الكتاب: السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني المؤلف: أحمد أحمد غلوش الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: الأولى 1424هـ- 2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني أحمد أحمد غلوش الكتاب: السيرة النبوية والدعوة في العهد المدني المؤلف: أحمد أحمد غلوش الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: الأولى 1424هـ- 2004م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمات مقدمة ... المقدمات: بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فلقد توقفت مع الكتاب الثاني في سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى عند بيعة العقبة الثانية، على أمل أن يبدأ الكتاب الثالث بالهجرة إلى المدينة المنورة لأنها البداية المنورة لأنها البداية العملية للعهد المدني. لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مباشرة في وضع أسس الدولة الإسلامية الشامخة في المدينة المنورة واستمر صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي المناسب للمرحلة، فلم يعد الوحي قاصرًا على العقيدة فقط، بل تناولها مع الشريعة والأخلاق، ولم يستمر أمر الله لهم بـ: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} 1, وإنما تحول إلى أن أمرهم بالجهاد فقال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2. إن العقيدة الدينية أصبحت راسخة في قلوب المؤمنين رسوخًا ثابتًا لا يقبل الإزاحة أو التغيير، وهي في رسوخها وثباتها تجعل المسلم يعيش بها، ويعمل لها، ولا يقبل معها أي مخالفة، أو تقصير، أو إهمال. إن العقيدة الإيمانية جعلت المهاجرين يتركون كل شيء في مكة، ويرحلون إلى المدينة {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} 3, وجعلت المسلمين الأنصار أهل المدينة   1 سورة النساء: 77. 2 سورة البقرة: 190. 3 سورة الحشر: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 يتركون حظوظ النفس والهوى، و {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 1. لقد صنعت العقيدة الدينية الجماعة المسلمة صافية في توحيدها، وتوحدها، وتوجهها، وجعلت المؤمنين عبيدًا خاشعين لله، يرون في مكة قبل الهجرة سعادتهم في الطاعة، ويقصرون آمالهم في رضى الله، ويرجون سعادة حقيقية يعيشونها في الدنيا مع الناس، ويتمتعون بها في الآخرة عند الله. فلما هاجروا إلى المدينة المنورة احتاجوا إلى الشريعة تنير لهم الطريق، وتعرفهم بمراد الله تعالى، وتطلعهم على أوامره ونواهيه، ليعيشوا في إطار المشروعية الدينية الصحيحة وليكون عملهم وخلقهم متوازنًا مع إيمانهم وعقيدتهم، وليكونوا سويًا مجتمع الحب، والتسامح، والتآلف. لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة والمسلمون معه الإسلام كله ولم ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 2. إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة تختلف عن سيرته صلى الله عليه وسلم في مكة من ناحية أحداثها، ووقائعها، وحركتها، وإن اتفقت في أنها جميعًا كانت في مجال الدعوة إلى الله تعالى. في مكة عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن الوحي حتى بلغ سن الأربعين! وكان الله معه، يرعاه ويصنعه للرسالة فهيأ له التربية الصحيحة، وأبعده من مزالق الهوى، وأحاطه بخوارق العادات في صورة إرهاصات، ومبشرات، وعلامات ... كما أنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد البعثة فترة الرسالة في مكة وسط قلة من المؤمنين مستضعفة أمام ظلم الكفرة وعدوانهم، وكثيرًا ما عانت، وتحملت، وصبرت، وتمسكت بدينها الذي آمنت به. أما في المدينة المنورة فقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حياة القوة العادلة، وسط   1 سورة الحشر: 9. 2 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 كثرة من المؤمنين تمثل أمة الإسلام الوليدة بمزاياها ومحاسنها مع استمرار تتابع نزول الوحي لتوضيح الطريق، وتحديد معالم النجاح. لقد احتاج المسلمون في مكة إلى عقيدة تربطهم بالله، وتؤملهم في الجنة، وتدفعهم إلى الصبر والتحمل وهذا يكفيهم، وقد تم لهم ذلك مع شيء من التوجيهات الخلقية التي لا بد منها للإنسان المسلم. أما في المدينة المنورة فقد أصبح المسلمون في حاجة إلى الشريعة لتأكيد اعتقادهم الراسخ، وكان لا بد لهم من فقه أحكام الحياة، التي أخذت تتنزل عليهم تبعًا للأحداث, وكانوا رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يريدون أن تخضع جوارحهم لله مثل ما آمنت قلوبهم, ولذلك نراهم يرجعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما لا حكم لله فيه يوضح القرآن الكريم ذلك في آيات عديدة حيث يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 1. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} 3. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ   1 سورة البقرة: 219. 2 سورة البقرة: 220. 3 سورة النساء: 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وهكذا كانت حياة المسلمين في المدينة. ومعهم كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان الله رءوفًا بهؤلاء الصفوة، وكان معهم يمدهم بشريعته، ويفصل لهم أحكامها ويوضح مزاياها وفوائدها، ويركز على ضرورة التهيؤ للعمل بها، وربطها بسائر أركان الإسلام، لأنها جميعًا تنتج الدين بكماله، وتمامه2. لقد كان المسلمون في مكة يبحثون عن أمن ييسر لهم العبودية، ويرجون استقرارًا يمكنهم من العمل لله بين أهليهم وأقوامهم، لكن هذا الأمل لم يتحقق وهم في مكة فهاجروا إلى الحبشة، وبعدها كانت الهجرة إلى المدينة المنورة حتى أصبحوا آمنين في حياتهم، وعباداتهم، وتوجههم لله رب العالمين، فحملوا الأمانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا مسئولين عن نشر الإسلام، وتبليغه إلى كل مكان استطاعوا أن يصلوا إليه وإلى أي إنسان يمكنهم تبليغه ودعوته وفق منهج الله للوصول إلى الغايات المحددة بواسطة وحي الله تعالى. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم متحركًا بالدعوة، ومبلغًا لدين الله تعالى، وأخذ الإسلام يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم بلاغًا ودعوة، وفي عمله سلوكًا وعملا، وفي قلبه صدقًا وانفعالا، وفي أخلاقه مودة ورحمة، ومع الناس حياة وحضارة وعزا. وشارك المسلمون في المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل بالإسلام وللإسلام حتى تم   1 سورة الأنفال: 1. 2 يظهر هذا الربط بين موضوع السؤال والإسلام حين ننظر في الآيات لنرى الأمر حين كان السؤال عن الأنفال كانت الإجابة بأنها لله والرسول، وبعدها أمرهم بتقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول في كل أمر ونهي لأن ذلك دلالة الإيمان. وحين كان السؤال عن اليتامى كانت الإجابة في أن الإصلاح لهم هو الخير المطلوب، ثم أرشدهم إلى ضرورة مخالطتهم للتعليم والتأسي، وضرورة معاملتهم بالصلاح حتى لا يؤاخذهم الله على تقصيرهم معهم ... وهكذا سائر التساؤلات حيث نرى فيها الإجابة المطلوبة، ومعها إرشادات وتوجيهات تؤكد شمول النظرة الإسلامية لكافة جوانب الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 النصر ودخل الناس في دين الله تعالى. ومن هنا: اختلط الجانب الشخصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة مع حركته بالدعوة اختلاطًا بينًا، حتى أصبح الفصل بينهما أمرًا شاقًا؛ لأن كل جزئية في حياة رسول الله صارت دليلا شرعيًا يبحث عنه المسلمون ويتأسون به، ولا يمكن استثناء شيء من حياته صلى الله عليه وسلم إلا ما ذكره صلى الله عليه وسلم ونبه عليه، وأعلم أصحابه بأنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم. وحيث أن حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلني أعيش مع سيرته صلى الله عليه وسلم في إطارها الذاتي كما فعلت معه في العهد المكي، فإني أجد نفسي مع هذا المنهج أكتب أولا عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبعد ذلك أكتب عن حركة الرسول بالدعوة، لأنتهي بعد ذلك إلى الكتابة عن أهم ركائز الدعوة المستفادة من العهد المدني. إني على يقين من أن السيرة النبوية في العهد المدني، الذي يبدأ بالهجرة ويستمر حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطت اختلاطًا كاملا بحياة المسلمين العامة وعاشت حركة في نشاط الجماعة المؤمنة؛ لأن الرسول لم يعش لنفسه، وإنما عاش لله بكل مشاعره وعناصره كما أمره الله تعالى، وكما عرفه صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1. ولذلك أجد نفسي أمام تصور لدراسة العهد المدني، تتضمن السيرة النبوية والدعوة، مشتملة على ما يلي:   1 سورة الأنعام: 161-164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أولا: تمهيد يعرف بالمدينة المنورة، وبمن كان يسكنها وبأهم الأديان والاتجاهات الدينية بها قبيل الهجرة، وبمدى ملائمتها لإنطلاقة الدعوة إلى الله تعالى. ثانيًا: فصل يقدم أحداث السيرة النبوية متتابعة، بدءًا من الهجرة حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الاهتمام بالجانب الذاتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الإمكان لشدة ارتباط سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بحركته في تبليغ الدعوة. ثالثًا: فصل يوضح حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وهذه الحركة وإن كانت جزءًا من السيرة إلا أن تأثيرها في حركة الإسلام وانفعال المسلمين بها، وترسيخها لمبادئ الإسلام وقيمه، جعلتني أدرسها في إطار حركة الرسول بالدعوة. وسيشتمل هذا الفصل على عدد من المباحث تتضمن تأسيس دولة الإسلام في المدينة وتعداد السرايا والغزوات، وبيان الرسائل والوفود, وتفصيل كل ما كان له دور في حركة تبليغ الإسلام حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رابعًا: فصل أوضح فيه الركائز المستفادة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحركته بالدعوة، لتكون زادًا لكل مخلص يحب دينه، ويقدر أمانة الله، ويعمل على إبراز الإسلام نقيًا صافيًا، ويبلغه لغيره من الناس مستفيدًا بما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة إلى الله تعالى. وبهذا التصور سيأتي الحديث عن العهد المدني مكونًا من تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة، وبها تكمل الدراسة بإذن الله تعالى. إن العهد المدني يتضمن حوادث الإسلام العظمى، التي هي أساس التشريح، ودعامة الحياة الإسلامية على طول الزمن إلى يوم القيامة، فلقد شرعت العبادات في العهد المدني، وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته والمسلمين بالتوجيه وبيان الأحكام، وفيها كان خطاب الدعوة لكل فئات البشر على اختلاف أديانهم، وثقافتهم، وحضاراتهم. وفي العهد المدني أذن الله بالجهاد، وأمر به، وفصل في أحكامه، وبين الآثار المترتبة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ونزلت أحكام سائر المعاملات، والأحوال الشخصية، وأحكام الميلاد، والموت، وكافة نظم الحياة. وتحددت سمة المجتمع المسلم، وطريقته في التعامل مع أتباعهم، وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم، واتجاههم، ومواطنهم. إن دراسة العهد المدني طويلة عميقة، وتحتاج إلى القراءة الواسعة والتأمل الواعي، والاستنباط القائم على العلم والفهم, وهذا ما سأحاوله معتمدًا على الله تعالى، مؤملا في توفيقه، وبخاصة أن مقصدي إبراز الإسلام جليًا، نقيًا، وإظهار المسلمين في مجتمعهم العظيم، الذي نباهي به الدنيا على الزمن كله، ونرجوه مرة أخرى ليعود المسلمون إلى مجدهم وعزهم في وقت كثرت فيه معاول النقد، وتعددت طرق الهجوم على الإسلام. إن المجتمع الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة -مع مثاليته- يتهمه الحاقدون بالتخلف، والرجعية، والعدوانية، ويفضلون عليه مجتمع الاختلاط، والعري، وبروز الفوضى، والخلق الرديء، مع محاولة إلباسه أثوابًا لا تليق به، بدعوى التجديد، والتنوير، والنهضة بطرق ملتوية لا تبغي إلا الهدم والفساد. والعقيدة التي عاشها المسلمون الأوائل كانت يقينًا يتحكم في عملهم، وشريعة تنظم سلوكهم وخلقًا يحمل جوانب الحياة. هذه العقيدة التي صنعت الجماعة الأولى معرضة اليوم لفصلها عن حركة الحياة بدعوى أنها الدين، وليست هي الدنيا. والشريعة الشاملة التي حكمت الحياة الإسلامية الأولى يعمل الأعداء على أن يُستبدل بها قانون البشر رغم تناقضه، وقصوره. وها هي الأخلاق الإسلامية تغيب عن واقع الحياة حتى لا نراها إلا نادرًا بين الناس مع أن الحياة بها تكون جميلة، وسلسلة، وطيبة. من كان يتصور أن عاقلا من الناس يرى البغاء حرية، وانتهاك الحرمات حضارة والإفساد في الأرض باسم التنوير، والحداثة تقدمًا، والتمتع المحرم أمورًا شخصية للإنسان أن يفعلها، ويعيش بها متى أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومن كان يتصور الزواج المثلي، والشذوذ الجنسي يبرز في العلن، بل ويحميه تشريع وقانون!! ومن كان يتصور أن الاستعداد لرد الظلم، وحماية الحقوق يصير إرهابًا، وعدوانًا. إن مجتمع المسلمين المعاصر بعُد كثيرًا عن طريق الله حتى أصبح الدين غريبًا فيه، غائبًا عنه، وتمكن أعداء الدين من تشويه بعض حقائقه، وإلحاق التهم الباطلة بالمتمسكين به، مستغلين غيبة تعاليم الله عن الناس. ويتساءل المرء: من الذي غيب الدين عن الناس؟ ومن الذي أبعدهم عن فهم حقائقه؟ ومن الذي أغرقهم في الماديات الباطلة؟ ويدرك الفاهم المدقق أن من فعل ذلك هو الذي يشوه ويتهم!! إنه يرتكب الجريمة ... ويسأل عن فاعليها!! ويتهم غيره!! إن الإسلام يحتاج إلى رجال، والدعوة تحتاج إلى من يقوم بها وفق منهجية عصرية، تفهم الدين، وتخاطب الناس، وتتعامل مع الواقع لتسمو به وترتقي. إن أملي الذي أرجوه من دراسة السيرة والدعوة في العهد المدني التصدي لمحاولات الهدم، ونقض التشكيك، ورد كافة ألوان الزيف، مهما كان مصدرها، وأيًا كان قائلها راجيًا الوصول إلى ما يلي: أولا: الإحاطة بالسيرة النبوية بصورتها الشاملة لمعرفة الجوانب الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كهجرته، ومسكنه، وزواجه، وعنايته بأولاده، وسفره، وإقامته، وأيضًا لمعرفة الجوانب الدعوية العامة التي باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلالها تعليم الناس، وتبليغهم دين الله تعالى. ثانيًا: اكتشاف حياة المسلمين الأوائل، ومعرفة أنشطتهم، ومدى مساهمتهم في نصر دين الله تعالى بيانًا لمناط الأسوة، وإظهارًا لجوانب القدوة والريادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ثالثًا: بيان صور المواجهة التي تمت بين المسلمين وبين أعدائهم من المنافقين واليهود والكفار، لإظهار مدى ملازمة الدعوة للحسن في التوجيه، والصدق في الطلب، وتقدير الإنسان بصورة عامة، وتوضيح أن الجهاد الإسلامي هو نصير العدل والحق والكرامة. رابعًا: توضيح حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة لبيان ما فيها من منهج شامل لكل جوانب الدعوة، وأركانها، واستنباط الفوائد التي يمكن الاستفادة بها في العصر الحديث. وسوف اعتمد على المصادر الصحيحة لهذه المرحلة، وعلى رأسها القرآن الكريم الذي صور هذه المرحلة، وقدم تفصيلات عديدة للعهد المدني حتى قال بعضهم: إن القرآن الكريم هو الصحيفة اليومية المصورة للمسلمين في المدينة المنورة، تعيش حياتهم، وترشدهم للتي هي أقوم، وتعرفهم بخفايا النفوس، وتكشف طبائع الناس، وتحذرهم من مزالق الهوى، ومكائد الأعداء، من الجنة والناس، وتعرفهم بحكم الله كلما جد أمر أو وقع حدث، أو دعت الحاجة إليه. لقد كان القرآن الكريم ينزل منجمًا حسب الوقائع والأحداث، ثم كان جمعه وسيلة بينه لتقويم الصورة الإسلامية بتمامها وكمالها، ومثاليتها، وواقعيتها، لتبقى أسوة للناس، وقدوة للعالمين. ومع القرآن الكريم تكون السنة شارحه، ومبينة، ومصدرًا لهذه الحقبة الزمنية الرائدة. ومن فضل الله تعالى أن مدة البعثة النبوية في مكة والمدينة نالت اهتمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح من بعدهم، حيث وجد الرواة، والمحدثون، والمفسرون والفقهاء، وغيرهم يبذلون الجهد من أجل صيانة التراث الإسلامي كله، وبذلك كان حفظ أحداث مرحلة البعثة النبوية، وأحداث تاريخ الدعوة إلى الله تعالى. إن معايشة مصادر هذه المرحلة تحتاج إلى العقل والفهم، والتحليل والاستنباط، وقوة الوعي وسرعة الإدراك، حتى لا يقع صاحب هذه المعايشة في الإسرائيليات، والأكاذيب التي وضعها أعداء الإسلام مع شروح المصادر الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إن كثيرًا من علماء العصر الحديث شغلوا أنفسهم بتنقية مرويات العصر النبوي من الدخيل فيه، وبذلك أسدوا للمسلمين معروفًا حسنًا يتمكنون به من الوقوف على الحق والحقيقة. ولسوف أستعين بكل ما بذله المخلصون مع السيرة والدعوة -قدامى ومحدثين- لأسجل الحقيقة التي أرجوها، وأعيش الحق الذي أعمل له، وأضع أمام المسلم المعاصر المعالم الواضحة التي تحقق الأمن، والسلام، وتنشر السعادة، والرضى في الناس أجمعين، استنباطًا من عصر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ومع كل ما أرجوه فإني أشير إلى العلم الذي أكتب فيه وأذكر به، وهو تاريخ الدعوة إلى الله تعالى في إطار مرحلة زمنية محددة، مع الاستفادة بكل دراسة جادة توصلني إلى ما أتمناه وأرجوه. والأمل الكبير في أن يمدني الله بسداد الفكر، ودقة الترتيب، وتحقيق الهدف، وأن يفتح أمام هذه الدراسة القلوب والعقول، وأن يجعلها في طريقها المنشود مصدر هداية ورشاد، ووسيلة للدعوة، والبيان. إن تعلقي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياة. وخدمتي للإسلام غاية. وتوجهي لهداية الناس أمنية. والتزامي بالصدق، والأمانة، والموضوعية دين وعقيدة. إن الله سبحانه وتعالى هو مصدر الأمل والرجاء، وإليه قصدي وتوجهي, وله حياتي ومماتي، وعليه توكلي واعتمادي. وهو حسبي, ونعم الوكيل. المؤلف أ. د/ أحمد أحمد غلوش مدينة نصر في غرة جمادى الأولى عام 1425هـ 19/ 6/ 2004م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 التمهيد: التعريف بالمدينة المنورة "دار الهجرة" وبيان أهميتها للدعوة المدينة المنورة: المدينة المنورة هي مهجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومأوى المسلمين، وكهف الإسلام، وأساس الدولة الإسلامية، ومنها انطلق الإسلام إلى العالم كله، وبوصول المهاجرين إليها بدأت الحركة بالإسلام تأخذ شكلا شموليًا لأركان الدين، ولسائر الناس في كل أرض الله تعالى معتمدة على جهود المهاجرين والأنصار بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتعريف بالمدينة يحتاج إلى بيان النقاط التالية: 1- أسماء المدينة المنورة وفضلها: عرفت المدينة المنورة قبل الإسلام باسم "يثرب", ويقال: إن الأرض التي أقيمت عليها المدينة هي المسماة بهذا الاسم، وقيل: إنه اسم كل من سكنها1. وحيث أن هذا الاسم يتضمن معنى سيئًا لأن يثرب مشتق من التثريب أو الثرب ومعنى كل منهما الإفساد، والتغيير، واللوم، والتعنيف، والعقوبة، والجزاء فقد تغير اسمها في الإسلام إلى ما يدل على الخير والبركة، والنور، والطهر، وصارت تسمى بأسماء كثيرة. من هذه الأسماء المدينة المنورة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها. ومن أسمائها المدينة، يقول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} 2. ويقول سبحانه: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} 3. ومنها طابة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما أشرف على المدينة عند عودته من تبوك: $"هذه طابة"4.   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص414. 2 التوبة: 101. 3 المنافقون: 8. 4 صحيح البخاري كتاب الحج باب المدينة طابة ج3 ص275 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومنها "طيبة" يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها طيبة" 1. ولها أسماء أخر أشهرها الإيمان، والجائرة، والمنورة، والمحبوبة، والقاصمة، والبارة، والحرم، والخيرة، وقد عد صاحب السيرة الشامية للمدينة خمسة وتسعين اسمًا2. وأسماء المدينة في الإسلام مشتقة من صفاتها، وخصائصها ونظرًا لانتفاء صفاتها الجاهلية فإنه يكره شرعًا تسميتها بما كان لها في الجاهلية من أسماء وعلى رأسها يثرب. روى الإمام أحمد ومالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" 3. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة، هي طابة" 4. وقد التزم السلف أسماءها الجديدة وكرهوا تسميتها بيثرب، يقول ابن عباس رضي الله عنه: "من قال يثرب فليستغفر الله ثلاث مرات"5. ويقول عيسى بن دينار: "من سمى المدينة يثرب كتب عليه خطيئة"6. وبهذا جزم العلامة كمال الدميري، ونظم رأيه شعرًا فقال: ومن دعاها يثربًا يستغفر ... فقوله خطيئة لتنظر وسبب الكراهة ما في كلمة يثرب من دلالة على السوء أيا كان اشتقاقها فإن كان اشتقاقها من الثرب فمعناها الفساد، وإن كان اشتقاقها من التثريب فمعناها العقوبة، والمؤاخذة بالذنب، وكلا المعنيين لا يليق بالمدينة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن دائمًا، ولذلك سماها طابة، وطيبة وأقر سائر أسمائها الحسنة.   1 صحيح البخاري ج3 ص274 ط الأوقاف. 2 انظر سبيل الهدى والرشاد ج3 ص414-427. 3 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص274. 4 الكشف الإلهي للطرابلسي، وفي صحيح البخاري "هي طابة" ج1 ص275. 5 الفوائد المجموعة للشوكاني، الدرر ج5 ص188. 6 سبل الهدى والرشاد ج3 ص427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وأما تسميتها في القرآن بيثرب، فهو حكاية قول المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 1. وحكاية قول المنافقين تثبت الكراهة، ولا تفيد الإباحة لأنهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} 2 فقول المنافق سوء كصاحبه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى أصحابه عن دار هجرتهم بعد ما رآها منامًا حين قال لهم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي يثرب المدينة" 3, وقال لهم: "لا أراها إلا يثرب" 4, فليس دليلا على عدم الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تعريفًا بها لأصحابه وهم في مكة ولأنهم لم يعهدوا لها قبل الإسلام اسمًا غير "يثرب"، ولم يكن نزل نهي عن هذه التسمية بعد، فلما نزل النهي بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليتركوه فتركوه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب المدينة، ويحب أهلها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ينظر إلى جدر المدينة المنورة، ويطرح رداءه ويقول: "هذه أرواح طيبة" 5 ويحث راحلته على سرعة السير نحوها حبًا وسرورًا بالمدينة، وأهلها, وكثيرًا ما كان ينادي ربه: "اللهم اجعل لنا بالمدينة قرارًا، ورزقًا حسنًا" 6 ومن دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة ما رواه أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة" 7. وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا   1 سورة الأحزاب: 13. 2 سورة المنافقون: 4. 3 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ج6 ص203, والوهل: الظن. 4 سبل الهدى والرشاد ج3 ص434. 5 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص283. 6 سبيل الهدى والرشاد ج3 ص430. 7 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إبراهيم لمكة" 1. وعن عبد الله بن الفضل بن العباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك لأهل المدينة بمثل مكة" 2. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاها، أو يقتل صيدها" , وقال صلى الله عليه وسلم: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت شفيعًا أو شهيدًا له يوم القيامة" 3. ويروي أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرامًا، وإني حرمت المدينة حرامًا ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين، والذي نفسي بيده ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها" 4. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعا لأهل مكة بالبركة وأنا محمد عبدك ورسولك، وأنا أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم، مثلما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين" 5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي   1 صحيح مسلم بشرح النووي فضل المدينة ج9 ص135. 2 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص146. 3 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج 9 ص136. 4 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج 9 ص147، 148, والمأزِم بكسر الزاي الجبل أو المضيق بين جبلين، والمراد به هنا الجبل. 5 سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي باب فضل المدينة ج10 ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه" 1. وقد اتفق العلماء على تفضيل مكة والمدينة على سائر المدن والقرى، إلا أنهم اختلفوا في التفاضل بينهما، فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعض الصحابة، وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وهو مذهب الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد مستدلين بما يلي: 1- يقول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} 2, والمخرج الصدق هو مكة، والمدخل الصدق هو المدينة، والسلطان النصير هم الأنصار، وقد بدأت الآية بالمدخل، وهو المدينة لأفضليتها يقول ابن عبد البر: "وفيه دليل واضح على تفضيل المدينة؛ لأن الله ابتدأ بها، وكان القياس أن يبتدئ بمكة؛ لأنه خرج منها قبل أن يدخل المدينة، وأيضًا قد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم سلطانًا نصيرًا في المدينة ولم يجعله بمكة، ويأبى الله تعالى بكرمه إلا أن ينقل نبيه إلا إلى ما هو خير"3. 2- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ فأسكني أحب البلاد إليك" 4, ففي هذا الحديث تصريح بأن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى، وذلك يدل على أفضليتها. 3- ذهب العلماء إلى أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها. فلقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبر فسأل: "قبر من هذا"؟. قالوا: قبر فلان الحبشي يا رسول الله.   1 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص146. 2 سورة الإسراء: 80. 3 الدرر في اختصار المغازي والسير ص80. 4 البداية والنهاية ج3 ص25 نقلا عن البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قال صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي خلق منها" 1, وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة" , قال الحكيم الترمذي: "إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة وقد قال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2 قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ به"3. وقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وفي ذلك دلالة على أن ترتبها أفضل من غيرها. 4- يقول النبي صلى الله عليه وسلم داعيًا للمدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" 4, وقد استجاب الله دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رأى المدينة, وهو عائد إليها ليسرع إليها من حبه لها، وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة أكثر من حبه مكة دليل على أفضليتها عند الله تعالى؛ لأن حبه صلى الله عليه وسلم تابع لحب ربه والمحبوب إلى الله ورسوله أكثر من غيره كيف لا يكون أفضل؟! إنه الأفضل. 5- بيان حقيقة أن ما بين بيته وقبره صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة، دليل على فضل المدينة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" 5؛ لأن رياض الجنة يفضل أرض الدنيا كلها. 6- تفضيل المدينة يكون بسبب مجاورة ساكنيها والمقيمين بها لقبره صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجاورة أهل الخير خير، ولذلك كان جزاء الصالحين في الآخرة إلحاقهم بالصالحين، وقد حرمت الشريعة الإسلامية مس المحدث لجلد المصحف لمجاورة الجلد للمصحف نفسه، مع أنه ليس منه، وذلك لأن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة، والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟!!   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص435. 2 سورة طه: 55. 3 الدرر في اختصار المغازي والسير ص80. 4 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص285 ط الأوقاف. 5 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقد حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدفن بجوار صاحبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه لينال من الجوار بعض الخير الذي لا يرجوه في غيره. ومن المعلوم أن جمهرة من العلماء قالوا بأفضلية مكة المكرمة على المدينة المنورة نظرًا لمضاعفة ثواب العمل بمكة ووجود الكعبة بها من بدء الحياة البشرية من لدن آدم عليه السلام ولضعف حديث أن المدينة أحب البلاد إلى الله تعالى إلا أن الجميع متفقون على أن البقعة التي تضم الأعضاء الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد دفنه أفضل من غيرها على الإطلاق، تليها في الأفضلية الكعبة ببنائها المعروف. وقد حرم الله تعالى المدينة كما حرم مكة فلا يقطع شجرها، ولا يقتل صيدها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها، ولا يقتل صيدها" 1. ويقول صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمن أشار لها وعرفها، ولا يصلح لرجل أن يحمل السلاح فيها إلا لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف الرجل بعيره" 2. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عير إلى ثور" 3. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها أي المدينة" 4. وفي المدينة المنورة قامت دولة الإسلام الأولى، ومنها انطلق الدعاة إلى كل مكان وانتشر الإسلام في العالم كله، والمسلم في كل زمان ومكان له في نفسه حب يسوقه إلى المدينة؛ لأنه يساق إلى المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لحب رؤيته صلى الله عليه وسلم والتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم والسلام على نبيهم، ومن بعد ذلك للصلاة في مسجده والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، والتبرك بمشاهدة آثاره، وآثار   1 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص137. 2 صحيح مسلم باب فضل المدينة ج9 ص141. 3 صحيح البخاري كتاب الحج, باب حرم المدينة ج3 ص271. 4 صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب أحد جبل يحبنا ج4 ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أصحابه رضوان الله عليهم1. ومن المعلوم أن شد الرحال إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنة مشروعة. وكل من يزور المدينة المنورة، ويتشرف بزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يعيش ذكريات الإسلام الأولى التي اكتمل خلالها الإيمان، وتمت النعمة، وأصبح للإسلام دولة وقوة فهي مأوى الإسلام وقوته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" 2. والمدينة المنورة هي دار الإسلام الباقية على الزمن كله وآخر القرى خرابًا في آخر الزمان، يقول صلى الله عليه وسلم: "آخر قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة" 3. 2- جغرافية المدينة المنورة: تقع المدينة المنورة شمال مكة المكرمة بثلاثمائة وخمسين ميلا تقريبًا، وهي أصغر مساحة، وأقل سكانًا من مكة، ويذهب بعض العلماء إلى أن المدينة كانت عند الهجرة نصف مكة مساحة وسكانًا، وتقع المدينة وسط جبال بركانية، وتلال صخرية، وأراضي حجرية فهي بذلك تمثل واحة خضراء، بها زراعات ونخيل وسط الصخر والحجر. وهي قرية صغيرة تقع بين جبلي عير وثور، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" 4. وقد حققت مجلة الأزهر في عددها الصادر في غرة صفر سنة 1375هـ وجود هذين الجبلين حول المدينة المنورة، بعدها شكك البعض في أن جبل ثور هو الموجود بمكة، ولا وجود له بالمدينة.   1 السيرة النبوية ج9 ص137. 2 صحيح البخاري كتاب الحج باب الإيمان يأرز إلى المدينة ج3 ص277ط الأوقاف ومعنى يأرز ينضم ويجتمع. 3 تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي ج10 ص418. 4 صحيح البخاري, كتاب الحج, باب حرم المدينة ج3. ص271، صحيح مسلم, كتاب الحج ج2 ص944. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ويقع جبل ثور1 خلف جبل أحد شمال المدينة، وبذلك يكون جبل أحد جزءًا من المدينة؛ لأن ثورًا يحدها شمالا. ويقع جبل "عير"2 في جنوب المدينة وهو حدها الجنوبي. كما يحد المدينة من الشرق حرة "واقم". ومن الغرب تقع حرة "الوبرة"3. وتتميز المدينة المنورة بأنها دار حق وصدق، لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} 4، يقول المفسرون: هما مكة التي خرج صلى الله عليه وسلم منها والمدينة التي دخلها صلى الله عليه وسلم5. والمدينة أحب البلاد إلى الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من مكة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك" 6, فأسكنه الله المدينة المنورة. 3- أهمية موقع المدينة: تتميز المدينة بموقعها الحصين، وخيرها الكثير فهي تقع في ملتقى طرق الجزيرة العربية الآتية من كل جهاتها، كما أنها محاطة بحواجز طبيعية تمنع وصول العدو إليها إن قصدها بسوء، وتعتبر المدينة جزيرة خضراء محاطة بحواجز صخرية، منيعة، إذ تقع حرة "واقم" في الشرق، وحرة "الوبرة" في الغرب، وجبل ثور وأحد في الشمال وجبل "عير" في الجنوب.   1 جبل ثور بالمدينة جبل صغير مدور, يقع خلف جبل أحد، وهو غير جبل ثور الموجود بمكة، ولونه يميل إلى الحمرة. 2 عير جبل عظيم شامخ يقع جنوب المدينة على مسافة ساعتين منها. 3 الحرة: بفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة، وواقم رجل من العماليق، والوبرة بفتح الباء أو بسكونها أرض حجرية لونها أسود كأنها أحرقت. 4 سورة الإسراء: 80. 5 تفسير ابن كثير ج3 ص58، 59 وهو أشهر الأقوال. 6 البداية والنهاية ج3 ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكان بها الزرع والثمر والنخيل، واستقر بها بعض اليهود وأقام فيها الأوس والخزرج منذ القدم وأنشئوا بها الصناعات، وزرعوا الأرض، واستخرجوا الثمر ولذلك يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين" 1. فتميزها بالنخيل دليل الزراعة والثمر، وإحاطتها باللابتين دليل المنعة والتحصين. وكان العرب وعلى رأسهم أهل مكة يقدرون لأهل المدينة هذا الموقع، ويعاملونهم بالتقدير والاحترام كسبًا لودهم، وأملا في حماية تجارتهم وهي تغدو وتروح عليهم، ولذلك رأينا القرشيين بعد بيعة العقبة الثانية يصبون جام غضبهم على من أسلم من أهل مكة، ويتجنبون مخالفة أهل المدينة. جاء في صحيح البخاري أن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان صديقًا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمرًا فنزل على أمية بمكة كعادته فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريبًا من نصف النهار, فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من معك؟ فقال: هذا سعد. فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لو منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة. فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد الوادي. فقال سعد: دعنا عنك يا أمية2.   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص468 واللابة هي الحرة بفتح الحاء. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب ذكر النبي من قتل ببدر ج7 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كما أنه واضح أن المدينة كانت ذات ثمر، فلقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وهو يومئذ رأس المشركين من غطفان عند الخندق ليخذل بين الأحزاب؟! ويصرفهم عن حصار المدينة. فأرسل إليه عيينة وقال له: إن جعلت لي الشطر فعلت1. لقد كان ثمر المدينة جديرًا بأن يغري رؤساء الكفر بنقض ما عزموا عليه، كما كان جديرًا أن يمزق جمعهم طمعًا فيه. إن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها ذات نخل دليل على ما فيها من خير لأن النخلة كثيرة الفوائد، عظيمة الثمر، ووجودها دليل على وجود ثمرها، وفيها عناصر الغذاء المطلوبة للإنسان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها" 2, ويقول عمرو بن ميمون: "ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب"3. إن عديدًا من الصناعات تقوم على النخلة منذ القدم، وقد استفاد بها العربي فائدة كبرى، فمنها يصنع بيته وأدواته، وفراشه، بالإضافة إلى تنوع ثمرها طعمًا، ولونًا، وصورة. 4- خلو المدينة من الوباء: اشتهرت يثرب قبل الإسلام بأنها بلد موبوءة، يكثر فيها المرض وتنتشر به الحمى، تقول عائشة رضي الله عنها: "قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا أي ماء آجنًا"4, وبهذا بينت السيدة عائشة رضي الله عنها السر في كون المدينة وبيئة، وهي أن وادي بطحان ينز ماؤه جهة المدينة فيحدث المرض والوباء   1 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص154. 2 تفسير ابن كثير ج3 ص118. 3 المرجع السابق ج3 ص118. 4 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ولذلك قال مشركو مكة حين جاء المسلمون للعمرة بعد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب" 1, ومن هنا ندرك سر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة وهم يطوفون بالبيت وأن يمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون قوتهم ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم2. وقد تأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحمى المدينة بعد هجرتهم. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عن الحمى يرفع عقيرته يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة" 3. واستجاب الله دعاء نبيه للمدينة، وجعلها بلدًا طيبًا. يقول الحافظ ابن حجر: "أصبحت المدينة أطيب بلاد الله سبحانه، كما سماها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سماها "طابة" و"طيبة" والطاب والطيب لغتان بمعنى واشتقاقها من الشيء الطيب لطهارة تربتها ولطيبها لساكنيها، ومن طيب العيش بها وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية؛ لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. يقول الحافظ ابن حجر: وقرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته من   1 صحيح البخاري كتاب الحج ج3 ص130. 2 صحيح البخاري كتاب الحج باب الرمل في الحج والعمرة ج3 ص131. 3 صحيح البخاري كتاب فضائل المدينة ج4 ص284، 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 صحيح البخاري بخطه يقول: أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب1. وهكذا خلت المدينة من الوباء، وحسن حالها، واستقر أمر المسلمين بها، وصارت حاضرة الإسلام الأولى بعد الهجرة إليها. 5- وسطية المدينة: تقع المدينة المنورة وسط العالم كمكة؛ لأنها قريبة منها، وأغلب سكانها عرب، ولغتهم هي العربية، وقد ساعد قرب المدينة من مكة أن يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أخبار المكيين، أمل الدعوة وأسسها وركيزتها، فهم الذين يدين لهم العرب جميعًا بالسيادة، ويتخذونهم القدوة والأسوة، ولأنهم منذ القدم حماة بيت الله وسدنته، ومقصد أهل الجزيرة حيث يأتون إليهم حاجين ومعتمرين، وقد ترك فيهم إبراهيم عليه السلام وحي الله ودينه وقد بوأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم وهو يقول: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" 2. ولم تغب مكة عن فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة, ولم ينس أهلها ولذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على معرفة أسرارهم، وأخبارهم، ومعرفة نقاط الضعف لديهم وإذا كان صلى الله عليه وسلم مكث بينهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثة عشر عامًا، وعجز عن إدخالهم في الإسلام، فإنه بعد الهجرة أخذ يحاول في إيمانهم؛ لأنهم شعب كثير، قوي يمكنه خدمة الإسلام بما يملك من إمكانيات واسعة، وثقة كبيرة يوليها العرب لهم. وتبرز أهمية أهل مكة وإمكاناتها الدعوية، فيما حدث للإسلام بعد فتح مكة إذ خرج من المكيين للجهاد في "حنين" آلاف، ولم يمض على إسلامهم عام واحد،   1 فتح الباري على صحيح البخاري ج4 ص89. 2 مسند الإمام أحمد مسند أبي بكر الصديق ج1 حديث رقم 18 ص199 ط الرسالة وانظر صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ودخلت الجزيرة كلها في الإسلام بعدهم، وظهر من بينهم دعاة أفذاذ حملوا راية الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله تعالى. لقد كان أهل مكة تجارًا يجوبون الآفاق، وهذا علمهم الواقعية في التفكير، واستخلاص النتائج من المقدمات، والاهتمام بالدور الفردي لخدمة الجماعة، والاستفادة من المهارات الخاصة في تحقيق منافع محددة، والإحاطة ببلاد العالم وطرق الرحلة إليها. كل هذا جعل من المدينة المنورة موطن الدعوة المثالي لما بينها وبين مكة من ترابط وصلة ولذلك هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها وعيونهم وقلوبهم ترنوا لمكة رجاءً وأملا. 6- تميز المدينة عن غيرها من المدن: لو نظرنا لسائر مدن الجزيرة العربية لرأينا تميز المدينة عنها جميعًا، ولأدركنا سر اختيارها للهجرة، فمدينة "الطائف" قريبة من مكة، بل هي أقرب إليها من المدينة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها موئل الإسلام حين ذهب إليها، وطلب من أهلها الحماية والنصرة1 إلا أنهم كانوا متأثرين بنفوذ القرشيين، ولذلك تجنبوا مخالفتهم، وردوا الرسول حين أتاهم ردا قبيحًا. وكان للمسيحية قوة التأثير في بلاد اليمن القريبة من بلاد الحبشة وفي بلاد الشام القريبة من أرض الروم. وكان للفرس نفوذ في شرق جزيرة العرب وبعض بلاد الشام. ولم يبق من مدن الجزيرة العربية مدينة تصلح للحركة الإسلامية، وتصير قاعدة الإسلام إلا مدن بلاد الحجاز الثلاث "مكة، والطائف، والمدينة" لعدم تأثرها بغيرها وحسن موقعها، ومزايا سكانها، فإذا ما انتفت منها مكة، والطائف لم يبق إلا المدينة المنورة وإليها كانت الهجرة النبوية.   1 انظر ص364 من الكتاب الثاني من هذه السلسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 7- سكان المدينة المنورة: سكن المدينة المنورة قبل الهجرة كل من قبيلتي الأوس والخزرج، ومعهم طوائف من اليهود. وكان أول الأمر بالمدينة أن سكنها العمالقة، ثم قدم عليهم أناس من بدو بني إسرائيل، فجاورهم فيها، فلما انهدم سد مأرب هاجر إليها الأوس والخزرج، ونزلوا بها، وتفرقوا في عاليتها وسافلتها1 فمنهم من نزل مع بني إسرائيل في القرى حول المدينة، ومنهم من أقام في يثرب. ولما دالت دولة اليهود في فلسطين في الزمن القديم وقضى عليهم الرومان، وهدموا الهيكل فر كثير منهم إلى الحجاز، وأقاموا في يثرب، وخيبر فكان بيثرب يهود بني قينقاع، وفي تخومها يهود بني قريظة والنضير، وكانت هناك جماعات أخرى من اليهود تقيم بخيبر، وفدك، وتيماء, ووادي القرى. وقد اتفقت قبائل الأوس والخزرج واليهود على المسالمة، وحسن الجوار، فعقدوا حلفًا يأمن به بعضهم على بعض، ويمتنعون به عمن سواهم. وكانت الغلبة والقوة لليهود ابتداء لتملكهم مصادر الغنى والثروة، إذ كانوا يشتغلون بالصياغة وصنع آلات الحرب، وبالزراعة وفلاحة البساتين، وكان لهم سوق كبيرة تقام بصورة دورية لبيع منتجاتهم لأهل يثرب والقرى المجاورة. ولما كثر عدد الأوس والخزرج، وزادت ثروتهم، واشتد ساعد أبنائهم وصارت لهم قوة خافت قريظة والنضير منهم فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم الأمر الذي جعل قبيلتي الأوس والخزرج تتحدان في إطار واحد، ويملكان عليهم "مالكًا بن العجلان"، أخا سالم بن عوف الخزرجي. وهكذا انقسمت المدينة إلى قسمين، قسم هم العرب من الأوس والخزرج ومن والاهم، وقسم هم اليهود بمختلف قبائلهم، وطوائفهم.   1 يراد بالعالية ما كان فوق المدينة إلى قباء وما بعدها، ويراد بالسافلة ما كان في أسفل المدينة إلى أحد وقبر حمزة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولم يدم توحد عرب يثرب طويلا، فقد لعب بهم اليهود، وأوقعوا بينهم الفتنة، واشتعلت الحرب بين الأوس والخزرج واستمرت وكان آخرها حرب "بعاث". ولم يتمكن "مالك بن العجلان" الذي سوده الأوس والخزرج عليهم من إيقاف الحرب، وإنهاء القتال، الأمر الذي أدى إلى كثرة الضرر وإهمال طرق الكسب والمعاش. وقد تطور الأمر بعد ذلك حيث مكن الله للأوس والخزرج بعد بغي اليهود، وظلمهم لأهل المدينة. يذكر المؤرخون أن ملك اليهود "الفطيون"1 كانت له السيادة على اليهود والأوس والخزرج، وكانت له فيهم سنة ألا تزوج منهم امرأة إلا أدخلت عليه قبل زوجها حتى يكون هو الذي يفتضها، إلى أن خطبت أخت لمالك بن العجلان الخزرجي، فلما كانت الليلة التي تهدى فيها إلى زوجها خرجت على مجلس قومها كاشفة عن ساقيها، وأخوها مالك في المجلس. فقال لها: قد جئت بسوأة بخروجك على قومك وقد كشفت عن ساقيك!! قالت: الذي يراد بي الليلة أعظم من ذلك لأنني أدخل على غير زوجي، ثم دخلت إلى منزلها فدخل إليها أخوها وقد أرمضه قولها. فقالت له: هل عندك من خبر؟ قال: نعم. قالت: فماذا؟ قال: أدخل معك في جملة النساء على الفطيون، فإذا خرجن من عندك ودخل عليك ضربته بالسيف حتى يبرد. قالت: افعل. فتزيا بزي النساء، وراح معها، فلما خرج النساء من عندها دخل الفطيون عليها فشد عليه "مالك بن العجلان" بالسيف وضربه حتى قتله، وخرج هاربًا حتى   1 الفطيون بكسر الفاء وسكون الطاء وياء مفتوحة وسكون الواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 قدم الشام، فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة فشكا إليه ما كان من الفطيون وما كان يعمل في نسائهم، وذكر له أنه قتله وهرب، وأنه لا يستطيع الرجوع خوفًا من اليهود، فعاهده أبو جبيلة أن لا يقرب امرأة، ولا يمس طيبًا، ولا يشرب خمرًا حتى يسير إلى المدينة، ويذل من بها من اليهود، وأقبل سائرًا من الشام في جمع كثير، مظهرًا أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة، ونزل بذي حرض، ثم أرسل إلى الأوس والخزرج أنه على المكر باليهود، عازم على قتل رؤسائهم، وأنه يخشى متى علموا بذلك أن يتحصنوا في آماطهم، وأمرهم بكتمان ما أسره إليهم، ثم أرسل إلى وجهاء اليهود أن يحضروا طعامه، ليحسن إليهم، ويصلهم، فأتاه وجوههم، وأشرافهم، ومع كل واحد منهم خاصته وحشمه، فلما تكاملوا أدخلهم في خيامه، ثم قتلهم عن آخرهم، فصارت الأوس والخزرج من يومئذ أعز أهل المدينة1. وبعد أن هاجر المسلمون إلى المدينة وأقاموا بها ظهر المهاجرون عنصرًا جديدًا فيها، يحمل الفكر والخلق، وينشر الهدى والدين. وقد تغير حال المسلمين في المدينة بعد الهجرة عن ما كانوا عليه من مكة، فلقد أصبح أمرهم بأيديهم، وصارت القوة معهم، وأخذوا يظهرون الإسلام بسائر نظمه في حياتهم، ومعاشهم, وأصبح لزامًا عليهم أن يكونوا مجتمعًا إسلاميا، يحمي أبناءه، ويصون عقيدته، وينشر دين الله في الأرض كلها. وليس بخاف أن تكوين هذا المجتمع يحتاج إلى جهد وإخلاص، كما يحتاج إلى صبر شديد، وزمن مديد، وعمل جاد رشيد، حتى يتكامل التشريع مع التطبيق، ويتوافق التثقيف والحركة، ويمتلئ الوجود بنور الوحي حركة في السلوك والحياة. وهذه الآمال الكبار المنوطة بالمسلمين في المدينة تحتاج إلى مجتمع متماسك، متحد الوسائل والغايات، يدرك رسالة الله، ويحمل الأمانة، ويعيش بها، ويتحرك لها بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هذا المجتمع بعناصره بعد الهجرة يحتاج إلى فهم مكوناته، والتعامل مع كل   1 معجم البلدان ج5 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عنصر بما يكافئه. فالمسلمون يتكونون من الأنصار المقيمين في أرضهم وديارهم وأموالهم، آمنين في شئونهم، عندهم قوتهم ومعاشهم، وكل ما ينقصهم هو القضاء على كل ما بينهم من منازعات وعداوات امتدت طويلا فيما مضى من الزمان، وقد دخلوا في الإسلام ومن آمالهم أن تنتهي هذه المنازعات بالإسلام. وبفضل الله تعالى انتهت هذه المنازعات من اللحظة الأولى بعد البيعة، عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة يدًا واحدة، تمثل جماعة واحدة، ومدينة واحدة، ولما جاءهم مصعب بن عمير رضي الله عنه، قادهم جميعًا إلى الله، وأدركوا أنهم بالإسلام مسئولون مع المهاجرين على مواجهة الوثنية في بلاد العرب وغيرها. لقد كانت قبيلة الخزرج أكثر عددًا وقوة من الأوس، وكان النقباء منهم أكثر ومع ذلك لم يحدث أن خص الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا دون غيره بشروط، ولم يحدث أن اعترض فريق منهم على شيء، وإنما أدى إقبالهم على الإسلام وصدقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا جميعًا على مستوى واحد في الحرص على الإيمان، واتباع كل ما يأمرهم به صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفهم الله جميعًا وصفًا واحدًا فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ومع الأنصار كان المهاجرون الذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا بلدهم، ومالهم، وأرضهم، وأهليهم، وجاءوا إلى المدينة لا يملكون شيئًا، ولا يحوزون أرضًا، أو دارًا. ومع المسلمين في المدينة كان اليهود بقبائلهم الثلاث بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.   1 سورة الحشر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعلى الجملة: فإن سكان المدينة بعد الهجرة كانوا مكونين من الفئات التالية: الفئة الأولى: الأنصار: وهم أهل المدينة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في الإسلام، وأساس الأنصار قبيلتا الأوس والخزرج. الفئة الثانية: المهاجرون: وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة ومن لحق بهم من القبائل. الفئة الثالثة: اليهود وقبائلهم الرئيسية بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. ومع هذه الفئات الثلاث وجد أفراد في المدينة تابعون لهذا الفريق أو ذاك، ولهم مذهبهم الخاص واتجاههم المستقل، ومنهم كان المشركون والمنافقون. ولم تكن العلاقات بين هذه الفئات طيبة؛ لأن اليهود نظروا إلى الإسلام نظرة حقد وحسد، وأملوا في إثارة العرب ضده، وكانوا يكرهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتمنون القضاء عليه، وعلى دينه. نظر اليهود إلى الإسلام، ورأوه دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في الشئون كلها، وإلى التقييد بأكل الحلال من طيب الأموال، ولهذا تآمروا عليه. خاف اليهود من تآلف العرب، والتخلص من سيطرتهم الاقتصادية، الأمر الذي قد يؤدي إلى فشل نشاط اليهود التجاري، وحرمانهم من أموال الربا التي تدير رحى ثروتهم، ويحتمل أن تتيقظ تلك القبائل فتفكر في الأموال الربوية التي أخذها اليهود، فتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها في تأدية الربا إلى اليهود. كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الاستقرار في يثرب، ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام، وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين. يظهر ذلك جليًا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي, أبو ياسر بن أخطب، مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين، كسلانين، ساقطين، يمشيان الهوينى, فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما لما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال أبي: نعم والله. قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال أبي: نعم. قال عمي: فما في نفسك منه؟ قال أبي: عداوته والله ما بقيت1. ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكان حبرًا من فطاحل علماء اليهود، فإنه لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به من ساعته، ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟. قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيتم إن أسلم عبد الله"؟. فقالوا: أعاذه الله من ذلك "مرتين أو ثلاثًا". فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه. فقال عبد الله بن سلام: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت1. وبقي المنافقون وسط الناس يثيرون الفتن، ويحاولون زعزعة ثقة المسلمين في رسولهم ودينهم، ولا يظهرون مكرهم مداراة للمسلمين، وخوفًا من المؤمنين. 8- شجاعة أبناء المدينة: تميز العرب في المدينة بقوة البأس والشجاعة والإباء بسبب الحروب التي امتدت بينهم طويلا، وأشهرها حرب داحس والغراء، وحرب بعاث، وقد أدت هذه الحروب إلى تخريج جيل من الرجال، متميز بصلابة الرأي، وقوة الشجاعة، وكأن هذه الحروب مدرسة لتخريج جيل قوي، يتفانى من أجل هدفه الذي آمن به، ويتحمل الكثير لتحقيق ما يؤمن به. لقد امتدت الحرب بين الأوس والخزرج طويلا، ومع ذلك لم يستسلم أحد منهم للآخر أبدًا، بعدًا عن العار، وحماية للشرف والكرامة، فلما أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتحد هدفهم وتحولوا جنودًا مخلصين لله. وكان العرب في الجزيرة العربية يعرفون شجاعة أهل المدينة، ولذلك كانوا يخطبون ودهم ليتمكنوا من شراء حاجاتهم منها، وليحظوا بقراهم، وليأمنوا على أنفسهم، وتجارتهم عند المرور بهم، وما سجل التاريخ اعتداء أحد على المدينة بسبب شجاعة أبنائها وقوة أهلها. وقد تأكدت شجاعتهم في الإسلام من خلال مواقفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي حديث كعب بن مالك ليلة بيعة العقبة الثانية قال صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا.   1 صحيح البخاري ك المناقب ج6 ص230 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عن كابر1. كما ظهرت شجاعتهم، وجرأتهم على الحروب يوم بدر، فلقد كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على نصرته على من يقصده وهو في المدينة، فلما سار بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في بدر، وخرج من المدينة أراد أن يعرف مدى حرصهم على الاشتراك في المعركة بعيدًا عن المدينة فوجد عند بدر منهم ما أسعده، وسره. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى المقداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: يا رسول الله لا نقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 2 ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، ومن خلفك, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله3. وعن علقمة بن وقاص الليثي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كنا بالروحاء خطب الناس فقال: "كيف ترون"؟. فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم كذا وكذا. ثم خطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "كيف ترون"؟. فقال عمر مثل قول أبي بكر. ثم خطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "كيف ترون"؟. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك، وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط، ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي   1 أخرجه أحمد. الفتح الرباني 20/ 271-275 قال في بلوغ الأماني: رجاله ثقات. 2 سورة المائدة: 24. 3 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ج6 ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت1. ومن المعلوم أن القتال يوم بدر كان قاسيًا على المسلمين، وكان شديدًا وهذا يجعل لمقالة المقداد قوة في دلالتها على شجاعة أهل المدينة، وقوة بأسهم، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 2. والآيات تصوير صريح لما كان يتمناه المسلمون، فهم يكرهون القتال ويتصورونه سعيًا إلى الموت، ومسارًا إليه. كانوا يتمنون الغنيمة بلا قتال, وشاء الله غير ذلك ليقطع دابر الكافرين، ويعلي شأن الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وليحقق بالمسلمين انتصارًا لدين الله تعالى يقول الحافظ في الفتح: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غنيمة مع أبي سفيان، فأحدث الله إليه القتال. إذا علم هذا الحال فإن موقف الأنصار من القتال دليل واضح على شجاعتهم لأنهم وجدوا أنفسهم أمام مسئولية القتال بلا استعداد مسبق فلم يترددوا أو يخافوا. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه أبو بكر وعمر، ثم قال عمر: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك3.   1 أخرجه من أبي شيبة مرسلا. ذكره في الدرر 3/ 163 وعزاه له, وذكره في الفتح 7/ 287 مختصرًا وحكم بإرساله. 2 سورة الأنفال: 5-7. 3 أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان. كذا في الدرر 2/ 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وفي غزوة الأحزاب تجلت شجاعة القوم، وظهر حرصهم على الأفضل، واستعدادهم للتضحية، وأكدوا أنهم ليسوا ممن يفرطون في وطنهم، وأن هذا كان شأنهم قديمًا فعندما اجتمع المشركون، وأحاطوا بالمسلمين من كل ناحية، وآزرهم اليهود والمنافقون، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" في أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة على أن ترجع فرفض السعدان ذلك، وأصرا على الحرب وبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهم قبل الإسلام، وأنهم ما ازدادوا بالإسلام إلا عزا. عن الزهري قال: لما اشتد على الناس البلاء يوم الأحزاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم بيننا وبينهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا1.   1 أخرجه ابن إسحاق ونقله عنه ابن كثير 3/ 201 وهو عند عبد الرزاق في المصنف راجع الجزء الذي طبع من المصنف تحت عنوان "المغازي النبوية" لابن شهاب الزهري ص79 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وواضح من هذه النصوص ما كان يتمتع به الأنصار من شجاعة وجرأة ومعرفة بفنون الحروب والقتال. 9- تآلف أبناء المدينة: عاش أهل المدينة مدة طويلة في حرب وصراع بين قبيلتي الأوس والخزرج وكان يهود بني قينقاع ينحازون للخزرج، ويهود بني قريظة ينحازون للأوس، الأمر الذي ساعد على اشتعال الحرب واستمرارها. ومن أشهر هذه الحروب يوم "بعاث" وبعاث مكان حصن في مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة، وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد بن حضير، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، وفي أول هذه الحرب كان النصر للخزرج وفي النهاية كان النصر للأوس، وفي هذه المعركة قتل رئيسا الفريقين. ومن حرب بعاث هذه استفاد الإسلام فإن أكابر الأوس والخزرج قتلوا فيها وبذلك قضى الله على المعارضة التي تتمسك بمواريث الآباء، يبدو هذا جليًا من موقف أحد هؤلاء الأكبار وقد بقى حيًا وهو عبد الله بن أبي فإنه وقف في وجه الدعوة، وكاد لها. ومن آثار هذه الموقعة أيضًا أن الأوس والخزرج أدركوا مدى الدمار الذي يلحقهم من الحروب، وتمنوا أمرًا يوحدهم ويجمعهم، فلما جاء الإسلام أسرعوا إليه يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. عن عكرمة رضي الله عنه قال: قابل النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار فآمنوا به وصدقوا، وأراد أن يذهب معهم فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبين قومنا حربًا، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد، فواعدوه العام المقبل فقالوا: نذهب   1 سورة آل عمران: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 برسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله أن يصلح به تلك الحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلح فلقوه من العام المقبل سبعين رجلا، قد آمنوا به، فأخذ منهم النقباء اثني عشر رجلا فذلك حين يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} . وعن ابن إسحاق قال: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام فأطفأ الله ذلك وألف بينهم1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار بم تمنون عليّ! ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟ ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم"؟. قالوا: بلى يا رسول الله2. ولسوف تدرك طبيعة القوم, وأثر يوم بعاث فيهم بما رواه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فلما سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذا؟ ما بال دعوى الجاهلية؟ ". فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" 3. تقول عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد افترق ملؤهم، وقتلت سراتهم وجرحوا فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام4. قال الحافظ ابن حجر: فقتل في حرب بعاث من أكابرهم من كان يتكبر   1 سيرة النبي ج1 ص428. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص175. 3 صحيح البخاري كتاب التفسير باب سورة المنافقين ج8 ص51. 4 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد بقي من هذا النحو عبد الله بن أبي بن سلول1, وقد تولى الله تعالى إذابة شحناء أهل المدينة، وألف بين قلوبهم، وجمعهم على المودة، والرحمة، والحب، والتعاون يقول الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2. وبهذا صار أهل المدينة في ألفة، وتماسك, وهم كذلك إلى اليوم. بكل هذه الحقائق عن المدينة وأهلها جعلها الله تعالى موئل الإسلام، ومستقره، وأمر المسلمين بالهجرة إليها، وتأسيس دولة الإسلام الأولى فيها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، والله على كل شيء قدير. 10- حب أهل المدينة للإسلام: تميز أهل المدينة بطبيعة مغايرة لأهل مكة بسبب اشتغالهم بزراعة الأرض وفلاحة البساتين، التي جعلتهم يعيشون بين عوامل طبيعية عديدة لا يدركون شيئًا عن حركتها وبين عمل وسعي لا يعرفون شيئًا عن نتائجه!! إن تقلب الجو، واضطراب الطبيعة، ونزول المطر، وتغير المناخ كل ذلك له تأثير مباشر في فكرهم ومعاشهم وحياتهم؛ لأنهم يتأكدون من وجوده، ويعرفون أهميته ومع ذلك لا يدركون مصدره، ولا يعرفون سببه، ولا يحددون بدايته أو نهايته إنه غيب بالنسبة لهم. كما أن نتاج الزرع، ومحاصيل الضرع وتغير المناخ أمور تتحرك بين يدي قدرة خافية لا يعلمون عنها شيئًا كذلك. الأمر الذي جعل حكماءهم يتساءلون عن فاعل كل هذا؟ ومدبره؟ والمتصرف فيه؟ لقد أدت إقامة اليهود بـ: "يثرب" إلى تذكير أهلها بدين الله تعالى القائم على التوحيد، فلقد كان اليهود أهل كتاب، يؤمنون بالله الواحد، ويدينون بدين   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج7 ص111. 2 سورة الأنفال الآية 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 موسى عليه السلام، وهذا أبقى في عقول أهل المدينة فكرة التوحيد، مما جعلهم ينظرون إلى الأصنام نظرة باهتة، فلم يحدث أن أقام أهل المدينة لها بيتًا، أو قدموها في الحرب أو هتفوا بها في مناسباتهم، وأعيادهم, وهذا الأمر ساعدهم على تقبل دعوة التوحيد حين جاءتهم، والدخول في دين الله تعالى حين علموا به. كما أن فكرة بعثة نبي بدين الله تعالى صار حقيقة متوقعة بعدما نطق بها اليهود وخوفوا بها العرب، الأمر الذي دفع الأوس والخزرج إلى تقبل فكرة النبوة، والتحرك إلى رسول الله، والإسراع في اعتناق الإسلام. جاء في سيرة ابن هشام ما رواه عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا من الخزرج أول مرة قال لهم: "من أنتم"؟. قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يهود"؟. قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟. قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًا مبعوثًا، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله فلا رجل أعز منك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا1. إن الوثنية التي عاشها الأوس والخزرج كانت هزيلة، بحيث لم تتمكن من تحمل ضغوط الإيمان، ولم يتحمس أحد من أهل المدينة ليصنع للأصنام هالة, أو ينشئ لها مكانًا مقدسًا، ولم تجد الأصنام فريقًا يعمل لحمايتها، والدفاع عنها، كما هو الحال في مكة، فلما جاءهم الإسلام أسرعوا إليه، وتخلصوا من الأصنام تخلصًا كليًا، وارتبطت نفوسهم بالله حتى كأنهم ولدوا في الإسلام، وعايشوه من زمن طويل، وما كان اتخاذهم للأصنام، وتوجههم نحوها إلا رمزًا يتشبهون به بغيرهم، لتكون لهم آلهة, كما كان لغيرهم, ولعل هذا الصمت التاريخي عن مصير آلهة الأوس والخزرج بعد الهجرة يفسر مدى هوان هذه الأصنام عند أهل يثرب، وعدم الارتباط بها، وسرعة وشمولية التخلص منها بعد دخولهم في دين الله تعالى. إن الإسلام جاء إلى المدينة، بعد لقاء العقبة الأول، وحملة مصعب بن عمير رضي الله عنه أول داعية أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، وقد قام مصعب بمهمته خير قيام، فانتشر الإسلام في كل بيوت المدينة، خلال مدة لم تدم أكثر من عام واحد، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها قرآن يتلى، وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف2. إن سرعة انتشار الإسلام في المدينة وإن كان بسبب ما فيه من الوضوح والسماحة والعدل والانسجام مع تكوين الإنسان ونشاطه وأهدافه، وبسبب همة مصعب بن عمير رضي الله عنه في الدعوة بصدق وإخلاص، حيث أخذ يحرك الأفئدة بالقرآن ويلين العواطف بتلاوته البهية، ويقنع العقول بالحق، ويرضيها وهو يعرض عليها آيات الله في الأنفس والآفاق، مع كل هذا فإن من أكبر العوامل التي ساعدت على هذا الإيمان السريع ووضعية أهل المدينة بالنسبة للأصنام، فلم يحدث أن عارضوا مصعبًا، أو دافعوا عن أصنامهم، أو جادلوا حول ألوهيتها، وإنما آمنوا بالله مسرعين لشعورهم بما في ألوهية الأصنام من ريب وشك.   1 سيرة النبي ج1 ص428. 2 سيرة بن هشام ج1 ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لقد كان أغلب الأوس والخزرج يعبدون "مناة" ويصنعون على مثاله أصنامًا من خشب يضعونها في دورهم, إلا أنهم كانوا يدركون هوانها، وعجزها. يدل على ذلك ما روي أن عمرو بن الجموح كان قد اتخذ لنفسه صنمًا من خشب يشبه "مناة" فلما أسلم فتيان من الأوس كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها فضلات الناس منكسًا على رأسه فلما أصبح عمرو ذهب ليتمسح بالصنم فلم يجده في المكان الذي تركه فيه، فأخذ يسأل، ويقول: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ وأخذ يلتمسه في كافة نواحي المدينة حتى إذا وجده غسله، وطهره، وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه! فإذا أمسى وقام عمرو عدوا عليه مرة أخرى، وفعلوا به مثل ما فعلوا، فيغدو عمرو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى, فيغسله، ويطهره، ويطيبه. ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يومًا فغسله، وطهره، وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. فلما أمسى، ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أحضروا كلبًا وربطوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، فلما جاء عمرو في الغداة لم يجده في مكانه الذي كان فيه. فخرج يتبعه، وابنه معاذ يحاول أن يهون له من شأن إلهه، وأن يحببه إلى الإسلام فكان يعرض عن ابنه مغضبًا، وغدا ينقلب عن إلهه، والمسلمون يزينون في قلبه دين الله فيثور في وجوههم، وإن كان كلامهم ينزل بسويداء فؤاده. واستمر عمرو بن الجموح في بحثه عن صنمه حتى وجده في تلك البئر منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه قال: والله لو كنت إلهًا لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلهًا مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن بأحمد المهدي النبي المرتهن1 لقد دخل أهل المدينة في الإسلام صادقين، وكانوا خير عون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام، واشتركوا معه في غزواته وجهاده. وقد هيأ الله أنفسهم لتقبل الإسلام بما كانوا يسمعونه من اليهود، فلقد كان اليهود يقولون للأوس والخزرج: لقد أظلنا زمان نبي يدعو لدين الله تعالى وسنسبقكم إليه لننتصر به عليكم ونقتلكم قتل عاد وإرم, فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم الأنصار ودخلوا في دين الله تعالى. لقد كانت مقالة اليهود تلك بمثابة التنبيه للأوس والخزرج، أدت بهم إلى التفكير في هذا الدين الجديد، وهذه المقالة دعوة حسنة، قدرها الله للمدنيين جعلتهم يفكرون، وينظرون، ويؤمنون. قد يتصور البعض أن مقالة اليهود للأوس والخزرج هي دافعهم الوحيد إلى الإسلام وهي التي جعلتهم يسلمون من غير تفكير ليكون السبق لهم!! وهذا تصور غير صحيح حيث نلاحظ أن إسلام الأوس والخزرج تم بعد ثلاثة لقاءات في العقبة كثر فيه الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، ولو كانت غايتهم السبق المجرد لآمنوا واتفقوا، وبايعوا في اللقاء الأول. وأيضًا: يعلم عرب المدينة "الأوس والخزرج" جيدًا أن اليهود لن يتركوا دينهم أبدًا لما اعتقدوه فيه؛ لأنهم يرون أن رسالتهم آخر الرسالات، ونبيهم أعظم الأنبياء، وأنهم شعب الله المختار، ولا يعقل أن يتبعوا واحدًا من العرب وقد ثبتت هذه الحقيقة يوم أن قبل اليهود الموت بعد غزوة الأحزاب، وفضلوه على الإسلام، وكان يكفيهم يومئذ أن يعلنوا إسلامهم، ويفوزوا بعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يتصور البعض أن قبول عرب المدينة "الأوس والخزرج" للإسلام كان   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص452، 453 والقرن: الحبل, والمستدن: الذليل، والغبن السفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 للحصول على مصلحة دنيوية عاجلة، وهي البحث عن الاستقرار، والأمن، وتحقيق الصلح فيما بينهم، ووضع نهاية للحرب التي دامت طويلا. لا نتصور ذلك لأن البيعة كانت على الجهاد والحرب، وهذا يعني بداية النزاع مع الوثنين في الجزيرة العربية كلها، وعلى رأسهم قريش، وبذلك اتسع الصراع وتشعب وبعدما كان بين الأوس والخزرج صار بين أهل المدينة وبين مشركي الجزيرة كلها، وعلى رأسهم القرشيون، والأعراب، وأهل البوادي بعدما كان منحصرًا بين الأوس والخزرج. وأيضًا فإن أهل المدينة بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فريقًا واحدًا، بصوت واحد، وعلى بنود واحدة، بلا أدنى تنافس بينهم. ولم يتحدث التاريخ أن قبيلة الأوس وهي القليلة العدد، الضعيفة القوة كانت هي الأسرع إلى الإسلام لضعفها. ولم يتحدث التاريخ أن قبيلة الخزرج ... وهي الكثيرة العدد كانت هي الأبطأ في اعتناق الإسلام لقوتها. لم يتحدث التاريخ عن هذا ولا ذاك، وإنما كان الخزرج هم الأسرع إلى الإسلام قبل الأوس، مما يدل على أن إسلام أهل المدينة كان يقينًا صادقًا مع الله تعالى قائمًا على الرضى والاقتناع. ولم يكن هدف أهل المدينة تثبيت سلطانهم، والمحافظة على رئاستهم ... لأن الذي حدث بعد الهجرة يشير إلى غير ذلك؛ لأن أهل المدينة أسلموا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتصرفون في المدينة لأنهم أصحاب الحق في إدارة المدينة، وأصحاب الكلمة العليا بها، وكثيرًا ما كانت الإدارة والقيادة للمهاجرين بلا اعتراض من الأنصار. إن إيمان أهل المدينة "الأوس والخزرج" كان بعد اقتناعهم بالإسلام، وتقبلهم لمبادئه، وإيمانًا منهم بأنه هو الطريق الصحيح لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، ونشر الخير بين الناس بمنهج الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الفصل الأول: السيرة النبوية من الهجرة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم مدخل ... الفصل الأول: السيرة النبوية من الهجرة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم تمهيد: أخذ كفار مكة في صدر الناس عن الإسلام، والعمل على إطفاء نور الله في قلوب المؤمنين، واستعملوا من أجل ذلك كافة ما أمكنهم من عمل، وأخذوا في إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه, حتى أنهم دبروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذوا المؤمنين إيذاء شديدًا، وقد أحاطت عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وبدينه، فساق إلى مكة نفرا من الأوس والخزرج، دخلوا في الإسلام، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد والموت كما هو واضح في بيعة العقبة الثانية1. فكان أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة، وهاجر صلى الله عليه وسلم بعدهم ولحق بهم، واستقر حال المسلمين بعد تمام الهجرة وتأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة. وأخذت الأحداث تتابع، وبدأ نصر الله لدينه وللمؤمنين يتحقق في أرض الواقع، ووصل دين الله إلى العالم كله، وبذلك عاشت سيرة الرسول، وحركته لله في العقول والقلوب، وحفظت في السطور والصدور، وبرزت في الأعمال والسلوك. وقد تأسست دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة بعد الهجرة، وصارت نموذجًا حيًا لحضارة راقية، قامت على التوحيد الخالص، والعبودية الكاملة لله وحده والتمسك بالعمل الصالح، والخلق الكريم. وفي منهجنا لدراسة هذه المرحلة أحب أن أفرق بين أمرين: الأمر الأول: أقصد بأحداث السيرة النبوية الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة شخصية في جانبها الأغلب، وإن شاركه غيره فيها كهجرته صلى الله عليه وسلم وإنشاء بيوته، وزواجه، وأولاده، وتعامله مع أصحابه ... إلخ. إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.   1 انظر ص411 من الكتاب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الأمر الثاني: أعني بأحداث حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، الأحداث التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها مع سائر المسلمين في نشر الإسلام وتبليغه للناس، وذلك كالجهاد، وإرسال الرسائل، واستقبال الوفود ... إلخ، مما له صلة بتبليغ الإسلام، وإن قام به الرسول صلى الله عليه وسلم وحده أحيانًا. إن الترابط بين الأمرين كبير، إلا أني فرقت بينهما منهجيًا، لأجعل الأمر الأول في دراسة السيرة، وأجعل الأمر الثاني في دراسة حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة وإن قام بهما معًا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الفصل تأتي دراسة السيرة النبوية في العهد المدني ولذلك أراها تتناول المباحث التالية: المبحث الأول: الهجرة النبوية. المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة بعد الهجرة. المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة. المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث السابع: حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته. المبحث الثامن: أبناء النبي صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. المبحث العاشر: أداؤه صلى الله عليه وسلم رسالة الله تعالى. وأما وفاته صلى الله عليه وسلم فسوف أجعلها بإذن الله تعالى في نهاية الحديث عن حركة الرسول بالدعوة ليكون الحديث في هذا الموضوع خاتمًا للسيرة والحركة معًا. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المبحث الأول: الهجرة النبوية مدخل ... المبحث الأول: الهجرة النبوية تمهيد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم كله فأخذ يبلغ الإسلام، ويتحرك به وفق منهج واقعي، فبدأ بالدعوة في مكة حيث بدأ نزول الوحي فيها، واستمرت الدعوة في مكة موطنها الأول ثلاثة عشر عامًا، تنوعت فيها الوسائل، وتعددت الأساليب، وتحمل المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئولية تبليغ الإسلام، ونشره بين الناس. ومع أن الإسلام دين الخلق الكريم، والمعاملات النبيلة، والعقيدة الصافية الصادقة، ومسلكه الحسن الدائم، وغايته تكريم الإنسان، والمحافظة على كافة الحقوق وتحقيق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. رغم أن الإسلام هكذا فإن أهل مكة، وبخاصة كبراؤها وسادتها لم يؤمنوا بدعوة الله، وإنما أخذوا في ردها، وصد الناس عنها، يدفعهم الحقد، وتغذيهم العصبية، ويحركهم الحرص على وضعيتهم الظالمة التي جعلوها منهج حياتهم. وقد رأينا في دراسة العهد المكي مدى عدوانية كفار مكة، واضطهادهم لكل من أسلم ووقوفهم سدًا يصد الناس عن استماع دعوة الله, وأخذوا يتهمون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأكاذيب المضللة حتى لا يسمعه أحد، مستفيدين من كثرتهم ومنزلتهم في قلوب الناس وتحكمهم في التجارة والمال، وقد نجحوا في عدوانيتهم إلى حد بعيد. إن عرب الجزيرة كانوا يقولون: "أهل الرجل أعرف به" فنأوا بأنفسهم عن الصراع الموجود في مكة، منتظرين نتائجه ليتخذوا بعد ذلك الموقف الذي يرونه. لقد دخل في الإسلام عدد قليل من مكة، ولو استمر إيمان الناس بالوتيرة التي سارت عليها خلال العهد المكي لاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزمن كله ليصل الإسلام إلى الناس في العالم كله، لأن جملة من دخل في الإسلام خلال العهد المكي لم يزد عن المائتين إلا قليلا، على خوف من طواغيت مكة واعتداء كبرائها. أمام هذا كان لا بد لدعوة الله تعالى أن تتخذ منهجًا جديدًا، ومسارًا آخر تحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 به انطلاقة كبرى للإسلام. وكان قدر الله تعالى مع حاجات الدعوة وواقعها، ومع آمال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فأمرهم بالهجرة العامة من مكة إلى بلد آخر. وقد سبق للمسلمين أن هاجر نفر منهم إلى الحبشة، تدريبًا لهم على ترك مكة، واكتشافًا لمعرفة حياة الآخرين ومذاهبهم، وليعلموا أن ترك الديار والأهل والمال والولد من أجل العقيدة والدين أمر مشروع، ولربما كان واجبًا حين لا يأمن المسلم على دينه وعقيدته. وقد بلغ عدد المهاجرين إلى الحبشة قريبًا من ثمانين مسلمًا ومسلمة، ولذلك فهي هجرة خاصة في عدد المهاجرين وفي الأهداف المقصودة، أما الهجرة إلى المدينة فإنها تعرف بالهجرة العامة لأن جميع المسلمين كلفوا بها كما تعرف بالهجرة النبوية لأن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر فيها مع المسلمين. ولما اشتد عنت الكفار، وغلظ عدوانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه نزل أمر الله تعالى بالهجرة إلى المدينة, فهاجر إليها المسلمون جميعًا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1. والحديث عن الهجرة يتناول النقاط التالية: النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة. النقطة الثانية: أهمية الهجرة. النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة. النقطة الرابعة: وقفات بارزة في الهجرة. وذلك في الصفحات التالية: والله الموفق.   1 انظر سيرة ابن هشام ج1 ص480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة إن ترك موطن الصبا والبعد عن الأهل والأحبة إلى مكان جديد لشاق على النفس يحتاج إلى تفهم لسببه، واقتناع بأهميته، والوقوف على الغايات السامية التي تقتضيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم صعوبة الأمر بالهجرة على أصحابه ولذلك تدرج في أمرهم بالهجرة، وإخبارهم بمكانها ووجهتها. ففي البداية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين"1. فبدأهم بأنها رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق، ولم يحدد لهم مكان الهجرة لتنشغل نفوسهم بالبحث عنها والتفكير في شأنهم معها، وليعلموا أنها حصينة لوصفها بأنها بين لابتين، وغنية لأنها ذات نخل. وقد ظن الصحابة بعد أن أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم برؤياه تلك أنها اليمامة2. أو هجر3، أو يثرب4، أو قنسرين5 لوجود الصفات التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومع هذا الظن لم يتصرفوا من تلقاء أنفسهم وإنما انتظروا تحديد دار هجرتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبدو أن هذا التحديد تم بعد مراحل تمهيدية. ففي المرحلة الأولى أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه. يحدث أبو موسى الأشعري أن البداية كانت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة، أو هجر   1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص208, واللابة الأرض الصخرية المرتفعة، وهي الحرة. 2 اليمامة تقع في الجنوب الغربي لجزيرة العرب. فتحها خالد بن الوليد وقتل فيها مسيلمة سنة 12هـ. 3 بلد معروف بالبحرين يسكنها عبد القيس، وبها كانت تصنع القلال التي كانت تباع بالمدينة. 4 هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سماها صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة طابة وطيبة. 5 قنسرين بكسر القاف وفتح النون الأولى مشددة، وهي إحدى مدن بلاد الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فإذا هي المدينة " يثرب""1. وبعد ذلك نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيره في الهجرة إلى واحد من أماكن ثلاثة هي: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين فعن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاث نزلت فهي دار هجرتك، المدينة، أو البحرين، أو قنسرين" 2. ثم كان تحديد دار الهجرة بعد ذلك، يروي الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبر أصحابه بالهجرة من مكة بأيام خرج إليهم مسرورًا، وهو يقول لهم: "قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها" 3. وإنما كان التدرج حول أمر الهجرة لحال المهاجرين حتى يسهل عليهم ترك الأهل والدار، وربما كان لأحدهم ارتباط معين يحتاج إلى وقت لينتهي منه ويؤدي ما عليه. ولعل تأخير تحديد المكان يؤدي إلى صرف أذهان القرشيين عن أهمية الهجرة، وإدراك خطورتها عليهم وعلى تجارتهم لأنهم كانوا يخافون من دخول أهل المدينة في الإسلام لتأثيرهم على أهل مكة وبخاصة إذا انضم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وقادهم بدينه الذي يدعو إليه. ولم يتصور أهل مكة أن الهجرة هذه المرة ستكون شاملة للرسول والمسلمين جميعًا وظنوها واحدة تشبه سابقيها، ولذا لما بدأ المسلمون في الرحيل إلى المدينة لم يتعرض لهم أحد، مع أنهم كانوا يخرجون أرسالا4 ظنًا من أهل مكة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يلحق بهم كما فعل مع مهاجري الحبشة. وقد رحلت عائلات بأكملها فقبيلة بني غنم رحل منهم، أربعة عشر رجلا، وسبع نسوة، كما تحرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأهله، وعشيرته وحلفاؤه في عشرين رجلا وامرأة. واستمر رحيل المسلمين من مكة حتى لم يبق منهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنوه، وأبو بكر وبنوه، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حيث أبقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، فلما علم أهل مكة بإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة خافوا من الأمر ووقع في أيديهم، فأخذوا في التخطيط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع ما يحذرون منه.   1 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ج7 ص226. 2 سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي. ك المناقب. باب فضل المدينة ج10 ص292. 3 سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي. ك المناقب. باب فضل المدينة ج10 ص292. 4 أرسالا: أي جماعة إثر جماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 النقطة الثانية: أهمية الهجرة الهجرة هي الترك مطلقًا، وتشمل ترك المحسوسات والمعنويات ولذلك فهناك ترك المعاصي، وترك الأفكار الضالة، وهناك ترك الديار والبلاد والرحيل عنها إلى مكان آخر، وكلاهما هجرة وترك، والفاعل لأحدهما مهاجر وتارك. ومن الهجرة الحسية ما تقوله الملائكة للمستضعفين الذين ظلموا أنفسهم، وبقوا تحت سيطرة الطغاة أذلاء مستعبدين ليقيموا عليهم الحجة، ويبينوا لهم أن الضعف معصية وجريمة يعاقب الله من رضي به، وهو قادر على الخلاص وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1. ومن الهجرة المعنوية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 2. وقد هاجر المسلمون إلى الحبشة تاركين مكة وما فيها من ضلال وشرك، فهي هجرة حسية، وهجرة معنوية معًا. والهجرة إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى هجرة المسلمين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سورة النساء: 97. 2 صحيح البخاري كتاب الإيمان ج1 ص53 وهذه رواية الحميدي ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من مكة إلى المدينة المنورة، والذين قاموا بالهجرة هم المهاجرون الذين قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1. ويندرج معهم كل من ترك موطنه أيا كان موقعه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يقول ابن الأثير: "والمراد بالمهاجر في الشريعة من فارق أهله، ووطنه، وجاء إلى بلد الإسلام، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم رغبة فيه، وإيثارًا له"2. وكلام ابن الأثير لا يقيد الهجرة بمكان خاص وإنما يجعل الهجرة شاملة لأى مكان ما دامت تقصد الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد الإسلام رغبة في صحبته، وإيثارًا للتعلم منه، وابتعادًا عن أعداء الله الذين يبغونهم الفتنة والضرر. وعلى ذلك فمن ترك دار الشرك، ولحق بدار الإسلام فهو مهاجر، يقول ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من المهاجرين، لأنهم هجروا دار الشرك إلى دار الإسلام، وكان من الأنصار مهاجرون تركوا المدينة يوم أن كانت دار شرك وقصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة"3. والهجرة المقصودة من الدراسة هي الهجرة إلى المدينة المنورة. وترجع أهمية الهجرة إلى المدينة المنورة إلى أنها تمثل الانطلاقة الكبرى لانتشار الإسلام بعد ما وقف أهل مكة من الإسلام والمسلمين موقف العنت والكبرياء، وأخذوا يصدون عن سبيل الله بكل وسيلة ممكنة، مهما كان فيها من الكذب والغلو والبعد عن الحق والسداد. يصور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة إلى الله تعالى ويبين بوضوح أنهم لم يتدبروا حقيقتها، ولم يتفهموا ما تدعوهم إليه، وإنما كانت اعتراضاتهم تتسم بالفوضوية، واللجوء إلى السفه والجهل، وتبتعد ابتعادًا كليًا عن المناقشة الهادفة الصحيحة.   1 سورة الحشر: 8. 2 جامع الأصول ج1 ص241. 3 انظر ص468 من الكتاب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى دين الله تعالى، ويدلل على الحق بالحسنى، ويبين الإسلام بكافة الوسائل والأساليب، ويقدم أمامهم الآيات الواضحات، ومع ذلك استمروا على عنتهم وغلوهم متعللين بالحجج الواهية والأجوبة الباهتة. فمرة يبرزون تميزهم بالغنى المادي والوجاهة الاجتماعية والسلطان القوي وما دروا أن ما هم فيه من فضل هو من الله، والأولى بهم أن يشكروا الرازق المعطي، يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} 1. ومرة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بتبديل الآيات، والإتيان بغيرها، وكأنهم في حفلة راقصة، تغير فيها الراقصة الملابس مع كل مقطع وأغنية، متصورين رسول الله قادرًا على التغيير أو التبديل ... وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2. ومرة يشعرون بالعجز، فيتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ويصفونه بالكذب والسحر ومعاداة دين الآباء يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 3. ومرة يتعنتون في المناقشة، ويطلبون من الرسول أن يعيد لهم آباءهم من قبورهم ليشهدوا بصدقة, يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ   1 سورة مريم: 73. 2 سورة يونس: 15. 3 سورة سبأ: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. ومرة يصيبهم الحنق والغيظ، وتتبدى منهم العداوة للمؤمنين يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2. ومرة ينكرون الحق، الثابت مستدلين بعدم الفهم، وجنوحهم إلى الظن، والخيال يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 3. ووصل الحال بأهل مكة أنهم حاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وكان أن نجاه الله منهم. وقد اشتد إيذاء الكفار لكل من أسلم لمنعهم من الإسلام، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان الإذن بالهجرة نهاية لفترة مؤلمة عاشها المسلمون، وبداية لقوة الإسلام وتطبيقه في حركة الحياة والناس ... وكان هذا سبب رضى المؤمنين وسعادتهم. لقد كانت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة مرحلة طبيعية، انطلقت فيها دعوتهم بعد حصارها الطويل، وكانت انفراجة حاسمة لا بد منها لنشر كلمة الحق بين القاضي والداني بلا عائق أو عناد. وكان المسلمون قد أدركوا بعد أن استعصى عليهم الانطلاق إلى غايتهم الكبرى أن تغيير المكان والأقوام أمر ضروري لتحقيق النجاح المنشود.   1 سورة الجاثية: 25. 2 سورة الحج: 72. 3 سورة الجاثية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ولم يعد ممكنًا للمسلمين أن يمارسوا نشاطهم المحدود المقيد في مكة بعد ثلاث عشرة سنة كانت محسوبة من عمر دعوتهم، وتيقنوا من حاجة الإسلام والمسلمين إلى منطلق أمين, يمكنهم من الوصول للناس في العالم كله, ولهذا كانت استجابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة. كانت الهجرة للمدينة إذن أمرًا ضروريًا، بعد أن هيأ أهلها للمسلمين المكيين الفرصة الطيبة للخلاص من مراقبة الأعداء، والبعد عن اضطهادهم وعنتهم. كان المطلوب آنذاك أن يهاجر من مكة جميع القادرين على تركها، لتيخذوا المدينة مركزًا جديدًا للدعوة وقد تحقق هذا، ولم يبق في مكة إلا من حبس أو فتن. ولا شك أن هجرة المسلمين كانت معروفة لأعدائهم لأنهم لم يكونوا يعيشون وحدهم في مجتمعات منعزلة، وإنما كانوا يعاشرون جماعات تعارضهم وتحرص على تعطيل دعوتهم، ولهم معهم كل يوم معارضات ومشاحنات، ولذلك كان أهل مكة يدركون رحيل المسلمين من بينهم كلما غابوا عنهم. وخرج المسلمون من مكة غير آسفين عليها, وقدموا على المجهول تاركين أهلهم وأموالهم مرغمين، وكانوا مع ذلك راضين بالحياة الجديدة الآمنة، وكان طريق الهجرة مفتوحًا أمامهم فهاجر بعضهم أمام الناس، وتسلل بعضهم الآخر في ظلمات الليل في غفلة وستر. ولم يكن في الهجرة عند بدايتها شيء من الخطر، ولم يقف أهل مكة ضدها، ولعلها كانت تبدو أمام المشركين نوعًا من الهروب من ميدان العمل، أو نوعًا من السلبية أمام الأخطار، ولعلهم قاسوها على هجرة المسلمين قبل ذلك إلى الحبشة، وظنوها مجرد رحيل فريق من المسلمين إلى غير بلدهم ليعيشوا غرباء مدة يعودون بعدها إلى مكة. ولم يعجز القرشيون أن يوجدوا لأنفسهم بعض التعليلات المناسبة لأفهامهم، بسبب عدم معارضتهم للمسلمين وهم يرحلون عن مكة، فلقد تصوروا أن هجرة المسلمين راحة لهم مما يرون ويسمعون، وأملوا في افصل بينهم وبين رسولهم، وبخاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أن الرسول باق في مكة معهم كما تصوروا. ولم يكن المسلمون آنذاك قوة تؤثر بالضرر على المنطقة أثناء الهجرة، فتركهم أعداؤهم يهاجرون بعد أن ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم، ولم يكن في الهجرة شيء من العنف أو الإثارة، ولذلك سمح القرشيون لكثير من المهاجرين بالهجرة بعد أن تركوا أموالهم وبيوتهم. وبدت هجرة المسلمين أمام المشركين كأنها نوع من الهزيمة، أو صورة للفرار من ميدان التنافس والصراع. إلا أن الهجرة لم تكن شيئًا من ذلك أبدًا؛ لأن المهاجرين ذهبوا إلى المدينة ليباشروا الأعمال الضخمة التي تخدم الدعوة، ويتحملوا مسئوليتها أمام الناس. وقد تحول الإسلام بهم إلى مجتمع متكامل ينطق بالعمل والتطبيق في حيوية ونشاط، ويتوحد بأخوة العقيدة التي تربط بين القلوب والأرواح، وتجمع بين الأجساد والأعمال، وتجعل الطرق والهدف واحدًا، وتزيل جميع الفوارق المادية، وتقضي على غبش الهوى ونزغات الضلال. إن المهاجرين لم يضيعوا وقتًا يخدمون فيه دينهم، وبخاصة بعد أن هاجر الجميع وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد بدأت المواجهات الحاسمة، والأعمال المتتابعة في خدمة الدعوة إلى الله تعالى. قد يتصور أحد أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة كانت من أجل الراحة والهدوء، وإيثارًا للسلامة من اضطهاد يتعرضون له في مكة، أو سترًا لضعفهم وقلتهم, وكل هذا غير صحيح، ومردود. أين هي السلامة وسط السرايا والغزوات التي اشتركوا فيها؟ والتي لم تنقطع طوال الفترة المدنية؟! وأين هذا الهدوء وقد تحولت حياتهم كلها إلى عبادة، ودعوة، وجهاد؟ وأين هذا الضعف في المهاجرين وقد تنوعت غزواتهم في كل الجهات والقبائل المحيطة بالمدينة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إنهم هاجروا لله ورسوله، واستمروا على ذلك حتى ماتوا لله وروسوله. وقد شجع المسلمون أهل مكة بصمتهم، وتواضعهم على قبول هذا التحليل الكاذب ليصرفوهم عن ملاحقتهم بالضرر. وربما كان القرشيون يقنعون أنفسهم بقبول هذا الفهم ويصدقون خيالهم، ليفتخروا أمام الناس بانتصارهم على المسلمين بعد الخصومات الطويلة. لقد تصور القرشيون صدق نظرتهم في المهاجرين لأن المهاجرين لم يتكلموا عن شيء، وكل ما اعتنوا به حين الهجرة هو خروجهم من مكة إلى حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليكون آخر من يهاجر منها، ولعله كان يخشى على أصحابه إذا هاجر قبلهم فنصحهم بالرحيل قبله ليضمن لهم نوعًا من الأمن والسلامة، وليكون خلف ظهورهم كالقائد الذي اضطرته ظروف الحرب للانسحاب فإنه يبقى مع آخر المتراجعين من جيشه أملا في سلامتهم وتحقيقًا للغايات المطلوبة منهم. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضلل أعداءه ببقائه بينهم ليوهمهم بأنه سيكون معهم بعد ذهاب أصحابه إلى المدينة, وبذلك تنتهي خطورته ويفقد أنصاره ويعيش صامتًا مداهنًا لأن القائد بمفرده لا يفعل شيئًا، وكل قوته في تنفيذ جنوده، واتباعهم لأوامره وتوجيهاته. لقد تبخرت تصوراتهم كالسراب بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بأصحابه في المدينة، وبدأت دولة الإسلام تتعالى، وتنطلق في العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة النبوية مدخل ... النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة النبوية هاجر المسلمون من مكة ورحلوا إلى المدينة ولم يبق في مكة أحد من المسلمين إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا بكر الصديق رضي الله عنه وأبناء أبي بكر، وأسامة بن زيد، وعامر بن فهيرة فلقد بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" 1، فيطمع أبو بكر أن يكون هو، وأخذ يستعد لذلك فابتاع راحلتين وحبسهما في داره، وأخذ في علفهما والاهتمام بهما، واستمر الحال على هذا مدة أربعة أشهر2 حتى تمت الهجرة النبوية، في إطار تنظيم قدرة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد اشتمل تنظيم الهجرة على ما يلي:   1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص208. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب ج ص208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أولا: تآمر القرشيين على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر المسلمون إلى المدينة وبدأ أهل مكة يشعرون أن تجمع المسلمين في المدينة مع أهلها خطر عليهم، وبخاصة إذا لحق محمد صلى الله عليه وسلم بهم فأخذوا يتآمرون للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بينهم قبل أن يتركهم إلى المدينة ويتعاظم شأنه. يقول ابن إسحاق: ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وعرفوا أنهم قد نزلوا دارًا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا له في دار الندوة، يتشاورون فيما يصنعون في أمره صلى الله عليه وسلم حين خافوه، وكان ذلك في شهر صفر من العام الثالث عشر للنبوة. فلما غدوا في اليوم الذي اتعدوا له اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل نجدي يتسم بالهدوء والوقار وعليه بتله1 فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا. قالوا: أجل، فأدخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش.   1 في "بت" ... والبتلة والبت: الكساء الغليظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا مع من اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا. قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرًا، والنابغة، ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا، وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم, دبروا فيه رأيًا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نسبيًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فتفرق القوم على ذلك، وهم مجمعون على تنفيذه1. وقد وقع اختيارهم على أحد عشر رجلا من أكابر قريش وهم: 1- أبو جهل بن هشام. 2- الحكم بن أبي العاص. 3- عقبة بن أبي معيط. 4- النضر بن الحارث. 5- أمية بن خلف. 6- زمعة بن الأسود. 7- طعيمة بن عدي. 8- أبو لهب. 9- أبي بن خلف. 10- نبيه بن الحجاج. 11- منبه بن الحجاج. اجتمع هؤلاء الرجال المختارون وفيهم أبو جهل بن هشام عند بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ المؤامرة المتفق عليها، فقال لهم أبو جهل وهم على بابه صلى الله عليه وسلم استهزاء وسخرية: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم؛ ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها. استمرت هذه الجماعة في حصارها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتقتله فور خروجه إليهم، لكنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وأخذ حفنة من تراب في يده وألقاها على رءوسهم وهم في عماية وغشاوة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم يا أبا جهل"، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه صلى الله عليه وسلم، فجعل ينثر التراب على رءوسهم ويتلو هؤلاء الآيات من سورة يس، وفيها يقول الله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ,   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص480-413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 1, فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة هذه الآيات، لم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب2.   1 سورة يس: 1-9. 2 سيرة ابن هشام ج1 ص480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثانيًا: التخطيط للهجرة قدرة الله غالبة، وأمره سبحانه وتعالى نافذ، وكان من اليسير أن يزيل الكفر والكافرين بـ: "كن", لكن إرادة الله قضت بجريان أمور الدعوة على عادة البشر وسنن الحياة، ليتملى المسلمون حركة القدرة الإلهية، وينظروا في مسار الأمور اعتبارًا وعظة، ولذلك كانت الهجرة عملا بشريًا، راعت كافة الاحتمالات، ورسمت منهجًا للحركة الصحيحة، وقد أعان الله تعالى رسوله والمسلمين على النجاح، وقدر لهم أن يتم أخطر عمل في حياة المسلمين بفكر البشر، ليكون دليلا للمستقبل ومبدأ للتأسي، وقد عالجت الخطة جميع الجوانب التي نلحظها في الأمور التالية: 1- الإعداد المسبق للهجرة: أعد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة عدتها قبل أن يتحرك من بيته. تقول عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر1 الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء متقنعًا2 في ساعة لم يكن يأتينا فيها!   1 أي أول الزوال، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار. 2 أي مغطيًا رأسه من شدة الحرارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. تقول عائشة: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له. فلما دخل صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أخرج من عندك". فقال أبو بكر: إنما هم أهلك1 بأبي أنت يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "فإني قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصحابة2 بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" 3. قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز4 وصنعنا لهما سفرة في جراب5. وقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة وحدد لجميع من سيساعده دوره وعمله، كما سيتضح ذلك من عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط، وأسماء بنت أبي بكر. 2- مبيت علي رضي الله عنه على فراشه صلى الله عليه وسلم: لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة وعلمت قريش ذلك، وخافت على نفسها من أثر إيجاد قوة للمسلمين خارج مكة، قررت قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق الخطة التي قرروها في اجتماع دار الندوة. وفي الليلة التي عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة فيها، تجمع فتيان قريش حول   1 أراد بذلك عائشة وأسماء، والمقصود أنهم من أهل دينك فلا تخش منهم، كما جاء في رواية موسى بن عقبة ففي روايته: "أخرج من عندك"، قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي. 2 أي أريد مصاحبتك يا رسول الله. 3 مع أن أبا بكر أنفق الكثير من ماله على الدعوة ورسولها، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على دفع الثمن حتى لا تكون هجرته إلا من مال نفسه. 4 أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع، والجهاز: ما يحتاج إليه في السفر. 5 أي زادًا في جراب، وأصل السفرة الزاد ثم استعملت في وعاء الزاد، وإنما أرادت السيدة عائشة من اللفظة هنا أصلها اللغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 بيت النبي، يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فأخبر جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤامرة القوم، وأمره أن لا يبيت هذه الليلة على فراشه الذي يبيت عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم" 1. ولقد نجحت هذه الخطة نجاحًا واضحًا، فلقد رأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخرج من بيته، ويضع على رءوسهم التراب، فجاء للفتيان وقال لهم: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك فيكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب فظنوه بسبب الريح، أو بغيره، ولم يصدقوا الرجل في مقالته، واستمروا على ظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لرؤيتهم رجلا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينظرون في الفراش بين الفينة والفينة فيجدون شخصًا مسجًا ببرد رسول الله، فيظنونه نائمًا ولذلك استمروا في مكانهم. فلما جاء الصباح، وقام علي من نومه وخرج عليهم، علموا أنهم قد خدعوا، وقال بعضهم لبعض: لقد صدقنا الذي حدثنا2. ونلاحظ دقة التخطيط وحسن الاختيار في مبيت علي رضي الله عنه مكان رسول الله، فلقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أخيه لينام مكانه لما في مبيته من تضحية، والموت فيها وارد، وما دام الأمر هكذا فلتكن التضحية بالأهل والأقارب أما في صحبة الهجرة فلقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ليعلم الجميع أن غاية رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغ رسالته التي كلف بها، ولو كان يقصد الزعامة لأخذ نفرًا من قبيلته مثل علي بن أبي طالب، أو حمزة بن عبد المطلب أو غيرهما. ومن قدر الله أن الرجال الذين أحاطوا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم انصرفوا عن اقتحامه وبقوا خارج الدار حتى الصباح، ولم يتعجل أهل مكة خبر مقتل محمد مع أن   1 تهذيب السيرة ص112. 2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص483 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 رجالهم جاءوا واستعدوا لتحقيق هذه الغاية. يذكر السهيلي أن الرجال حينما هموا بالدخول لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعوا صياح امرأة من داخل الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث الناس عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا1. وهكذا جرى قدر الله، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا إلى دار أبي بكر، وصرف الله أهل مكة عن حراسة الطرق المؤدية إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أنهم أحكموا الخطة، ولن يتمكن محمد صلى الله عليه وسلم من الخروج من بيته ورجالهم يحيطون به. ووصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فاصطحبه وذهبا سويًا إلى الغار. 3- الوصول إلى غار ثور: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره ليلا وذهب مسرعًا إلى دار أبي بكر فوجده مستعدًا للرحيل، فخرجا سويًا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وسارا معًا في نفس الليلة إلى الغار المتفق على الاختباء فيه، وعندما وصلا إلى الغار طلب أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتظر حتى يدخل هو الغار ينظر ما فيه، وذلك من باب الحرص على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلربما كان في الغار حيوان مؤذ، يتصدى له أبو بكر فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك حتى انتهيا إلى الغار من ثور، قال أبو بكر: قف كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه، وأقصه، فإذا كانت فيه دابة أصابتني قبلك. قال نافع2: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفًا أن تخرج منه دابة، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الوصول للغار نلحظ الأعمال التالية: - فلقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الخوخة خلف البيت ليبتعدا عن أعين   1 الروض الأنف ج1 ص229. 2 هو نافع بن عمر الجمحي الراوي عن ابن أبي مليكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 القرشيين الذين يعملون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ومن المحتمل اهتمامهم بمراقبة بيت أبي بكر في هذه اللية الحاسمة. - التحرك السريع ليلا فلقد وصل النبي وأبو بكر إلى الغار في نفس الليلة التي خرج فيها الرسول من بيته، مع أن جبل ثور يقع جنوب مكة بخمسة أميال، والطريق إليه وعر وشاق. - الاتجاه نحو الجنوب جهة اليمن مع أن المدينة جهة الشمال؛ لأن القرشيين عندما يدركون هرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبحثون عنه في كل أنحاء مكة، وبخاصة جهة المدينة المنورة التي هاجر إليها المسلمون. يقول المباركفوري: ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي، المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن ... نعم سلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق وسار فيه نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة2. - المكث في الغار ثلاثة أيام، وهي المدة التي سوف ينشط فيها القرشيون للبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها سيجندون الرجال، ويبحثون في كافة الجهات، ومن المنتظر أنهم بعد ثلاثة أيام سيصابون بالإحباط، ويهدءون. - أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مولى أبي بكر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه بالنهار، ويسير بها حيث سار الرسول وصاحبه لتنمحي آثارهما, فلا يستطيع أحد اقتفاء أثرهما، وقد قام عامر بن فهيرة بما كلف به خير قيام. 4- البقاء في الغار: استقر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار، ونشط المكيون في البحث عن محمد صلى الله عليه وسلم بعدما فر منهم، ورصدوا لمن يأتي به حيًا، أو ميتًا مائة من الإبل، ولم   1 الخوخة وهي فتحة ضيقة كانت في ظهر بيت أبي بكر تجهد من يخرج منها، ويحتاج الخارج منها إلى مساعدة وعون. 2 الرحيق المختوم ص164 طبع ونشر دار السلام, الرياض سنة 1993م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يقصروا في السعي فلقد أحضروا رجالا يقتفون الأثر، يقودونهم إلى الناحية التي سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم وتتبع الدليل أثر الرسول وأبي بكر، فوجد أنهما أخذا طريق اليمن، وساروا فيه حتى وصلوا إلى غار ثور وتوقفوا، فأخذ القرشيون يفتشون في جبل ثور حتى وصلوا إلى الغار، ونظروا فيه فوجدوا على بابه نسيج العنكبوت، وحمامتين مع بيضهما في عشهما، فقالوا: لو دخل محمد هاهنا لانهدم بيت العنكبوت ولضاع عش الحمامة وانكسر بيضها!! ونظر أبو بكر فرأى رجلا مواجهًا للغار فقال: يا رسول الله إنه ليرانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إن الملائكة تسترنا بأجنحتها". فجلس الرجل وبال جهة الغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان يرانا ما فعل ذلك1. واشتد خوف أبي بكر رضي الله عنه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لو نظر أحدهم تحت أقدامه لرآنا!! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكت يا أبا بكر, ما بلك باثنين الله ثالثهما" 2. واستمر الرسول في الغار ثلاثة أيام بعيدًا عن الناس إلا أن التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة جعله يحيط بكل ما يدور بين المكيين، ويسهل له وصول كل ما يحتاجه من سبل الحياة وأخبار الناس. - فلقد أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع ما يقوله الناس في النهار على أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساء بما كان في ذلك اليوم من خبر. - وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام والشراب بما يصلحهما إذا أمست. - وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم بالنهار على أن يأتي بالغنم الغار ليلا ليسقيهما لبنًا، وليعفو أثر عبد الله وأسماء. وبعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام سكن الناس، وشعروا أن محمدًا فر بعيدًا عن مكة، فأتاهما عبد الله بن أريقط الذي استأجره الرسول دليلا   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب الهجرة ج6 ص66، 67. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب الهجرة ج6 ص221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 للهجرة ومعه بعيراهما وثالث له، وأتتهما أسماء بزاد السفر الذي لم تجعل له حبلا يعلق به، فشقت نطاقها نصفين جعلت أحدهما حبلا للزاد فسميت بذات النطاقين لذلك1. 5- في الطريق إلى المدينة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار بعد ثلاثة أيام، وقادهما الدليل إلى حيث يقصدون بكل أمان وصدق، وسيطر الحذر على الركب الكريم في مسيرته، وبرزت مواقف عديدة صنعها القدر الإلهي، وأبقاها عبرة، وعظة للناس, وأهم هذه المواقف ما يلي: - استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة بخبرة رجل مشرك هو عبد الله بن أريقط، وأستأجره ليكون الدليل لمعرفته بالطرق ومساراتها, وهذا أمر جائز شرعًا لتعين الرجل لذلك العمل وعدم وجود أحد من المسلمين للقيام بهذا الدور، وأيضًا فإن في اختيار رجل مشرك لقيادة الرحلة من الأمور التي تعمي على أهل مكة طريق الهجرة لأنهم لا يتصورون مشركًا يقود محمدًا وصحبه في الطريق. - لم يسلك الركب الطريق إلى المدينة بعد الخروج من الغار وإنما أمعن في الاتجاه إلى الجنوب، ثم اتجه غربًا نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر. - إن الطرق بين مكة والمدينة وعرة، موحشة، لا يرى فيها المسافر ما يخفف عناء السفر من زرع وماء، وأساسها طريقان: أحدهما شرقي محاذ لبلاد نجد. والآخر: غربي محاذ لساحل البحر الأحمر. وقد اختار الدليل الطريق الثاني. بيد أنه لم يسلك جادة هذه الطريق طوال الرحلة بل كان يلتوي هنا وهناك تفاديًا من أن يلحقهم من يقفوا أثرهم من القرشيين ممن كان يطمع في الحصول على الجائزة التي قررتها قريش لمن يأتي بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقد وصف ابن هشام الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من جبل ثور إلى المدينة لإظهار مدى التخفي والاستتار الذي سلكه الدليل بركب الهجرة، فقال: إن   1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص485، 486 بتصرف وقد أورد البخاري قصة الهجرة في حديث طويل رواه عن عائشة رضي الله عنها. انظر كتاب المناقب من صحيح البخاري ج69 ص206-210 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عبد الله بن أريقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما إلى الساحل، حتى عارض الطريق أسفل عسفان1، التي تبعد عن مكة بستة وثلاثين ميلا, ثم سلك بهما الدليل على أسفل أمج2 ثم استجاز بهما الدليل حتى عارض الطريق بعد أن جاوز قديد، ثم سلك الخرار3، وهو واد يقع في نحو منتصف الطريق بين مكة والمدينة، ثم أخذ بهما الحداجد4، وتقع في أرض مستوية صلبة، ثم هبط بهما العَرِج5. ثم هبط وادي العتيق الذي يؤدي إلى المدينة6. كان أبو بكر رضي الله عنه خير صديق يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فلقد قام بحراسته وخدمته ومساعدته خير قيام. يروي البراء بن عازب حديث الهجرة فيقول رضي الله عنه: ابتاع أبو بكر من عازب رحلا فحملته معه، فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له أبو بكر: أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة، يريد من الصخرة مثل الذي أردنا. فسألته: لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان. فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم.   1 بضم أوله وسكون ثانيه ثم فاء وآخره نون وهي قرية صغيرة قريبة من ساحل البحر الأحمر على حد تهامة على طريق المدينة، يكثر بها النخيل والمزارع، وسميت عسفان لتعسف الطريق، ويسمى الطريق بين عسفان وملل الساحل. 2 أمج بفتح الهمزة والجيم بلد صغير بين مكة والمدينة. 3 بفتح الخاء وتشديد الراء: موضع بالحجاز قرب الجحفة. معجم ما استعجم للبكري ج2 ص492. 4 جمع حدجد وهي الأرض المستوية الصلبة، ويجوز أن يكون جمع حدجد وهي البئر القديمة، ويظن ياقوت الحموي في معجمه أنها آبار قديمة. 5 بفتح أوله وسكون ثانيه وجيم: منزل بطريق مكة على طريق الحاج. 6 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص491 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم. فأخذ شاة من غنمه فقلت له: انفض الضرع. فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت. ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله. قال: "بلى". فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له. فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. فقال: "لا تحزن إن الله معنا" 1. والحديث واضح الدلالة في دور أبي بكر خلال رحلة الهجرة، فلقد كان رضي الله عنه يبحث لرسول الله عن ظل عند الظهيرة يأوى إليه، ويسوي له المكان، وكان يقوم بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويراقب له الطرق، وكان يعد له الطعام، ويبرد له الشراب، ويسقيه اللبن، وكان دائم الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يلتفت كثيرًا والرسول يقول له: "لا تحزن إن الله معنا"، وكان أبو بكر شيخًا معروفًا للعرب، مصدقًا لديهم يقابله أحدهم ويسأله: من هذا الرجل الذي معك؟ فيرد أبو بكر: هذا الرجل يهديني الطريق. فيظن السائل أنه طريق المدينة، بينما هو طريق الإسلام والرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم2. لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدوره خير قيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة، وكان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يملك عليه جوارحه وحياته كلها، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة وقال: "إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته"3. يذكر عمر بن الخطاب ليلة الهجرة فيقول: والذي نفسي بيده لتلك الليلة لأبي بكر خير من آل عمر4.   1 صحيح البخاري كتاب المناقب، باب الهجرة ج6 ص219، 220. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص215 ط الأوقاف. 3 صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة ج6 ص79 ط الأوقاف. 4 سيرة ابن كثير ج2 ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة امتدت رعاية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل أعمال الهجرة. فلقد أعمى الله عقول وأبصار من أحاطوا ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة حتى خرج صلى الله عليه وسلم وألقى على رأسهم التراب، ولم يشعروا به. وهدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى وضع تنظيم يتحرك فيه كل من اشترك في أعمال الهجرة وفق إمكانياته، وبصورة لا تعطي القرشيين أي خبر عن الهجرة. وخلق الله في برهة وجيزة عند باب الغار ما يصرفهم عن الدخول فيه, الأمر الذي جعل كفار مكة لا يتصورون أن أحدًا دخل الغار من مدة طويلة. وبعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار، وأخذ طريقه إلى المدينة تجلت عناية الله، وبرزت المعونة الإلهية للرسول، وصاحبه في صور عديدة منها: 1- رد سراقة بن مالك: رصدت قريش مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأبي بكر حيًا أو ميتًا، وتلك ثروة يلهث وراءها الشباب والرجال في مكة وبخاصة إذا أتت من عمل يصون قوميتهم، ويحافظ على آلهتهم كما يتصورون. ومن أكبر الذين اجتهدوا في نيل هذه الجائزة سراقة بن مالك وكان له في هذا المجال قصة يرويها البخاري في صحيحه بسنده عن سراقة بن مالك. يقول سراقة بن مالك: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدي فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم. ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب الأمان في رقعة من أديم1. 2- شاة أم معبد الخزاعية: في أثناء رحلة الهجرة مر الرسول وصحبه بخيمة أم معبد، وهي امرأة بدوية كريمة تطعم وتسقي من يأتيها، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، تكنى باسم ولدها معبد.   1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص210، 211، ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أمام خيمة أم معبد وسألاها: "هل عندك شيء". فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب، والسنة سنة شهباء. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد "؟. قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال صلى الله عليه وسلم: "هل بها من لبن"؟. قالت: هي أجهد من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: "أتأذنين لي أن أحلبها"؟. قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا حتى ملأ الإناء، ثم ارتحلوا. فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالا، فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا؟ والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا. قال لها: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفته الرائعة, بكلام دقيق كأن السامع ينظر إليه، وهو أمامه. فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا1. 3- إسلام أبي بريدة: في أثناء رحلة الهجرة، وفي الطريق على مقربة من المدينة المنورة لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بريدة ونفرًا من قومه؛ جاءوا يطلبون النبي وأبا بكر ليفوزوا بالمكافأة التي رصدتها   1 زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص55-75 مؤسسة الرسالة سنة 1979. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 قريش للقضاء عليهما. كلم أبو بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم صدقه وأمانته وأسلم لوقته، وتبعه سبعون رجلا من قومه، ثم خلع أبو بريدة عمامته، وعقدها برمح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة له، وبذلك يعد أبو بريدة والمؤمنون معه من أوائل الأنصار الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. وبإيمان هؤلاء القوم صار للمسلمين قوة في الطريق1, وبدأ المسلمون في تكوين المجتمع القوي المتماسك. 4- تأمين الزاد: ومر صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الطريق على راع فاستسقياه اللبن، فاعتذر بأنه لا لبن في شائه، إلا شاة جف لبنها قريبًا، وهنا ظهرت معجزته صلى الله عليه وسلم فلقد مسح ضرعها ودعا فرزقهم الله الكثير من اللبن، وكانت هذه آية كافية لتحويل قلب الراعي من الكفر إلى الإيمان، وتوسم فيه صلى الله عليه وسلم الكثير من الخير، فأخبره بأنه رسول الله، وطلب الراعي أن يسير معه فطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يتمهل حتى يسمع بظهور أمره صلى الله عليه وسلم وحينذاك يلحق بالمدينة، ويهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنمًا، فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن. فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع بها". فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت. وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمجن, فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب. فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط. قال صلى الله عليه وسلم: "أوتراك تكتم عليّ حتى أخبرك"؟.   1 إمتاع الأسماع للمقروي ج1 ص42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: "فإني محمد رسول الله". فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ. قال صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا " 1. 5- التبشير بالعودة إلى مكة: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهي أحب البلاد إلى نفسه، ولذا رأيناه صلى الله عليه وسلم حينما ابتعد عن مكة نظر إليها، وودعها بكلمات تؤكد حبه لها، فعن عبد الله بن عدي عن الحمراء أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة وهو يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" 2. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى مكة ليلة الهجرة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" 3. وقد كانت عناية الله تعالى برسوله إذ نزل عليه خلال رحلة الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 4. يقول ابن عباس: والمعاد هي مكة، وفي الآية بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه سيعود إلى مكة ساعة أن يسلم أهلها، وتكون دار إسلام5.   1 البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص194. 2 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص426 والحزورة مكان مرتفع في مكة. 3 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص427. 4 سورة القصص: 85. 5 صحيح البخاري كتاب التفسير ج7 ص365 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 رابعًا: الوصول إلى المدينة سار ركب الهجرة تحفه عناية الله تعالى حتى وصل إلى قباء في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الأول للهجرة. وكان أهل المدينة منذ أن عملوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يغدون كل غداة، ينتظرونه عند الحرة، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم إلى بيوتهم، وإذا بيهودي يقف على أحد المرتفعات حول المدينة ليرى أمرًا بعينه، فإذا به يبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثياب بيض، فلم يملك اليهودي نفسه، فأخذ يصيح بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه1. يقول ابن القيم: وسمعت الرجة والتكبير في ديار بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا للقائه صلى الله عليه وسلم والترحيب به، فأحاطوا به يملأهم الحب، وتغشاهم السكينة، والوحي ينزل عليه بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 2. يقول عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر ظنًا منهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك3. وكانت المدينة كلها قد زحفت لاستقبال ركب الهجرة الميمون، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم4 ومكث علي بن أبي طالب   1 صحيح البخاري كتاب ج1 ص215 ط الوقاف. 2 سورة التحريم: 4. 3 سيرة النبي ج1 ص494. 4 وقيل نزل على سعد بن خيثمة والجمهور على ما ذكرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بمكة ثلاثًا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء ونزل على كلثوم بن الهدم مع رسول الله أيضًا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس, وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وكان موضع المسجد مربدًا لكلثوم بن الهدم، وقيل بل هو مكان كان يملكه بنو عمرو بن عوف وهو الأولى، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة فيهم، وعلى كل فإن المكان اختيار الله تعالى1. وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس2 -يوم الجمعة- ركب صلى الله عليه وسلم ناقته وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم وسار معهم نحو المدينة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل. وهذه أول جمعة يقيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام بعد هجرته في ديار بني سالم بن عوف، وألقى فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة، وعرفهم بالله، وحثهم على التقوى، وذكرهم بنعيم الله في الآخرة. يورد ابن كثير هذه الخطبة بنصها، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله أحمده, وأستعينه، وأستغفره, وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدًا. أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة،   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص381. 2 اختلفت الروايات في المدة التي مكثها الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء والمكثرون يرونها أربعة وعشرين يومًا والمقلون يرونها أربعة أيام، وهو الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل، ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول سبحانه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2. واتقوا الله في عاجل أمركم، وآجله، في السر، والعلانية فإنه: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} 3. {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 4. إن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حيي عن بينه، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس.   1 سورة آل عمران: 30. 2 سورة ق: 29. 3 سورة الطلاق: 5. 4 سورة الأحزاب: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"1.   1 البداية والنهاية ج3 ص213. هذا وقد تحدث الفقهاء عن حكم هجرة المسلم من ديار الكفر إلى ديار الإسلام بعد فتح مكة، وذهبوا إلى أن المسلمين أنواع ثلاثة، ولكل نوع حكمه الشرعي. النوع الأول: مسلم قادر على الهجرة من ديار الشرك، حيث لا يمكنه إظهار دينه فيها، ولا أداء واجباته إذا أقام بين غير المسلمين، فالهجرة عليه واجبة، ويكون عاصيًا بتركها، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] , وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب وحينئذ لا يحل له البقاء إلا إذا كان مضطرًا. ومن أدلة السنة المشرفة ما أخرجه النسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن واقد السعدي قال: "وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم، وكنت آخرهم دخولا فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك"؟. قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار". النوع الثاني: مسلم يوجد بين المشركين، وهو عاجز عن الهجرة، لعذر كالأسر أو المرض أو الإكراه على الإقامة، فهؤلاء ومن في حكمهم تجوز لهم الإقامة بين المشركين، ولا تجب عليهم الهجرة، فإن تحامل أحدهم على نفسه وتكلف الهجرة كانت له أجر ومثوبة. ودليل ذلك قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . النوع الثالث: المسلم فيغير بلاد الإسلام، يكون قادرًا على الهجرة، لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته مع إقامته بين الكفار، فهذا لا تجب عليه الهجرة لتمكنه من دعوة الكفار وهو آمن من غدرهم، وراحته النفسية والمادية مصانة بينهم، ودليل ذلك أن المسلم مكلف بالدعوة لدينه قولا، وعملا، وإقامته حينئذ دعوة عملية، وكذا ترغيب المولى عز وجل المؤمنين في الهجرة وحثهم عليها في قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 .........................   مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} . وقد ذكر الشافعية: أن المسلم إذا قدر على إظهار دينه في دار الحرب، وأمكنه الاعتزال في مكان خاص يمتنع فيه من الكفار فإنه تحرم عليه الهجرة؛ لأن مكان اعتزاله وتحصنه صار دار الإسلام لامتناعه، فلو هاجر لعاد ذلك المكان بسبب هجرته إلى حوزة الكفار، وهذا أمر لا يجوز؛ لأن كل مكان قدر أهله على الامتناع فيه من الكفار صار دار إسلام. ولتأييد ما ذهب إليه الشافعية ينقل الإمام النووي قول الماوردي في كتابه الحاوي فيقول: فإن كان يرجو ظهور الإسلام هناك بمقامه فالأفضل أن يقيم، وإن قدر على الامتناع والاعتزال وجب عليه المقام بها لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على مجاراة الكفار ودعوتهم إلى الله، لزمته الإقامة وإلا فلا. ويستأنس النووي لما ذهب إليه الشافعية بما كان عليه والد الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام حيث كان مؤمنًا وحده يعلم الناس الخير، والناس كلهم حوله كفار، فامتدحه رب العزة بقوله سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . والناظر في أوضاع العالم المعاصرة يرى أن ديار الكفر الآن أكثر أمنًا من غيرها، لما تتضمنه من نظم تسمح بقدر وافر من حرية الحركة، والكلمة، والتدين، والاعتقاد، في الوقت الذي نرى فيه الاستبداد، والظلم، والاضطهاد يوجه ضد المسلمين فيما يعرف بالعالم الثالث، وبلاد الإسلام جزء منه. إن دار الإسلام في العصر الحديث ليست على وجهها المطلوب لما يوجد فيها من فسق، وعري، وفن، وانحلال وهي بذلك تشبه ما هو موجود في بلاد غير المسلمين والدعاة في البلاد الإسلامية الآن محاطون بالرقابة والقيود أكثر من غيرها من البلاد. ولهذا نرى رجحان مذهب الإمام الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 النقطة الرابعة: وقفات مع الهجرة تمت هجرة المسلمين إلى المدينة، وترك المسلمون ديارهم من أجل الله ورسوله، وتحملوا مشقة السفر، ووعثاء الطريق، وابتعدوا بذلك عن أهل مكة، ولم يكن ذلك أمرًا سهلا على نفوسهم، ولا ميسرًا أمامهم، فلقد وقف القرشيون ضد ذوي الشأن منهم فمنعوا البعض من الهجرة، واعتدوا على آخرين، وبذلك فإني أركز على بعض الوقفات لأبين مدى التضحيات التي بذلها جيل العظمة الإسلامية. 1- دقة الطاعة: التزم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأوامره لهم، وكان ذلك واضحًا في كل من انتظر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقد رأينا كيف قام عليّ رضي الله عنه بالمبيت على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض نفسه للموت، وكيف كان أبو بكر رضي الله عنه في كل مراحل الهجرة. ورأينا أبناء أبي بكر ومولاه وهم يعملون خارج الغار لتأمين السلامة للرسول وصاحبه، ولم يأبهوا لعدوان قرشي يلحق بهم، ولم يتأثروا بأي أذى يقع عليهم. يروي ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى الغار أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشًا خبيثًا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي1. وقد استمر أبناء أبي بكر في بيته حتى علموا بوجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من شاعر سمعاه يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم بعد   1 سيرة ابن هشام ج1 ص487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهته إلى المدينة، فرحلنا إليها حين جاءنا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم1. 2- حسن التصرف: كان أبو بكر يملك خمسة آلاف درهم، حملها إليه ابنه عبد الله في الغار، وجاء أبوه قحافة إلى بناته مغضبًا وهو يقول: والله إني لآراه قد فجعكم بماله مع نفسه، فقالت أسماء بنت أبي بكر: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا، وأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت، كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذه المال، قالت: فوضع يده عليه ثم قال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. تقول أسماء: ولا والله ما ترك لنا شيئًا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك2. 3- تحمل الأذى: كان من أول المهاجرين أبو سلمة، خرج وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا، لا نترك ابننا معها، إذا نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها، تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها، وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها، وولدها.   1 سيرة ابن هشام ج1 ص487، 489. 2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص488 وكان قحافة والد أبي بكر أعمى لا يبصر، ولم يكن أسلم يومذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة، وليس معها أحد من خلق الله، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة1. 4- التضحية بالمال: لما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ لا والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح صهيب, ربح صهيب" 2. 5- كيد قريش بالمهاجرين: تواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل موضعًا يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة، ونزلا بقباء، قدم أبو جهل، وأخوه الحارث إلى عياش -وأم الثلاثة واحدة- فقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك فرق لها. فقال له عمر: يا عياش إن القوم يريدون فتنتك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو أذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبى عياش إلا الخروج معهما ليبر قسم أمه. فقال له عمر: أما قد فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم   1 سيرة ابن هشام ج1 ص468-470. 2 المصدر السابق ج1 ص477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها, فخرج عليها معهما. حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. فأناخ وأناخا ليتحول عليها أبو جهل، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا. وقالا: يا أهل مكة، هكذا افعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا1. 6- الاستيلاء على الدور: كان آخر من بقي ممن هاجر عبد الله بن جحش، وكان قد كف بصره، فلما أجمع على الهجرة كرهت امرأته ذلك، وجعلت تشير عليه أن يهاجر إلى غير المدينة، فهاجر بأهله وماله مكتتمًا من قريش حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثب أبو سفيان بن حرب على داره فباعها وملكها لغيره. مر بها بعد ذلك أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وحويطب بن عبد العزى، وفيها أهب معطونة فذرفت عينا عتبة وتمثل ببيت من شعر: وكل دار وإن طالت سلامتها ... يومًا سيدركها النكباء والحوب فأقبل أبو جهل على العباس وقال: هذا ما أدخلتم علينا2. هذه الوقفات السريعة مع المهاجرين تبين مدى الجهود التي بذلوها في سبيل الله تعالى.   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص474-476, مجمع الزوائد ج6 ص77. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة مدخل ... المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء حتى صلى الجمعة في بني سالم بن عوف، وبعدها واصل رحلته إلى المدينة التي نورت بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها. وقد حزن بنو عوف لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم تصوروه هاجر إليهم وما تركهم إلا ضجرًا فسألوه: أتتركنا ملالا منا يا رسول الله؟ أم إلى من هم خير منا؟ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "إني أمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد" 1. وإنما كانت المدينة هكذا لأنها تغزو غيرها، وتنتصر، وتكون حاضرة لسائر المدن والقرى وقد تحقق ذلك بتأسيس دولة الإسلام الكبرى. وفي هذا تأكيد لبني عوف أنه صلى الله عليه وسلم ما تركهم ضجرًا أو سآمة. وكان يوم وصوله صلى الله عليه وسلم إليها يومًا سعيدًا مشرقًا، امتلأت فيه قلوب الناس بالحب، وعمهم الفرح، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤسس لنفسه، وللمسلمين ما يحقق لهم الاستقرار والأمن في هذا المجتمع الجديد، وفي هذا المبحث سنتناول الأمور التالية: أولا: الترحيب بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: تأسيس المسجد النبوي. ثالثًا: هجرة أهل الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته. وهي أمور تحتاج لتفصيل نورده فيما يلي:   1 صحيح البخاري، كتاب الحج باب فضل المدينة ج3 ص274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أولا: الترحيب بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني عمرو بن عوف أرسل إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، وتقاطر الأنصار جميعًا خلفهم، حتى اجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبين به، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم ناقته، والناس عن يمينه وشماله وخلفه، منهم الراكب ومنهم الماشي يهللون ويكبرون. اجتمع بنو عمرو بن عوف وقالوا: يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دارًا خيرًا من دارنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها، فإنها مأمورة". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يريد المدينة فوجد الناس قد ملئوا الطرق ومعهم الخدم والصبيان وهم يقولون: الله أكبر، جاءنا محمد، جاءنا رسول الله. يقول أنس بن مالك: إني لأسعى مع الغلمان يقولون: محمد جاء فننطلق فلا نرى شيئًا حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكنا في بعض جرار المدينة، فبعث لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار، فخرج الأنصار واستقبلهما زهاء خمسمائة منهم، حتى انتهوا إليها فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، وخرج أهل المدينة حتى إن العوائق فوق البيوت يتراءينه ويقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيهًا به يومئذ1. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع2   1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص291. 2 رحمة الله للعالمين ج1 ص106, والحرار بكسر الحاء وفتح الراء جمع حرة وهي الأرض الصلبة السوداء، والعوائق جمع عائق وهي الفتاة التي بلغت ولم تتزوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وعن البراء رضي الله عنه قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم1. ويقول أنس: ما رأيت يومًا قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر المدينة2. وقد تجلى الترحيب العام برسول الله صلى الله عليه وسلم من كافة قبائل المدينة، وكان كل منهم يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده، ويعده بالعدة، والعدد، والثروة، والطاعة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفهم بأنه سيترك الناقة تبرك حيث يريد الله لها. ويقول لهم: "دعوها فإنها مأمورة" 3. ولما علم الأنصار بذلك لم يتعرضوا للناقة، وكل منهم يدعو الله أن يكون بيته هو المكان المختار لنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبًا ناقته، حتى إذا أتت دار بني عدي بن النجار قامت إليه وجوههم تأمل في نزوله عندها، ثم إن ناقته صلى الله عليه وسلم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ثم تحلحلت، وأرزمت ووضعت جرانها، وجعل جبار بن صخر ينخسها رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة فلم تفعل، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال: هنا المنزل إن شاء الله وقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} 4. وجاء أبو أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب"؟. فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، وقد حططنا رحلك فيها   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ج6 ص222. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص290. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص79. 4 سورة "المؤمنون": 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال صلى الله عليه وسلم: "فانطلق فهيئ لنا مقيلا". فذهب فهيأ لهما مقيلا1. يروي الطبراني عن عبد الله بن الزبير أنه كان هناك عريش يرشونه، ويعمرونه ويتبردون فيه، حتى نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فأوى على الظل فنزل فيه فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه أأنقل رحلك إليه. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". فذهب برحله إلى المنزل. فأتاه آخر فقال: يا رسول الله انزل عليّ. فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله حيث كان". فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب وقر قراره، واطمأنت داره، ونزل معه زيد بن حارثة2. يقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت لأنظر إليه، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يتكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" 3. ويقول أبو أيوب رضي الله عنه: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، كان في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو. فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت". يقول أبو أيوب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، وكنا نحرص على تحقيق ما يرضيه ويريحه. حدث مرة أن انكسرت جرة لنا فيها ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء، تخوفًا أن تقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه،   1 صحيح البخاري كتاب المناقب، باب الهجرة ج6 ص216. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص79. 3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص391, سنن الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ويقال إن أبا أيوب بعد هذه الحادثة ألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسكنه العلو1. وقد تكفل أهل المدينة بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهيز طعامه وشرابه، وتحقيق كل ما يحتاج إليه، يهدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا، وتقديرًا. ولقد كان أبو أيوب يصنع له الطعام، ويقدمه، وينتظر فضله ليأكله. يقول زيد بن ثابت: لقد كنا في بني مالك بن النجار، ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت أبي أيوب ثلاث، أو أربع جفان، وما كانت تخطئه. جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة2. وكان الأنصار يتحرون الطعام الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعداده له فبرغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعب طعامًا، ولم يأمر بطعام، فإنهم لاحظوا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوع من المرق يسمى "الطفيشل" وعلى الهريس ولذلك كانوا يكثرون له صلى الله عليه وسلم منهما. وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل وحده، وإنما كان يطعم معه من أصحابه عددًا يتراوح بين خمسة إلى ستة عشر رجلا، حسب كمية الطعام المهدى إليه. وهكذا عاشت المدينة حياة البهجة، والسرور، وقدرت الخير الذي وفد عليها وأقبلوا على الإسلام فهمًا وعلمًا، وتطبيقًا, وشعروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم بخيري الدنيا والآخرة، فسعدوا بهجرته، وأنزلوه فيهم منزلة الروح والعقل، وجعلوا حبه فوق حبهم لأنفسهم، فهو وهم معه برسالته يعيشون الإسلام نقيًا واضحًا. وفي نفس الوقت تقوقع الكفار والمنافقون واليهود في المدينة، وأدركوا أن دولتهم قد انهارت، ولا سلطان لهم في المدينة بعد اليوم, وعبر بعضهم عما في قلبه من حقد وغضب، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في أن ينزل على سيد الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول فقال له عبد الله: اذهب إلى الذين دعوك فانزل إليهم ورفض أن ينزله عنده كراهية له. ولم يأبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المعارضة من أهل الشرك والنفاق فهي معارضة ضعيفة خائفة ... وأنى تلك المعارضة مما كان يراه في مكة!! ولقد اعتذر الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف أبي، وبينوا له أن سببه ضياع المجد الذي كان يأمل فيه3. ومن الملاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أحد أن ينزل عليه إلا ابن أبي، ولعلها حكمة قدرها الله تعالى لرسوله ليعلم طبائع الناس، وبخاصة هؤلاء الذين أضيروا بظهور الإسلام.   1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص293. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص47. 3 كان الأوس والخزرج يتفاوضون في جعل عبد الله بن أبي ملكًا عليهم، وكادوا أن يملكوه، فلما أسلموا وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ضاعت المملكة على ابن أبي فعاش بحقده منافقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ثانيًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري سبعة أشهر حتى أقام بيوتًا لزوجاته رضي الله عنهن. وقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم تسعة بيوت حول المسجد في الجهة الجنوبية والشرقية والشمالية. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيسها بعد الهجرة، واحدًا بعد الآخر فبنى أولا بيتًا لسودة بنت زمعة، كما بنى بيتًا ثانيًا لعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فهما زوجتاه حين الهجرة وبعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أهلا بنى بيتًا، واستمر هكذا حتى بنى سائر البيوت، وعددها تسعة. والأرض التي أقيمت فيها البيوت كانت مملوكة لحارثة بن النعمان الخزرجي رضي الله عنه وكان يتنازل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأرض بقدر الحاجة، فكلما بنى النبي بزوجة تنازل الحارث لرسول الله عن أرض لإقامة بيت لها فيه!! وأول البيوت تأسيسا هو بيت سودة وثانيها هو بيت عائشة الذي يلي الروضة مباشرة من جهة الشرق، وفيه دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعرف الآن بالحضرة النبوية وقد أقيم فوقها قبة خضراء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وبعدها كان بيت سودة بنت زمعة رضي الله عنها ملاصقًا لبيت عائشة من جهة الشرق، وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم بيتًا لابنته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فاطمة حين تزوجها ابن عمها علي رضي الله عنه في شمال بيت عائشة عن يسار المصلى إلى القبلة في الروضة الشريفة، أي أنه كان خلف بيت عائشة، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم طريقًا إلى بيت فاطمة يعرف بخوخة علي حيث كان يأتي بابها كل يوم، ويأخذ بعضادتيه ويقول: "الصلاة, {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " 1. يقول عمر بن علي بن الحسين رضي الله عنه: كان في بيت فاطمة كوة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج اطلع من الكوة إلى فاطمة وعلي يعلم خبرهم2. وقد توزعت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حول مسجده فلقد أقيم بيت زينب بنت خديجة الهلالية شرق بيت فاطمة وشمال بيت سودة رضي الله عنهن. كما أقيم بيت زينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش إلى الشرق من بيت سودة وزينب الهلالية وأقيم بيت حفصة بنت عمر أمام بيت عائشة من جهة الجنوب وقد أقيمت الحجر الباقية خلف المسجد من الجهة الشمالية، والشمالية الغربية المواجهة للقبلة وتعرف هذه البيوت ببيوت النبي، أو بيوت أزواج النبي، أو حجر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان البيت مكونًا من حجرة وفناء، حيث حوائط الحجرة من جريد النخل المغطى من الخارج بالشعر والوبر، والمطين من الداخل، وللحجرة باب يفتح على الموجود أمامها وللبيت باب مرتبط بالخارج. وقد بلغت مساحة كل واحدة من الحجرة والفناء ثمانية أذرع طولا، وعرضًا، وبذلك بلغ الطول ستة عشر ذراعًا أني أن مجموعهما معًا كان مائة وثمانية وعشرين ذراعًا. ويبدو أن مساحة البيوت لم تكن واحدة لأن خمسة منها كان مكونًا من فناء فقط. يقول عمران بن أنس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جريد وخمسة أبيات مطينة لا حجر لها, على أبوابها مسوح الشعر، أي أنها لم تكن على   1 سورة الأحزاب آية 32. 