر وقالت: ادعه فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه هندا فإنه غير رادك. قال: أخشى أن يغضبه ذلك فيكون سبب العداوة بيننا. قالت: ما قلت لك هذا حتى فرغت منه معه. فصنع عدي طعاما واحتفل فيه, ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام وذلك في يوم الاثنين فسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه ففعل, فلما أخذ منه الشراب خطبها إلى النعمان فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام فكانت معه حتى قتله النعمان فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة حتى ماتت. وكانت وفاتها بعد الإسلام بزمان طويل في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة وخطبها المغيرة، وقد مر بدير هند فنزل ودخل عليها بعد أن استأذن عليها، فأذنت له وبسطت له مسحا، فجلس عليه ثم قالت له: ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً قالت: والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته فبحق معبودك أما هذا أردت. قال إي والله. قالت: فلا سبيل إليه. قال لها: إذا سألتك عن أمور هل أنت مجيبة لي عنها؟. قالت: نعم، قل. فقال: أخبريني ما كان أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف. قالت: ينسبهم من أياد وقد افتخر عنده رجلان من ثقيف أحدهما من بني سالم والآخر من بني يسار، فسألهما عن أنسابهما، فانتسب أحدهما إلى هوزان والآخر إلى أياد. فقال أبي: ما لحي معه على أياد فضل. فخرجا وأبي يقول: إن ثقيفا لم تكن هوازنا ... ولم تناسب عامر أو مازنا إلا حديثا أثبت المحاسنا فقال المغيرة: أما نحن، فمن هوازن وأبوك أعلم، ثم قال: أخبريني أي العرب كان أحب إلى أبيك، قالت: أطوعهم له قال: ومن أولئك؟ قالت: بكر بن وائل. قال: فأين بنو تميم؟ قالت: مستفتهم في طاعة. قال فقيس. قالت: ما اقتربوا إليه بما يحب إلا استعقبوه بما يكره. قال: فكيف أطاع فارس؟ قالت: كانت طاعتهم إياه فيما يهوى فاكتفى المغيرة بذلك، ثم قام وانصرف، وقال فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 أدركت ما منيت نفسي خاليا ... لله درك يا ابنة النعمان فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إن الملوك نقية الأذهان يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي ... فالصدق خير مقالة الإنسان هند بنت أثاثة كان أبوها من أمراء العرب المشهورين بالشجاعة والفروسية والكرم وكانت هي من ذوات الشهامة والمروءة والحكم، أديبة فاضلة، كاملة عاقلة، لها معرفة بالشعر والعروض ومما قالته رثاء في أبيها حين قتل هذه الأبيات: لقد ضمت العفراء مجداً وسوددا ... وحلماً أصيلاً وافرا للب والعقل عبيدة فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوي لأشعث كالجذل وبكيه للأقوام في كل شتوة ... إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكيه للأيتام والريح زفزف ... وتشيب قدر طالما أزبدت تغلي فإن تصبح النيران قد مات ضوءها ... فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق الليل أو لملتمس القرى ... مستنبح أضحى على رسل هند بنت زيد بنت مخرمة الأنصارية كانت أحسن نساء زمانها جمالا, وأوفرهن عقلا وكمالا, وأفصحهن منطقا ومقالا, لها مقالات بليغة وأشعار بديعة، وكانت مع ما هي عليه من التنعم ثبتة الجنان قوية البنية جريئة على الحروب حضرت جملة وقائع مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأنها كانت من شيعته، وكانت لها غيرة شديدة على علي وأصحابه، وكان كل من قتل ترثيه بمراث جيدة وتحرض القوم على اتباع خطة علي وطالما أراد معاوية أن يوقع بها ولم يتيسر له ذلك. ولما قتل معاوية حجر بن عدي بن حاتم الطائي أقامت له مآتم ورثته بقصائد طويلة وأشعار غزيرة منها قولها: ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجرا يسير يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير تجبرت الجبائر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد لها محولا ... كأن لم يحييها مزن مطير ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور أخاف عليك وما أردى عدياً ... وشيخاً في دمشق له زئير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير ومنها قولها: دموع عيني ديمة تقطر ... تبكي على حجر ولا تفتر لو كانت القوس على