2 رحلة المحبين إلى سيد المرسلين ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 مساحة واحدة1. يروي ابن سعد في طبقاته: أن حوائط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت مكونة من جريد مطين بالطين، وسقفها من الجريد، وأبوابها من خشب العرعر الذي كان ينبت في بلاد العرب وللباب حلقة من ساج2. وقد استدل بعض العلماء بما ورد من أن الصحابة كانوا ينقرون باب النبي صلى الله عليه وسلم بأظافرهم على أن الأبواب لم تكن بها حلقة، إلا أن الظاهر من قوله بأظافرهم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك تأدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة إزعاجه إذا ضربوا بأيديهم على الحلقة. وكانت الحجرة متوسطة الارتفاع، ينال الواقف فيها السقف بيده، وكانت بسيطة الفرش. وقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم مكانًا خلف بيت فاطمة من جهة الشمال وجعله لمبيت الفقراء وهو المعروف بمكان الصفة. أمر الوليد بن عبد الملك واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز بهدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وضمها للمسجد فبكى أبناء الصحابة وقالوا: ليتها تركت ولم تهدم حتى يطلع الناس على البناء، ويروا ما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده3. ولعل في هدم الحجرات أسبابًا من أهمها عدم الحاجة إليها، وللاستفادة بها في توسعة المسجد، وحتى لا يتخذها المسلمون مزارًا يعبد، ولذلك لم يؤثر عن أحد من التابعين إنكارا، ولم يحدث أن عارض عمر بن عبد العزيز الأمر إليه بالهدم وهو من هو؟ إنه عمر بن عبد العزيز, وكفى!! لقد رضي بالهدم، ولم ينكر. وعن عبد الله بن زيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين هدمها عمر بن عبد العزيز والي المدينة بأمر الوليد، كانت بيوتًا باللبن وبها حجر من جريد مطرورة بالطين، عددها تسعة بيوت، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص507. 2 طبقات ابن سعد ج1 ص499. 3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص507. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم. ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن فسألت ابن ابنها: من بناها؟ فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن فدخل عليها فقال: ما هذا البناء؟ فقالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس. فقال: "يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان" 1. وعن الحسن البصري قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سقفها بيدي2. وقد كان الحسن صغيرًا آنذاك فإنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وليس له عند المحدثين سماع من عثمان مما يدل على انخفاض السقف3. ثم إن هذا الارتفاع لحجراته صلى الله عليه وسلم وهو أن الواقف يتناول سقفها بيده، هو الذي تثبته النصوص، ولقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم جعل ارتفاع مسجده على هذه الوتيرة، وما كان ليجعل حجراته أعلى من المسجد، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن البنيان: "النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه" 4. وقد بقيت أمهات المؤمنين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل في حجرتها على هيئتها التي بنيت عليها ما عدا عائشة رضي الله عنها فإنها لما أذنت بدفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجوار أبيها أقامت جدارًا داخليًا قسم بيتها إلى قسمين هما: القسم الأول: هو الفناء، ويضم القسم الجنوبي من البيت وفيه دفن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. القسم الثاني: وهو الحجرة ويقع شمال القسم الأول، وهو الذي اتخذته عائشة رضي الله عنها بيتًا لها.   1 الطبقات الكبرى ج1 ص499. 2 طبقات ابن سعد 1/ 500. 3 التهذيب 2/ 263 رقم 488. 4 سنن الترمذي كتاب صفة القيامة باب 40 ج4 ص650 وقال حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 واستمر الحال على هذا الوضع حتى هدمت البيوت جميعا في عهد الوليد بن عبد الملك. صفحة إسكانر؟؟؟؟؟؟؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ثالثًا: هجرة آل النبي صلى الله عليه وسلم لما استقر المقام برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ونزل عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كلف عبد الله بن أريقط الدؤلي، دليله في رحلة الهجرة أن يقوم برحلة ثانية يأتي فيها بأهله وأهل أبي بكر، وأرسل معه زيد بن حارثة، وأبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزودهم بجملين، وخمسمائة درهم، ليشتروا بها إبلا من "قديد"1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختبر عبد الله بن أريقط وعلم أمانته، وخبرته، ولذلك اختاره ليأتي بأهله، وهي ولا شك مهمة أسهل من مهمته الأولى. فذهب ابن أريقط ومن معه، وجاءوا بمن كلفوا بالإتيان بهم وهم: 1- سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد دخل بها في مكة. 2- عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يدخل بها إلا بعد أن بنى لها بيتًا في المدينة. 3- أم رومان زوج أبي بكر، وأم عائشة رضي الله عنها. 4- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5- أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم2. 6- أسماء بنت أبي بكر وزوج الزبير بن العوام. 7- عبد الله بن أبي بكر. 8- أسامة بن زيد. 9- أيمن بن زيد أخو أسامة. 10- أم أيمن، حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وأم أسامة وأيمن.   1 قديد تصغير قد وهو موضع قرب مكة ينسب إلى أحد الخزاعيين. 2 هذا وقد توفي أولاد النبي صلى الله عليه وسلم الذكور قبل الهجرة، وأما بناته فقد هاجرت رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه وكانت وفاتها بالمدينة حين رجوع المسلمين من بدر، وبقيت زينب رضي الله عنها مع زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن أمية حيث لم ينزل تحريم بقاء المسلمة عند المشرك بعد، وقد تمت هجرتها إلى أبيها بعد غزوة بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 11- أم أبي بكر رضي الله عنها1. وكانت عائشة تركب جملا مع أمها، فشرد بهما، فأخذت أم رومان تقول واعروساه! وابنتاه!. تقول عائشة رضي الله عنها: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلته، فوقف بإذن الله تعالى، وسلمنا الله عز وجل وسرنا حتى نزلنا بـ"السنح"2، وذهب كل إلى وليه، وأقامت سودة وأبناء النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، أما عائشة فقد ذهبت للإقامة مع أبيها، ولم يدخل بها صلى الله عليه وسلم إلا بعد إقامة بيتها بعد أن انتهى من بناء بيت سودة رضي الله عنها3. تقول عائشة رضي الله عنها: وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا، الذي أنا فيه، وهو الذي توفي فيه، ودفن فيه صلى الله عليه وسلم4. وقد تصادف أن طلحة بن عبد الله رضي الله عنه خرج يريد الهجرة فتقابل مع آل النبي صلى الله عليه وسلم خارج مكة فهاجر معهم وصحبهم حتى وصلوا جميعًا إلى المدينة المنورة.   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزائد ج9 ص366. 2 السنح بضم أوله وسكون ثانيه، وهو أحد ضواحي المدينة كان به منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين السنح وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل واحد. 3 البداية والنهاية ج3 ص221. 4 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 رابعًا: إقامة المسجد النبوي استقر مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب قريبًا من المكان الذي بركت فيه الناقة، وكان مبرك الناقة مربدًا لبني النجار دفن المشركون في جزء منه، وفي جزء آخر نخل وشجر، والباقي خراب يملؤه ماء السيول والأمطار. أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني النجار وقال لهم: ثامنوني على حائطكم هذا. فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا من الله تعالى. وكان المربد مملوكًا لغلامين يتيمين من بني النجار هما: سهل وسهيل أبناء رافع بن أبي عمرو، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فدعاهما الرسول وساومهما على شراء المربد ليتخذه مسجدًا. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، واستمر معهما حتى ابتاعه ليكون مسجدًا فلما اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالعظام فغيبت، وبالخرب فسويت، وبما فيه من مياه فجففت، وبذلك أصبح المكان جاهزًا للبناء فيه. أخذ الصحابة في البناء، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة1 وأدى اشتراك رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل جميع الصحابة إلى بذل الجهد، وتحمل مشاق العمل بنفس راضية. رأى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رداءه ويحمل اللبن، حتى أن صدره اغبر من التراب فوضعوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون: لئن قعدنا والني يعمل ... ذاك إذا العمل المضلل وفي أثناء العمل رأى الصحابة عثمان بن مظعون رضي الله عنه يحمل لبنة، ويبعدها عن   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مقدم النبي المدينة ج6 ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه غبار نفضه، فنظر إليه علي ابن أبي طالب وقال: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائمًا وقاعدا ومن يرى عن الغبار عائدا فسمع عمار بن ياسر مقالة علي، فأخذ يرددها، وهو لا يدري من يعني بها علي رضي الله عنه فسمعه عثمان بن مظعون فظن أنه يعرض به فقال له: يابن سمية ما أعرفني بمن تعرض. وكان مع عثمان جريدة فقال لعمار: لتكفن أو لأعرضن بها وجهك. فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: "إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، ووضع يده بين عينيه"، فكف الناس عن عمار إلا أنهم قالوا له: إن النبي غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال عمار: أنا أرضيه كما غضب. فذهب عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ما لي ولأصحابك؟. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك ولهم"؟. قال عمار: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة، ويحملون علي لبنتين لبنتين. فأخذ النبي بيده وطاف به المسجد، وأخذ يمسح جلد رأسه بيديه من التراب وهو صلى الله عليه وسلم يقول: "يابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة، ويدعونك إلى النار". فقال عمار: أعوذ بالله من الفتن1. يروي البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" 2.   1 سبيل الهدى والرشاد ج3 ص487، 488. 2 صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب الحدث في المسجد ج1 ص302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وكان الرسول يعلم ذلك مما يؤكد أن قول عمار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحابك يريدون قتلي هي من الدعابة مع رسول الله ليذهب عنه الغضب. وقد حاول الصحابة أن يستريح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمل فأبى, يقول أسامة بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه حجر يحمله على كتفه فلقيه أسيد بن حضير فقال أسيد: يا رسول الله أعطينيه. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني" 1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكل الأعمال التي تحتاج لخبرة إلى من يملك هذه الخبرة، فلقد جاء طلق بن علي، وهو رجل من بني حنيفة، يحسن عجين الطين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "إن هذا الحنفي لصاحب طين، قربوا الحنفي من الطين، فإنه أحسنكم له سبكًا، وأشدكم منكبًا" 2. وكانت سعة المسجد حين بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة سبعين ذراعًا، في ستين أو يزيد، وجعل جدره من خشب، ولم يسطح، فلما اشتكى الصحابة الحر والمطر، جعل صلى الله عليه وسلم جدره من الخشب، والسواري من جذوع النخل، وظللوه بالخوص والجذوع، فكان الظل ثم طينوه بالطين فانقطع المطر، وأبقوا وسط المسجد رحبة بلا سقف. وقبلة المسجد كانت أولا إلى بيت المقدس جهة الشمال، وأسسوا له ثلاثة أبواب في مؤخرته هي: أ- باب أبي بكر جنوب المسجد وهو الآن جهة القبلة بعدما حولت إلى مكة وصار بعد التوسعة العثمانية جزءا داخل المسجد. ب- باب عاتكة وهو باب الرحمة ويقع غرب المسجد داخل توسعة الملك فهد. ج- باب النبي وهو الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف بباب عثمان.   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص489. 2 الإصابة في معرفة الصحابة ج3 ص538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد ليكون موضعًا للصلاة، ومكانًا لاجتماعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومقر الحكم والإدارة، ومنطلق الدعوة والإرشاد. وبعد فتح خيبر أعاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد مرة ثانية وزاد مساحته لأن أبعاده في البناء الثاني صارت مائة ذراع في مائة ذراع وقد قام عثمان بن عفان بشراء المساحة الجديدة وأهداها لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم1. ولم يغال النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، ولا في زخرفته، بل كان القصد وترك الغلو، فبنى المسجد باللبن، وسقف بالجريد، وكانت أعمدته سيقان النخل، وقوائم الباب من الحجارة. واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منبرًا هو جذع نخلة حن يوم اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبرًا من الخشب مكونًا من ثلاث درجات. واستمر المسجد على ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كانت خلافة عمر فزاد مساحته وبناه باللبن والجريد فلما كان عثمان زاد فيه مساحة كبيرة، وبنى عمده وجدره بالحجارة المنقوشة، وسقفه بالساج. يروي البخاري بسنده عن ابن عمر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، وأعلاه مظلل بجريد النخل. ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر فبناه بجذوع النخل ولم يزد فيه وزاد فيه عمر وبناه بمواده في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن، والجريد، وأعاد عمده خشبًا. ثم إنها نخرت في خلافة عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، ونقل إليه الحصباء من العقيق2. وأخذ الخلفاء والسلاطين يهتمون بالمسجد النبوي بناء، ومساحة، حتى كانت الدولة السعودية الثالثة، فتوسع المسجد مرتين، الأولى في عهد الملك سعود بن   1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص491. 2 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عبد العزيز، والثانية في عهد أخيه الملك فهد بن عبد العزيز حتى بلغت مساحة المسجد مساحة المدينة كلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قام المسجد النبوي بمهام خطيرة، ففيه بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم المسلمين، ويلتقي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يلتقي بالوفود، والغرباء بداخله. وقد أدرك المسلمون أهمية المسجد النبوي لما فيه من كثرة البركة، وعظم الخير كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" 2. وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" 3. والمسلمون في كل عصر، ومن كل مصر يشدون رحالهم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشرفون بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاودهم الذكريات الخالدة، ويعيشون حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.   1 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص541 ط الشعب. 2 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص537 ط الشعب. 3 صحيح البخاري كتاب الحج باب حدثنا مسدد ج3 ص284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة مدخل ... المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعدما هاجر إليها المسلمون من مكة ومن الجزيرة العربية، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أمام حال يختلف تمامًا عن الحال في مكة. وجد النبي صلى الله عليه وسلم أمامه مجتمعًا يسلم أمره إليه، مع اختلاف عناصره، وتنوع مذاهبه واتجاهاته، وتباين طبقاته المادية والثقافية. وجد النبي صلى الله عليه وسلم أمامه المهاجرين بعدما تركوا ديارهم وأموالهم وأهاليهم، وجاءوا بإيمانهم وثقتهم في الله فقط، ولم يكن عندهم تصور معين يعيشون فيه، أو عمل يتوقعونه، إنما جاءوا بفقرهم يرجون فضل الله ورحمته، ويعبدون أنفسهم لله تعالى، وينصرون دعوته بصدق وإخلاص فهم كما قال الله عنهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1. ومع المهاجرين كان الأنصار وهم من آمن بالإسلام، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلبهم من الأوس والخزرج، وهؤلاء لم يخرجوا من ديارهم، وعاشوا مع أموالهم وأقربائهم وأعمالهم التي تعودوا عليها، وكل ما جد عليهم أنهم جعلوا الإيمان في قلوبهم يقينًا صادقًا، وأحبوا به كل مؤمن وبخاصة من هاجر إليهم، ورحبوا بهم، وأنزلوهم منزلة الروح والعقل، وتنازلوا عن كل خصيصة لهم وفيهم نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.   1 سورة الحشر: 8. 2 سورة الحشر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين اليهود بقبائلهم، وقد تفرقوا، وسكنوا ظاهرًا، وأسلموا أمورهم مؤقتًا لرسول الله بسبب شعروهم بالضعف والخوف. ومعهم كان المشركون الذين سلكوا مسلك اليهود، فاستسلموا ظاهرًا مع امتلاء قلوبهم بالحقد والحسد. وتذبذب المنافقون بين هؤلاء وهؤلاء، وقد أخفوا الكراهية للإسلام، والمسلمين أمام هذا الوضع الجديد كان من الضروري تنظيم العلاقات بين سكان المدينة لتتكون منهم لأول مرة في تاريخ المدينة دولة تملك الأرض والشعب والقيادة الواحدة والتعاليم الواحدة التي تحكم الأفراد جميعًا. إن سكان المدينة هم الشعب، ومعهم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قائد الناس، يتلقى وحي الله، ويعلمه للناس، ويشكل به الحياة علمًا وفهمًا وسلوكًا، ويظهر الإسلام للعالم عقيدة وشريعة وخلقًا. وابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيم الحياة الاجتماعية بين الناس على أساس تحديد الحقوق والواجبات للجميع، وقد اشتمل هذا التنظيم على ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 1- تنظيم الإخاء بين المسلمين : آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، إذ قال لهم: "تآخوا في الله أخوين أخوين"، ليتحقق الترابط، والتكافل فيما بينهم. ولم تكن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصاري فقط، وإنما كانت تتم أحيانًا بين مهاجر ومهاجر، فلقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي بن أبي طالب، وآخى بين عبد الله بن الزبير وعبد الله بن مسعود، وآخى بين عمه حمزة وبين زيد بن حارثة وكل هؤلاء مهاجرون1. وابتدأت المؤاخاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أول مجيئه صلى الله عليه وسلم وكانت تتجدد كلما ظهر مسلم جديد، أو جاء المدينة مؤمن مهاجر.   1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يورد ابن إسحاق صورًا لهذه المؤاخاة، ويحدد أشخاصها وعنه نقل غيره من المحدثين والعلماء. يقول ابن إسحاق: وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أخوين. وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضر القتال إن حدث به حادث الموت. وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، الطيار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة أخوين، مع أن جعفر بن أبي طالب كان يومئذ غائبًا بأرض الحبشة. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ابن أبي قحافة، وخارجة بن زهير، أخو بلحارث بن الخزرج أخوين. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج أخوين. وأبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح، واسمه عامر بن عبد الله، وسعد بن معاذ بن النعمان، أخو بني عبد الأشهل أخوين. وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع أخو بلحارث بن الخزرج أخوين, والزبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وقش، أخو بني عبد الأشهل أخوين, وعثمان بن عفان، وأوس بن ثابت بن المنذر، أخو بني النجار أخوين. وطلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك، أخو بني سلمه أخوين. وسعد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي بن كعب، أخو بني النجار أخوين. ومصعب بن عمير بن هشام، وأبو أيوب خالد بن زيد، أخو بني النجار أخوين, وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش أخو بني عبد الأشهل أخوين, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وحذيفة بن اليمان، أخو بني عبد الدار حليف بني عبد الأشهل أخوين. وثابت بن قيس بن الشماس، أخو بلحارث بن الخزرج، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار بن ياسر أخوين. وأبو ذر، وهو برير بن جنادة الغفاري، والمنذر بن عمرو، أخو بني سعد بن كعب بن الخزرج أخوين. وكان حاطب بن أبي بلتعة، حليف بني أسد بن عبد العزى وعويم بن ساعدة أخو بني عمرو بن عوف أخوين. وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء عويمر بن ثعلبة، أخو بلحارث بن الخزرج أخوين, وبلال، مولى أبي بكر رضي الله عنهما، ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي أخوين. فهؤلاء من سمي لنا، ممن كان رسول الله آخى بينهم من أصحابه1. ولقد برز خلق الأنصار العظيم، وهم يؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم وقد تجردوا من شح النفس، وملئوا قلوبهم بحب الله ورسوله، فكانوا قدوة مثالية في عالم الإيثار الرائع، والإنسانية النبيلة حتى إنهم قبلوا أخوة جعفر بن أبي طالب لمعاذ بن جبل رغم اغتراب جعفر وجعلوا له حق المشاركة والعطاء والولاء. تورد كتب السنة نماذج لهؤلاء الصفوة من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث نقرأ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخوتنا النخيل قال: صلى الله عليه وسلم: "لا". فقالوا: تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا2. روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إن   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص504، 507. 2 صحيح البخاري ك المناقب. ب مناقب الأنصار ج6 ص147 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم. فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك"؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "هم قوم لا يعرفون العمل, فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر". قالوا: نعم1. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال صلى الله عليه وسلم: "أما لا فاصبروا حتى تلقوني, فإنه سيصيبكم بعدي أثرة" 2. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: "لا ما أثنيتم عليهم، ودعوتهم الله لهم" 3. وقد سجلت السنة موقف أنصاري بلغ في الإيثار مبلغًا يستجلب تمام رضى الله سبحانه وتعالى، لقد بات الرجل طاويًا وزوجته كذلك، وفوق ذلك نوما صبيانهما دون عشاء، وآثرا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين بما كان عندهم من طعام. والعظيم في الأمر أن الأنصاري يطلب هذا وتوافقه زوجته، والأم على أطفالها جد حانية، ولا تؤثر بطعامها عليهم أحدًا إلا أن صنيع الإيمان في قلوب الأنصار غير الطبائع إلى أسمى ما يتصوره عقل يفهم أو يخطر ببال مفكر أريب {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.   1 البداية والنهاية ج3 ص228. 2 صحيح البخاري ك المناقب ب مناقب الأنصار ج6 ص152. 3 البداية والنهاية ج3 ص228. 4 الحشر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 سبحان الله!! والله لا يحدث هذا إلا بسبب صدق الإيمان. ومحال أن يتم إلا لله سبحانه وتعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضيف هذا"؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال لها: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك، إذا أرادوا عشاء، فهيأت الأم طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بصوت يصدرونه، وباتا طاويين فلما أصبح غدا الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: "ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما" 1. فأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ولم يكن المهاجرون أقل مروءة، وإخلاصًا، وحبًا من الأنصار، لأنهم بعدما استقروا، وعرفوا طرق العمل، وأتتهم الدنيا ردوا لإخوانهم الأنصار ما أخذوه منهم. - عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، التي كانوا منحوهم إياها من ثمارهم2. - يقول أنس: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها الذي أخذته من أم أيمن وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانه من حائطه3.   1 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب ويؤثرون على أنفسهم ج6 ص154 ط الأوقاف. 2 صحيح البخاري كتاب الهبة باب فضل المدينة ج4 ص347. 3 تكملة الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 - قال أنس: وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله ما كان أهله أعطوه، أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وقالت: والله لا نعطيكهن، قد أعطانيهن. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم أيمن اتركيه، ولك كذا وكذا". وتقول: كلا والذي لا إله إلا هو. فجعل صلى الله عليه وسلم يقول كذا ثم كذا حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبًا من عشرة أمثاله حتى رضيت1. بل إن بعض المهاجرين ما قبل أن يكون عبثًا على أخيه الأنصاري، نعم هو لا يجيد الزراعة، ولكنه يمكن أن يعمل في التجارة، وفعلا ذهب إلى السوق وتاجر، وإذا كانت الأيام الأولى أيام تعلم، وتعليم، واستعداد، وجهاد، فإن في الوقت سعة بجانب ذلك للذهاب إلى السوق ليعمل في تجارة يتكسب من ورائها ولو قليلا بدلا من الاعتماد على أخيه مهما كان سخيًا غنيًا. - قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجها! فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق بني قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن ثم تابع الغدو. فما لبث أن جاء عبد الرحمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة من زعفران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتزوجت". قال: نعم. قال: "ومن"؟. ال: امرأة من الأنصار. قال: "كم سقت"؟.   1 صحيح البخاري ك الهبة، ب فضل المنحة ج4 ص345 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال: زنة نواة من ذهب، أو نواة من ذهب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" 1. يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضل الأنصار والمهاجرين فيما يرويه الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ثلة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهو في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول: أي عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك. من هؤلاء الذين آثرتهم علينا"؟ فيقول الله: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب وهم يقولون: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} "2. - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، وذلك في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير. فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا. فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه بحاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى -بطانتي- وعيبتي -خاصتي- وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم" 3.   1 صحيح البخاري ك المناقب، ب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار ج6 ص146 ط الوقاف. 2 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص139. 3 صحيح البخاري ك المناقب ج6 ص155 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 - وعن أنس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيانًا ونساء مقبلين من عرس فقام النبي صلى الله عليه وسلم منتصبًا لهم فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ" 1. لقد صهرت هذه الأخوة المسلمين في بوتقة واحدة، وربطتهم بحبل الله المتين، وخلصت نفوسهم من شهوات النفس، وأزاحت من حياتهم وساوس الهوى والشيطان، وشعر كل مسلم بأخوته للآخرين بلا فرق بين حر ومولى، أو غني وفقير، أو كبير وصغير، أو مهاجر وأنصاري وصار الجميع جنودًا لله تعالى، يضحون بكل ما يملكون في صدق وإخلاص. لقد أقاموا بجهدهم وجهادهم دولة الإسلام الأولى، في سموها ورفعتها، وربانيتها، وأصبحوا مثالا يفتخر المسلمون بهم في كل مكان، وصدق قول الله فيهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 2. والآية تقدم صورة كريمة، رائعة لهذا الجيل المتفرد في حياة الأمة الإسلامية الذي اتصف وتميز بالحقائق التالية: 1- جعلوا حياتهم لله تعالى، فساروا بأمره واتبعوا منهجه، وكانوا بحق خير معية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخير جند لله تعالى. 2 عاشت آمالهم وأحلامهم وأعمالهم كلها بفضل الله ورضوانه محفوظة في الدنيا.   1 صحيح البخاري كتاب النكاح ج6 ص148. 2 سورة الفتح: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بالنصر والتوفيق، وفي الآخرة بالجنة والنعيم. 3- كانوا عبادًا لله مخلصين، تراهم دائمًا راكعين ساجدين خاشعين، وتبرز في وجوههم سمة الخشوع والعبادة، وتنمحي من حياتهم علامات الاستعلاء والكبر. 4- علاقتهم بالآخرين أساسها الإيمان، فهم مع المؤمنين رحماء، ومع الكفار أشداء، ولو كانوا آباءهم وإخوانهم. 5- أكرم الله هذا الجيل العظيم بتنزيل مثله في التوراة والإنجيل، فجعلهم صورة وضيئة في التوراة، وصورهم في الإنجيل بالزرع النامي القوي الضخم المستقيم الذي يعجب زارعه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولك أن تتخيل أثر هذه الآية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يتلقون هذا التكريم الإلهي الذي يوضح مقامهم عند الله وعند الناس، ويستمر مع الناس ما دامت تلاوة القرآن الكريم، وما دامت الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 2- وضع الميثاق العام لسكان المدينة : لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الإخاء بين المسلمين، وإنما وضع ميثاقًا لكل سكان المدينة، يوضح ما لهم، وما عليهم، ويعرفهم بمصدر الحكم والتوجيه، ويجدد لهم وسائل التعامل داخل المدينة وخارجها، حتى عد بعضهم هذا الميثاق بأنه أول دستور إسلامي شرعه الله تعالى لحكم دولة الإسلام في المدينة. ويلاحظ أن هذا الميثاق أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أوحى الله تعالى إليه به، ولم يشاورا أحدًا من سكان المدينة فيه، فهو تشريع خالص من الله تعالى، ملزم لسكان المدينة جميعًا. وقد روى ابن إسحاق نص هذه الميثاق، وعنه روى العلماء والمؤرخون، وسوف أورد هذا الميثاق مقسمًا على فقرات، ومع كل فقرة أضع رقمًا مسلسلا، تسهيلا للفهم وتحديدًا لمبادئ الميثاق وذلك فيما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم 1- هذا كتاب محمد النبي رسول الله، وبين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعه، فلحق بهم وجاهد معهم. 2- إنهم أمة واحدة من دون الناس. 3- المهاجرون من قريش على ربعتهم "حالهم"، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم "أسيرهم" بالعروف والقسط بين المؤمنين. 4- وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5- وبنو الحارث بن الخزرج على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين. 6- وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 7- وبنو جشم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8- وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9- وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10- وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 11- وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحًا "مثقلا بدين" بينهم إلا أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. 13- وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 14- وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم. 15- ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر مؤمن كافرًا على مؤمن. 16- وأن ذمة الله واحدة، يجبر عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 17- وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرًا عليهم. 18- وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 19- وأن كل غازية "غزاة" غزت معنا، يعقب بعضها بعضًا. 20- وأن المؤمنين يبئ "يتعادل" بعضهم عن بعض، بما نال دماءهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سبيل الله. 21- وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. 22- وأن لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول "يحجز" دونه على مؤمن. 23- وأنه من اعتبط "قتل" مؤمنًا قتلا عن بينة فإنه قود "قصاص" به، إلا أن يرضى ولى المقتول بالعفو، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا القيام عليه. 24- وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا "قاتلا" أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه عدل "فداء" ولا صرف "توبة". 25- وأن أهل المدينة مهما اختلفوا في شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد. 26- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 27- وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوتغ "يهلك" إلا نفسه وأهل بيته. 28- وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف. 29- وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 30- وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 31- وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. 32- وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 33- وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 34- وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. 35- وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم "الخبث". 36- وأن موالي ثعلبة كأنفسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 37- وأن بطانة يهود "اليهود خارج المدينة" كأنفسهم. 38- وأنه لا يخرج منهم أحد "خارج المدينة" إلا بإذن محمد. 39- وأنه لا ينحجز "يمنع" على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته، إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا. 40- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. 41- وأنه لا يأثم امرؤ بخليفة، وأن النصر للمظلوم. 42- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين م داموا محاربين. 43- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 44- وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 45- وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 46- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث "أمر منكر" أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 47- وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 48- وأن بينهم النصر من دهم يثرب. 49- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه، ويلبسونه "يشتركون فيه" فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. 50- على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قَبِلَهم. 51- وأن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 52- وأنه لا يحول دون هذا الكتاب ظالم أو آثم، وأنه من خرج من المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فهو آمن ومن قعد بالمدينة فهو آمن إلا من ظلم أو أثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله1. وهذه الوثيقة تؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رئيس الدولة، وهو المرجع في التفسير والحكم والتنفيذ، وهو صلى الله عليه وسلم المسئول عن تحقيق أمن المدينة وسلامة المقيمين فيها، وهو صلى الله عليه وسلم المصدر الوحيد الذي يتلقى الوحي الإلهي، ويبلغه لهم وللناس أجمعين. وهذه الوثيقة تبين أن مواطني الدولة الإسلامية هم المسلمون وغيرهم، وأن الجميع مسئولون عن ضمان الحقوق داخل المدينة، وعدم التعامل مع المجرمين، وترك التعاون مع المعتدين داخل المدينة أو خارجها، بحيث لا يخرج أحد من المدينة إلى مكة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأوى أحد إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم كذلك. وتنظم الوثيقة العلاقة بين قبائل المدينة جميعًا، وفي إطار قبول الجميع لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي يضمن لكل دينه وكرامته وحريته. وبوضع هذا الميثاق، وإحاطة جميع القبائل به يكون قد تم تحديد مسار الجميع، ومعرفة كل فرد في المدينة لما له، وما عليه، وبهذا الميثاق بدأت الملامح السياسية لدولة المدينة تترسخ، وتخضع لحكم تشريع واحد هو الإسلام، ويقودها إمام واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والكل فيها مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة، وعليهم واجباتها. وبذلك تم تنظيم المجتمع في المدينة، وأصبح الطريق مفتوحًا لنشر دعوة الله في كل مكان, وبكل الوسائل الممكنة، ولذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاد الدعوة بالسرايا والغزوات، وهذا ما سيتضمنه مبحث حركة الرسول بالدعوة في المدينة الذي سيأتي بعد الانتهاء من سيرته صلى الله عليه وسلم.   1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 من ص501 إلى 504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أولا: التعريف بأمهات المؤمنين المتفق عليهن ... المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأحضر أبناءه، وزوجته سودة من مكة، وتمت هجرة المؤمنين جميعًا وصارت الأمة مهيأة لانطلاقة الإسلام الكبرى، وتعددت مهمات النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في بيته مع زوجاته، وأبنائه، زوجًا، وأبًا، وموجهًا، ومع سائر الناس داعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا. وقد وفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما كلف به، حتى صار الأسوة الكاملة في كل مجال يحتاج له الناس، وفي هذا المبحث سأتناول الجانب الأسري لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ألصق بسيرته صلى الله عليه وسلم مع رد الافتراءات الموجهة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعدد زوجاته وذلك فيما يلي: أولا: التعريف بأمهات المؤمنين المتفق عليهن أجمع المؤرخون وعلماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج إحدى عشرة امرأة، مات عن تسعة منهن، واختلفوا فيما فوق هذا العدد. وسأورد تعريفًا موجزًا بأمهات المؤمنين المتفق على أنهن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أجمل أسماء المختلف فيهن زواجا أو خطبة أو غير ذلك فيما يلي: الزوجة الأولى: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها هي خديجة بنت خويلد القرشية من بني أسد بن عبد العزى، تلتقي مع رسول الله في جده "قصي" تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام مع أنها تكبره بخمسة عشر عامًا1. وكانت خديجة رضي الله عنها خير معاشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له نعم الزوجة يصور ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول عنها: "ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس   1 انظر الكتاب الثاني من السلسلة ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ورزقني الله أولادها، وحرمني أولاد الناس" 1. يقول ابن إسحاق: كانت وفاة خديجة، وأبي طالب، في عام واحد، وتوفيت وهي بنت خمس وستين سنة، ودفنت في الحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حفرتها، ولم تكن شرعت صلاة الجنازة بعد2. الزوجة الثانية: سودة بنت زمعة رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة رضي الله عنها، وكانت قبله زوجًا لابن عمها السكران بن عمرو، من السابقين إلى الإسلام الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرة الثانية، جاء إلى مكة مع زوجته فتوفي بها ودفن بالحجون. والحكمة في زواجه صلى الله عليه وسلم منها صيانتها من الشرك؛ لأنها لو عادت لقومها واحتاجت لهم لأهانوها، وعذبوها، وفتنوها في دينها، ولذلك صانها النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج وكفلها. توفيت سودة رضي الله عنها في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودفنت بالبقيع. الزوجة الثالثة: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها عقد النبي صلى الله عليه وسلم عليها في مكة قبل الهجرة وهي بنت ست سنوات، ودخل بها وهي بنت تسع سنوات، في شوال من السنة الأولى من الهجرة, وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة تكريم لأول أصحابه، وأعلاهم قدرًا، وأحبهم إلى قلبه صلى الله عليه وسلم. وكان لعائشة منزلة في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 3. تقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: "أين أنا اليوم؟! أين أنا غدًا"؟ , استبطاء ليوم عائشة: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري4. ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر سبقه للإسلام، ونصره لدين الله تعالى، وإعانته   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص361. 2 صفوة الصفوة لابن الجوزي ج2 ص9. 3 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل عائشة ج15 ص211. 4 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل عائشة ج15 ص207، 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 للمستضعفين، ولذا صاهره وتزوج ابنته عائشة رضي الله عنها1 بأمر الله تعالى. توفيت رضي الله عنها سنة سبع وخمسين من الهجرة، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع وعمرها ثمان وستون سنة. الزوجة الرابعة: حفصة بنت عمر رضي الله عنها تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها في شهر شعبان على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة. كانت حفصة زوجة لـ"خنيس بن حذاقة السهمي" الصحابي الجليل، الذي شهد بدرًا وأحدًا، وتوفي بالمدينة بعد أحد مباشرة بجرح أصابه فيها فلما انقضت عدتها فكر أبوها في تزويجها, يقول أبوها عمر رضي الله عنه: فلقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقال: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. قال: سأنظر في أمري. فلبثت ليالي ثم قال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إليّ شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان. فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها2. نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة عائشة في السنة الأولى من الهجرة، فكان هذا قرة عين لصاحبه أبي بكر، وخير مكافأة له في الدنيا على صدقه وإخلاصه.   1 انظر صحيح البخاري كتاب المناقب باب تزويج النبي عائشة ج6 ص202. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب حدثنا أبو اليمان ج6 ص262، وانظر الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص129، 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فلما توفي زوج السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساوي بين عمر وبين أبي بكر في تشريفهما بمصاهرته، ولم يكن في الإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا، فتزوج حفصة في السنة الثالثة. فما أجل سياسته صلى الله عليه وسلم!! وما عظم وفائه للأوفياء له. ويقابل ذلك إكرامه لعثمان رضي الله عنه، ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، بتزويجهما ببناته "رقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن". وهؤلاء الأربعة أعظم أصحابه في حياته، وخلفاؤه في أمته ونشر دعوته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وهم أفضل الصحابة على الإطلاق1. توفيت حفصة رضي الله عنها سنة خمس وأربعين من الهجرة في خلافة معاوية وصلى عليها مروان بن الحكم ودفنت بالبقيع وعمرها ثلاث وستون سنة. الزوجة الخامسة: زينب بنت خزيمة رضي الله عنها تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث رضي الله عنها، وهي المعروفة في الجاهلية بأم المساكين، وكانت قبله زوجة للصحابي "عبيدة بن الحارث" الذي استشهد يوم بدر، وكان دخوله صلى الله عليه وسلم بها في رمضان من السنة الرابعة من الهجرة, وقد توفيت بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانية أشهر ودفنت بالبقيع، ولم يمت من أزواجه صلى الله عليه وسلم في حياته إلا هي وخديجة رضي الله عنهما وكان عمر زينب يوم وفاتها ثلاثين عامًا2. الزوجة السادسة: أم سلمة رضي الله عنها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة وهي هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، تزوجت أولا ابن عمها "عبد الله بن عبد الأسد المخزومي" من السابقين إلى الإسلام، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاع، شهد بدرًا واستشهد يوم أحد. وكان زوجها يحبها قالت له مرة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهما من   1 منتقى النقول ص450. 2 الطبقات الكبرى ج8 ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أهل الجنة ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها، فتعال أعاهدك أن لا تتزوج بعدي ولا أتزوج بعدك. قال: أتعطيني؟ قالت: ما سألتك إلا لأعطيك. قال: فإذا أنا مت فتزوجي، ثم قال: اللهم أرزق أم سلمة بعدي رجلا خيرًا مني لا يحزنها ولا يؤذيها، فلما مات أبو سلمة قلت: من هذا الذي هو خير لي من أبي سلمة فلبثت ما لبثت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبني ثم تزوجني1. وكانت أم سلمة وضيئة جميلة، تقول السيدة عائشة عنها: لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم حزنت حزنًا شديدًا لما ذكر لي من جمالها فذكرت ذلك لحفصة فقالت: ما هي كما يقال فتلطفت حتى رأيتها فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: نعم ولكني كنت غيرى2. وأبلت أم سلمة بلاء حسنًا في الهجرة، وعزاها النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها وقال لها: "سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك، ويخلفك خيرًا". فقالت: ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟ فلم ير صلوات الله وسلامه عليه عزاء ولا كافلا لها ولأولادها ترضاه غيره صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فخطبها. ولما خطبها لنفسه اعتذرت بأنها مسنة وأم أيتام وذات غيرة3. فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سنا، وبأن الغيرة يذهبها الله تعالى، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله, وكان زواجه صلى الله عليه وسلم بها في شهر شوال من السنة الرابعة من الهجرة4. وتوفيت أم سلمة سنة ثلاث وستين من الهجرة في خلافة يزيد بن معاوية رضي الله عنه وصلى عليها والي المدينة مروان بن الحكم، وهي آخر من مات من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.   1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص131. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص132. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص394. 4 الطبقات الكبرى قسم النساء ج8 ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الزوجة السابعة: زينب بنت جحش رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد زواجه من أم سلمة، سنة ست من الهجرة، وكان اسمها "برة" فسماها النبي صلى الله عليه وسلم بـ"زينب". وقد أمر الله رسوله بتزوجها بعدما كان يخشى صلى الله عليه وسلم قالة الناس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي زوجها لمولاه زيد بن حارثة رغم معارضتها، وقد تعود الناس أن لا يتزوج السيد مطلقة مولاه، وحتى لا يتحدث الأفاكون عن طلاقها من زيد، وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمالها وحسنها. تحكي زينب رضي الله عنها قصتها فتقول: خطبني عدة من قريش، فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين هي ممن يعلمها كتاب ربها، وسنة نبيها"؟. قالت: ومن هو يا رسول الله؟ قال: زيد بن حارثة. فغضبت حمنة غضبًا شديدًا وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بنت عمك مولاك؟ وجاءتني فأعلمتني فغضبت أشد من غضبها وقلت أشد من قولها، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، افعل ما رأيت يا رسول الله. فزوجني زيدًا، وكنت أرنى عليه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاتبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عدت، فأخذته بلساني، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنه في فراقي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله". فقال يا رسول الله: أنا أطلقها.   1 سورة الأحزاب: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 تقول زينب: فطلقني. فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل عليّ، وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: إنه أمر من السماء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خطبة ولا شهادة. فقال صلى الله عليه وسلم: " الله هو المزوج وجبريل هو الشاهد" 1. وقد بين القرآن الكريم قصة زواج زينب فقال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} 2. والمراد بالذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم "زيد بن حارثة" رضي الله عنه، الذي زوجه النبي صلى الله عليه وسلم من زينب، وكانت لذلك رافضة لما كانت تتمتع به من حسب، وجمال، ودين إلا أنها أطاعت رسول الله، وتزوجته. وتمضي الأيام، ويفكر زيد في طلاق زينب لما رآه من استعلائها، ويأتي لرسول الله يستأذنه في ذلك، فينهاه لعلمه بأمر الله تعالى في هذا الشأن, إلا أن زيدًا طلق زينب، وأمر الله تعالى رسوله بالزواج من زينب. والحكمة واضحة في الآية {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} . ذلك أن العرب كانوا يعدون الابن بالتبني مثل الابن الأصلي، في تحريم زوجته إذا دخل بها على والده، ولذلك زوج الله نبيه بزينب، قطعًا لهذه العادة التي لا سند لها في شرع الله تعالى. وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم بزواجه من زينب عادة جاهلية أخرى، وهي استعلاء السادة عن الزواج بزوجات مواليهم كبرًا وفسادًا.   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص396. 2 سورة الأحزاب: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 كما بين للمؤمنين قضية عقدية هامة، وهي أنه لا خيار لمؤمن ولا مؤمنة بعد قضاء الله وحكمه كما تفيد الآيات. وقد توفيت زينب سنة عشرين للهجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد صلى عليها عمر رضي الله عنه ودفنت بالبقيع1. الزوجة الثامنة: جويرية بنت الحارث رضي الله عنها كانت جويرية من سبايا بني المصطلق، جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم تستعين به في كتابتها، فأدى صلى الله عليه وسلم عنها كتابتها وتزوجها بعد ذلك، وكان قومها جميعًا سبايا عند الصحابة، وبعد أن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصحابة: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترقون فأرسلوا ما بأيديهم من السبايا وأعتقوهم فصاروا جميعًا أحرارًا. تقول عائشة: فلا نعلم امرأة كانت أكثر بركة على قومها من جويرية. وقد توفيت جويرية بالمدينة سنة ست وخمسين من الهجرة وصلى عليها والي المدينة مروان بن الحكم ودفنت بالبقيع وكان عمرها يوم وفاتها خمسًا وستين سنة2. الزواجة التاسعة: أم حبيبة رضي الله عنها هي رملة بنت أبي سفيان من السابقات للإسلام، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة، وهناك ارتد عبد الله عن الإسلام وتنصر وثبتت هي على الإسلام، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها له، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة دينار. تقول أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان: فارقت عبد الله بن جحش فما شعرت إلا بجارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثياب النجاشي تأتيني وتقول: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجكه. قالت: بشرك الله بخير. قالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجلي وخواتيم   1 انظر بغية الرائد باب مناقب زينب ج9 ص398. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب مناقب صفية ج9 ص403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فضة سرورًا بما بشرتها، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب والمسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن رسول الله كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وقد أصدقتها أربع مائة دينار، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله رسول الله، ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال النجاشي: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا1. وقد حضرت أم حبيبة رضي الله عنها إلى زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة في المدينة المنورة وتوفيت زمن أخيها معاوية سنة أربع وأربعين من الهجرة، ودفنت بالبقيع2. الزوجة العاشرة: صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، سيد بني النضير، وكانت من أجمل نساء العالمين، ولم تبلغ سبع عشرة سنة. وقد صارت له من سبي خيبر أمة فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، فصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته، ويجعل عتقها صداقها فتصير زوجة حرة بذلك. قال أنس: لما جمع "صلى الله عليه وسلم" بني خيبر جاءه دحية الكلبي فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي.   1 الطبقات الكبرى ج8، 97، 98. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب مناقب أم حبيبة ج9 ص402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب فخذ جارية فذهب وأخذ صفية بنت حيي". فجاء رجل وقال: يا رسول الله إنها سيدة قريظة والنضير، وإنها لا تصلح إلا لك نظرًا لما قد كانت فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "ادعو دحية إليّ بها". فجاء دحية بها، فلما جاءت نظر إليها صلى الله عليه وسلم وقال لدحية الكلبي: "خذ جارية من السبي غيرها"، ثم أعتقها وتزوجها. يقول الحجاج: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته1. ويقول ابن شهاب: كانت مما أفاء الله عليه صلى الله عليه وسلم، فحجبها وأولم عليها بتمر وسويق وقسم لها2. وعن ابن عمر قال: كان بعيني صفية خضرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه الخضرة بعينيك"؟ قالت: قلت لزوجي إني رأيت فيما يرى النائم كأن قمرًا وقع في حجري، فلطمني وقال: أتريدين ملك يثرب؟ أتريدين ملك يثرب؟ قالت: وما كان أبغض إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي، وزوجي. فما زال يعتذر إليّ ويقول: "يا صفية إن أباك ألب عليَّ العرب، وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي" 3. وعن وحشي بن حرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه صفية، قال لأصحابه: "ما تقولون في هذه الجارية"؟ قالوا نقول: إنك أولى الناس بها وأحقهم. قال صلى الله عليه وسلم: "فإني أعتقها وأستنكحها، وجعلت عتقها مهرها". فقال رجل: يا رسول الله الوليمة.   1 صحيح البخاري ك النكاح بباب من جعل عتق الجارية صداقها ج8 ص135. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص404. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب مناقب صفية ج9 ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قال صلى الله عليه وسلم: "الوليمة حق، والثانية معروف، والثالثة، فخر وحرج" 1. وعن صفية قالت: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من أحد أكره إليّ منه فقال: "إن قومك صنعوا كذا وكذا". فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إليّ منه صلى الله عليه وسلم2. وفي رواية عن السيدة صفية رضي الله عنها قالت: ما رأيت قط أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلا، فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمس بيده ويقول: "يا هذه مهلا يا بنت حيي". حتى إذا جاء الصهباء قال: "أما إني أعتذر إليك يا صفية مما صنعت بقومك إنهم قالوا لي كذا وكذا" 3. وكانت صفية حليمة، عاقلة، فاضلة، ماتت سنة خمسين في رمضان، وقيل سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية ودفنت بالبقيع. الزوجة الحادية عشرة: ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد صفية بنت حيي: ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوجه إياها العباس عمه، وكانت خالة ابن عباس رضي الله عنه. وكانت في الجاهلية عند "مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي" ففارقها وخلف عليها "أبا رهم بن عبد العزى" فتوفي عنها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة سبع بمكة في عمرة القضاء بعدما أحل. وبنى بها بسرف حيث تزوج بها، وقد ماتت سنة إحدى وستين في خلافة يزيد بن معاوية، وقد بلغت ثمانين سنة، وهي آخر من تزوج صلى الله عليه وسلم4. وهي التي وهبت نفسها للنبي, يقول السهيلي: لما جاءها الخاطب، وكانت على بعير رمت بنفسها من على البعير، وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم5.   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص406. 2 المرجع السابق ج9 ص406. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص404-406. 4 الطبقات الكبرى ج8 ص132 إلى 134. 5 الروض الأنف ج4 ص78 وفيها نزل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أجمع المؤرخون، وكتَّاب السيرة على تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأحدى عشرة امرأة، هن أمهات المؤمنين المذكورات: ست منهن قرشيات وهن: خديجة، وعائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة رضي الله عنهن. وأربع عربيات وهن: زينب بنت جحش من بني خزيمة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت خزيمة من بني صعصعة، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. ومن غير العربيات، صفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير. وقد توفي صلى الله عليه وسلم عن تسع لوفاة خديجة وزينب بنت خزيمة في حياته وكان يقسم لثمان، بعد أن تنازلت سودة عن ليلتها لعائشة رضي الله عنهن، وأول أزواجه لحوقًا به زينب بنت جحش، وآخرهن وفاة أم سلمة رضي الله عنهن جميعًا. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم سريتان اختلفت الروايات حول زواج الرسول بهما وهما: الأولى: مارية بنت شمعون القبطية المصرية، أهداها له صاحب الإسكندرية واسمه جريج بن مينا، وكانت جميلة، بيضاء، أعجب بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحبها وحظيت عنده، ولا سيما بعدما وضعت إبراهيم ولده. ولما ولدت له إبراهيم غار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتدت عليهن الغيرة حين صارت بذلك أم ولد حرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها". وماتت في المحرم سنة خمس عشرة فصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع رحمها الله1. الثانية: ريحانة بنت زيد القرظية نسبت لبني قريظة لتزوجها واحدًا منهم وليست منهم لأنها عربية وكانت في سبي بني قريظة، وقد سباها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، وتوفيت سنة عشر، وصلى عليها عمر بن الخطاب، ودفنها بالبقيع2 وقيل بل أعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وفرض عليها الحجاب وتزوجها.   1 الطبقات الكبرى ج8 ص112. 2 انظر الطبقات الكبرى ج8 ص129 إلى 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ثانيًا: الزوجات المختلف فيهن اختلف المؤرخون، وعلماء السير في أخريات خطبهن النبي صلى الله عليه وسلم أو تزوج بهن غير المتفق عليهن وهن: الأولى: أم شريك الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم طلقها قبل أن يدخل بها، فلم تتزوج حتى ماتت. الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، تزوجها صلى الله عليه وسلم فهلكت قبل أن تصل إليه. الثالثة: عمرة بنت يزيد الكلابية، طلقها، وأمر أسامة بن زيد فمتعها ثلاثة أثواب. الرابعة: أسماء بنت النعمان الكندية، تزوجها فلما دعاها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ"، ثم سرحها إلى أهلها، وكانت تسمي نفسها الشقية. الخامسة: مليكة بنت كعب، ومنهم من ينكر تزويجها. السادسة: فاطمة بنت الضحاك، تزوجها ثم فارقها صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن أباها قال إنها لم تصدع قط، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي بها". السابعة: العالية بنت ظبيان بن عمرو، تزوجها صلى الله عليه وسلم وكانت عنده ما شاء الله ثم طلقها. الثامنة: قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها في سنة عشر، ثم انصرف إلى حضرموت فحملها، فقبض صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه. التاسعة: سنا بنت الصلت بن حبيب السلمية، تزوجها صلى الله عليه وسلم، وماتت قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم طلقها قبل أن يدخل بها. العاشرة: شراف بنت خليفة أخت دحية الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم فماتت قبل دخوله صلى الله عليه وسلم بها. الحادية عشرة: ليلى بنت الحطيم أخت قيس، تزوجها صلى الله عليه وسلم، وكانت غيورًا فاستقالته فأقالها، فأكلها الذئب. الثانية عشرة: امرأة من بني غفار تزوجها صلى الله عليه وسلم، فأمرها فنزعت ثيابها، فرأى بكشحها بياضًا، فقال: "الحقي بأهلك"، ولم يأخذ مما آتاها شيئًا1.   1 زاد المعاد, والطبقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثالثًا: من خطبها أو وهبت نفسها ولم يتزوجها صلى الله عليه وسلم هناك بعض النسوة ذكر المؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهن، أو وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن، وهن: الأولى: امرأة من بني مرة بن عوف خطبها صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فقال أبوها: إن بها برصًا -وهو كاذب- فرجع فوجد البرص بها. الثانية: امرأة قرشية يقال لها سودة خطبها صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن يضجوا ويبكوا عند رأسك، فدعا لها وتركها. الثالثة: صفية بنت بشامة، وكان أصابها في سبي، فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها. الرابعة: أم هانئ فاختة بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه، خطبها صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني مصبية واعتذرت إليه فعذرها. الخامسة: ضباعة بنت عامر بن قرط، خطبها إلى ابنها سلمة بن هاشم فقال: حتى أستأمرها، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها قد كبرت، فلما عاد ابنها -وقد أذنت له- سكت عنها صلى الله عليه وسلم فلم ينكحها. السادسة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت عليه صلى الله عليه وسلم فقال: هي ابنة أخي من الرضاعة1.   1 انظر زاد المعاد والطبقات الكبرى ففيهما تفصيل وتوضيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيم حياة النبي الأسرية إلى فترات أربع عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بدءًا بزواجه من خديجة رضي الله عنها أولى زوجاته، وانتهاء بميمونة رضي الله عنها آخر زوجاته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم وهي: الفترة الأولى: بدأت حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة رضي الله عنها وعمره خمس وعشرون سنة، واستمرت حتى وفاة خديجة رضي الله عنها، وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة، وهذه الفترة هي مرحلة شباب النبي صلى الله عليه وسلم ومدتها خمس وعشرون سنة. الفترة الثانية: بدأت بوفاة السيدة خديجة وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة حيث تزوج صلى الله عليه وسلم السيدة سودة بنت زمعة، وعاش معها أربع سنوات، انتهت بعد الهجرة بعام واحد، وكان عمره صلى الله عليه وسلم أربعًا وخمسين سنة. الفترة الثالثة: امتدت ست سنوات، منذ أن كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا وخمسين سنة، إلى أن بلغ ستين سنة، وفيها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من أمهات المؤمنين توفي عن تسعة منهن، وكانت ميمونة آخر من تزوجهن صلى الله عليه وسلم. الفترة الرابعة: وتمتد من بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الستين إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ ثلاثًا وستين سنة، وفي هذه الفترة لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا حيث حرم الله تعالى عليه الزواج فيها، وأمره أن لا يستبدل بإحدى زوجاته غيرها. وحين ندقق النظر في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة في المراحل العمرية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نلحظ الآتي: أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة وعاش معها حتى لقيت ربها وعمرها خمسة وستون عامًا وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم وقتها خمسين عامًا. ثانيًا: استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجة واحدة حتى بلغ سنه أربعًا وخمسين سنة؛ لأنه تزوج سودة بنت زمعة الأرملة المسنة بعد وفاة خديجة، ولم يدخل بسواها إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بعد أربع سنوات من الدخول بسودة، وذلك بعد تمام الهجرة إلى المدينة المنورة. ثالثًا: فترة التعدد كانت ستة أعوام، بعدما بلغ عمر رسول الله أربعًا وخمسين، ودخل في سن الكبر والشيخوخة، وهي الأعوام التي امتلأت بنزول القرآن، وبيان الأحكام الشرعية وبناء الدولة المسلمة، والحركة بالإسلام وسط الناس والقيام بالسرايا والغزوات، والاتصال بالعالم الخارجي، واستقبال الوفود من كل جهة، وإرسال الرسائل، وتبليغ الدعوة عمليا إلى العالم كله. رابعًا: أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كن ثيبات، سبق لهن الزواج قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله عنها، فقد عقد عليها بأمر الله تعالى، وسنها ست سنوات، ولم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بسنة تقريبًا، وعمرها تسع سنوات رضي الله عنها. خامسًا: لم يعترض أحد من اليهود، أو من المنافقين أو من كفار مكة على زواج النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر، ولو وجدوا في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم لعبًا، أو هوى، أو مطعنًا لأذاعوه، ونشروه في العالمين، لكنهم مع عداوتهم لرسول الله لم يتكلموا في زواجه صلى الله عليه وسلم بل شهدوا له بالعفة والطهر. وهذه الملاحظات: تؤكد لنا حقيقة واضحة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شهوانيًا أبدًا كما يدعي بعض أعداء الإسلام؛ لأنه لو كان شهوانيًا لاختار بكرًا، صغيرة وجميلة في زواجه الأول، ولتزوج معها غيرها وبخاصة أن المجتمع الجاهلي كان يعدد الزوجات بلا حد معين, وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة يملك الوقت الذي يمكنه من إشباع شهوته، بدل أن يضيعه في الخلاء والبعد عن الناس. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم شهوانيًا لأوثر عنه اتصاله بالغواني والبغايا، وكان لهن يومذاك دور معروفة، وكان المجتمع يقر هذا العمل لمن يريده. لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك وإنما عاش طاهرًا عفيفًا، لم يتهم بريبة، ولم يرم بخطيئة، وعاش صادقًا أمينًا. وبعد موت خديجة رضي الله عنها تزوج سودة رضي الله عنها في مكة، وهي الأرملة العجوز، وعاش معها وحدها أربع سنوات، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو رغب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أي فتاة عذراء وجميلة ومسلمة لسعدت به، ولرحب به قومها جميعًا، لكنه صلى الله عليه وسلم تزوج سودة لتعلم الدنيا كلها أن الغاية لم تكن أبدًا إشباع شهوة، أو التمتع المجرد بالأنثى، أو الانغماس في الملذات الحسية. يقول الأستاذ عباس العقاد: قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لمحمد لدليل على فرط الميول الجنسية. قلنا له: إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر جنسيًا لأنه لم يتزوج قط، فلا ينبغي أن تصف محمدًا بأنه مفرط جنسيًا لأنه جمع بين تسع نساء. ونحن قبل كل شيء، لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يتزوج ويتمتع لأن الفطرة لا عيب فيه. فحب المرأة لا معابة فيه ما دام في إطاره المشروع، وفي حده المباح. وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن حده، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططًا في طلابه، فهو عند ذلك مسح للفطرة المستقيمة، يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع!! فمن الذي يعلم حقيقة ما صنع النبي في حياته، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير، أو عن عمل صغير؟! لم يوجد هذا بعد!! مَن مِن بناة التاريخ قد بنى في حياته، وبعد مماته، تاريخًا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية، والدولة الإسلامية؟!! ومن ذا الذي يقول عن تراث محمد صلى الله عليه وسلم: هذا عمل رجل مشغول بالنساء؟ عم شغلته المرأة؟ ومتى شغلته؟ وكيف شغلته؟ لم يتحدث أحد من المؤرخين أن محمدًا شغل بالمرأة عن رسالته، ومسئوليته. ومن ذا الذي تفرغ لعمل ما فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه؟ ولو كان تخصصه في جزئية صغيرة من تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم الشامل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها، ويعطي المرأة حقها، فالعظمة حينئذ رجحان يذكر، وليست بنقص ينكر. وهذا الاستيفاء السليم لكل واجباته صلى الله عليه وسلم كمال في الرجولة، وفي الأداء، وفي السلوك. ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يفهمها أناس خلقوا للحياة، ولم يخلقوا نابذين لها، ولا منبوذين منها. وشريعته إذا هي الشريعة المطلوبة لعامة الناس في كافة العصور لما يتمتعون فيها من حلال مشروع. وأعجب شيء أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه استسلم للذات الحس، وقد أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق؛ لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة، وهو لا يستطيعها. نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة، وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات. أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه؟ أما كان يسيرًا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن، ولا يغضب المسلمين، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله؟ وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء، حتى يقال: إنه كان يفرط في ميله إلى النساء؟ هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه؟!! أو هل دفعه إلى نقض العظمة ويخالف ما يحمد من سيرته؟!! وهل ألجأه أن يترخص فيما يرضاه أتباعه، ولا ينكرونه عليه؟!! لم يكلفه شيئًا من ذلك، ولم يشغله عن جليل أعماله، وصغيرها، ولم نر فيه صلى الله عليه وسلم رجلا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأيناه رجلا يغلب تلك الملذات في طعامه، ومعيشته، وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها، ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسيطة قد ينالها أصغر المسلمين، ولا شك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 في قدرة النبي عليها لو أراد. ويزيد في غرابة اتهام النبي بالإفراط الجنسي أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه. ولا بعد زواجه، حتى تتخبط فيه الظنون ذلك التخبط الذريع. فمحمد كان معروفًا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة. كان معروفًا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان، حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة، واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها، فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه أهون الهنات. لم يقل أحد: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى، الذي كان من شأنه مع النساء كيت، وكيت، يدعوكم اليوم إلى الطهارة، والعفة، ونبذ الشهوات. كلا لم يقل أحد هذا قط من شانئيه، وهم عديد لا يحصى، ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل1. وهناك من يعترض على تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد التعدد في ذاته، ويرون ذلك غير لائق بعظماء الرجال. والذين يقولون ذلك ضعيفو العقول بسطاء التفكير؛ لأنهم إن كانوا من الإباحيين الذين يعيشون بين الخليلات، والعاشقات، والصاحبات، فهؤلاء لا يصح الالتفات إليهم؛ لأن اعتراضهم لا مقياس له، ولا معقولية فيه، ولأن الزواج عندهم لا قيمة له وحديثهم هراء لا مصداقية فيه، ولا معنى له. وإن كانوا أصحاب دين يقول بالتعدد، فهم قوم يحرمون على غيرهم ما أباحه دينهم، ولذلك فإهمالهم أمر عادي، واعتراضهم مردود عليهم، وعليهم أن يناقشوا أنفسهم ودينهم في إباحة التعدد.   1 عبقرية محمد ص136-140 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وإن كانوا من أهل الكتاب "يهود أو نصارى", فإن الحقيقة يجب أن تتضح وهي أن العهد القديم يذكر أن عددًا من الأنبياء عددوا أزواجهم حيث لا عيب في الزواج والتعدد. إن فرط الرجولة ليس عيبًا في الرجل، بل هو كمال وقوة إذا ظهر ضمن الإطار الذي حدده الله تعالى، وحافظ على حقوق سائر الأطراف، وكان عامل خير للمجتمع، وتقدمه1. وإن كان العيب في التعدد تكثير النسل، والمساهمة في الانفجار السكاني -كما يقولون- فإن الله تعالى قدر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يموت وليس له من الأبناء إلا فاطمة رضي الله عنها فلقد توفاهم الله تعالى جميعًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا فاطمة رضي الله عنها. وإن تصور البعض أن التعدد يضر بالمرأة، فهو معارض بما يحققه التعدد للمرأة من فوائد عديدة2. والخلاصة هي تأكيد حقيقة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من كل زيف أشاعه أعداؤه حول زواجه صلى الله عليه وسلم.   1 الإسلام للأستاذ سعيد حوى ص157. 2 والأمثلة على فوائد التعدد للمرأة عديدة منها: - أن تكون الزوجة عقيمًا والرجل يريد الولد، فإن من الخير لها أن يتزوج ثانية عليها، وتبقى في رعايته. - أن تكون مريضة يرعاها زوجها، ومن الخير لها أن يتزوج أخرى وتبقى هي في عصمته. - أن يملك الرجل طاقة "أي شبقًا" ويحتاج لأكثر من زوجة فزواجه أفضل من ارتكابه الحرام. - وحينما تكثر النساء عقب الحروب فإن التعدد هو العلاج لذلك، وإلا فسد المجتمع كله. إن التعدد في هذه الحالات أكرم للمرأة لتعيش في كنف رجل يرعى حقوقها، بدل أن تضيع في معترك الحياة الضروس، وهو أكرم للمجتمع حفاظًا على الطهر والفضيلة، وضمانًا، لحقوق كل فرد فيه، وهو أكرم للرجل ليصل ما بينه وبين الناس بذرية صالحة، وأسرة كريمة حانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ينطوي زواج النبي صلى الله عليه وسلم على حكم بليغة تعم زوجاته جميعًا، وتظهر مع كل واحدة منهن على حدة، مما يجعل ذلك التعدد ضرورة لا بد منها من عدة زوايا. أولا: محمد رسول الله، وخاتم الرسل، والرسالة بصورة عامة اختيار إلهي محض، يختص بها الله بعض عباده، ويحيطهم بعنايته، ويصنعهم لنفسه، وذلك أمر يؤكد أن زواجه، وسائر حياته وحي من الله تعالى، وحينئذ يكون التسليم بتعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مسألة إيمانية محضة. فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بأمر الله تعالى له، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} 1. لقد أحل الله لرسوله أن يتزوج بما يشاء، وأن يملك بيمينه ما يشاء، وعلى الإنسان العاقل أن يسلم بفعل رسول الله في الزواج، لأنه قدر رباني، وأمر إلهي، ولن يضيع الله رسوله أبدًا، ولن يأمره بسوء أبدًا.   1 سورة الأحزاب الآية 50-51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ففي الآيات يحل الله للنبي أنواع النساء المذكورات فيها، ولو كن فوق الأربع، مما هو محرم على غيره، وهذه الأنواع هي: الأزواج اللواتي أمهرهن، وما ملكت يمينه إطلاقًا من الفيء، وبنات أعمامه، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، ممن هاجرن معه، دون غيرهن ممن لم يهاجرن إكرامًا للمهاجرات، وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر، ولا ولي، إن أراد النبي نكاحها نكحها. وقد جعل الله هذه الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، أما سائر المسلمين فهم خاضعون لما بينه الله، وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه، وفي الاستجابة للظروف الخاصة بشخصه. ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء، ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك، ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء، وله أن يباشر من نسائه من يريد، ويرجئ من يريد، ثم يعود يقول الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} 1 فأوامر الله وتوجيهاته تراعي الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} . وعند وصول عمره صلى الله عليه وسلم إلى الستين منعه ربه من الزواج، حيث نزل عليه قول الله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} 2. والآية تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة أن يتزوج أحدًا غير نسائه اللواتي في   1 سورة الأحزاب: 51. 2 سورة الأحزاب: 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 عصمته، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن، ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن بعد هذا التحريم الذي تضمنته الآية. إذن أمر زواج النبي صلى الله عليه وسلم توجيه إلهي محض، وكان هذا كاف في الموضوع لأصحاب العقول السليمة لولا فلتات الهوى، وأمراض النفس، واعتراض قلوب وعقول لا تعطي الرسالة حقها، ولا تقدر للرسول ما يجب أن يكون له. ثانيًا: يريد الله تعالى في تجمع هذا العدد من الزوجات المتنوع أصلا، وسنًا، وحضارة، أن يتعلم الناس وبخاصة النساء أن الإسلام يصنع وحدة خالصة من المؤمنين، لا تتأثر بالعوامل المادية، أو العنصرية أو الثقافية، فزوجات النبي صلى الله عليه وسلم منهن العربية، والقرشية، واليهودية، والنصرانية، والمصرية، ومنهم من كان أبوها مهاجرًا، ومن كان أبوها كافرًا، ومنهن الجميلة، ومنهم الغنية، والفقيرة. أراد الله تعالى أن يحيط هذا الجمع بتوجيهات نبيه صلى الله عليه وسلم لتظهر من بينهن الأسوة والقدوة لسائر المؤمنات وبخاصة من ينلن الحظوة الدنيوية في بيت الخلافة والزعامة والرئاسة ... وحتى تتصور مسلمة ما أن علو المكانة يؤدي بها إلى الترفع والاستعلاء على الناس. لهذا التجمع في بيت النبوة جاءت الأوامر الإلهية. - يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} 1. فلقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته جميعًا عيشة الكفاف والتقشف، يمر الشهر والشهران لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، استعلاء على متاع الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله لكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن من البشر، ورغبن في المتعة الدنيوية، كما يتمتع البشر،   1 سورة الأحزاب الآيتين 28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وبخاصة أن الله أفاء على رسوله بالسعة، والرخاء، وقد تمتع بها سائر الناس, فراجعن الرسول في شأن النفقة، فحزن الرسول لذلك، وتألم كثيرًا واحتجب عن أصحابه، ولم يؤذن لهم بالدخول لإعلان أسفه وغضبه. يروي البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن بعد ذلك لأبي بكر، وعمر رضي الله عنه فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت. فقال عمر رضي الله عنه لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وقال صلى الله عليه وسلم: "هن حولي يسألنني النفقة". فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها. وقام عمر إلى حفصة كذلك. كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فنهاهما الرسول صلى الله عليه وسلم. فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله عز وجل آيتي الخيار المذكورتين، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، فقال: $"إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها الآيات. قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، أسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها" 1.   1 صحيح البخاري. ك التفسير. باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ج7 ص375، 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وفي رواية البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه, فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن تسعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد علم أن أبوي، لم يكونا يأمراني بفراقه ثم تلا عليّ الآيات. فقلت له: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة1. لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحياته الخاصة، وأن تتحقق في أدق صوره، وأوضحها في هذا البيت الذي كان وسيبقى منارة للمسلمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة, فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. ونحب أن نقف أمام هذا الحادث نتدبر بعض العبر2: 1- إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم، ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة، ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة، وكل لجلجة، بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء، ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله؛ لأن الخلوص يجب أن يكون له سبحانه وتعالى وحده دوه سواه. 2- يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين عاشوا معه واتصلوا به، وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان، وحياة ناس من البشر، لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم، وسماتهم الإنسانية مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها، ومع هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه، فالمشاعر   1 صحيح البخاري ك النكاح ج7 ص376 ط الأوقاف. 2 انظر في ظلال القرآن ج5 ص2855 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الإنسانية، والعواطف البشرية، لم تمت في تلك النفوس، ولكنها ارتفعت وصفت من الأوشاب, ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان. وكثيرًا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي صلى الله عليه وسلم، ولصحابته رضوان الله عليهم صورة نجردهم فيها من كل المشاعر، والعواطف البشرية حاسبين أننا نرفعهم بهذا، وننزههم عما نعده نحن نقصًا وضعفًا. وهذا الخطأ يقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم، وتبقى شخوصهم في حسنا في رقي عال بين تلك الهالات، أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس، ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقًا آخر غيرنا ملائكة، أو خلقًا مثلهم، مجردين من مشاعر البشر، وعواطفهم على كل حال. ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر, يأسًا من إمكان التشبه بهم، أو الاقتداء العلمي بهم في الحياة؛ لأن صورتهم تختلف في أذهاننا عن الواقع الموجود. ونفقد بذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن، ولكنهم ارتقوا بها، وطهروها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا. 3- اختار الله تعالى رسله من البشر لا من الملائكة، ولا من أي خلق آخر غير البشر، كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة، وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم وإن صفت، ورقت، وارتفعت، يحبونهم حب الإنسان للإنسان، ويطمعون في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير، ويتعلمون منهم تعلم التلميذ من أستاذه، وبذلك يكونون أتباعًا مخلصين. 4- وفي هذه الحادثة نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المتاع، كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي صلى الله عليه وسلم ونسائه رضي الله عنهن، وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه أن يضربا عائشة، وحفصة على هذه المراجعة، فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه، فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة، اختيارًا لا إكراه فيه، ولا كبت، ولا ضغط، فيفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء. 5- ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة، في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحب عائشة حبًا ظاهرًا، ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له، ولها، ولأهل بيته، فيبدأ بها في التخيير، ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد، فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها، وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت. وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا تخطئ عائشة رضي الله عنها في إدراكها، فتسر بها وتحفل بتسجيلها في حديثها، ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي صلى الله عليه وسلم إنسانًا يحب زوجه الصغير، ويحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه، وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريها ربه له، ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة رضي الله عنها إنسانة، يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها، فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه لها، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى، فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء، ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا المطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام! وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 "إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا, لا تسألني واحدة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتها". فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير، ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير، بل يقدم العون لكل من تريد العون، كي ترتفع على نفسها وتتخلص من جواذب الأرض، ومغريات المتاع. ومن هذه الأوامر نزل الله تعالى في سورة الأحزاب: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} 1. وهذه الآيات تحمل نساء النبي صلى الله عليه وسلم مسئولية الريادة، والقيادة، وهي مسئولية ضخمة، عليهن العمل لها، والقيام بلوازمها، فإن أخطأت خطأ ضوعفت العقوبة، وإن استقامت، وأطاعت، يضاعف لها الأجر كذلك، وعليهن أن يطعن الله ورسوله فيما يوجه إليهن، وإلى المسلمات من تشريع. ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال، أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين، الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويغري مرضى القلوب، ويهيج رغائبهم. ونهاهن من قبل عن النبرة اللينة، واللهجة الخاضعة، وأمرهن مع هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة، غير منكرة، فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث، فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن، ولا إيماء، ولا هذر، ولا هزل، ولا دعابة، ولا مزاح، حتى لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب، أو من بعيد. وأمرهن الله أيضًا بالمكث في البيت لا يخرجن إلا لضرورة. كما نهاهن عن تبرج الجاهلية إذا خرجن.   1 سورة الأحزاب: 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأمرهن بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله ليعشن في طهارة دائمة، وعفة نقية تتلاءم مع بيت النبوة يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1. إن بيت النبوة هو موطن نزول الوحي، وعلى أمهات المؤمنين أن يعرفن ذلك، ويتأهلن له، وليذكرن ما ينزل الوحي به في بيوتهن من قرآن، أو من سنة، ليأخذ من يأتي بعدهم منهن. ثالثًا: لقد جاء الإسلام بنظم كاملة تحتاج إليها النسوة في حياتهن العامة، والخاصة، ولا بد لهذه النظم أن تعرف، وتهضم، لتنتقل إلى الأجيال القادمة واضحة بينة، ولقد قامت أمهات المؤمنين بتبليغ الإسلام بصورة حسنة، وبخاصة لأخواتهن المؤمنات، وإذا تأملنا في مرويات أمهات المؤمنين، والفتاوى التي نقلنها إلى غيرهن، لعلمنا ضرورة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لتيمكن من تحمل هذه المسئولية التي كلفوا بها في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} 2. لقد كان الصحابة، والتابعون يقصدون أمهات المؤمنين لأخذ حديث، أو تصحيح آية، أو معرفة حكم شرعي عرفنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان البعض يقصد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفتهن أحواله صلى الله عليه وسلم وعبادته، ومعيشته كهؤلاء النفر الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإنني أصلي الليل أبدًا.   1 سورة الأحزاب: 33. 2 سورة الأحزاب: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء تلك سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1. يروي الترمذي بسنده قول أبي موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا2. رابعًا: كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم المتعدد حلا لا بد منه في بعض الحالات. فأم سلمة المخزومية: بنت سيد بن مخزوم، المهاجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة، وقد استشهد زوجها، وليس لها أحد، بعدما أصرت على ترك قومها، وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت شديدة التقدير، والتعلق بزوجها أبي سلمة فلما مات خطبها أبو بكر، وطلبها عمر فرفضت لأنها لم تجدهما خيرًا من أبي سلمة. فهل تبقي وحدها أرملة؟ وهي التي تحملت من أجل الإسلام ما تحملت. إنه ليس هناك حل أبر، وأكرم من ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها إلى نسائه، وقد رضيت به عوضًا. ورملة بنت أبي سفيان: زعيم قريش أسلمت، وهجرت أباها وقومها، وهاجرت إلى الحبشة، مع زوجها، ثم تنصر زوجها، وارتد عن الإسلام، ومات كافرًا، وثبتت هي على إسلامها، وظلت مقيمة في الحبشة. أهذه تترك؟ ولمن؟ هل تترك لتعود لقومها مع كفرهم؟ أتترك للعزلة والشماتة؟   1 صحيح البخاري كتاب النكاح باب الترغيب في النكاح ج8 ص125 ط الأوقاف. 2 سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي ج10 ص258 والحديث حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أليست مكافأتها في مكانتها أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وتعيش مكرمة عزيزة أما من أمهات المؤمنين؟! وكم سيكون لهذا أثره في نفس أبيها!! الذي لم يسلم بعد. وزينب بنت جحش التي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من متبناه ومولاه زيد، ولم تستقم حياتهما فافترقا، وأراد الله أن يهدم قاعدة التبني عند العرب، التي لا تقوم على أساس معقول، فهدمها بشكل جذري، يوم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب مطلقة متبناه زيد. وجويرية بنت الحارث: بنت سيد قومها، وقومها من أعز بيوت العرب شرفًا، ومنزلة، وقد أسر رجالهم، وسبي نساؤهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرجوا عنهم، وأعتقوا كل من له علاقة بها. وصفية بنت حيي: كان أبوها ملك اليهود تقريبًا، وزوجها كذلك من خير ساداتهم، وقد هلك أبوها وأخوها وزوجها، وكان من سنته صلى الله عليه وسلم الرحمة بعزيز قوم ذل، فضمها إلى نسائه رحمة بها، بدل أن تكون لرجل عادي من الصحابة، لا يتكافأ معها منزلة، ونسبًا، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها، واستل ما بفؤادها من حقد كان يمكن أن يعذبها مدى الحياة. خامسًا: على المسلمين جميعًا أن يتعلموا من معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته حسن العشرة، ولين المعاملة، والمحافظة على دين الله تعالى في السر والعلن، وأن يلتمسوا صورة التعامل مع زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون منهجًا متبعًا على طول الزمن، ومع امتداد العمران، واختلاف الثقافات والحضارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المبحث السابع: حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضوان الله عليهم عامل الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه معاملة كريمة، قائمة على حسن العشرة، ومكارم الأخلاق، ورفعة السلوك، وفي هذا المبحث أورد أهم جوانب هذه المعاملة. أولا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عن زوجاته، ويعلي شأنهن، ويقدر لهن منزلتهن. يقول صلى الله عليه وسلم عن خديجة بنت خويلد: "خير نسائها مريم بنت عمران, خير نسائها خديجة " 1. ويقول لعائشة رضي الله عنها: "أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه"2. ويقول صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 3. ويقول صلى الله عليه وسلم عن زينب: "إنها أطولكن يدًا". لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق4. ويقول لزينب: "المزوج الله والشاهد جبريل" 5. وليس ذلك بغريب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد أعلى الله شأنهن جميعًا، وجعلهن أمهات للمؤمنين بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} 6.   1 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل خديجة ج15 ص198. 2 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل عائشة ج15 ص202. 3 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل عائشة ج15 ص211. 4 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص134. 5 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص396. 6 سورة الأحزاب: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين جميعًا، على طول الزمن، لهن ما للأمهات من الرعاية، والتقدير، وحسن المعاشرة، وعدم الزواج بهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وملازمة الأدب وحسن الخلق في التعامل معهن. كما نبه المسلمين على ضرورة التمسك بآداب الدخول في البيوت حين التعامل مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} 1. والآيات تنظم علاقة المسلمين ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وبنسائه أمهات المؤمنين في حياته، وبعد وفاته كذلك، ويواجه حالة كانت واقعة وهي أن بعض المسلمين كانوا إذا دعوا إلى طعام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأنسون الحديث فيجلسون بعد الطعام، فأمر الله تعالى بالانتشار بعد الطعام منعًا لإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بين زوجاته، ويسوي بينهن كما أمر الله تعالى، وفي إطار وسعه صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم في حسن معاملته، بين زوجاته أبدا، برغم تفاوتهن في جوانب عديدة، في الجمال، وفي السن، وما كان يبعده عن العدل شيء ما، فجعل لكل واحدة منهن ليلة، وإذا زار واحدة في غير ليلتها زارهن جميعًا، ومع مراعاته للعدل الدقيق، كان يستغفر الله في ميله القلبي لبعضهن ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك". وكان صلى الله عليه وسلم يقرع بينهن إذا أراد السفر، فأيتهن خرجت القرعة عليها اصطحبها.   1 سورة الأحزاب: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تقول أم سلمة: لما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عندي ثلاثًا، وقال: "إنه ليس بك هوان على أهلك، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" 1. ثالثًا: كان صلى الله عليه وسلم يقدر لزوجاته حقوقهن الأساسية، ويصونها لهن، لم يتزوج واحدة إلا برضاها، وكان يشاورهن، ويناقشهن ويصبر عليهن. وقد رأينا موقفه صلى الله عليه وسلم من النسوة اللاتي رفضن الزواج منه. وكان صلى الله عليه وسلم يستشير زوجاته في المواقف الصعبة وينزل على رأيهن. في يوم الحديبية أمر المسلمين بأن يحلقوا، وينحروا، بعد الصلح ليتحللوا فبقوا واجمين، فدخل على زوجه أم سلمة، وهو متأثر يقول: "هلك المسلمون أمرتهم بالحلق فلم يحلقوا، وأمرتهم بالذبح فلم يذبحوا! ". فقالت: يا رسول الله اخرج ولا تكلم أحدًا منهم، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك. فلما رأى المسلمون ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم انزاح عنهم الذهول، فقاموا عجلين، ينحرون هديهم، ويحلق بعضهم بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل الآخر2. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور زوجاته، ويأخذ برأيهن في الأمور العامة والخاصة، وكن رضي الله عنهن نعم الشريكات لزوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك نعمن بالحياة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما كان في حياتهن من تقشف. رابعًا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أن يكون جميلا، أنيقًا, نظيفًا، في صورته الجسدية، وفي سلوكه العملي، وفي سائر معاملاته معهن. كان صلى الله عليه وسلم ضاحكًا بسامًا3.   1 من السنة أن من تزوج البكر يبقى عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب يبقى عندها ثلاثًا. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص294. 3 رواه ابن عساكر. انظر منتقى النقول ص298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وكان أفكه الناس مع نسائه1. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "اغسلوا ثيابكم، وخذوا من شعوركم، وتنظفوا" 2. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها، حتى تقضي حاجتها" 3. ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" 4. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستنكف داخل بيته أن يقوم بحاجته، وأن يخدم نفسه، بل كان يقوم أحيانًا بحاجة أهله، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويقول صلى الله عليه وسلم: "خدمتك زوجتك صدقة". خامسًا: كان صلى الله عليه وسلم يترفق معهن في الحديث، ويداعبهن، ويلاعبهن، فقد لاعب عائشة رضي الله عنها فسبقها فلما غضبت لاعبها وتراخى لها فسبقته، وقالت: هذه بتلك5, وهو صلى الله عليه وسلم القائل لعائشة: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليّ غضبى". فقالت له: ومن أين تعرف ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت عليّ عضبى قلت: لا ورب إبراهيم". قالت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك6. سادسًا: وكان صلى الله عليه وسلم يعرف ما جبلوا عليه كسائر النسوة، من غيره وتنافس وحب الاستئثار بالرجل، ولذلك لم يندهش لبعض تصرفاتهن، فيرفق بهن، ويصبر عليهن. حدث مرة أن ذبح صلى الله عليه وسلم شاة وقال: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة".   1 المرجع السابق ص19. 2 فيض القدير ج2 ص19. 3 فيض القدير ج1 ص325. 4 المرجع السابق ج3 ص466. 5 صحيح مسلم بشرح النووي كتاب فضل عائشة ج15 ص203. 6 صحيح مسلم كتاب الفضائل: باب فضل عائشة ج15 ص203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فغارت عائشة وقالت: خديجة خديجة. فما زاد صلى الله عليه وسلم إلا أن قال لها: "إني رزقت حبها" 1. وقالت عائشة رضي الله عنها لفاطمة بنت رسول الله: إن رسول الله لم يرزق بكرًا غيري: فبكت فاطمة، وذهبت تشكو لأبيها صلى الله عليه وسلم. فقال لها: "قولي لها إن أمي تزوجت أبي وكان بكرًا، ولم يتزوج عليها" 2. وكان صلى الله عليه وسلم يعمل على إرضاء زوجاته، وتهدئة خواطرهن بالمعروف يقول أنس بن مالك: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك"؟. قالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك". ثم قال لحفصة: "اتقي الله يا حفصة" 3. وكان يقابل بعض تصرفاتهن بالصمت لينتهوا منه، ويعلموا ما في تصرفهن من حق أو خطأ في رفق وهدوء، بعيدًا عن الانفعال والغضب. يروي الإمام مسلم بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه، وهو مضجع معي في مرطي، فأذن لها. فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك، يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بنية ألستِ تحبين ما أحب"؟. فقالت: بلى. قال: "فأحبي هذه".   1 صحيح البخاري. ك المناقب. باب فضل خديجة ج15 ص199. 2 الإسلام ص175. 3 سنن الترمذي بشرح تحفة الأحوذي أبواب المناقب ج10 ص268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى أبيك صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدًا. فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تسامي عائشة في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة: لم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به، وتتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفينة. فاستأذنت زينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع عائشة في مرطها، على الحالة التي دخلت فاطمة عليها، وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت يا رسول الله: إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة, فلم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة: ثم إن زينب وقعت بي، فاستطالت عليّ، وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، فلن تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، فلما وقعت بها لم أنشبها، حتى أنحيت عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر" 1. وهو يدل على رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجاته، وصبره عليهن، فبرغم أنهم تجمعن، وأرسلن إليه يطلبن العدل، وفي هذا تحامل منهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ذلك كان صلى الله عليه وسلم يبتسم، ويصمت، ويترك لهن تقدير الموقف، ولم يأخذ واحدة منهن بالظنة أو يصدق ما يشاع عن إحداهن من سوء، فلقد أشاع المنافقون الإفك حول عائشة رضي الله عنها، واتهموها زورًا بما ليس فيها ومع ذلك لم يتغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغاضب عائشة، وإنما بقي   1 صحيح مسلم باب فضائل عائشة ج15 ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 صامتًا صابرًا، مع شدة ألم الإفك في نفسه، وذلك أكبر برهان على حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته، وأخذه لهن بالرفق والأناة. إن سلامة العرض، والمحافظة على الشرف والفضيلة من السمات التي يحافظ عليها العرب، ويدافعون عنها بكل غال لديهم، ومع ذلك الوضع الخطير يحافظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدوئه، ويترفق بعائشة رضي الله عنها، ويستمر ذلك الحال شهرًا كاملا، ولا يتعرض لها بنقد أو تأنيب أو مقاطعة أو بنظرة عاتبة. تروي السيدة عائشة رضي الله عنها حادثة الإفك كما عايشتها فتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، فلما دنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حتى آذنوا بالرحيل فمشيت، حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يهبلن الطعام ولم يغشهن اللحم، إنما كن يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داع، ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفتقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمى ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، موغرين في نحر الظهيرة، وهم نزول، فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك. وكان يريبني في وجعي، أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله فيسلم، ثم يقول: "كيف تيكم"، ثم ينصرف، فذلك يريبني، ولا أشعر بشيء. ثم خرجت، حين نقهت، فخرجت مع أم مِسطح فلما فرغنا من شأننا عدنا إلى بيتي، وعنده عثرت أم مِسطح في مرطها فقالت: تعس مِسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرًا؟ فقالت: أي هنتاه، أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني، بقول أهل الإفك فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: "كيف تيكم". فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ وأريد أن أستيقن الخبر من قِبَلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها. فقلت: سبحان الله! أوقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فأما أسامة، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، وقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرًا. وأما عليّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وقال لها: "أي بريرة! هل رأيت من شيء يريبك"؟. قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرًا قط، أغمصه غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن، فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي، وهو على المنبر، فقال: "يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل، قد بلغني عنه، أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلا، ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي". فبكيت يومي ذلك كله، لا يرفأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما أبواي جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي. فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا، لا يوحى إليه في شأني بشيء. فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: "أما بعد يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف، ثم تاب تاب الله عليه". فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال. فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ من القرآن كثيرًا: إني والله، لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث، حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني برئية لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني, فوالله لا أجد لي ولكم مثلا، إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ثم تحولت، واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأعلم أن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى, لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه. فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكانت أول كلمه تكلم بها أن قال: "يا عائشة أما الله فقد برأك". فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله عز وجل1. وفي قصة الإفك نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ، لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث الإفك ج6 ص340-348 ط الأوقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. والآيات واضحة الدلالة على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وتعيين الأفاكين في عدد قليل، هم العصبة، وتوجيه المسلمين إلى المنهج القويم، الذي يجب اتباعه في مثل هذه الحالات، مع ملاحظة أن إبطال الإفك كان في كلمة واحدة أطلقت على كل ما جرى مسمى "الإفك"، وبقية الآيات دروس تربوية وإيمانية لمجتمع يجب أن يدوم على خيريته وعظمته التي صنعها الإسلام، ويجب أن تستمر به. وأهم هذه الدروس ما يلي الدرس الأول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش شهرًا قبل نزول الآيات بالبراءة، والإشاعة الكاذبة تملأ الدنيا، والهمس يدور بين أهل المدينة جميعًا، وأخذ صلى الله عليه وسلم يبحث عن الحقيقة التي ترد هذا الزيف المتكاثر فاستبين آراء أصحابه، وسأل أسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب، كما سأل بريرة مولاته. وقد أجابه كل من سأله إجابة تؤكد علو مقام السيدة عائشة وطهارتها، ولم يزد أحد عن ذلك إلا عليًا رضي الله عنه فإنه حاول أن يسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبعده عن الحزن، فنصحه بالزواج، فالنساء كثير, حتى لا يتأثر بما يشاع مع تقديره لمقام عائشة رضي الله عنها.   1 سورة النور: الآيات من 11 إلى 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الدرس الثاني: إن حادثة الإفك قدر إلهي أراده الله تعالى لتحقيق الخير للمسلمين، به يعرفون عدوهم، ويعلمون المنافقين من بينهم، ولتبقى البراءة آيات قرآنية تعلي مكانة أم المؤمنين عائشة على الزمن كله. فإذا علم أن هذا الإفك أشيع بين الناس بعد غزوة الأحزاب، لظهر أنه كان جزءًا من مؤامرة شاملة خطط لها أعداء الإسلام وروجها المنافقون من أجل تقويض المجتمع الإسلامي، وتشويه صورة القيادة المحمدية. ومن هنا كان إثبات براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وظهور طهارة بيت النبوة في قرآن يتلى، ويبقى ثابتًا على طول الزمن من المبادئ الهامة التي لا بد منها لصيانة المجتمع من الشائعات، وبخاصة تلك التي تتصل بالريادة المؤمنة التي يتأسى بها سائر الناس ولتبق القيادة المسلمة في كل آن مثالا عاليًا للطهارة، والخلق الكريم. الدرس الثالث: في إطار الآيات التي تتحدث عن الإفك جاءت توجيهات تحدد أهمية تعاون المجتمع في رد البهتان والزيف، حتى لا يروجه البعض وهو لا يدري. فلا يصح في المجتمع المسلم أن ينتشر الإفك فيه وبخاصة ما يتعلق بالعرض والشرف، والواجب على كل من يسمع إفكًا أن لا يكرره، وعليه أن يستعيذ بالله منه، ولا يشيعه، تطبيقًا لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1. ولا يجوز في المجتمع المسلم أن يسمع أحد أفراده عن إخوانه أمرًا، ويصدقه بلا برهان يثبته، أو دليل يؤكده. ولا يصح لمسلم أن يضع نفسه فوق إخوانه، أو يتميز عنهم، وواجب على المسلم أن يقيس الأمر على نفسه وعلى أهله، وأن يضع نفسه مكان من دار الإفك   1 سورة الحجرات: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حولهم، فإن استبعد على نفسه ما يسمعه فمن الأولى أن يستبعده على غيره، وبخاصة من هم أفضل منه في الكرم، والخلق. يروي المؤرخون أن أبا أيوب خالد بن زيد قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقوله الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك1. الدرس الرابع: إن كرامة المجتمع المسلم يجب أن تصان من دعايات السور ولذلك نزلت الآيات لعظة المسلمين حتى لا يقعوا في مثل هذا الأمر مرة أخرى، ولا يكونوا فريسة تويجهات الشيطان من الإنس أو الجن التي تحاول جر المجتمع الإسلامي إلى الهاوية، وعلى المسلمين في مثل هذه المواقف أن لا يتعجلوا في الحكم، وأن لا يتحدثوا إلا بعد معرفة الحقيقة الصادقة، حتى لا يؤذوا أنفسهم، وغيرهم بجهالة ويصبحوا نادمين. إن من تسرع في الإفك، وخاض فيه بلا بينة أخطأ كثيرًا ويكفي لظهور خطأ هؤلاء أن نعلم أن صفوان بن المعطل كان حصورًا لا يأتي النساء2 ومع ذلك قيل ما قيل فيه!! الدرس الخامس: الله عليم بعباده محيط بأخبارهم وأحوالهم، ولذلك أنزل عقوبته على هؤلاء الأفاكين على قدر مساهمتهم في الإفك، وعذاب الله الأليم نازل بهم في الدنيا والآخرة. وأيضًا: فإن رحمة الله تلحق بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة فيقبل توبة المسيء، ويغفر لمن استغفر، ويزكي عباده الصالحين. والدرس الهام والأخير: هو بروز خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحليم، الرءوف، الرحيم، بالمؤمنين جميعًا،   1 سيرة النبي لابن هشام ج2 ص302. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وبخاصة بأمهات المؤمنين. فبرغم ما كان فيه من عناء يزلزل الجبال في أيام حادثة الإفك كان يسأل عن عائشة رضي الله عنها، ويطمئن عليها، ويقول لها: "كيف تيكم"؟. وستر عنها حديث الناس حتى لا تؤذى، ولم يرض بإثارتها، ومناقشتها، وكان يذكرها بالتوبة، والاستغفار إن كان وقع منها شيء ويستمر الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا شهرًا كاملا حتى تنزل عليه آيات البراءة، فيخبر عائشة رضي الله عنها، وهو صلى الله عليه وسلم أسعد منها بها. ويتحول جو الصمت، والحزن، في بيت النبوة إلى سرور، وفرح، وتنقلب المدينة كلها حديثًا عن طهارة أم المؤمنين عائشة وبراءتها مما أثير حولها. تقول أم رومان لعائشة: قومي اشكري رسول الله. فترد عائشة رضي الله عنها: إنما أشكر الله الذي برأني من فوق سبع سماوات1 وتستمر البراءة قرآنًا يحفظ في الصدور، ويتلى على الألسنة، شاهدًا على طهارة هذا البيت العظيم. هذا.. وقد وقعت حادثة الإفك أثناء الرجوع من غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة.   1 صحيح البخاري، كتاب المغازي باب حديث الإفك ج6 ص348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المبحث الثامن: أبناء النبي صلى الله عليه وسلم وهب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عددًا من الأبناء والبنات كلهم من خديجة رضي الله عنها ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية. وقد مات أبناء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ما عدا فاطمة رضي الله عنها فإنها توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر على الصحيح، وأبناؤه صلى الله عليه وسلم هم على ترتيب ميلادهم: الأول: القاسم رضي الله عنه وهو أول أبنائه مولدًا، وبه كان يكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادة العرب، وقد ولد القاسم، ومات بمكة قبل البعثة، وعاش سبعة عشر شهرًا فقط. الثانية: زينب رضي الله عنها وهي المولد الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكبر بناته، ولدت قبل النبوة في مكة، وتزوجت ابن خالتها أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس فهو ابن أخت خديجة رضي الله عنها، وأمه هالة بنت خويلد، وكانت خديجة تحبه لما كان يتميز به، فهو من رجال مكة المعدودين، مالا وأمانة وتجارة، وقد رغبت خديجة رضي الله عنها في تزويجه زينب، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجها له وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف طلبًا لخديجة وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي فزوجه، وكانت خديجة تعد أبا العاص بمنزلة ولدها، فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقته وشهدن أن ما جاء به الحق، ودن بدينه، وثبت أبو العاص على شركه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة، وعتيبة ابنا أبي لهب رقية وأم كلثوم فلما بادى قريشًا بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا للأزواج: إنكم قد فرغتم محمد من همه، فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فأطاعهم أبناء أبي لهب، فلما مشوا إلى أبي العاص وقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت، قال لهم: لا والله لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في مصاهرته خيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع، لبقائه على شركه، فقال رسول الله لزينب إنه لا يحل لك فأقامت معه على إسلامها، وهو على شركه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها معه، وكانت قد رزقت منه بولد سمته عليًا، وبنتًا أسمتها أمامة. وقد تأخر إسلام زوجها العاص، ووقع أسيرًا في يد المسلمين يوم بدر؛ لأنه كان في صف الكفار يومها، وفدت زينب زوجها بقلادة ذهبية، أهدتها لها أمها خديجة رضي الله عنها، يوم زواجها, فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة تذكر خديجة وابنته زينب رضي الله عنها، فرق قلبه ودمعت عيناه، فعفا عن أبي العاص، ومن عليه بالحرية، وأرسله إلى مكة، ومعه قلادة خديجة رضي الله عنها، واشترط عليه أن يسمح لزينب بالهجرة على أن يلحق بها إذا أسلم. يقول ابن إسحاق: كان في الأسرى يوم بدر أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة، وهو ابن أخت خديجة، وكانت تعده بمنزلة ولدها، فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه زينب وذلك قبل الإسلام، وكان رسول الله لا يخالفها فلما أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وآمنت به خديجة رضي الله عنها ودخلت بناته في الإسلام وصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق، ودن بدينه، وثبت أبو العاص على شركه، فمشت قريش إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة شئت. فقال: لا -هاء الله- إذا لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على صهره خيرًا. وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي العاص بن الربيع إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بينهما بالطلاق، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي مقيمة معه بمكة، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع، فأصيب في الأسارى يوم بدر، فلما بعث أهل مكة في فداء الأسرى، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص، وبعثت فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بقلادة لها كانت أمها خديجة قد أدخلتها بها على أبي العاص حين تزوجها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا". قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه العهد مشافهة، ووعده أبو العاص سرًا أن يخلي سبيل زينب إليه كما شرط عليه في إطلاقه فلما خرج أبو العاص إلى مكة، وخلى سبيله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار وقال لهما: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحبانها فتأتياني بها". فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو نحوه فلما قدم أبو العاص مكة أمر زينب باللحوق بأبيها، فخرجت جهرة فتحدث بذلك رجال من قريش وكبر عليهم أن تخرج زينب علانية فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى، فروعها بالرمح وهي في هودجها، وكانت حاملا فلما ريعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها "أخو زوجها" كنانة، ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا، وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا، أن ذلك على ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثأر، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس أن قد رددناها، فسلها سرًا، وألحقها بأبيها، ففعل، فأقامت ليالي، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ولما أسلم أبو العاص وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة رد زينب إليه بنكاحها الأول   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص654. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكان إسلام أبي العاص وهجرته رضي الله عنه سنة ست، يروى ابن سعد ذلك فيقول: خرج أبو العاص بن الربيع في عير إلى الشام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب فلقوا العير بناحية العيص في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة فأخذوها وما فيها من الأثقال وأسروا ناسًا ممن كان في العير منهم أبو العاص بن الربيع، فلم يعد أن جاء المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسحر وهي امرأته فاستجارها فأجارته، فلما صلى رسول الله الفجر قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها: إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت"؟. قالوا: نعم. قال: "فوالذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي سمعتم, المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم وقد أجرنا من أجارت". فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه ففعل، وأمرها أن لا يقربها فإنها لا تحل له ما دام مشركا، ورجع أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم أسلم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا مهاجرًا في المحرم سنة سبع من الهجرة فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بذلك النكاح الأول1. وقد ظلت زينب رضي الله عنها وجعة بسبب سقطها حتى لقيت ربها سنة ثمان من الهجرة، وقد صلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع رضي الله عنها2. الثالثة: رقية رضي الله عنها هي الثالثة في ترتيب أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، خطبها ابن عمها "عتبة بن أبي لهب" إلا أنه تخلى عنها، ولم يدخل بها، وطلقها بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزولا على رغبة أبيه أبي لهب، وأمه أم جميل، فتزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وولدت له ولدًا أسموه "عبد الله" مات صغيرًا.   1 الطبقات الكبرى ج8 ص33. 2 سيرة النبي ج1 ص654، 655. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وهاجرت رضي الله عنها مع زوجها عثمان رضي الله عنه إلى الحبشة الهجرة الأولى، وعادت معه إلى مكة ثم هاجرت إلى المدينة المنورة بعد هجرة رسول الله إليها ومرضت بعد الهجرة واستمرت مريضة حتى وافاها أجلها، عند رجوع المسلمين من غزوة بدر في رمضان سنة اثنين من الهجرة، وبسبب ذلك لم يشترك عثمان رضي الله عنه في بدر، وبقي مع زوجته رقية يمرضها، ويرعاها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم له سهمه، وأجره. وعند عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد "بدر" كان عثمان رضي الله عنه، راجعًا من البقيع بعد أن واراها مثواها الأخير رضي الله عنها1. الرابع: أم كلثوم رضي الله عنها خطبها ابن عمها "عتيبة بن أبي لهب" إلا أنه تخلى عنها، وتركها بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إرضاء لأبيه وأمه، هاجرت إلى المدينة مع أختها فاطمة رضي الله عنها، وعاشت مع أبيها في بيته، وبعد وفاة رقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة ولذلك عرف عثمان بن عفان بـ"ذي النورين" ولم تنجب منه، واستمرت في كنفه حتى ماتت رضي الله عنها سنة تسع من الهجرة، ودفنت بالبقيع2. الخامسة: فاطمة رضي الله عنها هي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم، وكان لها دور بارز في الهجرة النبوية، تزوجها علي بن أبي طالب بأمر من الله تعالى، وولدت له: الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم، وزينب، وهي من النساء الكاملات اللاتي أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خديجة رضي الله عنها إذا ولدت ولدًا دفعته إلى من يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم يرضعها غيرها، فحظيت بعناية أبيها وأمها منذ صغرها3. أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ولذلك توقف صلى الله عليه وسلم عن تزويجها لغيره من كبار الصحابة، بعدما ذكروها لأنفسهم، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال:   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب ما جاء في رقية ج9 ص347. 2 المرجع السابق باب ما جاء في أم كلثوم ج9 ص348. 3 الطبقات الكبرى ج8 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 يا أبا بكر ما يمنعك أن تتزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: لا يزوجني. قال عمر: إذا لم يزوجك، فمن يزوج، وإنك من أكرم الناس عليه، وأقدمهم في الإسلام. فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى بيت عائشة رضي الله عنها. فقال: يا عائشة إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس، وإقبالا عليك، فاذكري له أني ذكرت فاطمة، فلعل الله -عز وجل- أن ييسرها لي. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأت عائشة منه طيب نفس وإقبالا، فقالت: يا رسول الله إن أبا بكر ذكر فاطمة، وأمرني أن أذكرها. قال صلى الله عليه وسلم: حتى ينزل القضاء. فرجع إليها أبو بكر فقالت: يا أبتاه، وددت أني لم أذكر الذي ذكرت. فلقي أبو بكر عمر فذكر أبو بكر لعمر ما أخبرته عائشة. فانطلق عمر إلى حفصة، فقال: يا حفصة إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقبالا -يعني عليك- فاذكريني له واذكري فاطمة لعل الله أن ييسرها لي. فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، فرأت طيب نفس ورأت منه إقبالا، فذكرت له فاطمة رضي الله عنها. فقال صلى الله عليه وسلم: حتى ينزل القضاء. فانطلق عمر رضي الله عنه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ما يمنعك من فاطمة؟ فقال علي رضي الله عنه: أخشى أن لا يزوجني. قال عمر رضي الله عنه: فإن لم يزوجك فمن يزوج وأنت أقرب خلق الله إليه؟ فانطلق علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ولم يكن له مثل عائشة، ولا مثل حفصة، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أتزوج فاطمة. قال صلى الله عليه وسلم: "فافعل". قال علي: ما عندي إلا درعي الخطمية. قال صلى الله عليه وسلم: "فاجمع ما قدرت عليه وأتني به"، فأتى علي باثنتي عشرة أوقية، أربع مئة وثمانين درهمًا فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه فاطمة رضي الله عنها، فقبض ثلاث قبضات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فدفعها إلى أم أيمن وقال لها: "اجعلي منها قبضة في الطيب". أحسبه قال: "والباقي فيما يصلح المرأة من المتاع"، فلما فرغت أم أيمن من الجهاز، وأدخلتهم بيتًا قال صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تحدثن إلى أهلك شيئًا حتى آتيك". فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فاطمة متقنعة، وعلي قاعد، وأم أيمن في البيت، فقال: "يا أم أيمن ائتيني بقدح من ماء". فأتته بقعب فيه ماء، فشرب منه، ثم مج فيه، ثم ناوله فاطمة، فشربت، وأخذ منه فضرب جبينها، وبين كتفيها وصدرها. ثم دفعه إلى علي فقال: "يا علي اشرب". ثم أخذ منه فضرب به جبينه وبين كتفيه ثم قال: "أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرم تطهيرًا". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أيمن وقال: "يا علي أهلك" 1. وكان لفاطمة منزلة خاصة عند أبيها صلى الله عليه وسلم. يروي الترمذي بسنده عن بريدة أنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي2 يقول إبراهيم بن سعيد يقصد من أهل بيته. وعن عائشة رضي الله عنها: وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إليها، فقبلها، وأجلسها في مجلسه وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت له فقبلته، وأجلسته في مجلسها3. ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فأتت فاطمة أباها، غاضبة تقول له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكحًا ابنة أبي جهل4. فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ثم خطبهم. وقال: "إن فاطمة مني، وأني أتخوف أن تفتن في دينها"، ثم ذكر صهرًا له من بني عبد شمس، هو زوج زينب، فأثنى عليه في   1 الطبقات الكبرى ج8 ص19، 20. 2 سنن الترمذي ج5 ص698. 3 تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، باب ما جاء في فضل فاطمة ج10 ص253 وهو حديث حسن غريب. 4 صحيح مسلم بشرح النووي. فضائل فاطمة ج16 ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مصاهرته إياه1 وقال عنه: "حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحرم حلالا ولا أحلل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحد أبدًا" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن فاطمة بنت محمد مضغة مني، وإنما أكره أن يفتنوها" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "ابنتي مضغة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها" 4. فترك علي رضي الله عنه ما شرع فيه5. وقد بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها سيدة نساء العالمين، كما جاء في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا يا بنتي". ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسر إليها حديثًا، فبكت، ثم أسر إليها حديثًا، فضحكت. تقول عائشة: ما رأيت كاليوم أقرب فرحًا من حزن؟ فسألتها عما قال صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما كانت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره. تقول عائشة: فلما قبض صلى الله عليه وسلم سألتها. فأخبرتني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقًا بي، ونعم السلف أنا لك"، فبكيت لذلك. ثم إنه صلى الله عليه وسلم سارني فقال: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين"؟. فضحكت لذلك6.   1 صحيح مسلم بشرح النووي. فضائل فاطمة ج16 ص4. 2 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان باب تفضيل فاطمة ج6 ص279. 3 صحيح مسلم فضائل فاطمة ج16 ص3. 4 صحيح مسلم فضائل فاطمة ج16 ص4. 5 ترجع معارضة النبي صلى الله عليه وسلم لزواج علي رضي الله عنه على ابنته فاطمة لتأذيه من ذلك، والمسلم مأمور بعدم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا فإن رسول الله خاف على فاطمة من الفتنة بسبب الغيرة، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشترط على علي حين زواجه بعدم الزواج على فاطمة، ولعل في إعلان النبي صلى الله عليه وسلم معارضته على المنبر ليتعلم الناس كيفية التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم فعل شيء يؤذيه ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: "وإني لست أحرم حلالا أو أحل حرامًا أن عليًا لو تزوج لجاز". 6 صحيح مسلم بشرح النووي. فضائل فاطمة ج16 ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فلما كان في الركعة الرابعة أقبل الحسن والحسين، حتى ركبا على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم وضعهما بين يديه وأقبل الحسن فحمل رسول الله الحسن على عاتقه الأيمن والحسين على عاتقه الأيسر ثم قال: "أيها الناس ألا أخبركم بخير الناس جدًا وجدة؟ ألا أخبركم بخير الناس عمًا وعمة؟ ألا أخبركم بخير الناس خالا وخالة؟ ألا أخبركم بخير الناس أبًا وأمًا؟ هما الحسن والحسين، جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدتهما خديجة بنت خويلد، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وخالهما القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالاتهما زينب، ورقية، وأم كلثوم، بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. جدهما في الجنة، وأبوهما في الجنة، وأمهما في الجنة، وعمهما في الجنة، وعمتهما في الجنة، وخالاتهما في الجنة، وهما في الجنة، ومن أحبهما في الجنة" 1. وقد عاشت فاطمة رضي الله عنه في كنف زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى لقيت ربها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، ودفنت بالبقيع. السادس: عبد الله رضي الله عنه ولد عبد الله في مكة بعد البعثة، وهو أول أبنائه الذكور الذين ولدوا بعد ظهور الإسلام، سماه النبي صلى الله عليه وسلم باسم أبيه عبد الله، وكناه بالطاهر، والطيب، والمطهر، والمطيب، وقد سمي، وكني بذلك لأنه ولد بعد النبوة. ونظرًا لكثرة أسماء عبد الله، وجدنا من يقول: إن هذه الأسماء لأولاد آخرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها، حتى تصور أحدهم أن خديجة رضي الله عنها ولدت مرتين توأمًا ففي المرة الأولى ولدت الطيب، والمطيب، وفي المرة الثانية ولدت الطاهر، والمطهر2.   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص295. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ج9 ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 إلا أن هذه أقوال غير مشهورة، ولم يجمع عليها، والمجمع عليه أنه صلى الله عليه وسلم أنجب عبد الله بعد البعثة وقد مات صغيرًا في مكة بعد أخيه القاسم بوقت قصير، ودفن بالحجون. السابع: إبراهيم رضي الله عنه ولد إبراهيم بالمدينة في شهر ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة, وهو الوحيد من غير خديجة، فأمه مارية القبطية، وأخواله مصريون. وقد عق عنه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم سبوعه، وتوفي وعمره ستة عشر شهرًا في ربيع1 الأول سنة عشر، ودفن بالبقيع بعد أن صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد سر النبي صلى الله عليه وسلم بولادة إبراهيم، وسماه باسم جده إبراهيم عليه السلام، ودفعه إلى ظئر ترضعه، وحزن لموته كذلك2. يروي الإمام مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم". ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين يقال له أبو سيف، فانطلق يأتيه، واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف، وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف، أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه وقال: ما شاء الله أن يقول. يقول أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون" 3. وقد حدث أن انكسفت الشمس يوم موت إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته" 4. وقد ظهر حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولاده، وحسن رعايته لهم، ولذلك أنزل   1 صحيح مسلم بشرح النووي، باب رحمته صلى الله عليه وسلم ج5 ص174 الشعب. 2 المرجع السابق ج5 ص172. 3 صحيح مسلم بشرح النووي ج5 ص172 ط الشعب. 4 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب فضل إبراهيم ج9 ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 خديجة رضي الله عنها منزلة، تليق بها، حيث رزقه الله منها الولد. وحينما غارت عائشة رضي الله عنها من كثرة ذكر النبي لخديجة رضي الله عنها وقالت: هل كانت إلا امرأة عجوزًا رزقك الله خير منها قال لها: "ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد ولم أرزق من أحد سواها" 1. وكان صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال عمومًا، ويحسن إليهم ويرق لهم. وقد رأينا ما كان منه صلى الله عليه وسلم مع أولاده جميعًا، وكان يحبهن، ويحب أبناءهن كحبه لهن. يروي مسلم أن الناس كانوا إذا رأوا أول الثمر، جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا". ثم يدعو أصغر وليد له، فيعطيه ذلك الثمر2.   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص361. 2 صحيح مسلم بشرح النووي. باب فضل المدينة ج9 ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة أولا: أكله ... المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوة المسلمين على الزمن كله، وطريق الناس لتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وكافة أنشطته تشريع متبع إلا ما بين أنه خاص به صلى الله عليه وسلم. ولذلك كانت الحاجة إلى تحديد ملامح حياته الشخصية صلى الله عليه وسلم إبرازًا لسيرته رضي الله عنه وتحديدًا لمعالم الصورة الإسلامية التي يتمناها كل مخلص، تنفيذًا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1. ومن صور حياته الشخصية نذكر ما يلي: أولا: أكله صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم يبدأ طعامه بالتسمية، ويأكل بيمينه، ويأكل مما يليه، وكان يعلم ذلك من يأكل معه، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه قال: كنت غلامًا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، فما زالت تلك طعمتي بعد2. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال, وكثرة السؤال، وإضاعة المال" 3. وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعي لطعام أجاب فإذا انتهى من الطعام قال: "أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة الأطهار وذكركم الله فيمن عنده" 4.   1 سورة الأحزاب: 21. 2 صحيح مسلم, كتاب الأشربة باب آداب الطعام ج4 ص705 الشعب. 3 صحيح مسلم بشرح النووي. ك إجابة الدعوة ج3 ص703 الشعب. 4 صحيح مسلم بشرح النووي إجابة الدعوة ج3 ص601. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عند سعد بن عبادة ثم قال: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" 1. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحبس نفسه على نوع واحد من الأغذية، وكان لا يجمع بين حارين، ولا باردين، ولا سهلين، ولا قابضين، ولا غليظين، ولم يأكل طعامًا قط في حال شدة حرارته، ولا شيئًا من الأطعمة العفنة2. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يملأ بطنه بالطعام، وينصح أصحابه بذلك، ويقول لهم صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" 3. وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض4. يقول أنس بن مالك: ما أكل نبي الله صلى الله عليه وسلم على خوان، ولا سكرجة، ولا خبز مرقق، فقلت لقتادة: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السفر؟ 5. وكان صلى الله عليه وسلم يأكل التمر وترًا، وكان لا يجمع بين التمر والنوى في طبق واحد، ولا يجمع النوى في كفه، بل يسقط النوى على ظهر كفه ثم يلقيها، وأحيانًا كان يرفع النوى، بأصبعيه ثم يلقيها6. وكان صلى الله عليه وسلم يحب أكل التمر بعد غليه بالسمن، وخلطه باللبن، وهو المعروف بـ"الحيس"، وكان هو الطعام الذي صنعه يوم بنى بـ"صفية بنت حيي". وكان صلى الله عليه وسلم يحب الزبد بالتمر7.   1 سنن أبي داود. كتاب الأطعمة باب ما يقول الرجل إذا طعم ج2 ص330. 2 زاد المعاد ج1 ص147. 3 سنن الترمذي كتاب الزهد باب كراهية كثرة الأكل ج4 ص590. 4 زاد المعاد ج1 ص147. 5 صحيح البخاري بشرح فتح الباري. كتاب الأطعمة ج9 ص530, الخوان: المرتقع المعد للأكل مثل الخوان "الترابيرة" والسكرجة أوان معدة للمشهيات، والسفر ما يمد ويبسط على الأرض، كالمفرش وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم. 6 صحيح مسلم بشرح النووي. ك الأطعمة. ب وضع النووي ج4 ص734 الشعب. 7 صحيح مسلم بشرح النووي. كتاب الأطعمة. باب وضع النووي ج4 ص734. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وكان رضي الله عنه يأكل البطيخ بالرطب، ويأكل القثاء بالرطب كذلك1. وكان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل2. وكان صلى الله عليه وسلم يأكل زيت الزيتون، ويحث عليه، ويقول: كلوا الزيت، وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة. وكان يأكل الدجاج، ويحب الدباء3 وهو القرع ويسمى اليقطين، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الثريد، ويفضله على سائر الطعام، كما يفهم من ثنائه على أم المؤمنين عائشة يقول صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 4. والثريد خبز مبلل بمرق، وعليه اللحم، وهو الذي يعرف بـ"الفتة". وكان صلى الله عليه وسلم يكتفي بالطعام القليل، ولم يكن همه الأكل والشبع. وكان صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة خاويًا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم الشعير. عن عروة عن عائشة أنها كانت تقول: والله يابن أخي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قلت يا خالة: فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر، والماء. إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم، فيسقيناه5. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل عليه السلام على الصفا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفه من دقيق، ولا كف من سويق". فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته   1 صحيح البخاري كتاب الأطعمة باب أكل الرطب بالقثاء ج9 ص564. 2 صحيح البخاري كتاب الأطعمة باب الحلواء والعسل ج9 ص36. 3 صحيح البخاري ك الأطعمة باب الدباء ج9 ص37. 4 صحيح مسلم بشرح النووي كتاب فضائل عائشة ج5 ص302 الشعب. 5 صحيح البخاري كتاب الرقاق باب عيسى النبي وأصحابه ج10 ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أمر الله القيامة أن تقوم"؟. قال جبريل: لا، ولكن أمر إسرافيل، فنزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك أن تكون جبال تهامة زمردًا، وياقوتًا، وذهبًا، وفضة، فإن شئت نبيًا ملكًا وإن شئت نبيًا عبدًا، فأومأ إليه جبريل أن تواضع. فقال صلى الله عليه وسلم: "بل نبيًا عبدًا ... ثلاثًا" 1. وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع الطعام من بين يديه يقول: "الحمد لله حمدًا كثيرًا، طيبًا، مباركًا، غير مكفي، ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا عز وجل". وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا فرغ من طعامه: "اللهم لك الحمد، أطعمت وسقيت، وأشبعت ورويت، فلك الحمد" 2. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، من علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد الله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد لله رب العالمين". وربما قال: "الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه" 3. ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها" 4. ولم يعب صلى الله عليه وسلم طعامًا قط إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه5.   1 منتقى النقول ص402. 2 بغية الرائد ج5 ص30. 3 زاد المعاد ج1 ص148، 149. 4 سنن الترمذي باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه ج4 ص265. 5 صحيح البخاري كتاب الأطعمة باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا ج9 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثانيًا: شرابه صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الشرب على الطعام، وكان يشرب العسل الممزوج بالماء، تقول عائشة رضي الله عنها: كان أحب شراب النبي صلى الله عليه وسلم الحلو البارد1, وكان الصحابة يأتون بالماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر عرس مرة، ومن السقيا مرة. وكان صلى الله عليه وسلم يشرب اللبن ويقول: "اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه" 2. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول: "إنه أبرأ، وأروى، وأمرأ" 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب واقفًا، وقاعدًا، يقول ميسرة: رأيت عليًا يشرب قائمًا، فقلت له: أتشرب قائمًا؟ فقال: إن شربت قائمًا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائمًا، وإن شربت قاعدًا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قاعدًا4. هذا وقد روى مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائمًا5 وقد تصور البعض من هذا النهي حرمة الشرب قائمًا، وهذا تصور مردود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائمًا، وقاعدًا، وهذا يدل على الجواز؛ لأنه فعله لبيان الجواز، وأقصى ما يفيده النهي أنه خلاف الأولى.   1 سنن الترمذي باب أي الشراب كان أحب إلى رسول الله ج4 ص307. 2 سنن أبي داود ج2 ص304. 3 صحيح مسلم ك الأشربة ج4 ص711 الشعب. 4 سنن أبي داود باب في الشرب قائمًا ج2 ص302 ط الحلبي. 5 صحيح البخاري كتاب الأشربة باب الشرب قائمًا ج9 ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ثالثًا: نومه صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم ينام، إذا دعته الحاجة إلى النوم، ينام على شقه الأيمن، ذاكرًا الله حتى تغلبه عيناه، وكان يضطجع على الوسادة، ويضع يده تحت خده أحيانًا. وكان صلى الله عليه وسلم ينام بعينه ولا ينام قلبه1.   1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج8 ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ومن تدبر صفة نومه ويقظته صلى الله عليه وسلم وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن، فإنه كان ينام على الفراش تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة، وكان له بساط ينام عليه بعد أن يثنيه ثنيتين، وكانت وسادته جلدًا حشوها ليف، وإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ النصف الثاني لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} . فيحمد الله تعالى ويكبره، ويدعوه، ويستاك، ثم يقوم إلى وضوءه، ثم يقف للصلاة بين يدي ربه عز وجل خاشعًا، راهبًا، متدبرًا. وقد حدد الله عز وجل أوقات النوم في اليوم والليلة التي يجب فيها الاستئذان إذ قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم النوم وقت القيلولة2. - عن أنس رضي الله عنه قال: إن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعًا3 فيقيل عندها على ذلك النطع4. - وعن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" 5. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك يخبرنا بأن هذا وقت لا تهدأ فيه الشياطين، بل تزداد ثورة في وقت الظهيرة، لأنها خلقت من نار السموم، فمن المستحب أن ننام، ونريح جسدنا في وقت القيلولة، حتى نستعد لقيام الليل، وكان هذا دأبه، وعمله، صلى الله عليه وسلم حتى   1 سورة النور: 58. 2 القيلولة: وقت الظهيرة. 3 نطعًا: بساط من الجلد. 4 صحيح مسلم بشرح النووي. ك الفضائل ج5 ص184 الشعب. 5 قال الألباني في الجامع: رواه الطبراني وأبو نعيم بسند حسن. حديث رقم 4431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لقي ربه، وكان صلى الله عليه وسلم ينام غالبًا على قفاه. - يقول الشافعي رضي الله عنه: النوم على أربعة أنحاء: نوم على القفا، وهو نوم الأنبياء عليهم السلام، يتفكرون في خلق السماوات والأرض ونوم على اليمين وهو نوم العلماء والعباد. ونوم على الشمال وهو نوم الملوك ليهضم طعامهم. ونوم على الوجه وهو نوم الشياطين. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام الرجل على وجهه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل مضطجع على بطنه، فقال: "هذه ضجعة لا يحبها الله عز وجل" 1. - وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة2. ورؤي النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيًا على ظهره واضعًا إحدى رجليه على الأخرى3. وفي ذلك إباحة الاستلقاء على الظهر ووضع إحدى الرجلين على الأخرى للراحة، ولكن هذه ليست نومة النبي صلى الله عليه وسلم المستديمة ولكنه صلى الله عليه وسلم نام بها، ويمكن فعلها في أوقات الراحة، وفي غيرها لمن أراد بعدما أباحها صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قبل نومه. - عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال: "اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" 4. قال النووي في زاد المعاد:   1 سنن الترمذي باب ما جاء في كراهية الاضطجاع على البطن ج5 ص97. 2 صحيح البخاري كتاب الأذان باب من انتظر الإقامة ج2 ص14. 3 صحيح البخاري كتاب الصلاة باب الاستلقاء في المسجد ج1 ص317. 4 صحيح البخاري كتاب الدعوات ج10 ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 معنى وضع رأسه على كفه، أي: وضع راحته مع أصابعه اليمنى تحت شقه الأيمن من وجهه، فالكف للراحة مع الأصابع، وسميت به لأنها تكف الأذى عن البدن وتريح صاحبها لوضعها تحت خده الأيمن. - عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضطجعه من الليل قال: "اللهم باسمك أموت وأحيا". فإذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 1. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه يقول: "اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك, وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت" 2. - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما، وقرأ فيهما سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وسورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . وسورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه، ووجهه، وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات3. - عن جبلة بن حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك" 4. - عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "باسمك اللهم   1 صحيح البخاري كتاب الدعوات باب وضع اليد تحت الخد اليمنى ج10 ص87. 2 صحيح البخاري كتاب الدعوات باب ما يقول إذا نام ج1 ص88. 3 سنن الترمذي باب ما يقرأ من القرآن عند المنام ج5 ص473 والحديث حسن صحيح غريب. 4 المرجع السابق ج5 ص474. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أموت وأحيا"، وإذا قام من نومه، قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" 1. - عن سهيل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام، أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة، والإنجيل، والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق, والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله غيرك" 3.   1 صحيح البخاري كتاب الدعوات ج10 ص87. 2 صحيح مسلم كتاب الدعاء ج17 ص35. 3 صحيح البخاري كتاب الدعوات باب الدعاء بالليل ج10 ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 رابعًا: سماحته صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوب مع جلسائه، ويتساهل معهم، ويشاركهم الحال والقال، فإذا تحدثوا بأمر شاركهم في حديثهم ما لم يكن إثمًا. فعن خارجة بن زيد رضي الله عنه أن نفرًا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا: حدثنا ببعض حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: وما أحدثكم؟ كنت جاره صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّفآتيه، فأكتب الوحي، فكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، كل هذا أحدثكم عنه صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشعر وأشياء من أمورهم في الجاهلية فيضحكون، وربما تبسم معهم1. وروى مسلم عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال جابر: نعم كثيرًا! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون، ويبتسم صلى الله عليه وسلم2. يقول عبد الله بن زيد: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم3. ويقول عبد الله بن الحارث: ما كان ضحك رسول الله إلا تبسمًا4. وكان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه، لإدخال السرور عليهم، ليباسطهم، وليهتدوا بهديه، ويتخلقوا بخلقه، فلو أنه صلى الله عليه وسلم ترك الطلاقة مع أصحابه، والمباسطة معهم، ولزم العبوس، والانقباض، لألزم الصحابة أنفسهم بذلك، وكذلك التابعون من بعدهم، فمزح صلى الله عليه وسلم ليمزحوا، ولكنه صلى الله عليه وسلم بين لهم أنه لا يقول في مزاحه إلا حقا، فلا يأتي بباطل ولا بعبث أو بلعب. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا -أي ليلاطفنا ويمازحنا- حتى يقول لأخ لي: "يا أبا عمير ما فعل النغير"5. يروي الإمام أحمد بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رجلً من أهل البادية كان اسمه   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ج8 ص578. 2 صحيح مسلم بشرح النووي. ك الفضائل. باب تبسمه صلى الله عليه وسلم ج15 ص176. 3 سنن الترمذي باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص601 والحديث حسن غريب. 4 سنن الترمذي باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم ج5 ص601. 5 سنن الترمذي باب في المزاح ج4 ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى البادية إثابة على هداياه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، ويداعبه، ويقول: "إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه". وكان زاهر رجلا دميما، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره. فقال زاهر: من هذا؟ أرسلني!! فالتفت زاهر فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يشتري هذا العبد"؟. فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكنك عند الله لست بكاسد أنت عند الله غال" 1. ومن جملة ما ورد في مزاحه صلى الله عليه وسلم، ما ورد عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله -أي يطلب منه دابة- فقال له صلى الله عليه وسلم: "إني حاملك على ولد الناقة". فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصنع بولد الناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يلد الإبل إلا النوق"؟ 2. وجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم احملني على بعير. فقال صلى الله عليه وسلم: "احملها على ابن بعير". فقالت: ما أصنع به؟ وما يحملني يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يجيء بعير إلا ابن بعير". وروى ابن بكار عن زيد بن أسلم أن امرأة يقال لها أم أيمن الحبشية، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك. فقال: "من هو؟ أهو الذي بعينيه بياض". فقالت: ما بعينيه بياض.   1 الفتح الربابي لتحقيق مسند الإمام أحمد الشيباني ج22 ص239. 2 سنن الترمذي باب في المزاح ج4 ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى بعينيه بياض". فقالت: لا والله. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد إلا بعينيه بياض". يريد البياض المحيط بالحدقة. ومن ذلك ممازحته للمرأة العجوز التي جاءته ترغب في الجنة، يروي الترمذي بسنده عن الحسن البصري رضي الله عنه قال: أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز". فولت وهي تبكي. فقال صلى الله عليه وسلم: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز" 1. والله تعالى يقول {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} 2. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يبتسم في وجوه أصحابه حين يلقاهم، وفي حديثه إليهم، تلطفًا بهم، ومؤانسة لهم. يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم3. وروى الترمذي وغيره عن هند بن أبي هالة في حديثه يصف النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: جل ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحك ضحكًا حسنًا، كاشفًا عن سن مثل حب الغمام -وهو البرد- في البياض والصفاء والبريق4. وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسمًا وكان صلى الله عليه وسلم يضحك أحيانًا حتى تبدو نواجذه5.   1 سنن الترمذي. 2 سورة الواقعة: 35-37. 3 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج8 ص78. 4 سنن الترمذي. 5 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج8 ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا، رجل يخرج منها زحفًا، فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، فيذهب ليدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم. فيقال له: تمن. قال: فيتمنى، فيقال له: فإن لك ما تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا. فيقول: أتسخر بي وأنت الملك"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه" 1. وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، يؤتي برجل فيقول: سلوا عن صغار ذنوبه واخبئوا كبارها، فيقال له: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هاهنا". يقول أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه2. وأخرج الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها، أن أبا بكر رضي الله عنه خرج إلى بصرى ومعه النعيمان وسويبط بن حرملة رضي الله عنهما وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فقال له النعيمان: أطعمني. فقال سويبط: حتى يجيء أبو بكر. وكان النعيمان ضحاكًا، مزاحًا، فذهب إلى أناس جلبوا ظهرًا -أي إبلا- فقال لهم النعيمان: أتبتاعون -أي تشترون- مني غلامًا -أي عبدًا- عربيًا فتيًا، فارهًا؟   1 سنن الترمذي كتاب صفة جهنم ج 4 ص712. 2 سنن الترمذي كتاب صفة جهنم ج 4 ص713. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قالوا: نعم. قال: إنه ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك، فدعوني لا تفسدوه علي. فقالوا: بل نبتاعه، فابتاعوه بعشر قلائص -أي نوق شابة- فأقبل ليسوقها وقال لهم: دونكم هو هذا. فقال سويبط: هو -أي النعيمان- كاذب، أنا رجل حر. فقالوا قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته، فذهبوا به فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم، فردوا القلائص وأخذوه، ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك هو وأصحابه حولا أي كلما تذكروا هذه الفعلة1. ومن ذلك ضحكه صلى الله عليه وسلم من الأمر العجيب يبلغه. روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سلمى امرأة أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي رافع وقالت: إنه ليضربني. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك وما لها"؟. قال: تؤذيني يا رسول الله. قال: "بما آذيتيه يا سلمى"؟. قالت: ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم ريح أن يتوضأ, فقام يضربني, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: "يا أبا رافع لم تأمرك إلا بخير" 2. وسئل ابن عمر رضي الله عنه: هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ فقال: نعم وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال. وقد صنع خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ترابطًا معهم تميز بالحب والتقدير.   1 مسند أحمد. 2 مسند أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 والتعظيم، وكانوا رضوان الله عليهم كالفراش يتجمع حول النور تعلقًا وعشقًا. إن هذا الحب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نابع من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم الذي أودع في قلوبهم توقير صاحب الرسالة التي أخرجتهم من الظلمات إلى النور, فأقروا بما له صلى الله عليه وسلم من فضل عليهم. يؤكد هذا الحب كريم خلقه صلى الله عليه وسلم وعظمته، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالحب أن يجمع القلوب من حوله، وإن يملأها بالصدق, ولو كان بغير هذا الخلق لانفضوا من حوله يقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1. لقد رأينا كثيرًا من الرؤساء والملوك تنهال عليهم الأسنة، وتنالهم الأقلام ويتعرضون لحملات ضاربة من النقد والتجريح، والاتهام والإشاعات، بمجرد بعدهم عن سلطانهم وانتقال القوة إلى غيرهم وذلك لأنهم لم يعملوا بالإقناع والحب ولم ينشروا بين الناس قيم العدل والتسامح والتكريم، وإنما اغتروا بالقوة والجاه، وأهملوا حقوق الناس، ولجئوا إلى البطش والإرهاب، فلما ذهبوا ذهب كل شيء معهم. أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد ملأ الدنيا بالخير، وأقنع العقول بالحق، وفاض خلقه على الناس فتعلموا بالسماحة، والرضى، والحب، والكرم ودخلوا في الإسلام راضين وسعداء، ويكفي ما في قلوب الملايين من أتباعه صلى الله عليه وسلم من حب صادق، وإخلاص كبير.   1 سورة آل عمران: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المبحث العاشر: قيامه صلى الله عليه وسلم بمهام الرسالة بجانب أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله وأولاده وأصحابه، نراه صلى الله عليه وسلم يعيش حياته كلها لدين الله تعالى، متوكلا على الله سبحانه وتعالى في كل أعماله. فلقد عاش صلى الله عليه وسلم، قائدًا للجماعة، ومبلغًا للرسالة، ومجاهدًا في سبيل الله تعالى، ومصدر الفتوى والتعليم للأمة كلها، ولا غرابة في هذا فلقد أدى صلى الله عليه وسلم بذلك الأمانة وبلغ الرسالة، وجاهد في الله حق الجهاد، واستمر على ذلك حتى تمت النعمة، وكمل الدين، وأصبح الإسلام دين العالمين. لقد كان صلى الله عليه وسلم حركة دائمة في كل حياته بعد الهجرة كما كان قبلها، ولقد أنجز في وقت قصير ما كان يحتاج لمدة طويلة، فهيأ للمهاجرين معيشتهم، وربط المسلمين جميعًا برباط الحب، والمودة، والتآلف. ونظم الحياة الاجتماعية لمواطني المدينة مسلمين وغير مسلمين، وحدد لكل طائفة ما لها وما عليها، واستسلم الجميع لحكم الله تعالى، وارتضوا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم فيهم. أقام النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي ليجتمع المسلمون فيه للعبادة، ولأداء كافة الأنشطة التي لا بد منها للحركة بالدعوة إلى الله تعالى، من تعليم وتنظيم، وإعداد ... إلخ. وأخذ الوحي ينزل عليه بكافة التشريعات الدينية، ويوضح أمامه الأخلاق النبيلة وأصبح المسلمون بما تمتعوا به قوة وضاءة في أفق الحياة، تعمل الخير وتنشره بين الناس، وتواصل الدعوة إلى دين الله تعالى. وتتابع نزول القرآن الكريم تبعًا للأحداث والوقائع والمناسبات, وتربية لأمة أراد الله لها أن تكون خير ما أخرج للناس. وكان صلى الله عليه وسلم يتابع الناس بالتوجيه والإرشاد، ويبين لهم الوحي، ويوجههم به حتى كمل الدين، وتم نزول القرآن وتعاظمت السنة خلال المرحلة المدنية. وكان من الواضح أن الإسلام أخذ يزداد أتباعه كل يوم، وصارت حقيقته بادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 أما غير المسلمين ... الأمر الذي أدى إلى زيادة حقد القرشيين على المسلمين في المدينة. ولم يكن عجبًا أن يبدأ العدوان القرشي على المسلمين بعد نجاح الهجرة، الأمر الذي أدى إلى بدء الجهاد القتالي ضد أعداء الإسلام واستمرت الحركة بالدعوة حتى تم الإسلام، وكمل الدين، ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1. لم تكن مدة الرسالة المدنية طويلة لكنها رغم قصرها امتلأت بالحوادث العديدة، والمواقف الشاقة، والمواجهات المتنوعة، حتى أن العقل يندهش حين ينظر في المرحلة المدنية، ويرى ما حدث فيها. لقد استمرت المرحلة المدنية عشر سنوات بدأت بالهجرة وانتهت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلالها عاش المسلمون بالإسلام, وتحركوا به في العالمين. لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذه السنوات العشر بكل ما كلف به على خير وجه أراده الله تعالى. تلقى القرآن الكريم من جبريل عليه السلام ونقله كما تلقاه إلى أصحابه الذين اهتموا به حفظًا وفهمًا واتباعًا. وبين لهم بسنته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم حتى صار الإسلام معلومًا، مفصلا، كاملا، شاملا. وربى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة على منهج الله تعالى، وبطريقة تتلاءم مع الواقع، وتلتقي مع الخصائص البشرية للإنسان. وحول صلى الله عليه وسلم معايب الجاهلية إلى محاسن دينية بعد أن تسامى بها، وهذب حركتها وطهر غايتها، وضبط حركتها ووجهتها بتعاليم الله حتى صارت عونًا للمحتاج، وانتصارًا للعدل، والحرية، والكرامة. وعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، فقاموا بما عليهم، ونالوا ما لهم حتى ظهرت أمة الإسلام بحضارتها تباهي الدنيا بحقيقتها الرائعة التي حافظت على حقوق الفقراء والضعفاء   1 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قبل الأغنياء والأقوياء وأنصفت أصحاب الحقوق من المعتدين، وحررت مسارات الحياة من أي غلو، أو عدوان، أو إهمال، أو تفريط. إن أمة الإسلام التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي النموذج الأسوة فقد بلغت الأوج وتميزت بكرم الخلق، وحسن المعاملة ونبل الهدف, مع التخلص التام من عنصرية الجاهلية، وعدوانية الظلم والضلال، والبعد المطلق عن الأنانية، والأثرة، والكبرياء والتعالي. لقد حققت أمة الإسلام في مدة وجيزة ما يعجز عن تحقيقه الآخرون في مئات السنين. لقد أوجدت على أرض الواقع العدل العام، وأسست قوة الخير والسلام، وحققت عمليًا التوازن الدقيق بين المسئولية والجزاء، والتناغم الجميل بين الحقوق والواجبات، كل ذلك وغيره بتعاليم الله تعالى التي قدمت الإسلام هدية لإسعاد العالمين. لقد شهد الواقع بما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دخل الناس في الإسلام، وزالت دولة الفرس والروم، ولم يتمكن أحد من الأعداء أن يتهم محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه ظلم إنسانًا، أو ضيع حقوقًا، أو هان ضعيفًا، أو فرط في إصلاح. لقد حرك صلى الله عليه وسلم أناسًا نائمين، ووضع في قلوبهم سر الحركة والنشاط، حتى صنع منهم الأمة الإسلامية العظيمة التي تصون حقوق رعاياها، وتحسن تعاملها مع غيرها. والمسلمون اليوم عليهم أن يعودوا للسيرة الذاتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتشبهوا بها، ويقتدوا بمسلكها لأن هذا الاقتداء واجب شرعًا، وبخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه صناعة ربانية فقد نشأ وتربى، وعاش كسائر البشر. رأيناه صلى الله عليه وسلم يتيمًا، فقيرًا، عالة ... وشاهدناه يتاجر ويعمل للناس راعيًا. ووقفنا على حياته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته وأبنائه، وإخوانه, وعلمنا كيف نومه وأكله وشربه, كل ذلك عشناه معه وتأكدنا من صدق روايته مما يؤكد أن الاتباع والاقتداء أمر سهل ممكن لمن أراد أن يكون إنسانًا كاملا يعمل للدنيا وللآخرة معًا, يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1.   1 سورة الأحزاب: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الفصل الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المدينة المنورة مدخل ... الفصل الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المدينة المنورة تمهيد: تمت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بأمر الله تعالى، وبذلك بدأت مرحلة جديدة مع الدعوة إلى الله تعالى، تتميز بخصائصها، ومفاهيمها، وأهميتها وتختلف عن المرحلة المكية بصورة كلية، وصار الأمر فيها مهيأ لانطلاقة الإسلام إلى العالم كله، بصورة عملية دائمة. ولم يعد الصراع بين مجتمع واسع وبين أفراد قلائل فيه، كما كان الحال في مكة وإنما تحول إلى صراع بين مجتمع ومجتمع آخر يعادله، ويتفوق عليه بالإيمان الحق، وتتبع الصراط المستقيم. وقد وصلت الدعوة الإسلامية نظريًا إلى العالم كله، خلال المرحلة المكية ومعها وصلت أخبار ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار مكة من عداوة وصراع، وهذا جعل الناس ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث بعد الهجرة، وما ينتهي إليه الصراع بين أهل مكة وأهل المدينة. وأخذ أبناء الجزيرة على الخصوص ينتظرون نتيجة هذا الصراع، ليتخذوا قرارهم بعد أن تهدأ العاصفة، ويستقر البركان. وأراد الله تعالى أن ينتصر دينه بمفهوم البشر وسننهم، ليشعر المؤمنون بمسئوليتهم تجاه الإسلام، ويقوم المسلمون بالواجب المنوط بهم في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وليعلم سائر الناس أن الإسلام قوي بما فيه من تعاليم، وإرشاد، وأن الإيمان أساسه الاقتناع والرضى، وأن الاستفادة بالإسلام تحتاج إلى الاستقامة والطاعة والانقياد والتسليم وخلوص العبودية لله رب العالمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه خير أمة أخرجت للناس في الفهم والتطبيق والصدق والإخلاص فاستقاموا على الطريقة الحقة، وجاهدوا في الله حق الجهاد، وجعلوا كل أمانيهم إرضاء الله ورسوله، ولم يبالوا بأي أذى ينالهم، أو بأي ضرر ينزل بهم ما داموا على المنهج القويم الذي ارتضاه الله للناس. لقد تمتعت هذه الجماعة بالإسلام في المدينة، وحولت الفكرة المجردة إلى عمل واقعي، وجعلت المبادئ حركة ناصعة تخاطب العقل، وتتراءى للعين، ويلمسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بوضوح كل من شاهد صحابيًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد تحولوا رضوان الله عليهم إلى عباد ربانيين، يعيشون لله حياتهم كلها. لقد تمكن المسلمون خلال العهد المدني بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسكات صوت الباطل، وقهر قوته، وإيصال الدعوة إلى العالم كله، بعدما أزاحوا رموز الفساد وطواغيت الدنيا، وجابوا العالم كله دعاة يحملون رسالة الله، ويجاهدون في سبيله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وينشرون الخير بين الناس أجمعين. وفي هذا الفصل سنعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحرك بدعوة الله، بصور عديدة، وأنواع كثيرة، ومعه كان أصحابه رضي الله عنهم. وسيأتي هذا الفصل مكونًا من المباحث التالية: المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي. المبحث الثاني: تشريع الجهاد وحركة الدعوة. المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر. المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى. المبحث الخامس: أحداث ما بين "بدر" و"أحد". المبحث السادس: غزوة أحد. المبحث السابع: أحداث ما بين "أحد" و"الأحزاب". المبحث الثامن: غزوة الأحزاب. المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 المبحث العاشر: غزوة الحديبية. المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة. المبحث الثاني عشر: فتح مكة. المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب. المبحث الرابع عشر: السرايا والغزوات في الميزان. المبحث الخامس عشر: وجاء نصر الله تعالى. المبحث السادس عشر: انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي مدخل ... المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي استقر المهاجرون في المدينة المنورة، ودخل أغلب الأوس والخزرج في الإسلام، وتحولت المدينة كلها إلى مجتمع متكامل، خال من الصراع، بعيد عن الضلال والضياع واستسلم الجميع لحكم الله تعالى، وأنزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بما يليق به، فحكموه في كل ما عن لهم، وأخذوا برأيه في سائر ما وجههم إليه, وبذلك ظهر المجتمع الإسلامي بخصائصه، ومزاياه التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لإيجادها في واقع الحياة، ولقد قدم هذا المجتمع صورة فريدة في دنيا الناس، لم تسبق، ولم تلحق، لقد صنع من الضعفاء قوة، ومن الفقر غنى، ومن التشرذم والضياع رجالا عرفوا الحقيقة، وتمسكوا بها، فعاش الحق لهم وسار بهم، وصاروا أمثولة رائعة، ومثالا تجريبيًا لمن يريد حياة الكرامة والعزة والرقي. ومسلمو اليوم أحوج الناس إلى معرفة هذا المجتمع العظيم ليتأسوا به فهم خلوفه، وهو سلفهم ... وكل ما هم فيه من هوان وضياع يجب أن يعيدهم إلى ماضيهم الخالد عساهم أن يتذكروا، وعساهم أن ينتفعوا. إن عوامل صناعة المجتمع المدني بعد الهجرة ليست أمورًا فوق الطاقة، ولكنها أمور تحتاج إلى الصدق معها، ولا بد فيها من إيمان يستلزم العمل بها، وإلى معرفة واضحة لمجموعة من الأشياء التي لا بد منها في الحياة الإسلامية وهي: - معرفة الله تعالى معرفة تؤكد حقه على العبيد، وحق العبيد عليه ليقوم الناس بما عليهم، وينالوا ما لهم. - تقرير مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، ومعرفة دور ما تركه من وحي في النشاط، والخلق، والسلوك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستقبل الوحي ليبقى فكرة مجردة، وإنما حولها بالإيمان إلى طاقة عملية، وحركة شاملة في أعمال الناس وأخلاقهم، وصبغ صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه كل الحياة في المدينة المنورة، لتتأسى به كل المجتمعات بعد ذلك. - ضرورة التزام الإنسان بتعاليم الإسلام، وبخاصة الإنسان المسلم ... حتى لا يتحول الإسلام إلى فكرة للتثقيف المجرد، وليبق الدين كما كان في مجتمع المدينة، قواعد للسلوك، وضوابط للعمل، ومنهجًا يسير الأحياء، وينظم الحياة في كافة جوانبها، وحتى نستفيد بمجتمع المدينة المسلم نحاول الوقوف على ملامحه الرئيسية التي بها كان مجتمعًا إسلاميًا، وصار أسوة للناس أجمعين. وأهم العناصر التي ظهرت في هذا المجتمع ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أولا: دين كامل استمر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة ثلاثة عشر عامًا، مكتفيًا خلالها بالدعوة إلى العقيدة؛ لأنها أساس البناء الإسلامي، والركيزة الكبرى لإقامة المجتمع المسلم. إن التنشئة الصحيحة تعتمد على العقيدة لاتصالها بالجانب الباطني في الإنسان ومن المعلوم أن الإنسان يتميز عن سائر الكائنات بهذا الجانب الهام، إذ به يتم التصور ويكون التصديق, وأي عمل خارجي ظاهر يحتاج إلى قرار باطني والإنسان الحر يعمل بما يؤمن به، ويتفق ظاهره مع باطنه دائمًا والمنافقون والضعفاء والمرضى والأرقاء هم الذين يفعلون عكس ما ينطقون، ويبطنون غير ما يظهرون وهذا حال يأباه دين الله تعالى. إن الإنسان يقوده عقله، وهو الذي يسهل أمام صاحبه الصعب بعد اقتناعه ورضاه، وكثيرًا ما رأيناه من يقدم على إفناء الجسد وهو به راض سعيد، بصدور القرار من باطن مؤمن بفعل صاحبه. لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي المسلمين بالعقيدة حتى صفت نفوسهم، وسكن الإيمان قلوبهم، وصاروا عبيدًا للمعبود، واستسلموا لربهم الخالق العظيم، وحينئذ أتتهم الشريعة جزءًا جزءًا حسب أحوالهم، وحاجاتهم فأسرعوا إلى التطبيق، والالتزام العملي الدقيق. لم يحدث مرة أن ترددوا في تنفيذ أمر أمروا به أو توقفوا عن ترك عمل أمروا بتركه ولو كان العمل هو حاجتهم، وكل نشاطهم. والإيمان بالعقيدة هو الذي كون الجماعة الإسلامية الأولى في مكة قبل الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ولم يكن عجبًا أن دار القرآن المكي كله حول بيان حقيقة العقيدة، وتوضيح أركانها، والاستدلال عليها بمختلف الأدلة لأنه بذلك صنع الأمة، وحقق في عالم الناس المجتمع الإسلامي العظيم. فلما تمت الهجرة بدأت التشريعات تنزل، وأخذت التكاليف الإلهية تظهر، والمسلمون يسارعون إلى الطاعة والتنفيذ، ولذلك لم يكرر القرآن الكريم توجيهاته كثيرًا في أمر شرعي واحد ولم يدلل على حقيقتها، ولم يبرهن على أحقيتها، بل كان يكتفي غالبًا بمجرد الأمر أو النهي. وكان الصحابة رضي الله عنهم يترقبون الأمر ليتحول سريعًا إلى العمل، وإذا تضمن التوجيه نهيًا يظهر أثره قولا، ويختفي المنهي عنه حالا، وقد شملت التوجيهات الشرعية كافة الجوانب العملية في حياة الأفراد وسائر الناس. وكانت مسارعة المسلمين للتلقى سببًا لتوجههم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون قوله وعمله، ويسألونه عما لا يعرفون، ويسمعون منه ما يريده صلى الله عليه وسلم وما ينزل عليه. لقد تعلم الصحابة العقيدة، وآمنوا بها وهم في مكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة. فلما تمت الهجرة بدأ الوحي يوضح الإحكام الشرعية لأفعال الناس واستمر ذلك حتى تمت الشريعة، فتم الإسلام بذلك وكمل الدين، ونزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1. إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الأحكام الشرعية المحددة المعروفة، وهي المتصلة بالعبادات المشروعة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وأحكام هذه العبادات مفصلة بأدلتها الشرعية وكذلك أحكام النكاح، والميراث، والفرق بين الزوجين، إلى غير ذلك مما ورد مفصلا في شريعة الإسلام. ومن المعلوم أن الصلاة شرعت في ليلة الإسراء والمعراج على نحو ما سبق ذكره. وكان ذلك قبل الهجرة، ولم يتمكن المسلمون من إقامتها في جماعة، وكانوا يؤدونها   1 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 في البيت الحرام، والكعبة محاطة بالأصنام والأوثان، فلما كانت الهجرة تأسس مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في الإسلام يقول الله تعالى فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1, وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في هذا المسجد جماعة، وأقاموا به أول جمعة في الإسلام. وبالنسبة للزكاة فقد شرعت بعد الهجرة بخمسة أشهر في إطار المواخاة التي نظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار2. وبالنسبة للصوم فقد شرع بعد الهجرة بثمانية أشهر بعد تحويل القبلة بشهر واحد، ومع تشريع الصوم شرعت زكاة الفطر، كما شرع الحج لما تيسر أداؤه بعد الحديبية، واستمرت أحكام هذه العبادات تنزل تباعًا، فكلما جد أمر نزل حكمه، وعندما يحتاج المسلمون لحكم جاء الوحي به. القسم الثاني: الأحكام الشرعية للعبادات غير المحددة وهي تشمل سائر أنشطة الإنسان في الحياة؛ لأن لكل جزئية حياتية حكم شرعي يضبطها. وأنشطة الإنسان ليست ثابتة، ولكنها متغيرة متجددة، وللإيمان دخل فيها, فحياة الإنسان ومعايشه في تطور دائم، ولذلك قضت حكمة الله تعالى أن تنزل أحكام هذه العبادات في صورة مبادئ كلية، وقواعد عامة، حتى يتمكن العلماء من أخذ أحكام الحوادث الجديدة من القواعد والمبادئ وفق أصول علمية، وتبعًا لضوابط إسلامية لا بد منها في أي حكم مستنبط. وفي إطار أحكام هذا القسم لا يمكن تصور مسألة ما بلا حكم شرعي إسلامي، وبذلك كان صلاح الإسلام لكل زمان ومكان. لقد تم الإسلام في المدينة بعد الهجرة بعناصره جميعًا، وبرزت الأحكام الشرعية بجانب أحكام العقيدة، وتكامل حسنهما معًا بالأخلاق الإسلامية الكريمة.   1 سورة التوبة: 108. 2 الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقد تميز الإسلام بمزايا عديدة، من أهمها ما يلي: 1- مراعاة الفطرة البشرية: الفطرة هي الطبيعة الأولى التي خلق الله الإنسان عليها، والجبلة الحقيقية التي يتكون منها، والإسلام يراعي هذه الفطرة، وينميها، ويمكنها من مسارها الصحيح، وذلك ملحوظ في دوران كافة الأحكام الشرعية في إطار الطاقة البشرية، فلا يأمر الإسلام بمستحيل فعله، ولا ينهى عن فعل مستحيل تركه، بل كل ما جاءت به الشريعة يمكن عمله وتنفيذه، كما أن الاستقامة عليه تريح النفس، وترضيها. إن الفطرة تجد راحتها حينما تصدق في طاعة دين الله تعالى، وتتلاءم معها وتسعد بها، وتتشوق للعمل الإسلامي إن تركته، وتبحث عنه إن بعد عنها. إن الإسلام يعرف طريقه إلى النفس البشرية، يعرف مداخلها ومخارجها، فيسلك إليها على استقامة، ويعرف حاجاتها ومطالبها فيلبيها، ويعرف طاقاتها فيطلقها للعمل والبناء، وينمي الجوانب الإيجابية في النفس البشرية كالميل نحو الخير، وحب الأمن، وغلبة العدو، ويحارب الجوانب السلبية كسوء الخلق، والاندفاع نحو الشهوات المحرمة. إن الإسلام نظام كامل للإنسان الذي يعيش على سطح هذه الأرض، يضع في اعتباره فطرته، وخصائصه النفسية، والعادية، والعقلية. إن تعاليم الإسلام تلتقي مع الفطرة السوية، وتحقق لها سائر رغباتها، وتوجد معها الأمن والسعادة، وذلك لما فيها من حلول لكافة حاجات الإنسان، على وجه كامل تام. 3- الشمول: ونعني بالشمول في الإسلام أنه يشرع للإنسان في كل حالاته، وفي مختلف قضاياه، يشرع له صغيرًا وكبيرًا، ذكرًا وأنثى، حيًا وميتًا، قويًا وضعيفًا، مريضًا وصحيحًا غنيًا وفقيرًا، حاكمًا ومحكومًا. ويشرع له وهو فرد واحد، أو وهو في جماعة، بل ويشرع لعلاقة الجماعة مع غيرها وللأمة مع سواها. إن الإنسان أينما كان يجد في شرع الله طلبه، ويعرف طريقه، وهو نوع من الإعجاز يشهد بربانية الشريعة، وإتيانها من عند الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ومن روعة هذا الشمول الاستمرارية، فهو دائم إلى يوم القيامة بلا خلل ولا نقص أبدًا لقد عاش المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مع شريعة الله، واستقاموا على توجيهاتها بدقة، فوجدوا فيها حلا لكل قضاياهم، وتقدمًا في حياتهم فسعدوا، وعاشوا في بركات الله تنزل عليهم من فوقهم، وتأتيهم رغدًا من كل مكان. يقول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} 1. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 2. وقد تحقق للمسلمين ما وعدتهم به الآيات، فبعدوا بفضل الله تعالى عن الانحراف العقلي، والشقاء في الحياة، وأحاطتهم بركات الله من كل ناحية، وعاشوا آمنين سعداء.   1 سورة طه: آية 123. 2 سورة الأعراف: 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثانيًا: قيادة أمينة رائدة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المجتمع الإسلامي في المدينة بمنهج الله تعالى، بعدما صار أكثر من فيها مسلمين. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يغذي أرواحهم بالقرآن المنزل عليه، ويقوي إيمانهم بالتقوى، ويعبدهم لله رب العالمين. وقد تجلت عظمة القيادة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام كان يبلغهم كل ما ينزل عليه من ربه بمجرد نزوله، ويحضهم على الاهتمام بالقرآن الكريم ويقول لهم صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: الم حرف بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" 1. إن إقبال القلوب على القرآن الكريم يجعلها تعيش نوره، وتسعد بطاعته، وتعتز بهدى الله، ورضاه، لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما نزل استجابة لأمر الله تعالى له في قوله   1 زاد المعاد ج1 ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. وكان صلى الله عليه وسلم يقول للناس {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2. لم يكتم صلى الله عليه وسلم أمرًا كلف بتبليغه، ولم يتقول على الله كلمة واحدة. وكانت أمانته بارزة لكل من عاشره فهو الأمين مع نفسه، ومع الناس، ومع الله. وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إسعاد الناس بالإسلام، وكثيرًا ما كان يتألم لانصراف البعض عن الإيمان، والتصديق. يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 3. ويقول سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 4. وكان الله تعالى يخفف عن الرسول حزنه وألمه لما كان يراه من بعد فريق عن الإيمان فيقول سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} 5. كان صلى الله عليه وسلم شديد الحب لأصحابه وأتباعه، وكثيرًا ما حذر من أي أذى يلحق بهم. يقول صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه" 6. ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي" 7.   1 سورة المائدة: 67. 2 سورة الأنعام: 19. 3 سورة المائدة: 127. 4 سورة الكهف: 6. 5 سورة ق: 54. 6 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ج16 ص92. 7 صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ج16 ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وكان صلى الله عليه وسلم يزكي أهل التزكية منهم، ويصفه بما هو فيه، ويعلي قدره بين الناس. يقول صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر الصديق: "إن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" 1. ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها، ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر، إلا أبا بكر". ويقول صلى الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" 2. ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر. وأشدهم في أمر الله تعالى عمر. وأشدهم حياء عثمان. وأقضاهم علي. وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وأفرضهم زيد بن حارثة. وأقرؤهم أبي بن كعب. ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. وما أظلت الخضراء -يعني السماء، وإظلالها تغطيتها لما تحتها- ولا أقلت الغبراء -يعني الأرض، وإقلالها حملها لما فوقها- أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى عليه السلام في ورعه" 3. وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أصحابه، رحيمًا بهم، عطوفًا عليهم، يتمنى أن لا يصيبهم أذى، فلم يأخذهم بظنه، ولم يسرع بعقوبة، أملا في مخرج لهم.   1 صحيح مسلم بشرح النووي. ك فضائل أبي بكر ج15 ص150. 2 صحيح مسلم بشرح النووي فضائل عمر ج15 ص166. 3 الفتح الرباني باب فضل أبي ج22 ص370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يروي مسلم بسنده أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني فرده. فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: "أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا"؟. فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى. فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني, وإنه ردها فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزًا فوالله إني لحبلى. قال لها: "إما لا فاذهبي حتى تلدي". فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته. قال لها: "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه". فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز, فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها, فقال: "مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت" 1. وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمح بالشفاعة في الحدود أبدًا بعد ثبوتها، والتأكد من وقوعها ولذلك لما أهم قريشا شأن المخزومية التي سرقت، وكلمه أسامة بن زيد رضي الله عنه -كطلبهم- قال له صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة"؟. ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف, تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها" 2.   1 صحيح مسلم كتاب الحدود باب حد الزنا ج11 ص202، 203. 2 صحيح البخاري كتاب الحدود باب كراهية الشفاعة في الحد ج10 ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يحب مع هذا درء الحدود عن المسلمين ما استطاعوا، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة" 1. وكان صلى الله عليه وسلم يلتزم بفعل كل ما يأمر به، ويترك كل ما ينهى عنه، ويتحرك في مقدمة الجيش حين الغزو، ويقول لأصحابه ما قاله الله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 2. عاش صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يربيهم بالقرآن ويدعوهم إلى الله تعالى، وقد هداه الله إلى مفاتيح القلوب بالحسنى ففتحها، واستمر يغذي نفوسهم بعظمة الإسلام، ونور الوحي حتى خرج حظ الشيطان من نفوسهم، وصاروا رجالا يعملون لله، ويوجهون الدنيا لسعادة الآخرة. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريبًا في كل شيء: كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في سعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقربه إلى الفهم, فلم يكن غامضًا، ولم يكن مدهشًا، ولم يكن شاذًا ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزًا من الألغاز يصعب إدراكه، والوقوف على أسراره وإنما كان انقلابًا قائمًا على فهم واع، وقناعة كاملة، وحب صادق متجذر في الوجدان، والضمير. إنه حب لرسولهم الذي جاءهم من الله بدين الله يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 3. إنه صلى الله عليه وسلم لم يدعهم لملك شخصي، أو مجد قومي، أو دنيا زائلة وإنما هداهم الله إلى الصراط المستقيم وعرفهم بطرق الخير، ووضعهم أمام حجة الله خالصة نقية، فكان منهم ما استحقه صلى الله عليه وسلم4.   1 نفحات الحبيب الشفيع ص156. 2 سورة هود: 88. 3 سورة آل عمران: 164. 4 نفحات الحبيب الشفيع ص159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ثالثًا: مؤمنون صادقون صدق مجتمع المدينة في إيمانه بالله، وقدم أفراده صورة صحيحة عن الإسلام، وبدءوا يتلقون تعاليم الله تعالى التي جاء بها الوحي تلقيًا صحيحًا. فلقد كانوا يهتمون بالقرآن الكريم والسنة النبوية حفظًا وفهمًا، ويحيطون بكل ما ينزل، ويعلمون ما يحمله من توجيه وأحكام، وإن غاب عنهم معنى سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا يتلقون ما يأتيهم من الوحي بالعمل والتطبيق والتنفيذ، وبذلك كانوا صورة عملية للوحي المنزل، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه بكل دقة وإخلاص. وكان عملهم وفق تعاليم الله مصاحبًا للحب والرضى؛ لأنهم بهذا العمل يعيشون مع الشرع المحكم، ومع الله العزيز، ومع الحق المطلق الذي أنزله العليم الخبير. وكان من إخلاصهم مع تعاليم الله أنهم طرحوا ما عداه فلم يأخذوا من مواريث فارس أو الروم، وإن تلاقى في بعض جزئياته مع تعاليم الله. إن ما جاء من عند الله يكفيهم، وهم به سعداء، فلم يتركونه وهو الكامل إلى غيره وهو الناقص؟!! ولم يتركونه, وقد التزموا بإسلامهم وعليهم أن يتمسكوا به؟! ولم يتركونه، والترك يمثل خللا في إيمانهم، ونقصًا في تدينهم؟! ولم يتركونه, وقد ثبت فضله، وتأكدت نتائجه؟! إن تلقي هذه الجماعة المؤمنة للوحي المنزل كان قائمًا على معرفتهم بحقيقته، وإيمانهم بالواجب معه، وفهمهم لضرورة وضعه في المقام الذي هو جدير به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 إن الوحي هو كلام الله الذي نزل للناس ليكون دستور الحركة، وقانون الحياة، وهو يصور علامة فارقة بين حياة الجاهلية والحياة الإسلامية. ولقد تلقى الصحابة الوحي بعقولهم، وأعمالهم، وسلوكهم، وأحوالهم، وصاروا به صناعة جديدة. لم يتلفتوا معه إلى غيره مما صنعه البشر، ولو أتاهم من ممالك الأرض المشهورة -فارس والروم- لأنهم لا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولم يخلطا الوحي بغيره لأنهم لو فعلوها لكانوا ظالمين لأنفسهم ولدينهم لأنهم حينئذ يساوون تعاليم البشر بتعاليم الله تعالى. إنهم كانوا مع الله صادقين، وكانوا يعلمون أن أهل الباطل يعملون على إضلالهم، وإبعادهم عن الحق، في جرأة على الخير، واستهتار بالحقيقة، واستدلال قبيح يعتمد على البهتان والسوء. إن منطق أعداء الله واضح في قيامه على الإفك، وبعده عن مسلمات العقل وبداهة الحكمة، إنها جرأة تقلب الأمور، وتجعل الحقائق أباطيل، بلا أدنى إحساس بالخجل والأسف مثل قوله تعالى عن قوم لوط إذا قال بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1 فلقد جعلوا الطهارة والعفة تهمة يعاقب فاعلها بالطرد والنفي. ومثل فرعون، وهامان، وقارون، إذ قالوا: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 2. ومثل قول فرعون إذا قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 3 ومثل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ   1 سورة النمل: 56. 2 سورة طه: 63. 3سورة القصص: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} 1 حيث نرى الآيات تبرز كلمات فرعون وهو يثبت أنه الإله، وأنه واضع الطريقة المثالية، وأن موسى عليه السلام داعية فساد, وأنه يعمل على صرف الناس عن دينهم الصحيح؟! علمت الجماعة المؤمنة في المدينة المنورة كل هذا، وفهمت الإسلام حق الفهم ولذلك اقتصرت على الأخذ من وحي الله، وتركت ما عداه وإن تزين وتزخرف. ولقد قدموا من أعمالهم وأخلاقهم المثاليات العوالي التي نتمنى أن نراها في دنيا المسلمين اليوم، ومن هذه الروائع: - بايع بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم أن لا يسأل الناس، فكان السوط يسقط من أحدهم، فينزل عن دابته فيأخذه ولا يقول لأحد: ناولنيه. وكان من شدة حبهم وطاعتهم له صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم نهى أهل المدينة عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فما كان من الناس إلا أن أطاعوه صلى الله عليه وسلم، وأصبحت المدينة لهؤلاء الثلاثة غريبة، عجيبة، كأنها مدينة الأموات ليس بها من يكلمهم، أو يجيبهم، كأنها لا تعرفهم، وكأنهم في خصومة مع الجميع، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. يقول كعب بن مالك، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض، فما هي الأرض التي أعرف. ولقد مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما رد عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟! فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيني وتوليت حتى تسورت الجدار. وكان من صدق طاعة كعب بن مالك وهو في المحنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سورة غافر آية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 يأتيه ويقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فيسأله: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فيقول له الصحابي: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها. فيقول كعب لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر وكان من حبه رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل أحد في الدنيا، أن ملك غسان يخطب وده، ويستلحقه بنفسه، "وتلك محنة عظيمة" ولكنه يرفض ذلك. ويقول كعب: بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام لبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إليّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا فقرأته، فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها1. ومن دقتهم رضي الله عنهم في طاعة شرع الله تعالى، ومسارعتهم في الامتثال أنه لما نزلت آية تحريم الخمر حرموها على أنفسهم للحظتها، يقول بريدة: بينما نحن قعود على مجلس شراب وعندنا باطية -إناء خمر- لنا ونحن نشرب الخمر حلالا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2. يقول بريدة: فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم، وبعض القوم شربته في يده، شرب بعضًا، وبقي بعض في الإناء، فألقوا بالآنية، ورموا ما في باطيتهم وقالوا: انتهينا   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك ج8 ص86، 87. 2 سورة المائدة: 90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ربنا, انتهينا ربنا! 1. يقول أنس بن مالك: إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانًا وفلانًا إذ جاء رجل فقال وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك. قال: حرمت الخمر. قالوا: أحرق هذه القلال يا أنس. فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل2. وعن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3, فقال الناس ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم الصحابة في المغرب خلط في قراءته فأنزل الله فيه آية أغلظ منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 4, وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 5 فقالوا: انتهينا ربنا. ووصل الصدق في التسليم والخضوع إلى أن الواحد منهم كانت تتشابه لحظة ضعف   1 انظر سنن النسائي ج8 ص253. 2 صحيح البخاري كتاب التفسير باب إنما الخمر والميسر ج7 ص197. 3 سورة البقرة: 219. 4 سورة النساء: 43. 5 سورة المائدة: 90، 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فيأتي لرسول الله مقرا بفعله لينال العقاب الذي حدده الله تعالى، وقد يكون في العقاب إزهاق روحه، وذلك كما فعل ماعز والغامدية إذ جاء للرسول وأقرا بالزنا وهما محصنان فرجمهما عليه السلام1. إن هذا المجتمع الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقيدة الإسلامية كان صورة صادقة لتعليم الإسلام وتطبيقاته، فكل من فيه صدق إيمانه، وقويت عقيدته، وعبد نفسه للمعبود العظيم. إن الأمة الإسلامية التي أخرجت للناس قد بلغت الأوج، كانت تعمل لله، وتجاهد لله، وتسعى إلى غايتها المرموقة في حب وثقة، التفت حول نبيها التفاف التلامذة بالمعلم، والجند بالقائد، والأبناء بالوالد الحنون. وتساندت فيما بينها، بالأخوة المتبادلة المتناصرة، فهم نفس واحدة في أجسام متعددة، ولبنات مشدودة، في بناء منسق صلب. وأدارت علاقتها بالآخرين على العدل والبر، فليس يظلم في جوارهم بريء، أو يحرم من ألطافهم عان أو يؤاخذ أحدهم بذنب غيره، أو يعطي لواحد ما يستحقه غيره من ثواب. وبرغم ما وقع على المؤمنين من بغي قديم، فقد جعلت الإسلام يجب ما قبله، فمن تطهر من جاهليته، وتاب إلى ربه لا ينظر أحد إلى ماضيه، بل يصير في الجماعة المسلمة عضوًا كريمًا فيها، يملأ بصالح عمله كتابه الجديد. أما الذين بقوا يكفرون ويصدون، فلا بد من الإعداد لهم، حتى تخلص الأرض من كفرهم وصدهم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} 2. كانت هذه الأمة تكدح لله، وتصل مساءها بصباحها في عبادته، وقد حزمت أمرها على واحد من اثنين، إما أن تحيا لله، وإما أن تموت فيه.   1 الفتح الرباني ج18 ص85 وانظر تفصيل ذلك في ص212. 2 سورة النساء الآيتان 168، 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ولو ذهبت توازن بين المسلمين يومئذ وبين سائر أمم العالم لرأيت عناصر الغلب والامتياز تتجمع لديهم صاعدة، على حين تفور في كيان الأمم الأخرى زلازل عنيفة، فلا غرو إذا صاروا بعد سنوات معدودات دولة فتية تقضي لربها ولنفسها ما تشاء. وقد وضع صلى الله عليه وسلم من سلوكه مبادئ للعلاقات بين الناس لتحقيق المصلحة للجميع، وتأكيد الأمن لكل فرد. إن التزام الأمة بتطبيق الإسلام تطبيقًا كاملا واعيًا أبرز كافة عناصر الخير في الإسلام، وحول المسلمين من جماعة همجية إلى أمة متماسكة تسير بالعدل، وتصون الحقوق، وتحفظ الكرامة الإنسانية، وتوجد الأمن والسلام والسعادة، بصورة أصلية ثابتة، وهذا الحال للأمة المسلمة جعل غير المسلمين ينظرون بحب وإعجاب إليهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، ولذلك سارع الناس إلى اعتناق الإسلام رغبة، واقتناعًا بعدما شاهدوا تطبيقًا عمليًا بآثاره ونتائجه. إن الجماعة المؤمنة التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشت حياتها مجاهدة في سبيل الله فتحركه إلى سائر الآفاق ومعها المصحف والسيف, واستمرت على ذلك حتى تمكنت من صناعة أمة عظيمة تنشر العدل، وتحمي السلام، وتصون الحقوق، وتضمن الكرامة لكل الناس، وقد اعترف الجميع بما نشرته من خير وإصلاح للعاملين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 رابعًا: التفاعل التام بين المسلمين والإسلام لما تمت الهجرة إلى المدينة المنورة، صار للإسلام دولة تؤمن به، وتؤازره، وتدعو إليه وصدق المسلمون فيما عاهدوا الله عليه، فتحولت مظاهر الحياة، وكل الأنشطة وسائر المؤسسات إلى شريعة إسلامية تتحرك مع الناس وبهم في صورة عملية تعبر عن دين الله تعالى، وتؤكد التفاعل العظيم بين تعاليم الله وبين المؤمنين الصادقين. وكان المسجد هو أول المؤسسات الدينية التي أقامها المسلمون في المدينة، فلقد أسس الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء وهو في الطريق إلى المدينة, ولما وصل إليها ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري أسس المسجد الحرام بالمدينة، واتخذه المسلمون دار عبادتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وسياستهم، ففيه كان ينزل الوحي، وفيه يجتمع الأصحاب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده التقى الوفود برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه تتحرك الوسائل، وينطلق الدعاة، وتجهز الجيوش. لقد أصبح المسجد هو بيت الإسلام في المدينة، وبخاصة بعد أن شرع الله الأذان يدوي في الآفاق خمس مرات في اليوم والليلة، ويتردد صداه في الأفق البعيد. ويعلم القاصي والداني أن أمة الإسلام عزيزة كريمة تعلن حقيقتها بصوت جهوري مكرر واضح المعالم بين معروف، فالله ربهم وهو الكبير المتعال، ومحمد هو رسولهم، والمبعوث بدين الله فيهم، وهو رائدهم إلى الفوز والفلاح، وإمامهم في الصلاة، وحياتهم هي الإسلام كله. يقول ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل لها بوقًا كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه رضي الله عنه أخو الحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف؛ مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده فقلت له، يا عبد الله أتببيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها لرؤيا حق، إن شاء الله, فقم مع بلال فألقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 عليه، فليؤذن بها، فإنه أندى صوتًا منك". فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب، وهو في بيته فخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يجر رداءه، وهو يقول: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد على ذلك" 1. لقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فصارت الأخوة رباطًا يربط المسلم بأخيه، ويلزمه بواجبه نحوه، ويجعل العلاقة بينهما كلها حب، وبر، وتكريم، وعلت أخوة العقيدة على أخوة النسب والمصاهرة، وخلا المجتمع من أي صورة غير إسلامية في أي ناحية من نواحي الحياة وأصبح الكل يحافظ على دين الله تعالى بلا مخالفة، أو تردد، ويكتفي به كفاية يعيش بها، ويعمل لها حتى أن أهل الذمة أقروا بحق الله عليهم، واستسلموا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشوا بعهد الذمة آمنين في الدولة المسلمة، ولم يتمردوا على المسلمين إلا بعد أن لعب بهم الهوى، وأضلهم شيطانهم، وكان الله لهم بالمرصاد، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبة أنفسهم، فكان أن طهر الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة منهم حتى صارت مدينة خالصة لله ورسوله وأخذت عناصر تنظيم المجتمع تتفاعل، وتؤدي دورها في إطار منهج الله تعالى: - فالإسلام هو المحرك للحياة، والأحياء. - والرسول هو رائد الخير، وقائد الناس. - والمسلمون هم الصورة العملية لدين الله تعالى. وبذلك قام المجتمع الإسلامي، وظهرت معالمه، واستحق أن ينزل في وصفه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. واطلع الله على قلوب وأعمال الجماعة المؤمنة فكان معهم بالنصر، والتأييد، ويسر لهم بقدرته أمر الحياة والمعاش وخصهم بما استحقوه من العون، والتوفيق، والسداد.   1 السيرة النبوية ج1 ص805. 2 سورة آل عمران الآية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 المبحث الثاني: تشريع الجهاد وحركة الدعوة مدخل ... المبحث الثاني: تشريح الجهاد وحركة الدعوة لم يرض القرشيون بما آل إليه شأن المسلمين، ولم يقبلوا أن يعيش المسلمون في مجتمع آمن مستقر. كان المظنون أن تهدأ ثائرة كفار مكة، وعباد الأوثان بعدما هاجر المسلمون إلى المدينة، وتركوا ديارهم وأموالهم عندهم، وابتعدوا عن مقابلتهم، وتخلصوا من مضايقاتهم وعدوانهم المتكرر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين. كان المظنون ذلك لكن الواقع شهد بغير هذا لأن أهل مكة درسوا موقف المسلمين بعد الهجرة، وتصوروا أن تواجدهم في مجتمع خاص بهم سوف يؤدي إلى بروز الإسلام، ووصوله إلى الأماكن البعيدة لعلمهم أن الإسلام هو دين الحق، وأنه يتلاءم مع الإنسان السوي، ويرضي العقل السليم. ومن أجل هذا التصور وضعوا خطة حصار المسلمين، وحالوا القضاء عليهم في مستقرهم الجديد. علم كفار مكة ما كان من عبد الله بن أبي سلول من كراهيته للإسلام فكتبوا إليه ومن كان يعبد معهم الأوثان قائلين لهم: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم2. فجمع ابن أبي أشياعه لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، فلقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم، وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا" 2. كما عملوا على منع المسلمين من زيارة البيت الحرام بمكة، وقد حدث أن سعد بن معاذ دخل مكة معتمرًا، ونزل على أمية بن خلف، فقال لأمية: انظر لي ساعة   1 سنن أبي داود باب خبر النضير ج2 ص139، 140 ط الحلبي. 2 المرجع السابق ونفس الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبًا من لقف النهار. فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من معك؟ فقال: هذا سعد. فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة1. وحاولوا العدوان على المسلمين في المدينة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت ساهرًا، واتخذ لنفسه حرسًا. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مقدمه المدينة ليلة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليت رجلا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة". تقول عائشة: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح. فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. قال: سعد بن أبي وقاص. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك"؟. فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام2. ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أنهم أمام عدو لا يريد السلام، ولا يفكر إلا في القضاء على الإسلام، ورأوا ضرورة التصدي لهذا الطاغوت الظالم الذي يعمل على إفساد الحياة، والقضاء على دين الله تعالى. وشاءت إرادة الله تعالى أن ينصر جنده، فكلفهم بالجهاد، وأذن لهم فيه. ودراستنا للجهاد هنا تتناول النقاط التالية:   1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري. ك المغازي. باب ذكر النبي من قتل ببدر ج7 ص282. 2 صحيح مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أولا: تعريف الجهاد الجهاد في اللغة مشتق من الجهد وهو بذل الوسع، والطاقة، قولا وعملا، ويعرفه العلماء بأنه بذل الوسع والطاقة مع أعداء الله بالكلمة، والمال، والقتال، لتحقيق غايات عليا. والجهاد شامل لكل جهد يبذل لترقية الروح وتهذيب النفس ونشر الإسلام ومقاتلة الأعداء إلا أنه عند الإطلاق ينصرف إلى مقاتلة الأعداء ودعوتهم، وهو مرادنا في هذه الدراسة. وبعد تعريف صاحب الفتاوى الهندية للجهاد أو في تعريف الفقهاء وفيه يقول: إن الجهاد هو الدعاء إلى الدين الحق، والقتال مع من امتنع، وتمرد عن القبول إما بالنفس، أو بالمال، أو بالكلمة، أو بغير ذلك1. وهذا التعريف الفقهي للجهاد يشتمل على الحقائق التالية: 1- اشتمل هذا التعريف على سائر العناصر التي تضمنتها أقوال الفقهاء، وهم يتحدثون عن حقيقة الجهاد، إذ فيه الدعوة إلى الدين الحق، والقتال الموجه ضد الممتنعين، والمتمردين، والطغاة الذين يصدون عن دين الله تعالى، ويقفون سدًا بين الحق والناس. 2- قدم هذا التعريف الدعوة بالحسنى قبل القتال، وهو الترتيب الطبيعي لشريعة الإسلام في الجهاد، كما أن هذا الترتيب هو واقع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث مكث ثلاثة عشر عامًا في مكة يدعو بالحجة، والبرهان، مع الصبر على ما وقع عليهم من الكفار وتحمل الأذى، ولم يلجأ النبي وأصحابه إلى القتال إلا بعد استنفاد كافة الوسائل السلمية التي ينشرون بها دعوة الله، ويصونون حياتهم معها. 3- قيد التعريف القتال بأنه ضد من امتنع عن القبول، وتمرد على الأدلة، صادًا عن سبيل الله ليخرج من الجهاد قتال المستأمن، والمعاهد، والذمي، لأن قتالهم لا يسمى جهادًا، ولا تقره شريعة الإسلام. 4- ذكر التعريف وسائل الجهاد وأشار إلى أنها تكون بالمال، وبالنفس، دعوة أو قتالا، وبذلك فحصر الجهاد في القتال أمر غير مستساغ في دين الله تعالى. 5- وصف التعريف الدعوة في الجهاد بأنها الدعوة إلى الدين الحق، فأغلق بذلك   1 الفتاوى الهندية ج2 ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الأبواب في وجه دعاة الهوى، الذين يلتصقون بالدين زورًا للكيد له، أو التكسب به، ومنع التعريف بهذا القيد وصف دعاة الوثنية، ودعاة الأديان المحرفة بالمجاهدين؛ لأن دعوة هؤلاء وأمثالهم، ليست إلى الدين الحق؛ لأن الدين الحق هو الإسلام يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1. ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. 6- يتفق هذا التعريف مع القرآن الكريم في تقييد الجهاد بأنه في سبيل الله، وسبيل الله هو دينه جاء في الفتوحات الإلهية "أن المراد بالسبيل دين الله؛ لأن السبيل في الأصل الطريق فتجوز به عن الدين لما كان طريقًا إلى الله بعلاقة المجاورة3. يقول الرازي: سبيل الله أي طاعته وطلب رضوانه، وهذا لا يكون إلا باتباع دين الله وتطبيق تعاليمه4. ومن الملاحظ أن لفظ "سبيل الله" الذي هو اتباع الدين، كما جاء في القرآن الكريم قيدًا للقتال لإعلاء دين الله، جاء أيضًا قيدًا للإنفاق لتقوية دين الله تعالى كقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5. وجاء قيدًا لأي عمل يؤدي إلى الهدف المذكور كقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} 6 حيث جعلت الآية الهجرة من أجل الدين في سبيل الله.   1 سورة آل عمران: 19. 2 سورة آل عمران: 85. 3 الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين ج1 ص153. 4 تفسير الرازي ج2 ص255 ط دار الفكر. 5 سورة التوبة: 41. 6 سورة النساء: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وبهذا ندرك شمول الجهاد للدعوة، وللقتال بالنفس، والمال، واللسان، وتكثير السواد، وعمل الخير، وإعداد الناس بالعلم، وتقويتهم بالعمل والسلوك القويم، ما دام ذلك لإعزاز الدين، ولإعلاء كلمة الله، وهذا ما عناه جمهور الفقهاء عند تعريفهم للجهاد بمعناه الشامل. والحق مع هؤلاء الفقهاء لأن الجهاد الإسلامي يعني بذل الجهد لتبليغ الدعوة بالوسائل السليمة، وبلوغ الغاية المرجوة في ذلك، ولا يلجأ إلى القتال إلا عند حدوث مقتضاه كاعتداء على الدعوة، أو على الدعاة، أو على الوطن. إنه باختصار لنشر العقيدة الإسلامية، ولحمايتها من الفتنة، ولحماية دعاتها في ديارهم وبين سائر الناس. وإذا تبين الجهاد بهذا المعنى الشامل فإن من الخطأ فهم الجهاد على أنه اعتداء، أو إيذاء، أو قهر، أو جبر على الدخول في الإسلام. إن الجهاد في سبيل الله كما اتضح من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لا يصادر الحرية، بل هو صيانة لها. وليس الجهاد وسيلة لاندلاع نيران الحروب؛ لأنه في الواقع يضع النهايات السليمة للصراع ويريح البشرية من شرور الحروب. وليس الجهاد نهبًا للأموال، بل هو الوسيلة لحماية الإيمان، والإيمان هو العاصم الحافظ للمقدسات، والأعراض، والأموال. ليس الجهاد لقهر الناس وإخضاعهم مهما كانت الغاية؛ لأنه إفساح الطرق للدخول في دين الله، وهو الدين الذي ينشر لواء العزة، ويحمي الذمار، ويصون الكرامات، ويعتمد على الاختيار الحر، والاقتناع السليم والله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.   1 البقرة: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 إن الجهاد يتقرر في الإسلام حماية للحرية، وصيانة للفكر، ليحول بين الناس وبين من يصدهم عن اختيارهم للدين القويم. إن الأمر في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1 يحدد الوسائل المشروعة وهي تعني أن تكون الدعوة في الإسلام بالحجة والبرهان لا بالسيف والمعارك، وأن التاريخ ليسجل دائمًا أن العقائد لا تتحقق بالطغيان، إذ هي اعتقاد بحل في القلب وتتبوأ في الضمير، وتسكن في الباطن الأمين. ولم يدع الله أمر القلوب للكشف، والبروز، والظهور، حتى لا تكون هدفًا يدركه الطغاة، ويحركونه تبعًا لأهوائهم بضربات الأيدي، أو برشقات السيوف، أو بما شاكلها من أدوات الحديد والنار. إن القلب غيب عن الناس لا تدرك مشاعره إلا بالإحساس الروحي، أو المعنوي, ولا سبيل للسلاح إلى هذه المعاني حتى تفتح بالضرب، وتغلف بالضراب. وما دام شأن القلب هكذا، فإنه من الحال أن يوجه السيف إليه، أو يغير بقوة وإرهاب وذلك يؤكد سمو غايات الجهاد، وبعده عن أي عنت أو ظلم، أو عدوان. لقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا وهو يتلقى مع أصحابه كل يوم منذ أن جهر بالدعوة صنوفًا من العذاب تحملوها صابرين، وصمدوا لكل مكروه، فلم يفتنهم عن دينهم عذاب مهما طال، ولا إيذاء مهما عظم، بل اعتزوا بالله ورسوله، وكفوا حتى عن مقابلة الإساءه بمثلها. وعلى كل حال فإن الجهاد في سبيل الله لم يمتهن كرامة، ولم يبدأ بعدوان، ولم يلجأ المجاهدون في سبيل الله إلى أموال الوادعين لنهبها، وإن كانت ظروف القتال قد ألقت إليهم أموال العدو، ووضعت في أكفهم الغنائم فأحلها الله لهم. وهكذا كان الجهاد، وعلى هدي ذلك يجب أن يستمر2.   1 سورة النحل: 125. 2 الجهاد في الشريعة ص14 رسالة ماجستير مخطوطة بكلية الدراسات الإسلامية للبنات القاهرة تأليف الدكتورة نعمات محمد علي الهاشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ثانيا: مراحل تشريع الجهاد مدخل ... ثانيًا: مراحل تشريع الجهاد يتصور بعض المستشرقين، ومن يشايعهم من أعداء الإسلام أن الجهاد شرع لقهر الناس، وإجبارهم على الدخول في دين الله تعالى، وهذا افتراء مردود، لا دليل له، وكل الوقائع تشهد بكذبه. إن الجهاد في جملته يخضع للمبدأ العام الذي يتفق مع الفطرة، القائم على أساس مدافعة العدوان، والتصدي للظلم، وحماية حق الإنسان في الحرية والكرامة، وهو مبدأ ثابت يقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 1. والعقوبة بكافة صورها في الإسلام نوع من مدافعة الجريمة على قدرها، وهو مبدأ حق وعدل؛ لأن الظلم لو ترك لعم الفساد، ولو تجرد الحق والعدل من قوة الحماية لأصبحت الشئون للطغاة، وساد في الناس البغي، والفساد. والمجتمعات على اختلافها تتمنى مدافعة الاعوجاج ليستقيم لها الأمر، وتصلح الحياة، والجهاد هو الذي يحول هذه الأماني إلى حقيقة يسعد بها الناس. ولا لوم مطلقًا على من يدفع ظلمًا ويرده، بل إن رد الظلم هو سر البقاء يقول تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2. وقد تمسك المؤمنون منذ البداية بحقهم في الانتصار، ورد الظلم والبغي مع المحافظة على العدل وصيانة حقوق الناس, يشير الله إلى هذا في القرآن المكي واصفًا المؤمنين فيقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ   1 سورة البقرة: 194. 2 سورة البقرة: 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} 1. يقول الرازي: إن الانتصار يجب أن يكون بالمثل، فإن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل، وبه قامت السماوات والأرض، ويقول: إنه لا يصح العفو إلا إذا كان سببًا لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته2. والجهاد الإسلامي حق وعدل كله وذلك يتضح من المراحل التي مر بها تشريعه وهي:   1 سورة الشورى الآيات من 39 حتى 41 وهذه الآيات مكية. 2 تفسير الرازي ج27 ص179 ط دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المرحلة الأولى: مرحلة التحمل والصبر أمر الله تعالى المسلمين بالصبر والتحمل وكف الأيدي وهم في مكة قبل الهجرة لأنهم كانوا ضعفاء لا يمكنهم رد الإيذاء، ومواجهة العدوان. في هذه المرحلة كان الأمر بالصبر والتحمل، مع المحافظة على الدين، وعدم التسليم للطغاة، وإباحة الانتصار للنفس بصورة فردية، آمنة. والسلبية في هذه المرحلة ضرورة اقتضتها ظروف المسلمين، فهم في مكة قليلو العدد مستضعفون، يخافون أن يتخطفهم الناس، يقول ابن كثير: "إن المسلمين لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا منهم، فلو أمر المسلمون بقتالهم وهم أقل من العشر لشق عليهم"1. وتطبيقًا لتنفيذ فكرة المقاومة السلبية كانت الآيات تأمر في هذه المرحلة بالمصابرة والتحمل وعدم إطاعة الحاقدين. يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} 2. ويقول تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3.   1 تفسير ابن كثير ج2 ص300. 2 سورة المزمل: 10. 3 سورة الأعراف: 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومن المعلوم أن الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم هو أمر لأمته. وحتى يكون التحمل أمرًا مسلمًا به وسهلا عرف الله المؤمنين بأنه يدافع عنهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} 1. ويجب أن يكون واضحًا أن سلبية هذه المرحلة كانت في ترك المقاتلة، وتحمل الأذى منعًا لضرر أعلى، وما عدا ذلك فالإيجابية ثابتة موجودة، والجهاد بالكلمة تشريع مقرر، يقول الله تعالى في سورة الفرقان: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} 2 وسورة الفرقان سورة مكية، وفي هذه الآية أمر بعدم طاعة الكفار وهم يعارضون القرآن الكريم، وفيها كذلك الجهاد بآيات القرآن لأن الضمير في "به" يعود عليه. فهذه آية مكية أمر الله فيها بالجهاد، ولذلك استمرت الدعوة في كافة صورها، ففي مجال إبلاغ الدعوة وتبيينها وشرح أهدافها لم يحدث أبدًا توقف، وفي مقابلة شبه القوم كانت الحجج المقنعة والمواجهة الفكرية، وأمام اتهامات المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم وتشككهم في الوحي كان التصدي بالرد والحوار وإثبات ضلال المعاندين، وخطأهم، وكان الوحي خير نصير في المواجهة. ويجب أن يتضح كذلك أن هذه السلبية في المقاتلة لم تكن مبدأ، وإنما كانت ضرورة عاشها المسلمون، وعليهم أن يتذكروا حقوقهم خلالها، ويترقبوا لأنفسهم وينتظروا الوقت الذي يتمكنون فيه من استرجاعها، عساهم يأخذون حقهم الذي سوف ينتصر حتمًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خلال هذه المرحلة يشير لأصحابه إلى الفرح، والمخرج حيث قال للمسلمين قبل الهجرة إلى الحبشة: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" 3.   1 سورة الحج: 38. 2 سورة الفرقان: 52. 3 سيرة النبي ج1 ص323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال بدأ الإذن بالقتال بعد الهجرة مباشرة لتنتهي مرحلة المقاومة السلبية وذلك بنزول قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. فالله سبحانه وتعالى حين أذن لهم في الذي كفهم عنه بين السبب في الإذن، وهو أنهم ظلموا خلال المرحلة المكية التي انتهت بإخراجهم، والاستيلاء على أموالهم، يقول الزمخشري: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤذيهم المشركون أذى شديدًا، فيأتون الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب، ومشجوج، يتظلمون إليه، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أومر بقتال". حتى هاجر2. وقد بدأت ملامح هذا الإذن خلال بيعة العقبة الثانية حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار على حمايته بما يحمون به أنفسهم وذراريهم وجرت خلال مفاوضات البيعة كلمات تشير إلى ضرورة الاستعداد للتصدي لعدوان من يعتدي على رسول الله وعلى دينه إذا قصدوا المدينة المنورة. ولما تمت الهجرة بدت القوة الإسلامية وأصبح المسلمون مستعدين لملاقاة أعدائهم وفي إطار هذا الوضع نزل الإذن للمهاجرين بالقتال لاسترداد بعض حقهم. وهكذا أذن الله لهم بالقتال بعد الهجرة، وبدأت مرحلة المواجهة الإيمانية، وهي المرحلة الثانية، وفيها نرى المهاجرين يتصرفون خلالها على أساس أنهم أصحاب حق مهان يجب أن يهاب، ومن حقهم أخذه بالظفر إن تمكنوا منه، ولذلك قاموا بعدد من السرايا والغزوات عقب الهجرة لإرهاب من ظلموهم، واستولوا على أموالهم، وحرموهم من ديارهم، وقد صحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض هذه الحملات الصغيرة التي حدثت بعد الهجرة، وقبل غزوة بدر الكبرى. ولعل ما يؤكد ارتباط الإذن بالقتال بالمهاجرين وحدهم أن جميع المشتركين في هذه   1 سورة الحج: 39. 2 تفسير الزمخشري ج3 ص15 ط دار المعرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 السرايا كانوا من المهاجرين فقط، يؤكد ابن إسحاق أنهم جميعًا من المهاجرين فيذكر عقب حديثه عند كل سرية قوله: وليس من الأنصار معهم أحد، ويبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه من المهاجرين في أربع غزوات قبل بدر1. وما ذكره بن إسحاق يؤكد أن سلبية المرحلة الأولى كانت ضرورة، فلما زال سببها أذن الله للمسلمين بالقتال؛ لاسترداد حقوقهم، في إطار المحافظة على حقوق الآخرين. وإنما كان الإذن لازمًا في بداية المرحلة الثانية ليكون المسلمون في حل من الدفاع القتالي، وحتى لا يتخيلوا أن أوامر المصابرة وحدها هي أوامر هذه المرحلة أيضًا. إن الإذن بالقتال لم ينسخ العفو والمصابرة حيث لا مناقضة بينهما؛ لأن الصبر طريق إعانة، والقتال يحتاج إليه، والعفو أسلوب دعوة، وتبليغ دين الله يقوم عليه. والإذن بالقتال غير الأمر به، ولذا لم يشعر المؤمنون بفرضية القتال بعد هذا الإذن فكان خروجهم في بدر اختياريًا، بعدما علموا أن من خرج للقتال أثيب، ومن تخلف لم يحاسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ملاحظ في قلة عدد المسلمين الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر. ولما كان الخروج اختياريًا في "بدر" وكان الإذن خاصًا بالمهاجرين فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ رأى الأنصار في ميدان المعركة قبيل الاشتباك؛ لأنهم عنصر لم يكلف بالقتال لأنه لم يفرض بعد، ولم يظلم كالمهاجرين وأيضًا فإنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدفاع عنه ضد من يهاجمه في المدينة، وهو الآن خارجها، وكان اشتراكهم مع المهاجرين، وخروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرعًا محضًا، ردءًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومساعدة للمهاجرين وحبًا للجهاد في سبيل الله تعالى. وكان القرشيون في بدر يعلمون أن المهاجرين وحدهم هم غرماؤهم، امتدادًا للحوادث القديمة، ولذلك حينما بدأت الحرب بالمبارزة خرج من المسلمين أنصار فأبى الكفار مقاتلتهم، وطلبوا أن يكون المبارزون من بني عمومتهم. وقد استمرت هذه المرحلة الثانية مدة عاش المسلمون خلالها فترة التمهيد للمرحلة الثالثة   1 انظر سيرة النبي لابن هشام ج1 ص591 وما بعدها بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ومن هذا التمهيد أن الله حثهم على الثبات في الحرب وأخبرهم بذلك ضمنيًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} 1 فلقد شبه لهم الفرار بصورة مؤلمة وكأن من يفر من القتال يسلم دبره إلى أعدائه الزاحفين. ومن هذا التمهيد أن الله تعالى أمرهم أمرًا صريحًا بالثبات حين المواجهة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2 كما أمرهم بضرورة إحكام الضرب والنزال وتقييد الأسرى وحبسهم حتى ينتهي اللقاء، وعلى المؤمنين أن يثقوا في نصر الله تعالى ومعونته ما داموا على الحق سائرين فقال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 3. ومن هذا التمهيد قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 4 لأن الإعداد المسبق، وتجهيز شئون القتال يخوف الأعداء، ويدخل الرعب في قلوبهم، الأمر الذي يكفهم عن القتال. ومن التمهيد كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ   1 سورة الأنفال: 15. 2 سورة الأنفال: 45. 3 سورة محمد الآيات من 4 إلى 7. 4 سورة الأنفال: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 1. وفي هذه الآية أمر الله المسلمين بالتحريض على القتال، والثبات أمام العدو، ولو كان الأعداء أكثر عددًا منهم؛ لأن الله يؤيد القلة المؤمنة الصابرة على عدوها الكافر، كما هو واضح من الآيات.   1 سورة الأنفال: 65, 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المرحلة الثالثة: مرحلة القتال المقيد احتاج المسلمون إلى الأمر بالقتال بعد الإذن به؛ لأن منهم من أسلم حديثًا ولم يقع إيذاء عليه، ومنهم من طبع على ضعف فطري، ومنهم من بينه وبين أهل مكة قرابة وصلة وهؤلاء لا يكفي معهم الإذن بالقتال، وإنما لا بد لهم من الأمر به ليشعروا بوجوبه، ويقيموه مخافة الإثم من ترك فرض. وهذه المرحلة لم تخرج هي الأخرى عن التزام الحق ومقاومة الباطل ورد العدوان كما يستفاد من آيات تشريعها. يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2. ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 2. وفي هذه الآيات أمر الله تعالى بالقتال المقيد وعرف بأنه موجه لقتال المعتدين الذين يقاتلون المسلمين وحدهم، مع الالتزام بعدم العدوان، وعلى المسلمين أن يعرفوا جيدًا أنه لا عدوان إلا على الظالمين. وقد بدأت هذه المرحلة الثالثة بعد بدر مباشرة حيث بدأت قريش تعمل للحرب   1 سورة الأنفال: 65, 66. 2 سورة البقرة: 190. 3 سورة البقرة: 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وأخذت تستعد للانتقام من هزيمتهم في بدر، جاء في أسباب النزول للنيسابوري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجعوا إلى مكة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش، أصيب آباؤهم، وأبناؤهم، وإخوانهم في بدر فقابلوا أبا سفيان، ومن كان له في ذلكم العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا ففعلوا1 فأنزل الله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} 2. وكان الله مع المؤمنين فوجههم بعد بدر مباشرة إلى وجوب الاستعداد للحرب ولزوم الثبات فيها، ثم كانت قمة المعية الإلهية أن وجه المسلمين إلى أن مرحلة الإذن المجرد قد انتهت، لتبدأ مرحلة أوسع منها هي مرحلة فرضية القتال فقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3. والآية تؤكد خاصة المرحلة الثالثة، وهي الأمر بقتال من يقاتل المسلمين من أهل مكة، ومن ظاهرهم وقصر العدوان على من يعتدي.   1 أسباب النزول ص163. 2 سورة الأنفال: 36. 3 سورة الأنفال: 38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المرحلة الرابعة: مرحلة الأمر بالقتال العام وأخيرًا كان تشريع المرحلة الرابعة حيث أمر الله المسلمين بالحرب العامة ضد كل المشركين أيا كان نوعهم، وجنسهم، ومكانهم، وزمانهم، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 1 ودلالة الآية ظاهرة؛ لأن المشركين في مكة، وفي قبائل العرب، وفي البوادي أجمعوا أمرهم على محاربة المسلمين للقضاء عليهم، وأخذوا في الإعداد لتحقيق غاياتهم قبل غزوة الأحزاب، فكان أن نزل تشريع الجهاد العام للتصدي لكافة المشركين. ويقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2. والأمر واضح في قتال أعداء الله لأنهم بسبب كفرهم ونفاقهم تمكنت العداوة منهم فأصبحوا خطرًا يجب الخلاص منه بالجهاد. وقد أمر الله تعالى بالقتال العام لأعداء الله بعدما اتضح إصرار أحزاب الكفر على إطفاء نور الله في الأرض باذلين كل ما يمكنهم لتحقيق ذلك، ولهذا كان الأمر بالجهاد العام مناسبًا للوضع الموجود الذي يقول الله تعالى عنه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3. ومع هذا التعميم في الحرب لا نسخ في أوامر المرحلة الثالثة لاندراجها في سعة هذا العموم من باب أولى. والحرب في المرحلة الرابعة لا تعارض مبدأ مقاومة الباطل، ورد العدوان؛ لأن الأمر فيه {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فقتالهم لكم هو المشبه به وهو السبب؛ لأن   1 سورة التوبة: 36. 2 سورة التحريم: 9. 3 سورة الصف: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الكاف زادت هنا عن مجرد التشبيه فتضمنت معنى المقابلة والعقوبة، وقتالكم يجب أن يشبهه، وذلك يستلزم أن وجه الشبه في قتالهم أوضح وأسبق. وأيضًا فإن المشركين هم الذين بدءوا في العام الخامس الهجري بالمقاتلة العامة ساعة أن تجمعوا في عدد هائل، ضم قريشًا وأحابيشها، ومن تبعها من بني كنانة وأهل تهامة. ومعهم غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، يعاونهم يهود بني قريظة. يقول ابن إسحاق في حديثه عن هذا التجمع: فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة، وسعد بن رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه بني أشجع. وقد بلغ تجمع المشركين في الأحزاب عشرة آلاف، وكان أملهم القضاء على المسلمين أجمعين كما يوضحه قول حيي بن أخطب لكعب بن أسد القرظي: عاهدني القوم وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه1. فكان لزامًا أمام اتجاهات هذا التجمع الشامل أن يأمر الله المسلمين بالمقابلة العامة لتبدأ المرحلة الرابعة قبيل غزوة الأحزاب التي وقعت في الخامس من شوال في العام الخامس الهجري، ومن يومها والمسلمون مكلفون بقتال من قاتلهم من سائر الفئات المشركة ومن ظاهرهم من بقية الناس. وإذا نظرنا إلى وقائع الجهاد، وأعمال المجاهدين، والتزامهم بأخلاق الإسلام لظهر جليًا براءة الجهاد الإسلامي من أي اتهام يوجه إليه؛ لأن في كل صوره يحقق الحرية، ويضمن الكرامة، ويحفظ للإنسان حقوقه وكل ما هو ضروري له. كما سيتضح عند دراسة الغزوات.   1 سيرة النبي ج2 ص214، 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر مدخل ... المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر استقر المسلمون في المدينة، وأخذوا يحيون الإسلام المنزل عليهم قولا وعملا، وظهرت قوتهم في دولة للإسلام، واجتهدوا بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الإسلام، والدعوة لدين الله تعالى. ولم يتوقف القرشيون عن محاولاتهم في صد الناس عن دين الله، وإعداد العدة للقضاء على المسلمين في المدينة، فأخذوا في تحريض أعراب البوادي، وتأليب قبائل العرب، وتهييج اليهود ليكونوا جميعًا معهم فيما يعملون له. وشعر المسلمون أن قريشًا تتعامل مع القبائل المحيطة بالمدينة، والتي تسكن الطريق إلى مكة، للتحرك في أمان ويسر، وتنتقل بقوافلها التجارية في طمأنينة واستقرار، وفي نفس الوقت تحرم المسلمين من الخروج من المدينة، ودعوة هؤلاء الناس. واستفادت قريش بما أشاعته كذبًا في أن محمدًا وأصحابه فروا من مكة خوفًا، وضعفًا، وبذلك تعاون الأعراب معها، وتصوروا الأمر كما زعم القرشيون. وأخذ القرشيون يتفاخرون بالاستيلاء على أموال المهاجرين، بلا رادع يردعهم أو أناس يخافون منهم، ويعلنون أن قوتهم غالبة، ودينهم صحيح. وهذه أمور تؤثر في نفوس العرب، وتدفعهم بعيدًا عن تصور الحق، أو البحث عنه ما دام الوضع كما سمعوا وتصوروا. ولم يغب هذا الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن الحركة بالدعوة في هذه الظروف تحتاج إلى تصرف عملي، يصحح مفاهيم الناس، ويظهر القوة الإسلامية، ويبعد الأعراب والقبائل المحيطة بالمدينة عن أكاذيب قريش، ويبين لقريش أن حقوق المهاجرين لن تضيع، وأن قوة المدينة ثابتة بموقعها، وبرجالها المؤمنين، وبصدق ما تدعو إليه، وفوق ذلك بمعية الله لها. وصار من الضروري إظهار الإسلام بصفاته، ونقائه، وإنقاذه من غبش الطغاة، وأكاذيب المفترين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقد اقتضى هذا الوضع حتمية القيام بما عرف بـ"السرايا والغزوات". هي عبارة عن دوريات، أو مفارز مكونة من عدد من الرجال، ومعهم سلاحهم البسيط للقيام بعمليات الاستطلاع، والتعرف على الطرق، واكتشاف المسالك المؤدية إلى المدينة، وإلى مكة، والتعرف للقوافل المكية الذاهبة إلى الشام، أو إلى اليمن، وعقد المعاهدات مع من يقبل من العرب وسكان البوادي، وإبراز قوة المسلمين أمام مشركي العرب، ويهود المدينة، والأعراب، ليعلموا جميعًا أن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من الضعف الذي عاشوه في مكة, وأيضًا لإنذار أهل مكة ليفيقوا من غفلتهم، وليدعوا إيذاء المسلمين، ويتركوا العدوان عليهم، وينتهوا عن صد الناس عن دين الله تعالى، ويمتنعوا عن نشر الأكاذيب وتضليل الناس. والغزو: هو السير إلى القتال في عدد قليل أو أكثر، والغزوة المرة الواحدة، وجمعها غزوات1. والسرية: عدد مسلح من الرجال لا يقل عن خمسة ولا يزيد عن أربعمائة، يسبقون الجيش للحصول على معلومات، وأخبار، وسميت السرية بالسرية لتحركها خفية وسرًا، أما الغزوة فإنها تخرج ظاهرة غالبًا2. يقول ابن الأثير: السرية من الجيش الطائفة يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين الأشداء وتخرج خفية وسرًا3. وقد اصطلح علماء السيرة على أن الجماعة التي يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى "غزوة" والجماعة التي يقودها أحد الصحابة تعرف بـ"السرية". وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات عدة منها: غزوة الأبواء، ويقال لها "ودان"، ثم غزوة بواط، ثم غزوة سفوان، وهي بدر   1 لسان العرب مادة غزا، سرا. 2 لسان العرب مادة غزا، سرا. 3 البداية والنهاية لابن الإثير ج2 ص159 وعدد الخارجين إن كان أقل من عشرة يسمى "بعثا" وإن كان أقل من أربعين يسمى "حضيرة" و"عصبة" والأربعمائة "سرية" فإن زاد فهو "كتيبة", والخمسمائة "منسر" والثمانمائة "جيش" والآلاف "جحفل" وقد تنوب الأسماء عن بعضها مجازًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الأولى، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ويقال لها: قرقرة الكدر، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر، ثم غزوة الفرع، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة بدر الأخيرة، وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق وهي المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وبني ثعلبة، ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك وفي بعض ذلك تقديم وتأخير عند الرواة والمحدثين. والغزوات الكبار الأمهات ثمان هي: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، والحديبية، والفتح، وحنين، وتبوك. وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن، ففي بدر نزل قرآن كثير من سورة الأنفال وفي "أحد" نزل آخر آل عمران من قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1 إلى قبيل آخرها بيسير. وفي قصة الخندق وقريظة نزل صدر سورة الأحزاب. وفي بني النضير نزلت سورة الحشر. وفي قصة الحديبية وخيبر نزلت سورة الفتح، وأشير فيها إلى الفتح وهو الحديبية. وفي فتح مكة نزلت سورة النصر. وذكرت تبوك في سورة براءة. وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة "أحد" فقط. وقاتلت معه الملائكة في بدر، وحنين، وأحد على خلاف في الثالثة. ونزلت الملائكة يوم الخندق، فزلزلوا المشركين، وهزموهم، ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه المشركين فهربوا، وكان الفتح في غزوتين: بدر، وحنين. وقاتل المسلمون بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي الطائف، وتحصن المجاهدون بالخندق في واحدة هي الأحزاب، وهو الخندق الذي أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه2.   1 سورة آل عمران: 121. 2 أوصل الحاكم النيسابوري عدد غزوات رسول الله وسراياه إلى ما فوق المائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أولا: أسباب وقوع السرايا والغزوات قبل بدر أذن الله تعالى للمسلمين بالقتال بعد الهجرة، وشرع لهم القيام بالسرايا والغزوات على نحو ما ذكرت، وكان ذلك من صميم حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى. وبيان ذلك أن أهل مكة نشطوا بعد الهجرة في صد الناس عن سبيل الله تعالى، واستغلوا وضعيتهم عند العرب في عداوتهم، وعدوانهم على الإسلام والمسلمين. وقد ألف العرب في كل الجزيرة تقدير أهل مكة، لأنهم حماة البيت وأصل العرب، وإلى بلدهم "أم القرى" يأتي الجميع حجاجًا ومعتمرين، وزوارًا، ومتاجرين ... الأمر الذي مكن لهم في قلوب العرب، ومكنهم في الوقت نفسه من الاتصال بهم، وكثرة مقابلتهم في الأسواق، والمناسبات، والأحداث ولقد رأينا مدى تقدير العرب لأهل مكة أثناء مجيء أبرهة بجيشه قبل الإسلام يريد هدم الكعبة حيث وقف العرب ضد حملة أبرهة، وتمنوا لها البوار والهزيمة. استغل أهل مكة هذا الوضع وأخذوا يشيعون بين الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه فروا هاربين من مكة، وتركوا وراءهم كل شيء ليستمر ضعفهم، وهوانهم الذي كان معهم في مكة. إن المسلمين وهم في مكة كانوا عددًا قليلا ضعيفًا خائفًا من طغيان المكيين وظلمهم يقول الله تعالى واصفًا هذا الحال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.   1 سورة الأنفال: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ومن هنا تمكن أهل مكة من عقول الناس، واستمروا في إذاعة إفكهم، وبهتانهم وفي هذا صرف للناس عن استماع الدعوة، وعدم إقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله عليم بخلقه، حكيم في تشريعه وتعاليمه، رحيم بعباده، حافظ لدينه ورسوله، ولذا كان تشريع الجهاد، والإذن بالسرايا والغزوات، بعد الهجرة مباشرة لتصحيح بعض المفاهيم التي يجب أن تصحح، وإحاطة الناس بالحقيقة المجردة بعيدًا عن غوغائية أهل مكة، ورد البهتان الذي أذاعوه بين الناس. لقد أدى تشريع الجهاد إلى نفي كل ما قيل عن ضعف المسلمين وهوانهم، وبين أنهم بعد الهجرة صاروا قوة ترد الظلم، وتعيد الحق، وتحمي الدين، ولذلك أذن الله لهم بالقتال والحرب، وحقق بالجهاد ما عجز عنه الحوار الطيب، والجدال الحسن. ولنا أن نتصور الحال إذا استمر على ما كان فيه، وبقي القرشيون على عتوهم، وعدوانهم. إن الضعيف لا يتعامل مع الجبابرة، والعاجز لا يقدر على المواجهة!! والخائف لا يمكنه إمساك الرمح والسيف!! والمهين يضعف في مواقف العزة والكرامة!! والقوة الغاشمة لا تسمع إلا لأمثالها لأنه لا يفل الحديد إلا الحديد!! ولقد كان أقصى ما يتمناه أهل مكة أن يتقوقع المسلمون حول أنفسهم في المدينة ويتركوا دعوة غيرهم إلى الإسلام، ويستمروا مقيمين فيها كما فعل إخوانهم الذين هاجروا إلى الحبشة، ولو تحققت هذه الأمنية للقرشيين لسعدوا بها، وعاشوا في حياتهم الجاهلية آمنين. ولكن الله تعالى قضى لدينه أن ينتشر، وقضى للناس أن يسعدوا بالإسلام، ولذا كان ضروريًا أن يتحرك الإسلام وسط الناس بالأسلوب المناسب لهم، ويتعامل مع الواقع بما يكافئه, ولذا كانت السرايا والغزوات. ولم يقف أمر الإسلام عند التعاليم المجردة، وإنما باشرها المسلمون عمليًا خلال الغزوات والسرايا، فتحركوا بأعداد مسلحة لملاقاة القوافل المكية التي كانت تفر منهم، ولما رأى العرب التحرك السريع والمتكرر من السرايا الإسلامية سالموهم، ووادعوهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وبعدوا عن دعايات أهل مكة، وانتظروا تغيير الحال، وتبدل الوضع، ليقرروا ما يرونه حينئذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير معلم، وأعظم مرب، وهو يقود الجماعة المسلمة بعد الهجرة، إذ رأيناه صلى الله عليه وسلم يقود أكثر هذه السرايا، ويخرج لملاقاة القرشيين، ويعاهد العرب على السلم والإسلام، حتى لا يتصور أحد من أعدائه أنه سكن المدينة ورضي بالمكث فيها، معتمدًا على حركة أصحابه وحدهم. وحتى في السرايا التي لم يخرج فيها كان صلى الله عليه وسلم يرسل عمه حمزة" أو أبناء عمومته ليكونوا في مقدمة الخارجين وبذلك كان صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، والسراج المنير للناس أجمعين إن المسلمين الذي خرجوا في السرايا والغزوات كانوا يؤدون مناسكهم، ويحافظون على شعائر دينهم، ويقيمون الصلاة، ويلتزمون بالعدل والخلق الكريم، مع البعد التام عن كل ما نهى الله عنه، وبذلك قدموا دعوة عملية، ظهر أثرها بعد غزوة بدر الكبرى، حيث دخل الناس في الإسلام وهم عارفون بنسكه وتكاليفه، التي رأوها تطبيقًا عمليًا أمامهم. ومن أثار هذه السرايا في الدعوة إلى الله تعالى فتح العقول لسماع الحق، وتخليصها من استبداد الطغاة، وتحقيق الحرية أمام الأعراب بعيدًا عن أي إكراه، لتكون عقيدتهم مرتبطة بالرشد الصادق، والبيان الأمين. كما أدت السرايا إلى تفرق العرب عن أهل مكة بعدما علموا أكاذيبهم، وفقدوا الثقة فيهم، وبذلك فشل المكيون في تكوين كتلة واسعة معادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تشمل قبائل العرب في البوادي، وفي القبائل التي تقيم على جوانب الطريق بين مكة والمدينة ومعهم اليهود والمنافقون، وبذلك كان الجهاد. وكانت السرايا تحركا في خدمة الدعوة لدين الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ثانيًا: السرايا والغزوات قبل "بدر" وقد بلغ عدد السرايا والغزوات قبل بدر ثمان منها أربع غزوات، وأربع سرايا بيانها كالآتي: 1- سرية سيف البحر: كانت في رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية عمه حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلا من المهاجرين، يعترض عيرًا لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر1 من ناحية العيص2، والتقوا بقافلة المشركين، فلما شعر بهم القرشيون دافعوا عن تجارتهم، واصطفوا للقتال، فمشى "مجي بن عمرة الجهني" وكان حليفًا للفريقين جميعًا، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم، فلم يقتتلوا. وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبيضًا، وحمله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي3. يقول ابن هشام: إن سرية حمزة هذه كانت في قوت واحد مع سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ، ولذلك اختلف المؤرخون في أيهما كان أولا. والحقيقة أنهما كانا معًا في وقت واحد. 2- سرية رابغ: حدثت في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة، حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين راكبًا من المهاجرين، فلقي أبا سفيان وهو في مائتين عند بطن رابغ4، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال، ولم تسل السيوف وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو والبهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني، وكانا مسلمين، خرجا مع الكفار، ليكون ذلك وسكيلة للوصول إلى المسلمين، وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف5.   1 سيف البحر مكان في بلاد بني سليم قرب العيص. 2 العيص بالكسر فسكون موضع ببلاد بني سليم به ماء على ساحل البحر، وفيه عسكر أبو بصير. 3 سيرة النبي ج1 ص595. 4 رابغ بعد الألف باء مكسورة واد يقع بين الجحفة وودان. 5 سيرة النبي ج1 ص591، 592. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 3- سرية الخرار: كانت في شهر ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة، حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين راكبًا، يعترضون عيرًا لقريش، وعهد إليه أن لا يجاوز "الخرار"1 فخرجوا مشاة، يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار بأرض الحجاز صبيحة خمس من ذي القعدة، فوجدوا العير قد مرت بالأمس وكان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو2. 4- غزوة ودان: حدثت في صفر من السنة الثانية على رأس اثني عشر شهرًا من الهجرة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة، في سبعين رجلا من المهاجرين خاصة، يعترض عيرًا لقريش حتى بلغ "ودان"3 فلم يلق كيدًا. وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري، وكان سيد بني ضمرة في زمانه على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه جميعًا، ولا يعينوا عليه عدوًا وكتب معهم كتابًا، وهاك نص المعاهدة: $"هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وإن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله، ما بل بحر صوفه، وإن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله، ولهم النصر على من بر منهم واتقى". وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، غاب خلالها عن المدينة خمس عشرة ليلة وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه4. 5- غزوة بواط: حدثت في شهر ربيع الأول في العام الهجري الثاني على رأس ثلاثة عشر شهرًا من   1 الخرار بفتح الخاء وتشديد الراء المفتوحة موضع بالحجاز قريب من الجحفة. 2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص600. 3 ودان بواو مفتوحة ودال مشتقة من الود والمحبة وهي قرية جامعة قريبة من نواحي الفرع تقع بين الأبواء والجحفة. 4 سيرة النبي ج1 ص591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الهجرة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه المهاجرين، يعترض عيرًا لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي، ومعه مائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير تحمل تجارة المكيين إلى الشام، فبلغ صلى الله عليه وسلم بواطًا1 من ناحية رضوى، ولم يلق كيدًا ولم يقع قتال فأقام فيها صلى الله عليه وسلم مدة ثم رجع بعدها إلى المدينة. واستخلف صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان اللواء أبيض وحمله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه2. 6- غزوة سفوان: حدثت في شهر ربيع الأول سنة في العام الثاني الهجري على رأس ثلاثة عشر شهرًا من الهجرة، حيث أغار "كرز بن جابر الفهري" في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ واديًا يقال له "سفوان"3 من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزًا وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى لقربها من بدر. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة "زيد بن حارثة" وكان اللواء أبيض، وحمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه4. 7- غزوة ذي العشيرة 5: حدثت في جمادى الأولى وجمادى الآخرة في العام الثاني الهجري على رأس ستة عشر شهرًا من الهجرة، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة، ويقال: في مائتين، من المهاجرين، ولم يكره أحدًا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرًا يتعقبونها، ليعترضوا عيرًا لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد جاء الخبر بخروجها من مكة، وفيها أموال كثيرة لقريش، فبلغ صلى الله عليه وسلم ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سببًا لغزوة بدر الكبرى.   1 بواط بفتح الباء وضم الواو جبل في جهينة من ناحية رضوى. 2 سيرة النبي ج1 ص598. 3 سفوان بفتح أوله وثانية وآخره نون واد في ناحية بدر. 4 سيرة النبي ج1 ص601. 5 العشيرة: بضم العين وفتح الشين تصغير عشرة مكان قرب ينبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة كما جاء في سيرة ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة1 لأن بعضهم يراها في جمادى الأولى، والبعض يراها في جمادى الآخرة. وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضمري، ورجع إلى المدينة بغير قتال2. واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وكان اللواء في هذه الغزوة أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه3. وفي هذه الغزوة كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا بأبي تراب، وقصة ذلك أنه أرسله وعمار بن ياسر عيونًا على بني مدلج, فنظروا إليهم ساعة، ثم غشيهم النوم. يقول عمار: فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور، من النخل، وفي دقعاء من التراب قمنا، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله، وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن طالب: "ما لك يا أبا تراب". لما يرى عليه من التراب. وكان علي رضي الله عنه إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئًا تكرهه إلا أنه يأخذ ترابًا فيضعه على رأسه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول له: "ما لك يا أبا تراب"؟ 4. 8- سرية نخلة: وقعت في رجب في العام الثاني الهجري على رأس سبعة عشر شهرًا من الهجرة حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة5 في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير.   1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص59. 2 فتح الباري ج7 ص579. 3 فتح الباري ج7 ص281. 4 سيرة النبي ج1 ص599-600. 5 نخلة بفتح النون وسكون الخاء موضع بالحجاز قريب من مكة فيه نخل وكروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فسار عبد الله، ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم". فقال: سمعًا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبين لهم أنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه. وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيبًا، وأدمًا وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان، والحكم وأفلت نوفل ثم قدموا بالعير، والأسيرين، إلى المدينة، وقد عزلوا من غنيمتهم الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، ويعد عمرو بن الحضرمي أول قتيل في الإسلام، وعثمان والحكم أول أسيرين في الإسلام. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه لأنهم اعتدوا في شهر حرام، وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، ومنع التصرف في العير والأسيرين ثم ردها لأصحابها1. إن توجه هذه السرايا كان لجهات متعددة ولقبائل مختلفة، ولأماكن تنوعت بين البداوة، والتقدم مما يؤكد دقة التخطيط ويقظة القيادة، والعمل الدءوب لخدمة الإسلام والمسلمين.   1 سيرة النبي ج1 ص602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثالثًا: السرايا وحركة الدعوة أدت السرايا والغزوات إلى تغيير كثير من المفاهيم التي سارت بين العرب قبلها، لقد تصور العرب أن المسلمين خرجوا من مكة فارين لا شأن لهم، وأن أمر الإسلام سيبقى حبيسًا في المدينة، وأن سلطان المكيين سيبقى عاليًا، ولذلك لم يدخل أحد من العرب في الإسلام بعدما صدقوا ما يشيعه أهل مكة عن الإسلام والمسلمين، وبخاصة أن المكيين يفاخرون بأمجادهم، ويظهرون قوتهم وسلطانهم. وقد أدت السرايا إلى تغيير كل هذه الأفكار لأنها تمت بطريقة سديدة، فقد تحركت السرايا إلى سائر القبائل المنتشرة في البوادي، وتعددت النواحي التي قصدتها حيث اتجهت كل واحدة منها لجهة ما، ولقوم معينين. كما أن كل واحدة منها قصدت في توجهها أهل هذه النواحي أولا مع محاولة الإمساك بأموال تجارة قريش التي تمر في هذه الناحية ثانيًا؛ لأنها في الحقيقة أموالهم، وذلك لإحداث تأثير مزدوج في نفوس القبائل، وعند أهل مكة. وهذا الأمر يمثل ما عرف حديثًا بالحرب الاقتصادية التي يقصد بها تحقيق النصر بلا قتال، كما تعرف بالحرب النفسية لإدخال الرعب والهزيمة في نفس الأعداء أيضًا. وحين نعلم أن السرايا والغزوات بدأت بعد الهجرة بسبعة أشهر، واستغرقت عشرة أشهر تقريبًا يظهر لنا ولكل عاقل مدى شجاعة المسلمين، ومدى استعدادهم للبذل من أجل نيل حقوقهم، ومدى طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في محرم من العام الأول للهجرة، ووقعت السرية الأولى في شهر رمضان من السنة الأولى، ووقعت السرية الأخيرة في شهر رجب من العام الثاني. حين نعلم ذلك -وهو حق- ندرك مدى حيوية المسلمين ومدى نشاطهم، وحركتهم التي أذهلت قبائل العرب في الجزيرة كلها، وأظهرت قوة المسلمين واستعدادهم لمواجهة أهل مكة ومن يشايعهم بعد أشهر قليلة من الهجرة، مما جعل أهل مكة لا يهنأون بما اغتصبوا من أموال وديار، فبدءوا يعيشون الواقع الجديد وبعدما كانت قوافلهم تسافر بعدد قليل من الرجال المسلحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقد أفصحت هذا السرايا عن شجاعة المسلمين؛ لأنهم خرجوا بأعداد قليلة للتصدي للقوافل المكية، وهي في حراسة مئات من الرجال المسلحين. ولم يحدث قتال في هذا السرايا، ومع ذلك فقد قامت بدورها في الاستطلاع، والمعرفة، وإرهاب كفار مكة، وتحييد سكان البوادي والأعراب، واختيار المكان المناسب للنزال والحرب ... الأمر الذي جعل المسلمين يخرجون لبدر حيث وقع القتال بينهم وبين أهل مكة وحدهم، من غير أن يساعد المكيين أحد. وأيضًا فلقد أدت هذه السرايا إلى تفتح أذهان الناس، وتطلعهم لمعرفة شيء عن الله الذي يدعو محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به، بعدما كانوا عنه منصرفين، وقد أدى ذلك إلى دخول كثير من الناس في الإسلام عقب غزوة بدر، لسابق علمهم به. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول بظفر صاحب المال المغصوب إن تمكن منه، وبخاصة إن كان المغتصب متمردًا على الشرع، والقانون، مستدلا بخروج المسلمين لأخذ أموالهم المغصوبة من القوافل حين يظفرون بها، وقد أباحها الله تعالى لهم. ويرى المعارضون للظفر أن هذا الخروج كان في إطار سلطة شرعية، وكان استثناء للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. ولقد اشترك في هذه السرايا المهاجرون وحدهم لأنهم أصحاب الحق، وعليهم وحدهم أن يعملوا لاسترداده، والظفر به، أما غيرهم فلا حق لهم، ولو قاموا به لعد عدوانًا منهم، الأمر الذي يأباه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى مدخل ... المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى تعرف غزوة "بدر"1 بأنها الغزوة الكبرى في الإسلام مع أنها كانت قليلة العدد بالنسبة لمن اشترك فيها، وبالنسبة لآثارها المادية ومع ذلك فهي الغزوة الكبرى لنتائجها المعنوية، وتأثيرها في العرب، وفي العالم كله. وقعت غزوة "بدر" هذه في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة. لقد تصور العرب وغيرهم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على المواجهة، وأنهم خرجوا من مكة هربًا من قوة المكيين، وأن الإسلام سيبقى معزولا مع أصحابه في المدينة المنورة. ولم تغير السرايا والغزوات التي وقعت قبل غزوة بدر هذا التصور تمامًا لانتهائها جميعًا بلا قتال، واستمر الأمر على ذلك حتى وقعت الغزوة، وتغير كل شيء، تغيرت المفاهيم، وتغيرت التصورات، وانمحت كل الآمال التي صنعها الكفار افتراء وكذبًا، وبدأ عهد جديد للدعوة إلى الله تعالى ولهذا كانت بدر هي الغزوة الكبرى. وحين نتناول الغزوة بالدراسة أرى ضرورة دراسة ما يلي:   1 "بدر" اسم بئر حفرها رجل من غفار اسمه بدر، وقيل هو بدر بن قريش الذي سميت قريش به، وهي على بعد مائة ميل جنوب المدينة في طريق الذاهب إلى مكة وهي قريبة من ساحل البحر وسميت بدرًا لتمامها وكمالها. "معجم البلدان ج1 ص357". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أولا: أسباب الغزوة ترك المسلمون مكة، وتركوا فيها أموالهم، وديارهم، ليحافظوا على دينهم، ويتحركوا به للناس في أمن واستقرار، ولم يرتض القرشيون ذلك، فاستولوا على الأموال واغتصبوا الدور، وحرموا المهاجرين من اصطحاب نسائهم، وذراريهم، ومنعوهم من دخول المسجد الحرام. وحاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعقبوه أثناء هجرته، وأخذوا يؤلبون أعراب البوادي ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن "كرز بن جابر الفهري" أغار على المدينة1 واستاق بعض إبلها استهانة بقوة المسلمين. وحاول القرشيون تأليب غير المسلمين من سكان المدينة فأخذ اليهود وعبدة الأصنام، والمنافقون يجاهرون بعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ووجد المسلمون أنفسهم أمام عداوة ظاهرة، وحرب موجهة إليهم من كل جانب، ورأوا أن قريشًا تعمل بلا كلل في تكثير أعداء الإسلام، وتوحيد أنشطتهم، وأعمالهم لمحاصرة المسلمين في المدينة، والقضاء عليهم. رأى المسلمون ذلك، فتيقنوا من ضرورة العمل لحماية دينهم، وموطنهم، وأنفسهم، وتأكدوا من أهمية التأهب، والاستعداد لمواجهة هذا الإجرام المتنامي من أعداء الله تعالى. إن للمسلمين حقوقًا تركوها في مكة، فعملوا للوصول إليها وأخذها ليفيق المكيون من غيهم، ويتعلموا أن الأمن لن يتحقق لهم إلا بأداء حقوق الآخرين، وليعرفوا أن المهاجرين ليسوا هملا لا حقوق لهم، وليسوا جماعة خائفة لا تقدر على المواجهة. وكان الله تعالى مع حق المسلمين العادل، فأمرهم بالاستعداد، والتهيؤ، للتصدي لأعدائهم، وأنزل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ   1 فتح الباري ج7 ص850. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1. وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} 2. والآيات واضحة الدلالة في أن إعداد القوة، والتهيئة للقتال، وقبول التضحية، يضمن الحقوق، ويمنع الحرب؛ لأن العدو المعتدي إذا رأى أمامه قوة تخيفه، وترهبه يمسك عن الظلم، ويخشى عاقبة عدوانه على غيره. وإعداد القوة يرهب عدو المسلمين الظاهر، وهم أهل مكة، ويرهب كذلك العدو المستتر وهم المنافقون، واليهود، ومن على شاكالتهم من الأعراب والرعاة. وكانت السرايا والغزوات قبل بدر جزءًا من هذا الاستعداد، والمواجهة، وقد اشترك في هذه السرايا المهاجرون وحدهم لأنهم أصحاب حق مسلوب يبحثون عنه، ولذلك قصدوا القوافل التجارية لأهل مكة الذاهبة إلى الشام، أو العائدة منها, وفي نفس الوقت لإظهار قوتهم وعزيمتهم، وشجاعتهم أمام أعدائهم. ونلاحظ حكمة التوجيه النبوي لأصحابه في هذه السرايا والغزوات، فلقد تم توجيهها إلى أماكن عديدة، وإلى قبائل مختلفة تقطن الطرق بين مكة والمدينة. كما نلاحظ أن السرايا كما قصدت القوافل المتجهة إلى الشام قصدت القوافل المتجهة إلى اليمن أيضًا في مكان وزمن لم يتوقعه القرشيون، ذلك أن سرية عبد الله بن جحش اتجهت إلى "نخلة" وهي مكان بين مكة والطائف في الطرق المتجهة إلى الجنوب وكان هدف هذه السرية هو المراقبة والاستطلاع. وقضى الله تعالى بنجاة كل قوافل قريش، وعدم وقوع إحداها في يد المهاجرين ولذلك بقي الأمر على ما كان عليه، واستمر الإذن بالقتال للمظلومين الذين أخرجوا   1 سورة الأنفال: 60. 2 سورة النساء: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 من ديارهم، وسلبت أموالهم. وفي غزوة العشيرة خرج عدد من المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتصدي لقافلة قرشية أثناء ذهابها إلى الشام، ولكنها أفلتت منهم، فأخذ المسلمون يترقبون رجوعها، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله، وسعد بن زيد، إلى شمال المدينة لاكتشاف القافلة حين رجوعها، فقبعا في "الحوراء"1 حتى مرت بهم راجعة، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجوعها2. كانت القافلة مكونة من ألف بعير محملة بثروات ضخمة، وكان يحرسها أربعون قرشيًا بقيادة أبي سفيان بن حرب3. إن الاستيلاء على هذه القافلة فرصة طيبة للمهاجرين، وضربة قاصمة لأهل مكة، وإعلان واضح يظهر قوة المسلمين، ويبين حرصهم على نيل حقوقهم، ومدى عزتهم وشجاعتهم. أخذت الأحداث تجري بقدر الله إلى حيث يشاء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" 4. فخرج عدد قليل بأسلحة عادية ظنًا منهم أنها واحدة من السرايا السابقة، وبخاصة أن الرسول لم يأمر بقتال، ولم يكلفهم به، وكانت الحالة التي تصورها المسلمون أن الخروج خاص بالمهاجرين ليأخذوا أموال القافلة عوضًا عن أموالهم، والذين خرجوا من الأنصار خرجوا لمساعدة إخوانهم، نظرًا لضخامة القافلة، ومصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 الحوراء بفتح الحاء وسكون الواو مكان يقع شمال المدينة. 2 المغازي ج1 ص20. 3 سيرة النبي ج1 ص606. 4 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ثانيا: مواقف الفريقين قبل المعركة مدخل ... ثانيًا: مواقف الفريقين قبل المعركة فهم القرشيون غاية المسلمين من محاولة التعرض لقوافلهم التجارية، فأخذوا حذرهم للإفلات والهرب، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، يؤكد ذلك ما أشار أبو جهل به لأبي سفيان قبل رحيله من مكة قائلا له: "يا معشر قريش إن محمدًا قد نزل بيثرب وأرسل طلائعه وإنما يريد أن ينال منكم شيئًا، فاحذروا أن تمروا طريقه أو أن تقاربوه1, وكانت آخر محاولات المسلمين خروجهم للاستيلاء على قافلة أبي سفيان بعد أن جاء خبر رجوعها من الشام وهي التي فرت منهم حين ذهابها إلى الشام، وأراد الله تعالى أن تقع غزوة "بدر" هذه المرة حيث نشب القتال، وكان ما كان من أحداث، وأحكام ويمكن توضيح موقف كل من المسلمين والقرشيين قبيل المعركة فيما يلي:   1 سيرة النبي ج1 ص602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أ- موقف المسلمين : بعدما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة القافلة من الشام، وفيها ألف بعير محملة بتجارات قبائل مكة، تحت حراسة ثلاثين أو أربعين رجلا، أخبر رسول الله وأصحابه، وندبهم للخروج وهو يقول لهم: "هذه عير قريش فاخرجوا لعل الله أن ينفلكموها". انتدب الرسول أصحابه للخروج ولم يأمرهم، وترك الأمر لاختيارهم فخف بعضهم، وقعد الأكثرون، ظنًا منهم أنها واحدة من الغزوات السابقة التي أفلتت فيها القوافل، وتمكنت من الهرب، وعادوا بعدها إلى المدينة المنورة. ورأوا كذلك أن العدد الذي خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كاف في أداء المهمة، ولم يتأهب الذين خرجوا للحرب التي فيها صناديد مكة، فلم يصطحبوا معهم كامل أسلحتهم وخيلهم1. وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ولما بلغ "الروحاء"2 رد أبا لبابة إلى المدينة وولاه أمرها3. وقد بلغت قوات المسلمين ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا، معهم فرسان، وسبعون   1 سيرة النبي ج1 ص607. 2 الروحاء بفتح الراء مشددة وسكون الواو وآخرها ألف ممدودة تقع جنوب المدينة وهي تابعة لإقليم الفرع سميت بذلك لاتخاذها مكانًا للراحة والسكون. "معجم البلدان ج2 ص76". 3 سيرة النبي ج1 ص612. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بعيرًا، فأخذ الرجال يتعاقبون على الإبل "كل ثلاثة على جمل"1, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاقب معهم2 وساروا للقاء القافلة قرب "بدر" التي تبعد عن المدينة بمائة ميل تقريبًا في الجهة الجنوبية، في الطريق الذاهب إلى مكة. وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرًا من مهاجره، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم عسكره في بئر أبي عنبة3 وهي على ميل جنوب المدينة، فعرض أصحابه ورد الصغار منهم، وبعدها واصل السير نحو بدر4. وعندما اقترب الركب الإسلامي من "الذفراء" وهي قرية قريبة من "بدر" أرسل المسلمون عيونهم لمعرفة أخبار القافلة فجاءهم الخبر بما لم يتوقعوه. جاءهم الخبر بأن أبا سفيان بن حرب اكتشف خروج المسلمين لملاقاة القافلة، فغير طريقه إلى الساحل، تاركًا بدرًا إلى يساره، وأسرع في سيره حتى بعدت القافلة عن المسلمين، وفي نفس الوقت أرسل أبو سفيان لأهل مكة يستنجد بهم لإنقاذ تجارتهم من محاولة استيلاء المسلمين عليها. وصل المسلمون إلى "بدر" وعسكروا فيها يومين ليستريحوا من وعثاء السفر، وليرى الأعراب وغيرهم من تواجدهم في بدر مدى شجاعتهم وقوتهم، ويعرفوا استعدادهم للقتال من أجل حماية الحقوق، وصيانة المبادئ والخلق الكريم. ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنده في "بدر" علم أن أهل مكة خرجوا لملاقاة المسلمين في تحد سافر، واستعداد تام للقضاء على المسلمين والإسلام. وبرغم علم القرشيين أن القافلة التجارية نجت إلا أنهم أصروا على الحرب آملين تلقين المسلمين درسًا يمنعهم من التصدي لقوافلهم بعد ذلك، وحتى يعلم أهل الجزيرة قوة أهل مكة وشدتهم في الحرب واللقاء، وكان رأس الداعين إلى ضرورة محاربة المسلمين أبو جهل لعنه الله.   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب عدة أصحاب بدر ج6 ص239. 2 الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص12 وقد رد رسول الله يوم بدر "إمتاع الأسماع ج1 ص62". 3 بئر في جنوب المدينة على بعد ميل واحد. 4 الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه والمسلمين معه أنهم أمام حرب فرضت عليهم بلا استعداد لها، ورأوا أن القتال أصبح ضرورة، وبخاصة أن الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين العير أو النفير، وما دامت العير قد فرت، فإن النفير أصبح قدر الله فيهم. نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الموقف العام وتأمل في موقف أصحابه الذين خرجوا معه من المهاجرين والأنصار، ورأى أن المهاجرين أصحاب حق، ولذلك أذن الله لهم بالقتال ... ورأى صلى الله عليه وسلم أن الأنصار لم يبايعوه يوم العقبة على القتال خارج المدينة، وإنما بايعوه على حمايته داخل المدينة وها هو القتال قد أتى وهم خارجها. رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فبدأ يستشير أصحابه، ويأخذ رأيهم، فأدى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقداد بن عمر بن الأسود فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه1. وسكت الناس بعد مقالة المقداد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليّ أيها الناس"، وكان صلى الله عليه وسلم يريد بكلمته هذه الأنصار. فلما أحس الأنصار أن الرسول يريد سماع رأيهم، قام سعد بن معاذ وقال: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل". قال سعد: لقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا، على السمع، والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا: إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله2.   1 الدرر ج3 ص163 وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وبرك الغماد موضع في هجر يكنى به عن المكان البعيد. 2 بلوغ الأماني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص29، 30 وانظر شرح النووي على صحيح مسلم ج12 ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وبعد أن اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي الأنصار أخذ في التأهب للقتال الذي أصرت عليه قريش، واستعد جميع من معه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار على قدر استطاعتهم لهذا اللقاء الذي فرض عليهم، وكان أملهم أن لا يقع قتال. وقدر الله أن يتم اللقاء، وتقع هذه الحرب لتكون فارقة بين الحق والباطل، وقد سبق أن وعدهم سبحانه وتعالى بتحقيق أحد أمرين: الغنيمة بعد القتال، أو الظفر بما تحمله القافلة من مال ومتاع وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} 1 فلما نجت القافلة وسقط الخيار الأول لم يبق إلا القتال الذي وعدوا بالنصر فيه والغنيمة منه. وقد رحب الجميع بالقتال، وساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بدر، وأخذوا يستعدون للقاء. ومن أهم أعمال الاستعداد للقتال في المعسكر الإسلامي ما يلي: 1- معرفة مكان القرشيين: بدأ النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في البحث عن المكان الذي نزل فيه جيش قريش وأخذا يتجولان في منطقة "بدر" فإذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكان جيش قريش، وعن مكان محمد وأصحابه "وإنما سأله عن مكان المسلمين حتى لا يعرف من هما". قال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك". قال: أو ذاك بذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال الشيخ: فإنه قد بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن   1 سورة الأنفال: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش المدينة- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش مكة. ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء". ثم انصرفا عنه. وبقي الشيخ يتفوه: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ أم ماذا؟ 1. وبذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم مكان جيش قريش فنظم جيشه، وأخذ يعده للقاء. 2- معرفة قوة العدو: كلف النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من قادة المهاجرين على رأس نفر من أصحابه، لتحري عدد العدو، ومدى قوتهم، والأربعة هم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعيد بن العاص، وبسبس بن عمرو رضي الله عنهم، فذهبوا إلى ماء بدر، فوجدوا سقاة قريش عنده فلما اقتربوا منهم حاولوا الفرار، فقبض الصحابة على ثلاثة هم: أبو يسار غلام أبي العاص بن سعيد، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، وجاءوا بهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فاستخبرهم القوم فقالوا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم قولهم، ورجوا أن يكونوا لأبي سفيان، فضربوهم ضربًا موجعًا، حتى اضطر الغلمان أن يقولوا: نحن لأبي سفيان، فتركوهم. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال لهم كالعاتب: "إذا صدقوكم ضربتموهم وإذا كذبوكم تركتموهم، صدقوا والله إنهم لقريش". ثم خاطبهم قائلا: "أخبروني عن قريش". قالوا: هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم القوم"؟. الوا: كثير. قال صلى الله عليه وسلم: "ما عدتهم"؟.   1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص616. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قالوا: لا ندري. قال صلى الله عليه وسلم: "كم ينحرون كل يوم"؟. قالوا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا. قال صلى الله عليه وسلم: "القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف". ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: "فمن فيهم من أشراف قريش"؟. قالوا: عتبة، وشيبة، ابنا ربيعة، وأبو البحتري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" 1. 3- النزول في مكان حيوي: تحرك النبي بجيشه نحو بدر، ونزل ليلا عند أدنى مياه في بدر مما يلي جهة المدينة، وهنا قال الحباب بن المنذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت هذه المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فنزله ونغور -أي نخرب ما وراءه من القلب- ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي". فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش، حتى وصل عند أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغرروا ما عداها من القلب2. 4- تحديد المهام القتالية: جهز الرسول صلى الله عليه وسلم جيش المسلمين للقتال وصف الصفوف، وعقد الألوية، وحدد لكل لواء شعاره.   1 بلوغ الأماني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص34 تاريخ الطبري ج1 ص436. 2 سيرة النبي ج1 ص620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يقول ابن سعد: وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الألوية، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الأعظم، ولواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين، يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، ويقال: بل كان شعار المسلمين جميعًا يومئذ: يا منصور أمت، ومن الممكن أن يكون هناك شعار خاص لكل فريق، وشعار واحد لهم جميعًا. وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا، وقام سعد بن معاذ على بابه يحرسه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفوف، فلما رأى القرشيين يتجهون إلى وادي بدر قال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها، وفخرها، تحاربك، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة" 1. أي أمتهم. ولما قرب اللقاء وقف النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في أصحابه وقال لهم بعد حمد الله والثناء عليه: "أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم عنه، فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله، على منازلهم عنده، به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل الحق، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم، وينجي به من الغم، وتدركون النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم، ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عز وجل على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله يقول: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} انظروا الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته، وأعزكم به بعد ذلة، فاستمسكوا به يرضى به ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرًا تستوجبون الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم نستعين بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين"2.   1 زاد المعاد ج3 ص176. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وقد بلغ عدد الذين خرجوا مع رسول الله ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا، أغلبهم من الأنصار مع أنهم كانوا يعلمون أن الإذن بالقتال لم يكن لهم1. وجملة من خرج من المهاجرين أربع وثمانون صحابيًا، ومن الأوس واحد وستون ومن الخزرج مائة وسبعون. 5- الجيش الإسلامي في رعاية الله: أرض وادي بدر رملية ناعمة، تؤذي من يسير عليها، ويتحرك فوقها، وقد شعر المسلمون بالتعب لطول السفر، وعدم النوم، وسيطر عليهم قلق الانتظار والترقب. وهنا تحوطهم رعاية الله تعالى فينزل عليهم المطر، وتتلبد الأرض، ويسهل عليهم السير ويغشاهم نعاس ألقاه الله عليهم لتهدأ خواطرهم، ويذهب تعبهم وذلك من فضل الله عليهم يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} 2. وقد احتلم عدد من الصحابة فلما أصبحوا وجدوا الماء فاغتسلوا وتطهروا، وبذلك دخلوا المعركة أطهارًا، ناجين من رجس الشيطان، ثابتي الأقدام، مطمئني القلوب. ومكث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الليلة في صلواته، ودعائه ليصبح على يوم اللقاء والمعركة وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة حيث كان نصر الله تعالى. وفي صباح يوم الجمعة تراءى الجمعان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك، وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة" 3. وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، قد كان في يده قدح يعدل به، وكان "سواد بن غزية" خارجًا عن الصف فدفع النبي صلى الله عليه وسلم   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب عدة أصحاب بدر ج6 ص239. 2 سورة الأنفال: 11. 3 سيرة النبي ج1 ص621، زاد المعاد ج3 ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 القدح في بطنه ليتساوى مع الصف, فاشتكى سواد وجع القدح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له صلى الله عليه وسلم: "استقد مني". وهنا اعتنق سواد النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا يا سواد"؟. قال سواد: يا رسول الله قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير1. ولما أتم صلى الله عليه وسلم تعديل الصفوف، أصدر أوامره إلى جيشه، بأن لا يبدءوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: "إذا أكثبوكم، يعني كثروكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم"2, ثم رجع إلى العريش ومعه أبو بكر، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش. وبعد أن سوى صلى الله عليه وسلم الصفوف، وتهيأ الجميع للقتال أرسل إلى القرشيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فرصة أخيرة يقول لهم: "ارجعوا فإنه إن يل هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، وأن آليه من غيركم أحب إليّ من أن آليه منكم". فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصحًا فاقبلوه، فوالله لا تنتصرون عليه بعدما عرض من النصح، فأبوا النصيحة، وأصروا على القتال3. وهكذا يبدو الخلق الإسلامي من توجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم البدء في القتال، وعدم استعمال سلاح إلا إذا استعمله الأعداء أولا، فإن كان الرمي بالنبال يكون الرد بالنبال، وإن سلوا السيوف فلا مانع من الرد بها، وفي إرسال عمر لهم بيان تام لرغبة المسلمين في السلام الكريم الذي لا يضيع الحقوق.   1 سيرة النبي ج1 ص626. 2 صحيح البخاري. كتاب المناقب. باب غزوة بدر ج6 ص205. 3 سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ج4 ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ب- موقف القرشيين : أرسلت قريش عيرها إلى الشام، في قافلة ضخمة، بقيادة أبي سفيان بن حرب، وكانت القافلة مكونة من ألف بعير، فيها أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي، ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في هذه العير، فأدركهم رجل من جذام بـ"الزرقاء"1 من ناحية "معان"2 -وهم منحدرون إلى مكة- فأخبر أبا سفيان أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان قد عرض لغيرهم في بدأتهم، وأنه تركه مقيمًا ينتظر رجعتهم، وقد حالف أهل الطريق، ووادعهم، فخرجوا خائفين الرصد، وبعثوا "ضمضم بن عمرو" حين فصلوا من الشام، وأمره أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية أن يخبر قريشًا أن محمدًا قد عرض لغيرهم، وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل مكة، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ودبره، ويصيح: الغوث الغوث. فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول: يا معشر قريش! يا آل لؤي بن غالب اللطيمة اللطيمة! قد عرض لها محمد في أصحابه، الغوث الغوث! والله ما أرى أن تدركوها، وقد جدع أذني بعيره، وشق قميصه، وحول رحله، فلم تملك قريش من أمرها شيئًا حتى نفروا على الصعب والذلول، وتجهزوا للحرب في ثلاثة أيام، وأعان قويهم ضعيفهم، وقام سهيل بن عمرو، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، يحضون الناس على الخروج. فقال سهيل: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدًا والصباة من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوة فهذه قوتي، فمدحه أمية بن أبي، وأيده في تهييج أهل مكة. ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش، فكلمهم في بذل النفقة والحملان، لمن خرج، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت   1 الزرقاء تأنيث الأزرق موضع جنوب الشام جهة معان. 2 معان بفتح الميم أو ضمها وهي مدينة في طرف بلاد الشام الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار، وثلاثمائة دينار لتقوية السلاح، والظهر. وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرًا، وقواهم، وخلفهم في أهله بمعونة ومال, ولم يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثًا، فلما مشوا إلى أبي لهب أبى أن يخرج، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان مدينًا له بأربعة آلاف درهم. قال أبو لهب للعاص: اخرج، وديني لك فخرج عنه وتحمل أبو لهب ما وعد به. واستقسم أمية بن خلف، وعتبة، وشيبة، عند هبل بالآمر بالخروج والناهي عنه فخرج القدح الناهي، وأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل واستقسم زمعة بن الأسود فخرج الناهي أيضًا، وكذلك خرج لعمير بن وهب، وخرج حكيم بن حزام وهو كاره لمسيره، بعدما خرج له القدح الناهي مثل غيره، فلما نزلوا مر الظهران نحر أبو جهل جزرًا وزعها عليهم، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها وأخذ عداس يخذل شيبة، وعتبة بن ربيعة، والعاصي بن منبه بن الحجاج، وأبا أمية بن خلف فأتاه عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل فعنفاه. فقال: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملا بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فخرج بها مع الجيش، أملا في أن يفر بها حين الهزيمة التي يتوقعها، وأقبل القرشيون في تجمل عظيم، وحنق زائد، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وتجرؤهم على قوافلهم ورجالهم1. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت رؤيا قبل مجيء ضمضم بثلاث ليال، رأت راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله قام به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ بمثلها، ثم قام به على رأس جبل أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فرماها فتفتتت ودخلت كل بيوت مكة ... وعاشت الرؤيا في مكة وخاف منها الكثير غير أبي جهل فإنه سخر منها2.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص66. 2 سيرة النبي ج1 ص607. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فكان عمرو بن العاص يحدث فيقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، فلقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ فأخر إسلامنا إلى ما أراد. ولم يدخل دارًا ولا بيتًا من دور بني هاشم ولا بني زهرة من تلك الصخرة شيء1. تمكن أبو سفيان من الإفلات بالقافلة؛ لأنه علم بخروج المسلمين للاستيلاء عليها فلما اقترب من بدر أخذ طريق الساحل، بعد أن علم بوصول المسلمين إليها، ذلك أنه كان يسير على الطريق الرئيسي حذرًا متيقظًا، وقد ضاعف حركاته الاستكشافية. ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي "مجدي بن عمرو" وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدًا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعًا، وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربًا، تاركًا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا أبو سفيان بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها القرشيون عند وصولهم إلى الجحفة2. وخرج الجيش القرشي، بعدته، وعتاده، وقد بلغ عدده تسعمائة وخمسين رجلا، بقيادة عدد من صناديد مكة، وكان معهم مائتا فرس، وعدد كبير من الإبل لركوبهم، وحمل أمتعتهم ومئونة طعامهم، وليتاجروا فيها، وفي أحمالها، بعد تحقيق النصر الذي تصوروه مؤكدًا. وقبل أن يتحرك جيش الشرك أخذ القرشيون لأنفسهم الأمان من "كنانة" بعدما قال لهم مالك بن جعشم المدلجي، وهو من أشراف كنانة: "أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه".   1 المغازي ج1 ص29. 2 المغازي ج1 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وقد كره أهل الرأي أن يخرجوا للقتال بعد نجاة القافلة، ومشى بعضهم لبعض في ذلك إلا أن دعاة الحرب، وعلى رأسهم أبو جهل "عمرو بن هشام" جعلوا يحرضون على الخروج، ويحضون على القتال، حتى تمكنوا من غايتهم، ولم يخالفهم إلا بنو زهرة وبنو عدي ونفر من بني هاشم. أما بنو زهرة فقد قال لهم الأخنس بن شريك حليفهم: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة، لا كما يقول هؤلاء فرجعوا، وكانوا نحو المائة، ويقال ثلاثمائة، فما شهدها زهري إلا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري، وقتلا كافرين ببدر. واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا. وأما بنو عدي بن كعب فقد خرجوا مع الجيش حتى وصلوا إلى ثنية "لفت"1 وهي مكان بين مكة والمدينة، فعدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فقابلهم أبو جهل فقال لهم: يا بني عدي كيف رجعتم؟ لا في العير ولا في النفير؟ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع، فرجعنا. وأما بنو هاشم: فإنهم لما أزمعوا التخلف قال لهم أبو جهل: لا تفارقنا هذه العصابة منكم حتى نرجع. ولم يترك أبو جهل شخصًا من مكة، كارهًا للخروج، أو مسلمًا يعلمون إسلامه ولا أحدًا من بني هاشم إلا وأشخصوه معهم بما بذلوه من جهد وحيلة، وكان على رأس من أخذوهم معهم: العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وأبو العاص بن الربيع. وقد حاول أبو سفيان صرف قريش عن الخروج، فأرسل إليهم رسالة حملها قيس بن امرئ القيس، وجاء فيها: "إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها لله فارجعوا"2.   1 لفت بفتح أوله وسكون ثانية موضع بين مكة والمدينة. 2 المغازي ج1 ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فلما علم أبو جهل بالرسالة قال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم ثلاثًا فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها. وواصل جيش قريش مسيرته نحو بدر حتى وصل إلى العدوة القصوى فبات عندها. وقد قام القرشيون بعدد من العمليات عند بدر استعدادًا للقتال، إلا أن الله تعالى أخزاهم، وجعل تخطيطهم وسعيهم وبالا عليهم، يتضح ذلك من أعمالهم التالية: 1- اختيار المكان: اختار القرشيون لأنفسهم مكانًا حيويًا نزلوا فيه عند العدوة القصوى في بطن الوادي حيث قربه من الماء، وأرضه صخرية لا تسيح فيه الأقدام، بينما نزل المسلمون في أرض رملية، بعيدًا عن الماء وذلك يمنعهم من الحركة، ويوقع بهم الظمأ. اشتد الأمر بالمسلمين وأصابهم التعب والظمأ، بينما كان الماء وفيرًا لدى القرشيين، والأرض تحت أقدامهم صلبة وأراد الله تعالى بقدرته وحكمته أن يبدل الأمر ويغير الحال فأنزل في ليلة المعركة مطرًا كثيرًا ألحق الأذى بالكفار، ومنعهم من التقدم، وشق عليهم أن يتحركوا فوق الصخر المبلل بالماء أما المسلمون فقد تطهروا، وتصلب الرمل تحت أقدامهم وسهل المشي، وثبتت الأقدام، وملئوا أسقيتهم وشربوا، وسقوا إبلهم. وهكذا تحولت مزية المكان الذي اختاره القرشيون إلى سوأة ألمت بهم. 2- محاولة تخريب معسكر المسلمين: نظر القرشيون إلى معسكر المسلمين فوجدوا أن المسلمين قد بنوا حوضًا وملئوه ماء وخربوا ما عداه فأرسلوا نفرًا منهم لهدم الحوض، وإسالة مائه فحاول المسلمون طردهم، ومنعهم من الاقتراب، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوهم يشربون، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين فيما بعد يقول: لا والذي نجاني من يوم بدر وهكذا ضلت محاولة القرشيين في تخريب حوض المسلمين". 3- معرفة عدد المسلمين: اطمأنت قريش لمنزلتها في بدر فبعثت "عمير بن وهب الجمحي" للتعرف على مدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول المعسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين، أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئًا فرجع إليهم، فقال: ما وجدت شيئًا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة، ولا ملجأ، إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلًا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم، فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم وأنى لهؤلاء القوم لهم أن يفكروا ويتدبروا، ودعاة الحرب فيهم تنذر وتحرض وتحول بينهم وبين التعقل والفهم السليم!! 4- مقاومة معارضي القتال: قامت معارضة ضد أبي جهل -المصمم على المعركة- تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دية حليفك عمرو بن الحضرمي -المقتول في سرية النخلة. فقال عتبة: قد فعلت، أنت ضامن عليّ بذلك، إنما هو حليفي فعليّ عقله، وديته وما أصيب من ماله. ثم قال عتبة لحكيم بن حزام: فائت ابن الحنظلية "أبا جهل" فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تقتلوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل -وهو يهيئ درعًا له- فقال له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني بكذا وكذا. فقال أبو جهل: انتفخ والله سرحه حين رأى محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال: ولكنه رأى أن محمدًا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه "وهو أبو حذيفة بن عتبة، كان قد أسلم قديمًا، وهاجر" فتخوفكم عليه. ولما بلغ عتبة قول أبي جهل "انتفخ والله سحره"، قال عتبة: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ 1. وتعجل أبو جهل الحرب مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي -أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش- فقال: هذا حليفك "أي عتبة" يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر، فكشف عن استه، وصرخ: واعمراه واعمراه فحمي القوم، واشتد أمرهم وانفعلوا لثأرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر2. وبذلك أفسد أبو جهل على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، وتغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص83 بتصرف. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثالثًا: أحداث المعركة التقى الجمعان وجهًا لوجه، وفي صباح يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في العام الثاني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ القتال وكان الجو حارًا. وكانت بدايته عدوانًا قرشيًا ضد المسلمين، فلقد جاء الأسود بن عبد الأسد المخزومي، ودنا من حوض ماء المسلمين وقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فاستقبله حمزة بن عبد المطلب، فضربه فقطع قدمه، فزحف الأسود حتى وقع في الحوض، فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه، وحمزة يتبعه فضربه في الحوض، فقتله1. وجاء عمير بن وهب فناوش المسلمين، فثبتوا على حقهم، ولم يزولوا، وشد عليهم عامر بن الحضرمي، ونشبت الحرب، فكان أول من خرج من المسلمين مهجع بن عائش بن عريف مولى عمر بن الخطاب، فقلته عامر بن الحضرمي، ومهجع هو أول شهيد قتل من المهاجرين2. وكان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة، ويقال قتله حبان بن عرقة ويقال عمير بن الحمام قتله خالد بن الأعلم العقيلي3. دنا الجيشان بعضهم من بعض، وخرج عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة فتيان من الأنصار وهم، معوذ، وعوف ابنا عفراء، ثالثهم عبد الله بن رواحة، فاستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكره أن يكون أول قتال لقي فيه المسلمون المشركين من الأنصار، وأحب أن تكون الشوكة بين بني عمه وقومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرًا. ثم نادى منادى المشركين: يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا. فقال صلى الله عليه وسلم: يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث نبيكم به، إذا جاءوا ببطالهم ليطفئوا نور الله. فقام علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فمشوا إليهم، وكان علي رضي الله عنه معلمًا بصوفة بيضاء. فقال عتبة لابنه: قم يا وليد، فقام فقتله علي. ثم قام عتبة فقتله حمزة. ثم قام شيبة فقام إليه عبيدة فضربه شيبة ضربة فقطع ساقة، فكر حمزة وعلي فقتلا   1 إمتاع الأسماع ج1 ص83. 2 الطبقات الكبرى ج2 ص17. 3 المصدر السابق ج2 ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 شيبة واحتملا عبيدة إلى الصف فنزلت فيهما هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} 1"2. واستفتح أبو جهل يومئذ فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعلم، فأحنه الغداة اللهم أينا كان أحب إليك، وأرضى عندك فانصره اليوم3 فأنزل الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} 4. وبذلك حكم أبو جهل على نفسه. وأخذ أبو جهل يصيح في قومه ويقول: لنا العزى ولا عزى لكم. فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار5. وتصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يذمر المشركين، ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه وقال: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 6 فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنه سراقة، فضرب صدر الحارث فسقط، وانطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر7. وأقبل أبو جهل يحض المشركين على القتال بكلام كثير، ويهون عليهم ما شاهدوه   1 سورة الحج: 19. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب غزوة بدر ج6 ص243. 3 زاد المعاد ج3 ص184. 4 سورة الأنفال: 19. 5 سورة الأنفال: 19. 6 سورة الأنفال: 48. 7 زاد المعاد ج3 ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 من صورة سراقة بن مالك وقال لهم: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة، وشيبة، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقيد محمدًا وأصحابه، ونربطهم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل رجلا واحدًا منهم فقط، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم سوء صنيعهم1. اتسع نطاق المعركة، وأجهد المسلمون أعداءهم، والنبي في العريش يدعو على أعداء الله، ويحرض المسلمين على القتال، يقول لهم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة". تعلق أمل المسلمون في معونة الله وبذلوا للنصر كل طاقتهم، وأخذوا في الاستعانة والدعاء حتى أتاهم المدد الإلهي العظيم، وعنه يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 2. وهكذا جاءت الملائكة في صورة متتابعة استجابة لاستغاثة المجاهدين في بدر. يقول ابن إسحاق: خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ثنايا النقع3. وأخذ صلى الله عليه وسلم ينادي ربه ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض فما زال صلى الله عليه وسلم يهتف بربه، مادًا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وأبو بكر رضي الله عنه يقول له: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك4. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة قد سومت فسوموا، فأعلموا بالصوف في مغازهم وقلانسهم"، وكان أربعة يعملون في الزحوف، فكان حمزة معلمًا بريشة نعامة، وعلي معلمًا بصوفة بيضاء، والزبير معلمًا بعصابة صفراء، وأبو دجانة معلمًا بعصابة حمراء5.   1 زاد المعاد ج3 ص184. 2 سورة الأنفال: 9. 3 سيرة النبي ج1 ص632. 4 صحيح مسلم بشرح النووي باب الأمداد بالملائكة في بدر ج12 ص84، 85. 5 المغازي ج1 ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 يقول سهيل بن عمرو: ولقد رأيت يوم بدر رجالا بيضًا، على خيل بلق، بين السماء والأرض، معلمين، يقتلون، ويأسرون1. ويقول أبو أسيد الساعدي، "بعد أن ذهب بصره": لو كنت معكم الآن ببدر "ومعي بصري" لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى2. وكان ابن عباس يحدث أن أبا رهم الغفاري قال: أقبلت أنا وابن عم لي يوم بدر حتى أصعدنا في جبل "ونحن مشركان" ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننتهب مع من ينتهب "فبينا نحن في الجبل" إذ رأيت سحابة دنت منا، فسمعت فيها حمحمة الخيل وقعقعة الحديد، وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت، وأتبعت البصر حيث تذهب السحابة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم رجعت وليس فيها شيء مما كنت أسمع3. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدخر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رؤي يوم بدر". قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة". وقال صلى الله عليه وسلم يومئذ: "هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبى، إني نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" 4. وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم يليهما ثالث من خلفه، ثم رابعهما رابع أمامه5.   1 زاد المعاد ج5 ص183. 2 سيرة النبي ج1 ص633. 3 صحيح مسلم بشرح النووي. باب الإمداد بالملائكة يوم بدر ج12 ص87. 4 المغازي ج1 ص77، 78. 5 المصدر السابق ج1 ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وعن صهيب رضي الله عنه: ما أدرى كم يد مقطوع، أو ضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها1. وعن أبي بردة بن نيار رضي الله عنه قال: جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتهن بين يدي رسول الله فقلت: يا رسول الله، أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا أبيض، طويلا، ضربه، فتدهده أمامه فأخذت رأسه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك فلان من الملائكة". وعن ابن عباس: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس تثبيتًا للمسلمين فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، وذلك قول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 2. وعن حكيم بن حزام: لقد رأيتنا يوم بدر، وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم فما كانت إلا الهزيمة لحقت بجيش الكفر، وما كان النمل إلا الملائكة3. وعن ابن عباس رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ بعنان فرسه وعليه أداة الحرب" 4. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه فإذا به يسمع ضربة السوط، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فينظر إلى المشرك أمامه مستلقيًا وقد خطم أنفه، وشق وجهه، من ضربة السوط ويخضر ذلك الموضع أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة" 5.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص88. 2 سورة الأنفال: 12. 3 إمتاع الأسماع ج1 ص89 وخلص واد بين مكة والمدينة، والبجاد الكساء. 4 المغازي ج1 ص80. 5 صحيح مسلم بشرح النووي باب الإمداد بالملائكة ج12 ص86، 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وروى البيهقي عن السائب بن أبي حبيش رضي الله عنه وكان مع المشركين في بدر أنه كان يقول: والله ما أسرني أحد من الناس. فيقال له: فمن؟ فيقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والأرض، فأوثقني رباطًا1. وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطًا، فنادى في العسكر: من أسر هذا؟ فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يابن أبي حبيش من أسرك"؟. فقلت: لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت. وهنا قال صلى الله عليه وسلم: "أسرك ملك من الملائكة" 2. وروى ابن سعد وأبو الشيخ بن عطية بن قيس قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال بدر جاء جبريل على فرس أنثى أحمر، عليه درعه، ومعه رمحه، فقال: يا محمد، إن الله بعثني إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، رضيت". فانصرف3. روى أبو يعلى عن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر إذ تبسم في صلاته، فلما قضى صلاته قلنا يا رسول الله: رأيناك تبسمت، قال: "مر بي ميكائيل وعلى جناحه أثر الغبار، وهو راجع من طلب القوم، فضحك إليّ فتبسمت إليه" 4. وروى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ ". قلنا: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها. قال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة5. وروى ابن سعد عن عكرمة قال: كنا يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من   1 مسند أحمد ج2 ص194 تحقيق أحمد شاكر. 2 المغازي ج1 ص79. 3 الطبقات الكبرى ج2 ص27. 4 بغية الرائد في تحقيق مجموع الزوائد ج6 ص111. 5 صحيح البخاري كتاب المغازي باب شهود الملائكة بدرًا ج6 ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربه1. ونهى رسول الله يومئذ عن قتل بني هاشم، فقال: "من لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله" 2. ونهى عن قتل العباس بن عبد المطلب. ونادى مناديه: من أسر أم حكيم بنت حزام فليخل سبيلها فإن رسول الله قد أملها وكان قد أسرها رجل من الأنصار، وكتفها بذؤابتها فلما سمع المنادى خلى سبيلها. ونهى صلى الله عليه وسلم أيضًا عن قتل أبي البختري فقتله أبو داود المازني، ويقال قتله المجذر بن زياد, ونهى عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل فقتله خبيب بن يساف ولا يعرفه. ونهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع ولا يعرفه3. ولما التحم القتال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر، وما وعده، وأمر صلى الله عليه وسلم فأخذ من الحصا كفًا فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه، اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم" 4, فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء، وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون، ويأسرون، وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه، وما يدري أين يتوجه والملائكة يقتلونهم وذلك قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 5. وجمح بعقبة بن أبي معيط فرسه، فأخذه عبد الله بن سلمه العجلاني، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فضرب عنقه صبرًا، وصدق الله رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله لعقبة: "إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرًا". وبينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يجمع أدرعًا، بعد أن ولى الناس، إذا هو بأمية   1 الطبقات الكبرى ج2 ص206. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص88. 3 وسبب قتل من نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم عدم وصول النهي إلى الصحابي القاتل، أو أنه لم يعرض الشخص الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم "عن قتله إمتاع الأسماع ج1 ص89". 4 زاد المعاد ج3 ص185. 5 سورة الأنفال: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ابن خلف، وابنه علي، فأخذ يسوقهما أمامه فأبصره بلال فنادى: يا معشر الأنصار، أمية بن خلف رأس الكفر، لا نجوت إن نجا! فأقبلوا حتى طرح أمية على ظهره، وقطع الحباب بن المنذر أرنبة أنفه، وضربه خبيب بن يساف حتى قتله1. وقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه علي بن أمية بن خلف. وقتل الزبير بن العوام رضي الله عنه عبيدة بن سعيد بن العاص. وقتل أبو دجانة رضي الله عنه عاصم بن أبي عوف بن ضبيرة السهمي. وقتل علي رضي الله عنه عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، وحرملة بن عمرو وهو يراهما أبا جهل. وقتل حمزة رضي الله عنه أبا قيس بن الفاكه بن المغيرة، وهو يراه أبا جهل. وكان أبو جهل في مثل الحرجة "هي الشجر الملتف" والمشركون يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فصمد معاذ بن الجموح إلى أبي جهل فضربه ضربة، وطرح رجله من الساق، فأقبل عليه عكرمة بن أبي جهل فضربه على عاتقه فطرح يده من العاتق، وبقيت الجلدة، فوضع معاذ عليها رجله، وتمطى بها عليها حتى قطعها، وضربه مع معاذ، معوذ وعوف ابنا عفراء فنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا سيف أبي جهل ودرعه وأخذ المسلمون يجمعون الغنائم والأموال، ويأخذون الأسرى، فرحين بنصر الله تعالى.   1 زاد المعاد ج3 ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 رابعًا: نتائج المعركة لم تغرب شمس يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة إلا وقد تم النصر لجند الله في بدر، وتأكد المسلمون المجاهدون من نصر الله تعالى، بعدما رأوا الملائكة تنزل عليهم في صورة بشرية، معونة، وتثبيتًا، وأسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة لكفار مكة، وانتصار كبير للمسلمين، وكان لهذا النصر صدى واسع في الجزيرة العربية كلها. وقد لقي سبعون من صناديد مكة مصرعهم في بدر، وعلى رأسهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيدة والعاص ابنا سعيد بن العاص، وعقبة بن أبي معيط, وغيرهم من القادة والزعماء كما أسر منهم سبعون آخرون1. وفر الباقون إلى مكة تاركين وراءهم الأموال وكثيرًا من الإبل، والخيل التي كانت في صحبتهم. وقد حفر المسلمون قليبًا، دفنوا فيه قتلى المشركين، بعدما أمرهم صلى الله عليه وسلم بإلقائهم فيه دفعة واحدة. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه، لا يسأل عنه، مؤمنًا كان أو كافرًا، احترامًا لإنسانيته، وإلقاء القتلى في القليب من هذا الباب، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يشق على أصحابه بكثرة جيف الكفار أن يأمر بدفنهم، واحدًا، واحدًا، فرأى أن دحرجتهم إلى القليب جملة أيسر عليهم وعلى المسلمين فأمر به، وبخاصة أن نتن الجيف قد انتشرت لبقائها في العراء مدة ليست قليلة. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء القتلى جميعًا في القليب بأجسادهم، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه، فتزايل جسده وتقطع، فأهالوا عليه التراب حيث هو، ووقف الرسول على القليب ثم قال: "يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني   1 انظر صحيح البخاري. كتاب المناقب. باب في غزوة بدر ج6 ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قد وجدت ما وعدني ربي حقًا؟ بئس القوم كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس". قال المسلمون: يا رسول الله تنادي قومًا قد ماتوا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قد علموا أن ما وعدهم ربهم حق" 1. وقال السدي عن مقسم عن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر فقال: "جزاكم الله عني من عصابة شرًا فقد خونتموني أمينًا، وكذبتموني صادقًا"، ثم التفت إلى أبي جهل فقال: "هذا أعتى على الله من فرعون، إن فرعون لما أيقن بالهلكة وحد الله، وإن هذا لما أيقن بالهلكة دعا باللات والعزى". وأما الأسرى والجرحى فقد اهتم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذهم إلى المدينة، وفرق الأسرى على أصحابه لإعالتهم، ورعايتهم وقال لهم: "استوصوا بالأسارى خيرًا". وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى. يقول أخو مصعب: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غذاءهم، وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها. وقد استشهد من المسلمين أربعة عشر شهيدًا وهم رضي الله عنهم: 1- عبيدة بن الحارث رضي الله عنه. 2- عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه. 3- عمير بن الحمام من بني سلمة رضي الله عنه. 4- سعد بن خيثمة من بني عمرو بن عوف من الأوس رضي الله عنه. 5- ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة رضي الله عنه. 6- مبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف رضي الله عنه.   1 انظر صحيح البخاري كتاب المناقب باب غزوة بدر ج6 ص249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 7- عاقل بن البكير الليثي رضي الله عنه. 8- مهجع مولى عمر حليف بني عدي رضي الله عنه. 9- صفوان بن بيضاء الفهري رضي الله عنه. 10- بيضاء الفهري رضي الله عنه. 11- يزيد بن الحارث من بني الحارث بن الخزرج رضي الله عنه. 12- رافع بن المعلى رضي الله عنه. 13- حارثة بن سراقة وهو ابن عمة أنس بن مالك خرج نظارًا، وهو غلام، فأصابة سهم فقتله رضي الله عنه. 14- عوف، ومعوذ ابنا العفراء وكان سنهما أربع عشرة سنة1 رضي الله عنهما وهؤلاء الشهداء منهم ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. وقد أحاط الله شهداء المسلمين بالخير، وميزهم بالفضل، وأحاطهم بالنعيم. يروي البخاري عن رفاعة ابن رافع الزرقي رضي الله عنه، وكان من أهل بدر قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من أفضل المسلمين"، أو كلمة نحوها. قال جبريل: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة2. وروى أبو داود وابن ماجه والطبراني بسند جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلع الله تعالى على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3. وروى مسلم والترمذي عن جابر رضي الله عنه أن عبدًا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبًا إليه فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخلن حاطب النار، فقال: "كذبت لا يدخلها، فإنه قد شهد بدرًا والحديبية" 4. وفي الصحيح عن علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب وأن عمر بن الخطاب قال: يا رسول   1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص706، 708. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب شهود الملائكة بدرًا ج6 ص256. 3 صحيح البخاري باب شهود الملائكة بدرًا ج6 ص257. 4 صحيح مسلم باب فضائل حاطب ج19 ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس من أهل بدر؟ ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال فقد وجبت لكم الجنة" 1. وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة بن زيد ببدر فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى فترى ما أصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس" 2. وإنما استحق أهل بدر كل هذا الفضل؛ لأنهم قدموا أنفسهم لنصر دين الله تعالى، فجعل الله ذنوبهم بعد ذلك تقع مغفورة، كما أنهم لصفاء أرواحهم، وصدق إيمانهم لا يقع الذنب منهم إلا خطأ، وبصورة نادرة. والمغفرة المذكورة تتعلق بأحكام الآخرة، وبحقوق الله تعالى، أما أحكام الدنيا وحقوق الناس فلا بد من استيفائها، وأدائها لأصحابهما بعدما حدثت. ومن مواقف المسلمين في بدر ما حدث من عمير بن الحمام الأنصاري فلقد روى الإمام أحمد في مسنده أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال عمير: بخ بخ. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ"؟. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرته، فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل.   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب غزوة بدر ج6 ص249. 2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب غزوة بدر ج6 ص248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 خامسًا: قريش والهزيمة تقهقرت فلول جيش مكة، وولوا الأدبار في الظلام وأسرعوا فارين إلى مكة، وشربوا من الكأس التي أذاقوه لغيرهم كثيرًا. وقد أخذ المتخلفون في مكة يتحسسون أخبار المعركة، وكان أول خبر أتاهم من "الحيسمان بن إياس الخزاعي" الذي وصل إلى مكة. فقالوا له: ما وراءك؟ فقال لهم: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه، ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البحتري بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر، والله إن يعقل هذا لقد طار قلبه، فسلوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذاك قاعد في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. يروي ابن إسحاق عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير، متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، "كبته الله تعالى وأخزاه" ووجدنا في أنفسنا قوة، وعزة، وكنت أعمل الأقداح في حجرة زمزم، فوالله إني جالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فطان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال أبو لهب: هلم إلي يابن أخي فعندك لعمري الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه فقال: يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضًا على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئًا ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، وثاورته فاحتملني، وضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفًا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت، استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله تعالى بالعدسة فقتلته1, وكانت نهاية أبي لهب على نحو يعادل جريمته لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشائم بها ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثة أيام، لا يقترب أحد من جثته، ولا يحاول أحد دفنه، فلما خاف بنوه السبة في تركهم له دفعوه بعصا في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى تغطت جثته2. يروي بن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ناحت قريش على قتلاها بمكة شهرًا، وجز النساء شعورهن، وما أن يؤتى براحلة الرجل منهم، أو بفرسه، إلا وتوقف بين أظهر النساء، ويسترنها بالستور حولها، وينحن حولها، ويخرجن إلى الأزقة صائحين ثم قالوا: لا تفعلوا ذلك فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشمتوا فيكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، حتى لا يتعالى عليكم محمد وأصحابه في الفداء. وشعر القرشيون بعد هزيمتهم في بدر بهوان شديد عملوا على التخلص منه، فلما عادوا إلى مكة وجدوا أن أبا سفيان أوقف عير القافلة والأموال التي عاد بها من الشام في دار الندوة، ولم يحركها، ولم يوزعها على أصحابها، فاتفق كبراؤهم على أن يجهزوا بها جيشًا كثيفًا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بثأر هزيمتهم في بدر، فباعوا الإبل التي بلغت ألف بعير، وضموها إلى الأموال التي بلغت خمسين ألف دينار، بعد أن أخذوا أرباحهم، وقدرها خمسون ألفًا أخرى، وكان الدينار يربح مثله3.   1 تاريخ الطبري ج2 ص462 والعدسة قرحة قاتلة مثل الطاعون. 2 المرجع السابق ج2 ص463. 3 إمتاع الإسماع ج1 ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 كما قاموا بتشكيل مجموعة من رجالهم، لتدور على العرب في البوادي، وتؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحضهم على قتال المسلمين في المدينة، وقد تكونت هذه المجموعة من عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعري، وأبي غرة عمرو بن عبد الله الجمحي، وقد استمع العرب لهؤلاء ونفروا مع قريش في غزو أحد1. وبذلك أشعلت قريش نار الحرب في الجزيرة كلها، وأخذت تعد عدتها لحرب شاملة وكان من الضروري أن يكلف المسلمون بقتال من يعتدي عليهم، وهنا كان فرض الجهاد مقيدًا بقتال المعتدي، وهو المرحلة الثانية في تشريع الجهاد.   1 سيرة النبي ج2 ص61، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 سادسا: المسلمون في إطار انتصار بدر الاختلاف في توزيع الغنائم ... سادسًا: المسلمون في إطار انتصار بدر تحقق النصر للمسلمين في بدر، وقد استشهد منهم أربعة عشر شهيدًا، وغنموا ما كان مع القرشيين من عتاد، وأموال، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعد المعركة في بدر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أخذوا في الرجوع إلى المدينة بعد أن انتهوا من دفن الشهداء ووضع قتلى المشركين في القليب. وقد عاش المسلمون بعد النصر الحقائق التالية: 1- الاختلاف في توزيع الغنائم: عندما أتم النبي صلى الله عليه وسلم تسوية الصفوف قال للمجاهدين: "من قتل قتيلا فله سلبه، من أسر أسيرًا فهو له"، فلما انهزم المشركون تفرق المجاهدون إلى أعمال متعددة فمنهم من وقف عند خيمة النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه، ومنهم من أغار على الأعداء ليهزمهم، ويقتلهم، ومنهم من اتجه للأسر والغنيمة. وقد غنم المسلمون مائة وخمسين بعيرًا، وعشرة أفراس، وأداما كثيرًا حمله القرشيون معهم للتجارة بعد النصر الذي أملوا فيه. وقد اختلف المسلمون في الغنائم؛ لأن الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذوا شيئًا، وقالوا: ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الأجر، ولا جبنا عن لقاء العدو، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يميل عليه خيل المشركين، ورجالهم، وقد أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المهاجرين والأنصار ولم يغنم أحد منهم شيئًا ومتى أعطى الشباب لا يبقى للشيوخ شيء، وبخاصة أن الغنيمة قليلة، فنزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وهكذا لم يترك الله أمر الغنائم لعقولهم واجتهادهم، وإنما جعلها لحكم الله ورسوله جاء في تفسير ابن كثير عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون، ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه، ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض. قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا نحن منعنا عنه العدو، وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به2 فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد الغنائم حتى يقضي الله فيها، فرد أصحابه صلى الله عليه وسلم الغنائم التي جمعوها من أعدائهم، أما ما أخذ بغير قتال فقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم. وجمعت الغنائم، واستعمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن كعب بن عمرو المازني وسار بها حتى وصل إلى "سير" وهناك قسمها على المجاهدين، وقيل بل استعمل عليها خباب بن الأرت، وكان فيها إبل، ومتاع، وأنطاع، وثياب3. وأنزل الله تعالى قوله في شأن الغنيمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا   1 سورة الأنفال: 1. 2 تفسير ابن كثير ج2 ص283. 3 إمتاع الأسماع ج1 ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة أسهمًا، بعد أن أخذ الخمس منها، فأعطى للراجل سهمًا، وللفارس سهمين، وضرب لثمانية من الصحابة رضي الله عنه، تخلفوا عن الغزوة لعذر ألم بهم وهم: من المهاجرين: 1- عثمان بن عفان، خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته رقية، ليعودها في مرضها، وقد ماتت يوم قدوم زيد بن حارثة بنبأ النصر، وعند عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانوا عائدين من دفنها في البقيع. 2- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. 3- وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلحة بن عبيد الله يتحسسان العير تلقاء "الحوراء" فلم يلحقا بالجيش. ومن الأنصار: 4- أبو لبابة بن عبد الله رضي الله عنه، خلفه على المدينة. 5- عاصم بن عدي رضي الله عنه، خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قباء، وأهل العالية. 6- الحارث بن حاطب رضي الله عنه، أمره صلى الله عليه وسلم بأمر في بني عمرو بن عوف. 7- خوات بن جبير رضي الله عنه، كسر بالروحاء. 8- الحارث بن الصمة رضي الله عنه، كسر بالروحاء2. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لمن استشهد ببدر، وسلم غنائمهم لأبنائهم، واصطفى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من الغنيمة جمل أبي جهل، فجعل يغزو صلى الله عليه وسلم عليه حتى ساقه هديًا في الحديبية.   1 سورة الأنفال: 41. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الاختلاف في مصير الأسرى ... 2- الاختلاف في مصر الأسرى: لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة اهتم بأمر الأسرى، فبدأ يأخذ رأي أصحابه في كيفية التعامل معهم، يروي أبو الحسن النيسابوري بسنده إلى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جيء إليه بالأسرى يوم بدر، جمع أصحابه وقال لهم: "ما تقولون في هؤلاء الأسرى"؟. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قومك وأصلك، استبقهم، واستأن بهم، لعل الله عز وجل يتوب عليهم. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارًا. فقال العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم، ثم دخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله. ثم خرج عليهم صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله عز وجل ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " 1. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. ومثلك يا عمر كمثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 3. ومثلك يا عمر كمثل نوح قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 4". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم اليوم عالة! أنتم اليوم عالة! فلا ينقلبن منهم   1 سورة إبراهيم: 36. 2 سورة المائدة: 118. 3 سورة يونس: 88. 4 سورة نوح: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أحد إلا بفداء أو ضرب عنق"؟. وهكذا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، وأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فوجدهما في حزن وألم، لما نزل في شأن الأسرى من عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" 1 شجرة قريبة وعندها أنزل الله قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. والكتاب الذي سبق من الله هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} 3. ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى، ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وكان على المجاهدين أن يجهزوا على أعدائهم في ميدان المعركة، جزاء وفاقًا لما جاءوا من أجله. وكان علي رضي الله عنه يقول: أتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء القتال يوم بدر فخيره في الأسرى، بين أن تضرب أعناقهم، أويؤخذ منهم الفداء، أو يستشهد منهم في قابل عدتهم واستقر الرأي على رأي الصديق مع العتاب، والعفو، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم، إلى ثلاثة آلاف درهم، إلى ألف درهم، وكان بعض الأسرى يكتبون فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء من يكتب تعليم عشرة من غلمان المدينة القراءة   1 أسباب النزول للنيسابروي ص137، 138. 2 سورة الأنفال الآيتان 67، 68. 3 سورة محمد: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 والكتابة، فإذا حذقوها فهو فداء لهم، وممن تعلم في بدر زيد بن حارثة رضي الله عنه. ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدد من الأسارى، فأطلقهم بغير فداء منهم: المطلب بن حنطب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي. ومنّ على ختنه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بقلادة لها كانت عند خديجة رضي الله عنها، أهدتها لها حين أدخلتها به على أبي العاص فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوا واشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت إلى أبيها في المدينة بعد ذلك، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثه، ورجلا من الأنصار وقال لهما: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها فخرجا حتى رجعا بها". وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مصقعًا، قال عمر: يا رسول الله، أنزل ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسان، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب، احترازًا عن المثلة، وعن بطش الله يوم القيامة. ومن أحداث الأسرى ما روي أنه بعد أسر عمرو بن أبي سفيان بن حرب، قيل لأبي سفيان: ألا تفدي عمرو!. فقال أبو سفيان: حنظلة قتل، وافتدى عمروا! فأصاب بمالي وولدي؟ لا أفعل ولكن أنتظر حتى أصيب منهم رجلا فأفديه، فأصاب سعد بن النعمان بن زيد بن أكال أحد بني عمرو بن عوف، جاء معتمرًا مع المنذر بن عمرو، فلما قضيا عمرتهما طلبهما أبو سفيان، فأدرك سعدًا فأسره، وفاته المنذر، ففي ذلك يقول ضرار بن الخطاب: تداركت سعدًا عنوة فأسرته ... وكان شفاء لو تداركت منذرا وهنا تمكن أبو سفيان من بغيته وتبادل مع المسلمين في الأسر، فأفدى ابنه عمرو بسعد بن النعمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 3- الابتهاج بنصر الله تعالى : أشاع اليهود والمنافقون في المدينة أكاذيب وتحدثوا عن هزيمة المسلمين، ولذلك عجل رسول الله صلى الله عليه وسلم برد هذا الافتراء، وإخبار أهل المدينة بانتصار المسلمين في بدر، فأرسل رسولين هما عبد الله بن رواحه بشيرًا لأهل العالية، وزيد بن حارثة بشيرًا لأهل السافلة فنادى عبد الله: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل المشركين وأسرهم، ثم أتبع دور الأنصار فبشرهم. وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء يبشر أهل المدينة، فلم يصدق المنافقون ذلك، وشنعوا، وقدم شقران بالأسرى وهم سبعون رجلا، وتلقى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء يهنئونه بفتح الله، فقدم المدينة صلى الله عليه وسلم مؤيدًا، مظفرًا، منصورًا قد أعلى الله كلمته، ومكن له وأعز نصره، ودخلها من ثنية الوداع في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان، فتلقاه الولائد بالدفوف وهن يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع فأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين واليهود، ولم يبق بالمدينة يهودي ولا منافق إلا وشعر بالخزي، وأسلم حينئذ بشر كثير من أهل المدينة، ومن ثم دخل عبد الله بن أبي سلول وجماعته من المنافقين في دين الإسلام تقية. وقد عم السرور، والفرح قلوب المسلمين جميعًا، وشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم من نصر، حتى أن النجاشي ملك الحبشة لما جاءه خبر انتصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحبشة أرسل إلى جعفر وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت قديم عليه ثياب رثه، جالس على التراب فأخذ يبشرهم بالنصر، ويهنئهم بالفوز والفلاح. يقول جعفر رضي الله عنه: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما أن رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه, وأسر فلان، وفلان، وقتل فلان، وفلان، التقوا بواد يقال له "بدر" كثير الأراك كأني أنظر إليه، كنت أرعى لسيدي رجل من بني ضمرة إبله. فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاط؟ قال له النجاشي: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقًا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعًا عندما يحدث لهم من نعمة، فلما أحدث الله لي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع1.   1 البداية والنهاية ج3 ص307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 4- تشريع زكاة وعيد الفطر : كان من تمام نصر الله للمسلمين في شهر رمضان أن فرض الله عليهم زكاة الفطر يتعاطونها فيما بينهم جميعًا، غنيهم وفقيرهم، من يملك، ومن لا يملك فقام صلى الله عليه وسلم فيهم قبل نهاية رمضان بيومين، وعلمهم زكاة الفطر، وعرفهم بتشريع صلاة العيد في نهاية رمضان وخرج صلى الله عليه وسلم إلى المصلى صباح يوم عيد الفطر فصلى بالناس أول صلاة في يوم العيد. فلما كان شهر ذي الحجة من نفس العام ضحى صلى الله عليه وسلم وصلى عيد الأضحى وأخذ صلى الله عليه وسلم يضحي كل عام بكبشين حتى لقي ربه. وهكذا عاش المسلمون في المدينة فرحة النصر، وفرحة الصوم، وفرحة العيد في ترابط وائتلاف وفي تمييز ورفعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 سابعا: بدر في رحاب القرآن الكريم حديث ما قبل المعركة ... سابعًا: بدر في رحاب القرآن الكريم وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الجهاد، وأذن لهم فيه قبل بدر، وصاحبهم في مسيرتهم تعليمًا، وتوجيهًا قبل المعركة، وأثناءها، وبعد الانتهاء منها، ليستمروا في معية الله تعالى عبادًا طائعين مستسلمين وقد أنزل الله سورة الأنفال تتحدث عن غزوة بدر، وتشمل أحداثها، ولذلك سماها ابن عباس بسورة "بدر"1وقال عنها تلك سورة بدر وقد كان حديث السورة شاملا لكل أحداث بدر، أذكر منها ما يلي: 1- حديث ما قبل المعركة: أخذ القرآن الكريم يوجه المسلمين إلى أهمية الاستعداد للمعركة وتهيئة أنفسهم بالعتاد والتدريب فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا   1 فتح القدير ج3 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1؛ لأن الإعداد الجاد يحقق العزة، ويرهب الأعداء، وأمر المسلمين أن يجنحوا للسلم إذا رغبه أعداء الله فقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2. ووجه القرآن الكريم المسلمين إلى جوانب الضعف فيهم، وبين لهم عوامل التغلب عليها فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3. فهم ضعفاء، يحتاجون إلى تقوية أنفسهم، وإيمانهم، وذلك يكون بالصبر، والتوكل على الله والثقة في نصره سبحانه وتعالى. ووجه القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية معرفة ما في ذواتهم من نقص ليعملوا على إتمامه، وإكماله، وذلك في قوله سبحانه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 4. وحذر القرآن الكريم المسلمين من الفرار أمام الأعداء، فقال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 5.   1 سورة الأنفال: 60. 2 سورة الأنفال: 61. 3 سورة الأنفال: 65-66. 4 سورة الأنفال: 6-8. 5 سورة الأنفال: 19-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 2- حديث القرآن الكريم عن المعركة : بين الله نصره للمسلمين، بمختلف صوره، فلقد أرسل لهم الملائكة يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وأنزل المطر، ورزقهم النعاس ليستريحوا، ويطمئنوا، يقول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} 2. وكان تأييد الله للمسلمين في القتال، يقول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} 3. وملأ الله عز وجل قلوب المؤمنين بالثقة، يقول الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} 4.   1 سورة الأنفال: 9-10. 2 سورة الأنفال: 11. 3 سورة الأنفال: 17-18. 4 سورة الأنفال: 42-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 3- حديث ما بعد المعركة : عاش القرآن الكريم مع المسلمين في قضية الغنيمة والأسرى ووضح حكم الله فيها فقال تعالى تعليقًا على اختلافهم في توزيع الغنائم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وقال تعالى في شأن الأسرى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.   1 سورة الأنفال: 1. 2 سورة الأنفال: 67-70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 4- توجيهات قرآنية تربوية : تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر، وعن مواقف كل أطرافها، وقدمت وصفًا متكاملا لأهم أحداثها. ويلاحظ أن الأحاديث لم تذكر في السورة متتابعة وفق ترتيب وقوعها؛ لأن القرآن الكريم لا يقصد إيراد قصة، أو مجرد سرد الأخبار, وإنما يقصد التربية والتوجيه، وإبراز القضايا التي يحتاجها المسلمون، وهذا القصد لا يحتاج إلى ترتيب الأحداث وإنما يعتمد على التركيز على الحدث، وإبراز مناط التأثير فيه. لقد بدأت السورة تعرض مواقف المجاهدين من الأنفال، ومجيئهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بعدما اختلفوا وهو موقف حدث بعد انتهاء المعركة، فكان أن نزلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الآيات بأن الحكم في الغنائم لله ورسوله، وعلى المسلمين أن يحافظوا على تقوى الله تعالى، ويصلحوا ذات بينهم، ويستمروا على طاعة الله ورسوله فيما يقضيان به، ويحافظوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويقبلوا على آيات الله تذكيرًا وعبرة. وهكذا لم تكتف السورة بعرض أحداث بدر، وإنما جعلت أحداثها منطلقًا للتذكير، والتوجيه، والتربية، وأن الأمر كله لله يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1. وجهت السورة المسلمين إلى أن الأمر كله لله، يقع بقدرته حسب ما يريد سبحانه وتعالى، وعرفهم أنهم خرجوا للعير، خائفين من الحرب لكن الله أراد لهم غير ذلك لتحقيق غايات عليا، يقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 2. وعرفت السورة المسلمين بضرورة الدعاء والاستغاثة لتحقيق النصر الذي هو بيد الله تعالى يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ   1 سورة الأنفال: 1-4. 2 سورة الأنفال: 5-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1. وتتتابع التوجيهات الإلهية لعباده المؤمنين ليكونوا مجتمع الصفوة والنصر، فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2. - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} 3. - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 4. - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 5. - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 6.   1 سورة الأنفال: 9-12. 2 سورة الأنفال: 15-16. 3 سورة الأنفال: 20-21. 4 سورة الأنفال: 24-25. 5 سورة الأنفال: 27-28. 6 سورة الأنفال: 45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. وعاشوا الحياة الإسلامية متميزة، بصورة، ومعنى، بعيدة عن أي لبس، وبخاصة بعد أن شرع الله الأذان شعيرة خاصة بالمسلمين، وأصبحت الكعبة قبلتهم، وهم يتصلون بالله وبذلك التميز سقطت دعاوى أهل الكتاب. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجه في صلاته إلى بيت المقدس بعد الهجرة، واستمر على ذلك ستة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا، وكان يجب أن يتجه إلى الكعبة، بيت الله تعالى يقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 4. فاستجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وحقق له ما كان يتمنى ويرضى قبيل بدر. وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم صلى على بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، وأن أول صلاة صلاها متجهًا إلى الكعبة في مكة كانت   1 سورة الأنفال: 64. 2 سورة الأنفال: 72. 3 سورة الأنفال: 74-75. 4 سورة الأنفال: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد1 وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وقد تساءل بعض الصحابة عن الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، وكان صلاتهم إلى بيت المقدس فأنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2. وبتحويل القبلة، وتوجه المسلمين إلى بيت الله بمكة، تمت المفاصلة التامة بين المسلمين واليهود، وتميز المسلمون بقبلتهم، فأخذ اليهود في إثارة الشبه والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه, يصور القرآن الكريم ذلك فيقول سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وبدأ المسلمون يتجهون في صلواتهم إلى مكة المكرمة، فتحركت شجوبهم وتيقنوا بمدى ارتباط الإسلام بمكة، وبالمكيين. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين". وجاء انتصار بدر لتبدأ مرحلة جديدة، اتضحت خلالها خفايا القلوب، وتوجيهات سائر الطوائف، وشعر الجميع أن المواجهة الحاسمة قريبة، بعد أن اتضحت الحقائق، وبانت السبل، وأخذ كل طريقه نحو ما يأمله، ويرجوه. وهكذا جاء انتصار بدر قمة النصر، وقمة الوضوح، وقمة المفاضلة بين الحق والباطل، ولذلك سماه الله تعالى يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان.   1 والمسجد الذي تحول الصحابة فيه بعدما أخبرهم أخوهم هو مسجد القبلتين وهو مسجد مشهور بالمدينة المنورة، وقد اشتهر بهذا الاسم لأن المسلمين صلوا صلاة العصر متجهين إلى قبلتين. 2 سورة البقرة: 143. 3 سورة البقرة: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 المبحث الخامس: أحداث ما بين بدر وأحد مدخل ... المبحث الخامس: أحداث ما بين بدر وأحد انتصر المسلمون في "بدر" انتصارًا باهرًا، تحدث به أبناء الجزيرة العربية جميعًا، مما جعلهم يخططون لمستقبلهم إزاء هذه القوة الإسلامية التي ظهرت في المدينة المنورة. وأهم هذه القوى التي تأثرت بانتصار بدر، وسارعت إلى اتخاذ مواقف تتناسب مع هذا الوضع الجديد هي: 1- القرشيون في مكة: وهم الذين تحملوا مذلة الهزيمة، وفقدوا قادتهم، وأئمتهم في بدر، وأجبروا على فداء أسراهم، وقد أخذوا يستعدون للثأر بعد "بدر" مباشرة وحاولوا إيذاء المسلمين، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتفظوا بمال القافلة التي كانت سببًا في حرب "بدر" ليشتروا به السلاح، ويعدوا العدة، وكونوا جماعات منهم تقوم بتحريض المشركين على ضرورة الثأر لهزيمتهم، وتطهير الطريق التجاري إلى الشام، حتى لا تنقطع تجارتهم التي هي حياتهم. 2- اليهود في المدينة: وهم القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة، وحولها لأنهم رأوا أن انتصار المسلمين في بدر جعلهم يزدادون قوة، ويؤكدون سيطرتهم على سائر شئون المدينة، وازدياد نفوذهم الاقتصادي، وبخاصة بعدما شاهدوا المسلمين ينشجون في السعي والعمل ويعيشون كافة حاجات الحياة، ويحرمون الربا، ويمنعون الاستغلال، ويحققون التعاون التام بينهم. الأمر الذي أضعف قوتهم، وأفقدهم صور الكيد التي كانوا يعيشون بها بين المسلمين وغيرهم، وشعروا أن الأحداث تتحرك في غير ما يأملون. 3- المنافقون: وهؤلاء أفراد الأوس والخزرج ومن غيرهم كانوا يسكنون المدينة، ولم يدخلوا في الإسلام، وبقوا على الشرك، إلا أن هؤلاء الأفراد بعد انتصار المسلمين في "بدر" دخلوا في الإسلام تقية، وهم يبطنون العداوة، ويتعاونون مع أعداء الإسلام سرًا ليتحقق ما يتمنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 4- أعراب البوادي: وهم الأعراب الذين يسكنون حول المدينة، وعلى الطرق التجارية بين مكة والمدينة وهؤلاء الأعراب كانوا يعيشون على السلب والنهب والقنص والإغارة، وفرض الإتاوات على المارة فلما ظهرت قوة المسلمين في بدر رأوا دولة قوية سوف تحكم في كل الخارجين على النظام والعدل، ولذلك وجدوا أنفسهم في مواجهة عدائية مع المسلمين في المدينة المنورة. وأخذت هذه القوى على اختلاف مقاصدها تعمل لإضعاف المسلمين وإسقاط ما تحقق لهم بنصر بدر، بكل ما أمكنهم من مؤامرات حفية، وتحرشات ظاهرة، وعقد تحالفات من أجل تكوين قوة واحدة في مواجهة المسلمين في المدينة. واستمر عون الله تعالى للحق وأهله، فأمد المسلمين بالرشاد والهدى، وأضل أعداءهم، وأخزاهم في كل ما خططوا له، وعملوا من أجله وفي هذا المبحث سأورد "بإذن الله تعالى" أهم الأحداث التي وقعت بين غزوتي بدر، وأحد وكيف تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فيما يلي:- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أولا: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن وهب الجمحي من تجار مكة، وقادتها المعدودين، وكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، اشترك مع ابنه وهب مع المشركين في بدر، ووقع ابنه وهب في الأسر فشعر بالذل لأسر ابنه، وقتل أصحابه. جلس عمير مع صاحبه صفوان بن أمية في حجر إسماعيل، وتذاكرا بدرًا، فقال صفوان: والله ما في العيش بعدهم خير. فرد عليه عمير: صدقت، أما والله لولا دين علي ليس له قضاء عندي، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة، ابني أسير عندهم. فقال له صفوان: علي دينك، أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما عاشوا، لا يسعني شيء، وأعجز عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فقال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال صفوان: أفعل. ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له، وسم، ثم انطلق حتى قدم به المدينة، فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو في نفر من المسلمين يتحدثون بما أكرمهم الله به يوم بدر- فقال عمر: هذا عدو الله عمير ما جاء إلا لشر. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوحشًا سيفه قال صلى الله عليه وسلم: فأدخله علي. فلما أقبل عمير لببه عمر بحمالة سيفه، وقال لرجال من الأنصار، ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه. قال صلى الله عليه وسلم أرسله يا عمر أدن يا عمير، فدنا وقال: أنعموا صباحًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام، تحية أهل الجنة". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك يا عمير"؟. قال عمير: جئت لهذا الأسير الذي في أيديك فأحسنوا فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "فما بال السيف في عنقك"؟. قال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اصدقني ما الذي جئت له"؟. قال عمير: ما جئت إلا لذلك. قال صلى الله عليه وسلم: "بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين علي، وعيال عندي، لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل صفوان بدينك، وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك". قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ثم تشهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره"، ففعلوا ثم قال عمير: يا رسول الله إني كنت جاهدًا في إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله، وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم! وإلا آذيتهم في دينهم، كما كنت أوذي أصحابك في دينهم. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذي من خالفه أذى شديدًا، فأسلم على يديه أناس كثير، وسبحان مقلب القلوب، ومغير الأحوال، وبيده الأمر كله1.   1 البداية والنهاية ج3 ص309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ثانيًا: غزوة بني سليم 1 بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من "بني سليم، وغطفان" يوجد عند ماء يقال له "قرقرة الكدر"2 ويقع في وسط الطريق بين مكة والشام جهة نجد، وأن هذا الجمع يريد مهاجمة المسلمين في المدينة، فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم قبل أن يستفحل أمرهم. وكان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سليم في مائتين من أصحابه في أوائل شوال عقب "بدر" بسبعة أيام فقط وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه3. وقد فر بنو سليم عندما علموا بخروج المسلمين إليهم، وتركوا خلفهم خمسمائة بعير، غنمها المسلمون، وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشتركين وفق حكم الله تعالى ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم في الديار غلامًا اسمه "يسار" فسأله صلى الله عليه وسلم عن الناس فقال يسار: لا علم لي بهم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقه حينما رآه يصلي. وقد خلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل عبد الله بن أم مكتوم، وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم في ديار بني سليم ثلاثة أيام، ثم عاد إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة عشر يومًا4.   1 سليم بضم السين وفتح اللام مصغرة سلم. 2 قرقرة الكدر قرقرة بفتح القاف وسكون الراء الأرض الملساء، والكدر بضم الكاف وسكون الدال لون. 3 وقيل: إن غزوة بني سليم كانت في منتصف المحرم من العام الثالث للهجرة والرأي المذكور أعلاه أولى لتسلسل الغزوات بعده. 4 الطبقات الكبرى ج2 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ثالثًا: غزوة السويق امتلأ قلب أبي سفيان حقدًا، وغيظًا بسبب هزيمة قريش في بدر، ونذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمدًا، ويثأر لهزيمة المكيين، فجمع رجالا، وخرج في مائتي راكب وفاء لنذره، وشفاء لمرض نفسه، وسار برجاله حتى نزل عند قناة قرب جبل "نيب" قريبًا من المدينة، وعسكر في هذا المكان حتى جاء الليل، ودخل المدينة مستخفيًا تحت جنح الظلام، فأتى حيي بن أخطب، فاستفتح بابه، فأبى. ثم أتى إلى سلام بن مشكم "سيد بني النضير" وصاحب كنزهم آنذاك، فاستأذن عليه فأذن له، وقراه وسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس. ثم خرج أبو سفيان في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث مفرزة منهم، فأغارت على ناحية من المدينة يقال لها: "العريض"1 فقطعوا أشجارًا، وأحرقوا أسوارًا من النخل، ووجدوا رجلا من الأنصار وحليفًا له معه في حرث لهما فقتلوهما، وفروا راجعين إلى مكة. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فجمع أصحابه، وسارع لمطاردة أبي سفيان ومن معه ولكن رجال أبي سفيان فروا سراعًا، وطرحوا سويقًا كثيرًا من أزوادهم وتمويناتهم على الطريق يتخففون به منه وتمكنوا من الإفلات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "قرقرة الكدر" ثم انصرف راجعًا، وحمل المسلمون ما طرحه الكفار من سويقهم، وسموا هذا الخروج بغزوة السويق نسبة إلى الغنائم التي طرحها أبو سفيان ورجاله، وقد وقعت الغزوة في ذي الحجة بعد بدر بشهرين، واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم خلالها على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه2.   1 المغازي ج1 ص196. 2 المغازي ج1 ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 رابعًا: غزوة غطفان كانت غطفان تسكن ناحية نجد، حول ماء يعرف بـ"ذي أمر" "بفتح الهمزة والميم" وقد غزاها النبي صلى الله عليه وسلم من شهر المحرم في العام الثالث الهجري، وسبب هذه الغزوة أن بطنين من غطفان، وهما بطنا ثعلبة ومحارب، تجمعوا يريدون الإغارة على أطراف المدينة بقيادة "دعثور بن الحارث المحاربي" الذي تميز في قومه بالشجاعة، وحب الإغارة علم النبي صلى الله عليه وسلم ما يعد له "دعثور" بواسطة عيونه، فندب المسلمين، وخرج معهم إلى بطني ثعلبة ومحارب في أربعمائة وخمسين مقاتلا، ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فوجئ دعثور وجنوده بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا في رءوس الجبال ووصل المسلمون إلى مكان الماء، وعسكروا به، وأخذوا يبحثون عن دعثور ورجاله، فأصابوا رجلا منهم يقال له "جبار بن ثعلبة" فجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دعاه إلى الإسلام أسلم فضمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلال وجعله دليلا للمسلمين في أرض غطفان. ويقال أن السماء أمطرت فابتل ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل صلى الله عليه وسلم تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف، واضطجع بمرأى من المشركين، واشتغل المسلمون في شئونهم، وأعمالهم، فبعث المشركون "دعثور بن الحارث" ومعه سيف متقلد به، فبادر "دعثور" وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحه، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورًا، فقال: يا محمد، من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله". ودفع جبريل عليه السلام في صدر "دعثور" فوقع السيف من يده. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، وقال له: "يا دعثور من يمنعك مني"؟. فقال دعثور: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه. ثم أتى "دعثور" قومه فقالوا: ما لك؟ ويلك!! فقال لهم: نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت بأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام وأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1. وقد تكررت هذه الحادثة في غزوة "ذات الرقاع" وكان الذي حمل السيف فيها "غوري بن الحارث" وقد بقي على شركه، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم مقاتلته أبدًا. وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين في غطفان قريبًا من شهر ليعلم الناس قوة المسلمين، وشجاعتهم، وحسن أخلاقهم، وبخاصة أنهم أنسحبوا من غطفان بلا عدوان على إنسان، أو مال، أو بغير ذلك من صور الظلم والعدوان2.   1 سورة المائدة: 11. 2 المغازي ج1 ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خامسًا: غزوة بحرا ن 1 وتسمى غزوة بني سليم نسبة إلى جماعة من بني سليم كانت تقطن ناحية الفرع "بضم الفاء والراء" وهي قرية قرب المدينة في طريق الذاهب إلى مكة على بعد عشرين ميلا تقريبًا وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بها جمعًا يريد مهاجمة المدينة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول من العام الثالث الهجري، في ثلاثمائة مقاتل, فلما وصل إلى مكانهم وجدهم قد تفرقوا في واديهم فأقام بينهم عشرة أيام، عاد بعدها إلى المدينة وكان قد ولى على المدينة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه2.   1 بحران بباء مضمومة، وقيل: بفتحها، وسكون الحاء. 2 المغازي ج1 ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 سادسًا: سرية زيد بن حارثة توقفت تجارة قريش إلى الشام بعد "بدر" وتملك القرشيون الخوف على تجارتهم فلما جاء الصيف، وحان موعد خروج القوافل اختارت قريش "صفوان بن أمية" لقيادة قافلتها إلى الشام فقال لهم: إن محمدًا وصحبه عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه؟ وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء. فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان: تنكب الطريق على الساحل، وخذ طريق العراق، وهي طريق طويلة جدًا تخترق نجدًا إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها, وكانت قريش تجهل هذه الطرق كل الجهل، فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فرات بن حيان -من بني بكر بن وائل- دليلا له، يكون رائده في هذه الرحلة. وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديد، إلا أن أنباء هذه القافلة، وخطة سيرها طارت إلى المدينة، وذلك أن سليط بن النعمان، وكان قد أسلم، اجتمع في مجلس شرب، وذلك قبل تحريم الخمر، مع نعيم بن مسعود الأشجعي ولم يكن أسلم إذ ذاك، فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير، وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى له القصة. جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته حملة قوامها مائة راكب بقيادة زيد بن حارثة الكلبي فأسرع زيد حتى دهم القافلة بغتة، وهي تنزل على ماء في أرض نجد يقال له قردة -بالفتح فالسكون- فاستولى عليها كلها، ولم يكن مع صفوان ورجاله من يحرس القافلة فلاذ بالفرار دون أي مقاومة. وأسر المسلمون دليل القافلة، فرات بن حيان ورجلين غيره، وحملوا غنيمة كبيرة من الأواني، والفضة، كانت تحملها القافلة، قدرت قيمتها بمائة ألف، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، ثم جاء فرات بن حيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يديه. وقد مثلت هذه الغزوة مأساة شديدة، ونكبة كبيرة أصابت القرشيين بعد بدر، اشتد لها قلقهم وزادتهم همًا وحزنًا، ولم يبق أمامهم إلا طريقين: إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فأخذت تعد العدة، وتضاعف الأعمال التي بدأتها بعد بدر وازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميم على الغزو فكان ذلك وما سبق من أحداث مقدمات واضحة لمعركة أحد. وقد كان لسرية زيد أثرها الكبير على القرشيين، فقد فقدوا كثيرًا من أموالهم، وشعروا بأن المسلمين قد أحكموا حصارهم، ولذلك نشطوا في إعداد العدة لمهاجمة المسلمين، وحصارهم في المدينة، وتلقينهم درسًا يعوضهم عن كل ما فقدوه في "بدر" وفيما بعدها. وكانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه في جمادى الآخرة من العام الثالث الهجري1.   1 سيرة النبي ج2 ص50، 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 سابعًا: غزوة بني قينقاع بنو قينقاع بطن من يهود المدينة، وهم قوم عبد الله بن سلام، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام الهجرة مع سائر اليهود وحدد لهم الحقوق التي لهم، والواجبات التي يلتزمون بها، في إطار واضح أساسه "لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين". لكن اليهود وبخاصة يهود بني قينقاع هالهم توحد الأوس والخزرج في إطار الإسلام فازدادوا حقدًا وحاولوا الإيقاع بينهم ليعودوا لجاهليتهم، وتئول السيادة لهم مرة أخرى، يروي ابن إسحاق أن شاس بن قيس، وكان شيخًا "يهوديًا" عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم، وجماعتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وصلاح ذات بينهم بالإسلام وعلى الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم حياة إذا اجتمع ملؤهم واتحدوا، وتماسكوا، فأمر فتى شابًا يهوديًا كان معه، وقال له: اعمد إليهم، فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث، وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار. ففعل الغلام، وتأثر القوم، وعاودتهم ذكريات الماضي عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهم لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، السلاح، السلاح، فخرجوا إليها "وكادت أن تنشب الحرب". فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم"؟. فعرف القوم أنها نزعة شيطان، وكيد من عدوهم، فكبوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس1. وكان بنو قينقاع من أشد اليهود عداوة لله ورسوله، وكانوا يسكنون وسط المدينة ويشتغلون بصناعة الذهب والحديد، فلما انتصر المسلمون في "بدر" بدءوا يظهرون حقدهم، ويثيرون المشاحنات مع المسلمين، فذهب إليهم صلى الله عليه وسلم في سوقهم وقال لهم: "يا معشر يهود، أسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة فأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا". قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش، كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى   1 سيرة النبي ج2 ص48-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} 1. ولم ينته بنو قينقاع بعد هذا اللقاء، فأخذوا يتحرشون بالمسلمين في جرأة، واستهتار، حتى أنهم أخذوا في التعدي على نساء المسلمين. يروي ابن هشام أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهوديًا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أخاف من بني قينقاع"، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان اللواء أبيض اللون. قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ قد حدثت، ولذلك لم تكن هناك راية للمسلمين، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار، فأقاموا على ذلك خمس عشرة ليلة، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي بن سلول، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله تعالى ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله   1 سورة آل عمران: 12-13. 2 سورة الأنفال: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الرجال. فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن أبي: يا محمد أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، وكان يقال لها ذات الفضول. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك أرسلني". وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال: "ويحك أرسلني". قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال صلى الله عليه وسلم: "خلوهم لعنهم الله". ولعنه معهم، وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، فخرجوا بعد ثلاث، وولى إخراجهم منها عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة، فلحقوا "بأذرعات"1 فما كان أقل بقائهم بها2. ووجد المسلمون في منازلهم سلاحًا كثيرًا، وآلة للصياغة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية والخمس، وقسم أربعة أخماسه على أصحابه، فكان أول خمس وزع بعد "بدر" وكان الذي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، وأنزل الله تعالى في شأن عبد الله بن أبي، وفي شأن عبادة بن الصامت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 3 أي عبد الله بن أبي وقوله: إني أخشى الدوائر، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أما المؤمنون الصادقون فهم أولياء المؤمنين، يفضلون ولاية الله ورسوله على أي ولاية سواها، وفي ذلك   1 الطبقات الكبرى ج2 ص29. 2 المغازي ج1 ص179. 3 سورة المائدة: 51-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 1, وذلك لتولي عبادة بن الصامت الله تعالى، ورسوله والذين آمنوا وتبرؤه من بني قينقاع، وحلفهم، وولايتهم, يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .   1 سورة المائدة: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ثامنًا: قتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط رجع المسلمون بالأسرى حتى وصلوا إلى "الصفراء"1 قرب المدينة، فاستراحوا بها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط من بين الأسرى، جزاء وفاقًا لما ارتكبوه من جنايات ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين والإسلام، يقول ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم خرج حتى كان بعرق الظبية فأمر صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: "النار" وكان الذي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. ولما أقبل إليه عاصم بن ثابت: قال يا معشر قريش علام أقتل من بين من ههنا؟ فرد عليه عاصم وقال: على عداوتك الله ورسوله. وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم! أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي، وغمزها، فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي" 2. كان هذان الرجلان من شر عباد الله، وأكثرهم كفرًا، وعنادًا، وبغيًا، وحسدًا وهجاء للإسلام، وأهله، وأقواهم عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعنهما الله "وقد وقع".   1 الصفراء واد قرب المدينة كثير الماء والزرع والخير. 2 سيرة النبي ج1 ص644. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 تاسعًا: قتل كعب بن الأشرف انتصر المسلمون في بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، يبشران بالنصر، ويوضحان مدى توفيق الله تعالى، فذكروا رءوس القرشيين الذين وضعوا في القليب، فلما سمع كعب بن الأشرف بنبأ انهزام قريش، وقتل رءوسهم قال: أحق هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء الذين يذكرهم هذان الرجلان؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها1. فلما أيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار، ويبكي على أصحاب القليب، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. ثم انبعث كعب عدو الله يهجو رسول الله والمسلمين، ويمدح عدوهم، ويحرض عليهم ولم يكتف بموقفه العدائي في المدينة فركب إلى قريش في مكة واستعداهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي ديننا أهدى في رأيك، وأقرب إلى الحق؟ فقال كعب لأبي سفيان: أنتم أهدى منهم سبيلا، وأفضل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا، وهجائنا، وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتلانا، وقد أخبرني الله بذلك، ثم قرأ على المسلمين ما أنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 2 " 3.   1 سيرة النبي ج2 ص51. 2 سورة النساء: 5. 3 سيرة النبي ج2 ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 يروي البخاري في الصحيح عن جابر بن عبد الله قصة كعب بن الأشرف وفيها يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله"؟. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئًا. قال صلى الله عليه وسلم: "قل". فأتاه محمد بن مسلمة ومعه أبو نائلة وقال له: إن هذا الرجل يعني محمدًا قد سألنا الصدقة، وإنه قد عنانا وإني قد أتيتك أستسلفك. قال كعب: وأيضًا لتملنه. قال: فإنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه، حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين1. فقال كعب: نعم، ارهنوني. فقالوا: أي شيء تريد؟ قال كعب: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال كعب: فارهنوني أبناءكم. قالوا: نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال له: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة -يعني السلاح- فواعداه أن يأتياه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم. فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ قال كعب: إنما هو محمد بن مسلمة، وأخي ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل لأجاب. فدخل محمد بن مسلمة برجال معه هم: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس،   1 الوسق ستون صاعًا، والصاع قدح وثلث بالكيل المصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وعبادة بن بشر وقال لهم: إذا ما جاء فإني قائم بشعره "أي آخذه" فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه، فدونكم فاضربوه، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح ريح الطيب فقال لهم: ما رأيت كاليوم ريحًا، أي أطيب، عندي أعطر من نساء العرب، وأكمل العرب. فقال محمد بن مسلمة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم. فشمه ثم أشم أصحابه. فلما استمكن منه قال: دونكم، فاقتلوه، فلما قتلوه ساروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام عليه السلام تلك الليلة يصلي فلما سمع تكبيرهم كبر، وعرف أن قد قتلوه فلما انتهوا إليه قال: "أفلحت الوجوه". قالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه فحمد الله على قتله1 ويقال إن الذي قام على شعره أبو نائلة رضي الله عنه.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف ج6 ص277-279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 عاشرًا: أهم أحداث المجتمع الإسلامي وقعت أحداث عديدة، عاشها المجتمع الإسلامي في المدة ما بين بدر وأحد ومن أهمها: 1- زيدت صلاة الحضر ركعتين، وكانت قبل ذلك كصلاة السفر ركعتان. 2- شرع صوم رمضان. 3- شرعت زكاة الفطر في نهاية شهر رمضان. 4- شرع عيد الفطر بصلاته في آخر شهر رمضان وشرع عيد الأضحى كذلك. 5- بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في شهر شوال من السنة الأولى، وكان قد عقد عليها في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات. 6- تزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ذي الحجة من السنة الأولى رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 7- تزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة من السنة الثالثة بعد موت رقية رضي الله عنها ودفنها بالبقيع أثناء غزوة بدر. 8- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان من السنة الثالثة. 9- وفي شهر رمضان من السنة الثالثة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أم المساكين وكان ذلك قبل "أحد" بشهر واحد. 10- في منتصف رمضان من السنة الثالثة ولد الحسين بن علي رضي الله عنه. 11- ولد عبد الله بن الزبير في شوال من السنة الثانية، وهو أول مولود للمهاجرين كما ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، وهو أول مولود للأنصار، وكان لهذين المولودين فرح بين المسلمين؛ لأن اليهود أشاعوا أنهم سحروا المسلمين، حتى لا تكون لهم ذرية. 12- وفيها شرعت عقوبة الجنايات، وحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل، والديات، وكتب كتابا بها، وعلمه للمسلمين وبدأ تطبيق أحكام الجنايات كما شرعها الله تعالى. تلك أهم أحداث المجتمع الإسلامي التي حدثت بين بدر وأحد1.   1 انظر إمتاع الأسماع والبداية والنهاية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع متعددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 حادي عشر: حركة الدعوة بين بدر وأحد تحركت سائر القوى بعد انتصار بدر، وشعر أعداء الإسلام أن الدائرة آتية عليهم لا محالة، فنشطوا في عدوانهم عساهم يحققون لأنفسهم شيئًا من المهابة والقوة. وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحيط به، وبالمسلمين، فأرسل عيونه إلى كل الجهات التي يوجد فيها أعداء الله، ليحيط بكيدهم عند بدء ظهروه. وقد رأينا جدوى هذه العيون، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه يفاجئون الأعداء وهم في مرحلة التجميع، والإعداد لمهاجمة المسلمين، الأمر الذي جعلهم يتفرقون، ويفرون في الجبال والوديان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكان من أهداف القرشيين ضم كافة الأعراب إلى صفهم وتحويل كافة اليهود ليتحركوا معهم بعد بدر، لكنهم لم يحققوا كل ما يأملون بسبب ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوات بعد بدر. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه المدة يهتم بنشر الدعوة، وتعليم أصحابه ما ينزل عليه من وحي الله تعالى، ومن أهم ما عرفهم به، وعاشه معهم صوم رمضان، والفرحة بعيد الفطر، وصلاة السفر والحضر، وما يتصل بكل ذلك من أحكام، كما شرع للمسلمين في هذه المدة أحكام المعاقل والديات حيث دعت الحاجة لمعرفة حكم الله تعالى فيها. وكان صلى الله عليه وسلم يدعو من يلقاه إلى الإسلام ويهتم بتعليم من يدخل الإسلام، ويكله إلى بعض إخوانه ليفقهه في الدين. وبرغم قصر المدة بين بدر وأحد فإنها امتلأت بالنشاط والحيوية، والعمل لخدمة الدعوة، وتطبيق شرع الله في الحياة الشخصية، والاجتماعية. لقد كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحًا في إبراز قوة المسلمين، وإدخال الهيبة والخوف في قلوب الأعداء، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يذهب بنفسه قائدًا للمسلمين، ويقيم مدة في ديار القوم، إعلانًا لقوة المسلمين، وإظهارًا لشريعة الله تعالى، وتبليغًا للدين بطريقة عملية لقد تعلم المسلمون خلال هذه الغزوات القصر أثناء السفر، واستفادوا ضرورة الطاعة لله ورسوله وعلموا أحكام الفيء كما تعلموا أحكام الغنيمة من قبل، وتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود بني قينقاع بما يستحقون فقاتلهم، وأجلاهم إلى "أذرعات" وأمر بقتل كعب بن الأشرف لظهور عداوته، وإصراره على إيذاء المسلمين، ومهاجمة الإسلام، والعدوان على الأعراض، والأموال. ومع كل هذه الأحداث باشر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حياتهم، ومعاشهم بصورة طبيعية فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وتزوج حفصة بنت عمر رضي الله عنها كما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب أم المساكين خلال هذه المدة مما يدل على أن الزواج كان لغايات سامية تخدم الدعوة، وتنشر القيم والأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 كما زوج ابنتيه فاطمة وأم كلثوم لعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، وبذلك قرب إليه أربعة من مستشاريه الكبار، وهم: أبو بكر والد عائشة، وعمر والد حفصة، وعثمان زوج أم كلثوم، ورقية من قبلها، وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة رضي الله عنهم أجمعين. ولقد ساهمت هذه الغزوات في تعريف المسلمين بأعدائهم وأماكن تواجدهم، وطريقتهم في الكر والفر، كما أكدت لهم أن الأعداء لم يهدءوا بعد بدر، وإنما أخذوا في العمل للتغلب على القوة الإسلامية بكل ما أمكنهم من حيلة وعمل, ولذلك لم يتمكن الأعداء من نيل غرة في المسلمين، يفاجئوهم خلالها بالعدوان وبخاصة أن القضاء على الإسلام والمسلمين في المدينة أصبح هدفًا أساسيًا لسائر الأعداء، الأمر الذي جمع بينهم، وجعلهم يأتون إلى المدينة محاربين حيث كانت غزوة أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المبحث السادس: غزوة أحد مدخل ... المبحث السادس: غزوة أحد وقعت غزوة "أحد"1 في شهر شوال من السنة الثالثة: بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وثلاثين شهرًا، وبعد غزوة "بدر" بثلاثة عشر شهرًا، وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، ونسبة الغزوة إلى "أحد" نسبة للمكان الذي حدثت فيه، وهي من الغزوات المليئة بالدروس، والعبر، التي لا بد منها لحركة الحياة السليمة، وكان عدوان قريش على المسلمين في المدينة سببًا لفرض الجهاد لمقاتلة المعتدي، وصده عن العدوان، وهي المرحلة الثالثة في تشريع الجهاد. وقد وقعت غزوة "أحد" في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بالإجماع إلا أنهم اختلفوا في يومها فذكر البعض أنها كانت في اليوم السابع، والبعض ذكر أنها كانت في اليوم الحادي عشر وآخرون ذكروا أنها كانت في اليوم الخامس عشر. والإحاطة بالغزوة تحتاج إلى دراسة الموضوعات التالية:   1 "أحد" جبل مشهور يقع على بعد خمسة أميال من المدينة، وسمي بذلك لظهوره جبلا واحدًا، منقطعًا عن جبال أخر موجودة قريبًا منه، ويقال له: ذو عينين بكسر العين, وفتحها مثنى عين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أولا: أسباب الغزوة عاد أهل مكة إلى موطنهم من غزوة "بدر" بعدما رأوا ذل الهزيمة وعار الانكسار وعز عليهم أن يحدث ذلك لهم من جماعة خرجت فارة من بينهم منذ أقل من عام، فأخذوا يعدون العدة للثأر، وهزيمة المسلمين. كما أنهم رأوا أن المسلمين أخذوا يسدون منافذ كل طرقهم إلى الشام، المارة في الحجاز، أو في نجد، وهذا بوار لهم، ولتجارتهم التي هي أهم أسباب حياتهم, وتصوروا أن استمرار هذا الحال يمثل موتًا بطيئًا لمكة كلها. وقف صفوان بن أمية في قريش بعد بدر، وقال لهم: إن محمدًا وأصحابه قد غوروا علينا متجرنا فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء. قال له الأسود بن المطلب: تنكب طريق الساحل، وخذ طريق العراق، فخرج منهم تجار، فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل، يقال له فرات بن حيان، يدلهم على ذلك الطريق الجديد الذي دلهم عليه الأسود. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقيهم، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وبهذا فقدت قريش طريق العراق كما فقدوا من قبله طريق الساحل. وأدرك القرشيون من غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لغطفان وسليم حينما هموا بمهاجمة المدينة وفرارهم حين علموا بسيره صلى الله عليه وسلم إليهم أن قوة المسلمين لا يستهان بها، وأن طرقهم التجارية إلى الشام أصبحت غير مأمونة، وأن القبائل المتحالفة معهم أصبحت غير قادرة.   1 المغازي ج1 ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 على حمايتهم وبدأت تشك في قوتهم وصمودهم. ورأى المكيون كذلك أن الوثنيين، وأعراب البوادي، واليهود يشاركونهم في كراهية الإسلام، والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاتصلوا بهم، وتصوروا أن اتحادهم في الهدف سبب رئيسي لتوحيد صفوفهم أمام المسلمين، الأمر الذي يؤدي إلى قهر المسلمين، والقضاء عليهم وعلى دعوتهم, ولذلك نشطوا في الإعداد للحرب، وأسرعوا في مهاجمة المسلمين، وجمعوا ما أمكنهم من العتاد والعدة وتحركوا لحرب المسلمين فكانت وقعة "أحد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثانيا: موقف أطراف معركة أحد قبل القتال موقف المشركين ... ثانيًا: موقف أطراف معركة أحد قبل القتال علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوايا القرشيين، فأخذ يعد للأمر عدته، واجتهد القرشيون في تحقيق غاياتهم في محاربة المسلمين، والقضاء عليهم، وعلى دينهم، وتأمين حركتهم التجارية، وتأديب أي خارج عليهم، وانطلقوا بجمعهم إلى المدينة، فوقعت الوقعة المعروفة في "أحد" وكان لكل فريق موقفه، وخطته، ولذلك لزم معرفة موقف كل طرف قبل المعركة. 1- موقف المشركين: اتخذ القرشيون صورًا عملية عديدة بعد هزيمة "بدر" مباشرة، واستمرت جهودهم على نشاطها حتى وقعت المعركة، فلقد نشطوا في جمع الأموال، وتكثير الجنود والتأثير على القبائل، وخططوا لتحركهم بدقة عالية، لكن الله غالب على أمره ومن أهم مواقفهم ما يلي: أ- الإعداد المالي: بدأ القرشيون يعدون للحرب عقب "بدر" مباشرة، وبدءوا في جمع أموال يستعدون بها، فلما رجعوا إلى مكة من "بدر" وجدوا العير التي عاد بها أبو سفيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 موقوفة عند دار الندوة، لم توزع لأصحابها بعد، فمشى إلى أبي سفيان مجموعة من أشراف مكة هم: الأسود بن المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى، وحجير بن أبي إهاب، فقالوا: يا أبا سفيان، انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبسها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة، ولطيمة قريش، وهم طيبوا الأنفس، يجهزون هذه العير جيشًا كثيفًا إلى محمد، وأنت ترى من قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا وأهلنا. قال أبو سفيان: وهل طابت أنفس قريش بذلك؟ قالوا نعم. قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله الموتور الثائر قد قتل ابني حنظلة وأشراف قومي ببدر فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا، واقترب موعد الخروج إلى أحد. قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها، وكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا، وكان متجرهم من الشام غزة لا يعدونها إلى غيرها، وكان أبو سفيان قد حبس عير بني زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر ولم يقاتلوا، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل، ولبني أبيه، وبني عبد مناف بن زهرة، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعًا. وتكلم الأخنس فقال: ما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش؟ قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش. قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شيء، فرجعنا، فأخذت زهرة عيرها، وأخذ أقوام من أهل مكة كل ما كان لهم في العير1. وهكذا اجتمعت قريش على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعوا أموالهم للإعداد   1 المغازي ج1 ص199، 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وجلب العدد، وأخذوا يحرضون غيرهم معهم، فوافقهم الأحباش وهم أقوام من غير العرب، وقبائل كندة، وأهل تهامة، وغيرهم. ب- التعبئة العامة للمشركين: نشط المكيون في جمع أكبر عدد لقتال المسلمين، فأخذوا يمرون على القبائل ويدورون على سائر المجتمعات العربية، مستفيدين في ذلك بشعرائهم ومشاهيرهم، وخطبائهم فاجتمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش لهذه المهمة، فبعثوا عمرو بن العاص وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعرى، وأبا عزة الجمحي. وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي من الشعراء المشهورين, المعروفين عند الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منّ عليه يوم "بدر" وأطلق سراحه بلا فداء لأنه كان فقيرًا ذا عيال وحاجة، فلما عرضوا عليه أن يشترك معهم في التحريض على قتال المسلمين، عرفهم بأنه مدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين منّ عليه، وأطلق سراحه يوم "بدر"، بلا فداء بسبب عوزه وبنيه، ورفض أن يشترك معهم. فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فأخرج معنا فقال له أبو عزة: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه. قال صفوان: فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، وما زال به حتى وافق على الخروج معهم. فخرج أبو عزة في تهامة يحرضهم ويهيجهم بشعره وخطبه. وخرج مسافح بن عبد مناف بن وهب إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وقصد المكيون كل من أصيب ببدر في ماله وأهله، ودفعوهم إلى المشاركة بالمال أو بالنفس، أو بالتحريض لقتال المسلمين، ورحبوا بكل قادم غريب ليكون معهم في حربهم ضد المسلمين. ولحق أبو عامر الفاسق بالمكيين وخرج إليهم في خمسة عشر رجلا من الأوس، وتابع قريشًا وسار معها، وهو يعدها أن قومه يؤازرونهم. واسم أبي عامر هذا: عبد عمرو بن صيفي الراهب، وكان رأس الأوس في الجاهلية وكان مترهبًا، فلما جاء الإسلام خذل، فلم يدخل فيه، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة إلى مكة ولم يرجع إليها إلا مع جيش المكيين يوم أحد. وقد اجتمع العرب على ما دعتهم إليه قريش، غير أنهم رفضوا الخروج بالنسوة، وقالوا: إننا نخشى أن تكون الدائرة علينا، ونعيش العار والفضيحة1. ج- اصطحاب قريش للنسوة: خرجت قريش بحدها، وجدها، وحديدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، ثم أمر أبو سفيان باصطحاب عدد من النسوة ليباشرن عملية التحريض، ويقمن بشحن المقاتلين، ومنعهم من الفرار حرصًا على الكرامة وحماية للعرض، فلما وجه أبو سفيان قومه لذلك خرج كبارهم بالظعن معهم التماس الحفيظة والحماسة، وبذل أقصى الجهد لحماية العرض والشرف، وقد بلغ عدد الخارجات خمس عشرة امرأة كلهن من قريش بعد أن رفض الأعراب والأحابيش خروج النساء. وقد خرج أبو سفيان بن حرب وهو قائد الناس بهند بنت عتبة زوجته. وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة. وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة. وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وهي أم عبد الله بن صفوان بن أمية.   1 المغازي ج1 ص201، 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية وهي أم بني طلحة مسافع، والجلاس، وكلاب وقد قتلوا يومئذ مع أبيهم. وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير. وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. وكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: ويها أبا دسمة اشف واستشف، وكان وحشي يكنى بأبي دسمة1. وكان لهؤلاء النسوة دور بارز خلال المعركة، فكن ينشدن الشعر، ويحمسن الرجال، ويخوفونهم من عار الهزيمة وذل الانكسار، الأمر الذي ظهر أثره في سير القتال يوم "أحد". د- التحرك نحو المدينة: تابع جيش مكة سيره على الطرق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى "الأبواء"2. اقترحت هند بنت عتبة -زوج أبي سفيان- أن ينبش القرشيون قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة رضي الله عنها، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب، فلعل الدارة تكون عليهم؛ ولأنه عمل يجلب الخزي والعار لفاعله3. واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة فاستراح عند مدينة تسمى "الصمغة" وأطلق الإبل والخيل ترعى، وبعدها تابع الجيش مسيرته، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين، حتى نزل قريبًا من جبل "أحد" في مكان يقال له عينين4، في بطن السبخة، ومن قناة على شفير الوادي، الذي يقع شمالي المدينة، فعسكر هناك يوم الجمعة   1 سيرة الرسول ج2 ص60. 2 الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء قرية صغيرة قرب المدينة. 3 المغازي ج1 ص206. 4 عينين "بفتح العين تثنية عين" اسم من أسماء جبل أحد، أو اسم جزء منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة1. هـ- التعبئة النفسية: أدى اصطحاب النسوة إلى بعث روح الحماس في جيش قريش، فقد كن يولولن ويذكرن بقتلى "بدر" ويدرن على المقاتلين محرضات حتى لا يضعفون. وقد أخذ أبو سفيان يحرض رجاله كذلك على الثبات والقتال بوسائل ماكرة، فقال لأصحاب اللواء من بني عبد الدار: يا بني عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا، ستعلم غدًا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك الذي أراده أبو سفيان. وشاركت هند زوجها أبا سفيان في هذه المهمة مع باقي النسوة، فإنه لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضنهم على القتال، فقالت هند فيما تقول: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربًا بكل بتار وتقول: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق و الحرب المعنوية: قبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين فأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة لنا إلى قتالكم، ولكن أين هذه المحاولة أمام إيمان الأنصار الراسخ، ولذا رد عليه الأنصار ردًا عنيفًا، وأسمعوه ما يكره.   1 المغازي ج1 ص207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض، فقد خرج إليهم عميل خائن يسمى أبو عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه, ومالوا معه، فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر وقاتلهم قتالا شديدًا ورماهم بالحجارة. وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان مما جعلهم يزدادون خوفًا من المسلمين، ويمتلئون هيبة من لقائهم1. ز- عدة الجيش المكي وتنظيمه: تجمع مشركو مكة، والأحباش، وأعراب البوادي، وبنو ثقيف لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصار المدينة حتى بلغ عددهم ألفين وتسعمائة مقاتل، منهم سبعمائة دارع، والباقون رماة وكان مع الجيش مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير بالإضافة إلى ما كان معهم من نساء. سار الجيش المكي حتى قرب من المدينة وعند "أحد" نظم القرشيون جيشهم للقتال فاصطفوا صفًا واحدًا، وأمنوا الميمنة، والميسرة، فجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وحمل اللواء طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وولوا قيادة الخيل لـ"صفوان بن أمية" وجعلوا قيادة الرماة لـ"عبد الله بن أبي ربيعة"2. وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب لهلاك أكابرهم في "بدر".   1 السيرة النبوية ج2 ص67. 2 سيرة النبي ج2 ص67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 2- موقف المسلمين : تأهبت قريش لقتال المسلمين، وأخذت عدتها لتثأر لهزيمتها في "بدر" وسارت نحو المدينة في قوات ضخمة، وأسلحة عديدة، دفعت المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسلوا له بخبر وسارت الأمور على نحو يحتم ضرورة القتال والمواجهة كما يتضح من النقاط التالية: أ- العلم بموقف العدو: أول من أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما عزم عليه القرشيون العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رجل من بني غفار، يخبره بذلك، فقدم عليه الرجل وهو في قباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أبي أن يكتم الخبر. وقال له: "لا تطلع عليه أحدًا". ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس. فقال: "والله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير" 1. وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر وقد فارقوا قريشًا من ذي طوى، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مكة وانصرفوا2. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة ليلة الخميس عينين، فاعترضا لقريش بالعقيق، وعادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما رأوا3. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر بن الجموح فنظر إليهم، وعاد وقد حرز عددهم وما معهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا من شأنهم حرفًا، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول، وبك أصول" 4. وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه الاستعداد لملاقاة الكفار، بعدما أشار إليهم وعرفهم.   1 المغازي ج1 ص206. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص114. 3 إمتاع الأسماع ج1 ص115. 4 سيرة النبي ج2 ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة لست مضين من شوال، عليهم السلاح في المسجد، بباب النبي صلى الله عليه وسلم، خوفًا من بيات المشركين، وحرست المدينة حتى أصبحوا. ب- رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، فلما أصبح يوم الجمعة، واجتمع الناس خطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم، من عند ظبته -أي انكسر وتتلم من عند طرفه- ورأيت بقرًا تذبح، ورأيت كأني مردف كبشًا". فقال الناس يا رسول الله، فما أولتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أما الدرع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي، أو قتل رجل من أهل بيتي وأما البقر المذبح فقتلى في أصحابي وأما أني مردف كبشًا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله، ويراد به طلحة بن أبي طلحة"، وقد حدث1. ج- المشاورة في خطة المواجهة: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الرأي من الصحابة ليشتركوا معه في وضع خطة للجهاد، والمقاومة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أشيروا عليّ أيها الناس". فتكلم الصحابة، واختلفوا في الرأي، حيث رأى أغلبهم الخروج لملاقاة الكفار خارج المدينة ورأى القليل غير ذلك. وكان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يخرج من المدينة، ووافقه عبد الله بن أبي، والأكابر من الصحابة مهاجرهم، وأنصارهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "امكثوا في المدينة، واجعلوا النساء والذراري في الآطام فإن دخلوا علينا قاتلناهم في الأزقة، فنحن أعلم بها منهم، ونرميهم من فوق الصياصي والآطام، وكان هذا هو الرأي وبخاصة أن الصحابة قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية حتى صارت كالحصن".   1 فتح الباري ج7 ص346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرًا وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا. وقال حمزة، وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك بن ثعلبة، في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم، جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به، فساقه الله إلينا في ساحتنا. وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعامًا، حتى أجالدهم بسيفي خارجًا من المدينة. وتكلم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وإياس بن أوس بن عتيك ورأوا الخروج للقتال. فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك، وأشار الكثيرون بالخروج من المدينة، ولم ينزل وحي محدد في هذا الأمر صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس فوعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن النصر لهم ما صبروا، ففرح الناس بالخروج من المدينة لقتال عدوهم، وكره صلى الله عليه وسلم ذلك المخرج إلا أنه وافقهم ونزل على رأيهم ما دام لم ينزل فيه وحي من الله تعالى1. صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس فوعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن النصر لهم ما صبروا، ففرح الناس بالخروج من المدينة لقتال عدوهم، وكره صلى الله عليه وسلم ذلك المخرج إلا أنه وافقهم ونزل على رأيهم ما دام لم ينزل فيه وحي من الله تعالى1. صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ورفعوا النساء في الآطام، ودخل صلى الله عليه وسلم بيته، ومعه أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فعمماه ولبساه، واصطف الناس له ما بين حجرته إلى منبره، فجاء سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير فقالا للناس: قلتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلتم، واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه، فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم فيه له هوى أو رأي فأطيعوه. فبينا هم على ذلك إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته ولبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطها، بمنطقه من حمائل سيف، واعتم وتقلد السيف. فقال الذين يلحون: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله   1 السيرة النبوية ج2 ص63، 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 فلكم النصر ما صبرتم1. د- رد الغلمان: عسكر الجيش الإسلامي بالشيخين، وفيها طلب النبي صلى الله عليه وسلم رؤية صغار من خرج مع الجيش للجهاد، فعرضوا جميعًا عليه صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد بن ثابت، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وعمرو بن حزم، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن حبتة الأنصاري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فردهم، ثم أجاز رافع بن خديج لأنه رام، فقال سمرة بن جندب لزوج أمه مري بن سنان: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تصارعا، فصرع سمرة رافعًا فأجازه2. هـ- تنظيم الحراسة الليلية: لما فرغ العرض، وغربت الشمس، أذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى بهم، واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، وقال صلى الله عليه وسلم حين صلى العشاء: "من يحفظنا الليلة"؟. فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنت"؟. قال: ذكوان بن عبد قيس. قال صلى الله عليه وسلم: "اجلس". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من رجل يحفظنا هذه الليلة"؟. فقام رجل فقال: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنت"؟. قال: أنا أبو سبع. قال صلى الله عليه وسلم: "اجلس"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من رجل يحفظنا الليلة"؟.   1 سيرة النبي ج2 ص66. 2 الطبقات الكبرى ج2 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فقام رجل فقال: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "من أنت"؟. قال: ابن عبد القيس. قال صلى الله عليه وسلم: "اجلس"، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة. ثم قال: "قوموا ثلاثتكم". فقام ذكوان بن عبد قيس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين صاحباك"؟. فقال ذكوان بن عبد قيس: أنا الذي كنت أجبتك الليلة. قال صلى الله عليه وسلم: "فاذهب، حفظك الله". فقام ذكوان بن عبد قيس فلبس درعه، وأخذ درقته، فكان يطيف بالعسكر ليلته ويقال بل كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه، وبذلك نام المسلمون ليلتهم آمنين استعدادًا للقاء عدو الله وعدوهم1. و تنظيم الجيش الإسلامي في أحد: نام صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان السحر قال: أين الأدلاء؟ فلما جاءوا إليه قال لهم صلى الله عليه وسلم: "من رجل يدلنا على طريق يخرجنا على القوم من كثب"؟. فقام أبو حثمة الحارثي فقال: أنا يا رسول الله. فخرج صلى الله عليه وسلم فركب فرسه، فسلك به في حرة بني حارثة، فذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب السيف، شم سيفك، فإني إخال السيوف ستسل فيكثر سلها" 2. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أرماح لعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر بن الجموح، ويقال إلى سعد بن عبادة   1 المغازي ج1 ص217. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ودفع لواء المهاجرين إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه1. ثم ركب فرسه، وتقلد القوس، وأخذ قناة بيده، والمسلمون عليهم السلاح فيهم مائة دارع. وخرج سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ رضي الله عنه أمامه يعدوان والناس عن يمينه، وشماله حتى انتهى إلى رأس الثنية، عند مكان يقال له الشيخان، نسبة إلى شيخ وشيخة عمياوان كانا يجلسان في الجاهلية فوقه يتناجيان. وهناك رأى صلى الله عليه وسلم كتيبة خشناء لها جلبة وضجيج فقال صلى الله عليه وسلم: "ما هذه"؟. فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول من اليهود. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك وردهم" 2. ومضى فعسكر بالشيخين قريبًا من أحد، ولبس درعه الأول، وبعد استراحة الجيش أخذ سيره إلى أحد. وفي الطريق عند "الحائط" رجع عبد الله بن أبي ومن معه من أهل النفاق، وهم ثلاثمائة رجل وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان، ومن لا رأي له، ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس، فرجعوا. فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام "وكان خزرجيًا كابن أبي". فقال رضي الله عليه: أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم، ونبيكم بعدما حضر عدوهم. قالوا: لو نعلم قتالا ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما أبوا قال: أبعدكم الله، فسيغني الله عنكم نبيه. ولما راآ بنو سلمة من الأوس، وبنو حارث بن الخزرج عبد الله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف، وكانوا جناحين من المعسكر، ثم عصمهما الله، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3.   1 الطبقات ج2 ص39، 40. 2 سيرة النبي ج2 ص64. 3 سورة آل عمران: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فعن جابر رضي الله عنه: نزلت هذه الآية فينا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة، وقد عصمهما الله فثبتا {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} . وقالت طائفة من الأوس لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا تستعين بحلفائنا من يهود بني قريظة، وذلك لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا فيهم". وتحرك الجيش الإسلامي إلى أحد، فبلغها عند صلاة الفجر يوم الخامس عشر من شوال، وهو "يوم المعركة" فأذن بلال وأقام، وصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه الصبح صفوفًا. وهكذا أراد الله تعالى للمسلمين أن يكونوا وحدهم حماة دينهم، ليعيشوا المسئولية كاملة، ولينتفعوا بما في الجهاد من خير في الدنيا والآخرة، ولذا تطهر الصف الإسلامي من المنافقين وغيرهم، ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعين بغير المسلمين. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب من "أحد" ونظم جيشه في عدوة الوادي إلى الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى "أحد"، ولبس درعه الثانية فوق الأولى، ومغفرًا فوقها، وبيضة فوق المغفر، ثم قال: "لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال". وقد سخرت قريش الظهر والكراع، في زروع كانت بالصمغة، من قناة المسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قبيلة، ولما نضارب1. وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وسبعمائة رجل، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير، وهو معلم يومئذ بثياب بيضاء، وكان الرماة خمسين رجلا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "انضحوا عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبتوا مكانكم لا نؤتين من قبلكم". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، أخي بني عبد الدار. وكان المسلمون سبعمائة مقاتل فيهم مائة دارع، وفرسان أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لأبي بردة بن نيار.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو الغنوي. ثم قام صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: "يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين، والجد، والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه قليل من يصبر عليه إلا من عزم الله له رشده، فإن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به فإني حريص على رشدكم، وإن الاختلاف، والتنازع، والتثبيط، من أمر العجز، والضعف، وهو مما لا يحب الله، ولا يعطي عليه النصر، ولا الظفر. يا أيها الناس حدد -تأكد- في صدري أن من كان على حرام فرق الله بينه وبينه ورغب له عنه غفر الله له ذنبه، ومن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه وملائكته عشرًا، ومن أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيًا، أو امرأة، أو مريضًا أو عبدًا مملوكًا، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد. ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم، وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته. إن الله تعالى قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم الله، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيها، وليس ملك إلا وله حمى ألا وإن حمى الله محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده، والسلام عليكم"1. وهكذا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى عوامل النصر، والغلبة، وأساسها إعداد العدة، والصبر، واللجوء إلى الله وحسن الطاعة والانقياد، وأداء الواجبات، وصدق التوكل، وإخلاص التقوى، وتقدير محارم الله تعالى، والإيمان التام بقدره سبحانه وتعالى.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص121، 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ثالثا: أحداث المعركة مدخل ... ثالثًا: أحداث المعركة بدأت قريش بالهجوم حيث قام أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي مع مجموعة بلغ عددها خمسين مقاتلا بالهجوم على المسلمين، فنشبت الحرب بعدها. وكان أبو عامر قد ترك المدينة، ورحل إلى مكة بعد "بدر" واصطحب معه خمسة عشر رجلا من الأوس، وكون بهم قوات خاصة، بعدما انضم إليهم خمسة وثلاثون رجلا من عبيد أهل مكة. وكان أبو عامر يزعم لأهل مكة أنه إذا نادى الأوس جميعًا، وهم يحاربون في صف المسلمين يستجيبون له وينحازون لقريش. فلما بدأ القتال نادى قومه وقال: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. فأجابه الأوس: لا مرحبًا بك، ولا أهلا، يا فاسق. فقال أبو عامر: لقد أصاب قومي بعدي شر1. وتراموا بالحجارة ساعة حتى ولى. وقد مرت المعركة بثلاث مراحل، كانت الأولى مرحلة انتصار كاسح للمسلمين وكانت الثانية خسارة للمسلمين، وكانت الثالثة مرحلة صمود المسلمين ومقاومتهم، وبيان هذه المراحل فيما يلي:   1 سيرة النبي ج2 ص67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 المرحلة الأولى للقتال انتصار المسلمين : اشتد وطيس المعركة، وكان أول البشائر فيها مقتل حامل لواء قريش طلحة بن أبي طلحة بعدما نادى بالمبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ووثب على جمله، وأمسك به وأنزله على الأرض، وذبحه بسيفه، فكبر المسلمون، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقتل طلحة الذي كان يعرف بـ"كبش الكتيبة" لشجاعته، وقوته1. واندلع القتال بعد مقتل طلحة في كل أرض المعركة، وشد المسلمون على لواء المشركين لأهميته في هزيمتهم، وقد تمكن المسلمون من حملة اللواء حتى أفنوهم جميعًا، لأنه بعد مقتل طلحة حمل اللواء، أخوه عثمان بن طلحة فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه، وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى المبارزة، فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله. فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله. ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقضى عليه. ثم حمله من بني عبد الدار أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة بن عبد المطلب. ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان، وكان منافقًا قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام ثم حمله أبو زيد بن عبد مناف العبدري فقتله قزمان أيضًا. ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضًا. فتقدم غلام حبشي اسمه صواب فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات، ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت،   1 إمتاع الأسماع ج1 ص125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 يعني هل أعذرت؟ أمام سادته المكيين. وبعد أن قتل هذا الغلام -صواب- سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله فبقي ساقطًا1. وأخذ المسلمون يهتفون بشعار يوم أحد "أمت، أمت"، وينزلون بأعدائهم الضرب والقتل، ويشدون عليهم في كل ناحية، ويبرزون من ضروب الفداء والتضحية ما يعده المؤرخون أمثلة خالدة في إطار الجهاد، وحب الله ورسوله ومن هذه الأمثلة: 1- قتال أبي دجانة رضي الله عنه: أقبل أبو دجانة رضي الله عنه معلمًا بعصابته الحمراء، آخذًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقبلا على الجهاد والنصر، فقاتل حتى أمعن في المشركين، وكان لا يلتقي بمشرك إلا وقتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدًا ويفرقهم بددًا. يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله، فآتاه إياه، وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟ فاتبعته فرأيته قد أخرج من جيبه عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه. فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فلبسها وخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحًا إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه أبو دجانة بدرقته، فعضه بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله. ثم أمعن أبو دجانة في هد الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش وهو لا يدري بها.   1 المغازي ج1 ص225-228 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 قال أبو دجانة: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة. يقول الزبير بن العوام: رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم1. 2- قتال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث الأبطال، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين في شجاعة منقطعة النظير، ففر من أمامه أبطال قريش، وتطايروا كما تتطاير الأوراق أمام الرياح العاتية، واستمر في اندفاعه رضي الله عنه حتى صرعه وحشي، وهو مختبئ في مكنه، أملا في الحرية التي وعده بها سيده جبير بن مطعم، ولينال رضى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان. يروي البخاري بسنده قصة استشهاد حمزة كا رواها وحشي بعدما أسلم فيقول: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم، إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر. فلما خرج الناس عام عينين خرجت مع الناس، إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يابن أم أنمار، مقطعة البظور أتحاد الله روسوله صلى الله عليه وسلم؟ ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب، وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فوضعتها في ثنيته، حتى خرجت من بين وركيه، فكان ذاك العهد به. فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة، حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 البداية والنهاية ج4 ص15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فلما رآني قال صلى الله عليه وسلم: "أنت وحشي"؟. قلت: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: "أنت قتلت حمزة"؟. قلت: قد كان من الأمر ما بلغك. قال: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني"؟. قال: فخرجت1. وبهذه الطريقة استشهد حمزة رضي الله عنه يوم "أحد"، وجاءت هند إلى جسده فمثلت به، وأخرجت كبده، ولاكته في فمها لغلها الدفين، وحقدها الكامن، ولكنها لم تتمكن من أكله، فلفظته، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا لموت حمزة رضي الله عنه ولذلك أبعد وجهه عن رؤية وحشي رغم أن وحشيًا كان قد أسلم، وحسن إسلامه. وقد غسلت الملائكة حمزة بعدما احتلم في نومه، أثناء النعاس الذي رزقه الله للمؤمنين أثناء المعركة. ومن العجيب أن وحشيًا لم يشترك في القتال ولم يقتل غير حمزة يوم أحد لأنه لم يأت مع الجيش إلا لهذه الغاية، ولما أسلم اشترك في حرب الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة الكذاب وجاهد في الله حق الجهاد، ولله في خلقه شئون2. 3- تعدد البطولات: برغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين بقتل أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر، وأمثالهم رضي الله عنهم قتالا فل عزائم المشركين، وفتت أعضادهم، وفرق جمعهم، ودفعهم إلى ترك ميدان المعركة ففروا إلى قمم الجبل3.   1 صحيح البخاري. ك المغازي باب قتل حمزة ج6 ص303. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب قتل حمزة ج6 ص302، 304. 3 البداية والنهاية ج4 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 4- بطولة حنظلة الغسيل: وكان من أبطال الجهاد يومئذ حنظلة الغسيل, وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الذي سمي بالفاسق، كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب، وهو على امرأته، انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال، أخذ يشق الصفوف، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه، وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه بالسيف حتى قتله، فغسلته الملائكة ولذلك سمي بحنظلة الغسيل1. 5- جهاد الرماة: وكان للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان من جيش مكة بقيادة خالد بن الوليد، يساندهم أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات على الرماة ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، ويتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم2. وهكذا ظهرت البطولات الإسلامية، وانهارت مقاومة المكيين فولوا الأدبار، وفروا هاربين فوق الجبل، وكادت أن تنتهي المعركة بهذا النصر الحاسم، لولا خطأ وقع فيه الرماة، أدى إلى تغير الوضع، وتحول النصر إلى هزيمة وانكسار، وهو ما حدث في المرحلة الثانية.   1 المرجع السابق ج3 ص22. 2 انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المرحلة الثانية للقتال هزيمة المسلمين : لما انهزم المشركون، وولوا الأدبار، أقبل المسلمون على الغنائم والأسلاب، وهنا جاء خطأ الرماة تركوا الجبل، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكره لهم وهو ينظم المعركة، وغرتهم الأسلاب والغنائم، وقال بعضهم لبعض: تقيمون ها هنا في غير شيء؟ قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم!! فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم: "احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا". فقال الآخرون: لم يرد رسول الله هذا، وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون1. انتهز خالد بن الوليد فرصة ترك الرماة لمكانهم، وكان قريبًا منه على ميمنة خيل المشركين، فهجم على موضع الرماة، واحتله بفرسانه، وتمكن وجنوده من قتل قائد الرماة عبد الله بن جبير رضي الله عنه وجرح من بقي معه، ولم يفطن المسلمون لهذه المباغتة, وصاح خالد في قريش ليعودوا إلى الميدان مرة أخرى، ويلتقوا وراء المسلمين، فعادت قوات قريش المهزومة للقيام بهجوم جديد، بينما خالد وفرسانه يحكمون قبضتهم على جبل الرماة، الموجود خلف المسلمين، وبذلك أصبح المسلمون محاطين من كافة جوانبهم، وتحرج موقفهم وصاروا عرضة للسهام تأتيهم من كل جانب، فانهارت مقاومتهم، وبخاصة أن صفوفهم لم تكن ثابتة في مواضعها، لتستطيع الصمود بعد تبعثر أفرادها لجمع الغنائم. تفككت صفوف المسلمين وقام إبليس بمهمته فنادى عند جبل عينين وظهر للناس في صورة جعال بن سراقة وصرخ في الناس إن محمدًا قد قتل، ثلاث صرخات دوت في الوادي2. وبهذه الصورة تحول الموقف بسرعة كبيرة، وعاد المشركون من هزيمتهم إلى انتصار يتحقق، وبعدما كان المسلمون يعيشون فرحة الانتصار صاروا إلى هزيمة مؤلمة، وتخبط حالهم، واختلط توجههم، وتداخل المسلمون، وصاروا يقتتلون فيما بينهم، ويضرب بعضهم بعضًا ولا يشعرون بسبب ما هم فيه من العجلة، والدهشة، والمفاجأة. وجرح أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار وهو لا يدري.   1 انظر صحيح البخاري كتاب المغازي ج6 ص287. 2 المغازي ج1 ص232 وهذا ابتلاء نزل بجعال لأنه كان يقاتل في صفوف المسلمين فظن المسلمون أنه ارتد حين صاح إبليس فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر. والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لا يعرفونه حين اختلطوا، وحذيفة يقول أبي، أبي حتى قتل، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، فزادته مقالته هذه عند رسول الله خيرًا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين، ويقال: إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!! فأقبلوا إليه جماعة واحدة: لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر في رأسه وما يدري1. ولم ينقذهم من هذا الاضطراب إلا ظهور صيحتهم التي تميز المسلم من المشرك فأظهروا الشعار بينهم، فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض. وأصاب الوهن المسلمين، وتصوروا أن دولتهم قد زالت، وأن كيانهم تهدم، وبخاصة بعدما سمعوا صيحة إبليس المؤذنة بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد زعزعت صيحة إبليس المعسكر الإسلامي كله، وفي نفس الوقت قوت عزيمة المشركين لشعورهم بقرب تحقيق أمانيهم، ولم يدم ذلك الحال طويلا، فلقد جاء الخبر بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجاته. وكان أول من بشرهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، فجعل يصيح ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه على فيه أن "اسكت". ودعا بلأمة كعب فلبسها، ونزع لأمته فلبسها كعب، وقاتل كعب حتى جرح سبعة عشر جرحًا لشدة قتاله. وأخذ أبو سفيان في البحث عن حقيقة خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهدأ نفسه، ويتيقن من تحقيق هدف المشركين الأول، فأخذ يسأل من يقابله، ويقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدًا؟ فقال ابن قمئة: أنا قتلته. قال أبو سفيان: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وأخذ أبو سفيان يطوف بأبي عامر في أرض المعركة عساه يرى محمدًا ويتأكد من قتله؟   1 المغازي ج1 ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ولما تصفح أبو سفيان القتلى قال: ما نرى مصرع محمد؟ كذب ابن قميئة. ولقي أبو سفيان خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟ قال خالد: رأيته قبل قليل في نفر من أصحابه، مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حق، كذب ابن قمئة، زعم أنه قتله1. وهنا تغير الأمر ثانية وانكسرت شوكة الحماس القرشي وفترت حدتهم، وثبتت فئة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ المسلمون يفيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماسكت قوتهم، وتمكنوا من الصمود حتى انتهت المعركة.   1 المغازي ج1 ص236، 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 المرحلة الثالثة للقتال الصمود الإسلامي : أدت مخالفة الرماة للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى انكسار الجيش الإسلامي وتفكك صفوفه، وفرار المسلمين إلى الجبل في كل جوانبه. ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم معه صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، ولم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة ثابتة، وأخذت خيل المشركين تجوسهم مقبلة ومدبرة، في جنبات الوادي، وتجمع المشركون، يلتقون ولا يتفرقون، ما يرون أحدًا من الناس يردهم بعدما فر المسلمون، وصعدوا إلى الجبل، وقد استشهد من المسلمين من أكرمه الله تعالى بالشهادة ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته لكانت النكسة الماحقة، ولوقعت الهزيمة التي لا انتصار بعدها. روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه قال: أوجع المشركون والله فينا قتلا ذريعًا، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا، ألا والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرًا واحدًا، وإنه لفي وجه العدو، ويفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق عنه مرة، فربما رأيته قائمًا يرمي عن قوسه ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة ثبتت معه1. وقال محمد بن عمر: ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، ما يزول قدمًا واحدًا بل وقف في   1 المغازي ج1 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وجه العدو، وما يزال يرمي عن قوسه، حتى تقطع وتره، وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرًا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال عكاشة رضي الله عنه: يا رسول الله لا يبلغ الوتر. فقال صلى الله عليه وسلم: "مده فيبلغ". قال عكاشة رضي الله عنه: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ، وطويت منه لبتين أو ثلاثًا على سية القوس1. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمي به، وأبو طلحة يستره متترسًا عنه، حتى تحطمت القوس وصارت شظايا، وفنيت نبله، فأخذ القوس قتادة بن النعمان فلم تزل عنده، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى العدو. وثبت معه صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلًا، ثمانية من المهاجرين هم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وسبعة من الأنصار هم: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف, وسعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه ويقال: ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع! 2. وصان الله رسوله من كيد أعدائه في هذه المحنة القاسية فشتت رميهم، وأفسد سهامهم وأرسل ملائكته لحفظ رسول صلى الله عليه وسلم. وروى الطبراني عن ابن عباس: أن ابن مسعود ثبت يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكشف الناس عنه إلى الجبل لا يلوون عليه، يدعوهم في أخراهم ويقول: "إليّ يا فلان، أنا رسول الله"، فما يعرج عليه أحد، هذا والنبل يأتيه صلى الله عليه وسلم من كل ناحية، والله تعالى يصرف ذلك عنه3. وروى محمد بن عمر الأسلمي عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين   1 المغازي ج1 ص242، بلوغ الأماني ج22 ص327. 2 المغازي ج1 ص241، 242. 3 البداية والنهاية ج4 ص30، المغازي ج1 ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 يقول: شهدت أحدًا فنظرت إلى النبل من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرفه الله عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزه ولم يره فعاتبه صفوان بن أمية في ذلك، فقال له: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع أما والله لقد خرجنا فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه1. وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا، وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا المشركين بذلك، وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قمئة، وأبي بن خلف، وزاد بعضهم عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي. قال ابن سعد: قال أبو النمر الكناني وهو جد شريك بن عبد الله بن أبي نمر: شهدت أحدًا مع المشركين، ورميت يومئذ بخمس رميات، فأصبت منها بأسهم، وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، وإن أصحابه لمحدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه، وعن شماله، وتقصر بين يديه، وتخرج من ورائه، ثم هداني الله للإسلام2. وروى عبد الرزاق عن الزهري قال: ضرب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" سبعين ضربة بالسيف، وقاه الله شرها كلها. وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين وهم: علي، والزبير، وطلحة وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحارث بن الصمة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد3. وروى أبو يعلى بسند حسن، عن علي رضي الله عنه قال: لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" نظرت في القتلى، فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله تعالى غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي، فإذا أنا   1 البداية والنهاية ج4 ص30. 2 الطبقات ج2 ص42. 3 البداية والنهاية ج4 ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم أي يقاتلهم صلى الله عليه وسلم1. وتكاثر المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، رمى عتبة بن أبي وقاص -لعنه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أحجار فكسر حجر منها رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى2. وشجه عبد الله بن شهاب الزهري في وجهه، وسال الدم من الشجة حتى أخضل الدم لحيته الشريفة3. ورماه عبد الله بن قَمِئة -بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة- فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وعلاه بالسيف، وكان عليه درعان، فوقع صلى الله عليه وسلم في حفرة أمامه على جنبه، وهي من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، فأخذه علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائمًا فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قمئة شيئًا إلا وهن الضربة بثقل السيف، ومكث صلى الله عليه وسلم يجد وهن الضربة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر، ورمته جماعة كثيرة بالحجارة حتى وقع لشقه4. لقد دبت روح الإيمان في نفوس المسلمين ودفعتهم إلى قوة المجابهة، وطلب الشهادة في سبيل الله صادقين، مخلصين عندما رأوا الأعداء يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أدى ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هاتيك الضربات الموجعة، وهذا الحصار المحكم وتلك الرميات المتتابعة، أدى إلى عودة الروح إلى قلوب المؤمنين، فاندفعوا لحماية دينهم الذي تحملوا مسئوليته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرتضوا لأنفسهم الحياة الذليلة المهينة وبخاصة أن استشهادهم في سبيل الله يحقق لهم الحياة عند الله فرحين مستبشرين. ذلك أن فريقًا من الصحابة حينما سمعوا صائحًا يقول: قتل محمد طار صوابهم، وانهارت عزيمتهم، فمر بهم أنس بن النضر، وقال لهم: ما تنظرون؟   1 المغازي ج1 ص160، 161. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ج6 ص203. 3 المصدر السابق ج 6 ص204. 4 البداية والنهاية ج4 ص29، 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم1. ونادى ثابت بن الدحداح أنس بن النضر، وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل؟! فقال أنس: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم2. وبمثل هذا الاستبسال والفداء عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، وأخذوا سلاحهم، وانطلقوا يهاجمون تيارات المشركين، الذين يحاولون الوصول إلى رسول الله بعدما بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق. ولما تأكد المسلمون من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا قوة، وتمكنوا من الإفلات من التطويق وتجمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة، وثبتوا ثبوت الجبال الرواسي، ولم يتمكن المشركون من زحزحتهم، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أبدى المسلمون بعد تجمعهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاعة نادرة، وأصروا على الصمود، حتى الموت، ولم يرضوا لأنفسهم الذل والهوان، ولم يقبلوا أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وجاهدوا مخلصين، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، ومن هؤلاء: 1- سعد بن أبي وقاص: قد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال: "ارم فداك أبي وأمي". ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فداء لأحد في يوم أحد لغير سعد رضي الله عنه3. 2- طلحة بن عبيد الله: يروي النسائي بسنده عن جابر بن عبد الله يقول: أدرك   1 المرجع السابق ج4 ص32. 2 البداية والنهاية ج4 ص31. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "من للقوم"؟. فقال طلحة: أنا. فلما قتل الأنصار كلهم، تقدم طلحة فقاتلهم كقتال الأحد عشر، حتى ضربت يده وقطعت أصابعه، فقال: حس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت: "بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون". وقد جرح طلحة يوم "أحد" تسعًا وثلاثين جرحًا، أو خمسًا وثلاثين، وشلت إصبعه السبابة والتي تليها1. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: "من نظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" 2. وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم "أحد" قال: هذا يوم طلحة. وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة رضي الله عنه: "هذا سلفي في الدنيا وسلفي في الآخرة" 3. يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوأت المها العينا يقول أبو بكر الصديق: لما كان يوم "أحد" انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه، ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم فقد أوجب". وقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته ووجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني. فأخذ بفيه، فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه   1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج1 ص286. 2 سنن الترمذي كتاب المناقب باب مناقب طلحة ج5 ص644. 3 فتح الباري ج7 ص361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأخذ بفيه، فجعل ينضضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم، فقد أوجب". يقول أبو بكر: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع وثلاثون بين ضربة وطعنة ورمية. وهذا أيضًا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم وتفانيه في الكفاح والنضال1. 3- ومن المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدوا أعداءه عنه أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهيل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة. 4- كان أبو طلحة رضي الله عنه يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، يقول أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفه له، وكان رجلا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين، أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: "انثرها لأبي طلحة". ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة، بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. يقول أنس: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله. 5- حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه تعقب حاطب رضي الله عنه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر الرباعية الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه شديد الحرص على قتل أخيه عتبة هذا إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب. 6- وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت،   1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج6 ص286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ثم قام بدور فعال في رد المشركين. 7- وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، بعضها في رجله فعرج. 8- وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: "مجه". فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم أدبر يقاتل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فقتل شهيدًا. 9- وكانت أم عمارة "نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف" وقد شهدت أحدًا هي وزوجها وابنها، ومعها شن تسقي به الجرحى، فقاتلت وأبلت بلاء حسنًا يومئذ، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت اثني عشر جرحًا، بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف: وذلك أنها كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وابناها عبد الله وحبيب ابنا زيد بن عاصم، وزوجها غزية بن عمرو، يذبون عنه. فلما انهزم المسلمون أخذت أم عمارة تباشر القتال، وتذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وترمى بالقوس، ولما أقبل ابن قمئة -لعنه الله- يريد النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيمن اعترض له، فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد ذلك غور أجوف، وضربته هي ضربات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمقام نسيبه بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما التفت يمينًا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني". وقال صلى الله عليه وسلم لابنها عبد الله بن زيد: "بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك -يعني زوج أمه- خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل بيت". قالت أم عمارة: "ادع الله أن نرافقك في الجنة". قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ". قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا1.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص148 والمغازي ج1 ص269، 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 10- وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين وصاح: إن محمدًا قد قتل1. 11- وخرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة مسلمة منهن فاطمة وأم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين وحمنة بنت جحش ومنهن أم أيمن رضي الله عنهن، وكن يسقين العطشي، ويداوين الجرحي، ويناولن الطعام، ويحملن على ظهورهن ما يحتاج إليه المقاتلون من طعام، وشراب، وسلاح. خرج إليهم محمد بن مسلمة فلم يجد عندهم ماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشًا شديدًا، فذهب محمد إلى قناة بها ماء حتى استقى وأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، وجعل الدم لا ينقطع. فلما رأت فاطمة الدم لا يرفأ، وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: إن فاطمة رضي الله عنها داوته بصوفه محترقة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره، ومكث يجد وهن ضربة ابن قمئة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر2. 12- وكان شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي لا يرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره يمينًا وشمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه الله، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما وجدت لشماس شبهًا إلا الجنة" 3. 13- ولقي رشيد الفارسي مولى بني معاوية رجلا من المشركين قد ضرب سعدًا مولى حاطب، فضربه على عاتقه فقتله، فاعترض له أخوه فقتله أيضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت يا أبا عبد الله وكناه يومئذ ولا ولد له" 4.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص288. 2 البداية والنهاية ج4 ص30. 3 إمتاع الأسماع ج1 ص144. 4 المرجع السابق ج1 ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 14- وقال مخيريق من أحبار يهود لقومه: يا معشر يهود! والله إنكم لتعلمون أن محمدًا لنبي، وأن نصره عليكم لحق! ثم أخذ سلاحه، وحضر أحدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل؛ وقال حين خرج: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله، فهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه صلى الله عليه وسلم: "مخيريق خير يهود". في ذلك الظرف الدقيق، والساعة الحرجة، أنزل الله نصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل ملائكته لحمايته والدفاع عنه، وتخذيل المشركين وصرفهم من أن ينالوه صلى الله عليه وسلم بسوء، وقد كان هدفهم الأول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عند سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد"، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل2. وقد نزلت الملائكة يوم أحد، إلا أنها لم تقاتل لعدم صبر المؤمنين، الذي جعله الله تعالى شرطًا لاشتراك الملائكة في القتال، وقيل: بل نزلوا فرادى دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنّ الله على المجاهدين، الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتكاتفوا في الدفاع والصمود منّ عليهم سبحانه وتعالى بنعاس، فناموا وذهب ما بهم من حزن وتعب. يقول طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان جحف القوم تتناطح. ويقول الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم فأسمع متعب بن قشير يقول، وإني لكالحالم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 3. فأنزل الله تعالى فيه: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 4. يقول أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطًا حتى إن الحجف لتتناطح لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور يسقط من يده وما يشعر به، وأخذه بعدما تثلم وإن   1 المغازي ج1 ص262، 263. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص292. 3 سورة آل عمران: 154. 4 سورة آل عمران: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 المشركين لتحتنا1. ويقول أبو طلحة: ألقي علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي، وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان2. وقعت هذه الأحداث كلها بسرعة هائلة، في لحظات خاطفة، وأدرك المصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في مقدمة المسلمين عند بدء القتال خطورة الموقف، وضرورة الصمود، والتصدي لأعداء الله، وأعداء رسوله، وزاد حماسهم لما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم فأسرعوا إليه، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح، فلما وصلوا أقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ورد هجماتهم. وانتهت الجولة الثالثة بتكافؤ الفريقين، بعدما أصابهما التعب والإرهاق، فلقد عاشوا اليوم كله بين الكر والفر، وكثرت الجراحات، وتكسرت الرماح وقل النبل، وعقرت الخيل، ورأت قريش ضرورة الانسحاب والرجوع إلى مكة قبل أن يتغير الأمر. سئل عمرو بن العاص عن كيفية افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد وكان وقتها في معسكر المشركين, فقال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم، وتفرقوا في كل وجه وفاءت لهم فئة بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس وقد تخلف ناس من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا، وفينا جراح، وخلينا عامتها قد عقرت منه النبل فمضوا3. وبدأ القرشيون في الانسحاب، والرجوع إلى مكة، وأقبل أبو سفيان يفاخر بانتصار المشركين، وسار حتى أشرف على المسلمين، وهم في عرض الجبل، فأخذ يصيح بأعلى صوته: اعل هبل, أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم ببدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال   1 إمتاع الأسماع ج1 ص159. 2 المغازي ج1 ص296. 3 المغازي ج1 ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وحنظلة بحنظلة. فقال عمر رضي الله عنه: ألا أجيبه يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى فأجبه". فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال عمر رضي الله عنه: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت فعلا، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر. فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال. فقال عمر: لا سواء! قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا! لنا العزى ولا عزى لكم. فقال عمر: الله مولانا، ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يابن الخطاب علينا، قم إليّ يابن الخطاب أكلمك فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدتك بدينك هل قتلنا محمدًا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أبو سفيان: أنت أصدق عندي من ابن قمئة. ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عنتًا ومثلا، ألا إن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا، أما إذا كان ذاك فلم نكرهه, ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل نعم! ". فقال عمر رضي الله عنه: نعم. وانصرف أبو سفيان إلى أصحابه، وأخذوا في الرحيل1.   1 صحيح البخاري. ك المغازي باب غزوة أحد ج6 ص287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لينظر وقال له: "إن ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل، وجنبوا الإبل فهي الغارة". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم". فذهب سعد يسعى إلى العقيق، فإذا هم قد ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل بعدما تشاوروا حول نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا يفعلوا، فإنهم لا يدرون ما يغشاهم، فعاد فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم1. وقدم أبو سفيان مكة فلم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه. وكان أول من قدم مكة بخبر أحد، وانصراف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فكره أن يأتيهم هزيمة أهلهم، فقدم الطائف وأخبر أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا. ثم قدم وحشي مكة فأخبرهم بمصاب المسلمين، ووقف على الثنية التي تشرف على الحجون فنادى: يا معشر قريش! أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمدًا فأثبتناه بالجراح، وقتل حمزة، فسروا بذلك. وبعد انتهاء القتال أخذ المسلمون يتفقدون قتلاهم، ليقفوا على مدى مصابهم يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: "إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك"؟. فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته، وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: "أخبرني كيف تجدك"؟. فقال سعد: وعلى رسول الله السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص عدوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته فجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره2.   1 فتح الباري ج7 ص347. 2 المغازي ج1 ص292، 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 يقول ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- يلتمس حمزة بن عبد المطلب وجعل يقول: "ما فعل عمي"؟. ويكرر ذلك، فخرج الحارث بن الصمة يلتمسه فأبطأ، فخرج علي فوجد حمزة ببطن الوادي مقتولا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يمشي حتى وقف عليه فوجده قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه، وأذناه، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر وقد مثل به. فقال صلى الله عليه وسلم: "أحتسبك عند الله رحمة الله عليك يا عمي، فإنك كنت كما علمتك فعولا للخير، وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدي عليك، وتكون سبة من بعدي لتركتك، حتى تحشر في بطون السباع، وحواصل الطير" 1. ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: "أبشروا جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم". وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله تعالى على قريش في موطن من المواطن لأمثلن ثلاثين رجلا منهم" 2. فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: والله لئن ظفرنا الله تعالى بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب, وفي توعده صلى الله عليه وسلم وتوعد أصحابه لكفار مكة مخالفة للعقوبة الشرعية المقررة، ولذلك نزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند أحد بعد مقالته بخواتيم سورة النحل وفيها يقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 3. فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، وفعل أصحابه مثل ما فعل4 يقول ابن إسحاق أيضًا: وأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها لتنظر إلى حمزة وكان أخاها لأمها وأبيها، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تراه، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة. المرأة".   1 أسباب النزول للنيسابوري ص164. 2 سيرة النبي ج2 ص96، بغية الرائد ج6 ص173 وفيه: سبعون بدل ثلاثين. 3 سورة النحل: 126. 4 أسباب النزول ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فقال الزبير بن العوام: فتوسمت أنها أمي صفية. فقال صلى الله عليه وسلم له: "القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها". فخرج الزبير يسعى فأدركها، قبل أن تنتهي إلى القتلى، فردها فلكمت صدره، وكانت امراة جلدة وقالت: إليك عني لا أرض لك1. فقال الزبير لها: يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي. قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي, وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك فلأصبرن، وأحتسبن إن شاء الله. فجاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال صلى الله عليه وسلم: "خل سبيلها". فأتته فنظرت إليه، واسترجعت، واستغفرت له2. وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار عن الزبير والطبراني بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس: أن صفية رضي الله عنها أتت بثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما. يقول ابن عباس رضي الله عنه: فجئنا بالثوبين لنلفه فيهما، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار، فعل به مثل ما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له. فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كلا منهما في الثوب الذي صار3. وأراد أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل حمزة وما مثل به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن اجلس وكان قائمًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: "يا أبا قتادة، إن قريشًا أهل أمانة من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى لفيه، وعسى   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170. 2 سيرة النبي ج2 ص97. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 إن طالت بك حياة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى" 1. فقال أبو قتادة: يا رسول الله، ما غضبت إلا لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حين نالوا من حمزة ما نالوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم". ووجد المسلمون في الجرحى الأصيرم -عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحربًا على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل ربغة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو من أهل الجنة" 2. ووجدوا في الجرحى قزمان, وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة، أو ثمانية من المشركين, وجدوه قد أثخنته الجراح، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون, فقال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: "إنه من أهل النار" 3.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص145. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص203. 3 المغازي ج1 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 رابعًا: نتائج المعركة اختلفت نتيجة معركة "أحد" عن نتيجة معركة "بدر" فقد استشهد من المسلمين عدد كبير ما بين السبعين إلى خمسة وسبعين شهيدًا، ولحقت الجراح بسائر أفراد الجيش الإسلامي، ولم يقتل من المشركين إلا أربعة وعشرون رجلا، ولم يؤسر منهم أحد مع قلة الجرحى منهم. يروي الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين1. وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة يقول الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس2. ونقل الحافظ محب الدين الطبري عن الإمام مالك رحمه الله أن شهداء "أحد" خمسة وسبعون من الأنصار، أو أحد وسبعون. وعن الإمام الشافعي رحمه الله أنهم اثنان وسبعون شهيدًا3. وقد دفن الشهداء بملابسهم التي كانوا يلبسونها، بلا غسل ما عدا حمزة وأبا حنظلة فقد غسلتهم الملائكة. وأما الصلاة عليهم فقد روى ابن إسحاق عن من لا يتهم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعمه حمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى ووضعهم بجوار حمزة وصلى عليهم واحدًا بعد واحد، فصلى عليه وهو مع كل منهم ثنتين وسبعين صلاة4.   1 الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53. 2 فتح الباري ج7 ص351. 3 يرجح المفسرون أن عدد الشهداء سبعون شهيدًا ويستدلون بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} لأن المسلمين أصابوا المشركين يوم "بدر" بمائة وأربعين ما بين قتيل وأسير، والآية تشير إلى أن إصابة المشركين في "بدر" ضعف إصابة المسلمين في "أحد". 4 سيرة النبي ج2 ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ولم يأخذ بهذا الحديث فقهاء الحجاز ولا الأوزاعي، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على أحد من الشهداء، واستدلوا على رأيهم بوجوه: الوجه الأول: ضعف إسناد هذا الحديث؛ لأن ابن إسحاق قال: حدثني من لا يتهم، يعني: الحسين بن عمارة -فيما ذكروا- ولا خلاف في ضعف الحسين بن عمارة عند أهل الحديث، وأكثرهم لا يرونه شيئًا، وإن كان الذي عناه ابن إسحاق في قوله: حدثني من لا أتهم غير الحسين، فهو مجهول، والجهل يضعف الحديث، وكل الروايات الواردة في هذا الموضوع تعتمد على رواية ابن إسحاق وبذلك تكون كل الروايات ضعيفة. الوجه الثاني: حديث الصلاة على شهداء أحد لم يصحبه العمل بما دل عليه، لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهيد في شيء من مغازيه كلها ولم ترد رواية في هذا الشأن إلا هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق في شهداء أحد. وكذلك لم يثبت ولم يرو أن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صليا على شهداء أبدًا وحكمة عدم الصلاة على الشهداء والله أعلم، تحقيق حياة الشهداء، ومعاملتهم معاملة الأحياء تصديقًا لقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 فالتعامل معهم على اعتبار هذه الحياة التي ذكرتها الآية. والقائلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على الشهداء يؤولون ما رواه الشيخان من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، ويذكرون أن ذلك كان بعد ثماني سنوات حيث صلى عليهم صلى الله عليه وسلم كالمودع للأحياء والأموات، فيكون المراد بالصلاة حينئذ الدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للموتى عمومًا بلا تكبير، ولا نية2. يروي البخاري بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى "أحد" بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين   1 سورة آل عمران: 169. 2 الروض الأنف ج3 ص178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض, وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" 1. يؤيد ذلك ما رواه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن"؟. فإذا أشير له إلى أحد، قدمه في اللحد وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلوا2. الوجه الثالث: إن المسلمين حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، ولم يتمكنوا من إعادتهم إلى "أحد" ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم لدفنهم عقب الصلاة كما رغب. ومما يذكر هنا أن الناس، أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردهم إلى أحد لم يتمكنوا من ذلك، ولم يردوا إلا رجلا واحدًا أدركه المنادي قبل أن يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي رضي الله عنه، الذي حمل إلى المدينة وبه رمق فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمي يدخل على غيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احملوه إلى أم سلمة، فحمل إليها فمات عندها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده إلى "أحد"، فرد إليها، ودفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها بلا غسل ولا صلاة، وكان قد مكث يومًا وليلة في المدينة ولكنه لم يذق شيئًا, وما ذهب إليه فقهاء الحجاز أقرب للفضل لأن ترك الصلاة عليهم إقرار باستمرار حياتهم، وفي ترك الغسل محافظة على أسر عبادة قاموا بها لأن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك فكيف نزيل عنه هذا الطيب، ونحرمه من أثر العبادة المشرق. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن الشهداء جمع أصحابه، وقال لهم: "تعالوا نثني على الله". وصفهم صفين، وجعل النساء خلفهم، ثم دعا صلى الله عليه وسلم فقال:   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص286. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد ج6 ص306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 "اللهم لك الحمد كله, اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، وعافيتك، ورزقك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول! اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، والغناء يوم الفاقة. اللهم إني أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت منا! اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين! اللهم عذب الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك! اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! اللهم اقتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق! آمين" 1. وبعدها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره إلى المدينة في جو من الألم والأسف. وامتلأت بيوت الأنصار والمهاجرين بالحزن على قتلاهم، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالمًا وجد الجميع العزاء في سلامته صلى الله عليه وسلم فواساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بأن ذويهم في الجنة وأنهم سيشفعون لهم، فرضوا بما قدر لهم، وصبروا على ما أصابهم، وهو أليم شديد. لقد قتل من بني عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وجاءت أم سعد بن معاذ فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنها عمرو بن معاذ، وقال لها: "يا أم سعد أبشري، وبشري أهليهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعًا، وقد شفعوا في أهليهم". قالت: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يبكي عليهم بعد هذا. ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا. قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أذهب حزن قلوبهم، وأجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على   1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص177 يقول الهيثمي ورجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 من خلفوا"1. ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي عمرو سعد بن معاذ: "يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح، إلا يأتي يوم القيامة وجرحه كأغرز ما كان، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فمن كان مجروحًا، فليقر في داره، وليداري جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني"، وكان في بني عبد الأشهل وحدهم ثلاثون جريحًا يوم "أحد". فنادى فيهم سعد: عزمة من رسول الله ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل. فتخلف الجرحى، وباتوا يوقدون النيران، ويداوون الجراح، ومضى سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء بيته، فما نزل صلى الله عليه وسلم عن فرسه إلا حملا، واتكأ على سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، حتى دخل بيته، فلما أذن بلال رضي الله عنه بصلاة المغرب خرج صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال، يتوكأ على السعدين فصلى، ثم عاد إلى بيته. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسري على بني عبد الأشهل، ونساؤهم يبكون على قتلاهم فقال لهم: "أما حمزة فلا بواكي له" 2 عسى أن يكون ذلك قدوة للنسوة فيدعن النواح والعويل، إلا أن سعد بن معاذ رضي الله عنه مضى إلى نسائه فساقهن، حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكين حمزة رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، والناس في المسجد يوقدون النيران، يتكمدون بها من الجراح، وأذن بلال رضي الله عنه حين غاب الشفق فلم يخرج صلى الله عليه وسلم فجلس بلال عند بابه صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة يا رسول الله، فهب صلى الله عليه وسلم من نومه وخرج، فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل. وسمع صلى الله عليه وسلم البكاء فقال: "ما هذا"؟. فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال صلى الله عليه وسلم: "رضي الله عنكن، وعن أولادكن". وأمر أن ترد النسوة إلى منازلهن، فرجعن بعد ليل مع رجالهن، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم رجع إلى بيته، وقد صف   1 المغازي ج1 ص316. 2 بغية الرائد بتحقيق مجمع الزوائد ج6 ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه، يمشي وحده حتى دخل، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه في المسجد يحرسونه، فرقًا من قريش أن تكر. وبادر الصحابة رضي الله عنه فأحضروا نساءهم ليبكين حمزة رضي الله عنه فجاء معاذ بن جبل رضي الله عنه بنساء بني سلمة: وجاء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بنساء بلحارث بن الخزرج ولم يرض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لهم: "ما أردت هذا". ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي1. وكان لنجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر كبير في تسلية أهل الشهداء؛ لأنهم رضوان الله عليهم رأوا في نجاة رسولهم خير عوض عما فقدوه. مر صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها بأحد، فلما نعوا لها أقاربها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله2. ومن ابتلاءات يوم "أحد"، وتغلب روح الإيمان على المصائب ما حدث من حمنة بنت جحش زوجة مصعب بن عمير رضي الله عنها فإنها أصيبت بعدد من أهلها، وأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "يا حمنة احتسبي". قالت: من يا رسول الله؟ قال: "خالك حمزة". قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه هنيئًا له الشهادة. ثم قال لها: "احتسبي". قالت: من يا رسول الله؟ قال: "أخوك". قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه هنيئًا له الشهادة.   1 بغية الرائد بتحقيق مجمع الزوائد ج6 ص175. 2 نفس المرجع ج6 ص165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ثم قال لها: "احتسبي". قالت: من يا رسول الله؟ قال: "مصعب بن عمير". قالت: واحزناه!! وفي رواية أنها قالت: واعقراه. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن للزوج من المرأة مكانًا ما هو لأحد". ثم قال لها: "لم قلت هذا". قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني1. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لولده أن يحسن الله عليهم الخلف، فتزوجت طلحة فولدت له محمد بن طلحة، وكان أوصل الناس لولدها2. وقد قتل من المشركين في أحد أربعة وعشرون قتيلا، وأسر منهم رجل واحد هو أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب من بني جمح وكان أسره في اليوم الثاني للمعركة والمسلمون في طريقهم إلى حمراء الأسد. وفي الوقت الذي عاد فيه المسلمون إلى المدينة يداوون جرحاهم، ويعزي بعضهم بعضًا في القتلى والجرحى, نرى الكفار وقد عادوا منتصرين، وقتلاهم، أقل عددًا من قتلى المسلمين، وقد أخذوهم معهم إلى مكة حتى لا يحفر لهم قليب آخر. لقد عاد المكيون من "أحد" منتصرين، وقد تصوروه نصرًا دائمًا يحقق لهم ما يبغون لكن الأيام أثبتت أنهم لم يحققوا شيئًا من الأهداف التي حاربوا لتحقيقها؛ لأن روج الإيمان في قلوب المسلمين لم تهن، ولم تضعف؛ ولذلك بادر المسلمون باتخاذ عدد من الأعمال بعد أحد أجهضت كل أحلام أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والأعراب وأهل مكة كما سيتضح من أحداث ما بعد "أحد".   1 المغازي ج1 ص291. 2 المغازي ج1 ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في "أحد" استمر عون الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه خلال معركة "أحد" وظهرت آيات بينات، خارقة للعادة، تبرز هذه المعونة، وتؤكدها للناس وقد سبق إيرادها في سياق ذكر أحداث غزوة أحد، وإني هنا أشير إلى أهم هذه الآيات للتذكير بشأنها، والاعتبار بها ومن أهمها: 1- إمداد المسلمين بالملائكة: يروي البخاري بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد1. وروى أحمد بسنده عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم "أحد" رجلين عليهما ثياب بيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل يقاتلان عنه كأشد القتال2. وروى الطبراني وابن منده أنه صلى الله عليه وسلم سأل الحارث بن الصمة عن مكان عبد الرحمن بن عرف فقال: هو بجنب الجبل. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تقاتل معه". قال الحارث: فذهبت إليه فوجدت بين يديه سبعة فقلت له: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما، وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره. فقلت: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم3. وروى ابن سعد أن مصعبًا لما قتل أخذ اللواء ملك في صورته، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "تقدم يا مصعب". فالتفت الملك إليه وقال: لست بمصعب فعرف صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيده الله به4.   1 صحيح البخاري ج6 ص292. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص57، 58. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص164. 4 المغازي ج1 ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وروى ابن إسحاق أن سعد بن أبي وقاص قال: كنت أرمي السهم يومئذ، فرده على رجل أبيض، حسن الوجه، ما كنت أعرفه فظننت أنه ملك1. وهناك من ذهب إلى أن الملائكة لم تقاتل يوم "أحد" عن المسلمين. ولا تعارض بين هؤلاء الذين قالوا بأن الملائكة لم تقاتل، وهؤلاء الذين قالوا: إن الملائكة قاتلت حول النبي صلى الله عليه وسلم ومع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لأن من قال بالمدد بالملائكي، واشتراك الملائكة في القتال يريد نزول أفراد قلائل منهم، للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة ومن ينفي المدد يقصد نزول الآلاف للقتال كما حدث في "بدر" وهذا لم يحدث لأن المسلمين لم يصبروا، ولم يتقوا الله على النحو الذي وجب عليهم. 2- مد عكاشة بقية وتر قوسه صلى الله عليه وسلم بعدما انقطع: وذلك أنه ما زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره، وبقيت في يده منه قطعة صغيرة تكون شبرًا في سية القوس فأخذ القوس عكاشة بن محصن رضي الله عنه ليوتره له فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر. فقال صلى الله عليه وسلم: "مده فيبلغ". قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ، وطويت منه لفتين، أو ثلاثًا على سية القوس2. 3- رد عين قتادة رضي الله عنه: عن قتادة رضي الله عنه قال: كنت أتقي السهام بوجهي دون وجه النبي صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي، وسالت على خدي، فأخذتها بيدي، وسعيت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها صلى الله عليه وسلم في كفي دمعت عيناه، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم في عين قتادة كما وقيت وجه نبيك فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا". وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وصارت لا تعرف ولا يدري أيتهما التي سالت على خده3.   1 سيرة النبي ج2 ص90. 2 المغازي ج1 ص242. 3 المغازي ج1 ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 4- شفاء نحر أبي رهم ببصاقة النبي صلى الله عليه وسلم: رمي أبو رهم الغفاري بسهم فوقع في نحره، فبصق صلى الله عليه وسلم فبرئ1. 5- انقلاب العرجون سيفًا في يد عبد الله بن جحش رضي الله عنه: انقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجونًا فعاد في يده سيفًا فقاتل به، وكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع لبغاء التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار، وهذا السيف غير سيف عكاشة يوم "بدر" فسيف عكاشة أصله جذر من حطب، والجذر أصل الشجرة، وسيف عبد الله بن جحش أصله عرجون نخلة2. 6- غسل الملائكة لحنظلة رضي الله عنه: التقى حنظلة وأبو سفيان فعلاه حنظلة، فجاء شداد بن أوس وضرب حنظلة فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة بماء المزن، في صحاف الفضة، بين السماء والأرض". فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي بن سلول، وكان ابتنى بها تلك الليلة، وكانت عروسًا عنده، فرأت في المنام تلك الليلة كأن بابًا من السماء قد فتح فدخله ثم أغلق دونه فعلمت أنه ميت من غده، فدعت رجالا حين أصبحت من قومها، فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، فلما سألوها عن حالته وقت خروجه. قالت: خرج وهو جنب، حين سمع الهاتفة. فقال صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة" 3. وذكر السهيلي نقلا عن الواقدي وغيره أنه رضي الله عنه التمس في القتلى فوجدوه يقطر رأسه ماء، وليس بقربه ماء، تصديقًا لقوله صلى الله عليه وسلم4. 7- إلقاء النعاس على المؤمنين: وألقى الله النعاس على المؤمنين حين اشتد عليهم الخوف مع أن الخائف لا ينام عادة فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" حين اشتد علينا   1 المغازي ج1 ص243. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص155. 3 البداية والنهاية ج4 ص21. 4 الروض الأنف ج3 ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الخوف وأرسل علينا النوم فما منا أحد إلا ذقنه في صدره1. وروى البخاري عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم "أحد"، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. وروى البيهقي أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم "أحد" فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. أما الطائفة الأخرى وهم المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبهم، وأخذلهم للحق فلم يأتهم النعاس، وبقوا يفكرون في الهزيمة والخسران. والآيات كثيرة وقد ذكرت بعضها للدلالة على العون الإلهي الذي أمد الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه وفي أثناء الحديث عن الغزوة أشرت إلى كثير منها.   1 المغازي ج1 ص296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 سادسًا: أحد في رحاب القرآن الكريم أنزل الله سبحانه وتعالى في شأن غزوة "أحد" آيات عدة من سورة آل عمران، بلغت تسعًا وخمسين آية وهي الآيات من رقم "121" إلى رقم "179". وبالنظر في هذا نرى أن الآيات من "129" إلى "136" تتناول موضوع نهي المسلمين عن القيام ببعض الأعمال المحرمة التي يقوم بها اليهود، وهو أكل الربا، والتعامل مع فاعليه والآيات من رقم "162" إلى الآية رقم "164" توجه المسلمين إلى ضرورة اتباع رضوان الله واتباع النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من خير في الدنيا والآخرة. وهذه الآيات التي جاءت في ثنايا آيات غزوة "أحد" تتصل بالغزوة بوجه ما فهي تتحدث عن سلوكيات اليهود السيئة التي لا يجوز للمسلمين فعلها وتوجههم إلى طريق الفوز والفلاح حتى يتم لهم النصر، ويأتيهم عون الله تعالى. يقول الشيخ محمد رشيد رضا: اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترغيب والترهيب، والإنذار، والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة "أحد" هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام، وضروب الحكم، والأحكام، بعضها ببعض، على أن هذه السنة لا تنافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أن يكون لكل آية لمجموع آيات اتصال بالآيات السابقة بوجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن. تبدأ الآيات بالحديث عن مقدمات الغزوة فيقول تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. والحديث في الآيات واضح في أن المواجهة كانت صباحًا، برغم أن المسلمين خرجوا من المدينة بعد صلاة الجمعة، والمراد بالقتال الذي بوأ رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد لهم فيه قتال يوم "أحد" يقول الطبري: والآية تعني يوم "أحد" لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} ولا خلاف بين أهل التأويل، أنه عنى بالطائفتين بني سلمة وبني حارثة2، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكره الله من أمرها في هذه الآيات إنما كان يوم "أحد" دون "يوم الأحزاب"3. وإنما ذكرهم بنصر يوم "بدر" ليعلموا أن الله تعالى ينصر الفئة القليلة الصابرة التقية ليسيروا على منهجها حتى يتحقق لهم النصر، وعليهم ألا يغتروا بكثرتهم، وأن يداوموا الصبر والتقوى، والتوكل على الله تعالى. ويقول سبحانه وتعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ   1 سورة آل عمران الآيات من 121 إلى 123. 2 صحيح البخاري ك المغازي باب غزوة أحد ج6 ص291. 3 أسباب النزول ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 1. والآيات تشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أن الله كاف في نصرهم، وأن مدد الملائكة موجود بشرط الصبر والتقوى، وعلى المؤمنين أن يعلموا أن الأمر كله بيد الله تعالى وتتحدث الآيات بعد ذلك عن علو مقام المؤمنين، وتستقل مقام غيرهم فيقول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 2. والإشارة واضحة في أن الإيمان يعلو بصاحبه، ويرضيه، ويبعده عن اليأس، والقنوط وعلى المسلمين الذين أصيبوا يوم "أحد" أن يدركوا أن الآلام قد أصابت عدوهم أيضًا، وأن الأيام دول، والنصر لا يدوم لفريق، والرضا بما يقضي الله به ضرورة لازمة. وعلى المؤمنين أن يعرفوا أن المصائب ابتلاء للمؤمن، ليظهر على حقيقته، وليسعد المؤمنون بالشهادة التي يرفعهم الله بها. إن جنة الله غالية ولا بد لها من البذل، والتضحية، والصدق، والوفاء. وعلى من يرجوها من المؤمنين أن يعمل لها، وأن يصدق فيما كان يتمناه، وليرض بما كتب الله له من بلاء في نفسه، أو ماله، أو ولده. وتتحدث الآيات عن قمة الابتلاء يوم "أحد" بعدما انهزم المسلمون وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم بعدما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فيقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ   1 سورة آل عمران: 124-128. 2 سورة آل عمران: 139-143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1 حيث أسقط في أيدي المسلمين حينما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل في المعركة، فبين الله لهم أن الموت قدر محتم على كل نفس، أما الرسالة فهي باقية والإيمان بالله حقيقة ثابتة يحاسب كل إنسان على ما كلفه الله به، وعلى المؤمن أن يكون قويًا، يتحمل المسئولية، ويجاهد في سبيل الله تعالى صابرًا محتسبًا، وأن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء، والرجاء، والاستغفار وطلب النصر ليأتيه الله بثواب الدنيا، وثواب الآخرة والله على كل شيء قدير. ثم يوجه الله المؤمنين بعد ذلك إلى ما يرفع معنوياتهم، ويعلي من شأنهم فيقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. والآيات توجه المؤمنين إلى عدم اتباع الكافرين لأنهم يعملون لخذلان المسلمين،   1 سورة آل عمران: 144-148. 2 سورة آل عمران: 149-153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وإضعافهم، وعليهم أن يلجئوا إلى الله مولاهم، وناصرهم, والله سبحانه وتعالى كفيل بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وإنزال العقوبات الماحقة بهم في الدنيا وفي الآخرة ثم ذكر الله المؤمنين بما أصيبوا به من فزع، وهلع، وفرار، وترك لرسول الله وهو يناديهم, وعليهم أن يندموا على ما حدث منهم، ويعودوا إلى ما يجب أن يقوموا به ثم بين الله سبحانه وتعالى مننه على المجاهدين، إذ أصابهم النعاس، فأمنت نفوسهم، وهدأت أصواتهم فيقول تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1. وفي الآيات بيان لما أنزل الله عليهم من نعاس أصاب المؤمنين دون غيرهم من المنافقين الذين أخذوا يشككون المؤمنين في إيمانهم، وهم يظنون بالله ظنًا سيئًا، فرد الله عليهم بأن الأمر كله لله، وأن الموت حق مقدر يأتي لصاحبه عند حلول أجله، أيًا كان مكانه وزمانه، وقد أخفى الله الأجل عن الناس ليبتليهم، ويختبرهم, كما ابتلى المسلمين يوم "أحد". وتبين الآيات ما كان من المنافقين، وتفصل في صفاتهم، وحيلتهم في توهين المسلمين.   1 سورة آل عمران: 154-156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وبث الذعر في قلوبهم وبخاصة حينما انسحبوا من ميدان المعركة وعلى رأسهم عبد الله بن أبي متعللين بعدم وجود قتال زاعمين أنهم لو تأكدوا من تحقق القتال لبقوا، وهذا كذب يقولونه بألسنتهم وليس منه في قلوبهم شيء يقول الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ، الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1. وقد كشف الله المنافقين، وعرف بهم وربطهم بمقالتهم فهم الذين قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وهم الذين قالوا: لو أطاعونا ما قتلوا. إن الأمر كله بيد الله، والمنافقون لا يعلمون الغيب وإن كان في مقدورهم منع القتل فليدرءوا الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين. وأخيرًا تتحدث الآيات عن الشهداء فيقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 2. ومنزلة الشهداء عند الله عالية، فهم أحياء عنده سبحانه وتعالى، يجري عليهم الرزق ويعيشون في بشر وسرور، ولا ينالهم خوف ولا حزن، ويدومون في الخير، والنعيم المقيم. يقول الشيخ محمد الغزالي معلقًا على حديث القرآن الكريم عن غزوة "أحد": ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في "أحد" على عكس ما نزل في "بدر" من آيات، ولا غرو فحساب المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر، في المرة الأولى قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا   1 سورة آل عمران: 167، 168. 2 سورة آل عمران: 169-171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. أما في "أحد" فقال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 2. حسب المخطئين ما أصابهم من أوضار الهزيمة، وفي القصاص العاجل الذي حل بهم درس يذكر المخطئ بسوء ما وقع فيه. وقد اتجهت الآيات إلى مزج العتاب الرقيق بالدرس النافع، وتطهير المؤمنين، حتى لا يتحول انكسارهم في الميدان إلى قنوط يفل قواهم، وينقلب إلى حسرة تشل إنتاجهم ونشاطهم فقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. ثم مضى الوحي يعلم المسلمين ما جهلوا من سنن الدين والحياة، ويذكرهم بما نسوا من ذلك، فبين أن المؤمن مهما عظمت بالله صلته فلا ينبغي له أن يغتر، أو يحسب الدنيا قد دانت له، أو يظن أن قوانينها الثابتة أصبحت طوع يديه. كلا كلا. فالحذر البالغ، والعمل الدائم هما عدتا المسلم لبلوغ أهدافه المرسومة ويوم يحسب المسلم أن الأيام كلها كتبت له، وأن شيئًا منها لن يكون عليه، وأن أمجاد الدارين تنال دون بذل التكاليف الباهظة، فقد سار في طريق الفضل الذريع يقول الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 4. ويقول سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 5.   1 سورة الأنفال: 67، 68. 2 سورة آل عمران: 152. 3 سورة آل عمران: 137-139. 4 سورة آل عمران: 140. 5 سورة آل عمران: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وفي هذه الآيات توضيح لمعالم طريق الدعوة، فطريق الدعوة مليء بالأشواك والصعاب، والأعداء متربصون، والأيام دول، والجنة مهرها غال ثمين، وأولو الألباب يستحيون أن يطلبوا السلعة الغالية بالثمن التافه أو يتصورون تحقق الأمل بلا عمل، أو يحلمون بالنتيجة بلا سبق مقدماتها وهم لذلك يضحون بأنفسهم لقاء ما ينشدون ويبذلون أقصى ما يمكنهم لتحقيق المراد المنشود. إن الاستعداد أيام الأمن يجب أن يستمر أيام الروع، بل هو في أيام الفزع أشد، وعلى المسلم أن يداوم على مجاهدة نفسه، والالتزام المستمر بما وجب عليه. إن الإنسان -في عافيته- قد يتصور الأمور سهلة مبسطة، وقد يؤدي به ذلك إلى المجازفة، والخداع، وعدم تقدير الأمور على وجهها الصحيح، وليس كذلك المسلم. فليحذر المؤمن هذا الموقف، وليستمع إلى تأنيب الله لمن تمنوا الموت قبل "أحد" ثم حادوا عنه لما جاءهم؛ لأن ذلك ضعف في الوعد، وخذلان في الإقدام. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 1. ثم عاتب الله عز وجل من سقط في أيديهم، وانكسرت همتهم، حينما أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات؛ لأن العقائد اتباع مبادئ لا اتباع أشخاص، والمسلم عند الله خاضع له وحده. ولو افترض أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل وهو ينافح عن دين الله، فحق على أصحابه أن يثبتوا في مستنقع الموت، وأن يردوا المصير نفسه، الذي ورده قائدهم، لا أن ينهاروا ويتخاذلوا ويضيعوا ما بايعوا الله عليه، وهم يعلمون أن الموت حق على الجميع. إن عمل محمد صلى الله عليه وسلم في أصحابه ينحصر في إضاءة الجوانب المعتمة من فكر الإنسان وضميره، وينيرها بنور الله تعالى، فإذا أدى رسالته ومضى، فهل يسوغ للمستنير أن يعود إلى ظلماته التي خرج منها. لقد جمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس حوله على أنه عبد الله ورسوله، والذين ارتبطوا به،   1 سورة آل عمران: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 عرفوه إمامًا لهم في الحق، وصلة لهم بالله، وهو أول المؤمنين، وأول الصابرين. فإذا مات عبد الله ظلت الصلة الكبرى بالحي الذي لا يموت باقية ثاقبة، كما بين ذلك قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 1. وقد استطرد النظم الكريم يبصر المؤمنين بمواطن العبرة فيما نالهم، ويعلمهم كيف يتقون في المستقبل هذه المآزق، وكيف يستفيدون من هذه الكبوة العارضة بعد أن عزل عن جماعة المسلمين من خالطوهم على دخل، وعاشروهم على نفاق. ولئن أفادت وقعة "بدر" خذلان الكافرين فإن وقعة "أحد" أفادت فضح المافقين، ورب ضارة نافعة، وربما صحت الأجسام بالعلل. ولعل ما ترتب على عصيان الأوامر في هذه الموقعة، درس عميق تعلم منه المسلمون قيمة الطاعة، فالجماعة التي لا يحكمها أمر واحد، أو التي تغلب على أفرادها، وطوائفها النزعات الفردية النافرة لا تنجح في صدام، بل لا تشرف نفسها في حرب أو سلام. إن الحياة تحتاج من المسلمين أن يعيشوا أمة متكاملة تعرف طريقها، وتحدد غاياتها وتلتزم بكل ما جاءها من عند الله تعالى, وعليهم أن يبذلوا كل جهدهم كما أمروا ولا يستسلموا لأحلام النصر, أو خطرات اليأس, وليتقنوا دائمًا أن الدنيا هي دار السعي والعمل والصبر والتحمل, وأن الآخرة هي دار الخير والسلام ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.   1 سورة آل عمران: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 سابعًا: أحد وحركة الدعوة حين ننظر إلى معركة "أحد" نرى تقلب أحداثها، وتبدل أحوالها في كل أطرافها فلقد عاش كل فريق الغلبة والانكسار، مرة بعد أخرى، إلا أن محصلة الخسائر في المسلمين كانت أكبر منها في معسكر المشركين، وهذا ما جعل بعض المؤرخين يرى أن المسلمين قد انهزموا في أحد، باعتبار عدد القتلى، وكثرة الجرحى، ورجوع المشركين بقتلاهم دون أن يؤسر منهم أحد، رغم أن القتال كان بجوار المدينة بعيدًا عن موطنهم مكة. والأمر بمقياس ذاك الزمان يشير إلى هزيمة المسلمين؛ لأن المعارك كانت عبارة عن تشابك بالأيدي، وتلاحم بالسيوف، ومواجهة مباشرة بالدروع والنبال، وكانت الحرب تستمر يومًا وبعض يوم، كما حدث في "بدر" وفي "أحد" وفي غيرهما من السرايا والغزوات وبعدها يقف القتال، ويعود كل فريق لموطنه، والنصر حينئذ يكون لمن ألحق بخصمه خسائر أكبر. وبهذا المقياس يظهر انتصار القرشيين كما فهمه معاصرو "أحد" ولذلك أتى أبو سفيان حين قدم مكة هبل وقال له: قد أنعمت علي ونصرتني، وشفيت نفسي من محمد، وأصحابه، وحلق رأسه, وما فعل أبو سفيان ذلك إلا لشعوره بانتصار المكيين على المسلمين. وبسبب هذا الفهم أخذ الأعداء يجاهرون بعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، وجرءوا على معاداة المسلمين، وكثر التواصل بينهم شماتة بالمسلمين، وفرحًا بهزيمتهم وأملا في استمرار الإحساس بالنصر. لكن بعض العلماء ينظر لأحداث "أحد" من ناحية أخرى، ويرى أنها كانت صقلا للمسلمين، وتقوية لإيمانهم، وتجلية لما يجب أن يلتزموا به في إطار حركة الدعوة وهم يعملون للإسلام، ويسلم هؤلاء العلماء بانتصار القرشيين ظاهرًا، ويرونه انتصارًا مؤقتًا لا يلبث أن يزول، وأن خسائر المسلمين جزء من الإعداد والتدريب، ويقولون: إن انكسار المسلمين يوم "أحد" كان عامل قوة لهم أدت بهم إلى انتصارات لاحقة، بعدما استفادوا من دروس "أحد" وتمكنوا بالانتصارات اللاحقة من نشر الإسلام، وإيصال الدعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 إلى العالم كله، وعملوا على إبراز ما في دينهم من قوة ذاتية معنوية، بجوار استعدادهم لبذل أموالهم وأرواحهم لخدمة دين الله تعالى، وهؤلاء المتفائلون يبنون نظرتهم تلك على معطيات واقعية أهمها ما يلي: 1- بروز بطولة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته وثباته في وجه أعدائه وإصراره على مقاتلتهم وحده مع أن الصحابة فروا عنه وتركوه، وتلك مسألة لا بد من وضوحها لبيان ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحمله في سبيل دين الله تعالى. وتظهر شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم من ثباته وحيدًا أمام جيش قريش، وحرصه على قتل ابن الأشرف، بعدما أصيب وبقي وحده، وكان صلى الله عليه وسلم في حالة يفر فيها الأبطال المغاوير، وكان أبي بن خلف يتصور نفسه قادرًا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءه فوجده جريحًا ووحيدًا. فلقد أقبل أبي بن خلف يركض بفرسه حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترض له ناس من المسلمين ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "استأخروا عنه". وقام صلى الله عليه وسلم وحربته في يده فرماه بها بين سابغة البيضة والدرع فطعنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع فوقع عن قوسه، وكسر ضلعًا من أضلاعه، فاحتملوه فمات لما ولوا قافلين بالطريق وتحقق بذل ما أنبأ به صلى الله عليه وسلم قبل "أحد". وقصة ذلك النبأ أن أبي بن خلف قدم المدينة في فداء ابنه حين أسر يوم "بدر"، فقال: يا محمد إن عندي فرسًا أعلفها كمية كبيرة من ذرة كل يوم حتى أقتلك عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله". وكان صلى الله عليه وسلم في القتال لا يلتفت وراءه وكان يقول لأصحابه: "كأني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني"، فإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد لا نجوت إن نجوت. فقال القوم: يا رسول الله! ما كنت صانعًا حين يغشاك فقد جاءك! وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبى صلى الله عليه وسلم ودنا أبي فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ويقال من الزبير بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 العوام، ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير فتطاير عنه أصحابه ولم يكن أحد يشبه رسول الله إذا جد الجد، ثم أخذ الحربة فطعن أبي بن خلف بها في عنقه، وهو على فرسه فجعل يخور كما يخور الثور. يقول له أصحابه: يا أبا عامر! والله ما بك بأس، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره. فيقول لهم: لا واللات والعزى، ولو كان هذا الذي بي بأهل "ذي المجاز" لماتوا أجمعون1. وهكذا تحققت النبوءة المحمدية، وقتل أبي بن خلف، وتأكدت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذه الصورة الشجاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمت الأمة ضرورة وجود القائد الشجاع الذي يقود الأمة نحو تحقيق شرع الله تعالى، وحماية، دينه في الأرض كلها، وبخاصة في الأوقات الصعبة، ووسط الظروف الحاسمة، وبين للمسلمين ولغيرهم أهليته صلى الله عليه وسلم لتحمل الرسالة وأعبائها، وتفرده ليكون الأسوة والقدرة لكل عاقل أريب. وقد استوعب المسلمون هذا الدرس، وأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاموا أنفسهم على ما فرطوا فيه، وبخاصة ما فعله الرماة منهم، وحرصوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة الراشدين من الخلفاء، وتولية الرجال القادرين على حمل الأمانة، وتقرير المسئولية. 2- التسليم بضرورة وقوع الابتلاء لتمييز الخبيث من الطيب، ولذلك كان ابتلاء الأنبياء والرسل، فلم يحدث لهم انتصار دائم، أو هزيمة دائمة، وإنما تفاوت أمرهم بين هذا وذاك. يقول الحافظ بن حجر: والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائمًا لدخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين، حتى يتميز الصادق من الكاذب وقد ظهر المنافقون، وعرفهم المؤمنون في "أحد" وذلك أن باطن المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين فلما جرت أحداث "أحد" وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم2.   1 المغازي ج1 ص250، 251، زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص209، 210. 2 فتح الباري ج7 ص347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولذلك كانت هزيمة "أحد" بعد انتصار "بدر"، وكانت "أحد" سببًا في إقبال المسلمين بعد ذلك، والتزامهم بطاعة الله ورسوله حتى نصرهم الله تعالى. إن الابتلاء بصورة عامة يمحص الجبهة الإسلامية من عدة نواح. فهو يطهر القلوب، ويخلصها من شوائب المادة، وثقل الغرائز، لأن القلوب تخالطها الشهوات، وتؤذيها الخواطر النفسية، وتحكمها العادات، وتستولي عليها الغفلة، ويلعب بها الشيطان، وهي في حاجة مستمرة للمجاهدة والتوجيه والإنذار، ولذلك اقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقيض لها من المحن والبلاء ما يكون كالدواء الكريه مذاقه وفيه الشفاء، فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم، وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وذاك. كما أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا لطغت نفوسهم، شأن طغيانها لو بسط لهم الرزق قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} 1 فدارت حياة المؤمنين بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فإن النفوس تكسب من العافية الدائمة والنصر والغناء طغيانًا وركونًا إلى العجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء وتلك المحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع العروق المؤلمة، لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه. كما أنه سبحانه قد هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلاءه وامتحانه قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2.   1 سورة الشورى: 27. 2 سورة آل عمران: 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كما أن هذه المحن استخراج عبودية أوليائه، وبروز معدن حزبه في أحوال يظهر فيها الإنسان على حقيقته في السراء والضراء، وفيما يحبون ويكرهون، وفيحال ظفرهم، وظفر عدوهم بهم، فإذا ثبتوا على العبودية فيما يحبون ويكرهون فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء، والنعمة، والعافية. وهناك تمحيص خارجي للمؤمنين، لتمحيص صفوفهم ممن كان يظن أنه منهم وهو عدو لهم، وقد أشار إليه الله تعالى بقوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك حتى يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} فإن المسلمين لما أظهرهم الله تعالى "ببدر"، دخل معهم جمهور كبير ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم من المنافقين، فاقتضت حكمته تعالى أن يسبب لهم محنة "أحد" حتى يميز الخبيث من الطيب بتمييز المنافق من المؤمن، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 1. إن من أخطر الأمور على بنيان أمة الإسلام أن يعيش بين صفوفها من لا يؤمن بمبادئها وأهدافها، ومن يمالئ العدو ساعة الشدة عليها، يعيش بينهم مجهولا منهم فلا يأخذون حذرهم منه، يظنونه معهم وهم عليهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. إن المنافقين جرثومة فساد في جسم الأمة، وبؤرة خبيثة في كيانها، يعيشون بين صفها الواهن، ويبلبلون الأفكار، ويشككون في المواقف، وهم فوق هذا وذاك طابور خامس للعدو الخارجي، من هذا كان عذابهم أشد قال الله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} 3. وقد يتمنى البعض أن يطلع الله تعالى المؤمنين على غيبه حتى يعلموا هؤلاء المنافقين   1 سورة آل عمران: 179. 2 سورة المنافقنون: 4. 3 سورة النساء: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فيتقوا شرورهم بلا محن وابتلاء؟ والله قادر على إظهار ما عليه المنافقون، وإزهاق ما يقومون به من أباطيل، لكن الحكمة الإلهية اقتضت غير ذلك. إن هذه الأمنية لا تلتقي مع حكمة الله العليا، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} 1 ذلك أن المنافقين وإن كانوا متميزين في علمه وغيبه، لكن ذلك شيء وتميزيهم تميزًا مشهودًا مطلب آخر، فيه تكمن حكمة الله تعالى، حتى يقع غيبه شهادة، فيجازيهم على واقع مشهود، لا على غيب معلوم له تعالى وحده. وقد قدر سبحانه وتعالى للمسلمين محنة يوم "أحد" ليتحول الغيب المجهول إلى واقع معلوم، وليعلم المسلمون درسًا في سياسة الحياة, وهي أن العدو يداجي خططه، ويخفيها ويلبسها بلباس غيرها، ليصل إلى ما يريد، وعليهم أن يحذروا، ويعملوا على تجنبه مهما تزين، وتزخرف. وبذلك فقد حصل للمسلمين تمحيصان: تمحيص داخلي، وتمحيص خارجي، وفي كل خير جليل، ونفع للمسلمين عظيم، وبهذا كشف الله قناع الخير، وأسفر ليل المحنة عن نهار النعمة، وأشرقت النفوس بعد فيض الدروس، وتهللت الأرواح بعد زوال الأشباح، وخرجت نفوس المؤمنين من المحنة أنقى ما كانت، وأصفى وأرضى بقضاء الله وأغبط، بعد تجلية القرآن لما منحوه من خير عميم، خصوا به دون غيرهم من المنافقين الذين لا يحبهم الله، ولذا حال بينهم وبين ما ابتلى به المؤمنين، حتى لا يتخذ منهم شهداء مع عصاينهم كما اتخذ من أوليائه شهداء، يشير الله تعالى إلى إيثار المؤمنين بالشهادة دون المنافقين في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 2 وفي هذا دلالة صريحة على أن اتخاذ الشهداء نعمة يهبها الله لمن أحب من عباده المؤمنين. 3- تلقى المسلمون درسا في ضرورة دقة الطاعة، وعدم الاجتهاد فيما فيه نص، فلقد أتى المسلمون من قبل الرماة الذين تركوا أماكنهم لجمع الغنائم، وعصوا بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح بعدم ترك الجبل مهما كانت الظروف، وقد أفاد هذا الدرس   1 سورة آل عمران: 179. 2 سورة آل عمران: 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 المسلمين في المعارك التي حدثت بعد ذلك، وتأكدوا من نتائج المخالفة، وآثارها السيئة فلم يقعوا فيها، واستمروا يعملون بمقتضى الأمر الصريح، والنص الفصيح، والتزموا حدود الاتباع ودقة الطاعة. 4- لم تحقق قريش شيئًا من أهدافها التي جاءت من أجلها، فلا هي قضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تستول على المدينة، ولم تمنع المسلمين من الحركة بدينهم، وتطبيق شريعة الله تعالى ولم تحرر طرقها التجارية إلى الشام، ولذلك عند نصرها نصرًا جزئيًا مؤقتًا. يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: لا أتفق مع المؤرخين في اعتبار نتيجة غزوة "أحد" نصرًا للمشركين، واندحارًا للمسلمين؛ لأن مناقشة المعركة عسكريًا تظهر انتصار المسلمين على الرغم من خسائرهم الفادحة بالأرواح في هذه المعركة ونبدأ المناقشة من الوجهة العسكرية البحتة، لأظهار حقيقة نتائج غزوة أحد. لقد انتصر المسلمون في ابتداء المعركة حتى استطاعوا طرد المشركين من معسكرهم والإحاطة بنسائهم وأموالهم، وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالد بن الوليد وراء المسلمين، وقطع خط رجعتهم، وهجوم المشركين من الإمام جعل قوات المشركين تطبق من كافة الجوانب على قوات المسلمين، هذا الموقف في المعركة جعل خسائر المسلمين تتكاثر، ولكن بقي النصر بجانبهم إلى الوقت الأخير. إن نتيجة كل معركة عسكرية لا تقاس علميًا، وواقعيًا، بعدد الخسائر في الأرواح فقط بل تقاس بالحصول على هدف القتال الحيوي، وهو القضاء المبرم على العدو ماديًا ومعنويًا؟؟ فهل استطاع المشركون القضاء على المسلمين ماديًا أو ومعنويًا؟ 1 إن حركة خالد كانت مباغتة للمسلمين بلا شك، وقيام المشركين بالهجوم المقابل وإطباقهم على قوات المسلمين من كافة الجوانب وهم متفوقون بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين، كل ذلك كان يجب أن تكون نتائجه القضاء الأكيد على كافة قوات المسلمين، لكن ذلك لم يحدث، ولا يمكن أن يعد التفاف قوة متفوقة تفوقًا ساحقًا على قوة صغيرة من جميع جوانبها، ثم نجاة تلك القوة الصغيرة بعد خسائر العشر فقط من عددها هزيمة، لا يعد ذلك إلا انتصارًا لتلك القوة الصغيرة، ولا يمكن اعتبار فشل القوة الكبيرة في القضاء على القوة الصغيرة ماديًا في مثل هذا الموقف الحرج للغاية، انتصارًا بل هو الفشل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 والانكسار لهذه القوة الكبيرة. ولم تستطع قريش أن تؤثر على معنويات المسلمين أيضًا، وإلا لما استطاع المسلمون الخروج لمطاردتها بعد يوم فقط من يوم "أحد" دون أن تتجرأ قريش على لقائها بعيدًا عن المدينة، خاصة وأن الرسول قد خرج للقاء قريش بقوته التي اشتركت "فعلا" بمعركة أحد، دون أن يستعين بغيرهم من الناس: إن نجاة المسلمين من موقفهم الحرج الذي كانوا فيه بأحد نصر عظيم لهم، لأن أول نتائج إطباق المشركين على المسلمين من كافة الجهات في التصور العقلي هو الفناء التام، لكن ذلك لم يحدث1. إن المكيين لم يسيطروا على معسكر المسلمين، ولم يتمكنوا من أسر مسلم واحد ولم يغنموا شيئًا، ولم يقطعوا رابطة الاتصال بين المسلمين وقيادتهم، وذلك يؤكد النظرة القائلة بأن ما حدث في "أحد" لم يكن هزيمة مطلقة, وإن لا لما انسحب المشركون في نهاية النهار خوفًا من ظلام الليل, وشجاعة المؤمنين. 5- تعلم المسلمون من معركة "أحد" دروسًا استفادوا بها في مواجهة أعداء الله بعد ذلك, ومن هذه الدروس ضرورة الطاعة، وتنفيذ توجيهات القيادة، وأهمية مفاجأة العدو وعدم تركه يتخير زمان ومكان وكيفية المعركة, وعلموا كذلك ضرورة مطاردة العدو حين انكساره، وعدم تركه لتجميع صفوفه مرة أخرى، كما ظهر في السرايا والغزوات بعد "أحد". ولو قدر الله للمسلمين أن يطاردوا أعداءهم في المرحلة الأولى التي انهزم فيها الكفار لقضوا عليهم، وألحقوا بهم الخسائر الكثيرة لكنهم لم يفعلوا ذلك، وانشغلوا بجمع الغنائم فكانت الجائرة عليهم. 6- علم المسلمون ما يناله الشهداء من فوز، وبذلك عد من قتل منهم فائزًا منتصرًا فأسرعوا إلى الجهاد رجاء نيل الشهادة. يروي البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم "أحد"   1 الرسول القائد ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقال له: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "في الجنة". فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل1. وروى الإمام مسلم بسنده من حديث أنس "أن عمير بن الحمام أخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة" ثم قاتل حتى قتل. والقصتان مختلفتان، قد وقعتا لرجلين مختلفين، حيث وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم "بدر" كما صرح في حديث جابر أن ذلك كان في يوم "أحد". وهذان شيخان كبيران من الصحب الكرام رخص لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف لسنهما، غير أن الرغبة في الشهادة قد دفعتهما إلى اللحاق بالمسلمين ليحرزاها، يروي ابن إسحاق بسنده قائلا: كان اليمان والد حذيفة وثابت بن وقش شيخين كبيرين، فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النساء والصبيان، فتذاكرا بينهما، ورغبا في الشهادة، فأخذا سيفيهما، ولحقا بالمسلمين بعد الهزيمة، فلم يعرفوا بهما، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه2. ويوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنعم الله به عليهم فيقول صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم "بأحد" جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا مأكلهم، ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم" 3 فأنزل الله قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 4.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص288. 2 سيرة النبي ج2 ص87 وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع دية اليمان رضي الله عنه لكن ولده حذيفة عفا وتصدق بديته على المسلمين. 3 أسباب النزول ص73. 4 سورة آل عمران: 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وما لهم لا يفرحون بالشهادة ويستبشرون بها، والمولى عز وجل يحدثنا عنهم ويبين أنهم أحياء في رحاب فضله وكرمه ومستقر رحمته وواسع جناته، ينعمون بالنعيم الدائم في خير جوار، قد أبيحت لهم أنهار الجنة وثمارها، طعام لا كالطعام، وشراب لا كالشارب، فشتان بين طعام الأرض وطعامهم، وشراب الأرض وشرابهم، وهيئت لهم مساكن لا في جبال الأرض، وهجيرها وزمهريرها، ولكن في ساق العرش، قناديلها من ذهب وملاطها من فضة، فطاب المثوى، وكرم المأوى. فجمع الله لهم بذلك إلى الحياة الدائمة، منزلة القرب منه، ومعيشة لهم، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله إنهم يعيشون عنده بالرضا، بل بما هو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، وفرحهم التام بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته. وعلى هذا فإن الآثار التي تركتها "أحد" في المسلمين، محصت إيمانهم، وجعلتهم يقبلون على الله دائمًا، ويتمنون الحياة لله والموت في سبيله سبحانه وتعالى1.   1 انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ص218-242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 المبحث السابع: أحداث ما بين أحد والأحزاب مدخل ... المبحث السابع: أحداث ما بين أحد والأحزاب بدأت الأحداث تأخذ مجرى جديدًا بعد "أحد" حيث اتخذ جميع الفرقاء مواقف عديدة بناء على نظرهم لأحداث "أحد". فمشركوا مكة رأوا فيما حدث في "أحد" فرصة يصعب تكرارها، وقد أفلتت منهم، لعلمهم أن انكسار المسلمين جاء بسبب خطأ مجموعة الرماة، وجرأة خالد وبراعته في الاستفادة من انسحاب الرماة من موقعهم، ولذلك انسحبوا سريعًا إلى بلدهم، ومكنوا فيها، ولم يخرجوا لملاقاة المسلمين بعد ذلك وحدهم، واكتفوا بالفخر الكاذب وادعاء النصر، ونشر الأكاذيب، وتحريض القبائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأى الأعراب، وأهل البادية أن انكسار المسلمين في "أحد" موقف لا بد أن يستفيدوا به، ولذلك فكروا في الإغارة على المدينة للسلب والنهب، ولإظهار قوتهم أمام المسلمين لتكون لهم مهابة ومنزلة عندهم، وتصوروا أن حالة المسلمين تمكنهم من ذلك. ورأى اليهود أن المسلمين أصيبوا إصابة تؤدي إلى ضعف قوتهم وهمتهم، وأنهم في حاجة إلى وقت طويل لتعود لهم إرادتهم القوية، وشجاعتهم الوثابة، وقدرتهم على مواجهة خصومهم. ورأى المنافقون أن وضعهم قد عرف بعودتهم من "أحد" وعدم اشتراكهم في القتال، وتأكدوا أن النفاق لم يعد خطة تحقق لهم الحياة، وليس هناك ما يمنع حينئذ من إظهار العداوة، والبغضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. لكل هذا كثرت التحركات، وتعددت الأعمال في المدة ما بين غزوتي "أحد" و"الأحزاب" ولم تقف أفكار الأعداء عند حد القول والأماني، وإنما ظهرت في خطط، ومعاهدات، ومواجهات. يروي الواقدي حال اليهود، والمنافقين بعد "أحد" فيقول: "أخذ عبد الله بن أبي والمنافقون معه يشمتون بالمسلمين، ويسرون بما أصابهم، ويظهرون أقبح القول لهم، فلما رجع الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى المدينة وهو جريح، وبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 يكوي الجراحة بالنار حتى ذهب الليل، جعل أبوه المنافق يقول له شامتًا: ما كان خروجك مع محمد إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا! فيقول له ابنه: الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير. وأظهرت اليهود القول السيئ فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه! وأخذوا يخذلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه! ويأمروهم بالتفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل المنافقون يقولون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل، حتى سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك في أماكن عدة، فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في قتل من سمع ذلك من اليهود، والمنافقين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم". قال عمر رضي الله عنه: فهؤلاء المنافقون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله". قال عمر رضي الله عنه: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذًا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, يابن الخطاب! إن قريشًا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن" 1. وحتى نستمر حركة الدعوة، ويعيش المسلمون حياة العزة والكرامة، ويحافظوا على حقوق الإنسان التي شرعها الله تعالى، وحفظها للناس أجمعين، كان لا بد من مواجهة الواقع الذي عاشه أعداء الإسلام بعد "أحد" بما يليق به، ولذلك وقعت أحداث عدة، بدأت بعد "أحد" مباشرة، واستمرت إلى قبيل غزوة "الأحزاب" أوردها هنا إتمامًا لترتيب أحداث تاريخ الدعوة، وإبرازًا للجهد الذي أداه المسلمون صادقين مخلصين.   1 المغازي ج1 ص317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أولا: غزوة حمراء الأسد انسحب القرشيون من ميدان معركة "أحد" وأخذوا طريقهم إلى مكة، فلما وصلوا إلى "الروحاء" على بعد ست وثلاثين ميلا من المدينة، استراحوا بها، وأخذ قادتهم يتأملون في نتائج معركة "أحد" وفي تدبير أمورهم بعدها، فقال بعضهم لبعض: لا محمدًا أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم. وقال عكرمة بن أبي جهل: ما صنعنا شيئًا، أصبنا أشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم وقبل أن يكون لهم وفر وقوة1. ولما رجع المسلمون إلى المدينة بجراحهم ومصابهم باتوا ليلتهم بين الحزن والألم، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر في الأمر، ويتأمله ورأى ضرورة ملاحقة كفار مكة وطلبهم ومفاجأتهم حتى لا يفكروا في الرجوع إلى المدينة. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي لـ"أحد"، أمر بلالا رضي الله عنه أن ينادي في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، فهب المسلمون رغم ما بهم من جراح، طاعة للنداء، وطمعًا في الثأر، وأملا في إدخال الرعب في قلوب أعداء الله حتى لا يظنوا بالمسلمين ضعفًا وخورًا. جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه إلى قومه بني عبد الأشهل، والجراح في جميعهم فاشية، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم فيجيبه أسيد بن حضير، وبه سبع جراحات تحتاج للعلاج: سمعًا وطاعة لله ورسوله! فأخذ سلاحه، ولم يعرج على دواء جراحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير، فتلبسوا ولحقوا. وجاء أبو قتادة أهل خربى، وهم يداوون الجراح، فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، فوثبوا إلى سلاحهم، وما عرجوا على جراحاتهم، فخرج من بني سلمة أربعون جريحًا، بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبقطبة بن عامر بن حديدة تسع جراحات، حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم عند بئر أبي عنبة إلى رأس الثنية وهي على   1 المغازي ج1 ص338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الطريق الرئيسي بين مكة والمدينة، وعليهم السلاح، فاصطفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، والجراح فيهم فاشية قال: "اللهم ارحم بني سلمة" 1. وكان حرص المسلمين على الخروج واضحًا، لدرجة أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين له عذره في عدم الخروج لـ"أحد" واستأذنه في الخروج هذه المرة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن مناديًا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصًا على الحضور بالأمس في "أحد"، ولكن أبي خلفني على أخوات لي وقال: يا بني، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن، ولا رجل عندهن، وأخاف عليهن، وهن بنات ضعاف، وأنا خارج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقني الشهادة، فتخلفت عليهن فاستأثره الله عليّ بالشهادة، وكنت رجوتها لنفسي، فائذن لي يا رسول الله أن أسير معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول جابر: فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري2. وولى النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة الصحابي عبد الله بن أم مكتوم. ومن نوادر الطاعة خروج عبد الله ورافع ابني سهل بن عبد الأشهل، فلقد رجعا من "أحد" وجراحهما ثقيلة، فلما سمعا النداء عزما على الخروج، وليس لهم دابة ولا يقدران على السير، فخرجا يزحفان على بطونهما، فلما عجز رافع عن الزحف حمله أخوه عبد الله على ظهره، حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء، فلما علم أمرهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: "لو طالت لكم المدة كانت لكم مراكب من خيل، وبغال، وإبل، وليس ذلك بخير لكم" 3. وخرج مع رسول الله كل من خرج في أحد فبلغ عددهم ستمائة وسبعين رجلا وخرج معهم جابر بن عبد الله بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء رسول الله باللواء، وهو على حاله يوم "أحد" لأنه لم يحل ولم يتغير، وأعطاه لعلي بن أبي طالب، وواصل الجيش الإسلامي سيره إلى "حمراء الأسد" على بعد ستة أميال من المدينة، حتى بلغها، وعسكر بها4.   1 المغازي ج1 ص334، 335. 2 المغازي ج1 ص336, سيرة النبي ج2 ص100. 3 المغازي ج1 ص335. 4 إمتاع الأسماع ج1 ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وأخذت الأحداث تتفاعل في كلا المعسكرين. المشركون يفكرون في الرجوع إلى المدينة، ليدركوا ما فاتهم في القضاء على المسلمين والمسلمون يفكرون في إرهاب العدو، وطرده، وإبعاده عن المدينة حفاظًا على الذراري والنساء، وإعادة هيبتهم التي فقدوها في "أحد". وهنا نجد دقة التحركات الإسلامية الرشيدة، والتي من أهمها: 1- أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من أسلم ليأتوه بخبر القوم، فلحق الثلاثة بالقوم عند "حمراء الأسد" فأبصرهم القرشيون وقتلوا اثنين منهم وهما سليط، ونعمان، ابنا سفيان بن خالد من بني سهم، وأما الثالث فقد تخلف لبطئه في السير ونجا فلما وجدهما المسلمون في "حمراء الأسد" قبروهما في قبر واحد، فعرفا بالقرينين1, وقد أدى ذلك إلى زيادة خوف العدو لأنه علم ملاحقة المسلمين لهم. 2- لما عسكر المسلمون في "حمراء الأسد" أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع الحطب في النهار على أن يوقد كل رجل منهم نارًا مستقلة، فبلغت النيران خمسمائة، تبدو عالية في البعد2، وتحدث الأعراب بهذا فأصيبوا بالذعر والخوف، وتوقعوا أن القوة الإسلامية أضعاف أضعاف ما هي عليه وأبلغوا رؤيتهم لأهل مكة. 3- جاء معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة سلما لرسول الله والمسلمين، وقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك, فطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يخذل الأعداء، فذهب إلى القرشيين وهم بالروحاء فقال له أبو سفيان: ما وراءك؟ قال: تركت محمدًا وأصحابه خلفي، يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس، من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم وغضبوا لقومهم غضبًا شديدًا، ولمن أصبتم من أشرافهم. قالوا: ويلك! ما تقول؟! قال: والله ما أرى إلا أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل   1 المغازي ج1 ص338. 2 سيرة النبي ج2 ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وأرسل معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من خزاعة يعلمه بانصراف القرشيين إلى مكة خائفين، مذعورين1. 4- علم الله تعالى إخلاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم حزبه وجنده، فجعل من بين المشركين من يخذلهم، ويصرفهم عن مهاجمة المدينة مرة أخرى، وذلك أن أبا سفيان حينما فكر مع بعض رفاقه في العودة إلى المدينة ومهاجمتها، قال له صفوان بن أمية وهو واحد من جيش القرشيين: يا قوم لا تفعلوا! فإن المسلمين قد حزنوا على ما أصابهم، وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فعودوا إلى مكة، والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. وأدخل الله الرعب في قلوب القرشيين فأسرعوا بالرحيل إلى مكة، وأراد أبو سفيان أن يخيف المسلمين، فانتهز مرور نفر من عبد القيس يريدون المدينة، فطلب منهم أن يخبروا محمدًا وأصحابه بأن قريشًا اجتمعت على الرجعة إليهم, فلما ذكر الوفد ذلك للمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقويت عزائم المسلمين للقاء العدو، ورغبوا في إلحاق الأذى بالمشركين، رغم ما بهم من جراح، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2. ومكث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في "حمراء الأسد" ثلاثة أيام عادوا بعدها إلى المدينة المنورة، وقد استفاد المسلمون من غزوة "حمراء الأسد" عدة فوائد: أ- تجديد روح التضحية، وإظهار حب المسلمين للجهاد، والاستشهاد في سبيل الله تعالى، فلقد خرجوا مع رسول الله للجهاد بعد أقل من يوم من هزيمتهم في "أحد" رغم الجراح، والآلام، وكانوا على شوق للحرب، والقتال. ب- إبراز القوة الإسلامية، وإعلام الآخرين بها، حتى يكونوا على حذر في عداوتهم   1 سيرة النبي ج2 ص104. 2 سورة آل عمران: 172، 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ولا يستهينوا بالقوة الإسلامية، ولذلك أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار ملامح القوة، وإرهاب العدو، وعمل على تخذيل الكفار وتخويفهم. ج- ضرورة الاهتمام بالتخطيط، والتنفيذ، والالتزام بالطاعة، ليبرز العمل في وقته وزمانه، وليعود بالفائدة المأمولة لدين الله تعالى، وللمسلمين، ولهذا كان الخروج بعد أقل من يوم، مع الاستعداد للتضحية والفداء. د- ضرورة أخذ الحذر، وعدم تصديق من غدر وخان، فلقد أسر المسلمون أبا غرة الجمحي بـ"حمراء الأسد" فطلب أن يمنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، وقال له: لا تقتلني، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "لن تقول خدعت محمدًا مرتين". وكان قد منّ عليه وفك أسره في "بدر", وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ثانيًا: سرية أبي سلمة رضي الله عنه بعد شهرين من غزوة "أحد" علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طلحة وسلمة ابني خويلد أخذا في تحريض قومهما بني خزيمة لحرب المسلمين والإغارة على المدينة المنورة لسلب الأموال، وإثبات كيان قوي لهم أمام المسلمين، بعدما تصوروا أن هزيمة المسلمين في أحد فرصة تساعدهم على ما أرادوه من بغي وعدوان. يروي الواقدي حال بني خزيمة وهم يستعدون، ويتشاورون في مهاجمة المسلمين ويقول بعضهم لبعض: نسير إلى محمد في عقر داره، ونصيب من أطراف المسلمين، فإن لهم سرحًا يرعى جوانب المدينة ونخرج على متون الخيل، ونخرج على النجائب المخبورة فقد أربعنا خيلنا وإبلنا فإن أصبنا نهبًا لم ندرك، وإن لاقينا جمعهم كنا قد أخذنا للحرب عدتها، معنا خيل ولا خيل معهم، ومعنا نجائب أمثال الخيل، والقوم منكوبون قد أوقعت بهم قريش حديثًا، فهم لا يستبلون دهرًا، ولا يثبتون على أمر. فقام فيهم رجل منهم يقال له: قيس بن الحارث بن عمير، فقال: يا قوم، والله ما هذا برأي! ما لنا قبلهم وتر، وما هم نهبة لمنتهب، وإن دارنا لبعيدة من يثرب، وما لنا جمع كجمع قريش، مكثت قريش دهرًا تسير في العرب تستنصرها، ولهم وتر يطلبونه ثم ساروا وقد امتطوا الإبل، وقادوا الخيل، وحملوا السلاح مع العدد الكثير -ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 آلاف مقاتل سوى أتباعهم- وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا، فتغررون بأنفسكم وتخرجون من بلدكم، ولا آمن أن تكون الدائرة عليكم، فكاد ذلك أن يشككهم في السير1. وقد سمع هذا النقاش رجل من طيئ2 فقدم على صهره، الذي هو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبر بما عزم عليه بنو خزيمة فجاء الصحابي إلى رسول الله، وأخبره خبر بني خزيمة فأرسل رسول الله إلى أبي سلمة رضي الله عنه وهو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال القرشي المخزومي وولاه على سرية قوامها مائة وخمسون رجلا وأوصاه بتقوى الله وأمره بالإسراع في الخروج فخرج رضي الله عنه مع السرية، وكان معهم الطائي يدلهم على الطريق وواصلوا السير ليلا ونهارًا، في طريق غير مألوف، حتى وصل بجيشه إلى أدنى ماء لبني أسد بن خزيمة، فوجد عند الماء إبلا، وغنمًا مع الرعاة، فاستولوا عليها، وهرب الرعاة إلا ثلاثة، وحذروا بني أسد من جمع أبي سلمة، وكثروهم عندهم، ففرقوا في كل وجه هلعًا، وخوفًا. فلما ورد أبو سلمة مكان تجمع القوم لم يجد أحدًا فعكسر فيه، وفرق أصحابه في طلب النعم والشاه، فجعلهم ثلاث فرق: فرقة أقامت معه، وفرقتان أغارتا في ناحيتين مختلفتين، وأوعز إليهما ألا يمنعوا في طلب، وألا يبيتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا، واستعمل على كل فرقة عاملا منهم، فآبوا إليه جميعًا سالمين، قد أصابوا إبلا وشياه، ولم يلقوا أحدًا، فرجع أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة راجعًا، ورجع معه الطائي فلما ساروا ليلة قال أبو سلمة: اقتسموا غنائمكم، فأعطى أبو سلمة الطائي الدليل رضاه من المغنم، وأخرج صفيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا، ثم أخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه، فعرفوا سهامهم، وأقبلوا بالنعم والشاه يسوقونها حتى دخلوا المدينة3. وكانت سرية أبي سلمة4 في مستهل شهر المحرم من العام الرابع الهجري.   1 المغازي ج1 ص342. 2 هو الوليد بن زهير بن طريف من بني طيئ. 3 المغازي ج1 ص343. 4 أبو سلمة من بني مخزوم شهد أحدًا وجرح بها، وقد استمر في مداواة الجرح شهرًا حتى دمل على فساد، واشترك في "حمراء الأسد" فلما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على السرية عاوده ألم الجرح، واشتد عليه بعد رجوعه إلى المدينة، فمات بها، فهو من شهداء "أحد" وقد خلفه الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجته أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ثالثًا: بعث عبد الله بن أنيس في الخامس من شهر المحرم من العام الرابع للهجرة جاءت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرض على مهاجمة المدينة وقد نزل بـ"عوانة" فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس رضي الله عنه إليه ليقضي عليه وينهي الفتنة التي يعمل لإشعالها. قال عبد الله بن أنيس: يا رسول الله! انعته لي حتى أعرفه. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيته هبته، وفرقت منه، وذكرت الشيطان، وآية ما بينك وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته". وأذن له أن يقول ما بدا له. وكان أنيس لا يهاب الرجال، فأخذ سيفه وخرج، حتى إذا كان ببطن عرنة لقي سفيان يمشي، وراءه الأحابيش فهابه، وعرفه بالنعت الذي نعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخل وقت العصر فصلى وهو يمشي يومئ إيماء برأسه، فلما دنا منه قال: من الرجل؟ قال: رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك عجبًا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث، فارق الآباء وسفه أحلامهم. فصحبه سفيان معه وأكرم قراه، فلما تفرق عنه أصحابه، قال: هلم يا أخا خزاعة فدنا منه وجلس عنده حتى نام الناس فقتله، وأخذ رأسه واختفى في غار، والخيل تطلبه في كل وجه، ثم سار الليل، وتوارى في النهار إلى أن قدم المدينة1 الذي ظل غائبًا عنها ثماني عشرة ليلة بدءًا من السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالدًا، وجاء برأسه فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم2، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عصاه، وقال له صلى الله عليه وسلم: "هذه آية بيني وبينك يوم القيامة". فلما حضرت ابن أنيس الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه وكانت غيبته رضي الله عنه عن المدينة ثمانية عشر يومًا3.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص253. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص254. 3 زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 رابعًا: بعث الرجيع والرجيع بفتح الراء المشددة وكسر الجيم اسم ماء لهذيل يقع بين مكة وعسفان بأرض الحجاز، وسمي البعث به لحدوث الوقعة عنده. وسبب هذه الوقعة أن نفرًا من القارة، وعضل1، وهما بطنان من بطون الهون بن خزيمة بن مدركة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن فيهم إسلامًا، وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن الكريم، ويفهمهم الإسلام، فبعث لهم الرسول صلى الله عليه وسلم سرية مؤلفة من عشرة رجال، وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه فانطلقوا بهم حتى كانوا بين عسفان ومكة. وهنا غدر القوم بهم، واستصرخوا عليهم النضر وحيًا من هذيل ليغدروا بهم معهم فأتوهم بقريب من مائة رام، تتبعوا آثار أفراد السرية حتى لحقوا بهم عند "فدفد" فلجأ عاصم ومن معه إليها، وأقاموا بها حتى لحقوا بهم. وجاء الرماة فأحاطوا بعاصم ومن معه وقالوا لهم: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم ولم يستسلموا واستمر الرمي حتى قتل عاصم مع سبعة نفر من أصحابه. وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم وربطوهم بها. فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم فجروه، وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه. وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة. فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله خرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلاهما فلما سلم قال: والله لولا إن تقولوا: أن ما بي جزع من الموت لزدت، وكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم   1 القارة بتخفيف الراء وعضل بضم العين وفتحها وفتح الضاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا1 وأخذ يقول: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مضجعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطعمي وقد خيروني الكفر والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ... وإني إلى ربي إيابي ومرجعي ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي شق كان في الله مضجعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فلسلت بمبد للعدو تخشعًا ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي ولما صلبوه، وأرادوا قتله قال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلا فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث2. وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه أمية بن خلف3. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر "الزنابير" فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء، وكان عاصم أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته4.   1 قال السهيلي: وإنما صارت سنة لأنها فعلت في زمنه صلى الله عليه وسلم واستحسنت من صنيعه، وقد صلاها زيد بن حارثة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما صلاها حجر بن عدي بن الأدبر حين حمل إلى معاوية من العراق، ومعه كتاب زياد ابن أبيه يشهد عليه أنه خرج عليه، وأراد خلعه، وفي الكتاب شهادة جماعة من التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، فلما دخل حجر بن عدي على معاوية قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين. قال معاوية: أوأنا للمؤمنين أمير؟ ثم أمر بقتله، فصلى ركعتين قبل قتله يرحمه الله وقد عاتبت عائشة معاوية في قتله، فقال: إنما قتله من شهد عليه، ثم قال: دعيني وحجرًا، فإني سألقاه على الجادة يوم القيامة. قالت: فأين ذهب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: حين غاب مثلك من قومي "الروض الأنف ج3 ص235". 2 السيرة النبوية ج2 ص173. 3 السيرة النبوية ج2 ص172. 4 صحيح البخاري ك المغازي باب غزوة الرجيع ج1 ص310-312، زاد المعاد ج3 ص244-246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 خامسًا: سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: أما أحد يغتال محمدًا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا؟! فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله بمكة وقال له: يا أبا سفيان إن أنت وفيتني خرجت إليه حتى أغتاله، فإني هاد بالطريق ومعي خنجر مثل خافية النسر. قال أبو سفيان: أنت صاحبنا، وأعطاه بعيرًا، ونفقة، وقال له: اطو أمرك، فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد. قال الرجل العربي لا يعمله، فخرج ليلا على راحلته فسار خمسًا، ووصل المدينة في اليوم السادس، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى، فعقل راحلته، ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "إن هذا الرجل يريد غدرًا، والله حائل بينه وبين ما يريده". فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب". فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره، فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجذبه بداخل إزاره، فإذا الخنجر يظهر فقال: يا رسول الله هذا غادر. فأسقط في يد الأعرابي وقال: دمي دمي يا محمد، وأخذه أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصدقني من أنت، وما أقدمك، فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به". قال العربي: فأنا آمن؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قال صلى الله عليه وسلم: "وأنت آمن". فأخبره بخبر أبي سفيان، وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير، ثم دعا به من الغد وقال له صلى الله عليه وسلم: "قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك"؟. قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق بين الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت، ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان، ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، وأقام الرجل أيامًا بالمدينة، ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده، ولم يسمع له ذكر بعد ذلك1. وقد أدى هذا التصرف العدواني من أبي سفيان أن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري مع رجل من الأنصار إلى مكة لقتل أبي سفيان إن أصابا فيه غرة، فلما رأى أهل مكة ابن أمية عرفوه وأدركوا شرًا وراءه، وتجمعوا له فرجع مع صاحبه إلى المدينة، يقول عمرو بن أمية: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث معي جبار بن ضمر الأنصاري إلى أبي سفيان بن حرب وقال: "إن أصبتما فيه غرة فاقتلاه". فخرجنا حتى قدمنا مكة وحبسنا جملينا بشعب من شعاب يأجج ثم دخلنا مكة ليلا فقال جبار لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين. فقال عمرو: إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم، وإنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق. فقال جبار: كلا إن شاء الله فأبى أن يطيعني فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فوالله إنا لنمشي بمكة إذ نظر إليّ معاوية بن أبي سفيان فعرفني فقال معاوية: عمرو بن أمية فوالله ما قدمها إلا لشر، فأخبر قريشًا بمكاني فخافوني وطلبوني وقالوا: لم يأت عمرو بخير، فحشدوا وتجمعوا.   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص194، 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قال عمرو: فقلت لصاحبي: النجاء، فخرجنا نشتد حتى صعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فرجعنا فدخلنا كهفًا في الجبل فبتنا فيه وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا، فلما أصبحنا غدا عبيد الله بن مالك بن عبيد الله التيمي يقود فرسًا له فغشينا ونحن في الغار وكان معي خنجر قد أعددته فخرجت إليه وضربته ضربة فصاح صيحة فأسمع أهل مكة وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟ فقال: عمرو بن أمية وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا، فاحتملوه فقلت لصاحبي لما أمسينا: النجاء، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب بن عدي، فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية فلما حاذينا الخشبة شددنا عليها وحملناها وخرجنا بها شدًا حتى أتينا جرفًا بمهبط مسيل يأحج فدفناها في الجرف فغيبه الله تعالى عنهم فلم يقدروا عليه وعدنا بعدها إلى المدينة1.   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص195، 196 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 سادسًا: وقعة بئر معونة وبئر معونة موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان، قريب من الرجيع، وفيه حدثت الواقعة المشهورة، التي استشهد فيها سبعون من القراء، حفظة القرآن الكريم. ويبدو أن أهل هذه المنطقة خططوا لخديعة المسلمين، وعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قربهم من مكة، وتأثرهم بأهلها. يروي ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أصحابه إلى بئر معونة في شهر صفر على رأس أربعة أشهر من "أحد" بعدما جاء أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بـ"ملاعب الأسنة" إلى المدينة فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إلى دين الله تعالى فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد، يدعونهم إلى أمرك، فإني أرجو أن يستجيبوا لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخشى عليهم أهل نجد". قال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم، فليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من الصحابة منهم: الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، في رجال من خيار المسلمين الحفظة فساروا حتى نزلوا بـ"بئر معونة" وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب. فلما نزلوا "بئر معونة" بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب وعدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: لن ننقض عهد أبي براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم، وهم: عصية، ورعل، وذكوان1. فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رآهم القراء أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، "يرحمهم الله" إلا كعب بن زيد، أخا بني دينار بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فحمل من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدًا، رحمه الله2. وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار، أحد بني عمرو بن عوف، وهو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح. يقول ابن إسحاق: فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ما ترى؟   1 عصية بضم العين وفتح الصاد وتشديد الياء المفتوحة ورعل بكسر الراء وسكون العين, وذكوان بفتح الذال وسكون الكاف أسماء قبائل. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع ج6 ص312، زاد المعاد ج3 ص246، 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو وما كنت لتخبرني عنه الرجال، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا. فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عمرو بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبته زعم أنها كانت على أمه. فخرج عمرو بن أمية، حتى إذا كان بـ"قرقرة الكدر" من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر1 حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأره من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت قتيلين، لأدينهما" 2. وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل مأساة "بئر معونة" ولأجل مأساة "الرجيع" اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألمًا شديدًا، وتغلب عليه الحزن والقلق، حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه، ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحًا، يدعو في صلاة الفجر على رعل وذكوان ولحيان وعصية، ويقول: "عصية عصت الله ورسوله" 3. فأنزل الله تعالى على نبيه قرآنًا قرأناه حتى نسخ بعد: "بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه", فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قنوته4.   1 وقيل إنهما من بني كلب، والراجح ما ذكرته وقرقرة الكدر موضع قريب من المدينة. 2 سيرة النبي لابن هشام ج2 ص185، 186. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع ج6 ص317. 4 نفس المرجع السابق ج6 ص318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وأورد البخاري في صحيحه رواية أخرى تحدد محل القنوت ضمن أعمال الصلاة حيث ذكر بسنده عن عاصم الأحول أنه قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت في الصلاة. قال: نعم. فقلت كان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله. قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك، أنك قلت بعده. قال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، أنه كان بعث ناسًا يقال لهم القراء، وهم سبعون رجلا إلى ناس من المشركين، وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم1. وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح أن المراد بالقنوت الدعاء، وأورد حديث أئمة الحديث والفقه الذين بينوا أن القنوت يجوز في صلوات الليل والنهار، وأولاها صلاة المغرب دبر صلاة النهار، وصلاة الفجر دبر صلاة الليل. وبينوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع قليلا، وأكثر قنوته كان بعده، وذكروا أن قول أنس في الرواية "كذب" يعني أخطأ بلغة أهل الحجاز. وقد أجمع الفقهاء والمحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة الصبح. فلا عبرة لمن أنكر القنوت أمام هذا الإجماع؛ لأن الدليل لا ينقض إلا بما يساويه، أو يزيد عليه في القوة. والحكمة في جعل القنوت جهرًا، وأثناء القيام هو اشتراك الإمام والمأموم في الدعاء وهم في حالة نشاط وإقبال على الله تعالى, ولذلك أجمعوا على الجهر بالقنوت لتحقيق هذه المشاركة بين الإمام يدعو، والمأمومين يؤمنون، ولا خلاف في الجهر بالقنوت بين الأئمة في أوقات الصلاة ما عدا صلاة الصبح فإنهم اختلفوا في محله، وفي الجهر به2.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيح ج6 ص318. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري كتاب الوتر باب القنوت ج2 ص490، 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 سابعًا: غزوة بني النضير فرح اليهود بهزيمة المسلمين في "أحد" وأخذوا يعلنون قوتهم وبأسهم، والحقيقة أنهم لم يكونوا أصحاب قتال وحرب، بل كانوا أصحاب خداع وتآمر، وكانوا يتعاونون خفية مع المنافقين، ومع كل من يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينس يهود بني النضير ما لحق بإخوانهم من بني قينقاع، وبكعب بن الأشرف، فأخذوا يتحينون الفرص للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين. فلما وقعت غزوة "أحد"1 وخدع المشركون المسلمين في "الرجيع"، وفي "بئر معونة" فكر يهود بني النضير في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهزوا فرصة ذهابه إلى ديارهم لمطالبتهم بالمساهمة في دية الرجلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري تطبيقًا للعهد الذي قطعه الرسول صلى الله عليه وسلم معهم عند مجيئهم إلى المدينة. وكان بين بني النضير وبني عامر حلفًا وعهدًا, فلما طالبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الدية قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد, فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة كما قال, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة،   1 ذهب البعض إلى أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر، وقبل أحد، والحق أنها كانت بعد "أحد" وبعد بئر معونة لأن سببها كان غدر بني النضير برسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب إليهم ليدفعوا ما عليهم من دية الرجلين من بني عامر الذين قتلهم عمرو بن أمية بعد نجاته في بئر معونة، وأيضًا فإن فكرة التآمر لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترت بين اليهود وبين أبي سفيان كما دلت الأحداث على ذلك بعد "أحد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الخبر، وعرفهم أن اليهود أرادت الغدر به، وأمرهم بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم1. وحاول ابن أبي إشعال الفتنة فذهب إلى بني النضير، ومناهم بأن قريظة، وغطفان، وألفين معه سيكونون معهم إن قاتلوا المسلمين، فلما اشتد الأمر نكص على عقبيه كما فعل مع بني قيقناع، فتنبه بنو النضير، وأعدوا للأمر عدته. وسار النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، حتى نزل بهم، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، فحاصرهم ست ليال، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من يصنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم "عدو الله" عبد الله بن أبي بن سلول، ووديعة مالك بن أبي قوقل، وسويد، وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم، فتربصوا بذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وانخذل المنافقون وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الدروع ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته ويحمل الأبواب والشبابيك فيضعها على ظهر بعيره فينطلق بها، فخرج أكثرهم إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام2. وممن سار منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلقد نزلوها، وصار لهم فيها شأن وقوة ورأي. حمل اليهود معهم النساء والأبناء وبعض الأموال وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن   1 زاد المعاد ج3 ص248. 2 سيرة النبي ج2 ص191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك ابن خرشة ذكرا فقرًا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير أبو كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. يقول ابن إسحاق وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك، وما هم به من شأني"؟. فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون1. وقد أنزل الله سورة الحشر تتحدث عن بني النضير، ولذلك سماها ابن عباس سورة بني النضير2، وقد ابتدأت السورة بالحديث عن خروجهم من المدينة، رغم قوة حصونهم ودقة تخطيطهم، ولم يكن أحد يتصور لهم هذا الخروج، لكن قضاء الله نفد عليهم فخربوا بيوتهم بأيديهم واستولى الرعب عليهم، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3 والمراد بالذين كفروا يهود بني النضير، وأول الحشر هي أرض خيبر، وذكرت الآيات أن كل ما فعله المسلمون هو بأمر الله تعالى، وهم حين قطعوا نخيل بني النضير، كانوا عبيدًا يلتزمون بما أمروا به، حتى ينفد مراد الله، في إذلال اليهود، وحرمانهم من سائر ما يتحصنون به، وإظهار عجزهم، وضعفهم، يقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} 4. كما بينت الآيات موقف المنافقين، وطريقتهم في التحريض وهم كاذبون، فلقد   1 سيرة النبي ج2 ص192. 2 صحيح البخاري ك المغازي باب حديث بني النضير ج6 ص271. 3 سورة الحشر الآيات من 2 إلى 4. 4 سورة الحشر: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وعدوا اليهود بمشاركتهم في القتال والخروج، فلما جد الجد نكصوا، ولم ينفذوا وعدًا وعدوه لليهود؛ لأنهم شديدو الخوف من المسلمين يقول تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 1. وتتناول الآيات صفات اليهود القائمة على الخور والضعف، والخوف، فهم لا يقاتلون إلا بمساندة مادية، ومعونة خاصة، ويحصنون قراهم من شدة الخوف, كما أنهم أشتات متفرقون لا تجمعهم وحدة النشأة، والتكوين، وإنما مثل المنافقين معهم كمثل الشيطان يغوي الإنسان ويؤذيه، يقول تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 2. والآيات في سورة الحشر تعايش المسلمين، وتبين لهم حقيقة الفيء وأحكامه؛ لأن ما أصابوه من أموال بني النضير كان أول فيء أصابوه، فهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزعه على المستحقين له، يقول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ   1 سورة الحشر: 11-13. 2 سورة الحشر: 13-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1. وتوضح الآيات الصفات الأساسية للمسلم فردًا، وجماعة، وتبين أن جماعة الإيمان متحابة، مترابطة، مطيعة لله تعالى، وتوضح بجلاء أخلاق المهاجرين والأنصار، وتذكر الصورة العملية لمسلكهم، وتعاونهم، فلقد كانوا رضي الله عنهم يبتغون رضى الله ورضوانه، وينصرون الله ورسوله، في صدق عام، وإخلاص شامل، وكان كل واحد منهم يؤثر أخاه على نفسه ويدعو له، ويسأل الله تعالى أن يملأ قلبه بالحب لكافة المسلمين، أحياء وأمواتًا يقول تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2. كما توجه الآيات المسلمين إلى ضرورة الإخلاص في التقوى، والعمل ليوم الدين، والتذكر الدائم لله رب العالمين، والاهتمام بالقرآن الكريم حفظًا وفهمًا وعملا يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3. وهكذا سجلت سورة الحشر أحداث غزوة بن النضير بمنهجية القرآن الكريم في ذكر الحدث، ذلك المنهج الذي يركز على العبرة، ويبين مناط القدوة والتأثير بلا ترتيب بين الأحداث والوقائع للوصول إلى الغاية المأمولة وهي إيجاد الإنسان الصالح، وتكوين المجتمع السعيد.   1 سورة الحشر: 6-7. 2 سورة الحشر: 8-10. 3 سورة الحشر: 13-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 سابعا: غزوة بني النضير ثامنا: غزوة نجد ... ثامنًا: غزوة نجد بعد هزيمة بني النضير، وطردهم من المدينة تخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم وغدرهم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عددًا من القبائل البعيدة عن المدينة تحتاج لعملية تأديبية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديب هؤلاء الأعراب الخارجين المخادعين الذين يقيمون في الأماكن البعيدة عن المدينة في "نجد" وغيرها، وبخاصة بعدما علم أن جموعًا من بني محارب، وبني ثعلبة من غطفان تحتشد لمهاجمة المسلمين في المدينة. أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إليهم في أربعمائة من أصحابه بعدما ولى على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه فلما وصل إلى ديارهم بنجد فروا في رءوس الجبال فلم يقابل منهم أحدًا وقد وقعت هذه الغزوة في ربيع الثاني وأوائل جمادى الأولى من العام الرابع للهجرة1. وأهمية هذه الغزوة تتجلى في مساهمتها في القضاء على العداوات المختلفة الموجودة عند الأعراب والبوادي، وبخاصة هؤلاء الذين يقطنون بعيدًا عن المدينة، ليتفرغ المسلمون لملاقاة المكيين الذين كانوا يتوعدون المسلمين، ويهددونهم مستعينين بهؤلاء الأعراب. ويلاحظ أن هذه الغزوة كانت في بلاد نجد البعيدة عن المدينة، وهذا يؤكد قوة المسلمين ويعرف الجميع أن يد المسلمين طويلة، وأنها تستطيع الوصول إلى الأعداء في كل مكان لإبطال كيدهم، ومنعهم من العدوان أو التفكير فيه.   1 زاد المعاد ج3 ص250 والبعض يسمي هذه الغزوة بذات الرقاع وهو غير صحيح لأن غزوة ذات الرقاع شهدها أبو هريرة وأبو موسى الأشعري اللذان أسلما وقدما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بأيام وبذلك فزمنها بعد خيبر على الأرجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 تاسعًا: غزوة بدر الثانية بعد تأديب الأعراب، والقضاء على شوكتهم أخذ المسلمون يتهيئون لملاقاة كفار مكة في الموعد الذي ضربوه لهم بعد "أحد". وسبب هذه الغزوة أن أبا سفيان بن حرب لما أراد أن ينصرف يوم أحد نادى المسلمين، وقال لهم جهرًا وعلانية: موعد ما بيننا وبينكم بدر الصفراء، رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "قل نعم إن شاء الله" 1. فافترق الناس على ذلك، ورجعت قريش وأخبروا من قبلهم بالموعد. وكانت بدر الصفراء مجمعًا للعرب، وسوقًا تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليال خلون منه، فإذا مضت ثماني ليال تفرق الناس إلى بلادهم. فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب ألا يوافي رسول الله صلى الله عليه وسلم الموعد حتى يدعي أن التخلف عن اللقاء بسبب المسلمين لا بسببه. واستعمل أبو سفيان سلاح الضغط النفسي فكان يظهر أنه يريد أن يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثيف، ويتحدث في ذلك حتى يصل الخبر إلى أهل المدينة، ويعلموا أنه يجمع الجموع ويحشد العرب، فيخافون ويقعدون. قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة -وأسلم بعد ذلك- فأخبر أبا سفيان، وقريشًا أن المسلمين يتهيئون لحربهم فأعلمه أبو سفيان بأنه كاره للخروج إلى لقاء المسلمين، واعتل بجدب الأرض، وجعل لنعيم عشرين فريضة توضع تحت يد سهل بن عمرو، على أن يخذل المسلمين عن المسير لموعده، وحمله على بعير. فقدم نعيم المدينة، وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان حتى أرعب المسلمين، وتمنوا عدم الخروج في الموعد واستبشر المنافقون واليهود وقالوا: لن يفلت محمد من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خشي ألا يخرج معه أحد. وجاءه أبو بكر وعمر رضي الله عنه وقد سمعا ما سمعا فقالا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى   1 انظر غزوة أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 مظهر دينه، ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم موعدًا لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: "والذي نفسي بيده لأخرجن، وإن لم يخرج معي أحد" 1, فنصر الله تعالى المسلمين، وأذهب عنهم الرعب الذي غرسه الشيطان في نفوسهم. وكان اللقاء ضروريًا لتتضح حقيقة كل طرف، وتظهر قوته، ويعلم أهل مكة أن المسلمين لن يستكينوا أبدًا، وأن هزيمتهم في "أحد" كانت خطأ لن يتكرر. ففي شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وقيل: إنه استخلف عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه وانتهى إلى "بدر" فأقام بها ينتظر المشركين2. وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرسًا، حتى انتهى إلى "مر الظهران" على بعد مرحلة من مكة فنزل بـ"مجنة" "ماء في تلك الناحية". خرج أبو سفيان من مكة متثاقلا وهو خائف من عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا جدب، وإني راجع فارجعوا3. ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر أفراد الجيش المكي أيضًا، ولذلك أسرعوا في الرجوع إلى مكة بمجرد إشارة أبي سفيان بلا اعتراض من أحد ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي، أو يظهروا أي إصرار على القتال، ولم يلحوا على مواصلة السير للقاء المسلمين وبدا منهم أن الرجوع أمل تمنوه فلما رآه أبو سفيان رحبوا به. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام، ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بكل درهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيئتهم في النفوس وسادوا على الموقف، ولجأ الأعداء إلى المسالمة4. وتعرف هذه الغزوة "ببدر الموعد" و"بدر الثانية" و"بدر الصغرى" و"بدر الآخرة".   1 إمتاع الأسماع ج1 ص148. 2 سيرة النبي ج2 ص211. 3 زاد المعاد ج3 ص255. 4 إمتاع الأسماع ج1 ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 عاشرًا: غزوة دومة الجندل ودومة الجندل "بضم الدال" مدينة بعيدة، تقع قرب الشام بينها وبين دمشق ست ليال وبينهما وبين المدينة ست عشرة ليلة1. تقع "دومة الجندل" في الشمال بعيدًا عن المدينة، وبذلك فهي تكمل مع غزوة "نجد" عملا متكاملا لأن "نجد" تقع في أقصى الشرق، وهذه تقع في أقصى الشمال. إن الاقتراب من بلاد الشام بهذه القوة بعد تحذيرًا للرومان الذين يحتلونها، حتى يتركوا الحرية للناس، ولا يقفوا ضد حركة الدعوة إلى الله تعالى. وكان سبب هذه الغزوة المباشر أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن بها جمعًا كثيرًا يظلمون من مر بهم، فخرج صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ربيع الأول في العام الهجري بعد "بدر الأخيرة" بستة أشهر. وقد خرج في ألف من أصحابه ومعه دليل من بني غدرة يقال له "مذكور" فكان يسير الليل، ويكمن النهار، ويغاير في الطريق، واستخلف على المدينة "سباع بن عرفطة الغفاري". فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من "دومة الجندل" قال له الدليل: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك فأقم لي، حتى أطلع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فخرج العذري طليعة وحده، حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقد عرف مواضعهم، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هجم على ماشيتهم، ورعائهم، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وفر باقيهم، فتفرق أهل "دومة الجندل".   1 زاد المعاد ج3 ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وهربوا بعيدًا عن ديارهم. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد بها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبث السرايا فعادت كل سرية بإبل ولم تلق أحدًا، إلا أن محمد بن مسلمة أخذ رجلا منهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس لما سمعوا أنك أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، في العشرين من ربيع الآخر، ووادع صلى الله عليه وسلم في طريقه عيينة بن محصن الفزراي على أن يرعى أنعامه بـ"تغلمين" وما والاها إلى "المراض" وكانت بلاده قد أجدبت1.   1 سبل الهدى والرشاد ج4 ص484، 485، زاد المعاد ج3 ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 حادي عشر: أهم الأحداث الاجتماعية بين أحد والأحزاب برغم كثرة السرايا والغزوات التي وقعت خلال هذه الفترة نرى المسلمين يعيشون حياتهم الاجتماعية بصورة عادية، ومن أهم الأحداث الاجتماعية التي عاشها المسلمون ما يلي: 1- تزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم التي عقد عليها في ربيع الأول ودخل بها في شهر جمادى الأخرى من السنة الثالثة من الهجرة وذلك بعد أن توفيت "رقية" يوم بدر من العام الثاني. ومما يذكر أن عبد الله بن عثمان بن عفان من زوجته رقية مات في جمادى الأولى وهو ابن ست سنوات، ودفنه أبوه بالبقيع. 2- ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في السنة الثالثة وحملت أمه فاطمة رضي الله عنه بالحسين رضي الله عنه. 3- ولد الحسين بن علي في أول شهر شعبان من السنة الرابعة. 4- في شهر رمضان من السنة الرابعة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بنت الحارث الهلالية وهي المعروفة بأم المساكين لكثرة صدقاتها لهم، وبرها بهم، وإحسانها عليهم، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم زوجة لـ"عبد الله بن جحش" وماتت رضي الله عنها بعد شهرين أو ثلاثة من زواجها به صلى الله عليه وسلم وقد صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 5- في شهر شوال من السنة الرابعة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة وكانت قبله عند زوجها أبي أولادها، أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه الذي شهد "أحدًا" وجرح بها فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعمًا، ومغنمًا جيدًا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يومًا، ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، فلما حلت أم سلمة في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة، وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرارًا، فتذكر أنها امرأة غيرى أي شديدة الغيرة، وأنها مصبية أي لها صبيان يشغلونها عنه، ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله -أي نفقتهم- ليس إليك وأما الغيرة فأدعوا الله فيذهبها". فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي صلى الله عليه وسلم تعني قد رضيت وأذنت. يروي الإمام أحمد بسنده عن أم سلمة أنها قالت: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: "لا يصيب أحدًا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا فعل به". فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت، وقلت: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغ إهابًا لي، فغسلت يدي من القرظ، وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بي غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال، فإنما عيالك عيالي". فقالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم1.   1 الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج22 ص132، بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 6- وفي السنة الرابعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم اللغة السريانية ليتمكن صلى الله عليه وسلم من معرفة ما في كتب أهلها، ويرسل إليهم كتبه بلغتهم بواسطة أصحابه الدعاة قال صلى الله عليه وسلم لزيد بن ثابت: "يا زيد أتحسن السريانية أنه تأتيني كتب بها"؟. فقال زيد: لا يا رسول الله. فقال له صلى الله عليه وسلم: "تعلمها". يقول زيد رضي الله عنه: فتعلمتها في سبعة عشر يومًا1. وعلم المسلمون بذلك أهمية معرفة لغة من سيدعونهم لأن الدعوة لا تصح إلا بلغة المدعوين ليفهموا المراد، ويطلعوا على حقيقة الإسلام.   1 الفتح الرباني بشرح مسند الإمام أحمد الشيباني كتاب العلم والعلماء ج1 ص145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ثاني عشر: حركة الدعوة بين أحد والأحزاب المدة بين "أحد" و"الأحزاب" عامان على الصحيح، ومع ذلك وقعت فيها أحداث جسام، ذكرت أهمها، مما يدل على الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه، في خدمة الإسلام، والحركة بالدعوة إلى دين الله تعالى. لقد وصلت القوات الإسلامية خلال هذا العام إلى بلاد نجد في أقصى الشرق، وإلى أطراف الشام في الشمال، والاقتراب من مكة في حملات تأديبية هادفة. ذلك أن الشيطان زين لغير المسلمين قوتهم، وغرهم بما حدث يوم "أحد"، ودفعهم إلى التطاول على المسلمين، وإعداد العدة لمهاجمة المدينة. ولولا فطانة النبي صلى الله عليه وسلم وإخلاص المسلمين معه لأوتي المسلمون، ولأصابهم من الأذى الكثير، وكانت المعونة الإلهية مع عباده فألهمهم الرشد، ووجههم نحو الطريق المستقيم. لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بجمع المعلومات عن طريق العيون التي بثها في هذه الأماكن البعيدة، وبذلك وضع سياجًا من الأمن حول المدينة، ولم يترك أعداءه يتخيرون مكان وزمان مقاتلة المسلمين, وهذا هو السبب في كثرة السرايا والغزوات خلال الزمن الفاصل بين "أحد" و"ألأحزاب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 واستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من عنصر المفاجأة، والمباغتة، ولذلك كان المجاهدون يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار, واستفاد الرسول من سلاح الضغط المعنوي، وإرهاب العدو حتى يتحقق السلام بلا قتال، وتصان الحقوق بلا دماء, ولهذا كان تحركه في حمراء الأسد، وإشعاله النيران الكثيفة والمتعددة ليلا ليشعر العدو أن الجيش الإسلامي كثير العدد قوي العدة. وكان صلى الله عليه وسلم يرسل لكل جماعة ما يكافئها من الرجال عددًا، واستعدادًا، حتى لقد بلغ عدد المسلمين في بعض الغزوات ألفًا وخمسمائة مقاتل، وفي بعضها الآخر كانت السرية مكونة من رجل واحد فقط. وفي خضم الصراع بين المسلمين وأعداء الإسلام لم تغب الدعوة إلى الله تعالى، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ما نزل من القرآن الكريم، ويفهمهم أحكام الإسلام التي جاء الوحي بها، ويتابع تحفيظهم الوحي المنزل، وترسيخه في حياتهم وسلوكهم، وإن العقل يندهش لاستيعاب المسلمين لكل الوحي الذي تتابع نزوله مع كثرة السرايا وتعدد المهام. وكان التوجيه النبوي مرتبطًا بالأحداث والوقائع، فكلما حدث أمر ظهر حكمه وإذا احتاج المسلمون لمسألة وسألوا عنها كان الجواب الشافي يأتيهم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فتعلموا بذلك ضرورة التلقي من الوحي، وملازمة الطاعة والاتباع، وعلموا أن الالتزام بحكم الله أساس الإيمان، وطريق الفوز والفلاح وكانوا بحق نعم الرجال، ونعم المؤمنين، وخير أمة أخرجت للناس. ومن خلال السرايا والغزوات تعلم المسلمون أحكام الفيء وفهموا أن الفيء هو المال الذي يقع في أيديهم من أعدائهم بلا قتال، أو مواجهة، وقد فصل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله فيه، يوزعه على ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل حتى لا يبقى المال في أيدي الأغنياء وحدهم, ولذلك وزع أموال بني النضير على المهاجرين وحدهم، ولم يشاركهم من الأنصار إلا رجلين شكوا الفقر والعالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعلم المسلمون كذلك مشروعية القنوت، والدعاء على الأعداء في صلواتهم، وعلموا كيفيتها، وترتيبها في أعمال الصلاة، وبذلك وقفوا على سلاح قوي يساعدهم في النصر على أعداء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج في غزوة يولي على المدينة أحد أصحابه، وإذا أرسل سرية عين أميرًا لها, وكان يعطي الراية لرجل يختاره صلى الله عليه وسلم ليتعلم أصحابه في حياته صلى الله عليه وسلم سلوك القيادة، ويتحملوا مسئولية الحكم والإمارة ويتدربوا على استنباط الرأي، والقدرة على اتخاذ القرار، وحسن التصرف فيما يجد من شئون الحياة. ولم تخل تحركاته صلى الله عليه وسلم من دعوة الله تعالى في كل حال، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ما نزل من القرآن الكريم وكان يؤمهم في الصلاة، ويعرفهم أحكام شرع الله تعالى، ويعيش حياته الاجتماعية بصورة إنسانية عادية، فتزوج، وزوج، وولد له. ولم يجعل هذه المرحلة رغم كثرة الغزوات والسرايا تدور في إطار إجراءات طارئة خاصة بها، وإنما عاشها صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه بصورة عادية، يجاهدون ويستريحون، يعبدون الله ويتمتعون بالدنيا، ولذلك تعجب أعداء الإسلام مما رأوا من المسلمين، وانعكس هذا العجب على سلوكهم وأعمالهم، ولذلك لم يفكروا مرة في مواجهة المسلمين وقتالهم حين أتوا إليهم، بل كانوا يفرون ويهربون لسابق معرفتهم بشجاعتهم ورجولتهم. وقد تعرض المسلمون للخداع من أعدائهم كما حدث في الرجيع، وبئر معونة، ولم يضعف حالهم بذلك، وإنما تصوروا الأمر على حقيقته، وتيقنوا أن طريق الإسلام طريق شاق، يحتاج للمجاهدة والتضحية، وعلى المسلمين أن يستعدوا لتجاوز هذا الطريق، وعليهم أن يؤمنوا بأن الآخرة خير من الأولى، وأن كل ما يصيبهم في سبيل الله هو خير لهم وأن الإيمان الحق يحتاج لدماء تحميه من أعدائه المتربصين الذين يريدون إطفاء نور الحق، والقضاء على منهج الله القويم, ولذلك كانوا وقود النور، ومشعل الخير للناس أجمعين. ولعل أهم ما في هذه المرحلة هو الترابط التام بين المسلمين بعدما اندمج المهاجرون والأنصار في أخوة تامة وترابط شامل للظاهر والباطن، وعاش المسلمون جميعًا أخوة الإيمان والعقيدة, ولذلك لم يكن غريبًا عليهم أن يواجه المسلم أباه أو أخاه، أو ابنه أثناء الغزوات لأن ما عدا رباط العقيدة بين الناس زال وانتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المبحث الثامن: غزوة الأحزاب مدخل ... المبحث الثامن: غزوة الأحزاب أدت تحركات المسلمين قبل الأحزاب إلى إعادة الهيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأخذ أهل مكة وأعراب البوادي وقبائل العرب المنتشرة في أرجاء الجزيرة العربية يميلون إلى السلام مع المسلمين، ويهربون من عدم مواجهتهم كما رأينا من أبي سفيان في بدر الآخرة. ونظر يهود بني النضير إلى حالتهم فوجدوا أنهم أخرجوا من ديارهم، وفقدوا أموالهم وشق عليهم أن يستقر المسلمون في المدينة، وينتشر الإسلام بين الناس فعملوا على القضاء على المسلمين ليعودوا إلى المدينة مرة أخرى, ورأوا أنه لا قبل لهم بالمسلمين فأخذوا يؤلبون الناس، ويجمعون الأحزاب لمقاتلة المسلمين. وتولى كبر هذا التحريض نفر من اليهود على رأسهم سلام بن مشكم بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب في نفر من بني النضير، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس في بضعة عشر رجلا حيث خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بالدين الذي أصبحنا نختلف فيه، نحن ومحمد، أديننا خير أم دينه؟ فنحن عمار البيت، ننحر الإبل، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام؟! فقالوا لهم: بل دينكم خير من دينه، وإنكم أولى بالحق منه. فأنزل الله فيهم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 1. يقول المفسرون: خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكبًا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشًا على غدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة:   1 سورة النساء الاية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما فذلك قوله، يؤمنون بالجبت والطاغوت. ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك. فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقًا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب: أعرضوا على دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه. فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما سمعوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، واتعدوا له، وقال لهم أبو سفيان: مرحبًا وأهلا، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. ثم خرج ذلك النفر حتى أتوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأنهم سيعطونهم ثمر خيبر سنة إن هم نصروهم، وأخبروهم أن قريشًا تابعوهم على ذلك. ثم ذهبوا إلى بني سليم فوعدوهم المسير معهم إذا خرجت قريش1. وأخذ المنافقون في المدينة يبتعدون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشاركون المسلمين في المحافظة على المدينة، ويتحايلون في عدم الالتزام بالعهود الموجودة وصاروا يعملون ضد الإسلام في لؤم وخفاء. وتمكن يهود بني النضير من التأثير على بني قريظة كذلك وضموهم إلى معسكر المقاتليت لرسول الله وصحابته. وظن الأحزاب بهذا التجمع أن الأمور دالت لهم، وأن انتصارهم بكثرتهم حق ثابت ولذلك تحركوا جماعات نحو المدينة، وتواعدوا اللقاء حولها، وقدموا من كل صوب بعددهم وعدتهم وعداوتهم، لينالوا من دين الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستأصلوا المسلمين من المدينة. ولكن الله ناصر لدينه، ومظهر للحق، ومعين لجنده الذين يعملون في إخلاص وصدق فأيدهم ونصرهم وخذل عدوهم وهزمهم بقدرته سبحانه وتعالى. ودراسة غزوة الأحزاب تحتاج إلى دراسة ما يلي:   1 المغازي ج2 ص443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 أولا: وقت الغزوة تعرف غزوة الأحزاب بغزوة "الخندق" لأنها الغزوة الوحيدة التي حفر فيها المسلمون خندقًا يفصل بينهم وبين أعدائهم. يروي ابن إسحاق أن هذه الغزوة حدثت في شهر شوال من العام الخامس الهجري ونص على ذلك غير واحد من العلماء كعروة بن الزبير، وقتادة، والبيهقي، والذهبي، وابن القيم, وقال آخرون: إنها وقعت في شوال سنة أربع للهجرة مستدلين بحديث ابن عمر رضي الله عنه الذي قال فيه: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه يوم "الخندق" وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"1. ولا خلاف بين الرأيين في الحقيقة؛ لأن مرادهم أنها كانت بعد مضي أربع سنوات كاملة وقبل استكمال السنة الخامسة، وأن حديث ابن عمر يشير إلى أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في "أحد" وهو في أول الرابعة عشرة، وعرض يوم "الأحزاب" وهو في نهاية الخامسة عشرة ويمكن فهم قول ابن عمر رضي الله عنه على أنه في يوم الخندق بلغ سن القتال وتجاوز عمره الخامس عشرة ولو بأكثر من سنة. ومن المعلوم أن غزوة بني قريظة كانت بعد الخندق مباشرة، والجمهور يرى أن الخندق كانت في اليوم السابع من ذي القعدة في السنة الخامسة فدل ذلك على أن الأحزاب كانت في الخامسة كذلك. ولا شك أن المشركين لما انصرفوا من "أحد" واعدوا الرسول بدرًا في العام القابل فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى "بدر" بعد عام من "أحد" وجاء أبو سفيان مع قريش في شعبان من العام الرابع، إلا أنه رجع إلى مكة لجدب ذلك العام كما زعموا، وهذا يؤيد أن "الأحزاب" لم تقع في العام الرابع لأن كفار مكة بعد رجوعهم لضعفهم ما كان لهم أن يأتوا إلى المدينة بعد شهرين من رجوعهم وضعفهم الذي تعللوا به2.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص319. 2 زاد المعاد ج3 ص270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ثانيًا: تجمع الأحزاب نشط يهود بني النضير في خطتهم للأخذ بثأرهم، والقضاء على المسلمين حتى يعودوا إلى المدينة مرة أخرى فجمعوا الجموع وحرضوا الأحزاب حتى جاءوا جميعًا لحصار المدينة وقتال المسلمين في وقت وقتوه، ومكان بينوه، وانضم إليهم المنافقون ويهود بني قريظة داخل المدينة، وبذلك وجد المسلمون أنفسهم محاطين بالأعداء من كل جانب. يقول ابن كثير: إن كفار مكة لما سمعوا مقالة يهود بني النضير سروا، وفرحوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم خرج أولئك النفرد من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس، وعيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في أربعة آلاف، وحمل اللواء عثمان بن طلحة وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وألفًا وخمسمائة بعير والتقت بهم سليم بمر الظهران، في سبعمائة مقاتل يقودهم سفيان بن عبد شمس السلمي. وخرجت غطفان في ألف يقودهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة. وخرج الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري بألف من بني مرة. وخرج مسعر بن رخلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع1 ووصلت القبائل إلى مشارف المدينة، وعسكرت بها، فنزلت قريش ومن تبعهم   1زاد المعاد ج3 ص271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 من الأحابيش، وبني كنانة، وأهل تهامة بـ"مجمع الأسيال" المعروف بـ"وادي العقيق" ونزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، والأعراب بـ"ذنب نقمى". ومجمع الأسيال وذنب نقمى موقعان متجاوران عند "أحد"1, وهما الموضعان اللذان نزل فيهما الأحزاب. ولما عسكرت الأحزاب حول المدينة قاطعهم بنو قريظة ودخلوا حصونهم، وأغلقوها عليهم, فخرج إليهم حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي فاستأذن عليه حيي، فأبى أن يفتح له. فناداه حيي وقال: ويحك يا كعب، افتح لي. قال له كعب: ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقًا. قال حيي: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله ما أغلقت دوني إلا خوفًا على جشيشتك أن آكل معك منها، فأحفظ الرجل بهذه المقالة ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر، ومجد الدنيا. قال: وما ذاك. قال حيي: جئتك بـ"قريش" على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بـ"مجمع الأسيال" من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بـ"ذنب نقمى" إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا المدينة حتى نستأصل محمدًا ومن معه. فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه2 يرعد ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقًا فلم يزل حيي بكعب يناقشه، ويحاوره، ويمنيه حتى سمع له، ونقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 البداية والنهاية ج4 ص102 وذنب نقمى بفتح الذال والنون في ذنب، وفتح النون والقاف في نقمى. 2 الجهام هو السحاب، والمعنى أنه سحاب لا ماء فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ووافقه على محاربته مع الأحزاب بعد أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدًا أن يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما ينزل ببني قريظة فنقض كعب بن أسد زعيم بني قريظة العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وأمر كعب بن أسد، وبنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش، وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم، إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدًا على أن تكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم، فوافقهم حيي على ذلك فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد إلا بني سعنة أسد، وأسيد، وثعلبة فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقضوا عهدهم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث الزبير بن العوام رضي الله عنه لينظر الأمر فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن بني قريظة يصلحون حصونهم، وطرقهم2 فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير رضي الله عنهم ليؤكدوا للنبي صلى الله عليه وسلم خبر القوم. وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم، فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس". فخرجوا حتى أتوهم فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا: الآن وقد كسر محمد جناحنا، وأخرجه من بيننا "يريدون بني النضير" ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم فأغضبوه. ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه. فاستهزءوا به وردوا عليه ردًا قبيحًا.   1 زاد المعاد ج3 ص272. 2 صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق ج6 ص327، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي حواري، وإن حواريي الزبير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فقال: غير هذا القول كان أجمل بكم وأحسن، ثم نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخرين، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد! فشاتمهم سعد بن معاذ، وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة. فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، الذي بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم قالوا: عضل، والقارة. أي غدروا كغدر هؤلاء بأصحاب الرجيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين". وتلك نبوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواقع يشير لغيرها؛ لأن الأحزاب جاءوا بأعداد كثيفة، وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب، وجندوا جنودهم خارج المدينة، وداخلها حتى سيطر الخوف على المسلمين، وزلزلت نفوسهم، وزاغت أبصارهم وظنوا أن الهزيمة بهم لاحقة، فاتجهوا إلى الله بالدعاء، والرجاء ليعينهم بأمره، وينصرهم بقدرته، والله على كل شيء قدير. وظهر النفاق من بعض المنافقين، فقال معتب بن بشر: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأن أموالهما تنفق في سبيل الله وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وقالوا ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} 2 وقال رجال ممن كانوا مع معتب {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 3. وهمت بنو قريظة بالإغارة على المدينة ليلا، وأرسلوا إلى الأحزاب ليمدوهم بألف من قريش، وألف من غطفان، فبلغ ذلك المسلمين فعظم الخطب واشتد البلاء ثم كفهم الله تعالى عن ذلك لما بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين وكان المسلمون يبيتون بالخندق خائفين، فإذا أصبحوا أمنوا. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خوات بن جبير لينظر غرة في بني قريظة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سيرة النبي ج2 ص221، 222، زاد المعاد ج3 ص272. 2 سورة الأحزاب: 12. 3 سورة الأحزاب: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 خاف على الذراري منهم، لكن النوم غلب خواتًا، فحمله يهودي، فلما استيقظ خوات تمكن من قتل اليهودي وتمكن المسلمون من هزيمة عشرة من اليهود جاءوا يريدون المدينة فأدى ذلك إلى خوف اليهود من ورائهم. واجتمعت جماعة منافقة من بني حارثة فبعثوا أوس بن قيظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا، وليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فائذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرحوا بذلك، وتهيئوا للانصراف. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! لا تأذن لهم إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا. ثم أقبل سعد عليهم فقال: يا بني حارثة، هذا لنا منكم أبدًا ما أصابنا وإياكم شدة إلا صنعتم هكذا فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بلغت حشود المشركين عند الخندق أكثر من عشرة آلاف مقاتل منهم أربعة آلاف من قريش، والباقون من بني سليم، وأسد، وفزارة، وغطفان ومع هؤلاء كان بنو قريظة وأشجع1.   1 سيرة النبي ج2 ص219، 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ثالثًا: استعداد المسلمين للأحزاب نشط يهود بني النضير في التحريض على قتال المسلمين، وتمكنوا من تجميع أحزاب عدة، وتعاهدوا معهم على القتال، ولم يكتفوا بالاتفاق مع القرشيين، وغطفان، وعرب نجد، وغيرها، وإنما ظلوا بيهود بني قريظة والمنافقين حتى ضموهم إليهم وكونوا بذلك قوة ضخمة تحيط بالمسلمين من ظاهر المدينة، ومن داخلها، بلغ عددها أكثر من عشرة آلاف من خيرة رجال القبائل وفرسانها، يصور الله تعالى هذا الحال في قوله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} 1   1 سورة الأحزاب: 11، 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ولو تمكن هذا الجمع الغفير من مفاجأة المسلمين وأخذهم على غرة لأتوا عليهم ولقضوا على المدينة قضاء كليًا, لكن معونة الله كانت مع عباده المؤمنين فألهمهم الحق؛ ووفق رسوله صلى الله عليه وسلم في تتبع أخبار أعدائه، فبث العيون لمعرفة ما يعدون له، ولذلك لما جاءت الأخبار بتجمع الأحزاب وتأليب القبائل قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة عدم الخروج من المدينة، وتحصين كافة الطرق الموصلة إليها، وسد جميع المسارات التي تمكن قاصدها من الدخول فيها، ورأوا أن المدينة من الشرق والجنوب والغرب محصنة بحصون طبيعية، تتكون من البساتين الكثيفة، والموانع الطبيعية التي تحول دون إجراء قتال فيها بين قوات كثيرة ما عدا جانبها الشمالي فإنه منطقة مكشوفة واسعة يسهل القتال فيها والولوج منها إلى المدينة. ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم، على المدينة، وبدأ يستعد لملاقاة الأحزاب فجعل شعار المسلمين "هم لا ينصرون" ثم أخذ رأي أصحابه العالمين بشأن الحرب والقتال في تحصين الجانب الشمالي للمدينة، وتنظيم المجاهدين, والاستعداد للقتال والمواجهة فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق عميق، واسع، يغطي المنطقة الشمالية، المفتوحة بطولها، الممتد من الحرة الشرقية إلى جبل سلع. ولم يكن للعرب معرفة بالخندق في حروبهم السابقة؛ لأنهم تعودوا المواجهة المباشرة، والتلاحم اللصيق كما حدث في "بدر" و"أحد" ولذلك فوجئ الأحزاب حين مجيئهم بهذا الخندق الذي حفره المسلمون بعدما أخذوه من أساليب الفرس القتالية وكما ذكره لهم سلمان الفارسي رضي الله عنه ولذلك قال المشركون حين رأوا الخندق: والله إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها1. رحب رسول الله بفكرة الخندق، وأمر أصحابه بالحفر، وأشار لهم صلى الله عليه وسلم بأهميته فعمل المسلمون فيه بجد ونشاط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم، ويساعدهم في عملهم هذا بعدما قسم الحفر على المهاجرين والأنصار، وجعل لكم عشرة من الصحابة أربعين   1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ذراعًا يحفرونها ويسوونها، على الطريقة الفارسية ليكون الحرف قائمًا، عموديا على بطن عريض مستقيم. وقد بلغ طول الخندق خمسة آلاف متر في عرض بلغ ستة أمتار، وعمق بلغ خمسة أمتار، وتم الحفر في مدة تقل عن نصف شهر عمل خلالها المسلمون بكل جد، واشتغل النبي صلى الله عليه وسلم معهم، ففي البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره1 وعن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا2 وعن البراء بن عازب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا قال: ثم يمد بها صوته بآخرها3 ويرددها، ويقول: "أبينا، أبينا، أبينا". واستمر المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع الذي يفتت الأكباد ويقعد عن العمل.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص319 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص320. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يقول أنس رضي الله عنه كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير, فيصنع به إهالة سخنة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتن. يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا أمامه بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. وأثناء حفر الخندق عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الغلمان فأجاز منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب لبلوغهم خمسة عشر عامًا كاملة, ورد من هم دون ذلك، إلا أنه صلى الله عليه وسلم سمح لهم بالاشتراك في حفر الخندق، وعادوا بعدها إلى المدينة. واصل المسلمون عملهم في الحفر، فكانوا يعملون بالنهار، ويذهبون للمبيت في بيوتهم ليلا حتى أتموا الحفر. وعندما وصل الأحزاب قرب المدينة فوجئوا بالخندق يمنعهم من دخول المدينة، فأخذوا يدورون حوله ليعثروا على نقطة ضعف، أو مكان ضيق يجتازونه فلم يجدوه، فأسقط في أيديهم فوقفوا على شاطئ الخندق، مكتفين بالحصار بدل القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 رابعًا: سير القتال عسكر الأحزاب في الجهة الشمالية من الخندق، ووقف المسلمون قبالتهم من الجهة الجنوبية، وجعلوا ظهورهم إلى جبل "سلع" وبذلك تمكن المسلمون من منع الأحزاب من القفز على الخندق، أو بناء قنطرة يعبرون فوقها إلى المدينة وقد بلغ عدد المسلمين أربعة آلاف مقاتل. وفي أثناء ذلك أعلن بنو قريظة انضمامهم إلى معسكر الأحزاب، وكان يسكنون في ضواحي المدينة من الناحية الجنوبية، وبإمكانهم التسلل إلى داخل المدينة، لمعرفتهم السابقة بمسالكها وأهلها، ولو قدر لليهود أن ينجحوا في مهاجمة المدينة وإتيان المسلمين من ظهورهم لكانت ضربة أليمة للمسلمين. لقد عمل اليهود على مهاجمة تجمع نساء المسلمين وأطفالهم فأرسلوا رجلا منهم يحدد مكانهم ويعرف غرتهم ويكتشف الطريق إليهم، لكن هذا اليهودي لم يتمكن من القيام بمهمته لأن امرأة مسلمة رأته يستطلع المواضع التي يوجد فيها النساء والأطفال ففاجأته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 بضربة فوق رأسه بخشبة كانت معها فقتلته. يقول ابن إسحاق: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وهي التي روت الحادثة حيث قالت: وكان حسان معنا في الحصن مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، ولا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إذا أتانا آت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. قال حسان: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا تقول صفية: فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئًا احتجزت ثم أخذت عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاستلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. قال حسان: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب1. وعندما وجد يهود "بني قريظة" أن دسيستهم لم تعد إليهم ظنوا وجود حراس، ورجال مع النساء والأطفال فقبعوا في بيوتهم، وانصرفوا عن مهاجمة المدينة، ولم يخرجوا إلى قتال، واكتفوا بمد الأحزاب بالمؤن والطعام. ولما علم المسلمون وهم عند الخندق، بمقتل هذا اليهود ملكهم الخوف على نسائهم وذراريهم، ووجدوا أنفسهم أمام عدو يواجهونه في الخندق، وآخر يأتيهم من خلف ظهورهم، فزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتوقعوا هزيمة مفاجئة. وهنا فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وأراد أن يضع له حلا فبعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة.   1 سيرة النبي ج2 ص227، 228 وهذا حديث متصل صحيح ومع ذلك فإنه لا يدل على جبن حسان رضي الله عنه ويرجع سبب عدم خروجه لاعتلال صحته هذا اليوم وهو سبب بقائه خلف المجاهدين, ويرد البعض الحديث لعدم جبن حسان لأنه رضي الله عنه لو كان جبانًا لهجاه الشعراء بهذه الصفة, ولكن أحدًا لم يعارضه بهذه الصفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين "سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة" فذكر لهما ذلك، واستشارهما فيه. فقالا: يا رسول الله هل هذا أمر أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم أنه شيء تصنعه لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم". فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله، ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة، إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا، وأعزنا بك، وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك". فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال ليجهدوا علينا1. فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال إلا أن بعض رجال من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس أحد بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب بن مرداس أحد بني محارب بن فهر تحمسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيئوا يا بني كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا بخيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانًا من الخندق ضيقًا، فضربوا خيلهم، فاقتحمته فجالت بهم في السبخة بين الخندق، وسلع. وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى سدوا الثغرة التي اقتحم الفرسان منها خيلهم.   1 زاد المعاد ج3 ص273، سيرة النبي ج2 ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وأقبلت الفرسان في عزيمة وقوة وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم "بدر" حتى ثبتته الجراحة، فلم يشهد "أحدا" فلما كان يوم "الخندق" خرج معلمًا ليرى مكانه فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال: أجل. قال له علي: فإني أدعوك إلى الله، وإلى رسول الله، وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال له: لم يابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك. قال له علي: لكني والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي رضي الله عنه فتنازلا، وتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق وولت هاربة إلى حيث يوجد الأحزاب1. ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه فإنه ليس للعرب درع خير منها؟ فقال علي رضي الله عنه: ضربته فاتقاني بسوءته، فاستحييت من ابن عمي أن أسلبه، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: "هو لكم لا نأكل ثمن الموتى". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية". ولم يقبل منهم شيئًا2. تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة، ويقول: "ما   1 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص285، 286. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أخشى أن يؤتى الناس إلا منها". فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حضني قد دفئ وهو يقول: "ليت رجلا صالحًا يحرس هذه الثلمة الليلة". فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. فقال سعد بن أبي وقاص: سعد يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "عليك هذه الثلمة فاحرسها". تقول عائشة: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمعت غطيطه. وكان عباد بن بشر، والزبير بن العوام، على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكنا في قر شديد، فإني لأنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق ". ثم نادى عباد بن بشر. فقال عباد: لبيك! قال: "أمعك أحد"؟. قال: نعم، أنا في نفر من أصحابي نحرس قبتك. قال صلى الله عليه وسلم: "خذ أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيل المشركين تطيف بكم، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة، اللهم فادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم واغلبهم فلا يغلبهم أحد غيرك". فخرج عباد في أصحابه فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق، وقد نذر بهم المسلمون فرموهم بالحجارة والنبل حتى أذلقهم المسلمون بالرمي، فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم. قال عباد: ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي فأخبرته. قالت أم سلمة: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدًا. وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا, ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هبيرة بن أبي وهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب يومًا، حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا، متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم: وهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي في آخرين، فناوشوا يومًا بالنبل ساعة، وهم جميعًا في وجه واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله، وقال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرق الله وجهه في النار". ثم إن الأحزاب عبئوا قوتهم، واشتدوا في القتال بدءًا من السحر إلى هوى من الليل حتى شغل النبي والمسلمون معه عن صلاة الظهر، والعصر، ولم يتمكنوا من صلاتهما إلا بعد أن كشف الله الأحزاب1. واستمر الحصار مدة طويلة قاربت شهرًا فتأثر جيش المشركين، وخارت معنوياته وأصيب بالألم من الوضع الذي وجد فيه نفسه. فهو لم يفعل شيئًا طوال هذه المدة، ولم يحقق نتيجة تذكر وهو يعيش في جو شديد البرودة، ومؤنة بدأت في النفاذ واستمرارية هذا الوضع لا تتفق مع استعداداته وخبرته، لأنه جاء للقتال يومًا أو بعض يوم، وليس من خبرته التعامل من وراء الخندق والبقاء ساكنًا في مكان واحد مدة طويلة. وهو لم ير من اليهود شيئًا يساعد على تغيير هذا الوضع، بعدما أمل منهم مهاجمة النساء والأطفال لينصرف المسلمون أو بعضهم للدفاع عن ذراريهم، فتتخلخل الجبهة ويتمكن القرشيون من اقتحام الخندق، ومهاجمة المدينة. وبدأت علائف خيل وإبل القرشيين تنفذ فاستعانوا باليهود فأعانوهم بما طلبوا، غير أن الله جعلها للمسلمين، ذلك أن أبا سفيان قال لحيي بن أخطب: قد نفدت علافتنا فهل عندكم من علف؟ فقال حيي: نعم مالنا مالك فأصنع ما رأيت، مر القوم يأتوا بحمولة فيحملوا ما   1 المغازي ج2 ص469. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أرادوا، فأرسلوا عشرين بعيرًا، فحملوها شعيرًا، وتمرًا، وتبنًا، وخرجوا بها إلى قريش حتى إذا كانو بـ"صفنة"1, وهم يريدون أن يسلكوا "العقيق" قابلوا جمعًا من بني عمرو بن عوف، وهم عشرون رجلا، فيهم أبو لبابة بن عبد المنذر، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، خرجوا لميت لهم مات منهم في حصنهم ليدفنوه فناهضوا الحمولة وقاتلهم القرشيون ساعة وكان فيهم ضرار بن الخطاب فمنع الحمولة ثم جرح فغلبهم المسلمون وأخذوا الإبل بحمولتها، وانصرفوا بها يقودونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما دفنوا ميتهم، وفكان أهل الخندق يأكلون منها، فتوسعوا بذلك وأكلوه حتى نفد، ونحروا من تلك الإبل أبعرة الخندق، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة. فلما رجع ضرار بن الخطاب إلى القرشيين أخبرهم الخبر. فقال أبو سفيان: إن حييًا لمشئوم، ما أعلمه إلا قطع بنا، ما نجد ما نتحمل عليه إذا رجعنا2 ثم إن الله -عز وجل وله الحمد- صنع أمرًا من عنده خذل به العدو, وهزم جموعهم، وفل قوتهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلا من غطفان يقال له "نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي رضي الله عنه" جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة". فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيرًا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودى إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم، وأبناؤكم ونساؤكم لن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وتركوكم ومحمدًا فينتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نعيم؟   1 صفنة بفتح الصاد وسكون الفاء. 2 المغازي ج2 ص470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودى لكم ونصحي لكم؟ قالوا: نعم. قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك. فلما كانت ليلة سبت من شوال بعث الأحزاب إلى اليهود وقالوا لهم: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فأرسل إليهم اليهود أن اليوم هو يوم سبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدًا1. قالت قريظة: صدقكم والله نعيم. فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم، وسرى بينهم التخاذل، ثم أرسل الله عليهم جندًا من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طنبًا إلا قلعته، كما أرسل الله سبحانه وتعالى جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، فلم يقر لهم قرار، وشعروا بالهزيمة، وبدءوا في الرحيل إلى مكة2. يروي ابن كثير صورة الساعات الأخيرة للمشركين عند الخندق فيقول: ذكر حذيفة أحوال المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا، وفعلنا.   1 زاد المعاد ج3 ص273، 274. 2 سيرة النبي ج2 ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فقال حذيفة: لا تتمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحًا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه فيها. فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون إن بيوتنا عورة وما هو بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، وحين يأذن لهم يتسللون ويرجعون. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبلنا رجلا رجلا، حتى أتى عليّ وما عليّ جنة من العدو ولا من البرد، إلا مرط لمرأتي ما يجاوز ركبتي فأتاني وأنا جاث على ركبتي. فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا". فقلت: حذيفة! فقال: "حذيفة". فتقاصرت للأرض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه كائن في القوم خبر فأتى بخبر القوم". وأنا من أشد الناس فزعًا وأشدهم قرًا فخرجت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته". يقول حذيفة: فوالله ما خلق الله فزعًا، ولا قرًا في جوفي، إلا خرج من جوفي، فلم أجد فيه شيئًا. فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم: "يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئًا حتى تأتيني". فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم، يشير بيديه على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل. ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهمًا من كنانتي، أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرمي به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثن فيهم شيئًا حتى تأتيني". فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل. الرحيل، لا مقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرًا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم، الريح تضرب بها. ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق، أو نحو من ذلك، إذ أنا بنحو من عشرين فارسًا، أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل على شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرحلون1. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رد الله عدوه بغيظهم، لم ينالوا خيرًا وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ولما رحل المشركون رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه من الخندق في يوم الأربعاء السابع من ذي القعدة من العام الخامس الهجري، وسر المسلمون برجعوهم منتصرين، وأسرعوا إلى المدينة هربًا من القر والجوع، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السرعة حتى لا يظن المنافقون والأحزاب بهم ضعفًا. وقد استشهد من المسلمين ستة شهداء وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك, وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عتمة، وكعب بن زيد النجاري رضي الله عنهم، ورحمهم وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة، وعمرو بن عبد ود، ولم يشترك المنافقون في قتال؛ لأنهم كانوا بادين في الأعراب خارج المدينة2. إن معركة الأحزاب كانت هجمة شرسة من كافة مشركي الجزيرة العربية، وعلى رأسهم القرشيون الذين جاءوا إلى المدينة، ومعهم خبرة الغزوات السابقة، فكثروا العدد، وقصدوا اقتحام المدينة، والقضاء على أهلها، وإعادة اليهود إليها مرة أخرى.   1 البداية والنهاية ج4 ص114، 115 وانظر الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص80. 2 البداية والنهاية ج4 ص115، 116 وقد عاش سعد بن معاذ بجراحه حتى انتهى المسلمون من بني قريظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 لكن الله تعالى وفق المسلمين بحفر الخندق، ووضع النساء والأطفال في أماكن حصينة وسط المدينة فانقلب الأمر، ولم يحقق المشركون شيئًا من أهدافهم بل إنهم شعروا بضعفهم وتأكدوا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في رعاية الله تعالى، بعدما عجزوا بهذا الجمع الذي لن يتمكنوا من جمعه مرة أخرى، وقد رأوا كيف أيد الله سبحانه وتعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يتوقعوه من ريح عاتية، وأعاصير مدمرة، وجدت حول الخندق فقط، وملائكة رأوا أثارهم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم" 1. وقد كتب أبو سفيان كتابًا أرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: "باسمك الله، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود أبدًا حتى نستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد"2. فلما قرأها أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبته, كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب، أما بعد، فقديمًا غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق؟ فإن الله ألهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وإساف، ونائلة، وهبل، حتى أذكرك ذلك" 3.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب الخندق ج6 ص326. 2 المغازي ج2 ص492. 3 وفاء الوفاء ج2 ص344 المغازي ج2 ص493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في يوم الخندق أحاط الله المسلمين بالعون، ونصرهم على عدوهم، وأكرمهم في وقت شدتهم، وعاشوا هذه المعونة في أعمال خارقة للعادة أتتهم من قبل الله تعالى ومنها: 1- ظهور عوامل النصر: لما اشتد الأمر بالمسلمين كانت عناية الله بهم، فهزم عدوهم بأمور خارقة حيث جاءت العواصف، والسيول، والرعب، وملائكة الله تعالى، وانقسام الأحزاب على أنفسهم وتلك كلها أهم عوامل انتصار المسلمين على نحو ما سبق ذكره. 2- كسر الكدية الصخرية: لما بدأ المسلمون في حفر الخندق وواجهتهم بعض الصخور الصلبة، حاولوا تفتيتها مدة ثلاثة أيام فعجزوا، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه الأمر فكسرها من ضربة واحدة. يروي البخاري بسنده عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا صلى الله عليه وسلم فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا نازل". ثم قام، وبطنه معصوب بحجر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضربه فعادت الكدية كثيبًا أهيل، أو أهيم1. يقول ابن إسحاق بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث: أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيًا لانهالت حتى عادت كالكثيب لا ترد فأسًا، ولا مسحاة2.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الأحزاب ج6 ص320. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 3- تكثير الطعام: عاش الصحابة رضوان الله عليهم، وهو عند الخندق بلا طعام مدة ثلاثة أيام فأصابهم الجوع، فرزقهم الله تعالى من حيث لا يتوقعون، يروي البخاري بسنده أن جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم، خمصًا شديدًا، فأخرجت لي جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساورته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعًا من شعير، كان عندنا، فتعال أنت، ونفر معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحي هلا بكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء". فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الذي قلتِ، فأخرجت له عجينًا، فبصق فيه صلى الله عليه وسلم وبارك ثم عمد إلى برمتنا، فبصق وبارك، ثم قال: "ادع خابزة فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". وهم ألف، فأقسم بالله، لقد أكلوا، حتى تركوه، وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو1. ويروي ابن إسحاق بسنده عن أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حُفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي، وخالي فقال صلى الله عليه وسلم: "تعالي يا بنية، ما هذا معك"؟. فقالت: يا رسول الله، هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديانه.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص322، 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 قال صلى الله عليه وسلم: هاتيه. قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتها، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: "اصرخ في أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء". فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب1. 4- إظهار غيب المستقبل: تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم "الخندق" بانتشار الإسلام في العالم، وذكر انتهاء غزو القرشيين للمدينة، يقول البراء بن عازب: لما كان يوم "الخندق" عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فشكونا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فوضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة وأخذ المعول فقال صلى الله عليه وسلم: "بسم الله". ثم ضرب ضربة كسرت ثلث الصخرة وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة من مكاني هذا". ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض الآن". ثم ضرب الثالثة، فقال: "بسم الله". فقطع بقية الحجر، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر صنعاء من مكاني هذا" 2.   1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص218. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني باب ما جاء في غزوة الخندق ج21 ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 سادسًا: حركة الدعوة خلال أيام الخندق تعتبر غزوة "الخندق" اختبارًا قاسيًا للمسلمين في المدينة، وقد وفقهم الله تعالى للصمود في هذا الامتحان الشديد، وساهموا جميعًا في حفر الخندق، وقد شجعهم على النشاط والعمل، مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحفر، بل نراه صلى الله عليه وسلم في مقدمة العاملين وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم العمل على أصحابه بالتساوي، ولم يخص أحدًا من قرابته، أو خاصته براحة في العمل، ولم يميز بعضًا منهم بمزايا، وجمع صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين مع سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المسلمات في المساكن الحصينة التي اختارها لهن، ولأطفالهن وسط المدينة. وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يلزم المسلمون بالعمل وفق الخطة الموضوعة، بحيث لا يترك العمل أحد من المسلمين إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع المسلمين بحكمة ومودة، إذ تراه صلى الله عليه وسلم حين اختلف المهاجرون والأنصار في معية سلمان الفارسي أثناء الحفر حيث رغب كل من المهاجرين، والأنصار أن يكون معهم، وقالوا: إنه منا. قال لهم صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا آل البيت" 1. ووضعه مع مجموعة من الصحابة ضمت ثلاثًا من المهاجرين، وستة من الأنصار على أن يكون سلمان رضي الله عنه أمير المجموعة، فرضي بذلك الجميع. وكان صلى الله عليه وسلم يتعامل برفق، ويحافظ على إرضاء نفوس المؤمنين فإنه صلى الله عليه وسلم لما رد الغلمان في بداية حفر الخندق رضي منهم أن يشاركوا في الحفر تطييبًا لخواطرهم، وحفاظًا عليهم. وكان صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأصحابه، إذ نراه لما اشتد البرد كان يضم بعضهم إليه، ويعطيه مرطًا يلبسه، بعد أن أخذه من بعض نسائه صلى الله عليه وسلم، وكان يداعب أصحابه، ويتلطف معهم في الحديث. يروي مسلم بسنده أن رجلا قابل حذيفة فقال له: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه، وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة، وقر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم, جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه أحد. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم, جعله الله معي يوم القيامة". فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم". فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم، حيث قال: "اذهب يا حذيفة فائتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ". فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره النار، فوضعت سهمًا   1 المغازي ج2 ص446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تذعرهم عليّ". ولو رميته لأصبته, فرجعت، وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم, وفرغت, قررت فألبسني من شدة البرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت قال: "قم يا نومان" 1. فلم يفزعه صلى الله عليه وسلم وإنما كناه وسرى عنه، وغطاه من البرد حتى استيقظ. ونظرًا لاشتغال المسلمين بالمعركة أذن لهم صلى الله عليه وسلم بالصلاة حيث يعسكرون، ولذلك تأسست سبعة مساجد على الخندق، نسبت إلى من كان يؤم الصحابة بها ويقودهم في موقعة مثل مسجد أبي بكر، ومسجد عمر، ومسجد عثمان، ومسجد علي، رضي الله عنهم, وبذلك استمرت حراسة الخندق ليلا ونهارًا، رغم البرودة الشديدة وأذن لهم صلى الله عليه وسلم بتعدد الجماعات مراعاة للحال وبخاصة أن صلاة الخوف لم تكن شرعت بعد. وكان صلى الله عليه وسلم يمر على المسلمين في مواقعهم ليشرف عليهم ويوجههم إلى ما يجب أن يكون. وقد تعلم المسلمون من فنون الحرب أهمية اكتشاف الأساليب المناسبة للتعامل مع العدو عددًا، وعدة, إذ لولا الخندق الذي حفره المسلمون لأصيبوا بهزيمة منكرة، ولا مانع من اكتساب خبرة الآخرين المفيدة للإسلام وللمسلمين. واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتضليل أعدائه وخداعهم وفك وحدتهم ونشر الشائعات بين صفوفهم، وذلك من أهم طرق هزيمة العدو وانكساره. وكان صلى الله عليه وسلم يعمل على المحافظة على روح القتال، وحب الشهادة بين المسلمين. وكان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بالنصر، وينبئهم بأخبار الوحي، وكان يمر على أصحابه يطمئن عليهم، ويجلب الطعام والمئونة لهم، ويطمئنهم على نسائهم، وذراريهم. وكان صلى الله عليه وسلم يناجي ربه، ويكثر من الدعاء على المشركين، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم على الأحزاب في يوم الخندق ما رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي خالد أنه قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم   1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني باب ما جاء في استجابة الله دعاء نبيه ج21 ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وزلزلهم" 1. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو، أو الحج، أو العمرة، يبدأ فيكبر ثلاث مرار، ثم يقول: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وله الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" 2. دعا النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين لأنهم شغلوا المسلمين عن صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم، وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" 3. ولم يكن اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه مقتصرًا على ميدان المعركة عند الخندق، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يهتم بنساء المسلمين وذراريهم، فلقد كلف فريقًا بحراستهم، والدفاع عنهم، وكان دائم الحذر من بني قريظة: حينما خافهم على نساء المسلمين وأبنائهم. وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه فلقد أخذ برأي سلمان في حفر الخندق، وحينما فكر في إعطاء بني غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يتركوا قريشًا ويرجعوا أخذ برأي الأنصار، ونزل على رأيهم حين رفضوا ما اتفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلال الغزوة تعلم المسلمون أحكام الصلاة إذا فات وقتها لعذر، فلقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن وأقام للظهر، وأقام بعد ذلك لكل صلاة إقامة، فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها وبذلك كان للفوائت آذان واحد، وإقامة لكل صلاة4. وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الأحزاب، قائدًا للمسلمين، وداعيًا إلى الله تعالى، ومعلمًا حكيمًا، ومرجعا في الحكم والتشريع، وكان قدوة صالحة للمسلمين كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص327. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص328. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الخندق ج6 ص326. 4 في البخاري ومسلم أن المسلمين فاتتهم صلاة العصر، وفي الموطأ فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، وفي مسند أحمد فاتتهم صلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. وطرق الجمع بين هذه الروايات أن غزوة الخندق استمرت أيامًا فكان هذا في يوم، وذلك في يوم آخر ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 سابعًا: الأحزاب في رحاب القرآن الكريم سجل القرآن الكريم أحداث غزوة الأحزاب، وبين مواضع العبرة والعظة فيها، وجعلها منطلقًا للهداية، والرشد، وحسن الاتباع، وبنى عليها ضرورة الإخلاص في العبودية، وأهمية الصدق في الالتزام والطاعة؛ لأن ما حدث كان نصرًا إلهيًا واضحًا، قدره الله لعباده المؤمنين. وقد سمى الله تعالى إحدى سور القرآن باسم الغزوة، وهي السورة المعروفة بسورة "الأحزاب" المدنية المكونة من ثلاث وسبعين آية، وعدد الآيات التي تحدثت عن الغزوة في السورة ست عشرة آية بالإضافة إلى آيتين تحدثتا عن بني قريظة. وتبدأ الآيات بتذكير المؤمنين بفضل الله عليهم بعد مجيء الأحزاب المدينة, إذ إنه بعدما اشتد الأمر على المسلمين، أرسل الله ريحًا وجنودًا لا ترى وسلطها على هؤلاء البغاة من الأحزاب الذين أحاطوا بالمسلمين من الخارج والداخل، فأهلكتهم وهزمتهم في وقت ظن المؤمنون أن النصر بعيد وأن الهزيمة آتية، وكان هذا قمة البلاء وغايته، وبعدها جاء نصر الله تعالى, وهذا لون من التربية العملية التجريبية، كون الله بها الجماعة المسلمة الأولى يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} 1. والآيات ترسم بداية المعركة ونهايتها، وتشير إلى أهوالها وأحداثها بإجمال، وتصور ما أصاب المسلمون من خوف وهلع، حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المسلمون بالله ظنًا كثيرًا. وأما المنافقون فقد انتهزوا الموقف، وأخذوا يخذلون المسلمين، ويظهرون الشماتة، وينادون بترك الخندق، ويرجعون معتذرين بالأكاذيب، ويتهمون الرسول بأن وعده   1 سورة الأحزاب: 9-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 بالنصر ليس صادقًا فنقضوا عهودهم، وأظهروا خبء قلوبهم، وحقيقة أمانيهم, يصور الله تعالى أحوال وأعمال المنافقين فيقول سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} 1. إن هؤلاء المنافقون أظهروا عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللإسلام، وخرجوا من صمتهم المخادع، وأخذوا ينشرون أكاذيبهم التي أشارت الآيات إلى أهلها، قالوا: - ما وعدنا الله ورسوله إلا بأمور لم تتحقق بعد أن غررا بنا. - طالبوا "لعنهم الله" المؤمنين بالعودة إلى المدينة، لينجوا من الهلاك والقتل. - بدءوا بالرجوع، وترك ميدان القتال بدعوى أن بيوتهم عورة، وهي ليست كذلك. - تؤكد الآيات ضعف إيمان المنافقين، لأنهم سرعان ما يرتدون، ويتركون ما آمنوا   1 سورة الأحزاب: 12-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 به، بمجرد توقع فتنة، وهؤلاء في الحقيقة لا دين لهم. - لا عهد لهؤلاء المنافقين، فقد دخلوا في الإسلام وعاهدوا الله على الثبات والصبر والتحمل، لكنهم نكصوا ولم يفعلوا شيئًا مما عاهدوا الله عليه. - يؤكد القرآن الكريم أن المنافقين صنف معاد للإسلام يعيش بين المسلمين، فهم معوقون، حاقدون، يعملون كل ما يضر الإسلام والمسلمين. - الأمر كله بيد الله تعالى، وحين ينزل بأسه على المنافقين لن ينجيهم منه أحد. وأما المؤمنون الصادقون فأسوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهابون موتًا، ولا يشكون في صدق رسولهم، ويسيرون على منهج الله الذي أخذوه، ويزداد إيمانهم عند الشدة، ويتمسكون بالطاعة والتسليم, فمنهم من لقي الله شهيدًا، ومنهم من ينتظر دوره، في صدق وإخلاص، يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 1. وتبين الآيات نتيجة المعركة، وتؤكد صدق الله ورسوله، وكذب من ادعى غير ذلك من المنافقين، ومن في قلبه مرض. وتختم الآيات تناولها لأحداث غزوة الأحزاب ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة نقض العهد، وجزاء الوفاء به، وبيان أهمية، وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله تعالى فيقول سبحانه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} 2.   1 سورة الأحزاب: 21-23. 2 سورة الأحزاب: 24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ومثل هذا التعقيب بتخلل تصوير الحوادث والمشاهد ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع، فليس شيء منها عبثًا أو مصادفة، إنما تقع الأحداث وفق حكمة مقدرة، وتدبير مقصود، وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب، وفيها تتجلى رحمة الله بعباده. إن الأمر كله من أوله إلى منتهاه صناعة إلهية تضع الإنسان أمام حقيقته، وتكشف أمام بصيرته وبصره جلال الخالق وعظمته، وتجعل الجزاء ملائمًا للطاعة، وتدبر العاقبة في خط متواز للعمل والسلوك. وتختتم الآيات بالحديث عن الآثر الضخم المتصل بأعمال المنافقين والمرجفين، وتظهر خطأ تصوراتهم، وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية. وهكذا بدأت المعركة وسارت في طريقها وانتهت إلى نهايتها وزمامها في يد الله يصرفها كيف يشاء. وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره، فأسند إلى الله تعالى إسنادًا مباشرًا كل ما تم من الأحداث، والعواقب، تقريرًا لهذه الحقيقة، وتثبيتًا لها في القلوب، وإيضاحًا للتصور الإسلامي الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية مدخل ... المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية حاول أعداء الإسلام القضاء عليه لتستمر وضعيتهم الظالمة القائمة على استعباد الناس واستغلال الضعفاء، والاستغراق في شهواتهم المادية رغم ما فيها من جور وعدوان. وقد تجلت هذه المحاولات في التضييق على المسلمين قبل الهجرة، والإصرار على القتال في "بدر"، والمجيء إلى المدينة لمقاتلة المسلمين في "أحد" و"الأحزاب". لقد اعتمدت محاولات أعداء الإسلام على إشاعة الأكاذيب، وتضليل العامة، وتوجيه القبائل لكراهية الإسلام، والعمل على القضاء على المسلمين، وصد الناس عن دينهم الذي يعيشون به وله. ولا يمكن لعاقل أن يسلم بأحقية هذه المحاولات الظالمة، لأن الإسلام في جوهره دين يخلص الناس من العبودية لغير الله، ويربطهم بقيم نبيلة، وأخلاق عالية، ويجدد الحقوق والواجبات لكل مخلوق، ويضع منهجًا ينظم كافة جوانب الحياة، ويصون الكرامة الإنسانية للبشر أجمعين. إن الإسلام دين يحقق السعادة، وينشر السلام، ويحفظ النفس، والعقل، والولد، والمال، والعقيدة؛ ولذلك فهو دين يتوافق مع العقل السوي، والمصلحة الحقيقة لسائر الأحياء، ولكافة جوانب الحياة, وكل من يتدبر تعاليم الإسلام ينكر أي عدوان فيها ولا يصدق أي كلام يقال عن الإسلام مهما تزين، وتزخرف. رأى المسلمون محاولات الأعداء ضد دينهم فرفضوها، وكان الله معهم فشرع الجهاد على مراحل متعددة، ليتفق التشريع مع كل جديد يحتاج إليه. لقد بدأ تشريع الجهاد بالإذن فيه بعد الهجرة, ثم كان الأمر بقتال من يعتدي عند "أحد" وأخيرًا كان الأمر بالقتال العام بعد الخندق؛ لأن الأحزاب حين تجمعوا، وأتوا من كل صوب وحدب، كانوا يقصدون القضاء على المسلمين والإسلام، وبهذا بلغوا قمة التحدي، ومثلوا غاية العدوان في استهتار واضح بالقوة الإسلامية. ولما تجمع الأحزاب حول المدينة بانت حقيقة اليهود، والمنافقين، وقبائل الجزيرة جميعًا وتأكد المسلمون أن وجود اليهود، والمنافقين في المدينة، أو في ضواحيها، يمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 خطورة بالغة لأنهم على علم بأحوال المسلمين وأخبارهم، ويمكنهم مفاجأة المسلمين، والغدر بهم في أي وقت كما أن لهم صلات بأهل مكة وبالقبائل العربية يستغلونها في إشاعة الأكاذيب، وصرف الناس عن التفكير في حقيقة الإسلام. إن المسلمين عباد الله، وهبوا أنفسهم للحق، وجعلوا أرواحهم في خدمة دينهم، ولذلك عز عليهم تصرفات أعدائهم, وصدهم الناس عن دين الله تعالى, فلما فرض القتال العام بعد الأحزاب أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، في توجيه أصحابه للتصدي للطغاة المعتدين لأن إمهالهم يعطيهم فرصة للإعداد، والتجهيز، وإعادة مهاجمة المدينة مرة أخرى. لقد صدق الله وعده للمسلمين في يوم الأحزاب، فأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأرسل عليهم ريحًا، وجنودًا من الملائكة، وأدخل الرعب في قلوبهم، حتى تمكن المسلمون منهم ففروا هاربين كل إلى موطنه الذي جاء منه. وقد فهم الأحزاب، وكل من والاهم نتيجة معركة الخندق على غير وجهها الصحيح الأمر الذي أدى بهم إلى اتخاذ مواقف خاطئة، ذلك أنهم ربطوا هزيمة الأحزاب بأسباب بعيدة عن الحقيقة، حيث أرجعوها إلى تغير المناخ، وهبوب الريح، وشدة الأعاصير، وتصوروا أن ما حدث أمر طبيعي رأوا مثله في فيافي الجزيرة كثيرًا، وليس بلازم أن يتكرر مرة أخرى في أي لقاء لهم مع المسلمين, وفكروا كذلك في انقسام الأحزاب على أنفسهم، وشك كل فريق في غيره، عندما تصور كل منهم أن الفريق الآخر نقض عهده إما لانضمامه للمسلمين، أو لخوفه منهم. وأدى بهم هذا الفهم إلى استمرار استهانتهم بالمسلمين، فتصوروهم ضعافًا لا يمكنهم الخروج من المدينة، ولذلك استمروا في إعداد العدة، وتجهيز السلاح لمهاجمة المسلمين، كل قبيلة على حدة، مبتعدين عن تكتل القبائل، وتجمع الأحزاب مرة أخرى، بعدما أصيبوا بهذا التجمع عند الخندق. وحقيقة الواقع تؤكد خطأ المشركين في تحليل أسباب هزيمتهم؛ لأن ما حدث قدر إلهي نصر الله به عباده المؤمنين، وهو سبحانه قادر على إعادته وغيره لنصر المسلمين إن نصروا الله، وأخلصوا في الجهاد والنية, وما تفكك الأحزاب، وإحداث الوقيعة بينهم إلا قدر إلهي قضى به ليتم نصره، ويؤيد جنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وكما تأمل المشركون في نتائج معركة الخندق تأمل المسلمون فيها أيضًا، وأدركوا أن الله معهم، وأن جند الله لا ينحصرون في صورة، أو عدد، أو جهة، أو في شيء؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو. وصل المسلمون إلى نتيجة هي الحق حيث رأوا أن القبائل لن تسكت عن مهاجمة المسلمين، وستحاول كل قبيلة أن تفعل كل ما تقدر عليه، وبخاصة أن المسلمين حوصروا ولم يفعلوا شيئًا، ولولا الخندق لقضى الكفار عليهم. لكل هذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تتبع أخبار القبائل، فأرسل عيونه في الجزيرة العربية كلها، فعادوا إليه بتأييد ما توقعه المسلمون، ولذلك كانت الغزوات والسرايا إلى هذه القبائل منعًا لغدرهم، وحتى لا يتمكنوا من الهجوم على المدينة مرة أخرى. وكان الوحي الكريم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى ما يجب عمله، وبذلك تحددت معالم الحركة، واتضحت السبل المؤدية لحماية الإسلام والمسلمين، وشرعها الوحي للناس لتبقي درسًا عمليًا، وخطة واقعية، أمام المسلمين إلى يوم القيامة. لقد كان من الضروري مواجهة العداوات التي بثها المشركون بين القبائل العربية والإسراع في منعهم من الإعداد والهجوم، ولذلك تعددت الغزوات، وكثرت السرايا بعد الأحزاب، ووصلت إلى الأماكن البعيدة في نجد والشام. وقام المسلمون بواجبهم الذي كلفوا به، وقادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وأعانهم في سراياه، وبذلك لم يتركوا ظالمًا يعتدي، ولم يدعو طاغوتًا يستبد ويفتري، وصانوا حرية الدعوة وحرية الناس, وكانوا رضي الله عنهم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة إيجابية دائمة بالإسلام، وسيفًا مسلطًا على رقاب كل معتد أثيم. إن العدل بالمسلمين صار له رجاله، والدعوة إلى الله وجدت في الجهاد خير من يحميها، وأصبح الطريق المستقيم صافيًا، نقيًا. لقد تعددت الأحداث، وتنوعت بعد الأحزاب، واستمرت حتى صلح الحديبية وجرت في مسارها المشروع الذي قدره الله لها، وكما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا المبحث سأتناول أهم هذه الأحداث, وذلك فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أولا: غزوة بني قريظة نقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت عصيب، وانضموا إلى الأحزاب وأخذوا في إمدادهم بالمؤن والطعام وعلف الدواب، وعاش المسلمون بسببهم لحظات عصيبة، خافوا خلالها على أطفالهم ونسائهم من غدر يهود بني قريظة, فلما أتم الله نصره، ورجع الأحزاب إلى ديارهم، عاد المسلمون متعبين إلى دورهم يريدون أن يدفئوا من القر، ويشبعوا من الجوع, لكن الله أمرهم بمواصلة الجهاد. ولما علم يهود بني قريظة بانصراف الأحزاب ملكهم الخوف، وتوقعوا أن يكر المسلمون عليهم لما كانوا يعرفون من تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني قينقاع، وبني النضير، وحدث ما توقعوه فإنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل عليه السلام وقال: قد وضعت السلاح يا محمد؟ والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال صلى الله عليه وسلم: "فإلى أين"؟. قال جبريل عليه السلام: ها هنا وأشار إلى ديار بني قريظة. فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم وقال لأصحابه: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك "وفعل كل ما فهمه" وذكروا ذلك للنبي حين رؤيته فلم يعنف واحدًا منهم1. وتقدمت الملائكة زحف الجيش الإسلامي، يقول أنس رضي الله عنه كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة2.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ج6 ص328. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ج6 ص329. جاء في صحيح مسلم أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم تناول صلاة الظهر، مخالفًا ما رواه البخاري في صحيحه، والجمع بين الروايتين في كونها الظهر أو العصر محمول على أن هذا الأمر كان بعد دخول وقت الظهر، وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وللذين صلوا بالمدينة لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة. ويحتمل أنه قيل للجميع: لا تصلوا العصر ولا الظهر إلا في بني قريظة، ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان اللواء على حاله الذي كان عليه عند الخندق لم يتغير. وأخذت الملائكة تدعو المسلمين إلى الخروج لبني قريظة، فعن محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من بني النجار فيهم حارثة بن النعمان، قد صفوا صفين عليهم السلاح فقال: "هل مر بكم أحد"؟. قالوا: نعم، دحية الكلبي، مر على بغلة، عليها رحاله، عليها قطيفة من إستبرق، وأمرنا بحمل السلاح، فأخذنا سلاحنا وصففنا، وقال لنا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم" 1. وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لسبع بقين من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وتبعه المسلمون في ثلاثة آلاف مقاتل، ومعهم ستة وثلاثون فرسًا، وعسكر الجيش الإسلامي عند بئر لبني قريظة يعرف ببئر "أنَّا" بأسفل حرة بني قريظة2. وتكامل تجمع المسلمين عند البئر، واجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصونهم، وعبأ أصحابه، ونظمهم حول الحصون، وأمرهم أن يرموهم بالنبال، وأن يتعاقبوا في الرمي، حتى لا يتركوا لهم وقتًا يستريحون فيه. وفي آخر النهار أيقن اليهود بالهلكة، فأمسكوا عن الرمي، وأرسلوا نباش بن قيس فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من الأموال والسلاح، وتحقن دماؤهم، ويخرجوا من المدينة بالنساء والذراري، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال نباش: تحقن دماءنا، وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه.   1 سيرة النبي لابن هشام ج2 ص234. 2 المغازي ج2 ص496، 499. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وعاد نباش إليهم بذلك. فلما أتاهم نباش برفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اقترحوه، قال كعب بن أسد: يا معشر بني قريظة والله إنكم لتعلمون أن محمدًا نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبيًا من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله، ولقد كنت كارهًا لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم حيي بن أخطب فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول، والآخر، فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا. فردوا عليه لن نكون تبعًا لغيرنا نحن أهل الكتاب والنبوة ونكون تبعًا لغيرنا. فجعل كعب يرد عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة وندع ما كنا عليه من أمر موسى. قال كعب: فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمد وأصحابه فإن قتلنا قتلنا وما وراءنا أمر نهتم به، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: ما في العيش من خير بعد هؤلاء. قال: فواحدة قد بقيت من الرأي لم يبق غيرها، الليلة السبت ومحمد وأصحابه آمنون لنا فيها. فنخرج فلعلنا أن نصيب منه غرة. قالوا: نفسد سبتنا وقد عرفت ما أصابنا فيه؟ فصاحت اليهود: لا نكسر السبت. وسقط في أيديهم، وندموا على نقض العهد يوم الأحزاب، ورقوا على النساء والصبيان حينما رأوا ضعف أنفسهم وهلاك النساء والصبيان. فقال لهم كعب: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة حازمًا1. إلا أن فريقًا من بني هدل خالف قومه اليهود، ودخل في الإسلام، ونجا بنفسه، وأمواله، وأولاده، وهم: ثعلبة وأسيد ابنا سعية، وأسيد بن عبيد وأبناؤهم2.   1 البداية والنهاية ج4 ص120. 2 سيرة النبي ج2 وبنو هدل ليسوا من بني النضير، ولا من بني قريظة لأن نسبهم فوق ذلك فهم بنو عمومتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 بعد أن بذلوا النصح الأمين لقومهم ولم ينقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب. واشتد الأمر على اليهود، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل لهم أبا لبابة بن المنذر، وكان لهم نصيحًا، لما بينهم وبينه من حلف؛ ولأن أمواله وأهله بينهم. فلما أتاهم أبو لبابة قال له كعب بن أسد: يا أبا لبابة إنا قد اخترناك على غيرك، إن محمدًا قد أبى إلا أن ننزل على حكمه أفترى أن ننزل على حكمه؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فندمت واسترجعت وأخذت في البكاء، فنزلت وإن لحيتي مبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم فأخذت من وراء الحصن طريقًا أخرى حتى جئت المسجد ولم آت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتبطت، وكان ارتباطي على الأسطوانة المخلقة التي يقال لها "أسطوانة التوبة" وقلت: لا أبرح من مكاني حتى أموت، أو يتوب الله عليّ مما صنعت، وعاهدت الله تعالى بألا أطأ أرض بني قريظة أبدًا، ولا أرى في بلد خنت الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه أبدًا. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهابي وما صنعت، فقال: "دعوه حتى يحدث الله تعالى فيه ما شاء لو كان جاءني استغفرت له، فإذا لم يأتني وذهب فدعوه". وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم في حر شديد عدة ليال لا آكل فيهن، ولا أشرب ولا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ، وأذكر رؤيا رأيتها في النوم، ونحن نحاصر قريظة، كأني في حمأة آسنة، فلم أخرج منه حتى كدت أموت من ريحها، ثم أرى نهرًا جاريًا فأراني اغتسلت فيه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحًا طيبة، فاستعبرتها أبا بكر فقال: لتدخلن في أمر تغتم له ثم يفرج عنك، فكنت أذكر قول أبي بكر وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله تعالى قبول توبتي.   1 سورة الأنفال: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 يقول أبو لبابة: فلم أزل كذلك حتى ما أسمع الصوت من الجهد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ. ومكث أبو لبابة مرتبطًا ست ليال تأتيه امرأته مرة، وابنته مرة أخرى، فتحله حتى يتوضأ، ويصلي ثم يرتبط. واستمر الحال على ذلك حتى نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط: إن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك. فقلت: يا رسول الله مما تضحك أضحك الله سنك. قال صلى الله عليه وسلم: "تيب على أبي لبابة". قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى إن شئت". فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. فسار الناس إليه ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه2. ثم نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بأسراهم فكتفوا رباطًا وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة، ونحوا ناحية، وأخرج النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحية، واستعمل عليهم عبد الله بن سلام وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة دارع، وألفا رمح، وألف وخمسمائة ترس وحجفة، وأثاث كبير، وآنية كثيرة، وخمر وجرار سكر فهريق ذلك كله، ولم يخمس ووجد من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية شيء كثير   1 سورة التوبة: 102. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج2 ص237، 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فجمع هذا كله1. وطلبت الأوس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لهم بني قريظة فإنهم حلفاؤهم، كما وهب لابن أبي بني قينقاع حلفاءه. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضون أيها الأوس أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم"؟. قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: "فذلك إلى سعد بن معاذ". وسعد يومئذ في المسجد في خيمة "رفيدة بنت سعد الأسلمية" وكانت تداوي الجرحى وتلم الشعث، وتقوم على الضائع الذي لا أحد له، وكان لها خيمة في المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعد بن معاذ فيها منذ جرح فخرجت الأوس فحملوه على حمار، والتفوا حوله وأخذوا يقولون له: يا أبا عمرو! إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم فأحسن، فقد رأيت ابن أبي وما صنع من حلفائه، وأكثروا في هذا وشبهه وهو لا يتكلم. ثم قال سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فقال الضحاك بن خليفة بن عبد الأشهل الأنصاري: واقوماه. وقال غيره منهم: نحو ذلك، ثم رجع إلى الأوس فنعى لهم قريظة. فلما جاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله قال: "قوموا إلى سيدكم! فقاموا له على أرجلهم صفين يحييه كل منهم". وقالت الأوس الذين حضروا: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك الحكم فأحسن فيهم، واذكر بلاءهم عندك. فقال سعد: أترضون بحكمي لبني قريظة؟ قالوا: نعم. فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم، ثم قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات" 2.   1 المغازي ج2 ص509، 210. 2 المغازي ج3 ص511، 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الله تعالى، فقتل من بلغ منهم، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنق كعب بن أسد وهو بين يديه، وأمر بـ"نبانة" امرأة الحكم القرظي، وهي من السبي، فقتلت لأنها ألقت من حصن الزبير بن باطا رحى بإشارة زوجها على نفر من المسلمين كانوا يستظلون في فيئه، فشحذت رأس خلاد بن سويد بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مالك الأغر فمات، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم بعدما وزعهم على المهاجرين والأنصار، كما أمر بترك من لم ينبت، وتمادى القتل فيهم إلى الليل فقتلوا على شعل السعف، ثم رد عليهم التراب في الخنادق، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة والخمسين، ولما قتلوا صاحت نساؤهم، وشقوا جيوبهم، ونشروا شعورهم وضربوا خدودهم وملئوا المدينة عويلا وصراخًا1. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقسيم الأموال، والنساء والذراري قسمة الفيء حيث كان الخمس لله، ورسوله، والأربعة أخماس الباقية للناس بسهمها عليهم، وقد أعطى رسول الله الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهمًا واحدًا2. ووصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق بالأسارى، وأمر بأن لا يفرق بين الأم وأولادها، ولا بين الأخوات، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على الأسرى فمن أسلم باعه إلى صحابي مسلم، ومن أبي أمر ببيعه في الشام إلى يهودي، وإذا كان الأسير لا أم له ولا أخوة فإنه يباع لرجل مسلم في المدينة. وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الأسرى فبيعت في نجد، وطائفة أخرى بيعت في الشام وأوصى صلى الله عليه وسلم بشراء أسلحة بثمنها. واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ريحانه بنت زيد، فلما أسلمت ملكها، ودخل بها3. وتخلص المسلمون من بؤرة خطيرة، هددت أمن المسلمين، كانت دائمة التآمر للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد أعدوا عدتهم بالسلاح الضخم الذي استولى عليه المسلمون.   1 المغازي ج3 ص516-517 بتصرف. 2 سيرة النبي ج2 ص244. 3 المغازي ج3 ص521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة حيي بن أخطب بعدما دخل معهم في حصنهم وفاء لما عاهدهم عليه يوم أن ضمهم إلى الأحزاب. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مقتله: "ألم يمكن الله منك يا عدو الله"؟. فقال: بلى والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولقد التمست العز في مظانه، وأبى الله إلا أن يمكنك مني، ولقد قلقلت كل مقلقل، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس لا بأس بأمر الله، قدر وكتاب، ملحمة كتبت على بني إسرائيل1. ولم يقتل من النساء إلا واحدة هي زوجة الحكم القرظي، واستشهد من المسلمين يوم بني قريظة، رجلان هما: خلاد بن سويد من الخزرج، وأبو سفيان بن محصن، ودفن الأول في البقيع، ودفن الثاني في ديار بني قريظة2. ولما تم أمر بني قريظة استجاب الله دعوة سعد بن معاذ الذي جرح يوم أحد وحكم في بني قريظة بحكم الله ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها، واجعل موتي فيها فقد أقررت عيني من بني قريظة3. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضعه بعد أحد يعالج في المسجد، في خيمة أقامها لعلاج الجرحى، وهي الخيمة المعروفة بخيمة "رفيدة بنت سعد الأسلمية"، وقد أتى به الأوس من الخيمة، وأركبوه حمارًا ليحكم في بني قريظة، فلما تم الأمر وعاد سعد إلى الخيمة انفجر جرحه ومات رضي الله عنه، فحمل إلى بيته، فغسل وكفن وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى أمام جنازته، ويعد سعد رضي الله عنه من شهداء أحد4. يروي الواقدي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: لما انتهى رسول الله وصحابته إلى   1 إمتاع الأسماع ج1 ص248. 2 الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص85. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرجع النبي من الأحزاب ج6 ص231. 4 المغازي ج3 ص513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قبر سعد نزل فيه أربعة نفر: الحارث بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو نائلة وسلمة بن سلامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على قدميه عند قبره، فلما وضع في لحده تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبح ثلاثًا، فسبح المسلمون ثلاثًا حتى ارتج البقيع بتسبيحهم، ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، وكبر أصحابه ثلاثًا حتى ارتج البقيع بتكبيرهم، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل: يا رسول الله رأينا لوجهك تغيرًا وسبحت ثلاثًا وكبرت ثلاثًا. قال صلى الله عليه وسلم: "تضايق على صاحبكم قبره، وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد، ثم فرج الله عنه" 1. وجاءت أم سعد، وهي كبشة بنت عبيد، تنظر إلى سعد ولدها في اللحد، فردها الناس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها". فأقبلت حتى نظرت إليه، وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللبن والتراب، ثم قالت: أحتسبك عند الله، وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره، وجعل المسلمون يردون تراب القبر ويسوونه، وتنحى رسول صلى الله عليه وسلم فجلس حتى سوى على قبره ورش عليه الماء، ثم أقبل فوقف عليه فدعا له، ثم انصرف. يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنت مع من حفر قبر سعد بن معاذ، وكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا تراب قبره2. يروي البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اهتز عرش الرحمن لموت سعد3, وفي الترمذي عن أنس بن مالك: إنه لما حملت جنازة سعد قال المنافقون ما أخف جنازته، وفسروا ذلك بسبب قتله بني قريظة. فقال صلى الله عليه وسلم لهم: "إن الملائكة كانت تحمله" 4.   1 سير أعلام النبلاء ج1 ص290. 2 سير أعلام النبلاء ج1 ص295. 3 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب مناقب سعد ج1 ص156. 4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ج6 ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ثانيًا: قتل ابن أبي الحقيق وابن أبي الحقيق هو سلام بن مشكم بن أبي الحقيق، ويكنى بـ"أبي رافع" ويعرف بـ "عبد الله بن أبي الحقيق" والذي سماه عبد الله هو قاتله عبد الله بن عتيك وهو أحد زعماء بني النضير الذين خرجوا إلى خيبر بعد أحد، وكان من الأعداء الألداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، وقد بدت عداوته بعدما علم بمقتل مقاتلة بني قريظة حيث قال: هذا كله عمل حيي بن أخطب، لا قامت يهودية بالحجاز أبدًا. وصاح نساء بني قريظة وأقمن المآثم وفزعت اليهود إلى سلام ليروا رأيه، فأشار عليهم بأن يسيروا معه، ومعهم يهود تيماء، وفدك، ووادي القرى، ولا يجلبوا معهم أحدًا من العرب، حتى يغزوا محمدًا في عقر داره، فوافقوه على ما رأى، وأخذ يعد العدة لذلك يقول ابن إسحاق: لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف رغب الخزرج في قتل ابن أبي الحقيق لينالوا ثواب قتله، وحتى لا يسبقهم الأوس في فضل، ولأنه أشد عداوة لرسول الله من كعب، وحتى لا تستمر مؤامرته على محاربة المسلمين، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم1. يروي البخاري بسنده قصة مقتله فيقول: بعث رسول الله إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار، وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه، وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب يقول عبد الله: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على وتد فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب.   1 سيرة النبي ج2 ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمرة صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته على من دخل، فقلت إن القوم إذا نذروا بي لم يخلصوا إليّ حتى أقتله. فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، حتى أعرف مكانه من صوته. قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة بالسيف، وأنا أدهش فما أغنيت شيئًا، وصاح، فخرجت من البيت ومكثت غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت بصوت آخر: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، فعلمت أني ضربته ضربة أثخنته ولم تقتله، فوضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته. فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا، حتى انتهيت إلى درجة السلم، فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة ثم انطلقت، حتى جلست على الباب فقلت لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء النجاء فقد قتل الله أبا رافع، فلما انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال لي: "ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط" 1. وكان مقتل ابن أبي الحقيق في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة, وقد أدى مقتله إلى تفرق الجمع الذي كان يعده للهجوم على المدينة، وعلم اليهود في خيبر أن المسلمين لهم بالمرصاد، ولن يتركوهم في تآمرهم على الإسلام وعلى المسلمين.   1 صحيح البخاري، كتاب المغازي باب قتل أبي رافع ج6 ص281-282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ثالثا: سيرة محمد بن مسلمة ... ثالثًا: سرية محمد بن مسلمة أعد النبي صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه بلغ عددها ثلاثين راكبًا، ووجههم إلى "القرطاء" في أرض نجد، ناحية خيرية البكرات1، وذلك لعشر ليال خلت من المحرم سنة ست من الهجرة لتأديب بني بكر أحد بطون بني كلاب بعدما تأمروا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعدوا لذلك رجالا منهم فلما وصلت السرية إلى ديار بني بكر، وشعر القوم بها هربوا، وتركوا أنعامهم وأموالهم فغنم المسلمون منها ما استطاعوا، وعادوا إلى المدينة في آخر المحرم، وتمكنوا عند رجوعهم من أسر رجل من بني حنيفة يقال له "تمامة بن آثال" وأحضروه معهم إلى المدينة. يروي أبو هريرة رضي الله عنه قصة ثمامة فيقول: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن آثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة"؟. فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل منه ما شئت. فتركه حتى كان الغد ثم قال له: "ما عندك يا ثمامة"؟. قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد فقال له: "ما عندك يا ثمامة"؟. قال: عندي ما قلت. قال صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب دين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟   1 موضع جهة نجد قريب من مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت. قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم, كانت اليمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وهكذا توجه المسلمون إلى نجد لرفع كلمة الحق، وإشعار قادة الكفر، والضلال أن صدهم الناس عن دين الله أمر مرفوض, والواجب حماية حق الناس، في الاعتقاد والتدين، ومعاملة الذين يصدون عن سبيل الله معاملة المعتدي على حق غيره، المحارب لحرية الإنسان وكرامته.   1 مختصر السيرة ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 رابعًا: غزوة بني لحيان بنو لحيان هم الذين غدوا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم مجاورة لحدود مكة، والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر في مكة، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوقت قد حان لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادى الأول سنة ست في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى "بطن غُرَان" واد بين أمج وعسفان، حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت بنو لحيان بالمسلمين فهربوا في رءوس الجبال، ولم ير المسلمون منهم أحدًا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين بأرضهم، وبعث السرايا إلى جهات عديدة، ثم سار بالقوم إلى عسفان، وبعث عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم رجع إلى المدينة وهو يقول: "آئبون، تائبون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 عابدون، لربنا حامدون! اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة على الأهل! اللهم أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل، والمال! اللهم بلغنا بلاغًا صالحًا يبلغ إلى خير، مغفرة منك ورضوانًا"1. وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة2.   1 المغازي ج2 ص537. 2 الرحيق المختوم ص321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 خامسًا: غزوة الغابة وقعت هذه الغزوة عند ماء يعرف بماء "قرد" قريبًا من المدينة المنورة، وسببها أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون ناقة ذوات لبن، ترعى بالغابة حول الماء، ومعها راع وزوجته، فأغار عليها عيينة بن محصن الفزاري فقتل الراعي، وسبى المرأة، واستولى على اللقاح العشرين، فلما رآهم سلمة بن الأكوع السلمي عاد، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاح في المسلمين بما وقع. فلما وقعت الصيحة بالمدينة كان أول من أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن عمرو، ثم عباد بن بشر الأشهلي، وأسيد بن حضير أخو بني حارثة، وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت الزرقي، فلما اجتمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم سعيد بن زيد من بني عبد الأشهل، وأعطى صلى الله عليه وسلم فرس أبي عياش معاذ بن معاص، وكان أحكم للفروسية من أبي عياش وسار النبي صلى الله عليه وسلم معهم حتى واجه المشركين. وكان أول من واجه المشركين محرز بن نضلة الأخرم فقتلوه رحمه الله، ولحق أبو قتادة بقاتله فقتله، وولى المشركون منهزمين، وتركوا خلفهم لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء يقال له "ذو قرد" استرد إبله ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام صلى الله عليه وسلم يومًا وليلة، ثم رجع إلى المدينة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين صلاة الخوف لأول مرة عند "ذي قرد" يقول ابن عباس رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وصف طائفة خلفه، وطائفة مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه، ركعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وسجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة, فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت كل طائفة وصلت الركعة الباقية لتتم صلاتهم جميعًا، وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتت المدينة نذرت أن تنحرها، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا نذر لأحد في معصية الله، ولا فيما لا يملك، وأخذ صلى الله عليه وسلم ناقته1. وقد استشهد من المسلمين محرز بن نضلة رضي الله عنه، وقتل من المشركين مسعدة بن حكمة، وأوثار، وابنه عمرو بن أوثار، وحبيب بن عيينة.   1 مختصر السيرة ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 سادسًا: سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا من الصحابة في شهر ربيع الأول سنة ست إلى "الغمر" وهو ماء لبني سعد. أسرع عكاشة ورجاله إلى الغمر، فلما علم القوم به تركوا ماءهم، وفروا إلى الجبال وتركوا بعض نعمهم، فأخذوا منها المسلمون مائتين، وعادوا إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 سابعًا: السرايا إلى ذي القصة أخذ بنو ثعلبة يغيرون على سرح المسلمين في المدينة فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه -أولا- في عشرة رجال من الصحابة، في ربيع الأول سنة ست، فكمن لهم القوم عند مائهم "ذي القصة" حتى ناموا فأحدقوا بهم، وكان عددهم مائة، فما شعر المسلمون إلا والنبال تأتيهم من كل جانب، واستمر الرمي حتى قتل المشركون المسلمين جميعًا ماعدا محمد بن مسلمة، فإنه أفلت، وتمكن من الرجوع إلى المدينة وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث له، ولأصحابه. فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية ثانية إلى بني ثعلبة في "ذي القصة" في ربيع الآخر مكونة من أربعين صحابيًا بقيادة عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. ونظرًا ليقظة بني ثعلبة، وتتبعهم لأخبار المسلمين صلى أفراد السرية المغرب بالمدينة المنورة حتى لا يشعر بهم أحد، ثم أخذوا في المسير بعد المغرب متجهين إلى "ذي القصة" واستمروا في السير طوال الليل، فوافوها قبيل طلوع الشمس، وفاجئوا القوم بالإغارة عليهم، ففر القوم هاربين إلى التلال والجبال، وتركوا إبلهم وغنمهم، فغنم المسلمين إبلًا وغنمًا وأسروا رجلًا واحدًا، ثم عادوا إلى المدينة بما غنموا، وقد أسلم الرجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ثامنًا: سرايا زيد بن حارثة رضي الله عنه تميز زيد بن حارثة بالشجاعة والإقدام، والإخلاص في طاعة الله ورسوله ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة عدد من السرايا، خلال فترة ما بعد الخندق، وهي: 1- سرية زيد إلى الجموم: والجموم ماء لبني سليم في مر الظهران، قرب مكة، خرج زيد إليها في عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأصاب امرأة من مزينة دلتهم على محلة "بني سليم" فذهبوا إليها، وأخذوا منها غنمًا، وإبلا، وبعض الأسرى، وعادوا إلى المدينة1 وقد أسلمت المرأة وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من أحد أصحابه2. 2- سرية زيد إلى العيص 3: بعث النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة ست زيد بن حارثة في مائة وسبعين رجلا من أصحابه لمقاتلة قافلة لقريش راجعة من الشام بتجارات لهم، فالتفت بهم عند العيص، واستولت على الأموال، واسروا بعض الرجال منهم أبو العاص بن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول قد فرق بينهما. وكان أبو العاص رجلا مأمونًا، يتاجر لقريش في مالها, فلما قدم المدينة أسيرًا دخل على زينب سحرًا فاستجارها فأجارته، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر قامت زينب على بابها، فنادت بأعلى صوتها وقالت: إني قد أجرت أبا العاص.   1 فتوح البلدان ج1 ص164. 2 الطبقات الكبرى ج2 ص86. 3 العيص واد بين مكة والمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفسي بيده، ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي سمعتم المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت". فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد إلى أبي العاص بن الربيع ما أخذ منه من المال، ففعل وأمرها ألا يقربها، فإنها لا تحل له ما دام مشركًا، ثم كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكان مع أبي الربيع بضائع لغير واحد من قريش، فأدى إليه الصحابة كل شيء، حتى إنهم ليردون الإداوة، والحبل، حتى لم يبق شيء، ورجع أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم شيء؟ قالوا: لا والله. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لقد أسلمت بالمدينة، وما منعني أن أقيم بالمدينة إلا أني خشيت أن تظنوا أني أسلمت لأذهب بالذي لكم، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بالنكاح الأول1. 3- سرية زيد إلى الطرف: والطرف ماء لبني ثعلبة يقع على بعد ستة وثلاثين ميلا عن المدينة، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله زيدًا في خمسة عشر رجلا من الصحابة، فهرب الناس لما علموا بمقدم المسلمين، وأصاب منهم زيد بعض الإبل، ورجع إلى المدينة في جمادى الآخرة سنة ست بعد أن غاب عنها أربع ليال2. 4- سرية زيد إلى وادي القرى: في رجب سنة ست خرج زيد إلى وادي القرى ومعه اثنا عشر رجلا من الصحابة، لاستكشاف حركات الأعراب فهجم عليهم سكان وادي القرى، وقتلوا منهم تسعة وعاد الناجون إلى المدينة، وفيهم زيد بن حارثة3.   1 سنن أبي داود باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها ج3 ص150، 151، والمغازي ج3 ص553، 554. 2 المغازي ج3 ص554. 3 الطبقات الكبرى ج2 ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 تاسعًا: غزوة بني المصطلق وتعرف بغزوة المريسيع1 وكان وقوعها في شعبان سنة ست للهجرة بعد الخندق على الصحيح، ودليل ذلك أن آية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش رضي الله عنها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سألها صلى الله عليه وسلم عن الإفك الذي دار حول عائشة رضي الله عنها فقالت: أحمي سمعي وبصري وقالت عنها عائشة رضي الله عنها، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وحادثة الإفك كانت أثناء العودة من غزوة بني المصطلق ونزول آية الحجاب كان بعد زواج زينب، وزواج زينب كان في ذي القعدة من السنة الخامسة فإذا ما علم أن حادثة الإفك كانت بعد نزول آية الحجاب، إذا علم ذلك صح أن "غزوة المريسيع" كانت في السنة السادسة بعد الخندق2. وسبب هذه الغزوة أن الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأخذوا في إعداد العدة لذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي ليعلم خبرهم فلما رأى تجمعهم واستعدادهم عاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما رأى، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم، فأسرعوا بالخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر على المدينة زيد بن حارثة. ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع فنزله، وضرب قبة من أدم، وكان معه من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. اجتمع المسلمون على الماء، وأعدوا وتهيئوا للقتال، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويقال: كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنه راية المهاجرين.   1 المريسيع: بضم الميم، وفتح الراء مصغرًا اسم لماء خزاعة بينه وبين المدينة ما يقرب من سبعين ميلا. 2 انظر سيرة ابن هشام ج2 ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينادي فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم، وأموالكم، ففعل عمر رضي الله عنه فأبوا الإذعان فرماهم. وكان عمر أول من رمى من المسلمين ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحملوا عليهم فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت إنسان من بني المصطلق، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال، والنساء والذرية وغنمت النعم والشاء، وما قتل أحد من المسلمين إلا رجل واحد يقال له هشام بن صباية رضي الله عنه1. وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها. وقد شعر المنافقون بافتضاح أمرهم في غزوة الأحزاب، فجمعوا جموعهم وأرادوا خلخة الصف الإسلامي بالإشاعات، وزرع جذور الوهن، وأخذوا يتحينون الفرص لبث أكاذيبهم، وكان أول هذه الفرص بعد غزوة الأحزاب في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم "زينب بنت جحش" رضي الله عنها حيث أخذوا يذكرون للناس أنها الزوجة الخامسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا يجوز، وقالوا: إن محمدًا أحبها وهي تحت زيد، فأمر صلى الله عليه وسلم زيدًا أن يطلقها ليتزوجها، وهذا كذب وضحناه قبل2 ورد الله عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 3. وانتهز المنافقون خروج المسلمين إلى بني المصطلق فخرجوا معهم في أعداد كبيرة، وتظاهروا بانصهارهم في الصف الإسلامي، وأخذوا يتحينون الفرصة لتحقيق ما خرجوا له. يقول المقريزي: وبينما المسلمون على ماء المريسيع إذ أقبل "سنان بن وبر الجهني" حليف الأنصار ومعه فتيان من بني سالم يستقون، وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار فأدلى دلوه، وأدلى "جهجاة بن مسعود" أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه دلوه،   1 المغازي ج1 ص407. 2 انظر ص128-131. 3 سورة الأحزاب: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه، وتنازعا فضرب جهجاه سنانًا فسال دم سنان فنادى: يا للخزرج، وثارت الرجال، فهرب جهجاه إلى قومه وجعل ينادي في العسكر: يا لقريش، يا لكنانة، فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، فقام رجال في الصلح فترك سنان حقه. وانتهز عبد الله بن أبي الموقف وكان جالسًا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: والله ما رأيت كاليوم مذلة، والله إني كنت لكارهًا لوجهي هذا ولكن قومي قد غلبوني قد فعلوها، قد نافرونا، وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلاليب قريش هذه إلا كما قال القائل "سمن كلبك يأكلك" والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفًا يهتف بما هتف به جهجاه، وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير "والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". ثم أقبل ابن أبي على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضًا للمنايا فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم، وقللتم عددكم وكثروا1. أخبر زيد بن أرقم رسول الله بما رأى وسمع فتغير وجه رسول الله واستوثق منه وأبى على أصحابه قتل ابن أبي حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. وجاء ابن أبي ينفي صدور ما ذكر عنه فنزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2. وقطعًا لهذه الفتنة، ومنعًا للخوض فيها بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة أثناء الحر الشديد، وكان صلى الله عليه وسلم لا يروح حتى يبرد الجو. وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن كنت تريد أن   1 إمتاع الأسماع ج1 ص199. 2 سورة المنافقون: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري فيقتله فتدعوني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتله فأدخل النار وعفوك أفضل، ومنك أعظم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت قتله، وما أمرت به، ولنحسن صحبته ما كان بين أظهرنا". فقال عبد الله: إن أبي كانت هذه البحيرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه، فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورًا قد غلب الله عليها1. وانتهز المنافقون حادثة أخرى وقعت حين رجوع المسلمين من المريسيع هي "حادثة الإفك" التي ظهرت بين المسلمين فتلقفها ابن أبي، وتولى كبر إذاعتها ونشرها وكما أخزاه الله تعالى بنزول القرآن الكريم في تأكيد كذبه في المرة الأولى أخزاه مرة أخرى بنزول براءة السيدة عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات2. وسجل القرآن الكريم هذين الموقفين ليعلم المؤمنون طبائع المنافقين، وليأخذوا حذرهم الدائم منهم. وزاد الله خزي المنافقين مرة أخرى، فإنه لما نزل المسلمون عند ماء يقال له "بقعاء" أخذتهم ريح شديدة، استمرت إلى أن زالت الشمس ثم هدأت، وخاف المسلمون أن تكون هذه الريح لمواجهة "عيينة بن حصن" ظنًا منهم أن يهاجم ظهورهم في المدينة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم بأس منها فما بالمدينة من نقب إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق". وهو "رفاعة بن زيد بن التابوت" وكانت هذه الريح أيضًا بالمدينة حتى دفن عدو الله فسكت. وقال عبادة بن الصامت يومئذ لابن أبي: مات خليلك. قال: أي أخلائي.   1 سيرة النبي ج2 ص293. 2 هذه الحادثة هي حادثة الإفك التي سبق ذكرها في ص162-165 عند الحديث عن حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضي الله عنهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 قال: من موته فتح للإسلام وأهله، رفاعة بن زيد بن التابوت. قال: يا ويلاه، كان والله وكان وكان، وجعل يذكر. فقال له عبادة: اعتصمت والله بالذنب الأبتر. قال: من خبرك يا أبا الوليد بموته؟ قال: رسول الله أخبرنا الساعة، أنه مات هذه الساعة، فأسقط في يديه، وانصرف كئيبًا حزينًا، فلما دخلوا المدينة وجدوا عدو الله مات في تلك الساعة1. وهكذا انتهت مؤامرات المنافقين في المدينة كما انتهت ألاعيب اليهود.   1 إمتاع الإسماع ج1 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 عاشرًا: السرايا بعد غزوة بني المصطلق واصل النبي صلى الله عليه وسلم إرسال السرايا بعد غزوة بني المصطلق تأمينًا للحركة داخل الجزيرة العربية، وإرهاب الفلول المتناثرة التي تتحرك بتأثير اليهود والمنافقين. وأهم هذه السرايا ما يلي: أ- سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى ديار بني كلب في دومة الجندل في شعبان سنة ست للهجرة لدعوتهم إلى الإسلام بسبب إظهارهم العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصد الناس عن الإسلام وقد أسلم فريق منهم، وتزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تماضر بنت الأصبع بعد أن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. ب- سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني سعد بن بكر بفدك في شعبان من نفس السنة ومعه مائة صحابي وسببها أن بني سعد حاولوا إمداد اليهود بالمؤن والسلاح على أن يأخذوا منهم بعض تمر خيبر. ج- سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين في شوال سنة ست، وسببها أن رهطًا من عكل، وعرينة أظهروا الإسلام وأقاموا بالمدينة فمرضوا فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرعاة لرعي الإبل، فلما صحوا قتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم كرز بن جابر في عشرين من الصحابة حتى أدركوهم، وأحضروهم إلى المدينة فأقام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الحرابة، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، جزاء وفاقًا على عداوتهم، وعدوانهم وقتلهم الراعي، وأخذهم الإبل1.   1 زاد المعاد ج3 ص602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 حادي عشر: حركة الدعوة خلال المرحلة ما بين الأحزاب، والحديبية أخذت الحركة بالإسلام بعد الأحزاب تنشط وتتسع، فوصلت إلى كل قبائل الجزيرة العربية، لأنهم جميعًا تأثروا بهزيمة الأحزاب، وشعروا بضعف وضعهم فأخذوا يعملون بعصبية يملكهم الخوف، ويسيطر عليهم الفزع, وقد رأيناهم يتآمرون ولا يصمدون يتعاونون ويتفرقون، يقتلون ولا ينتظرون, فكان لا بد من مواجهتهم، والذهاب إليهم ليثوبوا لرشدهم, ويعرفوا حجمهم وقوتهم، ويبتعدوا عن العدوان والفساد، ويلتزموا بمراعاة حق الآخرين، ويبتعدوا عن همجيتهم السابقة. وتعد سرايا ما بعد الأحزاب حملات تطهير للفساد الموجود في الجزيرة العربية، وتخلص من عدوان الطغاة، وإسكات صوت البغي وقهر العدوان قبل ظهوره. وقد أدت هذه الغزوات والسرايا دورها، وقامت بتحقيق الهدف منها. صحيح أن القبائل لم تدخل في الإسلام، لكن الحركة صارت آمنة، وأصبح صوت الإسلام عاليًا، وأخذ الناس يشعرون بحرية القول، وحرية الاستماع، وحرية التفكير، وحرية اتخاذ القرار، وهذا هو المطلوب فقط. في هذه المدة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا من زوجاته هن: 1- زينب بنت جحش رضي الله عنها تزوجها ليبطل عادة العرب في نكاح زوجة الابن المتبنى بعد طلاقها. 2- أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها لتعويضها بعد فراق زوجها، ولتطيب نفس أبيها وقومها، ومما يدل على وقع زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رضي الله عنها على أبي سفيان أن أبا سفيان بعد إسلامه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أختها لسروره بذلك فعرفه النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الجمع بين الأختين، وقد أشار الله تعالى إلى هذا الأثر في قوله سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. 3- جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من بني المصطلق وكانت خيرًا على أهلها جميعًا حيث صاروا أحرارًا بسببها. 4- صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها بنت زعيم يهود بني قريظة لتأكيد صلة المسلمين بأهل الكتاب، ولبيان ما في الإسلام من خير للجمع. ومن هذا الباب دخوله صلى الله عليه وسلم بـ"ريحانة بنت زيد" القرظية، وزواجه من مارية القبطية أم ولده إبراهيم رضي الله عنه. وفيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم درس للدعاة من بعده صلى الله عليه وسلم ليوسعوا صدورهم في تقبل الآخر، وعدم الانغلاق على الذات، والنظر إلى غير المسلمين على أساس أنهم أرض خصبة لانتشار الإسلام، وعليهم أن يحسنوا فهم الإسلام، وأن يحسنوا عرضه بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلال هذه المرحلة تعلم المسلمون من وحي الله، ومن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام التالية: - ضرورة قضاء الصلاة إن فات وقتها مرتبة بأذان واحد وإقامة لكل صلاة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضاء ما فات المسلمين من صلاة يوم الخندق حيث صلاها في ديار بني قريظة. - تعلموا أحكام صلاة الخوف، وأدوها خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا كيفيتها، وشروطها، وكل ما يتعلق بها من أحكام، وقد صلاها النبي وأصحابه عند "ذي قرد" في غزوة الغابة. - أدوا صلاة القصر في سراياهم وغزواتهم البعيدة كما تعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. - نزلت آية التيمم حين رجوع المسلمين من بني المصطلق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتقد عائشة رضي الله عنها، ونزل منزلا شحيح الماء ضجر الناس فنزلت آية التيمم بعد طلوع الفجر2 وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا   1 سورة الممتحنة: 7. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. - تعلم الصحابة الجمع بين الصلاتين أثناء السفر جمع تقديم، أو جمع تأخير. - حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع لفقراء المدينة لما فيه من سعة وكلأ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه يحفر بئر فيه، وبتجديد جهاته الأربع بمدى وصول صوت المؤذن. - أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد الحرابة على هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام وغدروا بالمسلمين فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل2 بعد نزول قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. وقد أقيم الحد فقطعت الأيدي والأرجل من خلاف فلم تثمل عين، ولم تحدث مثلة ولم يقطع لسان. وفرض الحج في هذه المدة على قول. وبرغم قصر المدة بين الأحزاب، والحديبية، وشغلها بالسرايا والغزوات العديدة، فإنها لم تخل من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتوجيههم إلى مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور ومن ذلك: - أمرهم بالمحافظة على الصلاة في وقتها، وحين سأله رجل من بني عبد القيس خلال معركة المريسيع عن أحب الأعمال إلى الله.   1 سورة المائدة: 6. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص204. 3 سورة المائدة: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال له صلى الله عليه وسلم: "الصلاة في أول الوقت". - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بدعاء الله تعالى في الحضر والسفر، وعلمهم دعاء السفر الذي سبق ذكره. - وجههم إلى أن المسلمين إخوة، وأنهم يد على من سواهم، وهم جميعًا يجيرون من أجاره أحدهم، فلقد أجاروا جميعًا أبا العاص بن الربيع بعدما أجارته زينب رضي الله عنها. - أباح صلى الله عليه وسلم للمحارب الزواج أثناء الغزوة كما تزوج عبد الرحمن بن عوف لما في الزواج من فوائد عديدة للرجل، وللدعوة وللأمة كلها. - نهى صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا إذا عاد من سفر، ذلك أن عبد الله بن رواحة طرق أهله فإذا مع امرأته إنسان، فظن أنه رجل فرفع سيفه يريد أن يضربهما ثم فكر وادكر، فغمز امرأته برجله فاستيقظت وصاحت. فقال: أنا عبد الله، فمن هذا؟ قالت: رحيلة, سمعنا بقدومكم، فدعوتها تمشطني فباتت عندي، فبات وأصبح فرجع يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سائر بين أبي بكر الصديق، وبشير بن سعد رضي الله عنه فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى بشير فقال: يا أبا النعمان، إن وجه عبد الله ليخبرك أنه كره طروق أهله فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خبرك يابن رواحة". فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطرقوا النساء ليلا". فكان ذلك أول ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم1. - عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء غزواته حياته العادية، فكان يصطحب زوجاته، وكان يلاعبهم، ويسابقهم، وكثيرًا ما سبق عائشة وكان صلى الله عليه وسلم يداعبها ويتلطف معها، حدث أن المسلمين أخذوا خوات بن جبير أسيرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقاه الرسول عند عائشة وقال لها: احتفظي بهذا الأسير فلهت عنه فهرب, فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أين الأسير"؟. قالت: غفلت عنه فخرج.   1 سنن الترمذي باب ما جاء في كراهية طروق الرجل أهله ليلا ج5 ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فقال صلى الله عليه وسلم: "قطع الله يدك". ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تقلب يدها، وتنظر إليها. فقال لها: "ما لك"؟. فقالت: أنظر كيف تقطع يدي. فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنما أنا بشر أغضب وآسف، كما يغضب البشر، فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها له رحمة". وفي وسط الجو المليء بالأعمال والآمال اهتم المسلمون بكل ما ينزل من الوحي فحفظوا القرآن الكريم ودرسوا السنة، واعتنوا بتربية أبنائهم وبناتهم على منهج الله تعالى وبذلك كانت الحركة الجادة بالإسلام شاملة للداخل والخارج في انسجام وتكامل, ولم يحدث تقصير ما في نصح وتوجيه، أو يقع خلل في عمل وسلوك, وإنما كان المجتمع الإسلامي يشبه خلية النحل كل ما فيه يؤدي واجبه على الوجه المطلوب. وهكذا: كانت السرايا والغزوات مدرسة لتخريج الرجال، وتعليم الإسلام وتطبيق أحكام الإسلام، ودعوة إلى الله تعالى1.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 المبحث العاشر: غزوة الحديبية مدخل ... المبحث العاشر: غزوة الحديبية أدت الغزوات، والسرايا العديدة التي وقعت بعد الأحزاب إلى لجوء القبائل إلى السكون، والانكفاء على الذات، وترك ما كان الشيطان يزينه لهم لمهاجمة المسلمين، والعمل للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وعلموا أنه لا قبل لهم في تنفيذ ما أملوا فيه؛ ولذلك بدأت مرحلة جديدة للحركة بدعوة الله تعالى وهي مرحلة العمل خارج الجزيرة العربية وترك القبائل في سكونهم الذين يعيشون فيه، لأنه وسيلتهم للتفكير في الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم هو طريقهم إلى اعتناق الإسلام. في هذا الجو حدثت "غزوة الحديبية"1. والحديبية مكان قريب من مكة يقع في شمالها بمقدار ثلاثين ميلا تقريبًا، وهي قرية متوسطة سميت باسم بئر فيها، وفيها مسجد الشجرة، وبعضها في الحل وبعضها في الحرم عند الجمهور2. وتسميتها بـ"الغزوة" هو من قبيل المجاز؛ لأن المسلمين لم يخرجوا من المدينة للقتال، وإنما خرجوا يريدون العمرة، كما وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك ساقوا الهدي أمامهم، ولبسوا إحرامهم، ولم يأخذوا سلاحهم، وما أخذوه من سويف وضعوه في أغمادها وشبه الحديبية بالغزوة ينحصر فقط في قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه معهم. وأكثر العلماء يرون أن الحديبية كانت في العام السادس من الهجرة وهو قول الزهري وقتادة, وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وابن كثير وغيرهم3. والحديث عن غزوة الحديبية يحتاج إلى دراسة النقاط التالية:   1 الحديبية بضم الحاء وفتح الدال وسكون الياء قرية صغيرة سميت ببئر فيها وفيها أقام المسلمون مسجد الشجرة في المكان الذي بايع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه والحديبية تبعد عنه بتسعة أميال تقريبًا. 2 معجم البلدان ج2 ص229، 230. 3 البداية والنهاية ج4 ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أولا: سبب الغزوة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل وأصحابه مكة معتمرين فدخلوا البيت، وأدوا عمرتهم، وحلقوا وقصروا رءوسهم، ورأى أنه أخذ مفتاح الكعبة ودخلها، ووقف بعرفة1، فلما أخبر أصحابه بما رأى سروا وفرحوا لأنهم يعلمون أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي لا يكذب، فأخذوا يستعدون لهذه الرحلة المحبوبة، حيث بها يعبدون ربهم، ويرون موطنهم، ويقابلون أهليهم، عسى أن يهديهم الله تعالى. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد العدة لأداء العمرة، فلما جاءه "بسر بن سفيان بن عمرو الكعبي الخزاعي" مسلمًا في شهر شوال سنة ست هجرية, قال له صلى الله عليه وسلم: "يا بسر لا تبرح حتى تخرج معنا، فإنا إن شاء الله معتمرون" 2. فأقام بسر بالمدينة وأخذ يشتري البدن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويضعها في "ذي جدر"3 ترعى حتى يحين موعد سوقها للهدي. وقد سر المسلمون لبدء حركتهم لدخول مكة لما في ذلك من أثر معنوي وهم يدخلون مكة بعدما طردوا منها، وشعورهم بالنصر أمام الجميع، وإظهار الإسلام لمن يحضر مكة في الموسم على أساس حقيقته القائمة على تحقيق السلام، ونشر العدل، وصيانة حرية الإنسان في الاعتقاد، والعمل, ولذلك بشر رسول الله أصحابه برؤياه.   1 زاد المعاد ج3 ص86. 2 بسر بضم الباء وسكون السين، وقيل هو بشر بباء مكسورة وشين ساكنة بعدها. 3 واد قريب من المدينة على بعد ستة أميال، به عشب وكلأ كانت ترعى فيه إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ثانيًا: التحرك للعمرة استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة "عبد الله بن أم مكتوم" ونادى أصحابه للخروج لأداء العمرة، واستنفر العرب وأهل البوادي ليخرجوا معه، وأمر بالبدن فأخذت إلى "ذي الحليفة"1 وتجهز الجميع لأداء العمرة، إلا أن كثيرًا من الأعراب أبطئوا في الخروج معتذرين بعلل واهية2. وخرج المسلمون في يوم الاثنين أول ذي القعدة عام ست للهجرة وبلغ عددهم ألفًا وأربعمائة في أصح الأقوال3, ومعهم أربع نسوة هن أم سلمة، وأم عمارة وأم منيع أسماء بنت عمر، وأم عامر الأشهلية4، وليس معهم سلاح فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ألم تخش علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أدري ولست أحب أن أحمل السلاح معتمرًا". وقال سعد بن عبادة: لو حملنا يا رسول الله السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريبًا كنا معدين لهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "لست أحمل السلاح، إنما خرجت معتمرًا" 5 ونوى المسلمون السفر إلى مكة فدخلوا المسجد النبوي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم أحرم، وركب راحلته، وأخذ يلبي بأربع كلمات هي: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وأحرم عامة المسلمين بإحرامه صلى الله عليه وسلم ومنهم من أخر إحرامه فأحرم من ذي الحليفة وهي ميقات أهل المدينة6. وقلد المسلمون الهدي بذي الحليفة، وأحرم من لم يحرم بالعمرة، وأشعروا البدن وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينًا من خزاعة ليأتيه بخبر أهل مكة، حتى كان بعسفان جاءه من أخبره بموقف قريش7. أتاه "بسر بن سفيان الكعبي" وكان قد سبق بالهدي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا ومعهم "العوذ المطافيل"8 قد لبسوا جلود   1 زاد المعاد ج3 ص86. 2 سيرة النبي ج2 ص308. 3 صحيح البخاري ك المغازي باب غزوة الحديبية ج6 ص353، 354. 4 المغازي ج2 ص574. 5 إمتاع الأسماع ج1 ص275. 6 المغازي ج2 ص574. 7 صحيح البخاري ك المغازي باب غزوة الحديبية ج6 ص356. 8 العوذ الإبل والظباء, والمطافيل التي معها أطفالها وذراريها وهذه استعارة إلى خروج المكيين بنسائهم وأطفالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 النمور، وقد نزلوا بذي طوى1 يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدًا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم2. ثم قال: "من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم الذي هم فيه" 3. قال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسلك الرجل بالمسلمين طريقًا وعرًا بين شعاب ملتوية، فساروا فيه محتملين المشاق، والصعاب حتى وصلوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعندها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق يوصلنا إلى ثنية المرار -مهبط الحديبية- من أسفل مكة". فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصل المسلمون إلى ثنية المرار، وعندها بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلأت. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها" 4. ثم قال للناس: "انزلوا". قيل له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهمًا من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن، وعسكر المسلمون في الحديبية منتظرين أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لأداء العمرة5.   1 موضع عند مكة. 2 المغازي ج2 ص580. 3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص210. 4 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني باب غزوة الحديبية ج21 ص96. 5 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ثالثًا: المفاوضات مع قريش بعد استقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية، وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى تمني أن يخلي أهل مكة بينه وبين سائر العرب، جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه في مبادرة منه نصحًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني تركت كعب بن لؤي ومعه نفر من قريش نزلوا عند مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم 1 ويخلوا ما بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فهو خير، وإلا قد جموا، وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره" 2. قال بديل: سأبلغهم ما تقول. وانطلق حتى أتى قريشًا وقال لهم: إني قد جئتكم من عند الرجل، وسمعته يقول قولا فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا كذا وحدثهم بما سمعه من رسول الله. فلما انتهى بديل من مقالته لقريش. قال عروة بن مسعود: إن بديلا جاءكم بخطة رشد لا يردها أحد إلا أخذ شرًا منها فاقبلوها منه، وابعثوني حتى آتيكم بمصداقيتها، وأكون لكم عينا3 ألستم الولد وأنا الوالد؟ قالوا: بلى! قال: هل تتهموني؟ قالوا: لا. ورأى القرشيون أن يبعثوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم لإيجاد حل يمنع المسلمين من الدخول هذا العام، وحتى لا يقع قتال في الشهر الحرام، وحتى لا يتحدث الناس أن أهل   1 ماددتهم أي أعطيتهم مدة يفكرون فيها ويتدبرون على مهل. 2 الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد الشيباني باب غزوة الحديبية ج21 ص97. 3 المغازي ج2 ص597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 مكة يصدون عن البيت من يقصده معتمرًا أو حاجًا، ولذلك تعددت بعوثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: البعث الأول: أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، ليعرف غاية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي القوم بخبر المسلمين، فذهب عروة إلى المسلمين، وقال: يا محمد إني تركت قومك على إعداد وأعداد عند ماء الحديبية قد استنفروا لك، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين: إما أن تجتاح قومك، فلم نسمع برجل اجتاح أصله قبلك، أو بين أن يخذلك من نرى معك. فلما فرغ عروة من كلامه، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لبديل بن ورقاء عاد إلى قريش فقال، يا قوم قد وفدت على كسرى، وهرقل، والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، والله ما يحدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى امرئ فيفعل، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسوة معه، إن كن ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وقد عرض عليكم خطة، فاقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه، رجل أتى هذا البيت معظمًا له مع الهدي ينحره وينصرف فقالوا: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور، ولو غيرك تكلم بهذا، ولكن نرده في عامنا هذا ويرجع إلى قابل1. البعث الثاني: ثم أرسلوا بعد ذلك مكرز بن حفص، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر". وكلمه بمثل ما كلم أصحابه الذين جاءوا قبله، فعاد للمكيين، وأخبرهم بما سمع2. البعث الثالث: ورأت قريش أن ترسل للرسول رجلا ليس من قريش ليظهروا قوتهم وأعوانهم، فأرسلت الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ورأسهم.   1 الطبقات الكبرى ج2 ص96 المغازي ج2 ص598، 599. 2 المغازي ج2 ص559. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا من قوم يعظمون الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه فبعثوها ترعى وهي معلمة، ومشعرة فلما رأى الحليس الهدي يسيل في الوادي، عليه القلائد، واستقبله القوم وهم يلبون، فلما رآهم تفلوا وشعثوا رجع، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى، فقال لقريش: إني قد رأيت ما لا يحل صده، رأيت الهدي معكوفًا عن محله، والرجال قد تفلوا وشعثوا يريدون أن يطوفوا بهذا البيت، أما والله ما على هذا خالفناكم، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء له معظمًا لحرمته، مؤديًا لحقه، والهدي معكوفًا أن يبلغ محله، والذي نفسي بيده، لتخلن بينه وبين ما جاء به أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. قالوا: كل ما رأيت مكيدة من محمد وأصحابه فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به1. وهدأ المعسكر القرشي بعد ذلك، وتباطأ القرشيون في إرسال أحد بعد ذلك وأخذوا يتشاورون لاختيار حل للموقف الموجود، وليحققوا ضغوطًا نفسية على المسلمين تؤدي إلى انسحابهم، ورجوعهم عن مكة هذا العام. رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدوءًا وصمتًا في الجبهة القرشية فأخذ زمام المبادرة، وأرسل إليهم من قبله من يخبرهم أنه جاء معتمرًا لا غازيًا، وأن البيت بيت الله لا يصد عنه من يقصده فأرسل أولا خراش بن أمية الخزاعي، فعقروا الجمل الذي كان يركبه، وأرادوا قتله فمنعه قومه، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث معه فواصل الرسول صلى الله عليه وسلم بعوثه إليهم، وأراد أن يرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخاف عمر وأشار إلى عثمان بما له في قومه من مودة وصلة فبعث الرسول عثمان فمنعه القرشيون من دخول مكة، فأجاره سعيد بن العاص، وحمله إلى مكة والتقى بالقرشيين، وأخبرهم أن المسلمين لم يأتوا لقتال، وإنما جاءوا معتمرين يسوقون الهدي، ويعظمون البيت فرفضوا السماح بدخول المسلمين وأشاعوا أنهم قتلوا عثمان رضي الله عنه، وحبسوا أخباره عن المسلمين2. وانقطعت أخبار عثمان عن المسلمين وبقي في مكة مدة تمكن فيها من الاتصال   1 إمتاع الأسماع ج1 ص288 الطبقات ج2 ص96، المغازي ج2 ص600. 2 المغازي ج2 ص601 الفتح الرباني ج21 ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 بالمسلمين، يقول عثمان رضي الله عنه: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين فأقول لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشركم بالفتح فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة تنتحب حتى أظن أنه يموت فرحًا بما خبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: اقرأ على رسول الله منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر أن يدخله بطن مكة. وشعر المسلمون أن قريشًا بقتلهم عثمان اعتدوا عليهم في الأشهر الحرم، فاستعدوا لقتالهم، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية فجلس في رحالهم ثم قال: "إن الله أمرني بالبيعة". فأقبل الناس يبايعونه حتى تداكوا، فما بقي لهم متاع إلا وطئوه، ثم لبسوا السلاح، وهو معهم قليل، وماتت أم عمارة إلى عمود كانت تستظل به فأخذته بيدها، وشدت سكينًا في وسطها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذ بيده، فبايعهم على ألا يفروا. وكان أول من بايع سنان بن وهب بن محصن، وقال: يا رسول الله، أبايعك على ما في نفسك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان فبايعوه1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه وهو واقف تحت شجرة، ولذلك سميت البيعة "بيعة الشجرة" وفيها يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 2. والحقيقة أن قريشًا لم تقتل عثمان رضي الله عنه وإنما أشاعت ذلك لتخذيل المسلمين وصرفهم عن دخول مكة. وقد حدث والمسلمون في الحديبية أن بعثت قريش خمسين رجلا بقيادة مكرز بن حفص ليصيبوا المسلمين على غرة، وكان رسول الله قد نظم حراسة المعسكر الإسلامي، وجعله في ثلاثة من الصحابة هم أويس بن خولي، وعباد بن يشر، ومحمد بن مسلمة،   1 إمتاع الأسماع ج1 ص290. 2 سورة الفتح: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 فلما أرسلت قريش مكرز بن حفص في خمسين رجلا منهم لينالوا من المسلمين غرة تحقق لهم بعض ما يريدون، ظفر بهم محمد بن مسلمة، وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعهم في الأسر، فجاء بعض القرشيين لتخليصهم بالقوة فتمكن المسلمون منهم وأسروا منهم اثني عشر فارسًا، وبذلك بلغ عدد أسرى قريش عند المسلمين اثنين وستين أسيرًا1, وحدث أن عشرة من المسلمين دخلوا مكة لزيارة البيت ورؤية أقربائهم بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم القرشيون، وبذلك بلغ ما عند قريش من أسرى المسلمين أحد عشر رجلا وهم هؤلاء العشرة وعثمان بن عفان رضي الله عنه.   1 المغازي ج2 ص602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 رابعًا: الصلح رأى القرشيون أن إطالة الأمر يسيء إليهم عند العرب الذين جاءوا مكة للحج والعمرة فأرسلوا رجالهم للصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم سهيل بن عمرو، وحويطب, ومكرز، وجلس الثلاثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل: يا محمد، إن هذا الذي كان من حبس أصحابك، وما كان من قتال من قاتلك، لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة. قال صلى الله عليه وسلم: "إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي". قال سهيل: أنصفتنا، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشتم بن عبد مناف التيمي فبعثوا بمن كان عندهم، وهم: عثمان، وعشرة من المهاجرين. وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح من كانوا عنده من الأسرى وأرسلهم إلى مكة1. وبعد ذلك أخذوا في مناقشة الموضوع من كافة جوانبه، وأطالوا الكلام والمراجعة ثم اتفقوا على الصلح القائم على البنود التالية:   1 إمتاع الأسماع ج1 ص291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الديباجة: باسمك اللهم هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو اصطلحا على ما يلي: بنود الصلح: 1- وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبة مكفوفة1. 2- وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش، وعقدها فعل. 3- وأنه من أتى محمدًا بغير إذن قريش رده محمد إليهم، وأنه من أتى قريشًا من أصحاب محمد بغير إذن محمد لم يردوه. 4- أن يرجع محمد ومن معه عامهم هذا على أن يدخل مكة في العام القادم فيقيم بمكة ثلاثًا بعد أن يخليها المكيون لهم. 5- أن يدخل محمد وصحبه مكة في العام القادم بلا سلاح إلا سلاح المسافر والسيوف توضع في القرب. وكتب وثيقة الصلح علي بن أبي طالب رضي الله عنه ووقع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهيل بن عمرو وشهد عليها من المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة, ومن المشركين: حويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأحيف. وكتبت الوثيقة من نسختين احتفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بواحدة وأعطى سهيلا الأخرى2.   1 الإسلال: السرقة، الإغلال: الخيانة، العيبة: آنية والمكفوفة أي التي تصون ما بها، والمعنى بيننا صدور ملازمة للوفاء نقية من الخداع والخيانة والغدر. 2 الطبقات الكبرى ج2 ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 خامسًا: موقف المسلمين من الصلح لم يتوقع المسلمون الصلح بهذه السرعة ولم يتصوروا رجوعهم إلى المدينة بلا عمرة، لأنهم خرجوا من المدينة لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يتصوروا أبدًا مقدرة المكيين على منعهم من أداء العمرة. وقد قدموا للعمرة مستعدين للموت في سبيل الله تعالى، ولذلك بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت تحت الشجرة، وقد مدحهم الله لإخلاص قلوبهم، وصدقهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 1. فلما تم الصلح داخل المسلمين أمر عظيم، وتصوروه ضعفًا، ودنية في الدين لا تجوز، وكادوا يهلكون لولا أنهم عند العمل أطاعوا وعملوا كعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أنه لما تم الصلح، ولم يبق إلا إمضاء الكتاب، وثب عمر بن الخطاب وقال: يا رسول الله! ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى". فقال عمر: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولم يضيعني". فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر ألسنا بالمسلمين؟ قال أبو بكر: بلى. قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزك، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله، ولن يضيعه. ولقي عمر رضي الله عنه في هذه القضية أمرًا كبيرًا، وجعل يردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم تساؤله والرسول يرد عليه، ويقول: "أنا رسول الله ولن يضيعني". فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: ألا تسمع يابن الخطاب ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعوذ بالله من الشيطان، واتهم رأيك، فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم   1 سورة الفتح: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 حينًا وحينًا آخر يقول: يا رسول الله! ألم تكن حدثتنا أنك تدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة، وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أقلت لكم في سفركم هذا"؟. قال عمر: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرف مع المعرفين يا عمر! أنسيتم يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ أنسيتم يوم كذا"؟. والمسلمون يقولون: صدق الله ورسوله، يا نبي الله! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا1. وكان منطق عمر هو رأي أغلب المسلمين؛ لأنهم نظروا إلى كتابة الصلح وبنوده نظرة معينة. فلقد ساءهم أن يعترض سهيل على ديباجة الصلح التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وهو يكتب حيث قال له صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". فرد سهيل بتغيير ذلك إلى باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. لأن قريشًا لا تؤمن بالله الرحمن الرحيم, ولا تصدق بأن محمدًا رسول الله فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رأى سهيل, وقال لعلي رضي الله عنه: "اكتبه". وأيضًا فلقد تصور الصحابة أن الشروط تعطي لقريش مزايا لا تصح، وتحرم المسلمين منها في نفس الوقت، وتساءلوا عن سبب منع المسلمين من القدوم للمدينة إذا تركوا مكة وفي نفس الوقت تسمح لمن يكفر أن يذهب إلى قريش في مكة ويترك المدينة، وغضبوا من   1 زاد المعاد ج3 ص294، 295، إمتاع الأسماع ج1 ص295، 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ردهم هذا العام عن العمرة على أن يؤدوها في العام القادم, وتصوروا ذلك دنية في الدين لا يجوز قبولها. ولو تدبر المسلمون في الأمر لعلموا أن ما اتفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق وهو النصر. لأن الديباجة التي كتبت من المسلمات التي لا تعارض حكمًا إسلاميًا، والزيادة التي حذفت لا تفيد أهل مكة، ولا تضيف جديدًا للمسلمين، ولا ضرر في ترك كتابتها فهي جزء من العقيدة ثابتة في القلوب. وأيضًا فإن عقد الهدنة عشر سنوات يفتح الباب للإسلام، ويجمع الناس حوله. وكذلك فإن المسلمين الذين يرتدون عن الإسلام وهم في المدينة خير للمسلمين أن يرحلوا منها حتى لا يكونوا عينا عليهم، ويصيروا قوة لأعداء المسلمين يخذل ويعبث. أما المسلمون في مكة فإن بقاءهم فيها دعوة عملية، وحركة لله في مكة، وبخاصة أن الصلح ينص على حريته في الاختيار، كما أن بقاء المسلمين في مكة اختبار عملي لصدق أهل مكة في تطبيق بنود الصلح. وأيضًا فإن تأجيل أداء العمرة هذا العام وأداءها في العام القادم خير لهم من دخول مكة عنوة هذا العام, كما أن في دعوتهم وقبولهم الصلح دليل أمام الناس على أن الإسلام هو دين الأمن والسلام. وقد زاد من غضب المسلمين ما رأوه من أبي جندل بن سهيل بن عمرو فإنه جاء إلى معسكر المسلمين في الحديبية مسلمًا، بعدما تمكن من الإفلات من قيد أبيه الذي وضعه فيه, وقد جاء بعد كتابة الصلح وقبل توقيعه والإشهاد عليه. يقول المقريزي: خرج أبو جندل من سجن أبيه، واجتنب الطريق وركب الجبال حتى هبط بالحديبية ففرح المسلمون به وتلقوه حين هبط من الجبل فسلموا عليه وآووه. فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقال إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبيبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شرًا إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. فقال حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قومًا قط أشد حبًا لمن دخل معهم من أصحاب محمد، أما إني أقول لك: لا تأخذ من محمد نصفًا أبدًا بعد هذا اليوم، حتى يدخلوها عنوة. فقال مكرز: وأنا أرى ذلك. وقال سهيل بن عمرو: هذا أول من قاضيتك عليه يا محمد، رده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيء حتى ترده إليّ فرده عليه، ثم كلمه صلى الله عليه وسلم أن يتركه، فأبى سهيل وضرب وجه ابنه بغصن شوك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هبه لي أو أجره من العذاب إن لم نقض الكتاب بعد". فقال سهيل: والله لا أفعل ولا أصالحك على شيء أبدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي". قال: ما أنا بمجيزه لك. فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى فافعل". قال سهيل: ما أنا بفاعل1. فقال مكرز وحويطب: يا محمد نحن نجيزه لك وأجازاه ... وأما أبو جندب فقد أخذه مكرز وحويطب فأدخلاه فسطاطًا، وأجاراه فكف عنه أبوه. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: "يا أبا جندل، اصبر، واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، وإنا لا نغدر" 2.   1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص101. 2 زاد المعاد ج3 ص294, الطبقات ج2 ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 سادسًا: موقف المسلمين بعد توقيع الصلح بعد توقيع وثيقة الصلح، وإشهارها بين الناس، دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بكر في عهد قريش، وكان هذا أول اختبار لالتزام الأطراف بالصلح الذي اتفقوا عليه. رحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني خزاعة، وكره ذلك القرشيون فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة، وكانوا يتسترون منا، قد دخلوا في عقد محمد وعهده. فقال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا، قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمرًا فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر، فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة، فيغضب محمد لحلفائه، فينتقض العهد بيننا وبينه1. ورجع سهيل وصاحباه إلى قريش. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقال لهم: "قوموا فانحروا، واحلقوا". فلم يجبه أحد إلى ذلك، فرددها ثلاث مرات، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وهو شديد الغضب فاضطجع. فقالت: ما لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالته مرارًا وهو لا يجيبها. ثم قال: "عجبًا يا أم سلمة، إني قلت للناس انحروا واحلقوا مرارًا، فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك، وهم يسمعون كلامي، وينظرون في وجهي". فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك. فاضطبع بثوبه وخرج، فأخذ الحربة ويمم هديه، وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعًا صوته: "بسم الله والله أكبر". ونحر. فتواثب المسلمون إلى الهدي، وازدحموا عليه ينحرونه، حتى كاد بعضهم يقع على   1 إمتاع الأسماع ج1 ص294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 بعض وأشرك صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة وقيل: مائة بدنة. وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية، عرض له المشركون فردوا وجوه البدن، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه حيث حبسوه وهي في الحديبية. وشرد جمل أبي جهل من الهدي الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرعى وكان قد قلده وأشعره وكان جميلا نجيبًا مهيرًا فمر من الحديبية حتى انتهى إلى دار أبي جهل بمكة ووقف عنده وخرج في إثره عمرو بن عنمة بن عدي بن نابي السلمي الأنصاري للإتيان به فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه تنفيذًا للصلح وحاول القرشيون شراءه بمائة ناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أننا سميناه في الهدي فعلنا". ونحره عن سبعة ونحر طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان بدنات ساقوها1. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمًا في الحل، ويصلي في الحرم وحضره من يسأل من لحوم البدن فقيرًا فأعطاهم من لحومها وجلودها، وأكل المسلمون من هديهم، وأطعموا المساكين، وبعث صلى الله عليه وسلم من الهدي بعشرين بدنة لتنحر عند المروة مع رجل من أسلم فنحرها عند المروة، وفرق لحمها. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحر البدن، دخل قبة له من أدم حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، ثم أخرج رأسه من قبته وهو يقول: "رحم الله المحلقين"، قيل: يا رسول الله! والمقصرين؟ قال: "رحم الله المحلقين" ثلاثًا. ثم قال: "والمقصرين". وحلق ناس، وقصر آخرون، وكان الذي حلقه صلى الله عليه وسلم خراش بن الفضل الكعبي، فلما حلقوا بالحديبية ونحروا بعث الله تعالى ريحًا عاصفًا فاحتملت شعورهم فألقتها في الحرم2. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائمون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه فشربوا من ماء المطر، وقام صلى الله عليه وسلم فخطبهم ووعظهم فجاء ثلاثة نفر إليه، فجلس اثنان وذهب واحد معرضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 إمتاع الأسماع ج1 ص294. 2 الطبقات الكبرى ج2 ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 "ألا أخبركم خبر الثلاثة". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "أما واحد فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فتاب فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه" 1. وفهم الصحابة مغزى ما رأوا، وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلموا أنه ثم تربية لهم، وتوجيه لأهمية طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مراجعته فيما جاء به الوحي. وأخذ عمر يحادث رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا على نفسه من موقفه يوم الصلح، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه, ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر! نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، كل ذلك لا يجيبك. وحرك صلى الله عليه وسلم بعيره حتى تقدم الناس، وخشي عمر أن يكون نزل فيه قرآن، فأخذه ما قرب وما بعد لمراجعته بالحديبية وكراهته القضية, وبينما هو يسير مهمومًا متقدمًا على الناس، إذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: يا عمر بن الخطاب فوقع في نفسه ما الله به أعلم ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم، فرد صلى الله عليه وسلم وهو مسرور ثم قال: "أنزلت عليّ سورة هي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس" 2. فإذا هو يقرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 3. فأنزل الله في ذلك سورة الفتح، فركض الناس وهم يقولون: أنزل على رسول الله حتى توافوا عنده، وهو يقرؤها، ويقال: لما نزل بها جبريل عليه السلام قال جبريل: نهنئك يا رسول الله فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون، وكان نزول سورة الفتح بكراع الغميم4.   1 مسند أحمد مسند الأنصار. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الحديبية ج6 ص363. 3 سورة الفتح: 1. 4 إمتاع الأسماع ج1 ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 سابعًا: عدم رد المؤمنات المهاجرات لم يفرق الصلح بين الرجال والنساء المسلمات الذين يتركون مكة إلى المدينة وسكت عن حقوق المرأة المهاجرة التي لا بد منها لتوافقها مع طبيعتها وكرامتها. ومن المعلوم أن رد المؤمنة إلى مكة إذا هاجرت أمر يتعارض مع حكم شرعي، وهو حرمة بقاء المرأة المسلمة تحت عصمة زوج مشرك. وقد أنزل الله تعالى أمره بعدم إعادة المسلمات المهاجرات إلى أزواجهم المشركين، مع إعطاء المشركين ما أنفقوه في زواجهم, وأحل الله للمؤمنين الزواج بالمهاجرات بعد انقضاء عدتهن، ودفع مهورهن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ولي من لا ولي لها. ومن هذا القبيل أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت شابة صغيرة أسلمت بمكة، فكانت تخرج إلى بادية أهلها فتقيم أيامًا بناحية التنعيم، ثم ترجع حتى أجمعت على المسير مهاجرة فخرجت كأنها تريد البادية على عادتها، فوجدت رجلا من خزاعة فأعلمته بإسلامها فأركبها بعيره، حتى أقدمها المدينة بعد ثماني ليال، فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة، وتخوفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها أعلمته بهجرة أم كلثوم ووضحت له أنها تخاف أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها المشرك في مكة1، فأنزل الله فيها آية المحنة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الحديبية ج6 ص365. 2 سورة الممتحنة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية يرد من جاءه من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء، فلما قدم أخواها الوليد، وعمارة، ابنا عقبة بن أبي معيط وقالا: يا محمد فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد نقض الله ذلك، فانصرفا إلى مكة، فأخبرا قريشًا، فلم يبعثوا أحدًا ورضوا بأن تحبس النساء". ويقال: إن أميمة بنت الأنصاري من بني عمرو بن عوف، كانت تحت حسان بن الدحداح أو ابن الدحداحة وهو يومئذ مشرك، ففرت من زوجها بمكة، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد الإسلام، فهم صلى الله عليه وسلم أن يردها إلى زوجها، حتى أنزل الله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فامتحنها صلى الله عليه وسلم وعلم إيمانها، فأبقاها في المدينة ثم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف، فولدت له عبد الله بن سهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ثامنًا: فراق الكافرات منع الله تعالى إعادة المسلمات إلى المشركين، وحرم على المسلمين الإبقاء على الزوجات الكافرات، مع المعاملة بالمثل فيما أنفقوا، فلهم أن يأخذوا ما أنفقوا، وعليهم ان يدفعوا للمشركين ما بذلوا. ولما أنزل الله تعالى قوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} طلق عمر بن الخطاب امرأتين له هما: قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، والأخرى أم كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيب الخزاعية فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض بن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي، فولدت له عبد الرحمن بن أم الحكم، وكلهم يومئذ مشرك. ولم يعلم أن امرأة من المسلمين لحقت بالمشركين مع وضوح الحكم، وإعطاء النسوة الحرية في الاختيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 تاسعًا: أهم ما في الحديبية من حكم كانت الحديبية مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له، ومفتاحًا، ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا، أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها، وتدل عليها. وكانت هذه الهدنة من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضًا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا مبينًا. وحقيقة الأمر أن الصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مستحيلا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن عزًا وفتحًا ونصرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورءوسهم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1. وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سبب فكان صلى الله عليه وسلم يرى تلك الشروط عين النصرة، وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم، وهم لا يشعرون، فذلوا من حيث طلبوا العز وقهروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة، وعز رسول الله صلى الله عليه وسلم وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله، واحتملوا الضيم له وفيه، فدار الدوار، وانعكس الأمر، وانقلب العز بالباطل ذلا بحق، وانقلبت الكسرة لله عزًا بالله، وظهرت حكمة الله وآياته وتصديق وعده، ونصرة   1 سورة البقرة: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 رسوله على أتم الوجوه وأكملها التي لا اقتراح للعقول وراءها. وبسبب صلح الحديبية كانت زيادة الإيمان والإذعان، والانقياد على ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده، وانتظار ما وعدوا به، وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم، أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسهم، وازدادوا به إيمانًا. وتأمل كيف وصف لهم سبحانه النصر بأنه عزيز في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب، وقلقت أشد القلق، فهي أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم، ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله، وأكدها بكونها بيعة له سبحانه، وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وهو رسوله ونبيه فالعقد معه عقد مع مرسله، وبيعته بيعته، فمن بايعه، فكأنما بايع الله، ويد الله فوق يده، وإذا كان الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله، فكأنما صافح الله، وقبل يمينه فيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا من الحجر الأسود، ثم أخبر أن ناكث هذه البيعة إنما يعود نكثه على نفسه، وأن للموفي بها أجرًا عظيمًا. ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب، وظنهم أسوأ الظن بالله: أنه يخذل رسوله وأولياءه، وجنده، ويظفر بهم عدوهم، فلن ينقلبوا إلى أهليهم، وذلك من جهلهم بالله وأسمائه وصفاته، وما يليق به، وجهلهم برسوله وما هو أهل أن يعامله به ربه ومولاه. ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله، وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء، وكمال الانقياد والطاعة، وإيثار الله ورسوله على ما سواه، فأنزل الله السكينة والطمأنينة والرضى في قلوبهم، وأثابهم على الرضى بحكمه، والصبر لأمره فتحًا قريبًا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر، ومغانمها، ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ثم ذكر سبحانه أنه هو الذي كف أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم، لما له في ذلك من الحكم البالغة التي منها أنه كان فيهم رجال ونساء قد آمنوا، وهم يكتمون إيمانهم، لم يعلم بهم المسلمون فلو سلطكم عليهم، لأصبتم أولئك بمعرة الجيش، وكان يصيبكم منهم معرة العدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به، وذكر سبحانه حصول المعرة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم؛ لأنها موجب المعرة الواقعة منهم بهم، وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم، لعذب أعداءه عذابًا أليمًا في الدنيا، إما بالقتل والأسر، وإما بغيره، ولكن دفع عنهم هذا العذاب لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم، كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال، ورسوله بين أظهرهم. ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم، التي لأجلها صدوا رسوله وعباده عن بيته ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه، وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها وسمعوا بها في مدة عشرين سنة، وأضاف هذا الجعل إليهم وإن كان بقضائه وقدره، كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم. ثم أخبر سبحانه أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية، فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه، وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم، ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى، وهي جنس يعم كل كلمة يتقى الله بها، وأعلى نوعها كلمة الإخلاص، وقد فسرت ببسم الله الرحمن الرحيم، وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها، فألزمها الله أولياءه وحزبه، وإنما حرمها أعداءه صيانة لها عن غير كفئها، وألزمها من هو أحق بها وأهلها، فوضعها في موضعها، ولم يضيعها بوضعها في غير أهلها، وهو العليم بمحال تخصصه ومواضعه. ثم أخبر سبحانه، أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين، وأنه سيكون ولا بد، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام، والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، فأنتم أحببتم استعجال ذلك، والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلموه، فقدم بين يدي ذلك فتحًا قريبًا، توطئة له وتمهيدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، ففي هذه تقوية لقلوبهم، وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصر لعدوه، ولا تخلٍّ عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يظهره على كل دين سواه. ثم ذكر سبحانه رسوله وحزبه الذين اختارهم له، ومدحهم بأحسن المدح، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل، فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم، إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا، ولهذا لما رآهم نصارى الشام وشاهدوا هديهم وسيرتهم، وعدلهم, وعملهم، ورحمتهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة، قالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء، وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم1.   1 زاد المعاد ج3 ص309-316 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة مدخل ... المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة أتم المسلمون نحر هديهم، وحلقوا رءوسهم، وبدءوا في الرحيل من الحديبية بعد عشرين يومًا مكثوا فيها، وكان الجو شديد الحرارة، والماء لدى المسلمين قليل، فأكرمهم الله تعالى بنزول المطر فشربوا، وارتووا، ونظفوا رحالهم، وملابسهم. كان صلح الحديبية هو الفتح المبين للإسلام، لأنه حقق ما كان يأمله النبي صلى الله عليه وسلم حيث انفتحت السبل أمام الدعوة، وصارت الحركة بالإسلام آمنة، وشعر المسلمون لأول مرة أن القرشيين انكفئوا على مصالحهم، وأخذوا يركزون على تجارتهم بعدما تأكدوا من عجزهم عن محاصرة الإسلام، والقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم. وشعرت القبائل العربية، والأعراب أنهم أمام الإسلام وجهًا لوجه، يسمعون دعوته، ويعلمون حقيقته، ويقفون على محاسنه ومزاياه؛ ولذلك وجدناهم لا ينتظرون مجيء الدعاة إليهم، وإنما أخذوا يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. وحين ننظر إلى مسرح الأحداث في مجمل الجزيرة العربية نلحظ صورًا متعددة، حيث اتخذ كل فريق موقفًا ارتضاه لنفسه. ففي جبهة مكة أخذ القرشيون يهتمون بمصالحهم الذاتية بعدما تيقنوا أن الأمر أفلت من أيديهم، واتضح لهم أن تجمع الأحزاب، وتأليب القبائل لا يفيدهم شيئًا, وكان تعاهدهم مع المسلمين على إيقاف الحرب بينهم يوم الحديبية هو عملهم الذي أخذوا يتحركون من خلاله. أما اليهود في منطقة خيبر وحولها، فقد فوجئوا بانسحاب قريش من المواجهة فبدءوا في تكوين تكتل جديد من بعض القبائل ليعملوا معًا لمحاربة الإسلام والمسلمين. وأما أغلب القبائل في الجزيرة العربية فقد رأت في الهدنة بين قريش والمسلمين انتصارًا للصمود الإسلامي، وبيانًا واضحًا لما ينادي به المسلمون من حق وصواب؛ ولذلك أخذوا في تفهم الإسلام، ومعرفة حقيقته، وصدقه. ولم يبق من قبائل الجزيرة إلا عدد قليل منها، لم ترض بالهدوء والأمن فأخذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 توجه إمكاناتها الضعيفة ضد الإسلام والمسلمين. ووجد المسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أنهم أمام توجيهات مختلفة لا بد أن يتعاملوا مع كل منها بما يناسبها؛ ولذلك تنوعت أعمال المسلمين، وتضاعفت حركاتهم بدين الله تعالى. لم يكن صلح الحديبية فرصة يستريح فيها المسلمون من شدة الجهاد، وصعوبة الحركة بدين الله تعالى. وإنما كان الصلح بداية لجهد شاق، وعمل دءوب عاشه المسلمون جميعًا انتصارًا للحق، وتأييدًا لدين الله تعالى. لقد بدأ المسلمون في المدينة يتصلون بإخوانهم في مكة، يشدون أزرهم، وينصحونهم بما يحتاجون إليه، ويدلونهم على كثير مما يحتاجون إليه. وأخذوا كذلك في الذهاب إلى أطراف العالم كله يبلغوه دين الله تعالى، ويحملون رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شيوخ القبائل، وملوك العالم، وسلاطين الدنيا. واستمروا في التصدي لليهود الذين اتخذوا من خيبر منطقة معادية للمسلمين، فأقاموا فيها حصونهم، وجمعوا الناس حولهم، وأخذوا يبثون في قبائل الأطراف التمرد على المسلمين، ويستعدون الرومان وأعوانهم للعمل ضد محمد ودينه. وقد عاشت المدينة المنورة نشاطًا واسعًا بعد الحديبية. وفي هذا المبحث سنتناول أهم الأحداث وبخاصة كيفية تعامل المسلمين مع كل الفرقاء على كثرتهم وذلك فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 أولا: هدوء جبهة قريش وظهور مفرزة أبي بصير رضي الله عنه تم توقيع الصلح في شهر ذي القعدة، والعرب بقبائلهم، وأعرابهم في مكة يقيمون أسواقهم، ويؤدون منسكهم وفق ما بقي عندهم من علم بدين إبراهيم عليه السلام. فشاهدوا ما حدث بين المسلمين وبين قريش، وعلموا بالصلح الذي تم. لقد كانت قريش تقود الحرب ضد الإسلام والمسلمين، وتجمع حولها المنافقين، واليهود، والأعراب، وكل معارض لظهور دين الله تعالى. فلما تم صلح الحديبية التزمت قريش به، وتخلت عن كافة أنشطتها المناوئة للإسلام، فانفرط عقد الأحزاب، وخمدت فتن المنافقين، وانحسر خطر اليهود، وتبعثرت القبائل الوثنية في أرجاء الجزيرة العربية، وأخذت قريش تهتم بمصالحها، وتجارتها وبخاصة بعدما أمنت طريق قوافلها. وأدى هذا الوضع إلى هدوء عام للعواصف القرشية التي كانت تثار ضد الإسلام وأخذ المسلمون يهتمون بتعريف الناس دينهم بالحسنى، ومخاطبة القبائل وإقناعها بالإسلام الأمر الذي أدى إلى دخول الناس في الإسلام بأعداد غفيرة، حتى إن الذين دخلوا في الإسلام في العام ما بين الصلح وعمرة القضاء كانوا أكثر عددًا من الذين أسلموا في المدة من أول البعثة حتى الحديبية. ولذلك تأكد الصحابة من أن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم كما أخبرتهم سورة الفتح. يروي الزهري: أن صلح الحديبية أعظم فَتْحٍ فُتِحَ في الإسلام. ويستدل ابن إسحاق على عظمة هذا الفتح بأن عدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية كانوا ألفًا وأربعمائة والذين خرجوا يوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف. إن صلح الحديبية أظهر الوجه الحقيقي للإسلام، فبدأ الناس يتأملونه؛ ولذلك سارعوا إلى الدخول فيه بعدما انزاحت العقبة الكئود أمام إيصال الحق للناس، واستمر تطبيق بنود الصلح المتفق عليها، ولم يحدث لها تغيير، إلا بعد أن طلب القرشيون تعديل البند الثالث الذي أظهر التطبيق العملي ضرره على قريش بعدما كون أبو بصير رضي الله عنه مفرزته في طريق أهل مكة. لقد جلبت قريش الشر لنفسها باشتراطها ضرورة إعادة من يسلم من أهل مكة إليها إذا هاجر إلى المدينة، وأثبتت الحوادث أن هذا الشرط أفاد الجبهة الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 كثيرًا وذلك بوقوع ما عرف بقصة "أبي بصير" وهو عتبة بن أسيد الثقفي رضي الله عنه فلقد أسلم بعد الصلح في مكة، وهرب منها وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأرسل قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون رده إلى قريش تطبيقًا لبنود الصلح، وحمل الطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "خنيس بن جابر العامري" ومولى لهم يسمى "كوثر" على بعير لهم ليعود بأبي بصير إلى مكة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا بصير أن يرجع معهم، ودفعه إليهما. فقال أبو بصير: يا رسول الله! تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني! فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بصير! إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجًا ومخرجًا". فقال أبو بصير: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تردني إلى المشركين. قال صلى الله عليه وسلم: "انطلق أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجًا". ودفعه إلى العامري وصاحبه. فخرج أبو بصير معهما، وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير! أبشر فإن الله جاعل لك مخرجًا، والرجل يكون خيرًا من ألف رجل، فافعل، وافعل يأمرونه بالذين معه لينقذ نفسه منهم فهذا حقه، وليفعل ما سيفعله قبل أن يفعل به، وقد أعد القرشيون للعودة به عدتهم، فلما وصلا به إلى ذي الحليفة عند صلاة الظهر صلى أبو بصير في مسجدها ركعتين صلاة المسافر, ومعه زاد له من تمر يحمله فمال إلى جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى ودعاهما للطعام فقالا له: لا حاجة لنا في طعامك. فقال لهم: ولكني لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم، فاستحيوا وأكلوا. وقد علق العامري سيفه أثناء الطعام على الجدار، وتحادثوا وقد أمن كل منهم للآخر فقال أبو بصير: يا أخا بني عامر ما اسمك؟ قال: خنيس. قال: ابن من؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 قال: ابن جابر. قال: يا أبا جابر أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله وكان قريبًا من السيف منه فأخذ أبو بصير بقائم السيف والعامري ممسك بالجفن فعلاه به وضربه حتى برد1. فخرج "كوثر" هاربًا يعدو نحو المدينة، وأبو بصير في إثره فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه بعد العصر، إذ طلع كوثر يعدو فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا رجل قد رأى ذعرًا". وأقبل "كوثر" حتى وقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك! ما لك"؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه وكاد أن يقتلني. وأقبل أبو بصير، فأناخ بعير العامري بباب المسجد، ودخل متوشحًا سيف العامري، فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، أو أكذب بالحق. فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِحَشُ حَرْبٍ لو كان معه رجال" 2. وقدم أبو بصير سلب العامري، ورحله، وسيفه، ليخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "إني إذا خمسته رأوا أني لم أوف لهم بالذي عاهدتم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك". ثم قال صلى الله عليه وسلم لكوثر: "ترجع به إلى أصحابك"؟ فقال كوثر: يا محمد ما لي به قوة ولا يدان تقدر عليه. فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "اذهب حيث شئت" 3.   1 المغازي ج2 ص626. 2 المرجع السابق. 3 المغازي ج2 ص627. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فخرج حتى أتى العيص، فنزل منه ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه مِحَشّ حَرْبٍ لو كان معه رجال". وأخبرهم أنه بالساحل، فاجتمع عند أبي بصير قريب من سبعين مسلمًا على رأسهم "أبو جندل بن سهيل"، فكانوا بالعيص، وضيقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر عير إلا اقتطعوها، ومر بهم ركب يريدون الشام، معهم ثمانون بعيرًا، فأخذوا ذلك، وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارًا، وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم، ويقرئهم ويجمعهم، وهم له سامعون مطيعون فغاظ قريشًا صنيع أبي بصير، وشق عليهم، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه، فلا حاجة لنا بهم فكتب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يتقدم بأصحابه معه، فجاءه الكتاب وهو يموت فجعل يقرؤه رضي الله عنه ومات، والكتاب في يده فدفنه أصحابه، وأقبلوا إلى المدينة وهم سبعون رجلا1. وهكذا تم إلغاء الشرط الذي وضعه القرشيون لأنفسهم، ظنًا منهم أنه يفيدهم في منع أهل مكة من اعتناق الإسلام. وقد استمرت جبهة قريش على هدوئها إلى أن نقضت قريش العهد بمناصرة بني بكر حلفائها على بني خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أن تم فتح مكة.   1 المغازي ج2 ص631. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ثانيا: العمل في المحيط العام "إرسائل الرسائل" مدخل ... ثانيًا: العمل في المحيط العام "إرسال الرسائل" انفتحت السبل، وأصبح الطريق آمنًا أمام الدعاة ليصلوا بدينهم للناس، وتشوق الجميع ليتعلموا هذا الدين الذي أعلنه محمد صلى الله عليه وسلم وتغلب به على قريش، وانتشر بسببه السلام بين العرب جميعًا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الجبهة أمام الدعوة قد اتسعت لتشمل الجزيرة كلها، والعالم كله، ما عدا جيوب صغيرة تأبى قبول الإسلام، والاستماع لدعاته، وهداه الله سبحانه وتعالى لوسيلة تناسب هذا التوسع، هي وسيلة الرسائل يحملها الصحابة، الذين يختارهم لحملها إلى رؤساء القبائل، وشيوخ العشائر، وملوك الدنيا، وفيها يدعونهم ومن وراءهم إلى الدخول في الإسلام. فأنشأ صلى الله عليه وسلم لـ"كتابة الرسائل" وهو الذي عرف بديوان الإنشاء، وقصد به إعداد المكان الذي تكتب فيه الرسائل التي يمليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملها من يختاره صلى الله عليه وسلم، كما يستقبل الرسائل التي تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو أول ديوان وضع في الإسلام، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكاتب أمراءه، وأصحاب سراياه من أصحابه، ويكاتبونه، وكتب إلى من أمكنه من ملوك الأرض ورؤساء العالم، يدعوهم إلى الإسلام. واتخذ من أصحابه من يكتب له، وقد ذكر ابن عساكر أنهم كانوا خمسة وعشرين صحابيًا فذكر منهم: عليا، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وأخاه "أبان"، وحنظلة بن أبي عامر الأسدي، وزيد بن ثابت, ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل ابن حسنة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، والزبير بن العوام، ومعيقب بن أبي فاطمة الدوسي، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي، وعمرو بن العاص، وجهيم بن الصلت, وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح1. وقد أوصلهم العراقي إلى اثنين وأربعين كاتبًا2، وأوصلهم الدكتور/ عبد الحي الفرماوي إلى ست وأربعين كاتبًا3. وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتَّابًا يعرفون لغة من سيكتب إليهم، وعلى رأسهم زيد بن ثابت،   1 الاستيعاب ج1 ص51. 2 التراتيب الإدارية ص192. 3 رسالة مخطوطة بكلية أصول الدين بعنوان: رسم المصحف ونقطه ورقة 18، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وأبي بن كعب، وعبد الله بن الأرقم، يقول ابن إسحاق: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك، وكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم، وزيد بن ثابت واحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى أمراء الأجناد والملوك أمر من حضر أن يكتب له1, وكان اختيار الرسول لكتابه على أساس اتصافهم بالصدق، والأمانة، والدقة والورع يقول أبو بكر لزيد بن ثابت: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، فقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن واجمعه2. يقول ابن حجر: لأنه لو لم تثبت أمانته، وكفايته، وعقله لما استكتبه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما وصفه بالعقل، وعدم الاتهام دون ما عداهما إشارة إلى استمرار ذلك فيه3. وكان الكتبة من الصحابة يكتبون على اللوح، والرق "الجلد المرقق" والكاغد "الصحيفة" واللخاف "الحجارة البيضاء الرقيقة"، والنحاس، والحديد، وعسيب النخل، وعلى عظم أكتاف الإبل، والغنم، والأدم4. يروي ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك وكان الملوك لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ رسول الله صلى اله عليه وسلم يومئذ خاتمًا من فضة وفصه منه، نقش عليه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم، الذين بعثه إليهم. وقد تميزت رسائله صلى الله عليه وسلم بالمواصفات التالية: 1- كان يضع عنوانًا لرسائله هو: "من محمد رسول الله إلى فلان", ويجعل العنوان قسمين، مفصول بينهما مثل: "من محمد رسول الله.. إلى فلان". 2- كان يصدر رسائله بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" يقول ابن حجر: جمعت كتبه   1 الفتح الرباني بشرح مسند الإمام أحمد الشيباني ج1 ص145. 2 صحيح البخاري كتاب الحكام باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا ج13 ص183. 3 فتح الباري ج13 ص184. 4 التراتيب الإدارية ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وغيرهم، فلم يقع لي شيء منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة1. 3- كان يبدأ رسائله بعد البسملة بذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، واسم المرسل إليه، أو شهرته فإن كان المكتوب إليه ملكًا كتب بعد ذكر اسمه عظيم القوم الفلانيين، وربما كتب ملك القوم الفلانيين، وربما كتب صاحب مملكة كذا، وكان يعبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم في أثناء كتبه بلفظ الإفراد، مثل إني، ولي، وجاءني، ووفد علي، وما أشبه ذلك، وربما أتى بلفظ الجمع مثل بلغنا، وجاءنا، ونحو ذلك، وكان يخاطب المكتوب إليه عند الإفراد بكاف الخطاب، مثل لك، وعليك، وتاء المخاطب، مثل أنت قلت كذا وكذا، وجعلت كذا، وعند التثنية بلفظها مثل أنهما، ولكما، وعليكما، وعند الجمع، بلفظه مثل أنتم، ولكم، وعليكم، وما أشبه ذلك2. 4- كان صلى الله عليه وسلم يكتب في رسائله: أما بعد، ويضعها فاصلة بين المقدمة وعرض الموضوع. 5- كان يختم رسائله: بالسلام، فيقول لأهل الكفر، والسلام على من اتبع الهدى، ويكتفي في بعضها بقوله والسلام. 6- كانت الرسائل تذيل باسم كاتبها، وبخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتوب فيه "محمد رسول الله" تكتب على ثلاثة أسطر في كل سطر كلمة "محمد" "رسول" "الله" من أسفل إلى أعلى، ليكون لفظ الله هو الأعلى3. 7- كانت الرسائل تؤرخ بالهجرة، حيث عرف التاريخ بها في زمنه صلى الله عليه وسلم. وقد كانت الرسائل عملا, دقيقًا، حسنًا، فبلغت الإسلام، وخاطبت الأمم والملوك بالحسنى، واشتملت على الحقائق التالية: أولا: وجهت الرسائل إلى الملوك والأمراء فهم قادة الناس، ورعيتهم على دينهم، قد تضمنت الرسائل ما يفيد مسئولية الملوك عن رعاياهم ومن ذلك: "فإنما عليك إثم المجوس"، "عليك إثم الإريسيين"، "فإنما عليك إثم النصارى"، "فإنما عليك إثم القبط"   1 فتح الباري ج8 ص68. 2 التراتيب الإدارية ص203. 3 الرسائل النبوية ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 "عليك إثم الأكاريين" وبذلك تعد هذه الرسائل تبليغًا لعالمية الإسلام بصورة عملية. ثانيًا: كانت الرسائل تتناسب مع المرسل إليهم لهجة، وأسلوبًا، واستدلالا ولذلك كانت تتكلم عن المسيح والكتاب إذ كان الملك من أهل الكتاب، وتتكلم عن مساوئ الكفر والضلال إذا كان الملك كافرًا كالمجوس. ثالثًا: كانت الرسائل واضحة في موضوعها فهي كلها تدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، وتتضمن الإنذار والتبشير، وتربط دوام الملك بالإيمان، وتخوف من زوال الملك حين الاستمرار على الكفر والمعصية1. وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه في شهر المحرم سنة سبع، بعد العودة من الحديبية بعشرين يومًا وبعدها تتابعت كتبه إلى سائر الناس، وقد عد ابن سعد منها أكثر من سبعين كتابًا2, وفيما يلي نصوص أهم هذه الكتب:   1 النظام السياسي في الإسلام ص144. 2 انظر الطبقات الكبرى ج1 ص258-279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 1- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ملك الحبشة : حمل الرسالة إلى النجاشي الصحابي عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه ونص الرسالة: "هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1 فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى من قومك". وقد رحب النجاشي بالرسالة، ووضعها على عينه، وأعلن إسلامه أمام جعفر بن أبي   1 سورة آل عمران: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 طالب، وكتب ردًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه: "إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم سلام عليك نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، والله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت فروقًا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك، وأصحابك فأشهد أنك رسول الله صادقًا، مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين"1. ثم جهز سفينتين حمل فيهما المهاجرين إلى الحبشة، وعاد بهم عمرو بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فوصلوا إليها في شهر رجب من السنة السابعة، والمسلمون في غزوة خيبر.   1 الرحيق المختوم ص351، 352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 2- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر : حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وقد جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم أهل القبط1 {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ". وقد قام حاطب بدعوة المقوقس إلى الإسلام، وبين له قرب النصارى من المسلمين وأن محمدًا هو الذي بشر به عيسى عليه السلام. وقد أخذ المقوقس الكتاب، وكتب ردًا عليه جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك"2.   1 حسن المحاضرة ج1 ص42. 2 الرحيق المختوم ص 353، 354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 3- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى ملك فارس : وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى كسرى حملها الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس"1.   1 الطبقات الكبرى ج3 ص381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 4- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر الروم : وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى قيصر الروم، قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} "1.   1 سورة آل عمران: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 واختار النبي صلى الله عليه وسلم لحمل هذا الكتاب دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر. وقد روى البخاري عن ابن عباس: أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء "بيت المقدس" فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبًا. فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. يقول أبو سفيان: فوالله، لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عنه. ثم قال: أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن دخل فيه. قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قلت: بقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة, والصدق، والعفاف، والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا قلت لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف. فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا: فقلت لأصحابه حين أخرجنا لقد علا أمر ابن أبي كبشة وإنه ليخافه على ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام1.   1 صحيح مسلم ج5 ص163 تاريخ الطبري ج2 ص290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 5- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى : وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالة إلى المنذر جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل، فإن من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقط نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية"1. وحمل الرسالة إلى المنذر العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.   1 الرحيق المختوم ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 6- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هوذة بن علي وثمامة بن آثال صاحبي اليمامة: وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابي سليط بن عمرو العامري رضي الله عنه رسالة إلى هوذة جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك"1.   1 الرحيق المختوم ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 7- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبي شمر صاحب دمشق : وأرسل شجاع بن وهب من بني خزيمة رضي الله عنه برسالة إلى الحارث بن أبي شمر صاحب دمشق جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك"1.   1 الرحيق المختوم ص359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 8- كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك عمان وأخيه : وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر ملك عمان وأخيه عياد برسالة جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعياد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما"1.   1 الرحيق المختوم ص359، والظاهر أن الرسالة التي حملها، عمرو بن العاص كانت بعد هذا التاريخ لأن عمرو بن العاص أسلم بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 9- الدعاة حملة الرسائل : تخير النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه رضي الله عنهم الأعرف بدينه الجميل في خلقته، الكريم في خلقه، القوي في شجاعته، الأمين في عمله ونشاطه، الحليم في صبره، الداهية في قوله وعمله، وأرسلهم فرادى لمواجهة ملوك الأرض وشعوبها، ودعوتهم إلى الله تعالى. وقد حمل هؤلاء الصحابة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك ورؤساء الدنيا، ولكنهم ما يكونوا مجرد حاملين للرسائل، وإنما كانوا دعاة، يحملون دينهم، ويعملون له، ويدعون إليه بالحسنى، ويردون عنه زيف الضالين، وشبه المحرفين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهم بالخلق الكريم، والتعامل السهل، يروي البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: "يسروا ولا تعسروا إنما بعثتم ميسرين لا معسرين". ويروي البخاري أيضًا بسنده عن أبي سعيد بن بردة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن وقال لهما: "يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا، تطاوعا ولا تختلفا" 1. يقول ابن حجر: كان ذلك شأنه صلى الله عليه وسلم في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات2. وحين ننظر إلى أعمال هؤلاء السفراء وأقوالهم ندرك دورهم في الدعوة إلى الله تعالى، ونعلم بيقين أن هؤلاء السفراء لم يكونوا رجالا عاديين، وأنهم تميزوا بعدة صفات أهمها: أ- الفهم الدقيق للإسلام، وإحاطتهم التامة بكل ما نزل من القرآن الكريم وبكل ما حدث به صلى الله عليه وسلم. ب- خبرتهم الواسعة بالجهات التي ذهبوا إليها، وبالناس الذين تحدثوا معهم،   1 صحيح البخاري. كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول ج1 ص323. 2 صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يكره في التنازع ج6 ص163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ولذلك كانوا يتكلمون معهم، ويناقشونهم في عقائدهم حديث الخبير الذي يعرف حقائق الشيء ظاهرًا وباطنًا ويدرك حاجته، ومراميه. ج- تحليهم بحسن الخلق، والصبر الجميل ومراعاة حق مخاطبيهم في الفهم والمعرفة ولذلك كانوا يشرحون، ويوضحون ويجيبون على أي تساؤل يوجه إليهم. د- اتصافهم بسرعة مواجهة المواقف المفاجئة، وحسن الحيلة، وبذلك تخلصوا من الانفعال والعصبية، وتمكنوا من تحقيق الغاية التي ذهبوا إليها. هـ- تمتعهم بحسن الفهم، وحسن الخطاب، وحسن العرض، ولذلك كانوا يتكلمون مع من يحادثهم في مسائل هامة، في بداهة عالية، وهدوء رصين، ودقة ملتزمة بتعاليم الإسلام. و صدقهم في الاعتقاد، ولذلك وفوا لإيمانهم، وحافظوا على حقوق محدثيهم وعرضوا قضيتهم بكل صدق، ووضوح، بلا تردد أو مداراة، وكانوا دعوة عملية صريحة. ز- شجاعتهم الشخصية النابعة من ثقتهم في الله، واعتزازهم بالانتساب إليه جعلهم يؤكدون صدق الإسلام وإن خالف ما عليه الناس ويناقشون الملوك والرؤساء وهم فرادى، وسقط أبهة الملك، وقوة السلطان. إن هذه الصفات جعلتهم سفراء لله ورسوله، حين تحدثوا مع من أرسلوا إليهم، يتضح ذلك حين ننظر في كلماتهم التي ذكروها لمن ذهبوا إليهم. من ذلك ما ذكره دحية الكلبي لقيصر الروم، قال له: "يا قيصر أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله هو خير منه ومنك، فاسمع بذل، ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات. قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من دبر خلق السماوات والأرض والمسيح في بطن أمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 أدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى، وبشر به عيسى بن مريم بعده وعندك من ذلك آثاره، من علم تكفي من العيان، وتشفي من الخبر. فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة، وشوركت الدنيا، وأعلم أن لك ربًا يقصم الجبابرة، ويغير النعم. فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه وقبله، ثم قال: أما والله ما تركت كتابًا إلا وقرأته، ولا عالمًا إلا سألته، فما رأيت إلا خيرًا، فأمهلني حتى أنظر من كان المسيح يصلي له، فإني أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدًا ما هو أحسن منه فأرجع عنه فيضرني ذلك، ولا ينفعني1. ومنه أيضًا ما ذكره العلاء الحضرمي للمنذر بن ساوى ملك البحرين قال له: يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة. إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكره على أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة. ولست بعديم عقل، ولا فاقد رأي فانظر. هلى ينبغي لمن لا يكذب أن لا تصدقه؟! ولمن لا يخون أن لا تأمنه؟! ولمن لا يخلف أن لا تثق به؟! فإن كان هذا هكذا، فهو هذا النبي الأمي، الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه، إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر. فقال المنذر: قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، إن من إعظام من   1 الروض الأنف ج4 ص249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 جاء به أن يعظم رسله، وسأنظر1. ومن ذلك ما ذكره عمرو بن العاص للجلندي، قال له: يا جلندي إنك وإن كنت منا بعيدًا، فإنك من الله غير بعيد. إن الذي تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك واعلم أنه يميتك الذي أحياك، ويعيدك الذي بدأك. فانظر في هذا النبي الأمي الذي جاء بالدنيا والآخرة، فإن كان يريد به أجرًا فامنعه أو يميل به هوى فدعه، ثم انظر فيما يجيء به هل يشبه ما يجيء به الناس فإن كان يشبهه فسله العيان، وتخير عليه في الخبر، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال، وخف ما وعد. قال الجلندي: إنه والله لقد دلني على صدق هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الموعود، وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوي فيه أهله، وأشهد أنه نبي2. ومن ذلك ما ذكره المهاجر بن أبي أمية للحارث بن عبد كلال، حيث قال: يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فخطئت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرًا. فإذا نظرت في غلبة الملوك، فانظر في غالب الملوك. وإذا سرك يومك فخف غدك. وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها، وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا، وأملوا بعيدًا، وتزودوا قليلا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم. وإني أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعه منك أحد وأدعوك إلى النبي الأمي الذي ليس له شيء أحسن مما يأمر به، ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربًا يميت الحي ويحيي الميت، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.   1 الروض الأنف ج4 ص250. 2 الروض الأنف ج4 ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 فقال الحارث: قد كان هذا النبي عرض نفسه عليّ فخطئت عنه، وكان ذخرا لمن صار إليه، وكان أمره أمرًا سبق، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع، ولم يكن لي قرابة أحتمله عليها، ولا لي فيه هوى أتبعه له، غير أني أرى أمرًا لم يوسوسه الكذب ولم يسنده الباطل، له بدء سار، وعاقبة نافعة, وسأنظر. إن هذه المواعظ التي واجه بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك والرؤساء تدل بوضوح على عبقرية هؤلاء الصحابة، ومدى تمتعهم بالمزايا التي يجب أن يتحلى بها الدعاة وهم يتحركون بالإسلام فهم ليسوا موظفين عاديين يؤدون عملهم وفقط، وإنما هم أصحاب رسالة، وجنود قضية، يعيشون لها، ويتحركون بها. وتحقيق انتصارها هي كل همهم، واهتماماتهم. إن الجو الذي قيلت فيه هذه الكلمات يؤكد طبيعة هؤلاء الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها قيلت لملوك وأمراء، وهم بين جنودهم، ووزرائهم، وحاشيتهم، ولم يكن أحد منهم قد دخل في الإسلام بعد بينما المتحدث رجل واحد، هو سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدلالة الموقف واضحة في تأكيد شجاعة وقوة شخصية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبين في نفس الوقت قوة ولائهم للقضية التي جاءوا من أجلها. لقد دار الحديث حول قضايا العقيدة فدعوا إلى الإيمان بالله الواحد، ونبذ عبادة غيره مع تقديم الدليل المناسب لكل منهم. فمع قيصر يدلل الداعية على وحدانية الله بعبودية المسيح لله، ومع المنذر المجوسي يدلل بهوان النار وضررها، على عدم صلاحيتها للألوهية، وأن الألوهية الحقة هي لله الخالق. وهكذا سار كل داعية في كلمته اتجاهًا يتناسب مع محدثه، بلا اصطدام معه، وبطريقة تدعوه إلى النظر والتدبر. لقد ركزوا في كلماتهم السابقة على أهم أركان الإيمان وأساسيات العقيدة وهي: - الإيمان بالله الواحد. - الإيمان بالرسول النبي الأمي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 - الإيمان بالآخرة بما فيها من حساب وجزاء. ولم يتكلموا في الأركان الباقية؛ لأن الإسلام كله، بأركانه وفروعه يتحقق تبعًا لهذه الأركان الثلاثة. إن هؤلاء الرجال هم نماذج الدعاة في العالم كله، وقد تمكنوا من نشر الإسلام في الناس، لحسن خلقهم، وسعة معارفهم، وبلاغه خطابهم، وجمال عرض قضيتهم. ونلاحظ من حركة الدعاة في العالم، وحملهم لرسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى تفاعل المجتمع كله بالإسلام، وطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوحيده في إطار تعالم الدين، وتحقيق المصالح الحقيقية للناس أجمعين. لم يحدث أن حكى التاريخ معارضة صحابي لأمر كلفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان في التكليف فناء دنياه. ولم ينقل أحد من العلماء أن صحابيًا جبن حين ذهابه وحيدًا يبلغ الإسلام في الأماكن البعيدة لقوم غير مسلمين. ولم تكن حركة الدعاة بعيدة عن عقول وقلوب المسلمين في المدينة, بل كان المجتمع كله يتابع أخبار الدعاة، ويعايش مسارهم، ويدعو لهم، مع كل الاستعداد للبذل والفداء من أجلهم، ومن أجل الله تعالى. وهذا ما نتمناه لأمة الإسلام التي يجب أن تسترشد في حياتها بعصر القدوة، عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ثالثا: القضاء على إرهاب اليهود في خيبر وما حولها مدخل ... ثالثًا: القضاء على إرهاب اليهود في خيبر وما حولها بعد القضاء على اليهود في المدينة وضواحيها، والتخلص من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، تجمع من بقي منهم في خيبر وهي على بعد ثمانين ميلا شمال المدينة المنورة. وخيبر عبارة عن ولاية في واد متسع تتناثر فيه التلال والمرتفعات، وقد جعل اليهود كل تل قرية صغيرة تتكامل منافعها وحاجاتها وجعلوا كل بيت حصنًا، وأحاطوا البيوت بسور منيع حتى صارت كل قرية حصنًا كبيرًا. وقد أقام اليهود بيوتهم في خيبر بناء على نظرتهم للحياة، حتى يرون ضرورة التحصن خلف الجدر، وتوزيع الاستيطان في الأماكن العالية الحصينة، وإحاطة مساكنهم بالنخيل، والأشجار ليستفيدوا بثمرها، ويستتروا بها من عدوهم، ويعيشوا جنودًا محاربين ما دامت حياتهم فيها، وقد سمى اليهود موطنهم بـ"خيبر" ومعناه الحصن، والبعض يسميها "خيابر" إشارة إلى كونها مجموعة من الحصون المنيعة القوية. وقد أخذ اليهود في إعداد العدة لمواجهة المسلمين وغيرهم، فأكثروا من تدريب رجالهم، وتسليحهم، وكانوا يخرجون كل يوم قبل الفجر، فيلبسون السلاح، ويصفون الكتائب، ويتجمعون في عشرة آلاف مقاتل استعدادًا للمسلمين، وإرهابًا لمن تسول له نفسه أن يأتي إليهم لمقاتلتهم. ونظرًا لما في خيبر من زروع كثيرة، وثمار متنوعة فإنهم كانوا يسخرونها لكسب مودة القبائل، والتحالف معهم على المسلمين. وقد تصور كثير من العرب أن اليهود في خيبر قوة لن تهزمها قوة أخرى، وكان اليهود أنفسهم يشيعون ذلك، ويقولون: محمد يغزونا! هيهات هيهات، وكان اليهود الذين وادعوا المسلمين في المدينة يقولون بعد أن تحرك المسلمون إلى خيبر: لو رأيتم خيبر وحصونها لعلمتم أن المسلمين سيرجعون قبل أن يصلوا إليها، حصون شامخات في ذرى الجبال والماء فيها دائم، وقوتهم ظاهرة بارزة1. والحديث عن مواجهة يهود خيبر يقتضي بيان ما يلي:   1 المغازي ج2 ص636. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 1- حصون خيبر : تخير اليهود التلال العالية، والجبال المرتفعة، في الوادي وأقاموا فوقها حصونهم، وقلاعهم. والحصن الواحد عبارة عن عدد من البيوت المعدة للسكن، يضم الملاجئ العديدة والمخابئ القوية، ومصانع السلاح، ومخازن المؤن والطعام، وترتبط المخازن في الحصون الرئيسية، والمخابئ بأنفاق محفورة تحت الأرض وطرق معدة بين الزروع تضمن الحركة الآمنة للانتقال فيما بينها، وتحاط بيوت الحصن ومكملاتها بسور كبير عرضًا، وطولا، وارتفاعًا، نصبت فيه البوابات الضخمة، وأسس في أعاليه نقاط للحراسة والدفاع، ونصب المنجنيق، وجهزت أماكن الرماة. وتختلف الحصون عن بعضها سعة واستعدادًا، تبعًا لموقعها، وقدرة أصحابها، وأهميتها في التصدي والمقاومة. وتخضع الولاية كلها لنظام إداري واقتصادي واحد، ويعرف كل حصن باسم صاحبه، أو فائده, ويحكم الحصون كلها الأحبار ورجال الدين. وتتكون الحصون الرئيسية من مجموعات وكل مجموعة قوة متكاملة يسهل الانسحاب من كل حصن فيها إلى غيره، ويعين كل منها الآخر بالرجال والسلاح حين الحاجة. والحصون الرئيسية في خيبر ثلاثة مجموعات. أولاها: يقع في منطقة تسمى "النطاة" وتتكون من ثلاثة حصون هي: 1- حصن ناعم. 2- حصن الصعب بن معاذ. 3- حصن قلعة الزبير. وثانيها: يقع في منطقة تسمى "الشق" وتتكون من حصنين هما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 1- حصن أبي. 2- حصن النزار. وثالثها: يقع في منطقة تعرف بـ"الكتيبة" وتتكون من ثلاثة حصون هي: 1- حصن القموص، وهو حصن أبناء أبي الحقيق من بني النضير. 2- حصن الوطيح. 3- حصن السلالم. وحصون المجموعتين الأولى والثانية أكثر تحصينًا من الثالثة، ولذلك دار القتال الشديد حولهما أما حصون المجموعة الثالثة فقد استسلمت للمسلمين بلا قتال بعد سقوط المجموعتين الأوليين1. وقد جهز اليهود حصن الصعب في المجموعة الأولى، وحصن النزار في المجموعة الثانية، بالمؤن والعتاد ليكونا موئل الأسر والذراري. وقد قام اليهود بزراعة الوادي المنخفض بالزروع، والنخيل، والأشجار العالية، وحفروا كثيرًا من الآبار لسقي الأرض، ومد الحصون بالمياه. وبهذا التصوير الواقعي لخيبر ندرك ما صنعه اليهود ليتحقق لهم الاستقلال الاقتصادي، والديني، والعسكري، ونرى مدى حرصهم على حماية أنفسهم، ونشاطهم، ومعرفة منهجهم في الحياة الأمر الذي أدى بهم إلى غرور دفعهم إلى التآمر على الإسلام والمسلمين، وإلى تجميع ما يمكنهم من القبائل لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 المغازي ج2 ص669. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 2- تحرك المسلمين نحو خيبر : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الحديبية عشرين يومًا تحرك بعدها إلى خيبر، وقد وعده الله تعالى بمغانم خيبر فقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} 1. والآية تشير إلى ما في صلح الحديبية من خير عجله الله تعالى لهم، كما تعدهم بمغانم كثيرة بعد ذلك هي مغانم خيبر، وقد شعر المنافقون وضعفاء الإيمان بما في خيبر من غنائم فعزموا على الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذوا منها فأمره الله تعالى بمنعهم في قوله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 2. ولذلك قال النبي لأصحابه: "لا يخرج معنا إلا راغب في الجهاد". فخرج معه الذين بايعوه تحت الشجرة وعددهم ألف وأربعمائة. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة رضي الله عنه. وبعد أن صلى المسلمون صلاة الصبح تحرم الجيش الإسلامي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر "بالكسر وقيل بالتحريك" ثم الصهباء، ثم نزل على واد يقال له: "الرجيع" وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان، وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسًا ولغطًا فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا إلى ديارهم لحراسة الديار وحماية الذراري والنساء وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يرشدان الجيش ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال أي جهة الشام فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام كما يحول بينهم وبين غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله فسار الجيش حتى انتهى إلى مفرق طرق وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد، فأمره صلى الله عليه وسلم أن   1 سورة الفتح: 20. 2 سورة الفتح: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 يسميها له واحدًا واحدًا. قال الرجل: اسم واحد منها حزن فأبى النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه. وقال: اسم الثاني شاش، فامتنع منه أيضًا. وقال صلى الله عليه وسلم: اسم آخر حاطب، فامتنع منه أيضًا. فقال حسيل، فما بقي إلا واحد منها. قال عمر: ما اسمه؟ قال: مرحب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه تفاؤلا باسمه. وقد حدث في الطريق إلى خيبر أن رجلا من القوم قال لعامر بن الأكوع: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق". قالوا: عامر بن الأكوع. قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به1. وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد، وقد استشهد عامر في غزوة خيبر. وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم". وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.   1 صحيح البخاري باب غزوة خيبر ج6 ص374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فقال لي: "يا عبد الله بن قيس". قلت: لبيك رسول الله. قال: "ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة". قلت: بلى يا رسول الله، فداك أبي وأمي. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" 1. وعند الصهباء أدنى خيبر صلى رسول الله بالمسلمين العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمض الناس، ثم صلى ولم يتوضأ، ثم صلى العشاء2. بات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر، واليهود لا يشعرون بهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى قوما بليل لم يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغلس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون فلما خرجوا لأرضهم، ورأوا الجيش قالوا: محمد، والله محمد والخميس3، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" 4. وكان النبي صلى الله عليه وسلم اختار لمعسكره منزلا وسط الأشجار، تعلوه الحصون فأتاه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله أرايت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي في الحرب؟ قال: "بل هو الرأي". فقال: يا رسول الله إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيه، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضا هذا بين النخلات، وفي مكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد، نتخذه معسكرًا.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر ج6 ص380، 381. 2 المغازي ج2 ص642، 643. 3 معنى قولهم والخميس أن الجيش أقبل في خمسة أركان مقدمة، ومؤخرة، وميمنة، وميسرة، وقلب. 4 صحيح البخاري باب غزوة خيبر ج6 ص376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قال صلى الله عليه وسلم: "الرأي ما أشرت، ثم تحول إلى مكان آخر". ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال صلى الله عليه وسلم: "قفوا". فوقف الجيش فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا لنسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا بسم الله". ولما كانت ليلة الدخول قال: "لأعطين الراية غدًا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب". فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه". فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" 1.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر ج6 ص383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 3- اقتحام الحصون : وصل المسلمون إلى مجموعة النطاة، وعرض علي بن أبي طالب على أهل النطاة الإسلام فأبوا، فعرض عليهم الاستسلام ودفع الجزية فأبوا، وهنا كان لا بد من قتالهم حتى ينزلوا على حكم الله تعالى. بدأ المسلمون بمهاجمة مجموعة "النطاة" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كيدًا لهم وفتحًا للطريق إليهم وإزالة للموانع الموجودة أمام حصونهم بقطع نخيلهم، وقد بلغ عدد النخيل الذي قطع أربعمائة نخلة، وكان المسلمون يعسكرون ليلا بالرجيع، ويهاجمون النطاة نهارًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 ومن يجرح منهم يأخذوه إلى الرجيع، واستمر المسلمون على ذلك سبعة أيام، جرح منهم عدد كثير، حيث جرح منهم خمسون رجلا في أول يوم، وقد جرح محمد بن مسلمة بعدما أدلى عليه "مرحب" اليهودي رحى هشمت بيضته وجرح حليفة، فعالجه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه إلى الرجيع، فمات بها بعد ثلاثة أيام. واشتد الأمر على المسلمين فساق الله إليهم يهودي، وأخذ ينادي: أنا آمن وأبلغكم؟ فقالوا: نعم. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدله على عورة اليهود فغدوا عليهم، فظفرهم الله بهم. وبعد سقوط تحصينات النطاة وجد المسلمون أنفسهم أمام حصن الناعم، وهو الحصن الرئيسي في النطاة وصاحبه هو "مرحب اليهودي" الذي كان يعد بألف فارس. دعا علي بن أبي طالب أهل الحصن إلى الإسلام فأبوا، فخرج "مرحب" وطلب المبارزة فبارزه أولًا عامر بن الأكوع فاستشهد عامر رضي الله عنه فدعا مرحب إلى المبارزة مرة أخرى فخرج له علي بن أبي طالب وقتله. ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو مرحب وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل ابني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بل ابنك يقتله". فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم طوال الأيام السبعة، قتل فيه عدة سراة من اليهود، انهارت بعده مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصعب، واقتحم المسلمون حصن ناعم، واستولوا على عدد من الحصون التابعة له. وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وفي النطاة وقد ملأه اليهود بالطعام، وأسكنوا فيه الذراري، والنساء. قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث جاء بنو سهم للنبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه حالهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لفتح هذا الحصن دعوة خاصة. فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعامًا وودكًا". فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه1. ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن، كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، وقد فتح الحصن في ذلك اليوم وهو الثالث قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات. وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس تلة عالية، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله الحصار، وأقام محاصرًا له ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل يشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك، فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال وقتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى الشق، وتحصنوا بقلعة أبي، ففرض المسلمون عليهم الحصار، فلما طلب اليهود المبارزة وخرج منهم رجلان بارزهم المسلمون، وقتلوهما. وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء، وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة،   1 الرحيق المختوم ص370، 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 واقتحمها معه الجيش الإسلامي، وجرى قتال مرير داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في المجموعة الثانية. وكان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل، ولذلك جمعوا في هذه القلعة الذراري والنساء وساعدوا من كان في الصعب منهم على الانسحاب إليه حينما رأوا بوادر سقوط الحصن في يد المسلمين. وفرض المسلمون على هذا الحصن الحصار الشديد، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولأن الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يجدوا سبيلا لاقتحامه، ولم يجرؤ اليهود على الخروج من الحصن، للاشتباك مع قوات المسلمين، لكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق، وقذفوا بها القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير داخل الحصن، انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، ففر أغلبهم من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع ثم فتح النطاة والشق، وهرب اليهود إلى المنطقة الثالثة. ولما تم فتح ناحية النطاة والشق، تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجموعة الكتيبة وفيها حصون الوطيح والسلالم والقموص حصن أبي الحقيق من بني النضير، وقد جاء إليها أغلب من انهزم من النطاة والشق، وتحصن هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جرى قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام. أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاثة إنما أخذت بعد المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال. وقد فرض رسول الله على منطقة الكتيبة أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا يخرجون من حصونهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 4- نهاية غزوة خيبر : لما اشتد حصار المسلمين للكتيبة أرسل ابن أبي الحقيق الأكبر وكان محاصرًا في قلعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه في الصلح فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انزل". فنزل وصالح النبي صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء على أن يخرج أهل خيبر الرجال والنساء والذراري جميعًا منها، ويخلوها للمسلمين بكل ما فيها من مال، وأرض، وذهب، وفضة، وماشية، وعقار, بحيث يخرج الواحد منهم بثوبه فقط. فقال صلى الله عليه وسلم: "برئت منكم ذمة الله ورسوله إن كتمتم شيئًا". قال: نعم1. وتم الصلح على ذلك، وتسلم المسلمون الحصون، وفتحت خيبر. واستشهد من المسلمين في خيبر عدد قليل يدور بين ستة عشر وثلاثة وعشرين شهيدًا وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون قتيلًا2. وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، يروي البخاري بسنده عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر3. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم إلى ثلاثة آلاف وثمانمائة سهم جعل نصفها للمقاتلين والنصف الثاني جعله صلى الله عليه وسلم للمسلمين، وحاجاتهم4. ولما تم الصلح طلب يهود خيبر من رسول الله إبقاءهم فيها لزراعة الأرض وفلاحة البساتين ولهم نصف نتاجها، فوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقاهم مزارعين في أرضها5.   1 المغازي ج2 ص671. 2 المغازي ج2 ص700. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر ج6 ص397. 4 وزع صلى الله عليه وسلم نصف المقاتلين لكل فارس سهم، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان. 5 صحيح البخاري كتاب المغازي باب معاملة النبي أهل خيبر ج6 ص398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 5- في أعقاب خيبر : نقض ابنا الحقيق عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا كثيرًا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتى رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبى أن يؤديه فدفعه إلى الزبير، وقال: خذه معك حتى تستأصل ما عنده، فحبسه الزبير حتى أقر بما عنده. ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، ليضرب عنقه قصاصًا لأخيه محمود بن مسلمة الذي قتله كنانة غيلة بإلقاء الرحى عليه عند حصن ناعم. وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق وأحدها كان زوج صفية بنت حيي وهو كنانة بن أبي الحقيق بعد نقضهما العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الذي اعترف عليهما وأخبر رسول الله بإخفاء المال هو ابن عم كنانة1. وفي هذه الغزوة قدم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة، ومعهم الأشعريون أبو موسى عبد الله بن قيس وأصحابه رضي الله عنهم ومعهم أسماء بنت عميس رضي الله عنها2. قال أبو موسى: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين، أنا وأخوان لي في بضع وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرا وأصحابه عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا   1 زاد المعاد ج3 ص327. 2 المرجع السابق ج3 ص332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا إلى رسول الله مع المهاجرين العائدين من الحبشة فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئًا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه وقبله، وقال: "والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟ 1. وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلا، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم، وبقيتهم رجعوا قبل ذلك لأنهم لما سمعوا بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع ثلاث وثلاثون رجلا وثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس فيها سبعة، وشهد منهم أربعة وعشرون رجلا بدرًا. وكانت صفية في السبايا حين قتل زوجها كنانة بن أبي الحقيق لغدره، ولما جمع المسلمون السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية من السبي. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك. قال: "ادعوه بها". فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" 2. وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت، فجهزتها له أم سليم، وأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسويق. ورأى صلى الله عليه وسلم بوجهها خضرة، فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئًا، فقصصتها على زوجي، فلطم وجهي،   1 زاد المعاد ج3 ص333. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة1. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فلاك منها مضغة فلم يستسغها، ولفظها ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: قلت إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها صلى الله عليه وسلم2. ووفد أبو هريرة رضي الله عنه ونفر من أوس على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وفي ذلك يقول أبو هريرة: قدمنا المدينة، ونحن ثمانون بيتًا من أوس، فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري. فلما فرغنا من صلاتنا قال قائل: رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وهو قادم عليكم. فقلت: لا أسمع به في مكان أبدًا إلا جئته، فزودنا سباع بن عرفطة، وحملنا حتى جئنا خيبر فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح النطاة، وهو محاصر الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا3. وجاء لرسول الله نفر من بني فزارة، وكانوا قد قدموا على أهل خيبر ليعينوهم فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وسألهم أن يخرجوا عنهم ولكم من خيبر كذا وكذا فأبوا عليه، فلما أن فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بني فزارة، فقالوا: حظنا الذي وعدتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكم ذو الرقيبة"، جبل من جبال خيبر. فقالوا: إذا نقاتلك. فقال صلى الله عليه وسلم: "موعدكم جنفًا".   1 زاد المعاد ج3 ص327. 2 السيرة النبوية ج2 ص337. 3 سبل الهدى والرشاد ج5 ص212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 فلما أن سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا هاربين1. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الحمر الأهلية فعن سلمة رضي الله عنه قال: أتينا خيبر فحاصرناها حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى، فتحها علينا، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم، أوقدوا نيرانًا كثيرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال صلى الله عليه وسلم: "على أي لحم"؟. قالوا: لحم حمر إنسية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهرقوها، واكسروا الدنان". فقال رجل: أو نهرقها ونغسلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أو ذاك" 2. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور حيث قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ولا يبع شيئًا من المغنم حتى يعلم، ولا يركب دابة من المغنم حتى إذا أدبرها ردها، ولا يلبس ثوبًا من المغنم حتى إذا أخلقه رده، ولا يأت امرأة من السبي حتى تستبرأ بحيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع الحمل". ومر على امرأة مجح، فقال: "لمن هذه"؟. فقيل: لفلان. فقال: "لعله يطؤها"؟. قالوا: نعم. قال: "كيف بولدها؟ يرثه وليس بابنه، لقد هممت أن ألعنه لعنة تتبعه في قبره" 3. وهكذا فتحت خيبر وزال نفوذ اليهود من الجزيرة العربية كلها.   1 سبل الهدى والرشاد ج5 ص213. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي. 3 إمتاع الأسماع ص324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 6- تطهير الجبهة الشمالية من أتباع يهود خيبر : بعدما مكن الله للمسلمين من خيبر، نظروا حول خيبر فوجدوا جيوبًا يهودية في فدك، وتيماء، ووادي القرى، وكان من الضروري القضاء على عدوانية هذه الأقاليم حتى لا يكرروا كيدهم للمسلمين مرة أخرى. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "فدك"1 الصحابي محيصة بن مسعود رضي الله عنه ليدعوهم إلى الإسلام فأبوا، ولما علموا بفتح خيبر أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحوه على ما صالح عليه خيبر، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم ذلك. وحين انصراف المسلمين من خيبر نزلوا بوادي القرى2 فاستقبلهم أهلها بالرمي، فعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وأعطى راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشرة رجلا، كلما قتل منهم رجل دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقي إلى الإسلام ويمتنعون. وكلما جاء وقت صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فيمتنعون فيقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أمسوا، وفي اليوم التالي تعذر الوضع، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها المسلمون عنوة، وغنموا أموالهم، وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم على أصحابه، ما أصاب بها وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها كما عامل أهل خيبر3.   1 بفتح الفاء والدال، قرية بالحجاز بين مكة، والمدينة وهي أقرب إلى المدينة منها إلى مكة. "معجم البلدان". 2 وادي القرى بضم القاف واد بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة، وبها كانت ديار ثمود. "معجم البلدان". 3 زاد المعاد ج3 ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ولما بلغ يهود "تيماء" خبر استسلام "أهل خيبر" ثم "فدك"، و"وادي القرى" لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون للصلح، فقبل ذلك منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا بأموالهم, وكتب لهم بذلك كتابًا، وهاك نصه: "هذا كتاب محمد رسول الله لبني عادي، إن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد". ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة وكان رجوع المسلمين في أواخر صفر أو في أول ربيع الأول سنة سبع من الهجرة1. وفي جمادي الأولى بعد عودة رسول الله إلى المدينة جاء أبو العاص بن الربيع مهاجرًا من مكة بعد إسلامه فرد رسول الله ابنته زينب إليه2. وبالقضاء على اليهود في خيبر، وفي المناطق حولها، لم يبق لليهود وجود قوي، ومع ذلك رفضوا الدخول في دين الله تعالى، واستمروا في كيدهم للإسلام والمسلمين وورثوا هذا الكيد لما جاء بعدهم من ذراريهم, وبذلك عاشوا على ضلالهم, وداوموا العداء لدين الله تعالى. وهم على ذلك إلى اليوم رغم تشتتهم في البلاد، وتقطع أوصالهم، وذهاب هويتهم.   1 زاد المعاد ج3 ص355. 2 سنن أبي داود ج3 ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 رابعا: مواجهة القبائل المتمردة مدخل ... رابعًا: مواجهة القبائل المتمردة أدى صلح الحديبية إلى تمايز كل فريق بنيته وعمله، وبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعامل مع كل جبهة بما يناسبها. فهادن قريشًا ومن سار على نهجها. وواجه العالم بتبليغ الإسلام إليه، وتعريفه بدين الله تعالى. وواجه اليهود، وذهب إليهم في حصونهم حتى قضى على خطورتهم. وبقيت أمامه ثلة من القبائل المتناثرة في الجزيرة العربية التي عاشت على النهب والإغارة، ظنت نفسها بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منقطعة عن المسلمين لبعدهم عنهم فأخذت تعمل ضد الإسلام متصورة أن المسلمين لن يعلموا شيئًا عن أخبارهم. ولم تكن هذه القبائل في بلدة واحدة، أو في مكان ثابت، بل هم من الرحل المتنقلين ولذلك كان لا بد لتأديبهم بواسطة حملات تأديبية سريعة وخفيفة، ومفاجئة، ليعلموا أنهم تحت بصر المسلمين، ومحل اهتمامهم, وليتيقنوا أن المسلمين بفضل الله ومعونته يملكون حسن التعامل مع كل فريق, بما يكافئه بحيث لا يخدعهم لئيم ولا يفاجئهم غادر. وقد أدت الحملات التأديبية لهذه القبائل إلى وقوع الغزوات والسرايا التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 1- غزوة ذات الرقاع : علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بطونًا من غطفان، المجاورين لخيبر قد تألموا لما لحق بأنصارهم من يهود خيبر وهم أنمار، وبنو ثعلبة، وبنو محارب، فأخذوا يجتمعون، ويستعدون لمهاجمة المدينة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إليهم في سبعمائة من أصحابه بعدما ولى على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار حتى وصل إلى "نخل"1 فلقي جمعًا من غطفان، فتوافق الطرفان، ولم يقع قتال بعدما هاب كل طرف الطرف الآخر. يروي البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت الغزوة بـ"ذات الرقاع"، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا2. ويسمي البعض هذه الغزوة بغزوة الأعاجيب لما ظهر فيها من الآيات العجيبة وخوارق العادات المذهلة. يروي البخاري بسنده عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا   1 نخل بفتح فسكون موضع بنجد من أرض غطفان في طريق الشام من ناحية مصر "معجم البلدان". 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع ج6 ص332 وقيل: سميت بذلك لرقاع كانت في أثوابهم وقيل الرقاع اسم للمكان أو اسم للجبل وفيها ألوان كالرقاع، ولا مانع من صحة أن تكون كل هذه أسباب للتسمية لأنها جميعًا كانت موجودة وقت الغزوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر, ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف على رأس رسول الله ثم قال: أتخافني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا". قال الرجل: فمن يمنعك مني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الله". فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل: كن خير آخذ. قال صلى الله عليه وسلم: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"؟. قال الرجل: أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك: فخلى سبيله فجاء إلى قومه، فقال جئتكم من عند خير الناس. قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني"؟ قلت: الله. فها هو ذا جالس". ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وفي رواية البخاري قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث. قال ابن حجر: ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين والله أعلم2. والأعاجيب المروية كثيرة وهي مفصلة في كتب السيرة والسنة. وكانت غزوة ذات الرقاع في ربيع الأول سنة سبع للهجرة3.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع ج6 ص337. 2 صحيح البخاري باب غزوة ذات الرقاع ج6 ص337. 3 تناول ابن حجر كافة الأقوال التي ذكرت في سنة هذه الغزوة. "فتح الباري ج7 ص417". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 2- سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح في قديد 1: وقعت هذه السرية في ربيع الأول سنة سبع للهجرة، وسببها أن بني الملوح قتلوا أصحاب بشير بن سويد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وحين رجوعهم إلى المدينة طاردهم جيش كبير من العدو، أنقذهم الله تعالى منه لأنه حين قرب منهم نزل مطر غزير، وامتلأ الوادي بسيل عظيم حال بين الفريقين، وانسحب المسلمون وعادوا إلى المدينة غانمين منتصرين2.   1 القديد بضم القاف وفتح الدال تصغير قد موضع قرب مكة. "معجم البلدان". 2 زاد المعاد ج3 ص362, سيرة النبي ج2 ص609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 3- سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 1: أعلنت هوازن عدم موافقتها على صلح الحديبية مع أنها مجاورة لمكة وتقع بناحية العيلاء على طريق صنعاء ونجران وكان المأمول أن تسالم كما فعلت قريش، وبخاصة أنها شاهدت قوة المسلمين، وعلمت حرصهم على نشر الإسلام، وتبليغه للناس جميعًا. لكن هذا المأمول لم يتحقق، لأن هوازن أخذت تعد العدة العدة لمهاجمة رسول الله في المدينة، والاستيلاء على أموال المهاجرين والأنصار، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثين رجلا يقودهم دليل بن هلال، فأخذوا يسيرون في الليل، ويكمنون في النهار، فلما علمت هوازن بخبرهم هربوا، فلما جاء عمر ديارهم لم يجد أحدًا فرجع إلى المدينة1.   1 تربة بضم التاء وفتح الراء واد خصب قرب مكة. 2 زاد المعاد ج3 ص359، 360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 4- سرية بشير بن سعد إلى بني مرة: سار بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه إلى بني مرة في إحدى نواحي "فدك" وهم جماعة من اليهود أبت أن تدخل في صلح قومهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد إليهم في شعبان سنة سبع للهجرة في ثلاثين رجلا. خرج إليهم بشير فلم يجد أحدًا منهم، فاستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه بنو مرة عند الليل فرموهم بالنبل حتى فني بشير وأصحابه، فقتلوا جميعًا إلا بشيرًا فإنه حمل جريحًا إلى فدك، فأقام عند يهودي حتى برأت جراحه، وعاد إلى المدينة1.   1 الطبقات الكبرى ج2 ص120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 5- سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة : سار غالب بن عبد الله الليثي في رمضان سنة سبع للهجرة إلى بني عوان، وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، في مائة وثلاثين رجلا فهجموا عليهم جميعًا، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعمًا وشاء وعادوا إلى المدينة بما غنموا1.   1 زاد المعاد ج3 ص360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 6- سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر: سار عبد الله بن رواحة إلى خيبر في شوال سنة سبع للهجرة في ثلاثين راكبًا، وذلك أن أسير بن رزام كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فلما وصل ابن رواحة إليهم خاطب أسيرا وأطمعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر إن ترك جماعته فتركهم مع ثلاثين من أصحابه، وهنا وقع الشقاق بين أسير وقومه فتقاتلوا قتالا شديدًا، وتمكن المسلمون من الرجوع إلى المدينة، وقد أفضى شقاق القوم إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين وبذلك تفرق القوم، ولم يقع مع المسلمين قتال، وتم القضاء على رأس الفتنة، وعاد المسلمون سالمين إلى المدينة1.   1 زاد المعاد ج3 ص360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 7- سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار : ثم كانت سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار في سنة سبع من الهجرة، وذلك أن حسيل بن نوبرة الأشجعي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من غطفان بالجناب، قد واعدوا عيينة بن حصين أن يزحفوا إلى أطراف المدينة. فذكر ذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنه، فأشار بإرسال بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وكان حسيل دليلهم، حتى أتوا إلى يمن وجبار وهي نحو الجناب والجناب يعارض "سلاح" و"خيبر" ووادي القرى، فنزلوا بسلاح، ثم دنوا من القوم فأصابوا نعمًا كثيرًا ملأوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء فأنذروا أصحابهم، فمروا على وجوههم، فلم يلق بشير أحدًا، وعاد بالنعم، فوجد عينًا لعيينة فقتله، ثم لقي جمع عيينة فأوقع بهم وهم لا يشعرون وقد ناوشهم بشير حتى انهزموا، وأسر منهم رجلا أو رجلين، وقدم بهما المدينة فأسلما وتركهما الرسول صلى الله عليه وسلم لحالهما1.   1 زاد المعاد ج3 ص360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 8- سرية أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة : سار أبو حدرد الأسلمي إلى الغابة، وملخصها أن رجلا من جشم بن معاوية أقبل في عدد كبير على الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين فاختار أبو حدرد خطة حكيمة، وهزم العدو هزيمة منكرة، واستاق الكثير من الإبل والغنم1.   1سيرة النبي ج2 ص629 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 9- سرية أبي بكر رضي الله عنه إلى بني هلال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه في نفر من أصحابه لمباغتة بني كلاب بنجد في ناحية "ضرية" في شهر شعبان في العام السابع، ففاجأ القوم، وبيتهم ليلا وقتل منهم عددًا، عاد بعدها إلى المدينة المنورة1.   1 زاد المعاد ج3 ص359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 10- سرية غالب بن عبد الله إلى بني مرة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي على مائتي رجل في صفر سنة ثمان، ومعه أسامة بن زيد وعلبة بن زيد الحارثي إلى بني مرة لتأديبهم على ما فعلوه مع بشير بن سعد وصحبه، فسار حتى دنا منهم، وبعث الطلائع عليها علبة بن زيد، فأعلموه خبرهم ثم وافاهم، وحضهم على الجهاد، وأوصاهم بالتقوى، وحمل بهم على القوم فقاتلوا ساعة ثم حووا الماشية والنساء، وقتلوا الرجال، ومر أسامة بن زيد في إثر رجل منهم يقال له: نهيك بن مرداس، حتى دنا منه، فقال: لا إله إلا الله، فقتله، ثم ندم وأقبل إلى جماعته فقال له غالب بن عبد الله: بئس والله ما فعلت، تقاتل امرأ يقول: لا إله إلا الله. وقدموا المدينة، فحدث زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره. فقال: "قتلته يا أسامة! وقد قال: لا إله إلا الله؟! ". فجعل أسامة يقول: إنما قالها تعوذًا من القتل. فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب"؟. فقال أسامة: لا أقتل أحدًا يقول لا إله إلا الله أبدًا1.   1 زاد المعاد ج3 ص361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 خامسا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة عمرة القضاء ... خامسًا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة حافظ المسلمون والقرشيون على ما تعاهدوا عليه في الحديبية، وتفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل في جبهات جديدة عديدة بعد أن أمن جبهة قريش، ولذلك تضاعف العمل، ونشطت الدعوة بعد صلح الحديبية، ومر عام من الجهاد والدعوة، وجاء موسم الحج وهو الموعد المتفق عليه لأداء العمرة، فتحرك المسلمون لأداء عمرتهم وتم لهم وعد الله تعالى حينما قال لهم سبحانه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 1. وبعد أداء العمرة واصلوا حركتهم بالدعوة ومواجهة الطغيان والمتمردين: وفي هذه الدراسة سنتناول الأمور الآتية: 1- عمرة القضاء: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع وجماديين، ورجبًا وشعبان ورمضان وشوالا. فلما أهل شهر ذي القعدة من العام السابع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتجهزوا لأداء العمرة التي أجلوها من العام الماضي. وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء لأنها قضاء عن عمرة العام السابق. كما تسمى عمرة القصاص لأن الله كتبها لهم عوضًا عن الأولى التي لم تمكنهم قريش منها فتمت مثلا بمثل، وتسمى عمرة الصلح لأنها تمت بناء على بنود صلح الحديبية. وتسمى عمرة القضية لأن رسول الله قاضى أهل مكة وصالحهم على هذه العمرة. والبعض يسميها: غزوة القضاء لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسها قاصدًا مكة   1 سورة الفتح الآية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 ليدخلها، رغم أنف المشركين فيها1. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا، وألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف من أهلها أحد، ممن هو حي، وخرج معهم عدد من غير أهل الحديبية فبلغ عدد الخارجين للعمرة ألفين. وقال جماعة من المسلمين: والله يا رسول الله ما لنا زاد، وما من أحد يطعمنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. فقلوا: يا رسول الله بما نتصدق، وأحدنا لا يجد شيئًا؟ فقال: "بما كان ولو بشق تمرة، ولو بمشقص يحمل به أحدكم في سبيل الله" 2. فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3 يعني أن ترك النفقة في سبيل الله يؤدي إلى الهلكة. وساق صلى الله عليه وسلم ستين بدنة جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه، يطلب الرعي بها في الشجر، ومعه أربعة فتيان من أسلم، وكان أبو رهم كلثوم بن حصين الغفاري، ممن يسوقها ويركبها. وقلد صلى الله عليه وسلم هديه بيده، وحمل السلاح وفيها البيض والدروع، وقاد مائة فرس أمر عليها محمد بن مسلمة، واصطحب العتاد والسلاح، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وأحرم من باب المسجد، وسار يلبي والمسلمون معه يلبون. فلما انتهى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، وجد بها نفرًا من قريش، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يصبح في هذا المنزل غدًا إن شاء الله. فلما رأوا سلاحًا كثيرا مع بشير بن سعد، أسرعوا إلى مكة، وأخبروا قريشًا ففزعوا، وقالوا: والله ما أحدثنا حدثًا، ففيم يغزونا محمد؟ ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قدم السلاح إلى بطن يأجج، وترك معه مائتين من   1 البداية والنهاية ج4 ص226، 227. 2 إمتاع الأسماع ج1 ص336 والمشقص السهم العريض النصل. 3 سورة البقرة: 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 أصحابه، عليهم أوس بن خولى رضي الله عنه. وخرج مكرز بن حفص في نفر حتى لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن يأجج. فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم! وقد اشترطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر والسيوف في القرب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أدخل عليهم السلاح". فعاد مكرز إلى مكة فخرجت قريش إلى رءوس الجبال وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه وحبس صلى الله عليه وسلم الهدى بذي طوى، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلع على الحجون وقد ركب القصواء، وأصحابه حوله متوشحو السيوف يلبون، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن1. وتحدثت قريش عن جهد المسلمين وضعفهم، ووقف منهم جماعات عند دار الندوة ليروا ما تصوروه فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، وأخرج عضده الأيمن، ثم قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم قوة"!. فلما انتهى إلى البيت وهو على راحلته، وابن رواحة آخذ بزمامها، وقد صف له المسلمون دنا من الركن فاستلمه بمحجنه، وهو مضطبع بثوبه، وهرول هو والمسلمون في الثلاثة الأشواط الأول، وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه، وهو آخذ بزمام الناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إيه يابن رواحه! قل: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده! فقالها ابن رواحة وقالها الناس". فلما قضى صلى الله عليه وسلم طوافه، خرج إلى الصفا فسعى على راحلته، والمسلمون يسترونه من أهل مكة أن يرميه أحد منهم أو يصيبه بشيء، ووقف عند فراغه قريبًا من المروة، وأوقف الهدي عندها فقال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" 2. ونحر عند المروة وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، وشركه في الهدي من شهد الحديبية، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص له في البقرة، وكان قد قدم رجل من الأعراب ببقر فاشتراه الناس منه، وحلق صلى الله عليه وسلم عند المروة حلقه معمر بن عبد الله العدوي.   1 الفتح الرباني باب عمرة القضاء ج21 ص131. 2 البداية والنهاية ج4 ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ثم دخل صلى الله عليه وسلم البيت، ولم يزل فيه حتى أذن بلال بالظهر فوق ظهر الكعبة. وخطب صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو في مكة فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فتزوجها صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وقيل: بل تزوجها لما أحل بسرف. ولما حان موعد خروج المسلمين من مكة ورجوعهم إلى المدينة جاءتهم عمارة بنت حمزة رضي الله عنها تنادي: يا عم، يا عم. فأخذها علي رضي الله عنه. وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين! فخرج بها، حتى إذا دنوا من المدينة أراد زيد بن حارثة أن يتزوجها لأنه كان وصي حمزة وأخوه أخوة المهاجرين، وقال: أنا أحق بها، إنها ابنة أخي. فقال جعفر بن أبي طالب: الخالة والدة وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس. فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسب دوني، وأنا أحق بها منكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله ورسوله, وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي, وأما أنت يا جعفر فتشبه خَلقي وخُلقي، أنت يا جعفر أولى بها، تحبك خالتك". فقضى بها لجعفر. فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا يا جعفر"؟. قال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله. فقال علي رضي الله عنه: تزوجها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: "هي ابنه أخي من الرضاعة" 1. ولما كان الظهر في اليوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الأنصار، وهو يتحدث مع سعد بن عبادة، فقالا: قد انقضى   1 زاد المعاد ج3 ص372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أجلك يا محمد، فاخرج عنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعت طعامًا"؟. فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا، ننشدك الله والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا! فهذه الثلاث قد مضت! فغضب سعد بن عبادة وقال لسهيل: كذبت لا أم لك! ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح منها إلا طائعًا راضيًا. فتبسم صلى الله عليه وسلم ثم قال: "يا سعد! لا تؤذ قومًا زارونا في رحالنا". فأسكت الرجلين عن سعد, وروي أنهم بعثوا عليًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج عن بلدهم1. وأمر صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: "لا يمسين بها أحد من المسلمين". وركب حتى نزل سرف، وخلف أبا رافع ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، فخرج بها مساء، ولقي عنتًا من سفهاء المشركين فبنى صلى الله عليه وسلم على ميمونة بسرف. ولم ينزل بمكة بيتًا، وإنما ضربت له قبة من أدم بالأبطح، وظل هناك حتى سار منها وأثناء إقامته بعث بمائتي رجل ممن طافوا بالبيت إلى بطن يأجج، فأقاموا عند السلاح حتى أتى الآخرون فقضوا نسكهم، وبعد أن أدى المسلمون عمرتهم عادوا إلى المدينة في ذي الحجة من نفس العام2. وفي صفر من العام الثامن، وبعد استقرار المسلمين في المدينة خرج عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي من مكة، بعد مرجعه من الحبشة، يريد المدينة، فهاجر فوجد في طريقه خالد بن الوليد القرشي المخزومي، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة القرشي العبدري، وقد قصدوا قصده، فقدموا المدينة، ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه خالد أولا، ثم بايعه عثمان، ثم عمرو فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما كان قبله والهجرة تجب ما كان قبلها". وهكذا أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بعد هذه الرحلة الطويلة من الجهاد والمعاناة، وصارا من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولله في خلقه شئون.   1 زاد المعاد ج3 ص372. 2 إمتاع الأسماع ص336 إلى ص341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 2- سرية ابن أبي العوجاء : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي العوجاء في شهر ذي الحجة سنة سبع في خمسين رجلا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سليم، ليدعوهم إلى الإسلام. فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا. وكان مع ابن العوجاء رجل من بني سليم سبق السرية، وأخبر قومه بقدومها فتجمعوا واستعدوا وقاتلوا قتالا شديدًا حتى قتل أغلب رجال السرية، وجرح فيها أبو العوجاء، وتحامل المسلمون حتى رجع من عاش منهم إلى المدينة في أول صفر من العام الثامن1.   1 المرجع السابق ج2 ص752. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 3- سرية غالب بن عبد الله : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد إلى بني الملوح بالكديد في صفر سنة ثمان في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعمًا، وقتلوا منهم قتلى وقد تبعهم القوم فحال الله بينهم بواد عميق ملأه المطر ماء1.   1 المغازي ج2 ص750. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 سرية ذات الصلح ... 4- سرية ذات أطلاح: سرية ذات أطلاح في ربيع الأول سنة ثمان، كانت بنو قضاعة قد حشدت جموعًا كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلا، فلقوا العدو فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل حتى استشهدوا كلهم إلا رجلا واحدًا، فقد جرح وتحامل حتى أتى المدينة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما هم بإرسال سرية أخرى لتأديبهم علم أنهم تركوا ديارهم وأقاموا في مكان آخر1.   1 المرجع السابق ج2 ص752. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 5- سرية ذات عرق : سرية ذات عرق إلى بني هوازن في ربيع الأول سنة ثمان، كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى، فأرسل إليها شجاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلا فاستاقوا نعمًا من العدو، ولم يلقوا كيدًا1.   1 الرحيق المختوم ص386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 6- سرية شجاع بن وهب إلى السي: كانت سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى السي، وهو ماء من ذات عرق إلى وجرة يريد بني عامر بناحية ركبة في ربيع الأول سنة ثمان، على أربعة وعشرين رجلا، فخرج حتى أغار على القوم وهم فارون، فأصابوا نعمًا وشاء، وقدموا المدينة بسبايا، فيهن جارية وضيئة، فلما قدم بنو عامر إلى رسول الله مسلمين رد إليهم ما أخذ منهم، واختارت الجارية الوضيئة شجاع بن وهب، وكان قد أخذها بثمن فأقامت عنده حتى قتل باليمامة رضي الله عنه1.   1 المغازي ج3 ص754. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 7- سرية قطبة بن عامر إلى خثعم بتبالة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية "تبالة" فخرجوا على عشرة أبعرة يتعقبونها، فوجد قطبة رجلا فسأله فلم يجبه عن القوم وجعل يصيح بالحاضرين، فضرب عنقه، وشن الغارة ليلا فقاتله القوم قتالا شديدًا، وأتى قطبة عليهم، وساق النعم والشاء والنساء حتى قدم المدينة، فكانت سهامهم أربعة أبعرة لكل رجل أو عدلها: عشرة من الغنم عن كل بعير1. ويلاحظ أن السرايا التي تحركت بعد عمرة القضاء توجهت إلى قبائل بعيدة عن المدينة، وهي من الرحل الذين لا يستقرون في مكان واحد، وأن الهدف كان منعهم من التفكير في الإغارة والنهب, وإحاطتهم بقوة المسلمين, وتعريفهم ما في الإسلام من حق ومزايا.   1 إمتاع الأسماع ص344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 سادسا: بدء مواجهة الرومان والقبائل التابعة لها مدخل ... سادسًا: بدء مواجهة الرومان والقبائل التابعة لها: علت قوة المسلمين في الجزيرة كلها واستكان القرشيون، وعلم الناس خبر الإسلام فبدءوا الدخول فيه غير أن نفرًا من الناس وبخاصة من لهم صلة بالرومان أبوا الانصياع للواقع الجديد فبدءوا يلتقون بالرومان، ويتعاونون معهم في التصدي لدعاة الإسلام، وكراهية قوة المسلمين. وشجعهم على ذلك ما فعله صاحب بصرى شرحبيل بن عميل الغساني عامل البلقاء من قبل قيصر الروم حيث مزق كتاب رسول الله وقتل الصحابي الحارث بن عمير الأزدي حامل الرسالة. إن هذا الفعل جريمة تحتاج إلى المواجهة حتى لا يتصور الناس ضعفًا بالمسلمين فيستهينون بهم، ويصدون الدعاة عن تبليغ الحق، وحمل الإسلام إلى الناس. إزاء هذا الواقع الذي حدث في شمال الجزيرة العربية بدأت مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية مع هذه المنطقة رغم بعدها عن المدينة، واستعداداتها العسكرية الضخمة، وقد أدت المواجهة مع هؤلاء الناس إلى حدوث السرايا التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 1- سرية مؤتة 1: أدى مقتل الصحابي "الحارث بن عمير" حامل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى إلى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتألمه لهذا العدوان الذي لا يراعي حقًا، ولا يحترم خلقًا، فجهز جيشًا من ثلاثة آلاف صحابي، وأمر عليه ثلاثة من خيرة الصحابة هم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم فأمر زيدًا أولا وقال لهم: "إن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فعبد الله". وعقد لهم لواء أبيض2. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان خارج المدينة فعسكر بـ"الجرف" وندب الصحابة للخروج، ولم يبين لهم الأمر، حتى صلى بهم الظهر فجلس معهم، وعين الأمراء، وعقد   1 مؤتة: قرية بأدنى بلاد الشام في منطقة البلقاء. 2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج21 ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 اللواء وأعطاه للأمير الأول، زيد بن حارثة، وأخذ المؤمنون يدعون قائلين وهم يودعون المجاهدين: دافع الله عنكم وردكم صالحين غانمين. وقد ودع رسول الله الجيش حتى ثنية الوداع، وهناك أوصاهم فقال لهم: "أوصيك بتقوى الله، وبمن معك من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، واكفف عنهم. ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. إن دخلوا في الإسلام واختاروا أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا الإسلام فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم إن تنقضوا ذمتكم وذمة آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين للناس، فلا تتعرضوا لهم وستجدون آخرين في رءوسهم مفاحص الغدر والهوى فاقلعوها بالسيوف. ولا تقتلن امرأة ولا صغيرًا ضرعًا، ولا كبيرًا فانيًا، ولا تغرقن نخلا، ولا تقلعن شجرًا ولا تهدموا بيتًا"1. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيء أحفظه عنك. قال صلى الله عليه وسلم: "إنك قادم غدًا بلدًا، السجود فيه قليل فأكثر السجود". قال ابن رواحة: زدني يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "اذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب". فقام عبد الله من عنده، حتى إذا مضى ذاهبًا رجع. فقال: يا رسول الله! إن الله وتر يحب الوتر. فقال: "يابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشرًا أن تحسن واحدة". فقال: لا أسألك عن شيء بعدها2. ومضى المسلمون، وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتهوا إلى مقتل الحارث بن عمير وسمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، فقام فيهم رجل من الأزد يقال له: شرحبيل بن عمرو الغساني، وقدم الطلائع أمامه، وبعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين فلقوا المسلمين بوادي القرى فقاتلهم المسلمون وقتلوا سدوسًا. ونزلوا معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من البلقاء في مائة ألف من الروم، ومعه من بهراء ووائل، وبكر، ولخم، وجذام مائة ألف عليهم رجل من بلى يقال له: مالك. فأقاموا ليلتين بـ"معان" وأرادوا أن يكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ليردهم أو يزيدهم رجالا، فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به،   1 إمتاع الأسماع ج1 ص348، 349. 2 المغازي ج2 ص756-758. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 انطلقوا والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد وما معنا إلا فرس واحد، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم، فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وليس لوعده خلف وإما الشهادة، فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان. فشجع الناس ومضوا إلى مؤتة، فرأوا المشركين ومعهم ما لا قبل للمسلمين به من العدد، والسلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب. قال أبو هريرة: وقد شهدت ذلك فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعًا كثيرة. قلت: نعم. قال: لم تشهدنا ببدر، إنا لم ننصر بالكثرة. وقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم: فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، وعلى الميمنة قطبة بن قتادة السدوسي، وعلى الميسرة عباية بن مالك، فقتل زيد طعنًا بالرماح. ثم أخذ اللواء جعفر فنزل عن فرسه فعرقبها، ثم قاتل حتى قتل: ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد في نصفه بضع وثلاثون جرحًا، وقيل: وجد فيما بين منكبيه، اثنتان وسبعون ضربة بسيف أو طعنة برمح، ووجد به طعنة قد أنفذته. ثم أخذ اللواء بعده عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل1. وسقط اللواء، فاختلط المسلمون والمشركون، وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة، وقتلوا، وأتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرًا، فما يثوب إليه أحد، ثم تراجعوا، فأخذ اللواء ثابت بن أقرم، وصاح: يا للأنصار، فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: هلموا إلي أيها الناس. فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان.   1 المغازي ج2 ص760-762. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 فقال خالد: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، وقد شهدت بدرًا. قال ثابت: خذه أيها الرجل، فوالله ما أخذته إلا لك. فأخذه خالد وواصل القتال، وجعل المشركون يحملون عليه، فثبت حتى كل المشركون، وحمل بأصحابه ففض جمعًا من جمعهم، ثم دهمه منهم بشر كثير فتحملها خالد والمسلمون حتى انتهى اليوم. بات خالد ليلته ووضع خطة جديدة فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقة وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، وصمد في واد واسع ينتهي بمضيق جهة الرومان فلما جاء الرومان من المضيق، ورأوا تنظيم المسلمين أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم، فقالوا: قد جاءهم مدد، ورعبوا، فانكشفوا منهزمين، وحين تراجعهم اضطربوا في المضيق وأدى تزاحمهم إلى هلاك كثير منهم وقتل المسلمون منهم مقتلة لم يقتلها قوم آخرون1. وقتل من المسلمين يوم مؤتة اثنا عشر شهيدًا بما فيهم القواد الثلاثة وانسحب الجيش الإسلامي وعاد إلى المدينة ببعض الغنائم وتحدث أهل المدينة بأن الجيش فر من المعركة وسموهم بالفرار, فقعد الناس في بيوتهم حتى لا يسمعوا من يناديهم يا فرار. وكانوا يصلون في دورهم ولا يحضرون جماعة المسجد. فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار في سبيل الله" 2. والصحيح أن كل فئة انحازت عن الأخرى، وأطلع الله سبحانه وتعالى على ذلك رسوله من يومهم ذلك، فأخبر به أصحابه وقال عنهم صلى الله عليه وسلم: "لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحه ازورارًا عن سرير صاحبيه، فقلت عم هذا؟ فقيل لي: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى".   1 إمتاع الأسماع من ص345 إلى ص349. 2 المغازي ج2 ص765. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل لي جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من در، كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيدًا وابن رواحة في أعناقهما صدود، ورأيت جعفرًا مستقيمًا ليس فيه صدود قال: فسألت فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا أو كأنهما صدا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جعفر: "إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء". قال أبو عمر: وروينا عن ابن عمر أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه، تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وقال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن منبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك". قال: أخبرني يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله، ووصفهم له، فقال: والذي بعثك بالحق، ما تركت من حديثهم حرفًا واحدًا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم" 1.   1 زاد المعاد ج3 ص383 المغازي ج2 ص767. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 2- غزوة ذات السلاسل 1: بعد انتهاء غزوة مؤتة، ورجوع المسلمين إلى المدينة بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفرًا من "بلى وقضاعة" وهم الذين كانوا مع الرومان في مؤتة يجتمعون ويستعدون لمهاجمة أطراف المدينة فجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا من المسلمين بلغ ثلاثمائة رجل ومعهم ثلاثون فرسًا وأمر عليهم عمرو بن العاص رضي الله عنه لرحمه فيهم لأن أمه كانت بلوية أملا في تأثرهم بقرابته وعقد له اللواء وأعطاه راية سوداء. أخذ عمرو رضي الله عنه يتحرك بالجيش فكان يسير في الليل ويكمن بالنهار، فلما اقترب من القوم أرسل طلائعه للوقوف على خبرهم فبلغه أنهم جمع كثيف، فأرسل ابن مكيث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بجمع القوم، ويستمده بالرجال، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في مائتين من كبار الصحابة، فلحقوا بعمرو وجنوده، فاختلف أبو عبيدة وعمرو   1 البداية والنهاية ج4 ص255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 فيمن يتولى إمارة الجيش حيث رأى أبو عبيدة أنه أمير مجموعته، وتمسك عمرو بأنه قائد الغزو، والمدد يتبعه، ولا يصح تواجد قائدين على جيش مسئول عن مهمة واحدة. وبعد جدل ونقاش سلم أبو عبيدة القيادة لعمرو وقال له: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا". وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك1، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس، فآب إلى عمرو جمع، فصاروا خمسمائة، فسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلى ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا به تفرقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين. ولقي في آخر ذلك جمعًا ليس بالكثير، فقاتلوا ساعة وتراموا بالنبل. ورمي يومئذ عامر بن ربيعة بسهم فأصيب ذراعه، وحمل المسلمون عليهم فهربوا، وأعجزوا هربًا في البلاد وتفرقوا. وهزم عمرو من هناك وأقام أيامًا لا يسمع لهم بجمع ولا بمكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون، لم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم إلا ما ذكر له2. وتميز عمرو بن العاص بحسمه في القرار، وحسن قيادته لجنده، وكان يصر على تنفيذ ما يأمر به وبخاصة أنه في ميدان معركة لا يصح معه الجدل، والنقاش فلقد أمر جنوده بعدم إشعال النار ليلا رغم شدة البرد وقسوة الشتاء حتى لا يجد العدو مبيتهم فيفاجئهم. كما أصر على وحدة القيادة، وأطاعه أبو عبيدة رضي الله عنه وعاد المسلمون بعد انتهاء اللقاء إلى المدينة سالمين.   1 البداية والنهاية ج4 ص273. 2 المرجع السابق ج4 ص274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 3- سرية الخبط : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في سرية فيها المهاجرون والأنصار، وهم ثلاثمائة رجل، إلى ساحل البحر إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فأكلوا الخبط حتى إن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير العضة، فمكثنا على ذلك حتى قال لهم أبو عبيدة: لو لقينا عدوًا ما كان بنا حركة إليه، لما بالناس من الجهد. فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمرًا يجزر، يوفيني الجزر ها هنا وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر بن الخطاب يقول: واعجباه لهذا الغلام، لا مال له يدان في مال غيره فوجد قيس رجلا من جهينة فقال له: بعني جزرًا وأوفيك سقة من تمر بالمدينة. قال الجهني: والله ما أعرفك؟ ومن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم. قال الجهني: ما أعرفتني بنسبك، أما إن بيني وبين سعد خلة، سيد أهل يثرب، فابتاع منهم خمس جزر كل جزور بوسقين من تمر، يشترط عليه البدوي تمر ذخيرة مصلية من تمر آل دليم. يقول قيس: نعم. فقال الجهني: فأشهد لي فأشهد له نفرًا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين. قال قيس: أشهد من تحب، فكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عمر: لا أشهد هذا يدان ولا مال له، إنما المال لأبيه. قال الجهني: والله ما كان سعد ليخنى بابنه في سقة من تمر، وأرى وجهًا حسنًا وفعالا شريفًا. فكان بين عمر وبين قيس كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزورًا فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره. وقال أبو عبيدة: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ 1. أقبل أبو عبيدة بن الجراح ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قيس ونهياه عن ذبح الجزر فقال أبو عبيدة: عزمت عليك ألا تنحر، أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي دين الناس، ويحمل الكل   1 المغازي ج2 ص775. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ويطعم في المجاعة، لا يقضي سفة تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله، فكاد أبو عبيدة أن يلين له، ويتركه حين جعل عمر يقول: اعزم عليه فعزم عليه، فأبى عليه أن ينحر، فبقيت جزوران معه حتى وجد القوم الحوت في البحر فكفاهم اثنى عشر يومًا. فقدم قيس المدينة ظهرًا مع المسلمين وهم يتعاقبون على ما بقي معه من الإبل وبلغ سعد ما كان أصاب القوم من المجاعة. فقال: إن يكن قيس كما أعرفه فسوف ينحر للقوم. فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابهم؟ قال: نحرت. قال: أصبت انحر. قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم نحرت. قال: أصبت، انحر. قال: ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك. فقلت: أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي وبالمجاهدين. قال أبوه: فلك أربع حوائط، وكتب له بذلك كتابًا، وأتى بالكتاب إلى أبي عبيدة فشهد فيه، وأتى عمر فأبى أن يشهد فيه، وأدنى حائط يعطي منها خمسين وسقًا. وقدم البدوي مع قيس فأوفاه سقته وحمله وكساه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس. فقال: "إنه في بيت جود" 1.   1 المغازي ج2 من ص774 إلى ص776. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 4- سرية أبي قتادة إلى خضرة : كانت سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد أميرها أبو قتادة الأنصاري، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان منها في خمسة عشر رجلا إلى غطفان نحو نجد، فساروا ليلا وكمنوا نهارًا، حتى أتوا ناحيتهم، فهجموا على حاضر منهم عظيم، وجردوا سيوفهم، وكبروا، فقتلوا رجالا، واستاقوا النعم، وحملوا النساء حتى قدموا بمائتي بعير، وألف شاة، وسبي كثير، فعزلوا من ذلك الخمس. وقد غابوا خمس عشرة ليلة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرًا، أو عدلها من البعير عشرة من الغنم1.   1 المغازي ج2 ص777. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 سابعًا: حركة الدعوة في مرحلة ما بين الحديبية وفتح مكة بعدما أتم المسلمون صلح الحديبية أخذت الحركة بالدعوة صورًا كثيرة، ونشطت في أماكن متعددة، واستفادت بكل الوقائع المتاحة. وقد رأينا تتابع الرسائل إلى العالم كله يحملها دعاة مخلصون لدينهم، وكانت الرسالة يحملها صحابي واحد، ويسلمها إلى كبير القوم الذين قصدهم ملكًا كان أو سلطانًا، أو أميرًا، أو شيخًا لقبيلة، وهذا يؤكد اعتماد تبليغ الإسلام على الكلمة الحرة الطليقة، والبرهان الدقيق والتعامل مع الواقع، واستنطاق الآيات منه. وأن لا ما حمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 البلاغ رجل واحد إلى أمة كبيرة بعيدة, ولم يترتب على عدم الاستجابة عداء أو حرب اللهم إلا في حالات الاعتداء على حامل الرسالة، والاستهزاء بشخصه، والاستهانة بإنسانيته، واحتقار دين الله تعالى بأي صورة كانت. وعاشت الجزيرة العربية كلها حالة من الاستقرار والهدوء، وبدأ الناس يفدون إلى المدينة المنورة باحثين عن الحق ليكونوا معه وراجت تجارة أهل مكة بعدما تحقق الأمان لهم وهم يرحلون, ولم يشذ عن هذا الاستقرار إلا فريقان من الناس. الفريق الأول وهم اليهود، فلقد تجمعوا في منطقة خيبر بعد إخراجهم من المدينة ونظموا حياتهم ومعاشهم فزرعوا الوادي بالنخيل والأشجار والثمار، وأقاموا على المرتفعات البيوت وحصونها وفق خطة منتظمة حيث جعلوا كل مجموعة من البيوت حصنًا، وكل حصون مرتفع ما حصنًا رئيسًا، وأحاطوا كل حصن رئيس بسور ضخم أعدوه للدفاع والقتال يسمح للمدافعين بالإقامة فوقه في علوهم. وبعد هذا يكون الوادي المزروع, وأسسوا في السور أبوابًا للدخول والخروج أحاطوها بالحرس من جانبيه, وربطوا بين الحصون الرئيسية بطرق بين الشجر والزروع، وتحت الأرض, وتصور اليهود في خيبر إمكانية تعرضهم للحصار فملئوا حصونهم بالأمتعة، والأغذية والسلاح ليتحملوا الحصار مدة طويلة توقع من يهاجمهم في اليأس، وتضطره إلى الإنسحاب وظن اليهود أن حصونهم ستمنعهم من المسلمين فأخذوا في الكيد لهم، وتحريض الأعراب على معاداة المسلمين، وتشجيع الرومان وأتباعهم على ضرورة التصدي للقوة الإسلامية قبل أن يستفحل الأمر، ويستحيل مواجهة المسلمين. قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم واقع اليهود، وتيقن أن السكوت على عداوتهم وتصرفاتهم سيعيد الكثير إلى معاداة المسلمين، وسيزيدهم غرورًا وهمجية، ولذلك كانت ضرورة التحرك إلى خيبر وما حولها للتخلص من هذا الخطر الذي لا يرضى بالسلام، ولا يريد المسالمة وكان إن قضى النبي صلى الله عليه وسلم على حصونهم وأتباعهم في خيبر، وفدك، وتيماء، وأذرعات، وبذلك تطهر شمال جزيرة العرب، وأصبحت الحركة آمنة للدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 إن الإنسان المعاصر وهو يتصور حصون خيبر، واستعداداتها يتصور ما تفعله إسرائيل اليوم من جدار عازل، وقنوات مائية عميقة تجحظ جيرانها عنها لتعيش آمنة فيما اغتصبت من أرض، وتتمتع بما سرقته من أوطان. يتصور الإنسان ذلك ويتساءل أين أصحاب محمد للتخلص من هذا العدوان الظالم؟ وأين هي القوة التي تستطيع المحافظة على الحقوق، وإلزام كل إنسان بما وجب عليه؟ ويفهم الإنسان المعاصر وهو يرى الظلم والظلمات الحكمة في أهمية القوة الإسلامية وضرورتها لحماية الحقوق، وصيانة الكرامة، ومنع الظلم والعدوان. وفي هذه المرحلة التاريخية أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من المسلمين عمرة القضاء في إطار ما عاهد عليه قريش، فالتزم ووفى وزار البيت واعتمر، وأظهر للدنيا كلها طبيعة الإسلام في سلامه وعطائه. وكما واجه الرسول صلى الله عليه وسلم يهود خيبر أرسل جيش مؤتة إلى أطراف بلاد الروم ليكون رسالة تحذيرية للرومان وأتباعهم ليدركوا أن ما أصاب اليهود قد يصيبهم إذا ألفوا العدوان والظلم, ولقد أدى جيش مؤتة مهمته وعاد إلى المدينة المنورة، وقد اشترك المسلمون في عديد من السرايا ليتعودوا على الحرب، ويعلموا دورهم في حماية الإسلام والدعوة لدين الله تعالى, وكان القرآن معهم يوجههم، ويربيهم بمنهج الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 المبحث الثاني عشر: وتطهير الجزيرة العربية كلها من الشرك مدخل ... المبحث الثاني عشر: فتح مكة وتطهير الجزيرة العربية كلها من الشرك رضيت الجزيرة العربية بواقعها الجديد، وأخذت تؤمن بالإسلام، وتدخل في دين الله تعالى, ولم تبق إلا جيوب قليلة استمرت على عدائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشت تكره دين الله تعالى, وعلى رأس هذه الجيوب رءوس الكفر في مكة، وقبائل ثقيف، وهوازن، وبني سليم. أخذت هذه الجيوب الكافرة تمثل عائقًا أمام الآخرين في إقبالهم على الإسلام، وتهدد الدعاة إلى دين الله تعالى في حركتهم بالدعوة إلى الله تعالى ولذلك كان التخلص من هذه الجيوب نهاية كريمة لإسلام الجزيرة كلها, وتوجيه كل طاقاتها لبروز خير أمة في مجال الواقع تحمل الإسلام إلى ممالك الدنيا، وتظهره في أمة عادلة ناهضة تدعو إلى الإسلام بالعمل، والقول، والسلوك، والخلق، وتنادي العالمين أن هلموا إلى الإسلام لتحققوا عالمية إنسانية في إطار دين الله، وتبتعدوا عن كل سوءات البشر، من صراع، وتحاسد، وطغيان، وعدوان. ومن حكمة الله تعالى أنه عند فتح مكة وتطهير الجزيرة كلها من الشرك كانت معالم الإسلام قد عرفت، وأحكامه العملية قد فصلت، وأصبح كل من الفرد والجماعة والأمة يدرك مدى الخير الذي حققه الإسلام للجميع، وتيقنوا من صدقه، وأحقية أن يكون دين الناس أجمعين. وعلم كل من أسلم مسئوليته أمام دينه الذي آمن به، فحمله إلى العالم مجاهدًا في سبيل الله، ولذلك انطلق دعاة الإسلام إلى العالم يبلغوه دين الله تعالى، ويزيلون كوابس الطغيان التي تمنع الناس من التفكير الحر، والاختيار الصحيح، واستمروا على إخلاصهم حتى استقر الحق، ودخل الناس في دين الله تعالى. إن فتح مكة قضى على أكثر قوة تصدت لرسول الله، وناصبت دينه العداء، وجعلت نفسها المعارض الرئيسي للإسلام والمسلمين، ولذلك كان انضمام مكة للمعسكر الإسلامي من الناحية العملية انضمام الجزيرة كلها للإسلام. إن الغزوات الكبرى كانت مع المكيين، أما غيرهم فكانت المواجهة معهم تتم بأعداد قليلة، وأحيانًا بفرد واحد. وفي هذا المبحث سنبين الخطوات النهائية التي تطهرت فيها الجزيرة العربية من الأوثان والشرك, وذلك فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 أولا: فتح مكة سبب فتح مكة ... أولًا: فتح مكة هو الفتح الأعظم الذي انتهى به عصر الأصنام في الجزيرة العربية كلها، وعلت به كلمة الله تعالى، وأصبح الإسلام قوة ظاهرة بانضمام مكة والمدينة تحت لوائه. وصارت مكة هي قلب الأمة الإسلامية، ومستقرها الآمن, وغدت الأمل الذي عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل له، ويجاهد من أجله. وفتح مكة يحتاج إلى دراسة النقاط التالية: 1- سبب فتح مكة: تعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرشيون في الحديبية على حرية كل فرد وكل جماعة في أن تنحاز لأيهما، وتدخل في دينه وعقيدته. وقد انحازت بنو بكر لقريش، وانحازت بنو خزيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنو بكر وبنو خزاعة قبيلتان متحاربتان في الجاهلية، وبينهما عداوات قديمة فلما انحاز كل منهما لطرف من طرفي الحديبية عاشوا آمنين في ظل هذا الصلح. إلا أن بني بكر انتهزوا فرصة انشغال المسلمين بالسرايا، وبالدعوة إلى الله تعالى وظنوا أن يعد المسافة بين مكة والمدينة يؤدي إلى عدم وصول الأخبار إلى المدينة، وإلى تقاعس المسلمين عن الانتصار لحلفائهم بني خزاعة وبخاصة إذا خططوا لتآمرهم وخدعوا بحيلهم رسول الله والمسلمين معه, فتآمروا مع حلفائهم من قريش. وقال القرشيون: ما يعلم بنا محمد، إذا دبرنا الغدر ليلا وفي الظلام. فوثب بنو بكر على بني خزاعة ليلا وقتلوا منهم ثلاثًا وعشرين نفسًا عند بئر لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 يعرف بـ"بئر الوتر" وكان أغلب القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ، ففرت خزاعة إلى الحرم ودخلت فيه ولجأت إلى البيت الكريم. أدركت بنو بكر حرمة المبيت، وشعرت بافتضاح تآمرها، فنادت قائدها نوفل بن معاوية الدؤلي، قائلة له: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك. فقال لهم: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم؟ أفلا تصيبون فيه ثأركم؟ 1. وقد أعانت قريش حلفاءها بالسلاح والرجال، وحاولوا إخفاء ما قاموا به حتى لا ينتقم المسلمون منهم، وظنوا أن ظلام الليل يستر غدرهم. وفي مكة بحثت خزاعة بعد انتهاء العدوان الغادر عن مقر آمن تذهب إليه فلجأت إلى دار بديل بن ورقاء، واستجارت به. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، ويستنجده، فلما وصل إلى المدينة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في المسجد بين الصحابة فوقف عنده ثم قال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا2 قد كنتم ولدًا وكنا والدا3 ... ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعًا وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب" 4. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وكتم الخروج، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم5.   1 سيرة النبي ج2 ص390. 2 يشير إلى ما كان بين خزاعة وبني هاشم من حلف في الجاهلية. 3 يشير إلى أن زوجة قصي أم عبد مناف من أم بني هاشم خزاعة. 4 سيرة النبي ج2 ص395. 5 البداية والنهاية ج4 ص278، 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 2- محاولة أبي سفيان تجديد الصلح : استيقظت قريش لنفسها، وأدركت أنها ارتكبت جرمًا يستوجب نقض صلحها مع المسلمين، فأسرعت بإرسال أبي سفيان في وفادة الإنقاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الصلح والعهد، ويزيد في المدة، فخرج أبو سفيان من مكة، فلقيه بديل بن ورقاء عائدًا من المدينة فقال له: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بديل: سرت في خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي. فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى، وعلم أنه من نوى المدينة فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنيه ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش؟ أو رغبت به عني؟ فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشه. فقال: يا بنية والله ولقد أصابك بعلمك شر. قالت: هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 قال: يا عجباه، وهذا منك أيضًا؟ أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟ ثم قام من عندها1. فلما لقي رسول الله قال له: يا محمد اشدد العقد، وزدنا في المدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم"؟. فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير، ولا نبدل. فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في المدة؟ فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما كان من حلفنا جديد فأخلقه الله، وما كان منه مثبتًا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعًا فلا وصله الله. فقال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرًا. ثم دخل على عثمان فكلمه. فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اتبع أشراف قريش يكلمهم فكلهم يقول: عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمها فقالت: إنما أنا امرأة وإن ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لها: فأمري أحد ابنيك. فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليًا. فقالت: أنت فكلمه. فلما كلمه قال له علي رضي الله عنه: إن ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله بجوار، وأنت سيد قريش وأكبرها وأمنعها فأجر بين عشيرتك.   1 المغازي ج1 ص792، 793، سيرة النبي ج2 ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 قال: صدقت وأنا كذلك، فخرج فصاح ألا أني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يرد جواري؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت تقول يا أبا حنظلة". فخرج أبو سفيان على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم حين أدبر أبو سفيان: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة". وقدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال: لا والله لقد أبى عليّ، وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قومًا لملك عليهم أطوع منهم له، غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي: التمس جوار الناس عليك، ولا تجر أنت عليه وعلى قومك وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا تخفر جواره، فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس وقلت: ما أظن أن تخفرني؟ فقال: "أنت تقول ذلك يا حنظلة"؟ 1. فقالوا مجيبين له: رضيت بغير رضى، وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئًا، وإنما لعب بك علي، لعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين. ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت: قبحك الله من وافد فما جئت بخير.   1 بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج21 ص144، والمغازي ج2 ص793، 795. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 3- استعداد المسلمين لفتح مكة : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو مشركي مكة، وأمر عائشة أن تستعد لذلك، وأمرها أن لا تخبر أحدًا بجهة الغزو ليأخذ القرشيين على غرة. وعين صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على أطراف المدينة ليتحفظ على من يأتي المدينة من غير أهلها، ويرقب الحركة منها وإليها. ودخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها: وهي تجهز للسفر، وتعمل قمحًا سويقًا ودقيقًا، فقال: يا عائشة أهم رسول الله بغزو؟ قالت: ما أدري. قال: إن كان هم بسفر فأعلمينا نتهيأ له. قالت: ما أدري، لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفًا، لعله يريد هوازن، فاستعجمت عليه وحافظت على أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أردت سفرًا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: أفأتجهز؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال أبو بكر: فأين تريد يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قريشًا وأخف ذلك يا أبا بكر". وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالاستعداد للجهاد وطوى عنهم الوجه الذي يريد. قال أبو بكر: يا رسول الله! أوليس بيننا وبينهم مدة. قال: "إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم، واطو ما ذكرت لك". ونشط المسلمون في الاستعداد، وبدأت القبائل تفد برجالها إلى المدينة بعدما أخبرهم بأهمية القدوم إليها وقال لهم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأت المدينة". وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا، فقدمت أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، المدينة ولحقت بنو سليم بهم عند قديد1. وأخذ المسلمون يفكرون في جهة غزوتهم التي جاءوا لها، فظان يظن أنها الشام وظان يظنها ثقيفًا، وظان يظن أنها هوازن. ومن التورية على الناس، إرساله صلى الله عليه وسلم ابن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن "إضم" ليصرف انتباه الناس عن مكة، وحتى يظن القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتجه باستعداداته لمساعدة من   1 إمتاع الأسماع ص361 إلى ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 أرسلهم إلى "إضم" وبخاصة أنها في اتجاه مكة. فلما أجمع صلى الله عليه وسلم المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرهم، وكان كتابه موجهًا إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وفيه يقول: إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم. وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة من أهل العرج تسمى "سارة" وجعل لها عشرة دنانير على أن تبلغه قريشًا، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق المألوف بين مكة والمدينة فإن عليه حرسًا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، وسلكت طريقًا غير مألوف حتى لقيت الطريق بالعقيق، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث صلى الله عليه وسلم عليًا، والزبير رضي الله عنهما وقال لهما: أدركا امرأة من مزينة، قد كتب معها حاطب كتابًا يحذر قريشًا، فخرجا، فأدركاها، فاستنزلاها، والتمساه في رحلها فلم يجدا شيئًا فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك، فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني، فأعرضا عنها، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب. فلما جاءا بالرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حاطبًا فقال: "ما حملك على هذا"؟. فقال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم. فقال عمر رضي الله عنه: قاتلك الله، ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بأطراف المدينة، ويراقب كل داخل إليها، وتكتب إلى قريش تحذرهم، دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق. فقال صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" 1. وأنزل الله تعالى في شأن حاطب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الفتح ج7 ص3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 1 والآية واضحة الدلالة في طريقة التعامل مع أعداء الله تعالى، الذين كفروا بالإسلام، وحاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هؤلاء لا يفيد معهم الود لامتلاء قلوبهم بالحقد، والكراهية. إن ولاية المؤمن الحقة هي للمؤمنين وحدهم، ومن يوالي أعداء الله فقد ضل الطريق المستقيم الذي أمر الله به. وأما "سارة" فقد تركها الصحابيان بعد أخذ الرسالة منها، وكانت لا تدري ما بها فمضت إلى مكة تباشر مهمتها في الغناء، فأقبلت تتغنى بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتدت عن الإسلام.   1 سورة الممتحنة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 4- الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة : غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجهًا إلى مكة في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنه واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري رضي الله عنه في العاشر من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله من مكة مسلمًا مهاجرًا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} 1. فأنشده أبو سفيان أبياتًا منها:   1 سورة يوسف: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 لعمرك إني حين أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردته كل مطرد فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "أنت طردتني كل مطرد" 1. {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2. وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ "الكديد" وهو ماء بين عسفان وقديد، فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران في وادي فاطمة، نزله عشاء، فأمر الجيش بإيقاد النيران فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وركب العباس بعد نزول المسلمين بمر الظهران بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس أحدًا يخبر قريشًا ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها. وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج ومعه حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا. ويقول بديل: هذه والله خزاعة، خمشتها الحرب. فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. وقال العباس: أبا حنظلة؟ فعرف أبو سفيان صوته. قال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي. قلت: والله لئن ظفر بك أحد من المسلمين ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه   1 بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج21 ص145. 2 سورة يوسف: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه. يقول العباس: فجئت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال عمر: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه. قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي ما قلت مثل هذا. قال عمر: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلي من الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به". فذهبت فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله"؟. قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لأغنى عني شيئًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله". قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئًا. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 قال صلى الله عليه وسلم: "نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن" 1. وفي صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة ثمان غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول مثلا: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء. قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن2. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال أبو سفيان: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ قال: كذا وكذا. وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيها قريشًا".   1 زاد المعاد ج3 ص401، 402, بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص244. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس1. ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأخمش الساقين، قبح من طليعة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وبثوا أوباشًا لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا، فتجمع سفهاء قريش مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني بكر حماس بن قيس، كان يعد قبل ذلك سلاحًا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لي عله ... هذا سلاح كامل وأله وذو غرارين سريع السله فكان هذا الرحل فيمن اجتمعوا في الخندمة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى حتى انتهى إلى "ذي طوى" وكان يضع رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على الميمنة، ومعه أسلم، وسليم، وغفار ومزينة، وجهينة قبائل من العرب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة من أسفلها، وقال لخالد: "إن عرض لكم   1 صحيح البخاري كتاب غزوة الفتح ج7 ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا، حتى توافوني على الصفا". وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدخل مكة من أعلاها، من كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على الرجالة والحسر، وهم الذين لا سلاح معهم، فأمره أن يأخذ بطن الوادي، ويدخل مكة من الشمال الغربي في اتجاه جبل هند حتى يأتي لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق حدده لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه، وقتل من أصحابه كرز بن جابر الفهري، وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، فسلكا طريقًا غير طريقه فقتلا جميعًا، وأما السفهاء من قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخندمة فناوشوهم شيئًا من قتال، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلا وانهزم المشركون شر هزيمة. وانهزم حماس بن قيس، الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين، حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقي عليّ بابي. فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال لها: وأنت لو رأيتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه واستقبلتنا بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربًا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس وحول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 1 وقوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 2. وأخذت الأصنام تتساقط على وجوهها كلما ضربها رسول الله أو أشار إليها. وكان طوافه على راحلته، ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه لم ينو العمرة يومئذ، فلما أتم طوافه صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان الأزلام، فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت3.   1 سورة الإسراء: 81. 2 سورة سبأ: 49. 3 المغازي ج2 ص832، 834. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 5- مكة تحت القيادة الإسلامية : تهدمت الأصنام، وتطهرت الكعبة من ألوان الشرك، والضلال، وبدأ عهد جديد في مكة، علا فيه الإسلام، وخضع الجميع لحكم الله تعالى. وأخذ صلى الله عليه وسلم يصرف أمور الناس والحياة، بوحي الله تعالى بعد استقرار الأمر لعشر بقين من رمضان سنة ثمان. وأقام صلى الله عليه وسلم في قبة من أدم أقامها له أبو رافع عند الحجون، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي منها إلى المسجد عند كل صلاة. وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، ومنهم كان يستجير بمسلم قبل أن يعلن إسلامه من شدة خوفه. وتحرك صلى الله عليه وسلم من الحجون إلى الحرم أول مرة ضحى وقد اصطف الناس، واصطحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 أبا بكر، وابن أم مكتوم، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة استلم الركن وكبر، فكبر الناس لتكبيره حتى ارتجت مكة كلها. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناحية من المسجد والناس حوله، فأتى بدلو من زمزم فغسل وجهه، فما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان، إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا تمسح بها، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكًا قط أعظم مما رأينا اليوم. وجاءته قريش فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله، اصنع بنا صنع أخ كريم. فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم الطلقاء مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1 ". ثم اجتمع الناس لمبايعته صلى الله عليه وسلم، فجلس على الصفا، وجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه وجلس ابن أم مكتوم بين يديه فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا وسألوه عن الهجرة إلى المدينة المنورة. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". وتجرد الرجال من الأزر، ثم أخذوا الدلاء فغسلوا ظهر الكعبة وبطنها حتى انبعج الوادي من الماء، وأزالوا ما كان فيها من عمل الجاهلية فلم يدعوا فيها صورة ولا أثرًا من آثار المشركين إلا محوه. وجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ رأس الثنية، فبعث صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من البطحاء، ومعه عثمان بن طلحة ليفتح البيت، وأمره أن لا يدع صورة إلا محاها، ولا تمثالا إلا هدمه، ففعل عمر ذلك وترك صورة إبراهيم عليه السلام حتى محاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل صلى الله عليه وسلم الكعبة، ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها مدة وصلى ركعتين ثم خرج والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عنه حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف على باب البيت وأخذ بعضادتيه، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمه، وقال وقد جلس الناس:   1 سورة يوسف: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش، ماذا تقولون؟ وماذا تظنون"؟. قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ". ألا إن كل ربا في الجاهلية، أو دم، أو مال، أو مأثرة, فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكثرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب. وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار، ألا لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ولا يختلى خلاها". فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقبور، وظهور البيوت، فسكت ساعة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر فإنه حلال" 1. "ولا وصية لوارث، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقاصهم، ويعقد عليهم أدناهم ومشدهم على مضعفهم، ومسيرتهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها،   1 صحيح البخاري كتاب المغازي ج7 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امراة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر، وعن لبستين، لا يحتجب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها"1. ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد فجلس فقال: "ادعوا إليّ عثمان بن طلحة". فأقبل عثمان. فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف" 2. وقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "لم قاتلت وقد نهيت عن القتال"؟. فقال خالد: هم يا رسول الله بدءونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بدًا قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "فكف عن الطلب". قال: قد فعلت يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا بني خزاعة عن بني بكر فلهم إلى صلاة العصر". فضربوهم ساعة، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحل لأحد قبله. وقام صلى الله عليه وسلم خطيبًا في اليوم الثاني بعد قتل جندب بن الأدلع فقال: "أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد   1 المغازي ج2 ص835-837. 2 المرجع السابق ج2 ص838. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، فإن قال قائل، قد قاتل فيها رسول الله، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر إن نفع، وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار: إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله" 1. وجاء الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة، وكانت قريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفًا من أن يقتلوا، فلما أذن بلال ورفع صوته كأشد ما يكون أمنوا ونزلوا. وأتى يعلى بن منية بأبيه فقال: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة". وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه بابه، وبعث إلى ابنه عبد الله بن سهيل أن يأخذ له أمانًا، فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إنه لميكن له بنافع". فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره. فقال سهيل: كان والله برًا صغيرًا وكبيرًا، فخرج وشهد حنينًا، وأسلم بالجعرانة. وهرب هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب ومعه عبد الله بن الزبعرى بن سهم القرشي السهمي إلى نجران، فبعث حسان بن ثابت بشعر إلى ابن الزبعرى فجاء، ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قال: "هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام". فأسلم ومات ابن هبيرة بنجران مشركًا. وهرب حويطب بن عبد العزى بن لؤي القرشي العامري، فأمنه أبو ذر رضي الله عنه ومشى معه، وجمع بينه وبين عياله. وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة ابن أبي جهل، والبغوم بنت المعذل امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة.   1 المغازي ج2 ص844. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وهند بنت منبه بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوة من قريش. فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعنه. وكانت بيعة النساء عقيب بيعة الرجال عند الصفا، ورؤيت فيهن هند وهي متنكرة لأجل صنيعها بحمزة، وكان زوجها أبو سفيان حاضرًا، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنك لهند". فقالت: أنا هند، فاعف عما سلف. فبايعهن عمر رضي الله عنه واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أم حكيم أمانًا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن، فخرجت إليه حتى قدم، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ إليه". فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا فوقف، ومعه امرأته منتقبة. فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت، فأنت آمن". فأسلم. وهرب صفوان بن أمية بن جمح القرشي الجمحي، فأخذ له عمير بن وهب بن حذافة أمانًا، وخرج في إثره حتى رجع، وشهد هوازن كافرًا، وأسلم بالجعرانة. وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ممن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسأله أن يهبه له، فوهب له جرمه وأسلم. وأهدر صلى الله عليه وسلم دم الحويرث بن نقيذ بن بجير بن عبد بن قصي، فضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنقه وكان مؤذيًا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأهدر دم هبار بن الأسود بن عبد العزى بن قصي الأسدي القرشي، إلا أنه أسلم وحسن إسلامه. وأخرج أبو برزة الأسلمي عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتله". فأخرج أبو برزة عبد الله بن خطل وقتله بين الركن والمقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وعن السائب بن يزيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عبد الله بن خطل من بين أستار الكعبة فقتله صبرًا. ثم قال: "لا يقتل أحد من قريش بعد هذا صبرًا". وقتل مقيس بن صبابة نميلة بن عبد الله الليثي رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم. ولما قتل النفر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم، سمع النوح عليهم. وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل قريش صبرًا بعد اليوم". يعني على الكفر. وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي، ففر إلى الطائف حتى قدم في وفدهم فأسلم. فقال له صلى الله عليه وسلم: "غيب عني وجهك". فكان إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم توارى عنه. واستسلف صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فردها من غنائم هوازن. وقال: "إنما جزاء السلف الحمد والأداء". وقال: "بارك الله لك في مالك وولدك". واستقرض من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهمًا وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة. وأهدي له يومئذ راوية خمر. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرمها". فسارَّ الرجل المهدي غلامه: اذهب بها إلى الحزورة، فبعها. فقال صلى الله عليه وسلم: "بم أمرته"؟. قال: ببيعها. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". ففرغت بالبطحاء. ونهى يومئذ عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 وقيل له يومئذ: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله يهود، حرم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوا ثمنها". وقال يومئذ، وهو بالحزورة: "والله إنك لخير أرض الله إليّ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". وهبط ثمانون من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جبل التنعيم عند صلاة الفجر فأخذهم سلمًا فعفا عنهم، ونزل فيهم: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1. وأتى بشارب فضربوه بما في أيديهم، فضرب بالسوط، وبالنعل، وبالعصا، وحثا عليه النبي صلى الله عليه وسلم التراب. وجاء جبر غلام بني عبد الدار، وكان قد أسلم وكتم إسلامه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه لسيده وأعتقه. وقال رجل يومئذ: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة. فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لصلاة ها هنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، من البلدان". وقالت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح لك فيه، فكأنك أتيتيه". وكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمال ليشتري به زيت يستصبح به حتى ماتت فأوصت بذلك. وأهدت هند بنت عتبة بعد إسلامها هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح، مع مولاة لها فانتهت الجارية إلى خيمته صلى الله عليه وسلم، فسلمت واستأذنت فأذن لها فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أم سلمة وميمونة ونساء بني عبد المطلب. فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن   1 سورة الفتح: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 غنمها اليوم قليلة الوالدة. فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها". فسرت هند لما أخبرتها مولاتها بذلك، ورأوا من كثرة غنمهم ووالدتها ما لم يكن قبل ولا قريبًا منه. وكانت هند تقول: هذا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته. وأتته إحدى نساء بني بكر، إما خالة أو عمة، بهدية طعام وهو بالأبطح فعرفها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وسألها عن حليمة السعدية فأخبرته بوفاتها رضي الله عنها فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم. وقالت له: أخواك وأختاك محتاجون فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بكسوة وجمل ومائتي درهم. فقالت: نعم والله المكفول كنت صغيرًا، ونعم المرء كانت كبيرًا، عظيم البركة. وأخذ أهل مكة ومن يقدم عليهم يأتي إليه صلى الله عليه وسلم يبايعه، ويسأله حاجته، ويتعلم ما يحتاج إليه في أمور دينه الذي آمن به. وكان صلى الله عليه وسلم يذكر أهل مكة بما منّ الله عليهم بالإسلام، ويعرفهم بضلال ما كانوا فيه ليزدادوا إيمانًا، ولتشتد براءتهم مما كانوا فيه قبل الهدى والرشاد. من ذلك قوله لعثمان بن طلحة حين أتى به ليعطيه مفتاح الكعبة: "ألم أقل لك يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت"؟. فقال: بلى أشهد أنك رسول الله. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد فتحها مدة تقع بين اثني عشر وعشرين يومًا على اختلاف الروايات, انطلق خلالها لتطهير مكة وحواليها من كافة صور الأصنام والأوثان على كثرتها وتنوعها, كما قام انطلاقًا من مكة بغزوتي حنين والطائف، وبذلك أسلمت الجزيرة كلها1.   1 راجع في أحداث الفتح سيرة ابن هشام، والطبقات، والمغازي، وزاد المعاد، وإمتاع الأسماع والبداية والنهاية ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ثانيًا: تطهير مكة وما حولها من الأصنام بعد أن أتم الله نصره، وفتحت مكة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إزالة الأصنام والأوثان وكافة ألوان الشرك والضلال من صور، وبيوت، وهياكل. فبدأ أول دخوله مكة بتكسير الأصنام الموجودة حول البيت وعددها ثلاثمائة وستون صنمًا. ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله وبرسوله فلا يدعن في بيته صنمًا إلا كسره، أو حرقه، وثمنه حرام. فجعل المسلمون يكسرون الأصنام، ولم يكن في مكة رجل أو امرأة من قريش إلا واتخذ في بيته صنمًا يتمسح به حين الدخول، وحين الخروج. ونشط عكرمة بن أبي جهل في معاداته للأصنام بعد إسلامه، فكان لا يسمع عن صنم في بيت إلا مشى إليه وكسره. وجعلت هند بنت عتبة تضرب صنمًا في بيتها بالقدوم، وتكسره جزءًا جزءًا وهي تقول: كنا منك في غرور. وأرسل صلى الله عليه وسلم سراياه إلى القبائل المشركة لدعوة القوم إلى الإسلام، وتكسير الأصنام التي ألهوها ومن هذه السرايا: 1- بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى "العزى" بـ"نخلة" في ثلاثين صحابيًا فهدمه لخمس بقين من رمضان والعزى أكبر أصنام العرب. 2- وبعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى "ذي الكفين" صنم عمرو بن حممة الدوسي فحرقه بالنار. 3- وبعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسًا إلى "مناة" بالمشلل فهدمه. 4- وبعث عمرو بن العاص إلى "سواع" صنم هذيل فكسره وأزاله، وأسلم سادنه. 5- وبعث هشام بن العاص في مائتين إلى يلملم. 6- وبعث خالد بن سعيد إلى جهة عرنة وعرفة. وبهذه السرايا تم بسط سلطان الإسلام على مكة وضواحيها ولم يعد فيها صوت لغير الله تعالى وأزيلت الأصنام من الجزيرة كلها. 7- وبعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر من بني كنانة يدعوهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الإسلام فخرج في أول شوال من السنة الثامنة في ثلاثمائة وخمسين صحابيًا، وانتهى إليهم، فقالوا: نحن مسلمون، فلم يصدقهم خالد، فودعهم أسرى عند الصحابة وأمر بقتلهم، فقتل بنو سليم من كانوا في أيديهم، ورفض المهاجرون والأنصار القتل. فلما رجع خالد وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ مما فعل خالد، وأرسل عليًا رضي الله عنه إلى بني جذيمة يودي لهم ما أصاب خالد. 8- وبعث صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخلصة وهو بيت لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يسمونها الكعبة اليمانية، يقول ابن جرير: فنفرت في مائة وخمسين راكبًا، من أحمس وكانوا أصحاب خيل، فأتيناه فكسرناه وحرقناه وقتلنا من وجدنا عنده. 9- بعث صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية وقصة ذلك أن عبد ياليل بن عمرو، وعمرو بن أمية أحد بني علاج الثقفيان لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد ثقيف وأسلموا قالوا: أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "اهدموها". قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا في هدمها قتلت أهلنا. قال عمر بن الخطاب: ويحك يا عبد ياليل ما أجهلك. إنما الربة حجر لا تدري من عبده ممن لم يعبده. قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر. وقالوا: يا رسول الله اتركها ثلاث سنين لا تهدمها، فأبى. فقالوا: سنتين، فأبى. فقالوا: سنة، فأبى. فقالوا شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا. وإنما كانوا يريدون ترك الربة خوفًا من سفهائهم، كما كرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها وأملوا في إقناعهم بالإسلام، وبعدها تزول كل صور الشرك والهوى ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها وقالوا: يا رسول الله اترك أنت هدمها فإنا لا نهدمها أبدًا, حتى لا يقال فينا ما لا يجوز، وقد فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 فقال بعد هذا: "أنا أبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها". فرجع الوفد، وأخبروا قومهم بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال شيخ من ثقيف: فذاك والله مصداق ما بيننا وبينه فإن قدر على هدمها فهو محق ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من بعد هذا شيء. وخرج أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة وأصحابهما لهدم الربة، فلما دنوا من الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدم أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة فلما نزلوها عشاء باتوا ثم غدوا على الربة يهدمونها. فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: لأضحكنكم اليوم من ثقيف. فقام المغيرة بن شعبة واستوى على رأس الربة ومعه المعول وضرب الكرزين ثم سقط مغشيًا عليه يركض برجليه فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أسعد الله المغيرة قد قتلتم الربة، زعمتم أن الربة لا تمتنع بل والله لتمنعن، وفرحوا حين رأوه ساقطًا، وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها فوالله لا يستطاع أبدًا. فوثب المغيرة بن شعبة وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع، حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله تعالى ولا تعبدوها ثم إنه ضرب الباب فكسره، ثم سورها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرًا حجرًا حتى سووها بالأرض. وهكذا كان فتح مكة سببًا مباشرًا للقضاء على أصنام العرب وأوثانها ليعلو الحق ويدوم1.   1 انظر في سرايا تحطيم الأصنام سيرة ابن هشام والمغازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 ثالثا: غزوة حنين مدخل ... ثالثًا: غزوة حنين فوجئ العرب بالانهيار السريع لمشركي مكة، واستسلامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبدءوا في تقدير الإسلام غير أن فريقًا من القبائل تعالت على الإسلام، وبقيت في شركها، وأخذت تتجمع لمهاجمة المسلمين في مكة وعلى رأس هؤلاء قبائل هوازن، وثقيف، ونصر وحشم وبنو هلال1. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم تحشدوا، وتجمعوا تحت قيادة مالك بن عوف، وأخذوا في التحرك نحو مكة حتى نزلوا بـ"أوطاس" وهو واد سهل واسع بين مكة والمدينة مجاور لوادي حنين. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش من المسلمين بلغ عدده اثنا عشر ألف رجل في يوم السبت السادس من شهر شوال، بعد أن ولى أمر مكة للصحابي عتاب بن أسيد بن أبي العيص، وأبقى معه معاذ بن جبل ليعلم الناس السنن والفقه، ويدارسهم القرآن الكريم وما شرع من أحكام الإسلام, والحديث عن غزوة حنين يحتاج إلى بيان النقاط التالية:   1 لم يحضر مع هوازن بطنان منهم هما كعب وكلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 1- استعداد المشركين للحرب : خرجت القبائل من ديارها، وتجمعت في وادي "أوطاس" واصطحبوا معهم أموالهم ونساءهم وأطفالهم لدفع الرجال للقتال دفاعًا عن كل ما لهم. سأل دريد بن الصمة قائدهم مالك بن عوف: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء؟ قال مالك: يا أبا قرة إني سقت مع الناس أموالهم وذراريهم، وأردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله يقاتل عنه. فقال دريد: رويعي ضأن! وهل يرد المنهزم شيء؟ وصل جيش المسلمين إلى وادي "حنين" وعسكر فيه، فأخذ مالك بن عوف يبعث رسله ليعرف خبر رسول الله وجنوده بعد استقرارهم بـ"حنين" فبعث ثلاثة رجال وكلهم رجعوا إليه، وهم في حالة خوف ورعب، وقالوا: رأينا رجالا بيضًا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى وقد اتفق الثلاثة على هذا. وقالوا له: ما تقاتل أهل الأرض إنما تقاتل أهل السماء، وإذا أطعتنا رجعت بالناس فسبهم وحبسهم, وعبأ جنوده، ونظمهم في وادي حنين1.   1 بلوغ الأماني ج2 ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 2- استعداد المسلمين للقتال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفًا من أصحابه، عشرة منهم من المهاجرين والأنصار، وألفين من مسلمي مكة، وسار بهم حتى نزل في "وادي حنين" وعبأ قواته من السحر ووضع الألوية والرايات في أهلها، فحمل رايات المهاجرين: علي، وسعد ابن أبي وقاص، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وحمل رايات الأنصار الحباب بن المنذر، وقيل: كان لواء الخزرج الأكبر مع سعد بن عبادة، ولواء الأوس مع أسيد بن حضير، وفي كل بطن لواء أو راية. وكانت رايات المهاجرين سودًا وألويتهم بيضًا، ورايات الأنصار خضرًا وحمرًا، وكانت في قبائل العرب رايات، وبقيت سليم كما هي في مقدمة الخيل وعليهم خالد بن الوليد. ولما تجمع المسلمون بهذا العدد أعجبتهم كثرتهم، وانتظروا النصر وقالوا بلسان الحال، والمقال: لن نغلب اليوم عن قلة. وانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في وادي حنين، وهو على تعبئته، وقد ركب بغلته البيضاء "دلدل" ولبس درعين والمغفر والبيضة، وحض على القتال، وبشر بالفتح إن صدقوا وصبروا. وقد أرسل رسول الله عبد الله بن أبي حدرد ليأتي بخبر القوم، فطاف بهم، وسمع كلامهم، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما رأى وسمع وبمدى استعداد القوم للقاء، وبعلمهم بجيش المسلمين كما نقلته العيون إلى مالك بن عوف1.   1 المغازي ج3 ص895-900. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 3- القتال : بدأت الحرب بهجوم شديد من "هوازن" قبيل مطلع الشمس على المسلمين، وقد كانوا في كثرة عجيبة أدهشت المسلمين، وحيرتهم لأنهم لم يتوقعوها. حملت هوازن على المسلمين حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم، وولت الأدبار، وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالا، والناس منهزمون حتى بلغوا مكة، فلم يرجع آخرهم إلا والأسارى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يا أنصار الله. يا أنصار رسول الله أنا عبد الله ورسوله"!. ثم تقدم بحربته أمام الناس، وانهزم المشركون، وما ضرب أحد من المسلمين بسيف ولا طعن برمح، ورجع صلى الله عليه وسلم إلى العسكر، وأمر أن يقتل كل من قدر عليه من المشركين، وقد ولت هوازن, وثاب من انهزم من المسلمين. ولم يكن معه صلى الله عليه وسلم وقت هزيمة هوازن إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد أخذ بثفر البغلة، والعباس آخذ بحكمتها، وهو يركضها إلى وجه العدو، وينوه باسمه فيقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب1 وقال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس! اصرخ: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة"!. فنادى بذلك، وكان رجلا صيتًا، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت إلى أولادها يقولون: يا لبيك!! يا لبيك، فأشرف صلى الله عليه وسلم كالمتطاول في ركابيه، فنظر إلى قتالهم وقال: "الآن حمي الوطيس". ثم أخذ بيده من الحصا فرماهم بها وهو يقول: "شاهت الوجوه، حم، ثم لا ينصرون". ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة". فما زال أمرهم مدبرًا، وانهزموا، فانحاز صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، وهو على بغلته قد جرد سيفه، وثبت معه سوى من ذكرنا: علي، والفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وأيمن بن عبيد الخزرجي، وأسامة بن زيد, وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهم2.   1 بلوغ الأماني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص174. 2 سيرة النبي ج2 ص443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ولما انكشف الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة بن النعمان الأنصاري: "كم ترى الناس الذين ثبتوا"؟. فحزرهم مائة، وهذه المائة هي التي كرت بعد الفرار، فاستقبلوا هوازن واجتلدوا والرسول يدعو: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان". ويقال إن المائة الصابرة يومئذ: ثلاثة وثلاثون من المهاجرين, وسبعة وستون من الأنصار، وكان علي، وأبو دجانة، وعثمان بن عفان، وأيمن بن عبيد رضي الله عنهم يقاتلون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت أم عمارة في يدها سيف صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها وهي يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث، حين انهزم الناس، يقاتلن، وأم عمارة تصيح بالأنصار: أية عادة هذه! ما لكم وللفرار! وشدت على رجل من هوازن فقتلته وأخذت سيفه1. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم مصلت السيف بيده، وقد طرح غمده ينادي: "يا أصحاب سورة البقرة". فكر المسلمون، وجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، يا خيل الله، وكان صلى الله عليه وسلم قد سمى خيله خيل الله، وكان شعار المهاجرين بني عبد الرحمن، وشعار الأوس بني عبيد الله، وشعار الخزرج بني عبد الله، فكرت الأنصار ووقفت هوازن حملة ناقة، ثم كانت هزيمتهم أقبح هزيمة، والمسلمون يقتلون ويأسرون. وأم سليم بنت ملحان تقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت هؤلاء الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك!! لا تعف عنهم إذا أمكنك الله منهم، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين! فقال: "يا أم سليم! قد كفى الله، عافية الله أوسع" 2. وحنق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى شرعوا في قتل الذرية، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية". فقال أسيد بن حضير: يا رسول الله، أليس إنما هم أولاد المشركين! فقال: "أوليس   1 بلوغ الأماني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص175. 2 المغازي ج3 ص903، 904. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها وأبواها يهودانها أو ينصرانها! " 1. وكان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وكان الرعب الذي قذف الله في قلوب المشركين يومئذ كوقع الحصاة في الطست: له طنين، فيجدون في أجوافهم مثل ذلك، ولما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكف من الحصا، لم يبق أحد من المشركين إلا وهو يشكو القذى في عينه، ورأوا رجالا بيضًا على خيل بلق، عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وهم بين السماء والأرض: كتائب، كتائب، فما كانوا يستطيعون أن يتأملوهم من الرعب منهم2. واستحر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم قريب من مائة رجل تحت رايتهم، وقتل ذو الخمار، وهربت ثقيف. واستشهد من المسلمين أربعة رجال جميعهم من الأنصار3.   1 المغازي ج3 ص905. 2 المغازي ج3 ص609. 3 البداية والنهاية ج4 ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 4- تعقب الفارين : لما انهزمت هوازن فرت إلى الطائف وإلى أوطاس، وإلى نخلة، فسير رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لتعقب الفارين، وقتالهم. فذهب الربيع بن ربيعة في عدد من المسلمين على خيلهم إلى نخلة فأدركوا دريد بن الصمة، وقتلوه. وذهب أبو عامر الأشعري إلى أوطاس ومعه عدد من المسلمين، وقد جرى بين الفريقين قتال فقتل من المشركين تسعة، وأصيب بعض المسلمين واستشهد أبو عامر، فخلفه أخوه أبو موسى وقد فتح الله على يديه. ولحق مالك بن عوف وأكثر من كان معه إلى الطائف، ولذلك ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت غزوة الطائف 1.   1 البداية والنهاية ج5 ص338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 5- غزوة الطائف : وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هوازن وثقيف دخلوا الطائف مع قائدهم، مالك بن عوف النضري، وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على النخبة اليمانية، ثم على قرن المنازل، ثم على لية، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريبًا من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن. ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم أن مدة حصارهم كانت أربعين يومًا، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يومًا، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر1. ووقعت في هذه المدة عدة مناوشات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رميًا شديدًا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مكان مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك. ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذفهم به حتى فتحت طاقة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار، فأحرقت الدبابة وخرج المسلمون من تحتها فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعًا ذريعًا، فسألته ثقيف أن يدعها لله والرحم. ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، تسور حصن الطائف وتدلى منه ببكرة مستديرة   1 انظر البداية والنهاية ج4 ص351، المغازي ج3 ص936. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 يستقي عليها، فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أبا بكرة" فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة. ولما طال الحصار، واستعصى الحصن وأصيب المسلمون بما أصيبوا من رشق النبال والحديد المحمى، وكان أهل الحصن، قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي فقال: هم ثعلب في جحر، وإن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدًا إن شاء الله، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغدوا على القتال". فغدوا فأصابهم جراح. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون غدًا إن شاء الله". فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. ولما ارتحلوا واستقلوا قال صلى الله عليه وسلم: "قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون". وقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع على ثقيف، فقال: "اللهم اهد ثقيفًا وآت بهم". وقد استشهد من المسلمين في حصار الطائف اثنا عشر رجلا1.   1 انظر المغازي ج3 ص922-938 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 6- توزيع الغنائم : انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة والغنائم بها ستة آلاف، والإبل أربعة وعشرون ألف بعير، فيها اثنا عشر ألف ناقة، والغنم أربعون ألفًا وقيل: أكثر، فأمر صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان الخزاعي أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثيابًا من برود هجر، فكساهم كلهم، واستأنى صلى الله عليه وسلم بالسبي ولم يوزع منهم، وأقام يتربص أن يقدم وفدهم، وكان قد فرق منه وهو بحنين، فأعطى عبد الرحمن بن عوف امرأة، وأعطى صفوان بن أمية، وعليًا، وعثمان، وعمر، وجبير بن مطعم، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام رضي الله عنهم فلما رجع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 الجعرانة بدأ بالأموال فقسمها، فأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فجاء أبو سفيان بن بن حرب والفضة بين يديه، فقال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا، فتبسم صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: أعطني من هذا يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال! زن لأبي سفيان أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل". قال: ابني معاوية يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: "زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطوه مائة من الإبل". قال أبو سفيان: إنك لكريم فداك أبي وأمي، والله لقد حاربتك فنعم المحارب كنت! ثم سالمتك فنعم المسالم أنت جزاك الله خيرًا1. وسأل حكيم بن حزام يومئذ مائة من الإبل فأعطاه، ثم سأل مائة أخرى فأعطاه ثم سأل مائة ثالثة فأعطاه، ثم قال: "يا حكيم بن حزام، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من السفلى، وابدأ بمن تعول". فأخذ حكيم المائة الأولى ثم ترك ما عداها وقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعد. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوه لعطاء فيرفضه2. وأعطى النضير بن الحارث علقمة بن كلدة أخا النضر بن الحارث مائة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية، حليف بني زهرة مائة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية خمسين بعيرًا، وأعطى الحارث بن هشام مائة من الإبل، وسعيد بن يربوع خمسين بعيرًا. وفي صحيح مسلم عن الزهري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى يومئذ صفوان بن أمية ثلاثمائة من الإبل، ويقال إنه طاف مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتصفح الغنائم، إذ مر بشعب مما أفاء الله عليه، فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:   1 المغازي ج3 ص944-945. 2 المرجع السابق ج3 ص945. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 "أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب"؟. قال صفوان: نعم. قال: "هو لك وما هو فيه"!. فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي، وأشهد أنك رسول الله1 وأعطى قيس بن عدي مائة من الإبل، وأعطى عثمان بن وهب خمسين بعيرًا، وأعطى سهيل بن عمرو مائة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وأعطى أبا عامر العباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة السلمي دون المائة، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شعر قاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا عني لسانه فأعطوه مائة من الخمس". وقال يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟ فقال: "أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه". ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس وكانت سهامهم: لكل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، وإن كان فارسًا أخذ ثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له. وقدم وفد هوازن، وهم أربعة عشر رجلا رأسهم أبو صرد زهير بن صرد الجشمي السعدي، قد أسلموا وأخبروا بإسلام من وراءهم من قومهم. فقال أبو صرد: يا رسول الله أنا أصل العشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا من الله عليك، إنما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا منحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا أحدهما بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته، وأنت خير المكفولين.   1 صحيح مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم"؟. قالوا: يا رسول الله! خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا! وما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فرد علينا أبناءنا ونساءنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، فإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس". فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالناس: قاموا فتكلموا بما أمرهم به، فأجابهم بما تقدم، فقال المهاجرون: فما كان لنا فهو لرسول الله. وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا! فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا فقال: إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين، وقد كنت أستأنيت بهم فخيرتهم بين النساء والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن أبى منكم ويمسك بحقه فليرد عليهم، وليكن قرضًا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا به". فقالوا: يا رسول الله رضينا وسلمنا. قال صلى الله عليه وسلم: "فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم". فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف منهم رجل واحد، وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على قول واحد: أنهم سلموا ورضوا، ودفع عند ذلك السبي إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وتمسكت بنو تميم مع الأقرع بن حابس بالسبي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء ست فرائض: ثلاث حقائق وثلاث جذاع. وقال يومئذ: "لو كان ثابتًا على أحد من العرب ولاء أورق لثبت اليوم، ولكن إنما هو إسار أو فدية". وجعل أبا حذيفة العدوي على مقاسم المغنم. وقال للوفد: "ما فعل مالك بن عوف"؟. قالوا: هرب ولحق بحصن الطائف مع ثقيف. فقال صلى الله عليه وسلم: إنه إن يأت مسلمًا رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، وكان قد حبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بهمة ابنة أبي أمية، ووقف ماله فلم تجر فيه السهام، فلما بلغ ذلك مالكًا، فر من ثقيف ليلا، وقدم الجعرانة وأسلم، وأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاياه وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يكن فيهم منها شيء، وكثرت القالة، فقال واحد: لقي رسول الله قومه! أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا؟ إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله استعتبناه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضبًا شديدًا، ودخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال له: "ما يقول قومك"؟. فقال سعد: وما يقولون يا رسول الله؟ فذكر له ما بلغه وقال: "فأين أنت من ذلك يا سعد"؟. فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فاجمع لي من كان ها هنا من الأنصار". فلما اجتمعوا، حمد الرسول ربه وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم"؟. قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 قال: "ألا تجيبوني"؟. قالوا: وماذا نجيبك يا رسول الله؟ قال: "أما والله ولو شئتم قلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدًا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفًا فأمناك، وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألفت به قومًا أسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم، بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، أكتب لكم بالبحرين كتابا من بعدي تكون لكم خاصة دون الناس"؟. قالوا: وما حاجتنا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "إما لا فسترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله حظًا وقسمًا، وانصرفوا1.   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الطائف ج7 ص32، 37 وللحديث روايات متعددة في الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 7- العودة إلى المدينة : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من توزيع الغنائم وأداء العمرة انصرف راجعًا إلى المدينة في آخر ذي القعدة من العام الثامن الهجري بعدما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وترك معاذ بن جبل معه لتعليم الناس الفقه والقرآن وما يحتاجونه من أحكام دين الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب مدخل ... المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون والأنصار إلى المدينة، وأخذ ينظم شئون دولة الإسلام بعد اتساعها, وأخذ في سياسة أمور الناس، وحراسة دينهم في الجزيرة العربية كلها. ووجد صلى الله عليه وسلم أن مسائل الحياة قد تعددت، واتجاهات الناس قد تنوعت، والحركة بالدعوة تحتاج إلى أعمال كثيرة في نواح مختلفة، وفي أوقات متزامنة. وجد صلى الله عليه وسلم أن أغلب القبائل قد أسلمت، وقلة أبت وكفرت، وأخرى يدور أمرها بين القبول والرفض. وأدى هذا الوضع إلى أن يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمالا لمن أسلم من القبائل، وأن يبعث دعاة للمترددين، وأن يواجه المتمردين بالقوة حتى لا يكونوا بؤرة فساد بين الناس تنشر الضلال والإفك. وحتى يعرف الناس شمول دعوة الإسلام للعالم كله عمليًا بعدما عرفهم ذلك نظريًا أخذ في توجيه الدعاة والمجاهدين إلى خارج الجزيرة العربية حيث الروم ومعهم الغساسنة والفرس ومعهم المناذرة. وبذلك بدأت مؤسسات الدولة الإسلامية في الظهور والتكوين وأخذت الحركة بالإسلام تتسع وتنمو. وفي هذا المبحث سنتناول المسائل التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 أولا: بعث عمال الصدقات إلى القبائل استهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر المحرم من السنة التاسعة بعد رجوعه إلى المدينة المنورة في مباشرة تبليغ الإسلام، وحماية استقرار الجزيرة، وتقوية إيمان القبائل، وإلزامهم بشرع الله تعالى، فأرسل للقبائل التي أعلنت إسلامها عمالا من قبله صلى الله عليه وسلم للحكم فيهم بشرع الله، وأخذهم بما أمر الله تعالى مع تحصيل الصدقات والزكاة بعد فرضها ولذلك سموا بالمصدقين، وقد تكونت هذه الطائفة الأولى من المصدقين1 من: 1- عيينة بن حصن رضي الله عنه إلى بني تميم. 2- يزيد بن الحصين رضي الله عنه إلى أسلم وغفار. 3- عباد بن بشر الأشهلي رضي الله عنه إلى سليم ومزينة. 4- رافع بن مكيث رضي الله عنه إلى جهينة. 5- عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بني فزارة. 6- الضحاك بن سفيان رضي الله عنه إلى بني كلاب. 7- بشير بن سفيان رضي الله عنه إلى بني كعب. 8- ابن اللتبية الأزدي رضي الله عنه إلى بني ذبيان. 9- المهاجر بن أمية رضي الله عنه إلى صنعاء، وخرج عليه الأسود العنسي. 10- زياد بن لبيد رضي الله عنه إلى حضر موت. 11- عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى طيئ وبني أسد. 12- مالك بن نويرة رضي الله عنه إلى بني حنظلة. 13- الزبرقان بن بدر رضي الله عنه إلى بني سعد "إلى قسم منهم". 14- قسيم بن عاصم رضي الله عنه إلى بني سعد "إلى قسم منهم". 15- العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى البحرين. 16- علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى نجران لجمع الصدقة والجزية كليهما. وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ للقبيلة على هيكلها التنظيمي، فلها شيخها، وفيها أولوا الرأي والثقة. وكان عمال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القبائل يقومون بالتعليم والإرشاد، وتوجيه الناس إلى ما جاء به دين الله تعالى، كما يقومون بجمع الصدقات وإرسالها إلى المدينة, وقد عرفت القبائل ذلك فأطاعوا، واستقاموا وبذلك كانوا مؤمنين. ويلاحظ أن إرسال هؤلاء العمال استغرق مدة طويلة امتدت من أول العام التاسع حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.   1 الرحيق المختوم ص424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 ثانيًا: إرسال الدعاة إلى القبائل أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل دعاة من المدينة إلى مختلف قبائل الجزيرة لتعليم المسلمين ما يحتاجون إليه من قرآن وفقه، ودين، ولعرض الإسلام على الذين لم يعلنوا إسلامهم ولتقوية إيمان من أعلن إسلامه حتى لا تتناوشه الظنون والوساوس، وتلعب به شياطين الإنس والجن من ذلك: 1- بعثه صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن. يروي البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: أقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني، والآخر عن شمالي، كلاهما يرجو أن يكون من عمال النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ويسأل في ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك، ويسمع. فلما فرغا من سؤالهما قال صلى الله عليه وسلم: "ما تقول يا أبا موسى"؟. فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في نفسيهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل. يقول أبو موسى: فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفتيه وقد قلصت. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لن نستعمل على عملنا من يريده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى". قال أبو موسى: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى اليمن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذاك فأخبرهم أن الله عز وجل قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" 1. 2- أرسل صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ثم علي بن أبي طالب إلى همدان لدعوتهم إلى الإسلام   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 يروي البخاري عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يعيد خالدًا إلى المدينة وقال له صلى الله عليه وسلم: "مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء أن يقبل فليقبل". فكنت فيمن عقب مع عليّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي ثم صفنا صفًا واحدًا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعًا، فكتب عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدًا ثم رفع رأسه، وقال: "السلام على همدان" 1. 3- أرسل صلى الله عليه وسلم أبا أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وفي ذلك يقول أبو أمامة: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله عز وجل وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم وقد سقوا إبلهم، وحلبوها. فلما رأوني قالوا: مرحبًا بالصدي بن عجلان، وأكرموني ثم قالوا: بلغنا أنك صبوت إلى هذا الرجل. فقلت: لا ولكن آمنت بالله ورسوله، وبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أعرض عليكم شرائع الإسلام، فبينا نحن كذلك إذ جاءوا بقصعتهم فوضعوها واجتمعوا حولها يأكلونها وقالوا: هلم يا صدي. قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم إلا ما ذكيتم كما قال الله تعالى. قالوا: وما قال؟ قلت نزلت هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} 2.   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص358. 2 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 فجعلت أدعوهم إلى الإسلام فكذبوني وهجروني، وأنا جائع ظمآن قد نزل بي جهد شديد، فقلت لهم: ويحكم ايتوني بشربة من ماء فإني شديد العطش. قالوا: لا، ولكن ندعك تموت عطشًا. فاعتممت وضربت برأسي في العمامة ونمت في حر شديد، فأتاني آت في منامي بقدح فيه شراب من لبن لم ير الناس ألذ منه فشربته حتى فرغت من شرابي، ورويت وعظم بطني. فقال القوم: أتاكم رجل من أشرافكم وسراتكم فرددتموه فاذهبوا إليه وأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي، فأتوني بالطعام والشراب. فقلت: لا حاجة لي في طعامكم ولا شرابكم، فإن الله تعالى أطعمني وسقاني، فانظروا إلى الحال التي أنا عليها، فأريتهم بطني فنظروا فأسلموا عن آخرهم بما جئت به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو أمامة: ولا والله ما عطشت ولا عرفت عطشًا بعد تيك الشربة1. 4- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني عبد المدان. يقول ابن هشام: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام فخرج إليهم خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام ويقولون: يا أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد بن الوليد يعلمهم شرائع الإسلام وكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام وأن أدعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركبانًا ينادون: يا بني الحارث أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وإني مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وأن الله قد هداهم بهداه فبشرهم، وأنذرهم، وأقبل، وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته" 1.   1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ثالثًا: تسيير السرايا للخارجين على النظام مع ظهور سيادة الإسلام في الجزيرة، وتعيين العمال، وإرسال الدعاة ظهرت جماعات متعددة تعيش على النهب والسلب، وتأبى الخضوع للنظام الإسلامي، فكان لا بد من تأديب هذه الجماعات، والأخذ على يدها ليستتب الأمن، ويستقر النظام، ويتفرغ المسلمون للتعامل مع القوى الخارجية ودعوتهم إلى الإسلام، وعلى رأس هذه القوى الفرس والروم، لأن التوجه إليهم يحتاج إلى قوة وصبر ورجال. وأهم هذه السرايا ما يلي: 1- سرية عيينة بن حصن الفزاري، في المحرم سنة تسع، إلى بني تميم، في خمسين فارسًا لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية وحرضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرج عيينة بن حصن يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء فولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلا، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبيًا، وساقهم إلى المدينة، فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار رملة بنت الحارث. وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم، فنادوا بصوت عال: يا محمد اخرج إلينا فخرج فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى حتى صلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا والذي جعلنا ملوكًا، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم مالًا وأكثرهم عددًا، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحيي من الإكثار فيما أعطانا الله أقول قولي هذا لأن نؤتى بقول هو أفضل من قولنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس، خطيب الإسلام، فأجابهم وقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كل شيء علمه، فلم يكن شيء إلا من فضله، ثم كان ما قدر أن جعلنا ملوكًا اصطفى لنا من خلقه رسولا، أكرمهم نسبًا، وأحسنهم زيًا، وأصدقهم حديثًا، أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان فآمن المهاجرون من قومه وذي رحمه، أصبح الناس وجهًا، وأفضل الناس فعالا، ثم كان أول الناس إجابة حين دعا رسول الله، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات1. ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد مفاخرًا، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة. ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا،   1 إمتاع الأسماع ج1 ص436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم وفيهم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. 2- سرية قطبة بن عامر إلى حي من خثعم بناحية تبالة، بالقرب من تربة، في صفر سنة تسع خرج قطبة في عشرين رجلا على عشرة أبعرة يتعقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدًا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعًا، وقتل عدد كبير، وساق المسلمون النعم والنساء والشاء إلى المدينة. 3- سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع بعثت هذه السرية إلى بني كلاب، لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم رجلا. 4- سرية علقمة بن محرز المدلجي إلى سواحل جدة في شهر ربيع الآخر سنة تسع في ثلاثمائة، بعثهم إلى رجال من الحبشة كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القرصنة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا. 5- سرية علي بن أبي طالب إلى صنم لطيئ، يقال له القلس، ليهدمه، في شهر ربيع الأول سنة تسع بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة على مائة بعير وخمسين فرسًا ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة حاتم مع الفجر، فهدموه وملئوا أيديهم من   1 سورة الحجرات: 2-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة القلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم, وعزلوا الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسموا آل حاتم. ولما جاءوا إلى المدينة استعطفت أخت عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمنّ عليّ منّ الله عليك. قال: "من وافدك". قالت: عدي بن حاتم. قال: "الذي فر من الله ورسوله". ثم مضى، فلما كان الغد قالت مثل ذلك وقال لها مثل ما قال أمس، فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمنّ عليها. ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبًا أو راهبًا، فجاء عديّ بغير أمان ولا كتاب، فأتي به إلى داره صلى الله عليه وسلم، فلما جلس بين يديه حمد رسول الله به وأثنى عليه، ثم قال: "ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله سوى الله"؟. قلت: لا. ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: "إنما تفر أن يقال: الله أكبر فهل تعلم شيئًا أكبر من الله"؟. قلت: لا. قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون". قلت: فإني حنيف مسلم، فانبسط وجهه صلى الله عليه وسلم فرحًا، وأمر بي فنزلت عند رجل من الأنصار، وجعلت آتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيما يهديه، ويرشده قال لي: "إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسيًا"؟. قلت: بلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 قال: "أولم تكن تسير في قومك بالمرباع"؟. قلت: بلى. قال: "فإن ذلك لم يحل لك في دينك". قلت: أجل وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يجهل. ثم قال: "يا عدي أسلم تسلم". فقلت: إني من أهل دين. قال: "أنا أعلم بدينك منك". فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك". فقلت: بلى. قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك". يقول عدي: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ويطلب من يقبله، فلا يجد أحدًا يقبله منه". يقول عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم1.   1 الرحيق المختوم من ص425 إلى 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 رابعا: غزوة تبوك والتصدى لعدوانية الرومان استعداد المسلمين للغزوة ... رابعًا: غزوة تبوك والتصدي لعدوانية الرومان لم يقبل الرومان انتصار المسلمين، وتوحد الجزيرة تحت راية الإسلام وكبر عليهم أن تظهر قوة كبرى مجاورة لهم، فجهزوا جموعا كثيرة بالشام عند حلفائهم الغساسنة، وأرادوا غزو المسلمين في ديارهم، والقضاء على دولتهم الناشئة فكان أن جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم غازيًا في "تبوك". والحديث عن غزوة تبوك يتطلب النقاط التالية: 1- استعداد المسلمين للغزوة: علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعمل له الرومان فجهز المسلمين وأعد العدة وكانت غزوة تبوك. وتبوك موضع بين الحجر وأول الشام، وإليها كانت غزوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وقعت هذه الغزوة في حر شديد، ومع قلة أموال المسلمين ولذلك سميت "غزوة العسرة". ونظرًا لبعد مسافة تبوك عن المدينة، وللظروف التي أحاطت بها صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بجهة الغزوة على غير عادته ليستعد الصحابة لها، وليكونوا على بينة من المشاق التي سيتحملونها في خروجهم. ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة للخروج إلى تبوك، وأرسل إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه، وأبا واقد الليثي إلى قومه، وأبا جعدة الضمري إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث بن جندب بن جنادة إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو، والعباس بن مرداس إلى بني سليم. وحض على الجهاد ورغب فيه، وأمر بالصدقة فحملت صدقات كثيرة، وأول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه, جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لبناتك شيئًا"؟. قال: أبقيت لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت شيئًا"؟. قال: نعم، نصف مالي جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه. وحمل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مالا يقال: إنه تسعون ألفًا. وحمل طلحة بن عبيد الله مالا. وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية. وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة مالا. وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقًا تمرًا. وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، فلقد كفلت نفقته مئونة ثلث الجيش حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة! جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل صلى الله عليه وسلم يقبلها ويقول: "ما ضر عثمان ما فعل هذا اليوم". قالها مرارًا. ورغب صلى الله عليه وسلم أهل الغنى في الخير والمعروف، فتبادل المسلمون في ذلك حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، وأتت النساء بكل ما قدرن عليه، فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، المسك، والمعاضد، والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات. وكان الناس في حر شديد، وحين طابت الثمار، وحسنت الظلال، وبدأ الناس يحبون المقام، ويكرهون الشخوص أخذهم صلى الله عليه وسلم بالجد، ودعاهم إلى الخروج وعسكر بثنية الوداع. تجمع المسلمون بثنية الوداع حتى بلغ عددهم قريبًا من أربعين ألفًا فيهم كثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الأعراب، وعبد الله بن أبي وأشياعه من المنافقين. وكان لا بد من حمولة للمجاهدين لطول السفر، وصعوبة الطريق، وظهر واضحًا أن الذي لا يجد ما يحمله لن يغزو، وله عذره، وهنا جاء عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشكون له عدم وجود ما يركبون، وأخذوا في البكاء حزنًا على فوت الجهاد منهم. وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمي، وهرمي بن عمرو المزني، وسالم بن عمير، جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه". فولوا يبكون، فلقي اثنان منهما يامين بن عمير بن كعب فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهما ناضحًا له، فارتحله اثنان منهم، وزود كل واحد صاعين من تمر. وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين. وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة1. وأبطأ أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بعيره، وكان الحر شديدًا فخرج وحده، حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ منه العطش. فقال له صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ما خلفك"؟. فأخبره أبو ذر رضي الله عنه خبر بعيره. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كنت لمن أعز أهلي عليّ تخلفًا! لقد غفر الله لك بكل خطوة ذنبًا إلى أن بلغتني". يروي ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى سائرًا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم،   1 إمتاع الأسماع ص446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". حتى قيل: يا رسول الله! قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فلقد أراحكم الله منه". وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر". فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده" 1. وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة "سباع بن عرفطة رضي الله عنه" وخلف معه علي بن أبي طالب على أهله، وعقد الألوية والرايات، فدفع اللواء الأعظم لأبي بكر، والراية الكبرى للزبير بن العوام، وأمر صلى الله عليه وسلم كل من خرج معه باتخاذ لواء أو راية. وأخذ الجيش الإسلامي يتحرك من ذات الثنية باتجاه الشام. وهنا برز أصحاب النفاق وانسحبوا من ذي الثنية ورجعوا إلى المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي وأشياعه. وقالوا: يحسب محمد صلى الله عليه وسلم أن قتال بني الأصفر -الروم- للعب؟ ونافق آخرون وهم الأعراب الذين أخذوا يتخلفون عن الجيش معتذرين بأسباب واهية كاذبة. وكان تخلفهم رحمة بالمؤمنين الصادقين, ولذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما أخبره أصحابه بتخلف فلان يقول: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". وسار الجيش إلى تبوك، بعدما تخلص من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بلغ عدده ثلاثين ألفًا. وعندما وصل المسلمون إلى "ذي خشب" وهو جبل يقع شمال المدينة قريبًا منها أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي والمسلمون معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعًا، يؤخر الظهر حتى تدبر   1 سيرة النبي ج2 ص523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 الشمس ويصلي العصر جمع تقديم، ويصلي المغرب مع العشاء وقت العشاء جمع تأخير واستمر صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى رجع من تبوك. لما وصل الجيش إلى تبوك جمع النبي صلى الله عليه وسلم جنوده، وخطب فيهم وقال صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس! أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى. وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرًا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرًا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر. النياحة من عمل الجاهلية، والغلو من جمر جهنم، والشكر وقاية من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المال أكل مال اليتيم. والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الرؤيا رؤيا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي أستغفر الله لي ولكم". وطاف على ناقته بالناس وهو يقول: "يا أيها الناس! يد الله فوق يد المعطي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ويد المعطِي الوسطى ويد المعطَى السفلى، أيها الناس استغنوا ولو بحزم الحطب، اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! ". وجلس بتبوك في نفر من أصحابه وهو سابعهم، فجاء رجل من بني سعد هذيم فسلم فقال: "اجلس". فقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: "أفلح وجهك". ثم قال: "يا بلال، أطعمنا"!. فبسط نطعًا، ثم أخرج من حميت له خرجات من تمر معجون بسمن وأقط، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "كلوا". فأكلوا حتى شبعوا. فقال الرجل: يا رسول الله إني كنت لآكل هذا وحدي!! فقال صلى الله عليه وسلم: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد". ثم جاء من الغد متحينًا الغداء ليزداد في الإسلام يقينًا، فإذا عشرة حوله عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم: "هات أطعمنا يا بلال"!. فجعل يخرج من جراب تمرًا بكفه قبضة قبضة، فقال: "أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتارًا"!. فجاء بالجراب فنثره، فحزره الرجل مدين، فوضع صلى الله عليه وسلم يده على التمر ثم قال: "كلوا باسم الله". فأكل القوم وأكل الرجل وكان صاحب تمر، حتى ما يجد له مسلكًا، وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كأنهم لم يأكلوا منه تمرة واحدة. ثم عاد الرجل من الغد، وعاد نفر، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال أطعمنا". فجاء بذلك الجراب بعينه فنثره، ووضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: "كلوا باسم الله". فأكلوا حتى شبعوا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام1. وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجنوده في "تبوك" عشرين يومًا حتى فتح الله عليهم فعادوا إلى المدينة بلا قتال وبلا حرب.   1 إمتاع الأسماع ص460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 2- نتائج الغزوة : عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في تبوك، وعسكر قبالتهم جيش الروم، فشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في التقدم بعد أن بين لهم أن الأمر بيدهم وعليهم أن يختاروا لأنفسهم، وبخاصة أن الله لم يأمر بشيء، فرأوا الرجوع إلى المدينة، والاكتفاء بما حقق الله لهم في هذه الغزوة, إن غزوة "تبوك" خلت من القتال ولكنها تركت آثارًا عديدة على المسلمين وعلى غيرهم أما أثرها مع المسلمين فقد محص الله صفهم، وأحاطهم بآيات من عنده كإكثار الطعام وهم في أمس الحاجة إليه، ونزول المطر بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد وجه النبي من عسكره في تبوك سرايا إلى القبائل العربية الموجودة في المنطقة وكانت تابعة للرومان, فلما رأى العرب قوة المسلمين قبلت العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا من أهل الذمة, وعلى رأس هذه القبائل أهل أيلة، وأهل جرباء، وأهل أذرح، وأهل مقتا، حيث أتى يحنة بن رؤبة صاحب أيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحه على إعطاء الجزية وتبعه أهل جرباء وأذرح، فكتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا وأعطاه لهم وجاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة1: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقًا يريدونه، من بر أو بحر". وقد كتب الكتاب جهيم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة، بإذن رسول الله2. وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل "جرباء" كتابًا جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل جرباء وأذرح, أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم"3.   