أسرة ... ما حمل السيف له الأعور ومنها قولها: لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زيناً للكواكب والشهب يلوذ به الجاني مخافة ما جنى ... كما لاذت العصماء بالشاهق الصعب تظل بنات العم والخال حوله ... صوادي لا يرون بالبارد العزب وماتت في خلافة معاوية بعدما وفدت عليه وأكرمها إكراماً زائداً. هند بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية كانت تحت الفاكهة بن المغيرة المخزومي وتزوجت بعده بأبي سفيان ابن حرب وهي أم معاوية. أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحها وكان بينهما في الإسلام ليلة واحدة وكانت امرأة نفس وأنفة ورأي وعقل. وشهدت أحداً كافرة، وكانت تحرض النسا على القتال وترتجز: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي القطا البارق والمسك في المفارق ... والدر في المخانق إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق ... وتدبروا نفارق فراق غير وامق وتقول أيضاً: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضرباً بكل بتار وكان أبو الدجانة الأنصاري أخذ سيفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجم على المشركين وألي بلاء حسناً حتى وصل على هند وهي ترتجز وخلفها النساء يضربن الدفوف خلف فالرجال، فأراد أن يعلوها بالسيف ثم امتنع خشية العار. ثم أنه لما قتل حمزة مثلت به وشقت به واستخرجت كبده فلاكتها، فلم تطق إساغتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فدعى عليها وأصابه حزن شديد على ذلك. ولما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن كلامه للنساء -وهند معهن-: "تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً". قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا م لا تأخذه على الرجال فسنأتيكه. وقال: "ولا تسرقن". قالت: والله إني كنت لأصيب من مال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 أبي سفيان الهنة والهنة فقال أبو سفيان -وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهند؟ " قالت: أنا هند، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: "ولا تزنين". قالت: وهل تزني الحرة؟ قال: "ولا تقتلن أولادكن" قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كبار فأت وهم أعلم. فضحك عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن" قال: والله إن إتيان البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. قال: "ولا تعصينني في معروف". قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك. فقال النبي لعمر: "بايعهن واستغفر لهن" فبايعهن ثم قالت هند للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها. فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك". وبعد ذلك شهدت اليرموك مع زوجها وتوفيت في خلافة عمر سنة ثلاث عشرة للهجرة. وكانت شاعرة أديبة فصيحة. ولها أشعار كثيرة منها ما قالته في أبيها عتبة حين قتل يوم بدر: أعينني جود بدمع سرب ... على خير خندف إذ ينقلب تداعى له رهطة غدوة ... بنو هاشم وبنو المطلب يذوقونه حد أسيافهم ... يفلونه بعد ما قد عطب يجرون منه عفير التراب ... على وجهه عارياً قد صلب وكان لنا جبلاً راسياً ... جميل المراح كثير العشب وأما بري فلم أعنه ... فأوتى من خير ما يحتسب وقالت أيضاً: يريب علينا دهنا فيسوءنا ... ويأبى فما نأت بشيء نغالبه أبعد قتيل من لؤي بن غالب ... يراع امرؤ إن مات أو مات صاحبه ألا رب يوم قد رزئت مرزأ ... تروح وتغدو بالجزيل مواهبه فأبلغ أبا سفيان عني مألكاً ... فإن ألقه يوماً فسوف أعاتبه فقد كان حرب يسعر الحرب إنه ... لكل امرئ في الناس مولى يطالبه وقالت أيضاً: لله عينا من رأى ... هلكا كهلك رجاليه يا رب باك لي غدا ... في النائبات وباكيه كم غادروا يوم القلي ... ب غداة تلك الداعيه من كل غيث في السني ... ن إذا الكواكب خاويه قد كنت أحذر ما أرى ... فاليوم حق خداريه قد كنت أحذر ما أرى ... فأنا الغداة مراميه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 يا رب قائلة غداً ... يا ويح أم معاويه وقالت أيضاً: يا عين بكي عتبة ... شيخاً شديد الرقبه يطعم يوم المسغبة ... يدفع يوم الغلبه إني عليه حربه ... ملهوفة مستلبه ليهبطن يثربه ... بغارة منشعبه فيه الخيول مقربة ... كل سواء سلهبه هند بنت خالد بن نافلة كانت أشعر نساء زمنها وأحسنهن أدباً، وأكملهن رأياً، وأجملهن وجهاً. قيل: إنها لما قتل ابن أخيها خالد بن حبيب بن خالد ندبته واتبعتها نساء العرب حتى لم ير امرأة من قبيلتها إلا وكانت باكية ورثته بقصائد وأبيات منها قالته يوم مأتمه: أمسى بواكيك مللن البكى ... وشر عهد الناس عهد النسا فابن حبيب فأبكيا خالداً ... لجفنة ملأى وزق روى وبان حبيب فابكيا خالداً ... لطعنة يقصر عنها الأسى إن تبكيا لا تبكيا هيناً ... وما بما مسكما من خفا إذ تخرج الكعاب من خدرها ... يومك لا تذكر فيه الحيا وقالت ترثي أباها خالداً: أأميم هيهات الصبا ذهب الصبا ... وأطار عني الحلم جهل غراب أين الأولى بالأمس كانوا جيرة ... لأخذت صرف الموت عن أحبابي ما حيلتي إلا البكاء عليهم ... إن البكاء سلاح كل مصاب هند بنت كعب بن عمرو بن ليث الهندي زوجة عبد الله بن عجلان يتصل نسبها مع نسبه كانت ذات حسن وجمال، وقد واعتدال، وبهاء وكمال. وسبب زواجها إلى عبد الله بن عجلان أنه خرج يوماً إلى شعب من نجد ينشد ضالة فشارف ماء يقال له: نهر غسان وكانت بنات العرب تقصده فتخلع ثيابها وتغتسل فيه، فلما علا ربوة تشرف على النهر المذكور رآهن على تلك الحالة فمكث ينظر إليهن مستخفياً، فصعدن حتى بقيت هند. وكانت طويلة الشعر، فأخذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 تمشطه وتسبله على بدنها وهو يتأمل شفوف بياض جسمها في خلال سواد الشعر. ونهض ليركب راحلته فلم يقدر وقعد ساعة. وكان يقال عنه قبل ذلك أن العرب كانت تصف له ثلاثة رواحل قائمة فيحلقها ويركب الرابعة، فعند ذلك داخله من الحب ما أعجزه وعطل حركاته فأنشد فوراً: لقد كنت ذا باس شديد وهمة ... إذا شئت لمساً للثريا لمستها أتتني سهام من لحاظ فارشقت ... بقلبي ولو أسطيع رداً رددتها ثم عاد وقد تمكن الهوى منه فأخبر صديقاً له فقال: اكتم ما بك، واخطبها إلى أبيها فإنه يزوجكما وإن أشهرت عشقها حرمتها. ففعل وخطبها فأجيب وتزوج بها وأقاما على أحسن حال، وأنعم بال لا يزداد فيها إلا غراماً فمضى عليهما ثمان سنين ولم تحمل. وكان أبوه ذا ثروة وليس له غيره، فأقسم عليه أن يتزوج غيرها ليولد له ولد لحفظ النسب والمال. فعرض عليها ذلك، فأبت أن تكون مع أخرى فعاود أباه فأمره بطلاقها، فأبى فألح عليه وهو لم يجب إلى أن بلغه يوماً أن عبد الله قد تمكن السكر منه، فعدها فرصة وأرسل إليه يدعوه وقد جلس مع أكابر الحي فمنعته هند، وقالت: والله لا يدعوك لخير وما أظنه إلا عرف أنك سكران فيريد أن يعرض عليك الطلاق ولئن فعلت لتموتن وأظن أنك فاعل. فأبى عبد الله إلا الخروج، فجاذبته ويدها مخلقة بالزعفران فأثرت في ثوبه، فلما جلس مع أبيه وقد عرف أكابر العرب حاله فأقبلوا يعنفونه ويتناوشونه من كل مكان حتى استحى فطلقها، فلما سمعت بذلك احتجبت عنه فوجد وجداً كاد أن يقضي معه وأنشد: طلقت هنداً طائعاً ... فندمت بعد فارقها فالعين تذرف دمعها ... كالدر من آماقها متحلباً فوق الردا ... فتجول في رقراقها خود رداح طفلة ... ما الفحش من أخلاقها ولق ألذ حديثها ... فأسر عند عناقها إن كنت ساقية ببز ... ل الأدم أوبحقاقها فاسقي بني نهد إذا ... شربوا خيار زقاقها فالخيل تعلم كيف تل ... حقها غداة لحاقها بأسنة زرق صبح ... نا القوم حد رقاقها حتى ترى قصد القنا ... والبيض في أعناقها فلما رجعت هند إلى أبيها خطبها رجل من بني نمير فزوجها أبوها منه، فبنى بها عندهم وأخرجها إلى بلده فلم يزل عبد الله بن عجلان دنفاً سقيماً يقول فيها الشعر ويبكيها حتى مات أسفاً عليها، وعرضوا عليه بناته الحي جميعا، فلمي قبل واحدة منهن. وقيل: إن بني عامر الذي تزوجت هند منهم كان بينهم وبين نهد مغاورات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فجمعت بنو عامر لبني نهد جميعاً فقالت هند لغلام يتيم فقير من بني عامر: لك خمس عشرة ناقة فتنذرهم قبل أن يأتيهم بنو عامر. فقال: أفعل: فحملته على ناقة لزوجها ناجية وزودته تمراً ووطباً من لبن، فركب وجد في السير ففنى اللبن، فأتاهم والحي خلوف من غزو دميرة، لنزل بهم وقد يبس لسانه، فلما كلموه ولم يقدر أن يجيبهم وأومأ على لسانه، فأمر خراش بن عبد الله بلبن وسمن فاستحسى وساقه إياه، فابتل لسانه وتكلم وقال لهم: أتيتكم وأنا رسول هند إليكم تنذركم. فاجتمع بنو نهد واستعدت ووافتهم بنو عامر لحوقهم على الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو عامر فقال عبد الله بن عجلان في ذلك: أعاود عيني نصبها وغرورها ... أهم عناها أم قذاها يعورها أم الدار أمست قد تعفت كأنها ... زبور يمان رقشته سطورها ذكرت بها هنداً وأترابها الأولى ... بها يكذب الواشي ويعصي أميرها فما معول تبكي لفقد أليفها ... إذا ذكرته لا يكف زفيرها بأغزر مني عبرة إذ رأيتها ... يحث بها قبل الصباح بعيرها ألم يأت هنداً كيفما صنع قومها ... بنو عامر إذ جاء يسعى نذيرها فقالوا لنا إنا نحب لقاءكم ... بصم القنا اللائي الدمار ثميرها فلا غرو أن الخيل تخبط في القنا ... تمطر من تحت العوالي ذكورها وأربابها صرعي ببرقة أخرم ... يجررهم ضبعانها ونسورها فأبلغ أبا الحجاج عني رسالة ... مغلغلة لا يفلتنك بسورها فأنت منعت السلم يوم لقيتنا ... بكفيك تسدي غبة وتثيرها فذوقوا على ما كان من فرط إحنة ... حلائبنا إذ غاب عنا نصيرها فلما اشتد ما بعبد الله بن العجلان من السقم خرج سراً من أبيه مخاطراً بنفسه حتى أتى أرض بني عامر لا يرهب ما بينهم من الشر والثارات حتى نزل ببني نمير وقصد خباء هند، فلما قارب دارها وهي جالسة على حوض وزوجها يسقي إبلاً له وتعارفا شد كل منهما على صاحبه ودنا منه حتى اعتنقا وسقطا إلى الأرض فجاء زوجها فوجدهما ميتين. وقيل: إنه أراد المضي إلى بلادهم فمنعه أبوه وخوفه الثارات وقال: نجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو بمكة، ولم يزل يدافعه بذلك حتى جاء الوقت فحج وحج أبوه معه فنظر إلى زوج هند وهو يطوف بالبيت واثر كفها في ثوبه بخلوق فرجع إلى أبيه في منزله وأخبره بما رأى، ثم سقط على وجهه فمات وقيل: إنه خرج في الجاهلية فقال: ألا إن هنداً أصبحت منك محرماً ... وأصبحت من أدنى حموتها حما وأصبحت كالمغمود جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوساً وأسهما ثم مد بها صوته فمات والقول الأول على هذا أصح، وله أشعار كثيرة فيها منها قوله: ألا بلغا هنداً سلامي فإن نأت ... فقلبي مذ شطت بها الدار مدنف ولم أر هنداً بعد موقف ساعة ... بأنعم في أهل الديار تطوف أتت بين أتراب تمايس إذ مشت ... دبيب القطا أو هن منهن أقطف يباكرن مرات جلياً وتارة ... زكياً وبالأيدي مذاب ومسوف أشارت إلينا من خظاة ذراعها ... سراة الضحى مني على الحي موقف وقالت تباعد يا ابن عمي فإنني ... منيت بذي صول يغار ويعنف وقال أيضاً: خليلي زورا قبل شط النوى هنداً ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا ولا تعجلا لم يدر صاحب حاجة ... أغياً يلاقي في التعجل أم رشدا ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لوجهكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا هيلانة لويزا أليصابات قرينة فردينند وابنة البرنس فريدريك لويس دومكلبرغ شورين ولدت في لددغسلت 24 كانون الثاني (يناير) سنة 1814م، وتوفيت في ريتشمند من إنكلترا في 18 أيا مايو سنة 1858م. كانت ذات أخلاق خسنة وذوق سليم مهذبة لطيفة بروستانتية اعتنت بعد وفاة زوجها بتهذيب وليدها "لويس فليب ألبرت" كونت باريس "ووروير فيليب لويس أوجين" و"زينند" دوق "شرتر"، ولما تنحى "لويس فيليب" عن تخت الملك في 24 شباط سنة 1848م وجعل مكانه حفيده كونت باريس قرر نظاماً لوكالة الملك حرمت بموجبه حقها في الوكالة. ولما عرض النظام المذكور على مجلس الأمة سارت بولديها إلى مجلس النواب محفوفة بمخاطر جسيمة، وكان مجلس النواب قد عزم على تعيينها وكيلة إلا أن الناس اجتمعوا إليه ونادوا بالجمهورية، فقرت بولديها وصهرها دوق "وتيموز" إلى أوتيل "ريزانقاليد"، ثم هربت بهم من هناك إلى بلجيكا وأقامت في "ايسناخ" عند خالها "غراندوق ويمار"، ولما خاب أملها بنجاح "نابليون الثالث" من تولية ابنها تخت فرنسا أخذ اليأس منها كل مأخذ واعتلت صحتها وذهبت إلى انكلترا لزيارة عائلة زوجها، وتوفيت هناك. هيلانة أم قسطنطين المظفر وزوجة قسطس صاحب شرطة "دقليطانوس" وهو آخر من عبد الصنم من ملوك الروم، وقسطنطين هو الذي انتقل من رومية إلى بيزنطية فعمر سورها وسماها قسطنطينية وجمع الأساقفة، ووضع شرائع النصرانية وسارت أم هيلانة، وأخرجت من بيت المقدس خشبة الصليب وبنت عدة كنائس منها قمامة وكنيسة حمص وكنيسة الرها. والحاصل أن هذه الملكة كانت أنموذج دهرها، وفاكهة عصرها. مهدت الملك لولدها، ثم ملكت أولاده الثلاثة بعده. وكانت هيلانة من أهل قرى مدينة الرها قد تنصرت على أيدي أسقف الرها، وتعلمت الكتب، فلما مر بقريتها قسطس رآها فأعجبته فتزوج بها وحملها إلى بيزطية مدينته فولدت فه قسطنطين وكان جميلاً، فأنذر "دقليطانوس" منجموه بأن هذا الغلام -قسطنطين- سيملك الروم وييدل دينهم فأراد قتله ففر منه إلى مدينة الرها، وتعلم بها الحكم اليونانية حتى مات "دقطيانوس" فعاد إلى بزنطية فسلمها إليه أبوه قسطس ومات، فقام بأمرها بعد أبيه. هيئة بنت اوس بن حارثة بن لام الطائي حليلة الحارث بن عون بن أبي حارثة. كان سيداً من سادات العرب خطبها من أبيها، فأجابه بعد امتناع وكان عنده ثلاث بنات فدخل على زوجته فقال لها: ادعي لي فلانة أكبر بناته. فأتت فقال لها: أي بنية هذا الحارث بن عون سيد من سادات العرب جاءني خاطباً، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لا، في خلقي رداءة، وفي لساني حدة ولست بابنة عمه فيراعي رحمي، ولا هو بجار لك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي بذلك سبة. قال لها: قومي بارك الله فيك. ثم دعا ابنته الأخرى فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته مثل جوابها. فقال لها: قومي بارك الله فيك. ثم دعا بالثالثة وكانت أصغرهن سناً فقال مثل ما قال لأختيها. فقالت: أنت وذلك. فقال لها: إني عرضت ذلك على أختيك فأبياه ولم يذكر لها مقالتهما فقالت له: والله أنا الجميلة وجهاً، الرقيقة خلقاً، الحسنة رأياً فإن طلقني فلا أخلف الله عليه. فقال لها: بارك الله فيك، ثم خرج إليه فقال: زوجتك يا حارث بابنتي هنيئة. قال: قبلت نكاحها. وأمر أمها أن تهيئها له، وتصلح شأنها. ثم أمر ببيت فضربه له وأنزله إياه ثم بعثها إليه، فلما دخلت عليه ودنا منها، قالت: أعند أبي وإخوتي هذا والله لا يكون، ثم أمر بالرحيل فرحل بها، فلما كان بالطريق قرب منها فقالت: أتفعل بي كما يفعل بالأمة السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر وتفخر وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل مثلك لمثلي قال: صدقت والله إني لأرى همة وعقلاً. فلما ورد إلى بلاده أحضر الإبل والغنم ونحر وأولم ثم دخل عليها يريدها فقال لها: قد أحضرت من المال ما تريدين. قالت: والله لقد ذكرت من الشرف بما ليس فيك. قال: ولم ذاك؟ قالت: أتستفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضاً، وكان ذلك في أيام حرب قيس وذبيان قال: فماذا تقولين؟ قالت: اخرج إلى القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك ما تريد. فقال: والله إني لأرى عقلاً ورأياً سديداً. قال ابن سنان: فخرج إلينا لاحارث، فقال: اخرج بنا عبد أن أخبرنا بواقعة الحال فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فأصطلحوا على أن يحسبوا القتلى. ثم تؤخذ الديت، فحملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير فانصرفنا بأجمل ذكر، ثم دخل عليها. فقالت له: أما الآن فنعم، فأقامت معه في ألذ عيش وأطيبه، وولدت له بنين وبنات. هكذا فلتكن النساء، فقد أصلحت بين قبيلتين عجز عن إصلاحهما فحول الرجال. هيلانة بنت ملك إسبارتا هي على ما ذكر "أوميروس" الشاعر اليوناني بنت بعض ملوك "إسبارتا" كانت أشهر نساء عصرها حسناً وأكثرهن رقة وظرفاً فزوجها أبوها "بميلاس" ملك "لاكونيا" و"مسينيا" فأتي إسبارتا عقب ذلك "باريس بن بريام" ملك "تروادة". وكان ذلك في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فأكرن "منيلاس" وفادته، وأنزله في بلاطه فما كان من باريس إلا أن استهوى هيلانة وفر هارباً بها عبد أن سلب قسماً من مال بعلها فكان ذلك سبب حرب "تروادة" الشهيرة التي دامت فيما قيل عشر سنين وانتهت بخراب تروادة وقتل باريس. هيفاء بنت صبيح القضاعية كانت فصيحة اللسان ثبتة الجنان لها معرفة بالشعر وعروضه وتزوجت نوفل بن سمير بن عمر التغلبي، ومكثت عنده حتى قتل في بعض الغزوات وقد شقت عليه الجيوب وخمشت الخدود ورثته بجملة أبيات وقصائد منها: أبكي وأبكي بأسفار وأظلام ... على فتى تغلبي الأصل ضرغام لهفي عليه وما لهفي بنافعه ... إلا تكافح فرسان وأقوام قل للحجيب لحاك الله من رجل ... حملت عار جميع الناس من سام أيقتل ابنك بعلي يا ابن فاطمة ... ويشرب الماء ذا أضغات أحرم والله لا زلت أبكيه وأندبه ... حتى تزوك أخوالي وأعمامي بكل أسمر لدن الكعب معتدل ... وكل أبيض صافي الحد ققام وقالت أيضاً في أبيها: لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمه ... ولك مكرمة تلقي يساميها والمستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم وما فيها لا يرهب الجار منه غدوة أبداً وإن ألمت أمور فهو كافيها حرف الواو وجيهة بنت أوس الضبية كانت من النساء المشهورات بالأدب الموصوفات بحفظ أشعار العرب، ذات جمال بارع ومنطق عذب تهوى إلهيا الأفئدة والقلوب ولها الطولى في نظم الغزل والنسيب فمن ذلك قولها: وعاذلة تغدو علي تلومني ... على الشوق لم تمح الصبابة من قلبي فما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصية من ذنب فلو أن ريحاً بلغت وهي مرسل ... حفي لنا خبت الجنوب على النقب فإني إذا هبت شمالاً سألتها ... هل ازداد صداح النميرة من قرب وهيبة بنت عبد العزى بن عبد قيس كانت من شاعرات العرب اللاتي لهن علم بالأدب، وكانت متزوجة بشخص من قومها يسمى زيد بن مية، وكان جاراً للزبرقان بن بدر فشد عليه رجل يقال له هزال بن بني عوف بن كعب بن سعد بن عبد مناة فقتله بجوار الزبرقان فقالت امرأته ترثيه وتوبخ الزبرقان على تركه ثأره: متى ترد وأعكاظ توافقوها ... بأسماع مجادعها قصار أجيران ابن مية خبروني ... أعين لابن مية أو ضمار تجلل خزيها عوف بن كعب ... فليس لخلعها منه اعتذار فإنكم وما تخفون منها ... كذات الشيب ليس لها خمار فلما سمع الزبرقان ذلك الشعر منها حلف ليقتلنه وبعد ذلك سعت العرب بينهما صلحاً فاصطلحا، وفدى ابن مية بمال وتزوج هزال بخليدة أخت البزرقان وانصرف الأمر. ولادة بنت المستكفي بالله ولادة بنت المستكفي الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر ليدن الله الاموي. كانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها، حسنة المحاورة، مشكورة المذاكرة، مشهورة الصيانة والعفاف. أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء وتجادل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً، ولم تتزوج قط. وكانت نهاية في الأدب والظرف حضور شاهد، وحرارة آبد، وحكم منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها معلباً لجياد النظم والنثر، ويعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب على أ، ها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها. وقيل: إنها بالغرب كعلية ابنة المهدي العباسي بالشرق إلا أن ولادة تزيد بمزية الحسن الفائق وأما الأدب والشعر والنوادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء ولها نوادر كثيرة مع الأدباء والشعراء. ومن أخبارها مع أبي الوليد بن زيدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 -كما قاله الفتح بن خاقان في "القلائد"-: أن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم. وكانت من الأدب والظرف وتتميم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب. فلما حل بذلك الضرب وانحل عقدة صبره بيد الكرب فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده وأترع جداولها، وأنطق بلابلها، فارتاح ارتياح حميد لوادي القرى، وزاح من روضتها يانع وريحة طيبة الثرى، فتشوق إلى لقاء ولادة وحن، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا والروض عن مائي الفضي مبتسم ... كما حللت عن اللبات أطواقا يوم كأيام لذات الهنا انصرفت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأنه أعين إذا عاينت أرقى ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا سر بنافحة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا كل يهيج لنا ذكرى تسوقنا ... إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا لو كان في المنى في جمعنا بكم ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا لا سكن الله قلباً عن تذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى ... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا كان التجاري بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا وكانت ولادة معجبة بنفسها مفتخرة على بنات جنسها حتى من زيادة إعجابها كتبت الذهب على الطراز الأيمن من عصابتها: أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الطراز الأيسر: وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطى قبلتي من يشتهيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وكانت قد طالت مدة مقابلتها مع لبن زيدون فهاج بها الشوق والغرام, وتضاعف عندها الوجد والهيام وذلك بعد ما دلت عليه إدلالها وتسربلت من التمنع أعظم سربالها فكتبت إليه قائلة: ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر فلما وصلت رقعتها إلى ابن زيدون أعلمها أنه لها بالانتظار, وفي فؤاده بتأجج لهيب نار ولا يطفئها إلا اللقاء وأعد لها مجلسا نضرا أوجد فيه من جميع الأزهار واللطائف, ومن كل فاكهة زوجين ولما آن الوقت المعين للحضور أقبلت ترفل بالدمقس وبالحرير كأنها من الحور العين فتقابلا وتصافحا ودار بينهما العتاب وقضيا مجلسهما يتعاطيان أكؤس الآداب إلى أن آن أوان الانصراف مالت غليه مودعة بانعطاف: ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك يقرع السن علي أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسنى ... حفظ الله زمانا أطلعك إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك وانصرفت على أمل اللقاء ومكثت زمانا لم تحصل مقابلتهما لدواع سياسية أخرت لبن زيدون عن التمكن من الاجتماع به فكتبت إليه: ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقي وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق فكيف وقد أمسيت في حال قطعه ... لقد عجل المقدور ما كنت أتقى تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق وكتبت بعد الشعر في أثناء الكتابة وكنت ربما حثثني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقدا وإني عليك قولك: سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة: ألا يا اسلمى يا درامي على البلي ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له وأما المستحسن فقول الآخر: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي فأجابها متشكرا لها على انتقادها وعلم أنها مصيبة بهذا الانتقاد وفي آخر رقعته قال: لحى الله يوما فيه بملتقي ... محياك من أجل النوى المتفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى فظهر لولادة أن ابن زيدون مال إليها فكتبت إليه: لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولن تتخير وتركت غصنا مثمرا بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر ولقد علمت بأنني بدر السما ... لكن ولعت لشقوتي بالمشتري فخجل من ذلك وأرسل إليها يتنصل ويستسمحها فلم تسامحه, واستحكمت النفرة بينهما وكانت لقبته بالمسدس فقالت فيه مرة: ولقبت المسدس وهو نعت ... تفارقك الحياة ولا يفارقك فلوطي ومأبون وزان ... وديوث وقرنان وسارق وقالت فيه أيضا: إن ابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنني جئت لأخصي علي وكان ابن عبدوس الوزير يهواها وهي تأبى مسامرته ودائما تتهكم عليه ومن تهكماتها مرت يوما به, وهو جالس أمام داره وبجانبه بركة تتولد عن كثرة الأمطار وربما اتحدت بشيء من الأقذار, وقد نشر أبو عامر الوزير كميه ونظر في عطفيه وحشد أعوانه إليه فقالت له: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر فتركته لا يحير حرفا ولا يرد طرفا: وبسبب تعلق ابن عبدوس بولادة أرسل ابن زيدون إليه بالرسالة المشهورة -التي شرحها غير واحد من أدباء الشرق كالجمال بن نباتة والصفدي وغيرهما- وفيها من التلميحات والتحذيرات ما لا مزيد عليه, وأرسل ابن زيدون لابن عبدوس أيضا رسالة لاشتراكه معه في هواها يقول في آخرها: أثرت هزبر الثرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض وما زلت تبسط مسترسلا ... إليه يد البغي لما انقبض وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم قد عفار سمه فانقرض لعمري فوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبحت الغرض ومنها: وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى وبرق ومض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 هي المايعز على قابض ... ويمنع زبدته من مخض ومن كلام ابن زيدون فيها قصيدته المشهورة التي منها: بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا تكادحين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا وأخبارها مع ابن زيدون كثيرة: وكان لها مداعبات مع الأدباء ومنهم الأصبحي المشهور فقالت تهجوه يوما: يا أصبحي اهنأفكم نعمة ... جاءتك من ذي العرش رب المنن قد نلت بإست ابنك ما لم ينل ... بفرج بوران أبوها الحسن وحكاية بوران مفصلة بترجمتها. ولولادة حكايات غير ما ذكر في جملة كتب متفرقة لم يمكن الحصول عليها لعزة وجودها وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين. وقيل: أربعة وثمانين وأربعمائة رحمها الله تعالى. حرف اللام ألف لانيلسون المغنية الأسوجية هي من أشهر مغنيات الإفرنج ولدت هذه الفتاة من أبوين فقيرين من الفلاحين في أسوج ولكنها اشتهرت شهرة عظيمة فأحرزت قصب السبق والتقدم على أقرانها ونالت الحظوة عند الملوك والعظماء فلم يبق أحد من رؤساء الحكومات إلا أتحفها بوسام أو شيء من علامات الشرف بحيث لو أرادت أن تتزين بكل ما عندها من النياشين لما وسعها صدرها وتزوجت الكنت دي ميراندا وعند ذهابها أخيرا إلى بلادها أسوج ونوج مع المسيو سترا كوف احتفل مواطنوها باستقبالها احتفالا عظيما, وأطلق لها مائة مدفع ومدفع إجلالا لشأنها, ولما سافرت سنة 1870 م إلى أميركا بلغ مدخولها اليومي ثلاثين ألف فرنك جمعت في الشهور الستة الأول من إقامتها هناك ما ينيف عن ستة ملايين فرنك أو ثلثمائة ألف ليرة فليتأمل. لادي رسل ابنة توماروتسلي وزير مالية إنكلترا ولدت سنة 1636 م وتزوجت بأمير إرلندي اسمه اللورد فوغان سنة 1653 م, فتوفي عنها بعد أربع سنوات, ثم اقترن بها الشريف وليم رسل فأحبها وأحبيته حبا مفرطا, وكان رسل شهما مقداما نافذ الكلمة. فاستعان به بعض أهل الثورة الخارجين على الملك فمالأهم على قصدهم, ثم كشف الأمر فقبض عليه وألقي في السجن وهي تجهل السبب الذي سجن لأجله, ولما قيد إلى المحكمة وقفت بجانبه, وسمعت الحكم الذي صدر عليه بالموت, وعادت معه إلى السجن مظهرة الجلد الشديد لكي لا تكسر قلبه, وجعلت تشدد عزائمه وتذاكره في الوسائط التي يمكن استخدامها لتخفيف قصاصه ولتأجيله وكان يعلم أن السعي في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 يذهب سدى ولكنه تركها تسعى لأنه قال في نفسه لو تركتني إلى التقادير بدون أن تستعمل كل الوسائط الممكنة لنجاتي لما وجدت إلى الصبر عني سبيلا, فانتجعت كل روض وألقت دلوها في كل حوض, ولكنها عادت "بخفي حنين" لأنها لم تجد للقضاء مردا وجعلت تشدد عزائم زوجها وكان لسان حالها يقول: جانب السلطان واحذر بطشه ... لا تعاند من إذا قال فعل ثم ودعته الوداع الأخير فودعها وهو يقول: إنني أودع الحياة طيب النفس قرير العين لأنني تركت أولادا لا يفقدون شيئا بفقدي وزوجة عفيفة فاضلة فيها الكفاية لأن تدبر أمورها وأمور أولادها على أتم المراد قد وعدتني أنها تقيني بنفسها من أجل أولادها, وهذا حسبي ولما قضى عليه أرسل الملك يخبرها أنه غير قاصد أن ينتفع بموت زوجها فيبقى لها لأولادها كل مقتنياته فرأت أن حبها لأولادها يدعو إلى شكره ولو مكرهة فأرسلت إليه كتابا تشكره به وكانت من فريدات عصرها في الكتابة والإنشاء. ثم انتقلت بأولادها إلى الريف وأطلقت العنان للزفرات والعبرات التي كانت قد حجبتها مخافة شماتة الأعداء, وكتبت في ذلك الحين إلى أحد القسوس الفضلاء تقول له: أنت تعرفنا تماما فلا تلمني على الحزن ولو أفرط نعم أن كثيرات أصبن بما أصبت ولكن أين فقيدهن من فقيدي حتى يتجدد حزنهن كما يتجدد حزني, وكتبت بعد ذلك تقول: اللهم ارني مقاصد عنايتك فيما ابتليتني به لكي لا أسقط تحت قتل كأبتي إني أستحق هذا القصاص ولا أشكو منه ولكن قلبي جزين وقد عزت السلوى لأن رفيق الحياة وقسيم أفراحي وأحزاني ليس معي أواه أن نفسي تتوق إلى مسامرته ومساكنته ومواكلته, قد صارت الحياة علي حملا ثقيلا, ولكن لا بد من الصبر على مضض الأيام والترفع فوق أفراح الدهر وأحزانه. ثم دالت تلك الدولة وصار الملك إلى الملك الذي كان زوجها من حزبه فغمر حماها وابنها بالأنعام تعويضا لهما عما فقداه بفقد زوجها ولكن ابنها لم يعش طويلا حتى يتمتع بهذا الإنعام لأن الجدري وافاه وهو في الثلاثين من عمره, وقصف غصن شبابه وعاشت بعد ذلك سنين كثيرة وماتت عن سبع وثمانين من العمر. وقد اجتمع في هذه المرأة الفاضلة لطف النساء وصبرهن وفطنتهن وهمة الرجال وحكمتهم وإقدامهم, وعاشت وماتت طاهرة السيرة والسريرة. ولها رسائل كثيرة تحلها محلاً رفيعاً بين مشاهير الكتبة. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550