1 وأيلة بفتح الهمزة وسكون الياء مدينة على البحر الأحمر مما يلي الشام وهي من بلاد الشام. 2 سيرة النبي ج2 ص525، 526. 3 إمتاع الأسماع ج ص, جرباء بفتح فسكون موضع جنوب الشام يقع في شمال جبل السراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وكتب لأهل أذرح ما يلي: "من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة، وهم آمنون حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه"1. وكتب لأهل "مقتا" كتابًا جاء فيه: "أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم ربع غزولهم وربع ثمارهم"2. وأرسل خالد بن الوليد في بعث إلى أكيدر دومة، رجل من كندة وكان ملكًا عليها، وكان نصرانيًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وفي ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له، ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه. قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسان فركب، وخرجوا معه بمطاردهم فلما خرجوا لقيهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته وقتلوا أخاه، وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلمه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه به عليه فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من لين هذه؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها" 3. ثم إن رسول الله حقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته4 وبذلك تحقق للمسلمين العزة والقوة في هذه المناطق البعيدة. أما آثار تبوك على غير المسلمين فلقد أيقنوا أن قوة الإسلام غالبة، وأنه لا قبل لأي فريق في مواجهة المسلمين وبدءوا يدركون صدق الإسلام وخطأهم فيه.   1 أذرح بفتح الهمزة وسكون الذال وضم الراء بلد صغير يقع في أطراف الشام من ناحية الجنوب. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص527. 3 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مناقب سعد بن معاذ ج6 ص155. 4 سيرة النبي ج2 ص526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 3- موقف المنافقين بعد الغزوة : سارع المنافقون بالخروج إلى ثنية الوداع حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك. ويبدو أن خروج المنافقين كان مناورة منهم لتثبيط همة المؤمنين ونشر الذعر بينهم وحتى لا يتهموا بالقعود والنكوص، وظنوا أن بمقدورهم القعود بالجيش كله من الغزو ولذلك ناقشوا كثيرًا في التخلف، وأكثروا من الحلف وهم كاذبون، وبدءوا في إضعاف عزائم المجاهدين مرة ببعد المسافة، وأخرى بقسوة الحر، وثالثة بوعورة الطريق، ورابعة بقوة الروم والأعراب المتحالفين معهم, وكل تلك أمور بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين دعاهم للخروج. وكان أمل المنافقين القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام كله، ولذلك خرجوا مع الجيش الإسلامي، وانتهزوا كل ما أمكنهم لتحقيق مآربهم، وأهم أفعالهم: 1- إنشاء مسجد الضرار: بنى المنافقون في "ذي أوان" بجوار المدينة مسجدًا يتآمرون فيه، بعدما كانوا يجلسون في الخلاء ويراهم المسلمون، ويطلعون على مكرهم، وخبثهم، وهذا المسجد هو الذي عرف بمسجد الضرار، وقد دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، فوعدهم بالصلاة معهم فيه حين رجوعه من الغزوة، وأثناء عودته من تبوك نزل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1.   1 سورة التوبة: 107-108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 لقد كان المسجد ستارًا للمنافقين عن أعين المسلمين، لكن عين الله لا تنام، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد، وحرقه، بعدما أمره الله تعالى بعدم الصلاة فيه، وبين له أن سبب تأسيسه هو الإضرار بالمسلمين والكفر بما أنزل الله، وتفريق المسلمين وإيواء أعداء الله ورسوله. 2- نشر الإشاعات الكاذبة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يبقى في أهله، وحينئذ قال المنافقون: ما خلفه محمد إلا خوفًا عليه، ويسرًا به, فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق بالمسلمين بـ"الجرف" فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "كذبوا إنما خلفتك ورائي في أهلي وأهلك". وأخذ المنافقون يهولون في قوة الرومان، ويستهينون بالمسلمين. يقول وديعة بن ثابت المنافق: ما لي أرى أصحاب محمد اتسعت بطونهم، وكذب لسانهم، وجبنوا عن اللقاء. ويقول الجلاس بن سويد المنافق: الرومان سادتنا وعظماؤنا، ولئن كان محمد صادقًا فنحن شر من الحمير. فقال له عمير رضي الله عنه: أنت شر من الحمير، محمد الصادق وأنت الكاذب. فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين وسألهم عن أقوالهم السيئة قال وديعة: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 1. وجاء الجلاس فحلف أنه ما قال من ذلك شيئًا وأن عميرًا كذب عليه، فأنزل الله فيه قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي   1 سورة التوبة: 65-66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 1. فلما نزلت الآية قال الجلاس: عمير صادق وأنا كاذب يا رسول الله وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجًا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها منهم وأعطاها له فاستغنى بها وتاب فتاب الله عليه2. 3- محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم: وفي أثناء الطريق مكر أناس من المنافقين لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة3، فلما بلغوها أرادوا أن يسلكوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الله بخبرهم فقال صلى الله عليه وسلم للناس: "اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع"!. ليبعد المنافقين عن مؤامرتهم فسلك الناس بطن الوادي، وسلك صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه، فغضب المنافقون، وأصروا على سلوك العقبة فأمر صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يردهم، فرجع إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا، الناس فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله! ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا يحيى! أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما هموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي "!. فقال أسيد: يا رسول الله! فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا. قال صلى الله عليه وسلم: "يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدًا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه". فقال أسيد: يا رسول الله! هؤلاء ليسوا بأصحاب!   1 سورة التوبة: 74. 2 إمتاع الأسماع: ص453. 3 العقبة جبل يعرض للطريق فيجعله مضيقًا، والمراد المضيق في شمال مكة عند "واقص". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 قال صلى الله عليه وسلم: "أوليس يظهرون شهادة ألا إله إلا الله"!. قال: بلى! ولا شهادة لهم! قال: "أوليس يظهرون أني رسول الله"؟. قال: بلى! ولا شهادة لهم! قال صلى الله عليه وسلم: "فقد نهيت عن قتل أولئك" 1. وقد فضح الله المنافقين بنزول الوحي يوضح صفاتهم، ويبين أكاذيبهم، ويحدد منزلتهم السافلة، وخلقهم الرديء. فإنهم لما اعتذروا لعدم الاستعداد قال الله عنهم {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 2. وحتى يعرف المؤمنون أن في تخلف المنافقين خيرًا قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 3. وحتى لا يغتر المسلمون بمظهر المنافقين قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 4. وحتى لا يصدق المسلمون أيمانهم قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} 5 ويقول تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 6. وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ   1 إمتاع الأسماع ج1 ص477. 2 سورة التوبة: 46. 3 سورة التوبة: 47. 4 سورة التوبة: 55. 5 سورة التوبة: 56. 6 سورة التوبة: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 1. لقد رد الله أقوال المنافقين جميعًا، وبين طوايا قلوبهم، وخبايا نفوسهم، فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 2 وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، وقال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5. وهكذا: فضح الله النفاق والمنافقين، وبرزت سيم الإيمان والجهاد، وظهرت معالم الحياة أمام البصائر والأبصار.   1 سورة التوبة: 96. 2 سورة التوبة: 58. 3 سورة التوبة: 61. 4 سورة التوبة: 79. 5 سورة التوبة: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 4- الثلاثة الذين تخلفوا : تخلف عن رسول الله ثلاثة من المسلمين هم: كعب بن مالك الأنصاري ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جاءوا وندموا على تخلفهم، وبينوا أنه لا عذر لهم في التخلف، ولم يكذبوا كغيرهم. لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى ركعتين بالمسجد, جاءه المخلفون يعتذرون ويحلفون, ورسول الله يكل حقيقتهم إلى الله تعالى. فلما جاء كعب بن مالك تبسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم المغضب وقال له: "ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك"؟. قال كعب: بلى يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثًا كاذبا لترضى عني، ليوشكن الله أن يسخط عليّ، ولئن حدثتك اليوم حديثًا صادقًا تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى الله فيه، ولا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد صدقت! فقم حتى يقضي الله فيك". وبمثل ذلك ذكر صاحباه، فنهى صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة فاجتنبهم الناس وتغيروا لهم حتى تنكرت لهم أنفسهم، فلبثوا على ذلك خمسين ليلة، وقد قعد مرارة وهلال في بيوتهما، وكان كعب يخرج فيشهد الصلوات مع المسلمين ويطوف بالأسواق، فلا يكلمه أحد، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلسه بعد الصلوات، فيسلم عليه ويصلي قريبًا منه يسارقه النظر، وهو معرض عنه، وتسور يومًا جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمه، وأحب الناس إليه، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، وكرر ذلك فقال في الثالثة: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناه وانصرف. يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، وإذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على "كعب بن مالك"؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع لي كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 فلما مضت أربعون ليلة بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى هلال بن أمية ومرارة بن ربيع مع خزيمة بن ثابت يأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، فقال كعب لامرأته: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض! وبكى هلال بن أمية وامتنع عن الطعام، وواصل اليومين والثلاثة ما يذوق طعامًا، إلا أن يشرب الشربة من الماء أو الضيح من اللبن، ويصلي الليل ولم يخرج من بيته لأن أحدًا لا يكلمه، حتى إن الوالدين يهجرونه لطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاءت امرأته فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له، وأنا أرق به من غيري، فإن رأيت أن تدعني أخدمه فعلت. قال: "نعم، ولكن لا تدعيه يصل إليك! ". فقالت: يا رسول الله! ما به من حركة إليّ! والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، وإن لحيته لتقطر دموعًا الليل والنهار، ولقد ظهر البياض على عينيه حتى تخوفت أن يذهب بصره. فلما كملت خمسون ليلة، وهم كما قال الله تعالى قد {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} 1 أنزل الله توبتهم بقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2 وقوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 4. فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك عند الصبح، فخرج أبو بكر رضي الله عنه فأوفى على   1 سورة التوبة: 118. 2 سورة التوبة: 117. 3 سورة التوبة: 118. 4 سورة التوبة: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 سلع فصاح: قد تاب الله على كعب بن مالك! يبشره، فأتاه حمزة بن عمرو فبشره فنزع ثوبيه وكساهما إياه ولا يملك غيرهما، واستعار ثوبين من أبي قتادة فلبسهما، ثم انطلق إلى رسول الله والناس يهنئونه، وخرج أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل إلى هلال يبشره، فلما أخبره سجد ولقيه الناس يهنئونه، فما استطاع المشي، لما ناله من الضعف والحزن والبكاء حتى ركب حمارًا، وبشر مرارة بن ربيع سلكان بن سلامة بن وقش، فأقبل حتى توافوا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقام طلحة بن عبيد الله يتلقى كعب بن مالك، فلما سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك". فقال: أمن عندك يا رسول الله أو من عند الله؟ قال: "من عند الله". فقال كعب: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة. فقال: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك". قال: فالثلثان! قال: "لا". قال: فالنصف. قال: "لا". قال: فالثلث. قال: "نعم" 1.   1 إمتاع الأسماع من ص486 إلى 488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 المبحث الرابع عشر: السرايا والجهاد في الميزان الجهاد ضرورة عامة ... المبحث الرابع عشر: السرايا والجهاد في الميزان شرع الله الجهاد لتعيش الدعوة إلى الله في إطار خلقي كريم، يقدر الإنسان، ويبرز مزايا الدين، ويشجع الناس على الدخول في دين الله تعالى. وحينما نتأمل في تشريع الإسلام للجهاد، وننظر في مساره التطبيقي من خلال الغزوات والسرايا، ومدى مساهمته في خدمة الدعوة، وتجلية صدق الإسلام وخيريته تظهر الحقائق التالية: 1- الجهاد ضرورة عامة: قد يتساءل سائل ما، بحسن نية أو بسوء نية، ويقول: ما سبب كل هذه التضحيات التي يحتاجها الجهاد الإسلامي؟ وهل يستحق كل هذا؟ وما الغاية منه؟ وما الحكمة في تشريعه؟ وهل استنفد المسلمون كافة الوسائل السلمية حتى يلجئوا إلى الجهاد والحرب؟ مع ما في الحرب من قتل، ودم، وإزهاق للأموال والأرواح. وهل تتساوى غايات الجهاد مع مسئولياته؟ وهذه تساؤلات تحتاج لإجابات واضحة منعًا للبس، وردًا لشبهات يثيرها أعداء الإسلام حول مشروعية الجهاد الإسلامي. إن الإسلام دين الله تعالى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعدما أوحى الله إليه به لإنقاذ الناس من ظلمات الجهل، وعبودية المادة، وطغيان الأقوياء حتى يعيشوا حياة آمنة مستقرة بالعدل والحق، وانتشار الخير والسلام. ولم يبدأ الإسلام بتشريع الجهاد والقتال. وإنما بدأ بالكلمة الصادقة والدعوة الآمنة والحوار الجاد، يناقش العقول، ويحرك العواطف، ويثبت للناس صدق الإسلام، وأحقيته، بلا عدوان على أحد، أو سب لمخلوق، أو مصادرة لرأي واتجاه. أعلن الإسلام غايته بوضوح وهي تنحصر في تحقيق السعادة للناس، ونشر السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 في العالم كله بواسطة منهج رباني خالص حدد الإسلام معالمه، وبين غاياته ومراميه. ومع هذا أبى جبابرة الأرض أن يواجهوا الدعوة بالدعوة، والحجة بالحجة، والرأي بالرأي, وإنما بدءوا باضطهاد من يدعونهم، وقتل من يكلمهم، ووضعوا سياجًا يمنع الدعوة من الحركة والانطلاق. ولم يكن موقفهم هادئًا, ولم يكتفوا بالحديث مهما كان توجهه ومستواه. وإنما اعتمدوا على القتل والأذى، ولم يفرقوا في عدوانهم بين كبير وصغير، ولا بين رجل وامرأة، واستمروا في مباشرة العدوان وتصعيده حتى أجبروا المسلمين على الهجرة وترك الديار إلى أماكن لا عهد لهم بها كالحبشة والمدينة، ولم يترك الأعداء المسلمين أحرارًا حتى في مواطن هجرتهم، وإنما تتبعوهم بالعدوان، ولاحقوهم بالأذى ودبروا المؤامرات لاغتيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقهر المسلمين وجيشوا الجيوش لقتل المسلمين في دارهم, وكان أملهم هو القضاء التام على المسلمين، وإطفاء نور الله في الأرض. وبتحقق هذه الأمور في عالم الواقع يظهر أن مشروعية الجهاد جاءت بعد استنفاد كافة الوسائل التي يتصورها العقل لصيانة الحقوق، وضمان الخير للناس. وقد شرع الله الجهاد لرد العدوان، ومنع الأذى، وتحقيق وضع يحقق الاستقرار للدعوة وللناس، ويصون الكرامة، ويحمي الحقوق، وذلك أمر تدعو إليه المواثيق الدولية القديمة والمعاصرة وتعمل له. ولذلك كان تشريع الجهاد ضرورة عامة، ووحيدة بعد ما استنفد المسلمون كافة الطرق للتعامل مع أعدائهم الذين بدءوهم بالأذى، ولاحقوهم بالعدوان، ولم يسمعوا لهم كلمة، ولم يناقشوهم بحجة. لو لم يشرع الله الجهاد وتركه المسلمون لتمكن المشركون من كل مسلم، ولقضوا على المسلمين ودينهم. ولو لم يشرع الجهاد لاستمرت البشرية في ظلمات الجهل، وسوءات القهر والاستعباد. ومن هنا ندرك ضرورة تشريع الجهاد، وسبب تكليف المسلمين به، وأهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 التضحية والبذل إنقاذًا لأنفسهم، وحماية لدينهم، وتحقيقًا لخير الإنسانية وسعادتها. إن الأمم المعاصرة تحتفل بما بذلته في حروبها العالمية، وتتباهى بتضحياتها من أجل الحرية والديموقراطية، وتجعل قتلاها خلال هذه الحروب أبطالا تصنع لهم التماثيل، وتشيد بهم في كل مجال, فإذا نظرنا إلى الجهاد الإسلامي من زاوية هؤلاء الناس مع ربطه بوسائله وأهدافه، وتطبيقاته فإن ذلك يعد برهانًا على ضرورته، وحتمية استمراره لخير الناس مع وضوح الفرق بين الجهاد الإسلامي وهذه الحروب من ناحية أخلاقيات الجهاد ونتائجه. إن الجهاد الإسلامي في إطار مشروعيته يحتاج إلى كل ما بذل له من تضحية وعطاء، ولو تضاعف الجهد لكان خيرًا وبركة. ويبقى الجهاد في مشروعيته محافظًا على حقيقته، وغايته على الزمن كله. ومن حكمة الله أن آيات الجهاد تورده مرتبطًا بسببه وعلته، يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2. ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 3. ويقول سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 4. ويقول سبحانه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ   1 سورة الحج: 39. 2 سورة البقرة: 190. 3 سورة التوبة: 36. 4 سورة البقرة: 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1. إنه تشريع رباني بسبب أنهم ظلموا! ولرد عدوان المعتدي ومقاتلة من يقاتل! ولمعاملة الأعداء بمثل ما يعملون! ولإنقاذ البشرية من ظلم الطغاة واستبداد المتجبرين وحتى لا تنهدم الحضارات على رءوس أصحابها! وقد سبق عند الحديث عن مراحل تشريع الجهاد في بيان واضح لهذه القضية.   1 سورة الحج: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 2- الجهاد يحمي حرية الإنسان: أظهر الجهاد الإسلامي قيام الإسلام على المبادئ النبيلة، التي تحمي الحقوق، وتصون الكرامة، وتعمل على ضمان حرية الإنسان بصورة مطلقة، وذلك يتضح من خلال بعض الملاحظات في حركة الإسلام بين الناس، وأهمها: أ- إن الإسلام فكرة قائمة على بعض المعاني التي لا بد من فهمها، قبل الإيمان بها والعمل بمقتضاها، ومن المعلوم أن حركة الأفكار تحتاج إلى الحرية، لتظهر الفكرة قولا يسمع ومعنى يتدبر، واتجاهًا يتحول إلى عمل وسلوك، وبدون الحرية لا تجد الأفكار مجالا تعيش فيه وتتحرك خلاله، وإذا فقد الإنسان الاختيار الحر فإنه يتصرف ويعمل بلا اقتناع أو رضى وهذا شأن يأباه الإسلام ويمنعه. ب- ومن الحقائق المؤكدة تشريعيًا، وعمليًا، أنه لا إكراه في اعتناق الإسلام. فكل النصوص الدينية تؤكد أن الإسلام يعتمد على الدليل والبرهان، ويقوم على الرضى والاقتناع، يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1, ويقول تعالى: {هُوَ   1 سورة البقرة: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 1 ويقول تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 2 والآيات واضحة الدلالة على أن دين الله تعالى يقوم على الإرادة الحرة والمشيئة الطليقة، ولا حرج فيه أبدًا. هذا من الناحية التشريعية، أما الناحية العملية التطبيقية فهي تؤكد أن ذلك هو ما حدث في عالم الواقع، ولم يتحدث المؤرخون أو بعضهم أن جماعة من الناس، أو واحدًا من الأفراد دخل في الإسلام قهرًا وجبرًا، وكل ما قام به المجاهدون بعد انتصارهم هو إزالة الطغاة الجاثمين، وصيانة الأموال والأعراض، وتيسير أمر الحياة، وإعلان سيادة الله في الأرض هذا وفقط. مما أدى بالناس إلى التفكير والتدبير، والمقارنة فدخلوا في الإسلام طواعية واختيارًا بعد فهم واقتناع. إن الناس دخلوا في الإسلام راضين سعداء، ولذلك نراهم يسارعون إلى معرفة لغة الإسلام، وحفظ القرآن الكريم والمحافظة على سنة نبيه الكريم. ومما يؤكد الحرية في الاقتناع ما رأيناه من إيمان القوة الغالبة المنتصرة على المسلمين المنهزمين كما حدث في إسلام التتار، فلقد دخلوا في الإسلام بعد هزيمة المسلمين بعد معرفتهم بحقيقة الإسلام، وإيمانهم بصدق وصواب ما جاء به. يقول أرنولد توينبي: إن الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، وهو يعتمد الأسلوب العقلي طريقًا لإقامة العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، والحق أن محمدًا كان متحمسًا لدينه وكان يمتلك غيرة الإيمان، ونار الاقتناع، عرض دعوته على أنها وحي وإلهام وأن لدينه كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل3. لقد بقي الإسلام صامدًا في وجه الهجمات الاستعمارية التي استولت على العالم   1 سورة الحج: 78. 2 سورة الكهف: 29. 3 الدعوة إلى الإسلام ص455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 كله، لما فيه من خير وصلاح، يؤكد هذا الأمر ما نراه دائمًا من إسلام عديد من الناس وهم بين أقوام غير مسلمين وفي ثنايا قوة تحارب الإسلام، وما ذلك إلا لاقتناعهم التام الذي جعلهم يتركون دين آبائهم، ويهاجرون بعد إسلامهم إلى المسلمين وديار الإسلام ليقوموا بواجب الأمانة التي تحملوها بإسلامهم. ولا يمكن القول بأن الجزية تمثل إكراهًا ماديًا، يدفع الفقراء إلى الإسلام ليبتعدوا عنها. لا يقال ذلك لأن المسلم يدفع أضعاف هذه الجزية حين يؤدي ما عليه من واجبات دينية مثل دفع الزكاة، وأداء صدقة الفطر، وتحمل مغارم الكفارات العديدة، في الوقت الذي يعفى فيه دافع الجزية من الاشتراك في الجهاد، وعمليات تأمين الأمة، بينما المسلم يقوم بذلك على وجه الوجوب والفرضية. ج- الجانب الباطني في الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، وارتباط الإيمان في الإسلام بهذا الجانب تأكيد واضح على ضرورة الحرية للاقتناع والإيمان. إن النفاق لا يغني من الحق شيئًا، والمنافق خطر على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد. ويوم أن ظهر المنافقون في المدينة حذر الله منهم وبين للرسول صلى الله عليه وسلم مظاهرهم، ومواطن الخطر من قبلهم فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. والآيات واضحة الدلالة على سلوك المنافقين السيئ، فلقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحدثونه بألسنتهم حديثًا مخالفًا لما في قلوبهم، وينطقون بكلمة الحق مع أنهم لا يقرون بها،   1 سورة المنافقون الآيات: 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فهم كاذبون في إقرارهم، حيث لا ارتباط له بما في قلوبهم, ونراهم يسارعون إلى الأيمان الكاذبة لإبعاد التهمة عنهم، مع أنهم بهذه الأيمان يبالغون في الكذب. ويتصورون أنهم خدعوا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. إن هؤلاء المنافقين يبدون في صورة حسنة، وقلوبهم مملوءة بالسوء. لهم كلام منمق، لكنه السم الزعاف, وهم مدركون لفعلهم ولذلك يعيشون خائفين، يتوقعون انكشاف أمرهم في كل لمحة ولفتة. {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. هذا هو موقف الإسلام من النفاق والمنافقين قديمًا وحديثًا, ولذلك فلا قيمة للإيمان إذا لم ينبع من الباطن القلبي. وذلك شأن لا يتحقق إلا في إطار الحرية, والاختيار الكريم. د- يتكون الإسلام من أساسيات أخلاقية تعتمد على التسامح والعفو، وحب الخير لسائر الناس مع الالتزام بالصدق والأمانة وضرورة مراعاة حقوق الآخرين، والمحافظة على القيام بالواجب بكل دقة. ودين هذا شأنه لا يتصور منه إهانة الإنسان في عقله، وفي إرادته أو في حياته أو في أي جانب إنساني. في إطار هذه الملاحظات يعمل الجهاد ويتحرك المجاهدون؛ ولذلك نرى الجهاد يحمي حرية الناس، ويحفظ عقلهم، ودينهم, وأموالهم.   1 سورة المنافقون: 4. 2 سورة محمد: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 3- الجهاد يصون كرامة الإنسان : كرم الله الإنسان منذ خلقه، وسخر كل ما في الوجود لخدمته وسعادته، وأرسل إليه رسله وأنبياءه ليستقيموا به على المنهج الرباني السديد, لكن الإنسان ظلم نفسه، وبعد عن ربه فلعب به الهوى، واستحوذ عليه الشيطان، فصار عبدًا لشهواته وغرائزه. وانتهز أنصار الشر خيبة الناس فتمكنوا منهم وحولوهم إلى قطعان من العبيد، وتحكموا في رقابهم تحكم المالك في غنمه ومواشيه, ولذلك انقسم العالم إلى جزئيات متناثرة تحت سيطرة أفراد مستبدين, وفقد الإنسان إرادته، وضاعت كرامته. فلما جاء الإسلام وجد هذه الفوضى فكون من المسلمين أمة مجاهدة تنشر العدل، وتصون الأمن، وتحقق كرامة الإنسان. لقد شرع الله الجهاد، وحدد وسائله وغاياته، وطبقه المسلمون بكل دقة وشدة حتى تحققت في عالم الواقع كرامة إنسانية عاشها كثيرون، كرامة لم يتصورها أحد من الناس. لقد جاهد المسلمون بعد الهجرة أقل من عشر سنوات قاموا خلالها بأكثر من مائة غزوة وسرية، تحملوا خلالها كثيرًا من الألم والتعب، والشهادة لكنهم حققوا في عالم الحياة أمة عادلة منصفة, وأزاحوا من حياة الناس مظالم الفرس والروم، واستبداد العرب وجاهلية الفوضى والعصبية, وأوجدوا بدل ذلك الإنسان الكريم الذي يعيش لله، ويعمل لله، ويموت لله, وفي ذلك الدلالة على تكريم الجهاد للناس. إن مقارنة أمينة بين وضعية العالم قبل الإسلام وبين وضعيته تحت سيادة الإسلام تؤكد مدى الخير الذي قدمه الإسلام للناس من كافة النواحي. لقد نظم الإسلام حياة الناس. - حدد حق الحاكم ومسئولياته، وواجباته. - وضح حقوق الناس وصان لهم النفس، والعقل، والعرض، والمال، والاعتقاد. - أرسى أسس السلوك القويم، وأعلى مكارم الأخلاق. - بين العقوبات الملائمة للجرائم لصيانة المجتمعات البشرية من الهمجية والعدوان. - أعلى مقام العلم وجعله حقًا ضروريًا لكل رجل وامرأة. - دعا إلى السعي والعمل وبذل أقصى الوسع للنجاح ويسر لذلك الطريق. - أعطى لكل فرد ما يستحقه من جزاء وثواب تبعًا لطاقاته العقلية وإمكاناته العملية. - حدد حقوق كل من الرجل والمرأة بما يضمن لكليهما الحياة السعيدة المستقرة. - حقق بين أفراد المجتمع تكافلا كاملا يحقق العدل والمساواة. ولم يحقق الإسلام هذا في عالم الواقع إلا بجهاد المسلمين وتضحياتهم وتلك هي مسئولياتهم إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 4- الجهاد يبرز إيجابية الإنسان المسلم : أبرز تشريع الجهاد حقيقة الإنسان المسلم، في باطنه، وظاهره، وخلقه. فهو في باطنه يسلم أمره لله ورسوله، ويؤمن بكل ما يبلغه من الرسول صلى الله عليه وسلم. وليست الحياة الدنيا في مفهوم المسلم مغنمًا يحرص عليه، وإنما هي مجال يطيع الله فيه، ليغنم رضوان الله وجنته بعد هذه الحياة الدنيا. إن الجهاد يبرز أعلى درجات الاستسلام والطاعة لله تعالى؛ لأن المجاهد يدفع روحه لله، ويقبل الموت راضيًا به، ليفوز برضوان الله تعالى. إن سائر العبادات رقي في حياة المسلم، واستمرارية لطهارة الدنيا، وعظمتها والهجرة من مكة إلى المدينة كانت خلاصًا من الضعف، والقلة، والأذى، وانتقالا إلى القوة، والكثرة، والغلبة، والتخلص من عدوان الكفر، وأذى المشركين، فهي رقي دنيوي في طاعة الله تعالى. إن الجهاد هو بذل للمال، وللنفس، وترك الدنيا، من أجل إعلاء كلمة الله وذلك كان ذروة سنام الإسلام، وقد جعل الله المجاهدين صفوة الخلق، وأكرمهم عنده وجدد الله حياتهم بعد استشهادهم، وضاعف رزقهم، وأحاطهم بالبشر، والسرور، يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1. إن التضحية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل شهامة وبطولة يقدم عليها العظماء من الناس, وهي مناط إظهار إيجابية المجاهدين في سبيل الله تعالى. لقد قام المجاهدون بما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبدءوا بعدوان، وإنما كانوا يبدءون بعرض الإسلام وشرح أعماله ومراميه، ودفع ما يثار حوله من شبه وافتراء, وكانوا يعرضون الجزية يدفعها من يأبى الإسلام ليكون له العهد والذمة. ولم يتعد المجاهدون على شيخ كبير أو امرأة أو صغير أو راهب في صومعة أو بيعة. إن الجهاد في الإسلام معلومة غايته، مبينة وسيلته، من خلال تشريعه الصريح، وتطبيقاته في الأمم، التي تمتعت به, وهو في مجمله قوة تؤمن بالله، وتستمد طاقتها من شريعة الله، وتبرز غايتها المعلنة منذ أن جاء الإسلام للناس. إن تكوين القوى الدولية التابعة للأمم المتحدة تنطلق من هذا المفهوم الذي نرجو له أن يتطابق وسمه مع رسمه وتلتقي فكرته مع واقعه ليكون عونًا للضعفاء، ومساعدة للمحتاجين. إن المجاهد لا يطلب مجدًا شخصيًا، ولا سلطانًا قوميًا، ولا استعلاء أمميًا, وإنما كل غايته تحقيق العبودية للمعبود، وإعلاء سلطان الله في الأمم كلها. وبذلك فالمسلم المجاهد إنسان إيجابي يفيد الإنسانية كلها.   1 سورة آل عمران: 169-174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 5- الواقعية في تشريع الجهاد : لم يغب تشريع الجهاد مطلقًا عن مصلحة الناس، ومراعاة واقعهم العملي، حيث رأيناه في مكة لم يكلف المسلمين بجهاد، وإنما أمرهم بالصبر، والعفو لقلة عددهم وضعف أحوالهم، وغلظة أعدائهم، وفي نفس الوقت لم يوجه لومًا لمسلم ينتصر لنفسه ضد بغي وقع عليه، إذا رأى الانتصار ممكنًا، ولا يؤدي إلى ضرر أكبر. وقد تحدث الوحي عن الجهاد بالإذن فيه، أو بالأمر به، ليعلم أهل مكة ومن يشايعهم أن قضية الإسلام لم تنته بالهجرة إلى المدينة، ولكن الحقيقة أن الهجرة تؤكد أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأنها ستكون أقوى من سابقتها، وأن الاستقامة على الحق ضرورة واجبة، والدعوة إلى الله أمر لن يتوقف، وأن قوة المسلمين ستكون في خدمة الدعوة دائمًا، وستبقى في حماية الحركة بالإسلام. وقد تحقق في عالم الواقع أن أهل مكة وقبائل العرب وغيرهم أدركوا هذا الأمر وتيقنوا أن الإسلام تحميه قوة المسلمين، ويبلغه للعالم رجال يبذلون له كل ما يمكنهم من نفس ومال، وعمل. حين شرع الله للمسلمين أن يتصدوا للظلم والعدوان عرفهم أن ذلك هو الجهاد. الذي كلفوا به، في إطار نظام متكامل يتضمن الدعوة أولا، ويتمسك بالخلق الحسن في كافة مراحله، ويملأ المجاهد بحب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله. وبإعلان الإسلام للجهاد نظامًا له منهجه، وهدفه، علم العرب جميعًا مدى حب المسلم لدينه، ومدى ربطه سعادة الآخرة بعمل الدنيا، ومدى تمنيه الموت مجاهدًا في سبيل الله تعالى, وهذا أمر يدفع الناس إلى التفكير الجاد في شأن الإسلام، ورجاله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أظهر تشريع الجهاد إيجابية الإسلام في معالجة مشاكل الناس، فالمسلم لا يجاهد لكسب مادي، وإنما يجاهد لضمان حرية الإنسان في التفكير، وصيانة عقله من الغوغائية والتسلط، وإزاحة الظلم والاستبداد من عالم الناس، وهذا شأن يجب أن يذكر به الجهاد الإسلامي. إن العالم الحديث يلزم الأقوياء، والأغنياء بمعاونة الضعفاء، والمحتاجين في إطار مجموعة من النظم، والمواثيق، والمؤسسات الدولية، وذلك شاهد يؤكد عظمة تشريع الجهاد، وسبق الإسلام في تكليف المسلمين بقهر الظلم ودفع البغي، وإزاحة الطواغيت لقد تصدى الإسلام لأناس تألهوا على الناس، واستعبدوا البشر، وحولوا الأحرار إلى قطعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 من الأنعام، وأقاموا سدًا يمنع نور الحق من الوصول للأفهام, فلما جاء الإسلام، وظهرت قوة المسلمين، انزاحت القوى المتسلطة، وتبين الرشد من الغي، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. إن هذه الإيجابية الإسلامية معروفة مقررة، بشهادة التاريخ، وبشهادة الواقع يقر بها كل منصف آمين. وقد تعرضت الدعوة الإسلامية في العصر الحديث بادعاء أن جهادها كان ظالمًا قائمًا على الاعتداء والغدر, وهذا افتراء واضح لأن الجهاد الإسلامي لم يكن إلا ردًا لظلم ودفعًا لعدوان، وحماية للدعاة في حياتهم وعملهم. لقد أدت النتائج الأولى للجهاد إلى تحقيق حرية التفكير لسائر الناس، وصيانة حقوقهم الضرورية المرتبطة بإنسانيتهم، وحمايتهم، وحماية أموالهم في إطار تحديد ما لهم وما عليهم في دولة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 6- ظهور فقه الإسلام في الجهاد : أدى تشريع الجهاد في الإسلام إلى ظهور الأحكام التفصيلية لأعمال الجهاد بمختلف مراحله، وأصبح المسلمون مسئولين عن رعاية هذه الأحكام، وتطبيقها في عالم الواقع، ومن هذه الأحكام: أ- إعداد القوة لحماية البلاد والعباد، والدين، وذلك بتنفيذ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1. ومن الواضح في الآية أن إعداد القوة، وتجهيز الجيش سبب لتحقيق السلام، وضمان الحقوق؛ لأن أعداء الحق إذا رأوا يقظة صاحب الحق يخافون منه، ويبتعدون عن مصادمته, ومن مسلمات الحضارة الحديثة أن الأمم الجادة تجهز جيشها، وتعده لحماية أمنها وسلامتها، ولذا لم يكن عجبًا وجود وزارات ومؤسسات في كل دولة   1 سورة الأنفال: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 لإعداد العدة، وتجهيز القوة حماية للمصالح، وصيانة لحقوق المواطنين من أي عدوان يلحق بها، ونشر الأمن لكل خاضع لنظام الدولة وسيادتها. ولذا كان توجيه المسلمين لإعداد القوة من بدهيات العقل، ومسلمات العمران والتقدم ومن أساسيات ضمان الأمن وتحقيق السلام. ب- ضرورة التهيئة النفسية، وتقوية الجانب الروحي في الإنسان، لينشأ المسلم شجاعًا قويًا، لا يخاف إلا من الله تعالى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 1. إن الخور والضعف أمام العدو يولد الهزيمة، ويورث الوطن والأمة الذل والهوان، ولذلك كان واجبًا تربية الأمة على التحمل والصبر، والقيام ببعض ما يكرهون في إطار متطلبات الأمة، ونظامها. ج- تعلم المجاهدون من تطبيقات الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم النظم العسكرية التي بها يتحقق النصر، من حسن التخطيط، وسعة المشاورة، ومعرفة أسرار العدو، ومقابلة الخصم بما يكافئه, مع التوكل على الله، والاستعانة به سبحانه وتعالى. د- بينت الشريعة الإسلامية أحكام الإسلام قبل القتال عن طريق تنشيط العلاقات الدولية، ومناقشة الخصم في القضايا المثارة، وعرض الإسلام عليه، عسى أن يتحقق السلام وينتشر الأمن في إطار حكيم حسن، بالكلمة الحرة، والقول الأمين ولذلك كان عرض الإسلام على الآخرين أمرًا واجبًا على من يتصدى لهم ويقابلهم. هـ- تعلم المسلمون من الجهاد، أهمية القيادة، وضرورة طاعة القائد فيما يأمر به لأنه يوجه الجماعة وفق مرئيات لا يدركها جميع المجاهدين ولأن المواقف الصعبة والمصيرية تحتاج إلى الحسم والتنفيذ، ويضيعها التردد؛ ولذلك كانت طاعة الحاكم قضية واجبة في ميدان الحرب، منعًا للهزيمة والفشل.   1 سورة الأنفال: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 و تعلم المسلمون من الجهاد شروط مهادنة الأعداء، وطرق التعامل معهم قبل القتال، وأثناءه، وبعده وأساسها العزة، والتزام الحق، والقيام بالواجب. ز- استفاد المسلمون طرق التعامل مع الغنائم، والفيء، والأسرى كما هو مفصل في كتب الفقه على ضوء التعاليم التي نزل الوحي بها. ح- وأبواب الفقه مليئة بتفصيلات توضح مكانة الشهيد، ومنزلته عند الله، وكيفية دفنه، والصلاة عليه. ط- تعلم المسلمون أن النصر لا يعني الغرور والاستعلاء وإنما هو عطاء إلهي، وتقدير رباني يحتاج إلى الشكر، ومداومة الطاعة، واستمرارية العمل لدين الله تعالى. وهكذا ظهر فقه الجهاد من خلال تطبيقاته في المدينة المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 المبحث الخامس عشر: وجاء نصر الله مدخل ... No pages الجزء: 1 أولا: تتابع مجئ الوفود إلى المدينة ... أولا: تتابع مجيء الوفود إلى المدينة تيقن العرب من انتصار الإسلام، وآمنوا بصدقه وأحقيته فأسرعوا إلى الدخول فيه وبدءوا يرسلون وفودًا من قبلهم يمثلونهم لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم الإسلام، وكان العام التاسع هو قمة هذا التحرك الشامل. أورد ابن سعد في الطبقات تفصيلات عن سائر الوفود التي جاءت للمدينة المنورة سواء قل عدد أفراد الوفد أو كثر، وسواء كان مجيئها في السنة التاسعة أو العاشرة أو قبل التاسعة أو بعد العاشرة, وسواء أعلن الوفد إسلامه أو اتفق على دفع الجزية، ويمكن مراجعة تفصيلات الوفود في كتب السنة، وفي كتب التاريخ ومؤلفات السيرة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 ومن أهم الوفود1 التي جاءت إلى المدينة ما يلي: 1- وفد أحمس: قدم قيس بن غربة الأحمسي في مائتين وخمسين رجلا من أحمس فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنتم"؟. فقالوا: نحن أحمس الله، وكان يقال لهم ذلك في الجاهلية. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنتم اليوم لله". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: "أعط ركب بجيلة وابدأ بالأحمسيين". ففعل. 2- وفد أزد شنوءة: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد مكون من بضعة عشر رجلا فنزلوا على فروة بن عمرو، فحباهم وأكرمهم وأقاموا عنده عشرة أيام فأسلموا، وكان صرد أفضلهم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن. 3- وقد أزد عمان: أسلم أهل عمان فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقة أموالهم، فخرج وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أسد بن بيرح الطاحي، فلما قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم، فقال مخربة العبدي واسمه مدرك بن خوط: ابعثني إليهم فإن لهم عليّ منة، أسروني يوم جنوب فمنوا عليّ، فوجهه صلى الله عليه وسلم معهم إلى عمان. وقدم سلمة بن عياذ الأزدي في أناس من قومه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يعبد وما يدعو إليه، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يجمع كلمتنا وألفتنا،   1 تراجع تفصيلات الوفود في المغازي، والطبقات، وزاد المعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 فدعا رسول الله لهم، فلما رجع سلمة إلى قومه أسلموا وبارك الله فيهم. 4- وفد بني أسد: قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حبيش، وطليحة بن خويلد، ونقادة بن عبد الله بن خلف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، فسلموا وقال متكلمهم: يا رسول الله! إنا شهدنا ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله فقبل منهم رسول الله، وسر بإسلامهم وأمرهم بدعوة قومهم، وتعليمهم الإسلام وأكرم وفادتهم ثم عادوا إلى ديارهم. 5- وفد أسلم: قدم عمير بن أفصى في جماعة من أسلم فقالوا: قد آمنا بالله ورسوله، واتبعنا منهاجك فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب فضيلتها فإنا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء والنصر في الشدة والرخاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها". وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، ومن أسلم من قبائل العرب ممن يسكن السيف والسهل، وفيه ذكر الصدقة والفرائض في المواشي. وكتب الصحيفة ثابت بن قيس بن شماس، وشهد عليها أبو عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 6- وفد أسيد بن أبي أناس: قال ابن عباس رضي الله عنه: أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم أسيد بن أبي أناس لما بلغه أنه هجاه، فأتى أسيد الطائف فأقام بها، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج سارية بن زنيم إلى الطائف. فقال له أسيد: ما وراءك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 قال سارية: قد أظهر الله تعالى نبيه ونصره على عدوه، فاخرج يابن أخي إليه فإنه لا يقتل من أتاه. فحمل أسيد امرأته، وخرج وهي حامل تنتظر، وسار نحو مكة فألقت غلامًا عند قرن الثعالب وأتى أسيد أهله فلبس قميصًا واعتم، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارية بن زنيم قائم بالسيف عند رأسه يحرسه، فأقبل أسيد حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أهدرت دم أسيد؟ قال: "نعم". قال: تقبل منه إن جاءك مؤمنًا؟ قال: "نعم". فوضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: هذه يدي في يدك، أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد ألا إله إلا الله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وألقى يده على صدره. 7- وفد أشجع: قدمت أشجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق وهم مائة ورأسهم مسعود بن رخيلة فنزلوا شعب سلع، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد لا نعلم أحدًا من قومنا أقرب دارًا منك، ولا أقل عددًا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك فجئنا نوادعك، فوادعهم صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد ذلك. 8- وفد الأشعريين: روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا والإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدَّادين من أهل الوبر قبل مطلع الشمس1.   1 صحيح مسلم كتاب الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان ج2 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب وهم خيار مَن في الأرض". فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله؟ فسكت, ثم قال: إلا نحن يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا أنتم" 1. قال: ولما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا وبايعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأشعريون في الناس كصرة فيها مسك". 9- وفد الأشعث بن قيس: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس في وفد كندة في ثمانين راكبًا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وقد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة، وقد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: $"ألم تسلموا؟ ". قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: "فما بال هذا الحرير في أعناقكم"؟. فشقوه منها، فألقوه. 10- وفد بارق: قدم وفد بارق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق لا تجد ثمارهم ولا ترى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، ومن مر بهم من المسلمين في عرك، أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام، وإذا أينعت ثمارهم فلابن السبيل اللقاط يوسع بطنه من غير أن يقتثم". شهد أبو عبيدة بن الجراح، وحذيفة بن اليمان وكتب أبي بن كعب.   1 زاد المعاد ج3 ص619. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 11- وفد باهلة: قدم مطرف بن الكاهن الباهلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وافدًا لقومه، فقال يا رسول الله أسلمنا للإسلام وشهدنا دين الله في سماواته وأنه لا إله غيره، وصدقناك وآمنا بكل ما قلت فاكتب لنا كتابًا فكتب له: "من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن ولمن سكن بيئة من باهلة، إن من أحيا أرضًا مواتًا فيها مراح الأنعام فهي له، وعليه في كل ثلاثين من البقر فارض، وفي كل أربعين من الغنم عتود، وفي كل خمسين من الإبل مسنة، وليس للمصدق أن يصدقها إلا في مراعيها وهم آمنون بأمان الله". ثم قدم نهشل بن مالك الوائلي من باهلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدًا لقومه، فأسلم وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للوفد ولمن أسلم من قومهم كتابًا فيه شرائع الإسلام. وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه. 12- وفد بني البكاء: وفد من بني البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع ثلاثة نفر على رأسهم معاوية بن ثور بن عبادة البكائي، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو، وهو الأصم، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة وضيافة، وأجازهم، ورجعوا إلى قومهم، وقال معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتبرك بمسك، وقد كبرت وابني هذا بر بي فامسح وجهه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه بشر بن معاوية وأعطاه أعنزًا عفرًا وبرك عليهن. 13- وفد بني بكر بن وائل: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو منكم، هذا رجل من أباد تحنف في الجاهلية فوافى عكاظًا والناس مجتمعون فكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه". وكان في الوفد بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد، وحسان بن حوط. وقدم معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف عن عمرو بن الحارث بن سدوس وكان ينزل اليمامة فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجراب من تمر فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. 14- وفود بلى: قدم وفد من بلى في شهر ربيع الأول سنة تسع فأنزلهم صلى الله عليه وسلم في منزل ببني جديلة، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة فسلموا عليه وتكلموا معه فقال صلى الله عليه وسلم: "يا رويقع". قال: لبيك. قال صلى الله عليه وسلم: "من هؤلاء القوم"؟. قال: قومي. قال صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بك وبقومك". قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمنا وافدين عليك، مقرين بالإسلام ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يهده للإسلام". قال فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فقال: يا رسول الله إنا قدمنا عليك لنصدقنك ونشهد أن ما جئت به الحق، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا. فقال رسول الله: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار" 1.   1 الطبقات الكبرى ج1 ص330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 15- وفود تجيب: قدم وفد تجيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عز وجل، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سقنا إليك حق الله في أموالنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "ردوها فاقسموها على فقرائكم". قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل من فقرائنا. فقال أبو بكر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدم علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد الله به خيرًا شرح صدره للإيمان". وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم1. 16- وفود بني تغلب: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تغلب ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم النصارى على أن يقرهم على دينهم، وعلى أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم. 17- وفود ثمالة والحدان: قدم عبد الله بن علس الثمالي، ومسلمة بن هاران الحداني على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة في أموالهم كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة.   1 المستدرك للحاكم ج2 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 18- وفود جذام: وفد رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي، ثم أحد بني الضبيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدًا وأسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا: "هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفاعة بن زيد، إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى رسول الله فمن آمن -وفي لفظ- فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسول الله ومن أدبر -وفي لفظ- من أبى فله أمان شهرين". فلما قدم على قومه أجابوه وأسلموا. 19- وفود جرم: روى ابن سعد عن سعد بن مرة الجرمي عن أبيه قال: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان منا يقال لأحدهما: الأصقع بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح، والآخر هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح فأسلما، وكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا. 20- وفود جرير بن عبد الله البجلي: بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال: "ما جاء بك"؟. قلت: جئت لأسلم. فألقى إليّ كساءه وقال: "إذًا أتاكم كريم قوم فأكرموه ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان، وتنصح لكل مسلم، وتطيع الوالي وإن كان عبدًا حبشيًا". 21- وفود همدان: قدموا سنة تسع بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمّر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدًا، فجاء عليّ إلى همدان، وقرأ عليهم كتابًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعًا، وكتب عليّ ببشارة إسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ الكتاب خر ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان". 22- وفود فزارة: قدم هذا الوفد سنة تسع بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلا جاءوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى وقال: "اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثًا، مغيثًا، مريحًا، طبقًا، واسعًا، عاجلا، غير آجل، نافعًا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء" 1. 23- وفد نجران: كانت وفادة أهل نجران2 سنة تسع، وقوام الوفد ستون رجلا، منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران، أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة. ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ   1 زاد المعاد ج3 ص653. 2 زاد المعاد ج3 ص629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1. وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله، وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتابًا، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلا أمينًا فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح، ليقبض مال الصلح. ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعدما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عليًا، ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين. 24- وفد بني حنيفة: كانت وفادتهم سنة تسع وكانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة الكذاب وهم مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة، نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسليمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأى أن ذلك لا يجدي فيه نفعًا تفرس فيه الشر. 25- وفد بني عامر بن صعصعة: كان فيهم عامر بن الطفيل عدو الله وأربد بن قيس أخو لبيد لأمه وخالد بن جعفر وجبار بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم، وشياطينهم وكان عامر هو   1 سورة آل عمران: 59-61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرًا ثم حبس الله يده فلم يقدر على سله وعصم الله نبيه ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم, فلما رجعا أرسل الله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته, وأما عامر فنزل على امرأة سلولية فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول: أغذة كغدة البعير وموتًا في بيت السلولية. وفي صحيح البخاري: أن عامرًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان ايتوني بفرسي، فركب فمات على فرسه. 26- وفد طيئ: قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دونما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه". وسماه زيد الخير. وهكذا: تتابعت الوفود من كل أنحاء جزيرة العرب، ودخل الجميع في دين الله أفواجًا. وقد استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاستقبال الوفود، والترحيب بهم ورعايتهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه في دين الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 ثانيًا: نظام استقبال الوفود وضع النبي صلى الله عليه وسلم نظامًا حسنًا في معاملة الوفود يعتمد على النقاط التالية: 1- استقبال الوفود: عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه لاستقبال الوفود حين وصولهم إلى المدينة، وتيسير معاشهم مدة إقامتهم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- تهيئة مكان نزول الوفود: أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من دور المدينة لإنزال الوفود بها، ومنها دار رملة بنت الحارث النجارية، وهي دار واسعة، وفيها نخيل وزروع، وقد نزل بها وفد سلامان، ووفد تميم بن عيينة بن حصن، ووفد بني كلاب، ومنها دار المغيرة بن شعبة، ونزل بها الأخلاف من ثقيف، ومنها دار أبي أيوب الأنصاري ونزل بها وفد نجران, ومنها دار يزيد بن أبي سفيان، ونزل بها وفد همدان, ومنها دار بلال، وقد نزل بها ملك أيلة حين قدم مع أهل الشام واليمن. 3- إكرام الوفد: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يحسنوا استقبال الوفود، ويكرموا وفادتهم فقاموا بذلك خير قيام، ففي طبقات ابن سعد أن وفد بني حنيفة نزلوا دار رملة فأكلوا مرة خبزًا ولحمًا، ومرة خبزًا ولبنًا، ومرة خبزًا وسمنًا. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رحب بوفد تجيب، وأكرمهم، وحباهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، ووفادتهم. 4- الاستعداد للقاء الوفد: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد النبوي يستقبل فيها الوفود، وجعل خالد بن سعيد بن العاص لاستقابلهم، وتهيئة لقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين يلتقي بالوفد يلبس أحسن ثيابه، ويأمر أصحابه بذلك، فقد لبس صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يوم استقبال وفد كندة حللا يمانية وقد بنى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دكة من طين يجلس عليها حين يستقبل الوفود. 5- الاستماع للوفد أولا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفد، ويستمع منه أولا، ليعرف موضوعه، ومذهبه وبعد ذلك يرد عليه، أو يكلف أحدًا من أصحابه بالرد. وكان يجيب على أسئلة الوفد ويعرض عليهم الإسلام، ويقبل منهم الجزية، وكان يسمع للوفد أولا، ثم يرد عليهم. وأكتفي هنا بإيراد نموذجين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 النموذج الأول: قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم خطيبهم فقال "الحمد لله الذي له علينا الفضل والمنُّ، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالا وعظامًا، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا، وأيسره عدة. فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن الشماس، أخي بني الحارث بن الخزرج: $"قم فأجب الرجل في خطبته". فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبًا وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابًا وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين. ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوو رحمه أكرم الناس حسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالا. ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا وكان قتله علينا يسيرًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. قال ابن إسحاق: فلما فرغ ثابت بن الشماس من قوله، قال الأقرع بن حابس وأبي: إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم. النموذج الثاني: قدم ضمام بن ثعلبة وافدًا عن بني سعد بن بكر، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب". قال: أمحمد؟ قال: "نعم". قال: يابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن بها عليّ في نفسك. قال: "لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك". قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك لنا رسولا؟ قال: "اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: "اللهم نعم". قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: "اللهم نعم". قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منهما كما ينشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره، راجعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة". إن المواجهة الصادقة بين الوفود ورسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كانت تحقق الثمار المطلوبة، وبها انتشر الإسلام في كل الجزيرة العربية. 6- الإهداء للوفد: يروي البخاري بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث منها إجازة الوفد بمثل ما كان يجيزهم. وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم قروة بن عمرو الجذامي اثني عشر أوقية من الفضة، وأعطى كل واحد من وفد تميم ذلك، وفعل ذلك مع كل من وفد عليه. وسر هذا الإهداء أنه يولد الحب، ويعظم الإخلاص ويبرز حسن المعاملة. 7- توديع الوفود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن توديع الوفود كما يحسن استقبالهم، وكان يوصيهم بالدعوة، ويبعث معهم من يعلمهم القرآن إن احتاجوا إليه. وهكذا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسة حسنة في التعامل مع رجال الوفود التي قدمت إليه في المدينة المنورة لأن كل وفد يمثل قبيلته وجماعته، فتقدير الوفد وتكريمه يعد تكريمًا للقبيلة كلها. وأيضا فإن تأليف القلوب، والتعامل الكريم، وإبراز حسن الخلق من أساسيات التحرك بالدعوة بل هو الدعوة بعينها. ويجب على المسلمين أن يهتموا بهذا الجانب الحيوي، وبخاصة أن العالم المعاصر تشابكت مصالحه، وكثرت اللقاءات فيه، وساعدت المخترعات الحديثة في تواصل الناس، وترابط المصالح، وبذلك تلتقي الدعوة مع الفطرة، ومع التقدم الحضاري الإنساني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 ثالثًا: حج أبي بكر رضي الله عنه وإعلان نهاية الوثنية في الجزيرة العربية: اقترب موسم الحج في العام التاسع الهجري فكره رسول الله أن يخرج للحج مع المشركين وبخاصة أنه صلى الله عليه وسلم عقد معهم عقد أمان يوم تبوك. إن اشتراك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين في حج البيت يؤدي إلى ضرار بالمسلمين وشعائرهم؛ لأن المشركين يعارضون بتلبيتهم تلبية المسلمين فإن قال المسلمون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك قال المشركون: إلا شريكا هو لك، كما أنهم يطوفون بالبيت عرايا، ويرفعون أصواتهم بالشرك حيث يعتقدون ذلك وليس هناك ما يمنعهم من حج بيت الله. وفي ذلك إفساد لروحانية الحج، ومضيعة لآثاره، كما إن اشتراك الرسول معهم في حجهم وبدعهم يعد إقرارًا لهم فيما يفعلون. لكل ذلك كره رسول الله أن يحج معهم، واستعمل على الحج أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليؤكد ثبات حق المسلمين في الحج وليتعلم المسلمون الحج عمليًا لأهمية العمل في إتقان أداء النسك. خرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة رجل وعشرين بدنة قلدها صلى الله عليه وسلم النعال وأشعرها بيده صلى الله عليه وسلم في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات، وحج عامئذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأهدى بدنا، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة. وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر، سمع رغاء القصواء، فإذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عليها فقال له أبو بكر: قد استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟! قال عليّ: لا ولكن بعثني أقرأ سورة براءة على الناس، فأنبذ إلى كل ذي عهد عهده1 وكانت عادة العرب أن القوم منهم إذا عاهد سيدهم عهدًا مع غيره لا ينقضه   1 المغازي ج3 ص1077، البداية والنهاية ج5 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 إلا هو أو أقرب الناس إليه من عصبته النسبية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يخالف المشركين, فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع "مزدلفة" ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمع قبل طلوع الشمس، فخرج أبو بكر رضي الله عنه حتى أتى مكة وهو مفرد بالحج، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، وطاف يوم التروية حين زاغت الشمس بالبيت سبعًا ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ولم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير1، فانتهى إلى نمرة2، فنزل في قبة من شعر فقال فيها، وركب راحلته لما زاغت الشمس، فخطب ببطن عرفة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته فوقف بالهضاب من عرفة، فلما أفطر الصائم دفع يسير العنق حتى نزل بجمع قريبًا من النار التي على قزح3 فلما طلع الفجر صلى الفجر ثم وقف فلما أسفر دفع وجعل يقول في وقوفه: "يا أيها الناس، أسفروا". ثم دفع قبل الشمس، وكان يسير بهدوء حتى انتهى إلى "محسر"4 فأوضع راحلته لتسرع، فلما جاز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتى رمى الجمرة راكبًا بسبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر فنحر، ثم حلق. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر عند الجمرة براءة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". وخطب أبو بكر رضي الله عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته، وأقام يرمي الجمار ماشيًا ذاهبًا وجاثيًا فلما رمى يوم الصدر هو "اليوم الرابع"، وجاوز العقبة ركب، وصلى بالأبطح الظهر والعصر وصلى بمكة المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلا إلى المدينة5 ولما علم العرب جميعًا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ من الشرك والمشركين، ونقض العهود التي عاهدهم عليها, وأعطاهم مهلة أربعة أشهر ليستريحوا في الأرض آمنين، ويختاروا لأنفسهم ما يريدون. لما حدث ذلك أقبل على الإسلام من كان مترددًا, فأسلم مشركو مكة, وأقبلت وفود معان، وغسان من الشمال، وغامد، ونجران من الجنوب وهكذا جاءت الوفود من الأماكن النائية لتعلن تمام إسلام الجزيرة كلها ودخول أبنائها في دين الله تعالى.   1 ثبير مرتفع عال بمنى. 2 نمرة واد بجوار عرفة وهو ليس منها. 3 قزح المرتفع الذي يقف عليه الإمام عند المزدلفة. 4 محسر واد صغير يقع بين المزدلفة ومنى يستحب الإسراع حين المشي فيه. 5 المغازي ج3 ص1078. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 رابعًا: حجة الوداع وتحديد المعالم الكبرى في الإسلام ثم كانت حجة الوداع، ويقال لها: حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة التمام، وقد أجمع صلى الله عليه وسلم الخروج في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره وقد أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن، فصلى الظهر بمسجد المدينة أربعًا، وأذن في الناس بالحج، فقدم المدينة بشر كثير يريدون أن يأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعملوا بعمله، وسار من المدينة متدهنًا مترجلا يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، ومعه أزواجه، وأهل بيته، وعامة المهاجرين، فلما انتهى إليه اجتماع أصحابه والهدى دخل مسجد ذي الحليفة فصلى العصر ركعتين1، ثم خرج فدعا بالهدى فأشعره في الجانب الأيمن بيده ووجهه إلى القبلة، وقلده نعلين نعلين ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم2. وساق مائة بدنة وأمر ناجية بن جندب أن يشعر ما فضل من البدن، واستعمله على الهدي، وكان مع ناجية بن جندب فتيان من أسلم، وكانوا يسوقونها سوقًا ويتبعون بها الرعي، وعليها الجلال، فقال ناجية بن جندب: يا رسول الله! أرأيت ما عطب منها كيف أصنع به؟ قال صلى الله عليه وسلم: تنحره وتلقى قلائده في دمه، ثم تضرب به صفحته اليمنى، ثم لا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك. وأمر من كان معه هدى أن يهل كما أهل، وسار وبين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله أمم لا يحصون كثرة: كلهم قد قدموا ليأتموا به صلى الله عليه وسلم ويقال: كان معه تسعون ألفًا، ويقال: مائة وأربعة عشر ألفًا، ويقال: أكثر من ذلك.   1 صحيح البخاري كتاب الحج باب ما يلبس المحرم. 2 صحيح مسلم كتاب الحج باب تقليد الهدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 ومر صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنة، فقال: "اركبها، ويلك"!. قال: إنها بدنة. قال: "اركبها". وكان يأمر المشاة أن يركبوا على بدنهم. وطيبته عائشة رضي الله عنها لإحرامه بيدها، وأحرمت وتطيبت، فلما كانوا بالقاحة سال من الصفرة على وجهها، فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء. وكان يصلي بين مكة والمدينة ركعتين أمثالا لا يخاف إلا الله، فلما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم سلم وقال: "أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا سفر". وأصبح صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بيلملم1، ثم راح فتعشى بشرف السيالة2 وصلى المغرب والعشاء، ثم صلى الصبح بعرق الظبية, بين الروحاء والسيالة، وهو دون الروحاء، ثم نزل الروحاء، فإذا بحمار عقير فقال: دعوه حتى يأتي صاحبه، فأهداه له صلى الله عليه وسلم، فأمر به أبا بكر رضي الله عنه فقسمه بين الصحابة، وقال: "صيد البر لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم". ثم راح من الروحاء فصلى العصر بالمنصرف، وصلى المغرب والعشاء بالمتعشى وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج. ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما بين كداء وكدى ثم أصبح فاغتسل ودخلها نهار الاثنين من ذي الحجة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام راحلته فأخذه بشماله، ثم قال حين رأى البيت: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من عظمه ممن حجه واعتمره تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وبرًا" 3. ولما دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة. وطاف راكبًا على راحلته، فلما انتهى إلى الركن استلمه وهو مضطبع بردائه، وقال: "بسم الله والله أكبر". ثم رمل ثلاثة من الحجر إلى الحجر، وكان يأمر من استلم الركن أن يقول: "بسم الله والله أكبر إيمانًا بالله، وتصديقًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم". وقال   1 يلملم على مسيرة يومين من مكة عند الطائف، وهو ميقات أهل اليمن. 2 السيالة موضع بين مكة والمدينة. 3 زاد المعاد ج2 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 فيما بين الركن اليماني والأسود {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. ولم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود ومشى أربعة أشواط على مهل. ثم انتهى خلف المقام فصلى ركعتين يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 2 و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3 ثم عاد إلى الركن فاستلمه. وقال لعمر رضي الله عنه: "إنك رجل قوي، إن وجدت الركن خاليًا فاستلمه، وإلا فلا تزاحم عليه فتؤذي". وقال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "كيف صنعت بالركن يا أبا محمد "؟ فقال: استلمت وتركت. قال: "أصبت". ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: "أبدأ بما بدأ الله به". وسعى على راحلته فصعد على الصفا فكبر سبع تكبيرات، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا بين ذلك، ونزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل وقال في المشي: "أيها الناس! إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا، وسعى حتى انكشف إزاره عن فخذه". وقال في الوادي: "رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم". فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة. وأقام بمكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان يوم التروية يوم الجمعة، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، وقام يوم التروية بين الركن والمقام، فوعظ الناس وقال: "من استطاع أن يصلي الظهر بمنى فليفعل". فصلى في حجته هذه صلاة أربعة أيام, وهو مقيم بمكة حتى خرج إلى منى.   1 سورة البقرة: 201. 2 سورة الكافرون: 1. 3 سورة الإخلاص: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وركب حين زاغت الشمس في يوم التروية، بعد أن طاف بالبيت فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى. ثم أصبح فسار إلى عرفة، ولم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثم ركب إلى عرفة، ونزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر، ويقال: إنما قال إلى فيء صخرة، وميمونة رضي الله عنها تتبع ظلها حتى راح، وأزواجه في قباب خز فلما كان حين زاغت الشمس أمر براحلته القصواء، فرحلت برحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فلما توجه قال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة". ثم أتى بطن عرنة، وكانت قريش لا تشك أنه لا يتجاوز المزدلفة يقف بها، فقال نوفل بن معاوية الديلمي وهو يسير إلى جنبه: يا رسول الله ظن قومك أنك تقف بجمع. فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافًا لهم". وكانت قريش كلها تقف بجمع إلا شيبة بن ربيعة من بينهم فإنه كان يقف بعرفة. وخطب صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس، ببطن عرنة على ناقته فلما كان آخر خطبته أذن بلال وسكت صلى الله عليه وسلم من كلامه، فلما فرغ بلال من أذانه تكلم بكلمات، وأناخ راحلته، وأقام بلال فصلى عليه السلام الظهر، ثم أقام العصر جمع بينهما بأذان وإقامتين، ثم ركب، وهو يشير بيده إلى الناس: "ارتفعوا إلى عرفة". وكان من خطبته بعرفة قبل الصلاتين: "أيها الناس إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا، بعد يومكم هذا، رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أضعه ربا العباس بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 عبد المطلب، اتقوا الله في النساء إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن عضتم به: كتاب الله وأنتم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ ". قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ثم قال بإصبعه السبابة يشير إلى السماء يرفعها ويكبها ثلاثًا: "اللهم اشهد". ووقف على راحلته حتى غربت الشمس يدعو ونزل عليه وهو واقف بعرفة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. ومال إلى شعب الأذاخر، عن يسار الطريق بين المأزمتين فقضى حاجته، ولم يصل حتى نزل قريبًا من الدار التي على قزح، وصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد لهما، وبإقامتين، لكل صلاة منهما إقامة، ولم يسبح بينهما، ولا آثر واحدة منهما، فلما كان في السحر أذن لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء في التقدم من جمع قبل حطمة الناس وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه حين أصبح، فرمى الذين تقدموا الجمرة قبل الفجر أو مع الفجر. ولما برق الفجر صلى عليه السلام الصبح، ثم ركب راحلته ووقف على قزح. وأردف الفضل بن العباس من مزدلفة إلى منى، وقال: "هذا الموقف وكل المزدلفة موقف". وحمل حصى العقبة من المزدلفة، وأوضع في وادي محسر ولم يقطع التلبية حتى رمى الجمرة ورمى جمرة العقبة يوم النحر على ناقته، بلا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. ولما انتهى إلى المنحر قال: "هذا المنحر، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر". ثم نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة بالحربة، ثم أعطى رجلا فنحر ما بقي. ولما فرغ من نحر الهدي دعا الحلاق فحلق.   1 سورة المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وخطب في حجته صلى الله عليه وسلم ثلاث خطب: الأولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، والثانية يوم عرفة بعرفة بعد الظهر على راحلته القصواء، والثالثة يوم النحر بعد الصلاة، وكانت خطبة يوم النحر أطولها وأهمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وضح فيها المعالم الكبرى في الإسلام وهو يودع أصحابه عند الموقف العظيم، وهذا نص خطبة النحر كما ذكرها ابن هشام والمقريزي وغيرها. "أيها الناس! اسمعوا من قولي واعقلوه، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أيها الناس! أي شهر هذا"؟ فسكتوا. فقال: "هذا شهر حرام". وأي بلد هذا؟ فسكتوا، فقال: "بلد حرام". وأي يوم هذا؟ فسكتوا فقال: "يوم حرام". ثم قال: "إن الله حرم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت"؟. قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد! ". ثم قال: "إنكم سوف تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت"؟ قال الناس: نعم! قال: "اللهم اشهد! ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلِمون ولا تظلَمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله، وأول دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل، ألا هل بلغت"؟. الوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! فليبلغ الشاهد الغائب، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا ما أعطي عن طيب نفس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 فقال عمرو بن يثربي: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي اجتزر منها شاة؟ فقال: "إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادًا بخبت الجميش فلا تهجها". ثم قال: "أيها الناس! {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} 1. يحرمون ما أحل الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر: الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون، ألا هل بلغت"؟. فقال الناس: نعم. فقال: "اللهم اشهد". ثم قال: أيها الناس إن للنساء عليكم حقًا، وإن لكم عليهن حقًا: فعليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا ولا يدخلن بيوتكم أحدًا تكرهونه إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت؟ ". قال الناس: نعم! قال: "اللهم اشهد. أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم، إن المسلم أخو المسلم، وإنما المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب نفس منه، وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، إني قد   1 سورة التوبة: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 تركت فيكم ما لا تضلون به: كتاب الله، ألا هل بلغت"؟. قال الناس: نعم. قال: "اللهم اشهد" 1. وقد تضمنت الخطبة القضايا التالية: 1- بيان ما لمكة وأشهر الحج ويوم النحر من حرمة تدعو المسلم إلى المحافظة عليها. 2- تحريم العدوان على المسلم وضرورة المحافظة على كيانه الإنساني الكامل، وأن حرمة الإنسان لا تقل عند الله عن حرمة مكان الحج وزمنه ويومه. 3- توضيح إطار المسئولية الدينية التي يلتزم الإنسان بها في صدق وأمانة وإخلاص بعيدًا عن المحسوبية، والعنصرية والمحاباة. 4- ضرورة الفضل التام بين ما كان في الجاهلية وما جاء به الإسلام، فلا استمرار لعادة ولا تقدير لحكم سابق إن خالفه الإسلام أو هدمه. 5- الزمان ثابت لا يتغير وهو يدور مع الأيام والشهور ولا يصح تغييره للهوى والعبث. 6- بيان أن المرأة صنو الرجل في المسئولية والجزاء، ولهن حقوقهن في إطار خلقتهن وعلى الرجل أن يحترم في المرأة إنسانيتها، وأن يتقي الله تعالى وهو يعاملها. 7- على المسلمين أن يعلموا أن عدوهم الأكبر هو إبليس اللعين، وهم مكلفون بمقاومته والحذر من ألاعيبه. 8- وكان صلى الله عليه وسلم يشهد الناس عن كل قضية يذكرها لهم ويبرئ ذمته أمام ربه ويناديه: "اللهم فاشهد". 9- حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسئولية للمسلمين، وأشهد الله على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة. وبذلك وضح للمسلمين أهم ما يحتاجون إليه من توجيهات ودروس.   1 إمتاع الأسماع ج1 ص510 إلى 532, سيرة النبي لابن هشام ج2 ص603، 604. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 خامسًا: آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة كبر على الرومان أن ينضم أتباعهم السابقون من عرب الشمال إلى ركب الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا في اضطهاد من يعلن إسلامه، وقتلوا والي "معان" بعد دخوله في الإسلام وانضمامه إلى المسلمين، فكان لا بد من تلقين الرومان درسًا يعلمون به أن محمدًا لن يترك أتباعه، ويدركون أن عاقبة عدوانهم ستنقلب عليهم, وأن مصلحتهم في تجنب معاداة المسلمين، وعدم الاستهانة بهم وبدينهم فأخذ صلى الله عليه وسلم في أوائل العام الحادي عشر بتجهيز جيش ضخم وأمر عليه الصحابي "أسامة بن زيد" رضي الله عنه ولم يبلغ بعد الثامنة عشرة، وجعل في الجيش كبار الصحابة, وأمر صلى الله عليه وسلم أسامة أن يطأ أرض الروم ولا يتعمق في المسير لتحقيق هدف واضح يؤدي إلى إرهاب الروم، ويمنعهم من العدوان على المسلمين والتعدي على بلادهم, وقد تم تجهيز الجيش، واستعد للرحيل، وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون حركته في أول عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما لقي رسول الله ربه في هذه الأثناء. ولعل من أوضح دروس هذا البعث تولية أسامة إمارة الجيش ليكون درسًا للشباب الإسلامي ليعلموا دورهم في بناء الأمة، وتيقنوا من أهميتهم في المحافظة على قوتها, وقد انضم كبار الصحابة إلى جيش أسامة طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبًا في الجهاد، وإبقاء لضرورة طاعة أمر الله ورسوله على الزمن كله، وتقديم النص الصريح على أي اجتهاد عقلي مهما كانت دقته ووضوحه. وسيأتي تفصيل بعث أسامة حين نتناول بالدراسة تاريخ الدعوة في عهد أبي بكر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 المبحث السادس عشر: انتقال الرسول إلى الله تعالى أسلمت الجزيرة كلها، وأخذ الفرس والروم في تفهم الإسلام والتعامل معه وتأكدت حقائق الدين بكل جوانبه، فتمت مصادره، وتحددت معالمه، ونزل كل ما يحتاجه الإسلام من وحي الله تعالى ولذلك نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1. وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 2. وقد فهم كثير من الصحابة أن هاتين الآيتين فيهما نعي رسول الله3 وإخبار بقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى؛ لأن الرسالة هي غاية مجيء محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، فإذا ما كملت الرسالة وتم الدين ونزل ما رضيه الله للناس لم يعد هناك داع لبقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة بين الناس. وقد أعد الله الأمة لتقبل رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدارس جبريل عليه السلام محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان الأخير مرتين، وكان يدارسه قبل ذلك في كل رمضان مرة واحدة. وعلم النبي أصحابه على إدارة شئون الحياة، والمحافظة على الإسلام، والحركة بالدعوة عن طريق قيادة السرايا، وإدارة شئون المدينة، وإقامة الصلاة، والدعوة إلى الإسلام فرادى وجماعات، في إطار تعاليم الله الثابتة، ومنهجه الذي يحرص المسلمون على تطبيقه، وصيانته من كل عبث، والدفاع عنه ضد كل معتد أثيم. وبكل هذا أدى الرسول وظيفته، وأتم الغاية التي خلق لها، ووصل إلى النهاية. وجاء وقت الرحيل، فاعتكف صلى الله عليه وسلم في رمضان من العام العاشر عشرين يومًا وكان يعتكف قبل ذلك عشرًا، وجاءه جبريل فدارسه القرآن مرتين، وكان يدارسه   1 سورة المائدة: 3. 2 سورة النصر. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض رسول الله ج7 ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 قبل ذلك مرة واحدة، وقال لأصحابه في حجة الوداع: "إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". وكرر ذلك. يقول ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، حين دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: "مرحبًا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه، إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلو على الله في عباده، وبلاده فإنه قال لي ولكم {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} " 1. قلنا: فمتى أجلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى". فقلنا: من يغسلك؟ فقال: "أهلي". قلنا: فيم نكفنك؟ قال: "في ثيابي أو في بياض". قلنا: فمن يصلي عليك؟ قال: "مهلا، غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيرًا". فبكينا وبكى، ثم قال: "ضعوني على سريري على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة ليصلي عليّ جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا فصلوا عليّ ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة، أقرئوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحابي فأقرئوه مني السلام، ومن تابعكم على ديني فأقرئوه السلام" 2. وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبل أحد   1 سورة القصص: 83. 2 الكامل في التاريخ ج2 ص319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ليودع الأموات كالأحياء، ثم خطب في أصحابه وقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني أنظر إليكم من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوها" 1. وفي ليلة من ليالي صفر من نفس العام خرج إلى البقيع وخاطب الموتى قائلا: "السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن عليكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى 2 ... وإنا بكم للاحقون". ولما رجع صلى الله عليه وسلم من البقيع وجد عائشة تشكو ألمًا وتقول: وارأساه. فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنا والله يا عائشة وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك". قالت رضي الله عنها: والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى اشتد عليه المرض وهو في بيت ميمونة3. وفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من صفر بدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير الذي استمر أربعة عشر يومًا. ولما ثقل المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يسأل: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا"؟ 4. يستعجل يوم عائشة رضي الله عنها ففهم الصحابة، وفهمت أمهات المؤمنين مراد النبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله فأذن له أن يستمر عند عائشة مدة مرضه, فانتقل صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب وذلك بعد مرضه بسبعة أيام5. ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يومًا بين العباس وعلي حتى جلس على المنبر فحمد الله تعالى ثم قال:   1 صحيح البخاري، كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص286. 2 الكامل ج2 ص318. 3 الكامل لابن الأثير ج2 ص318. 4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص102. 5 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 "أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليّ مني حقًا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس". ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى، فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: "أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة". ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عندنا فاختار ما عنده"1. وفي يوم الأربعاء قبل وفاته بخمسة أيام قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة يا رسول الله: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" 2. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين العباس وعلي لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه". فأجلساه إلى جنب أبي بكر الأيسر، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر3. وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال صلى الله عليه وسلم وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحرم ذلك على أمته.   1 الكامل ج2 ص319. 2 سيرة النبي ج2 ص652. 3 سيرة النبي ج2 ص653. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 تقول عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا1. وعن ابن عباس أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه فسأله الناس: يا أبا حسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا. فأخذ العباس بن عبد المطلب بيد علي وقال له: يا علي أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف بني عبد المطلب عند الموت اذهب بنا إلى رسول الله فلنسألنه فيمن هذا الأمر بعده؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا. فقال علي: إنا لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس من بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله2. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" 3. يقول ابن إسحاق: فكان المسلمون يرون أن رسول الله مات شهيدًا، مع ما أكرمه الله به من النبوة. تقول عائشة رضي الله عنها: لدنا "رسول الله" صلى الله عليه وسلم في مرضه، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: يقول ذلك كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني"؟. قلنا: فهمناه كراهية المريض للدواء. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد قصاصًا وأنا أنظر، فلدوا جميعًا إلا العباس فإنه لم يشهد معهم". وزاد ألم المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخميس قبل وفاته بأربعة أيام. يقول ابن عباس رضي الله عنه: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله وجعه فقال:   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص99. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص100. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول: غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني". فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب ذلك الكتاب وذلك لاختلافهم ولغطهم1. ويجب أن يكون واضحًا أن ما أراد رسول الله كتابه كان أمرًا عاديًا لأنه لو كان من واجبات الشريعة لكتبه صلى الله عليه وسلم بلا تأثر بكلام عمر أو بكلام غيره لسابق حسمه في أمور الدين، وأيضا فقد سبق ذلك إعلان تمام الدين وكماله. وحكمة الله في عدم كتابة أمر في هذا الوقت واضحة منعًا لمن يقول: إن المريض قد يختلف عليه عقله إذا اشتد مرضه. فإذا ما تصورنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يعهد لأبي بكر رضي الله عنه في الكتاب الذي كان يريده كما رجح البعض فإنه دليل على ثانوية الأمر، وحتى يبقى هذا الشأن شورى بين المسلمين لم يغيره صلى الله عليه وسلم كلام عمر ولا غيره. وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لعائشة في مرضه هذا: "لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابًا وأعهد عهدًا لئلا يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". فلم يكن والله أعلم الكتاب الذي أراد أن يكتب إلا في استخلاف أبي بكر. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفس على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي مات فيه طفقت أنفس عنه بالمعوذات التي كان ينفس، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه لبركتها. ولما كان يوم الاثنين والناس في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي لهم لم يفاجئهم إلا رسول الله يكشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي ج7 ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 يضحك سرورًا باستقامة أمر الناس وإخلاصهم مع الدين لله وهو ليس معهم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم بيده رسول الله أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر1، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح حيث كان مسكنه. ومع هذا التصور الذي شعر به المسلمون بعد صلاة الفجر كانت هي الصلاة الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توفي صباح يوم الاثنين وهو عند عائشة رضي الله عنها. تقول عائشة: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه، ودخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله إلى صدري فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناوله فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" 2. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير". فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم الرفيق الأعلى". فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى" 3. فلما رأت عائشة رضي الله عنها شدة الموت التي لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فلا أكره شدة الموت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم4. ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مالا، وخرج من الدنيا وهو مدين, يقول عمرو بن الحارث: ما ترك   1 صحيح البخاي كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص101. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص96. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص99. 4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة. وعن عائشة: توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير1. وعن أنس بن مالك قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه. فقال لها صلى الله عليه وسلم: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم". فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه مَنْ جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب2. وعن عائشة قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه التي قبض فيها فسارها فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه، الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته يتبعه فضحكت3. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة4 ومثل اليوم الذي ولد فيه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا. فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاضية برد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيني، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" 5. وعن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة منعطفًا بها على منكبيه، وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد أيها   1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص106. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص95. 3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص95. 4 سيرة النبي ج2 ص655. 5 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قول النبي: اقبلوا من محسنهم ج6 ص154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح للطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم" 1. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، حيث كان مسكنه بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، ولكنه ذهب لملاقاة ربه، كما ذهب موسى عليه السلام لملاقاة ربه أربعين يومًا وسيرجع والله ما كان في نفسي إلا ذلك وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر على فرس من منزله بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا. ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال له أبو بكر: أيها الحالف على رسلك, فأقبل إليه الناس وتركوا عمر، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} 2, وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3. فأخذ الناس يبكون وقد تيقنوا موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن عباس: والله لكأني بالناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن رسول الله قد مات4.   1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قول النبي: اقبلوا من محسنهم ج6 ص155. 2 سورة الزمر: 30. 3 سورة آل عمران: 144. 4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 ولما عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم مات دهش الناس وطاشت عقولهم، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ولم يكن أثبت وأحزم من أبي بكر والعباس1. وقد قضى المسلمون بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء في اختيار خليفة رسول الله بعد وفاته وبعد مشاورات تمت بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ووقى الله المسلمين شر الفتنة. ولما فرغ الناس من بيعة أبي بكر، وجمعهم الله على خليفة واحد، وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم. يروي ابن إسحاق بسنده أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وقثم بن العباس، وشقران مولى رسول الله، وأسامة بن زيد هم الذين تولوا غسله، وأن أوس بن خولى -وكان بدريًا- دخل معهم، وحضر غسل رسول الله، وأسنده إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقبلونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعليّ يغسله بعدما أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله، وعليّ يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًا وميتًا، ولم ير من رسول الله ما يرى من الميت2. حدثني يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون والقميص دون أيديهم، فلما فرغوا من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب صحاريين وبرد وحبرة أدرج فيها إدراجًا. وحدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلوا عن طريقة الحفر هل يحفرون كحفر أهل مكة أو كحفر أهل المدينة؟ وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة وكان أبو طلحة زيد بن سهيل   1 مختصر السيرة ص460 إلى 465. 2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 هو الذي كان يحفر لأهل المدينة وكان يلحد. فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر اذهب إلى أبي طلحة ثم دعا الله قائلا: اللهم خر لرسول الله، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله. فلما فرغ الصحابة من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع سريره في بيته، وقد اختلف المسلمون في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض". فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه فحفر له تحته. ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه عشرًا عشرًا، حتى إذا فرغ الرجال دخل النساء، حتى إذا فرغ النساء دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله أحد وقاموا بدفنه صلى الله عليه وسلم والنساء عنه بعيد تقول عائشة رضي الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء. وكان الذين نزلوا في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم بن العباس، وشقران مولاه وأوس بن خولى، وجعلوا تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة كان يلبسها ويفترشها، وكان آخر الناس عهدًا به قثم بن عباس. وبعد مدة ذهب أبو بكر وعمر لزيارة أم أيمن رضي الله عنها كما كان رسول الله يفعل فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله. قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكني أبكي لأن الوحي انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء فأخذا يبكيان1. وهكذا.. انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وترك من ورائه أمته تحمل الأمانة، وتقدر المسئولية, وتعلم عن يقين أن الله تعالى سيحاسبها بميزان الوحي الذي تركه صلى الله عليه وسلم في   1 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل أم أيمن ج16 ص9، 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 الناس، ليكون شاهدًا فيهم. انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله بعد أن ترك الإسلام كله، وصار كل شيء بينا حكمه، معروفة جنباته. حيث لا عذر بعد ذلك لناقض، أو كسول, ولا أهمية لعداوة أو نفاق. انتقل رسول الله إلى ربه بذاته، وترك في أمته الوحي كله، وعرفهم أنه ترك لهم ما فيه كل الفلاح والهدى, يقول صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي" 1. انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعد أن وضح لأمته طريقة الحياة بعزة، وكرامة، وأخلاق وبعد أن وضع أيديهم على الحقائق التالية: 1- الإنسان متميز عن سائر المخلوقات بحقوق تناسبه ولا بد من المحافظة عليها، والوفاء بواجباتها بالمنهج الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. 2- القوة المادية أساس حماية العزة والكرامة, والضعفاء لا ينالون إلا الهوان, والذل وضياع الحقوق. 3- الإسلام أمانة في عنق كل مسلم, ومصادره وتعاليمه واضحة بينة, ولا عذر لمسلم في البعد عن الإسلام بصورة كلية أو جزئية, ولا عذر للأمة إن قصرت في واجبات الإسلام. 4- سينتقل الجميع إلى الله, وسيحاسبون على كل ما قدموا ولن ينفع إلا الصدق، والإيمان، والعمل الصالح، وستجزى كل نفس بما عملت, وما ربك بظلام للعبيد.   1 فيض القدير ج3 ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية مدخل ... الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية تمهيد: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم زاد وفير للإنسانية كلها، وللمسلمين على الخصوص. فهو صلى الله عليه وسلم صورة شاملة للإسلام، يجمع كل حقائقه، ويوضح كافة جوانبه، جعله الله تعالى منبع العلوم والمعارف، وخصه بنزول الوحي والتنزيل، ووكله بجبريل عليه السلام يلقي إليه القرآن، ويوحي إليه بالأحاديث, وكل باحث عن شيء في الإسلام فمرجعه رسول الله، ومصدره ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم. وهو صلى الله عليه وسلم تطبيق عملي للوحي المنزل، وتجسيد بشري لتعاليم الله تعالى، فعمله حجة، وسلوكه طريق، ومعاشه وحياته أسوة للناس أجمعين. ولم يكن اهتمام علماء المسلمين بالسيرة النبوية إلا إبرازًا لمناط الأسوة والقدوة نظريًا وعمليًا، ولتبقى بين العالمين منارة هدى، ومصدر إشعاع وخير. وحين أعانني الله تعالى على كتابة السيرة النبوية حاولت أن ألم بأحداثها جميعًا لتكون صفحة واضحة أمام من يطلع عليها لدرجة تغنيه عن أمهات الكتب، والمصادر القديمة للسيرة النبوية مع الإشارة إلى ما يستفاد من أحداثها واضعًا الحدث في صورته الناطقة بدوره في تحقيق الخير وصيانة الحقوق، وحاولت بعد ذلك أن أكتب بعض الركائز المفيدة للدعاة المعاصرين، ولكافة المسلمين، حتى لا تنقطع الأمة المسلمة عن ماضيها، وبذلك تعيش الحاضر بروح الماضي، وتعيد الماضي في صورة العصر الحديث. وليعلم الجميع أنه لا جديد عن الدعوة إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء بعد عصره صلى الله عليه وسلم فهو مستمد منه وراجع إليه. وكل مسلم يبتعد عن رسول الله فهو بعيد عن الحق والصواب. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك للناس الإسلام حقيقة كاملة خالية من العوج والاضطراب وترك أمته تطبق الإسلام وتتلزم به, وعرفهم أن الفوز والفلاح في اتباع وحي الله تعالى، والالتزام الدقيق بالإسلام. وقد أوجب الله تعالى الدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى وكلف الأمة الإسلامة بأن تبلغ الإسلام للناس بالكيفية التي دعا بها رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين. وفي هذا الفصل أورد أهم الركائز المستفادة من سيرة رسول الله في المدينة المنورة وذلك في المباحث التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 المبحث الأول: ضرورة بناء الأمة الإسلامية [قاعدة الدعوة] مدخل ... المبحث الأول: ضرورة بناء الأمة الإسلامية "قاعدة الدعوة" الإسلام دين الله تعالى أنزله للناس ليسعدوا به، وكلف المسلمين أن يقوموا بالدعوة إليه وأداء الأمانة التي حملهم الله بها. وقضية الدعوة ليست أمرًا سهلا لأنها تتعامل مع عديد من الناس اختلفت عقائدهم، وتباينت اتجاهاتهم، وتعارضت أمانيهم وخياراتهم, ولذلك فهي مسألة صعبة تحتاج إلى الإعداد والاستعداد. ففي الكتاب الثاني من هذه السلسلة بينت نظرة الإسلام للإنسان واهتمامه به وتوضيح أركان الإسلام وغاياته من خلال الركائز المستفادة من السيرة في مكة. وهنا أحاول بيان ما يستفاد من المرحلة المدنية. بينت المرحلة المدنية أهمية اعتماد الدعاة في حركتهم على قاعدة صلبة، وقوة يقظة, وقد تمثل ذلك في نشوء دولة الإسلام في المدينة المنورة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقد قامت الدعوة في مكة على جهود فردية، وتضحيات نفر قليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط عداوات أهل مكة، ومباشرتهم الأذى والاضطهاد لكل من أسلم؛ ولذلك مضت مدة طويلة أسلم فيها عدد قليل عاشوا خلالها حالة من الخوف والاضطهاد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول إيجاد القاعدة القوية لانطلاق الإسلام فعرض نفسه على القبائل وعلى أهل الطائف ليعيش معهم ويؤمنوا بالإسلام، ويحمونه بما يحمون به أنفسهم وأهليهم فلم يستجيبوا له, فلما استجاب له أهل المدينة وبايعوه عند العقبة هاجر وأصحابه إليهم، وأسس دولة الإسلام في المدينة، وبذلك بدأت حركة الدعوة ولها قوة وتأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 إن بناء قاعدة الانطلاق عملية أساسية لنجاح أي عمل يحتاج هذه القاعدة وإلا لصار الجهد هباء لا يفيد، ومن المعلوم أن الإنسان الذي يتمتع بالخلق الكريم قادر على تعليم غيره الخلق والسلوك أما غيره فلا يمكنه ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه. والشخص القوي يهابه الضعاف أما الضعيف فلا قيمة له بين الناس. والأمة القوية تقود غيرها إلى حيث تريد, هكذا في كل زمان، في عالم الإنسان كما هي في عالم الحيوان. وقد اهتم الإسلام في بناء قاعدته الصلبة في المدينة المنورة حيث أقامها على عدة أسس تضامنت وتكاملت حتى أنتجت قاعدة الدعوة، ومنطلقها المتين، وأهم ما فعله الإسلام في الناس إيجاد خير أمة للناس وفق مراحل ومواصفات معينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 أولا: إيجاد الأمة القوية متميزة بمجموعة من الخصائص ليحافظ على قواها، ويبعدها عن التشرذم والتفكك، والانهيار. إن تنظيم الأمة يحتاج إلى الاستفادة بكل الإمكانات المتاحة، ووضعها في صورتها الإيجابية المنتجة لتحمي الجهد، والوقت، والطاقات. إن مجموعة من الناس مهما بلغ عددها لا يمكنها أن تقوم بما تقوم به الجماعة، ولا تتمكن من أداء دور الأمة مع الإسلام أو مع أي هدف آخر. ودور الأمة مع الإسلام عظيم ومهم حدده الله تعالى بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1 وبقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.   1 سورة البقرة: 143. 2 سورة آل عمران: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بتنظيم الأمة فآخى بين رعاياها، وجعل الأخوة حقيقة مستمرة على الزمن كله لتكوين القاعدة الصلبة المطلوبة. إن أخوة المؤمنين لم تكن من أجل الاشتراك في نشاط ما وترك ما عداه، أو التوحيد في الولاء لفرد وفقط, وإنما كانت الأخوة في الله، وتحت وشيجة العقيدة, إنها ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد، ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية. إنما هي علاقة العقيدة الإيمانية التي تجمع بين الراعي والرعية في اتجاه واحد, وتأخذ روابطها من الإسلام وتجعل كل فرد مسئولا عن حقوق هذه الأخوة أمام الله تعالى، وأمام الناس أجمعين في إيثار خال من الأنانية، وفي خلق بعيد عن الفوضى والظلم. ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى هذا الجيل الأول الذي طبق الأخوة الإيمانية بكل تجرد وصدق بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. يروي الإمام أحمد عن أنس وصفًا لآثار هذه المؤاخاة على لسان المهاجرين أنفسهم حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير من هؤلاء، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال صلى الله عليه وسلم: "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" 2. وهكذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعضاء هذا التجمع الوليد.. أي أنه حول هؤلاء الأفراد المفككين إلى مجتمع متكافل، تكون رابطة العقيدة فيه مقدمة على رابطة الدم والنسب،   1 سورة الأنفال: 74-75. 2 مسند أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية القبلية، ويصبح الولاء فيه للإسلام وحده، وبهذا تتحقق سائر العلاقات وتنمو تحت مظلة رابطة العقيدة والإيمان. ولقد تحقق الغرض من هذا الإجراء الفذ، وبقي أثره محركًا في حياة الصحابة حتى الوفاة فهذا بلال رضي الله عنه كان يقول في عهد عمر عن أخوته مع أبي رويحة: لا أفارقه أبدًا للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها بينه وبيني. إن وجود الأمة الإسلامية القوية هي أكبر سند لحركة الدعوة؛ لأن المسلمين بعد تحقيقها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عالم الواقع لم يتعرضوا لعدوان، ولم يمنعهم الهمج والأراذل من الحركة والانطلاق. وليس من تنظيم الجماعة المؤمنة تشتت الأفراد في اتجاهات مادية متعددة متعارضة لأن هذا في الحقيقة تفريق للأمة، وتضييع لجهودها, وذلك التشتت يظهر كثيرًا حينما يعمل الأفراد لعدة غايات متعارضة. لقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرة سائر المؤمنين إلى المدينة لتحقيق هذه القاعدة الواحدة القوية، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1. والآية واضحة في وجوب الهجرة والتجمع في المدينة لأن المسلمين لو عاشوا أفرادًا حيث هم لتكالبت عليهم الأفاعي، وقضى عليهم الطغاة, ولذلك كانت هجرتهم إلى رسول الله لتكوين أمة مسلمة تعيش الإسلام، وتقدم نموذجًا عمليًا لتعاليمه أمام الناس. وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع.   1 سورة الأنفال: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 ثانيا: التزام الأمة بالإسلام ... وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع. ولا تهمه أمة تعلن الإسلام ولا تعمل به، وترفع الشعار ولا تشعر به، وتدعي الدين وهي تناقضه بسلوكها وعملها. وحتى تصير الأمة سندًا لحماية الحق، ونصر الدين كان لا بد لها أن تقيم بنيانها على تقوى من الله تعالى، ولعل ذلك هو ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبدأ نشاطه في المدينة ببناء مسجده الشريف ليكون مكانًا للتربية والتعليم, وجامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع شئون الدولة، ومركزًا لبعث الحملات والسرايا العسكرية، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيه عدد كبير من فقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم دار ولا مال ولا أهل ولا بنون. لقد تحولت المدينة إلى مستقر آمن للدعوة، ومنطلق رئيس للحركة بالإسلام ولهذا رأينا تماسك المهاجرين والأنصار وتآخيهم تحت لواء الله تعالى في صورة متكاملة متوازنة وكان هذا التكامل شاملا لكل جوانب حياة أهل المدينة ولن أتحدث عن كل صور هذا التكافل ولكني أشير إلى بعض تلك الصور فقط وأهمها: التكافل في بيت النبوة: فبيت النبوة هو مقر قيادة الأمة، فحينما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري وظل في منزله قرابة السبعة الأشهر، كان لا بد من توفير الطعام الذي يحتاجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ينزل عليه من الناس، ولهذا تسابق الأنصار إلى بيت أبي أيوب يأتون بالطعام, جعلوا لأنفسهم نظام التناوب، فكل مرة مجموعة منهم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون، وكان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيأكلون معه، فيحضر عشاءه الخمسة إلى الستة إلى العشرة. التكافل في استقبال الأنصار للمهاجرين: لقد كانت المؤاخاة هي أبرز ما في الصورة فعبد الرحمن بن عوف كان أخا لسعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 وتقدمت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل وطلبوا منه أن يجعل الأموال قطائع فيما بينهم, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا وجعل على المهاجرين أن يعملوا في أرض إخوانهم الأنصار وأن يكون لهم جزء من الثمرة. التكافل في تشريع الزكاة: فرغم أن التوجيه القرآني للمؤمنين لم ينقطع عن مخاطبة المؤمنين في العهد المكي للمسارعة إلى الصدقة بشكل عام، وذلك لتربية النفوس الدافعة، وسد عوز النفوس المحتاجة إلا أن مشروعية الزكاة بأنصبة محددة لم تشرع إلا في العهد المدني، وابتدأ فرض زكاة الفطر أولا، وصار هذا ملحقًا بمشروعية صيام شهر رمضان، فصارت زكاة الفطر تخرج عن الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، ثم جاءت بعد ذلك زكاة الأموال بأنصبتها المفروضة. التكافل في صلاة الجمعة: إن أول جمعة جمعت كانت بالمدينة المنورة، سواء أقامها المسلمون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره أو أقامها بعد قدومه المدينة مباشرة لأن المقصود بالجمعة إظهار شعار الإسلام، واجتماع المؤمنين كلهم، وموعظتهم، وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة أقامها في المدينة كانت في بني سالم بن عمرو بن عوف في طريقه من قباء إلى قلب المدينة وبما أن الجمعة هي لاجتماع المؤمنين وموعظتهم فإن هذا يفسر لنا سر تجمع المسلمين في المدينة يوم الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كانوا يتفرقون بقية الأسبوع فيصلي بعضهم في مسجد الرسول، والبعض الآخر يصلي في مساجد متفرقة بلغ عددها تسعة مساجد، فإذا ما جاء يوم الجمعة تجمعوا في مسجد واحد حول قائد الأمة ليتأكد من قوة المسلمين، ويشرف على حضورهم وتربيتهم وإعدادهم. التكافل في صوم شهر رمضان: حيث لم يتم هذا التشريع في العام الأول من الهجرة وإنما في العام الثاني، وفيه حصلت غزوة بدر الكبرى "يوم الفرقان". إن فرض الصيام شهرًا كاملا كل عام يعد عبادة شرعها الله عز وجل، وحدد الغاية منها في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 لأن المقصود من الصيام حبس النفس عن   1 سورة البقرة: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها, ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ومن ثم فإن التقوى هي ثمرة الصيام. ولا شك أن تأخر هذا الفرض إلى السنة الثانية للهجرة كان له سبب وغاية ترجع إلى استقرار الإسلام، وتوطين النفس لتحمل هذا النوع من العبادة، ومع هذا رغم أنه فرض من أول وهلة، إلا أن الفرد المسلم كان مخيرًا بين الصيام والإطعام، ثم حسم بعد ذلك وجعل الإطعام لمن لا يطيق. التكافل في مشروعية العيدين: العيد هو اليوم الذي يعتاد الناس فيه الاجتماع لتبادل الأشواق وإعلان الأفراح، وكان العرب يعتادون أيامًا عدة تقوم إما على الوثنية أو العصبية، فشرع الله للمسلمين عيدين يرتبطان بعبادة، فعيد الفطر الذي شرع بعد الانتهاء من غزوة بدر يبدأ بنهاية عبادة صيام شهر رمضان، وزكاة الفطر ويستهل يومه بصلاة العيد. وعيد الأضحى يبدأ بنهاية عبادة الحج، ويستهل يومه أيضًا بالصلاة والأضحية التي تحمل في طياتها صورة من صور التكافل الاجتماعي وقد شرع في العام الثاني للهجرة وفيه ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى الموسرون من المسلمين معه وهذا الموقف له دلالة عملية، ودلالة مرحلية واقعية، حيث تلاحظ التدرج الواقعي في المجتمع المسلم دون اعتساف أو تعجل، بل كل شيء في أوانه، وحينما تهيأ له الظروف والأجواء، وهنا نلاحظ أن المسلمين لم تعمهم الفرحة إلا بعد أن استقر أمرهم، وقامت دولتهم أما قبل ذلك فلا عيد ولا فرحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 ثالثا: صيانة ثوابت الأمة وعمل الإسلام ثالثًا على صيانة ثوابت الأمة لأن الأمة الإسلامية تعيش في إطار منهج تحددت معالمه، وفصلت حقائقه. وأعداء الإسلام يعملون لهدم ثوابت المنهج، والإساءة إليه، وتشويه صورته ليتمكنوا من هدم كل ما تمثله الأمة من قيم وحياة ولذلك وجب حماية الإسلام مما يوجه إليه وذلك بحماية أمته. إن منهج الله تعالى ينطلق من تعاليم الله، يقول الله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 1. ومن ثم وجب استمرار هذه الصبغة ليبقى المنهج على حقيقته التي جاء بها ووجب حينئذ منع أي دخيل يسيء للمنهج ولا يتوافق معه، وبذلك يعيش المجتمع بخصائصه الربانية. لقد شرع الله الأذان للصلاة أسلوبًا وحيدًا للمسلمين ووجههم إلى الكعبة ليستقلوا بقبلتهم. وميزهم بمعالم واضحة في حياتهم ومعايشهم, وبذلك برزت الأمة بخصائصها التي يحددها الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3. ويقول تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 4.   1 سورة البقرة: 138. 2 سورة آل عمران: 110. 3 سورة الفتح: 29. 4 سورة الفتح: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 ويقول تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. ويقول تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2. وتستمر آيات القرآن تترى في وصف الجماعة المؤمنة الأولى التي كونها القرآن الكريم وكونتها السنة معه حتى كانت، وبحق، خير أمة ظهرت على الأرض. وإن المرء ليتساءل عن سر تفوق هذا النموذج البشري وعن أسباب عجز المسلمين المعاصرين من أن يكونوا مثلهم مع استمرار القرآن وحفظه، وبقاء السنة وتدوينها. إن الأمة الإسلامية التي كونها رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة مثالية رائدة تعاملت مع الواقع وتكونت من الناس، وتعاملت مع فطرة البشر مما يجعلها نموذجًا قابلا للتكوين في كل عصر ومصر لو حاول الناس تتبع خطاها، وسلوك الطريق الذي مرت فيه. إن عوامل تأسيس الجماعة الأولى موجود حتى الآن، ولذلك نحتاج إلى معرفة الأسباب التي ساعدتهم على التكوين والتنشئة ولم تساعد سواهم أملا في الاحتذاء بهم والسير على طريقتهم. يبدو والله أعلم أن أسباب استفادتهم تعود إلى ما يلي: أ- إنهم حينما دخلوا في الإسلام تيقنوا الواقع وعلموا أن الإسلام بيعة منهم لربهم وهم طرف فيها، وعليهم بالإسلام أن يصدقوا الله فيما بايعوه به.   1 سورة الأنفال: 72. 2 سورة الأحزاب: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 ب- إنهم استقبلوا الوحي الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يليق به من تعظيم وتقديس فاهتموا به، ولم يوازنوا بينه وبين غيره ليتبينوا صدقه، وأحقيته، وإنما استقلوه موقنين بأنه الحق، وهو الخير وهو المصلحة ويكفي أنه من عند الله. ج- إنهم أيقنوا حين إيمانهم أن الوحي نزل للتطبيق والعمل به، ولم ينزل لمجرد المعرفة والثقافة ومن هنا اقتصروا على التدرج في حفظه فكانوا يفهمون ويحفظون عشر آيات ولم يغادروها إلا بعد العمل بها، وتطبيق ما جاء فيها ولذلك كان أبو بكر يقوم المسلم بمقدار حفظه للقرآن لأن هذا يدل على مدى عمله وسلوكه. د- إنهم بعد مجيء وحي الله التزموا به وتركوا ما عداه من ثقافات الأمم الأخرى ونظمها وأهملوا بصورة كلية كل ما كان في حياتهم الجاهلية، وهذا الموقف يصور النقلة العجيبة التي أحدثوها في واقعهم، ولقد كانوا يفعلون كل ما يأمرهم به الوحي مكتفين بالسؤال عنه: آلله أمر بهذا؟ فإذا علموا أنه من الله، فلا شيء معه وأهملوا حينئذ كل ما عداه. لقد خلت الحياة الإسلامية الأولى من أي دخيل يعارضه الإسلام، مع أن نظمًا وآدابًا فارسية ورومانية وغيرها كانت قبل الإسلام ملء الزمان طولا وعرضًا، وكان العالم كله معجبًا بهم، ومقدرًا لهم يقلدهم، ويتبعهم. نعم لم يلتفت المسلمون إلى ما يأتيهم من قبل الشرق أو الغرب، أو من هنا أو من هناك، لأن وحي الله يكفيهم وهم به أقوياء. هـ- إنهم شعروا بعزة الإسلام، وبقدرة الله، وتيقنوا أن الله اختارهم بالإيمان لإنقاذ البشرية من عبادة البشر، والخضوع لغير الله تعالى، وجاهدوا لإزالة الطواغيت من على ظهر الأرض تكريمًا للإنسانية كلها. وهذا التيقن يفسر لنا سر تضحياتهم بالنفس والنفيس حين ساحوا في الأرض مجاهدين في سبيل الله يبغون نشر دينه، وإحقاق الحق، وإقرار الأمن والسلام. تلك أهم الأسباب التي ساعدت الأمة الإسلامية على الاستفادة بوحي الله تعالى تركت بذلك درسًا في الناس لمن يشاء أن يستقيم، ويسعد في الدنيا وفي الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 إن البناء الدقيق لأمة الإسلام استغرق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتًا طويلا، وجهدًا شاقًا, ولكنه صلى الله عليه وسلم أتمه على أحسن حال, وقد تعرض صلى الله عليه وسلم خلال مرحلة البناء لمحاولة القتل، وحوصرت المدينة، وهاجمه سفهاء القبائل، واستعان صلى الله عليه وسلم بالصبر والتحمل والجهاد حتى أتم ما عمل له، ولم ينتقل إلى ربه سبحانه وتعالى إلا وقد تكونت الأمة الفتية، وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وتحققت حرية الدعاة، وأصبحت دعوة الإسلام محل تقدير واحترام، تسمع وتناقش، وتعيش واقع الحياة، وتتعامل مع الجميع في حسن وأمان. وحين نرى حال المسلمين اليوم، وننظر في أمر الدعوة نلمس ضرورة وجود الأمة المؤمنة لمساندة الدعاة وتدعيم حركتهم بالعمل والسلوك. إن الناس في العالم المعاصر ينظرون إلى المسلمين ويتأملون أحوالهم، ويتصورون أنهم صناعة الإسلام ونتائجه بمجرد تسميتهم بالمسلمين! وليس الأمر كذلك لأن المسلمين من فترة طويلة لا يعيشون الإسلام حقيقة، ولا يطبقون تعاليم الله على الوجه الصحيح. وحين نبحث عن أهم الركائز المستفادة في سيرة رسول الله في المدينة فإني أرى أن أهم الركائز هو وجود الأمة المسلمة التي تحرك الدعاة، وتوجه حركتهم إلى الناس. إن الأمم اليوم تتعامل فيما بينها بواسطة السفراء والمبعوثين الذين يمثلون الدول والحكومات ولذلك صار لهم دور، وعاشوا آمنين لأن من ورائهم دولهم. إن الدنيا تتحرك كلها إذا أسيء لفرد من دولة أوروبية أو غيرها لأن من ورائها دولته, ويا حبذا لو تمتع الدعاة برعاية دولهم، ويا حبذا لو كانت الدول إسلامية قلبًا وقالبًا على قلب رجل واحد لتكون الأمة المرجوة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر في صدق وشفافية. إن العالم المعاصر يقر للدول العظمى بحقها في توجيه الدول الصغيرة، وتغيير مساراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق رؤيتها. بدعوى تحقيق تقدم ضاري وإنساني لهذه الدول، برغم ما في كل هذا من رغبة الاستعلاء والسيطرة والاستغلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 إن هذا الواقع يعطي لصاحب الحق أن ينشر ما يتمتع به من الحق والخير للآخرين. وحين يكون القوي صاحب رسالة سامية يريد إفادة الناس بها متجردًا من أي غاية ذاتية، وبعيدًا عن أي مصلحة شخصية. حين يكون الأمر كذلك يرحب به الجميع. إن الأمة الإسلامية ضرورة لنجاح الدعوة، وقاعدة لا بد منها لمساندة الحركة بالإسلام، وإيصاله إلى كل إنسان في الوجود. وحين نؤمن بهذه الضرورة لا بد أن يتعاون الأفراد ويعمل الجميع لإيجاد هذه الأمة بالخصائص التي لا بد أن تنشط هذه الأمة في الأخذ بأسباب القوة المادية التي لا بد منها في عالم لا يعترف إلا بحقوق الأقوياء، ولا يهاب إلا القادرين. إن القيم النبيلة تتحول في لسان الضعفاء إلى مظاهرة صوتية تحتج وتصيح بلا مجيب وتستغيث بلا مغيث, وربما عدها الأقوياء جماعة من المجانين. وأول قوة الأمة يبدأ بتقوية الأفراد والجماعات الصغيرة، وهؤلاء مسئولون عن أنفسهم، فليقوي الفرد نفسه بالطاعة، والصدق، والعمل، والتجرد من الهوى, والتوجه في كل نشاطه لله، وعلى الأفراد أن لا يعبئوا بالمعوقات الطارئة، ولا ينتظروا أجرًا من مخلوق لأنهم يعملون لله، وينتظرون الأجر منه سبحانه وتعالى, وما عنده سبحانه لا يضيع أبدًا, وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 المبحث الثاني: الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأسس دولة الإسلام في المدينة، وأخذ في دعوة الناس إلى الله تعالى حسب مقتضيات كل مرحلة. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم واقع العالم كله، ويدرك اتجاهات الأفراد، وكان الله معه يعينه على الحق، ويعرفه به إن سها عنه، أو لم يدركه. لقد كان يعرف ما عليه الفرس والروم، ويعرف ما بينهما من حروب وأحقاد، ويعلم أن الروم أهل كتاب، وأن الفرس عبدة أوثان وأصنام، وكان الله معه يخبره بأهم ما عندهما يقول الله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1. ووقف صلى الله عليه وسلم على كافة أحوال اليهود والمنافقين وسائر القبائل وهو في مكة قبل الهجرة، وبعد استقراره في المدينة بعد الهجرة, وكان يتعامل مع كل بما يكافئه, ويدعوهم بالأسلوب الذي يناسبهم, فإن رأى منهم غدرًا حذرهم وتعامل معهم بنفس توجيههم. لقد كان صلى الله عليه وسلم يحدث أهل الكتاب عن رسلهم وكتبهم، ويحدث القرشي عن الخالق والمخلوق, ويحادث أهل الزرع والتجارة كل ما هو فيه، وبما يتلاءم مع حياته وفكره وتلك قضية مهمة لا بد منها لنجاح الدعوة إلى الله تعالى. لقد عاش المسلمون وسط الناس بعيونهم، وبمن آمن منهم، ولذلك كانوا على خبر دقيق بواقع الناس. إن معرفة الواقع المعاصر ضروري للدعوة ليتحرك الدعاة وفق خطة عملية متكاملة ناتجة من تخطيط سليم. إن التخطيط السليم بحث وعلم بالواقع، وتحديد للعمل والمنهج، ومتابعة   1 سورة الروم: 1-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 للأعمال والنتائج. وهذا ما لا بد منه للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث. لا يكفي تكليف الدعاة بالعمل في إقليم ما، وتركهم لشأنهم، مع أنهم لا يعرفون شيئًا عن طبيعة الإقليم، ولا عن سكانه، ولا عن الاتجاهات السائدة فيه. لا يكفي ذلك، بل لا بد من معرفة الدعاة للبيئة التي سيدعون فيها معرفة شاملة لكافة النواحي "أناسًا، وطبعًا، وخلقًا، وتدينًا، وثقافة، وتحضرًا ... إلخ". وهذه أمور تقوم على البحث المتعمق، والدراسة المسبقة. وبناء على البحث والدراسة توضع الخطة الملائمة لإبراز أولويات الدعوة والوسائل المستخدمة، والأسلوب المناسب, والكيفية المثلى لكافة الظروف التي تهم الدعوة والدعاة. إن التمهيد لعملية الدعوة بتوضيح الجوانب المشار إليها ضرورة في عصر يعتمد على التخطيط في سائر الأعمال، وهي ضرورة يؤكدها الإسلام ويؤيدها. فقط خطط النبي صلى الله عليه وسلم لغزواته جميعًا، ففي غزوة بدر عرض الأمر على الأنصار، وعلى المهاجرين وأخذ موقع الغزوة برأي أصحابه. وفي غزوة أحد أخذ الرأي، وشاور الصحابة، وحدد لكل مجموعة مكانها. وهكذا في كل خطواته صلى الله عليه وسلم. إن الرسائل النبوية أرسلت بعد معرفة من أرسلت إليهم، لتتناسب مع فكرهم، وواقعهم، فإن كانت الرسالة مرسلة إلى أحد من أهل الكتاب فإنها تشير إلى الإيمان بعيسى كجزء من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، نقرأ ذلك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، خلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده". ويقول صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم بمصر: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 فإن توليت فإنما عليك إثمك وإثم الإريسيين معك". والإريسيون هم المزارعون. فنجده صلى الله عليه سولم يحدثهم بحديث الخبير بهم، يحدثهم عن مريم، وعن عيسى عليه السلام كما يحدث المقوقس عن المزارعين بمصر. ونلحظ أن رسائله صلى الله عليه وسلم قد صيغت بلغة، ولهجة من أرسلت إليهم، فهذه رسالته إلى نهد قبيلة باليمن، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في محضها، ومخضها، ومذقها وابعث راعيها في الدثر، وافجر له الصمد، وبارك له في المال والولد"1. بل إن رسائله صلى الله عليه وسلم كانت تناسب طبائع الناس، ومنزلتهم، وتنوعهم. ألا يدل ذلك على أهمية فهم الواقع وضرورة العلم بالناس الذين توجه إليهم الدعوة؟ وقد دلت التجارب المعاصرة على أهمية التمهيد لحركة الدعوة بمعرفة الواقع على ما هو فيه بكل صدق وتجرد؛ لأن الدعاة إذا جهلوا الواقع حين يقومون بالدعوة يصطدمون بالمستمعين بادئ ذي بدء، ولهذا أثره السيئ، كما أن عدم معرفة الواقع يؤدي إلى عدم الاستعداد له، الأمر الذي يضع الدعاة في غربة فكرية ونفسية مع من يتوجهون إليهم، ولا يمكن القول بأن دراسة الواقع، ومعرفة متطلبات الدعوة مسئولية من يكلفون بالدعوة، ويباشرونها لأن ذلك فوق مقدورهم، وأكبر من طاقتهم. لو كان مجال الدعوة إقليمًا واحدًا لأوجبنا على الدعاة "أفرادًا" أن يبدءوا عملهم بالبحث والدراسة، ولا يباشرون الدعوة إلا بعد فهم الواقع، والإحاطة الكاملة بأحوال المدعوين. لو كان المجال إقليمًا واحدًا لقلنا ذلك، لكنه العالم كله وحينئذ لا يستطيع التعريف به إلا هيئات ضخمة، قادرة على توظيف العلماء، وتوجيه الطاقات، والقيام بالدراسات والبحوث النظرية والميدانية وبذل ما تحتاجه من تضحيات، ومن الممكن الاستفادة بالأبحاث العملية العديدة التي تقدم من طلاب الدراسات العليا في كليات الدعوة والدراسات الإسلامية العديدة وبخاصة تلك الأبحاث القائمة على الدراسة الميدانية، ويمكن تأسيس المعاهد البحثية لتحقيق هذه الغاية.   1 انظر كتب النبي صلى الله عليه وسلم ص518-525 من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 لقد بذلت محاولات في العالم الإسلامي في هذا الطريق لكنها لم تكمل. لقد حاولت جامعة الأزهر في أوائل الستينات من القرن العشرين تأسيس معهد بحثي عرف بـ"معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية" تكون الدراسة فيه بلغات القارتين، ويقبل طلبته من خريج الكليات الإسلامية من جامعة الأزهر للتخصص في دراسة السكان، وبخاصة في النواحي التي تحتاجها الدعوة، على أن تكون الدراسة في السنة الأولى عامة، وفي السنة الثانية ينقسم الطلبة إلى مجموعات كل مجموعة تختص بدراسة إقليم ما للإحاطة بواقعه، واكتشاف أنحج الطرق للتوجيه إليه، والتلاؤم معه على أن تكون الدراسة، في الفصل الثاني من السنة الثانية ميدانية في الإقليم الذي يتخصص له الطالب، وبعد الانتهاء من دراسة السنة الثانية يقوم الطالب بإعداد بحث للماجستير في دعوة الإقليم التي عاش معه مدة الدراسة على أن يعمل للدعوة في الإقليم الذي أتقن لغته ودرس أحواله، وعايشه خلال المرحلة الميدانية. ويجوز إتمام البحث العلمي خلال العمل بالإقليم ليستمر إشراف الأزهر على الطالب وعمله. وكان المقترح أن يحصل الطالب خلال دراسته على درجة معيد بالجامعة، إلا أن الاقتراح بعد أن اجتاز خطوات عديدة توقف. كما قررت رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة تأسيس "المعهد العالي للدعوة الإسلامية" ليقبل طلابًا من العالم الإسلامي للحصول على درجة الماجستير في الدعوة وتخريجهم دعاة إلى الإسلام ليقوموا بالدعوة في بلدهم تحت إشراف الرابطة. وفكرة المعهد حسنة إلا أن التطبيق العملي للفكرة شابه قصور في المنهج، وفي قلة عدد الطلاب، وعدم إخلاصهم للهدف الذي قبلوا بسببه في المعهد، وعدم خبرة القائمين على التدريس، وأخيرًا تقلص المعهد ولم تبق منه إلا صورته فقط. إن هذه المحاولات لو قامت بها هيئات كبرى تدعمه، وعلى خطوات مدروسة معد لها فقد يكتب لها النجاح. وحتى يتم ذلك نقول للدعاة: ابدءوا عملكم بدراسة الواقع الاجتماعي للبيئة التي تقومون بدعوة أهلها، واستفيدوا بالنظريات العلمية في مجال الخدمة الاجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 والدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية. إن الجميع يعلم أن الدعوة إلى الله تعالى يجب أن تكون بالحكمة الدقيقة، والإحسان الخلقي في الموعظة والجدل. وبمعرفة الواقع بكل جوانبه يتمكن الدعاة من استعمال الحكمة لمن تناسبه، ويأتون بالموعظة عند أهلها، ويكون الجدل لمن لا يفيده إلا الحوار، والنقاش، ويتوجهون بالدعوة في وقت مناسب وظروف مفيدة ولغة يفهمها من توجه لهم الدعوة. وبذلك تتلاءم دعوتهم مع المدعوين. إن علم الداعية بالواقع الاجتماعي يمكنه من مخاطبة محدثه بقول لائق مقبول، حدث أن المقوقس حين استلم الرسالة من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال له: ما يمنع محمدًا إن كان نبيًا أن يدعو على من خالفه، وأخرجه من بلده؟ فرد عليه حاطب على الفور: وما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم ليهلكهم؟ فقال المقوقس: أحسنت، حكيم جاء من عند حكيم. فنجد حاطبًا يقنع المقوقس لأنه ارتبط في حديثه بالواقع الذي يعرفه، والحقيقة التي يعيشها المقوقس، واللغة التي يفهمها. إن العالم اليوم مليء بالدعوات العقائدية المختلفة، والكل يحاول معارضة الإسلام ببث الشبه، ونشر الدعايات المضللة الظالمة. وأغلب الشبه دونها المستشرقون، وكتبها المبشرون، وتحدث عنها العلمانيون ويثيرها اليوم المتنورون والإحاطة بها أمر ميسور. ومن الممكن تناول هذه الشبه بالتحليل والرد عليها بطريقة علمية هادئة لتفنيدها وإثبات الحق في كل مسألة منها بمختلف وسائل الدعوة والتوجيه مثل المؤلفات العلمية والمحاضرات والنشرات، والدروس، والخطب، والحوار, وهكذا. ويمكن الاستفادة بمؤلفات العلماء وأبحاث الدارسين الإسلاميين، وتوجيههم نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 هذا المجال الهام. إن المستشرقين بذلوا جهودًا ضخمة وأخرجوا مؤلفات عديدة بمساندة المراكز العلمية التالية: 1- كراسي اللغات الشرقية التي أنشئت في سائر الجامعات الأوربية وتضم أعدادًا غفيرة من الأساتذة، والمحاضرين، والمعيدين ولهم رصيد ضخم من الدراسات المختلفة. 2- المكتبات الشرقية وهي تضم المؤلفات والمخطوطات باللغات المختلفة، وقد تنوعت هذه المكتبات، فمنها ما هو تابع للحكومات، ومنها ما هو تابع للجامعات ومنها ما هو تابع للعلماء، ولجميع هذه المكتبات فهارس شاملة وإصدارات هذه المكتبات مستمرة وغزيرة. 3- الجمعيات الآسيوية والشرقية وهي نواد للعلماء المهتمين بالعلوم الشرقية، وتصدر المجالات الدورية وتنشر مؤلفات الأعضاء ولهذه النوادي مسميات عديدة، وهي تنتشر بين الأغنياء والخاصة من الناس في كل بلاد العالم الإسلامي. وللمبشرين أيضًا مؤسساتهم الضخمة فالكنيسة لها دعاتها، وبابا الفاتكيان رئيس دولة مستقلة تشرف على الكنائس وتوجه المبشرين. إن الكنائس المسيحية بمختلف مذاهبها تقوم بالتبشير بالنصرانية، وتحاول دائمًا الاستفادة بالسلبيات التي تجدها بين الناس كالفقر، والجهل، والمرض، والتخلف، ولها نشاطها في مجال الإعلام والاتصال والتعليم، والطب وغيرها. وللكنائس نظامها في اختيار كوادرها، وتدريبهم، والإشراف عليهم بصورة مستمرة. وقد قامت الدول المسيحية بتوجيه من رجال الكنيسة بتأسيس مدارس في البلاد الإسلامية وغيرها لنشر ثقافة وفكر دول التأسيس، وفيها ما فيها من بعد عن الإسلام وثقافته. هذه المؤسسات الضخمة للمستشرقين والمبشرين وتلك التي تقوم بها الكنيسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 تحتاج إلى جهد يكافئها، ليقف الدعاة المسلمون أقوياء بدينهم الحق، وبالتدعيم الذي يساندهم. لقد تكلم المستشرقون في كل جزئية إسلامية، والواجب أن تكون الردود شاملة وقوية، وبخاصة أن وسائل الاتصال لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبثتها في العالم كله. وللمسلمين من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وتوجيه؛ لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك سؤالا لمعترض إلا وأجابه، ولم يشاهد أمرًا إلا وشرح حقيقته لأصحابه، ولم ينزل عليه وحي إلا وبلغه للناس على وجه مفهوم، وإقناع تام, ولم يترك مسألة على خفائها، ولم يدع مدخلا للشيطان إلا وسده، ونصح أمته بما يجب عليهم. لقد بث النبي صلى الله عليه وسلم عيونه في كل مكان، ولذلك كان يفاجئ أعداءه إذا عملوا على العدوان على المسلمين، وكان يرسل الدعاة الفاهمين إلى أي مكان يحتاج إليه. وهذا الشأن يدعو الأمة إلى ضرورة العلم والعمل، وأهمية التخطيط والتحرك مستفيدين بمستجدات العصر، ومخترعات العقول، في إطار المشروعية الدينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 المبحث الثالث: أهمية التطابق بين المسلم والإسلام مدخل ... المبحث الثالث: أهمية التطابق بين المسلم والإسلام من القضايا ذات التأثير الكبير في حركة الدعوة إلى الله تعالى وجود الإسلام في حياة الناس أفرادًا وجماعات لأن الإنسان يرى أول ما يرى في الغير عمله، ويسارع في تصوره والحكم عليه بعد ذلك, ويربط دائمًا بين العمل وبين شخصية القائم به. إن الإنسان دائمًا تحركه نفسه، وتوجهه قناعته، وتتحكم فيه عقيدته وديانته. ومن هنا كانت دلالة العمل على المنطق الفكري لصاحبه. إن الجاد في الكسب والربح هو التاجر الذي يقوم بالبيع والشراء. والمثقف الحر يعشق حرية الناس، ويعمل على نشرها وتحقيقها لغيره. وحين نرى إنسانًا يصلي في المسجد فهو مسلم. والمتخصص في الحرب والدفاع جندي يعيش بين المدفع والصاروخ. إن دلالة العمل على فكر صاحبه، وثقافته حقيقة ثابتة وفي الإطار الإسلامي يجب أن يتاطبق عمل المسلم مع توجيهات دينه، وتعاليم ربه ليكون مسلمًا. إن الإسلام جاء للتطبيق والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. ويقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2. ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 3 ولقد برزت الأمة الإسلامية في عصرها الأول بصورتها الواجبة حيث كان الجميع صورة صادقة للإسلام، لدرجة أن من تأمل عملهم ومعاشهم وجد دينهم، ورأى أثره على الناس أمنًا، ونشاطًا، وتعاونًا، وإخلاصًا، ومن علم دينهم وقف على حياتهم ومعاشهم   1 سورة النساء: 64. 2 سورة النور: 52. 3 سورة النور: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 عاش المسلمون الأُول الإسلام بكافة جوانبه، وبذلك تأسلم المجتمع كله، وصار الإسلام مجسدًا في الحياة. عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس يربيهم بالإسلام، ويطمئن على خلوصهم لله، وصدقهم في الطاعة، فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر البشر، ولذلك كانت ضرورة الاستمرار في التربية ليسكن الإيمان قلوبهم، ويكونوا عونًا لرسول الله في الالتزام والتطبيق، لقد استمر رسول الله يربيهم بالوحي حتى وصلوا إلى الذروة، وأصبحوا مثلا عاليًا للصناعة الربانية. لقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على أسس راسخة، ومن أهم جوانب التنشئة الإسلامية للأمة ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 1- نشر العدل : العدل فضيلة تضمن لصاحب الحق حقه بعيدًا عن الظلم والعدوان، وينظر الإسلام إلى العدل نظرة شاملة تعم التشريع كله وبذلك تتضمن كافة العلاقات، والمعاملات الإنسانية سواء أكانت بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو كانت بين المسلمين وغيرهم يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ   1 سورة النساء: 58. 2 سورة المائدة: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. وكما يأمر الإسلام بالعدل نراه ينهى عن الظلم تأكيدًا للعدل، وقد كتب الله على الظالمين لعنته وسخطه بقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2. وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 3. وقوله عز وجل: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 4. ولقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعدل والاستقامة فقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 5. وقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم العدل وأمر به ومارسه في حياته كلها، ولعل قمة العدل أن يعفو صلى الله عليه وسلم عمن أساء إليه. ترى هذا في العفو العام الذي أطلقه صلى الله عليه وسلم لكل من تصدى له بالعداء من قريش فأعلنها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهكذا بلا كلمة عتاب, ولا موقف عقاب، فهو فضل منه صلى الله عليه وسلم. ونرى هذا في إعلان براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما فعله خالد بن الوليد يوم أن قتل أسرى بني جذيمة لاجتهاد اجتهده. ونرى هذا في إعلانه يوم حنين، رغم ما فعله المشركون بالمسلمين، فلقد أمر المسلمين ألا يقتلوا امرأة ولا وليدًا. ونرى هذا في عدم دعائه على ثقيف رغم محاصرتهم في الطائف فترة طويلة فلم يزد على أن يقول: "اللهم اهد ثقيفًا". ونرى أثر العدل في إطفاء نار العصبية متمثلا في أكثر من موضع.   1 سورة النحل: 90. 2 سورة هود: 18. 3 سورة غافر: 52. 4 سورة الأعراف: 44. 5 سورة هود: 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 رأيناه بعد الفتح حينما استغلت خزاعة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت رجلا من هذيل لثأر بينهم في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم وهو في حالة من الغضب الشديد لهذا الفعل: "وإن أعتى الناس على الله عز وجل ثلاثة: رجل قتل في مكة، ورجل قتل غير قاتله، ورجل طالب بثأر في الجاهلية، وإني والله لأدي هذا الرجل الذي قتلتم". فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيناه في حجة الوداع وهو صلى الله عليه وسلم يضع تحت قدمه كل عصبيات الجاهلية وأولها عصبية بني هاشم. ونرى العدل في إقامة شرع الله على القريب والبعيد على حد سواء، فقد سرقت امرأة من بني مخزوم وتحركت قريش لستر هذه المرأة ومنع إقامة الحد عليها مخافة العار فكلموا أسامة بن زيد بن حارثة لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله". ثم قام وخطب فقال: "أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وبما أن العدل من مبادئ الإسلام العظمى ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول العاملين بها، كان الله تعالى يصوبه إذا أخطأ في حكم أخذ فيه بظاهر دعوة الناس، ونضرب مثلا على هذا وهو تبرئة اليهودي الذي اتهم بالسرقة بدون وجه حق, وبما أن رسول الله لا يعلم الغيب فقد وافق المدعين على قولهم، فأنزل الله من عنده التقويم والحكم العدل فقال سبحانه وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} 1.   1 سورة النساء: 105-107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 2- تحقيق القيم النبيلة : إن غرس القيم من أساسيات التكوين والتنشئة لأنها مرتبطة بالنفس الإنسانية مع ما فيها من تنوع ونزوع إلى الشهوة والهوى. وكان القرآن الكريم يربي المجتمع المسلم ويحاول وضعه في إطاره الإيماني الصحيح. إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبليغها هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه، وقمة المفاضلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة وهي قمة النبل، والخلق، والحياة. وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرس القيم عند أصحابه قبل الحاجة إليها لأن وجود الدواء حين وجود الداء أنجع فقد خاف المسلمون من الفقر نتيجة فتح مكة ونتيجة منع المشركين من المجيء إلى مكة بعد البراءة منهم، وأن المواسم التجارية ستقطع فنبههم القرآن الكريم ورباهم على أن الرزق بيد الله الخالق لا بيد خلقه يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1 وقد ساعدهم يقينهم بقدرة الله وعلمه وحكمته على طرد ما اعتراهم من خوف قبل نزول الآية. ولما أعجب المسلمون بكثرتهم في غزوة حنين حينما صاروا أثني عشر ألف رجل، وقالوا معجبين بكثرتهم: لن نغلب اليوم من قلة، وذلك نسيان لقيمة الإيمان والإخلاص لله فكان أن انهزموا يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فعادوا إلى إيمانهم، وتابوا عن تصوراتهم فنصرهم الله تعالى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتخلى عن الله ناصره وكافله، فهو يعلم المسلمين أنه عبد   1 سورة التوبة: 28. 2 سورة التوبة: 28-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 من عبيد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يستمد قوته إلا من الله، ومع هذا يثبت ولا يفر، ويصمد ولا يتخاذل، فكان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلا: "اللهم بك أحاول وبك أصاول، وبك أقاتل". وهكذا يكون الموقف سببًا لتقويم الانحراف الذي يظهر في وسط المجتمع. ولما أحب المسلمون القعود عن الخروج إلى تبوك، أحبوا القعود في وقت يطلب فيه السكون والدعة، فالثمار قد حان قطافها، والأشجار الوارفة تمد المستظلين بها بنسماتها الساحرة كل هذا كان يدعو للقعود، ولا يدعو إلى الأسفار المرهقة، وقطع الصحاري والفيافي الحارقة المهلكة، ومع هذا يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين الخروج رغم كل ذلك، فيجتمع له في حدود ثلاثين ألف مقاتل، ليكون أكبر جيش يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما نشاهد الذين تخلفوا عن هذا الجيش لأنهم إما جماعة حبسهم العذر فلم يجدوا ما يحملهم، وإما منافق قد كشف عن نفاقه أو قدم عذره فقبل، أو مسلم صادق لم يقدم عذرًا فتوجهوا إلى الله تائبين فتاب عليهم ونزل قول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1.   1 سورة التوبة: 117-118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 3- تعود الصبر والتحمل : من أهم خصائص المسلم الصبر الذي هو زاد الطريق في الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالصد والرد، وبالإيذاء والابتلاء. والصبر أنواع كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها. والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم وأثرتهم وغرورهم. والصبر على جرأة الباطل، ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء. والصبر على قلة الناصر وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعة الكرب والضيق. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة هو أول من يمثل هذا الصبر بمعانيه هذه كلها، وكل خطوة من خطواته تمثل هذا الصبر تمثيلا صادقًا. لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر كله في هذه المرحلة التي كون فيها الأمة فهناك صبر على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال، وحرصهم على المكاسب، فكان يعاملهم على قدر عقولهم فكان بهم رحيمًا، ولهم مربيًا ومصلحًا وقد عنفهم الله سبحانه على جفائهم في قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1. ومع هذا حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع بهم ويخرجهم من طباعهم هذه إلا أنهم ما استفادوا كثيرًا من هذه المواقف. وهناك الصبر على إيذاء النفوس الملتوية حيث قال أحد المنافقين عند تقسيم غنائم يوم حنين: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فلم يزد صلى الله عليه وسلم أن تغير وجهه وقال: "فمن يعدل إن لم يعدل رسول الله يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". وهناك الصبر في ميدان المعركة أمام استعلاء الباطل، فقد تراجع المسلمون في أحد وحنين، ولم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بموقفه هذا استطاع أن يجمع المسلمين مرة أخرى ويحقق لهم النصر. وهناك صبر مع المسلمين الذين تراجعوا في المعركة فلم يعنف، ولم يعاقب أحدا ممن فر عنه حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الفارين لم يستجب لهذا المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم كان يربي أمة، وينشئ جماعة ولذلك اكتفى بما يبني، وبما يفيد, وليس هو العقوبة في هذا التوقيت من الزمان.   1 سورة التوبة: 97-98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 4- تحقيق التكافل بين الناس : وعلى الرغم من أن الإنفاق والعطاء معلم بارز في الشخصية المسلمة؛ لأنه يتكرر كثيرًا في القرآن الكريم كله وهو يدعو إلى الإنفاق، ويجعله جزءًا من المتطلبات التي لا تنفك عن المسلم، ويجعل الزكاة -وهي العطاء الواجب- ركنًا من أركان الإسلام، فلا إسلام إلا به. على الرغم من هذا كله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرن الأمة المسلمة باختبارات عديدة لتعميق هذه القيمة العالية، قيمة الإنفاق والعطاء دون مقابل عاجل حيث جعلها إقراضًا لله يوفيه لصاحبه يوم القيامة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ في أكثر أوقاته من البخل، ويطلب من المسلمين أن يجعلوا هذا التعوذ في وردهم الصباحي والمسائي. وكان حينما تأتيه أموال الغنائم ينفق يمينًا وشمالا، إنفاق من لا يخشى الفقر، ويرى المسلمون منه هذا السلوك. وكان يعطى للناس، يتألف به قلوبهم، فيجذبهم إلى الإسلام من خلال عطائه، حتى أن أحدهم يكون مبغضًا للإسلام ولرسول الله قبل العطاء، فما أن يجد السخاء يجري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تنتفخ كوة من قلبه على الإيمان، فيقبل إقبالا صادقًا ويحسن إسلامه. ومع هذا فهو صلى الله عليه وسلم يترك أقوامًا ولا يعطيهم، يكلهم إلى إيمانهم وتقواهم؛ لأنه يريد أن يربي هذه النفوس على الارتفاع عن هذه المظاهر المادية الزائلة فقال صلى الله عليه وسلم: "فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير". وبعد حنين، وبعد أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين المسلمين، جاءته هوازن مسلمة، فأراد أن يرجع إليهم ما أخذ منهم من الغنائم التي قد وزعها بين المسلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 وفي الوقت ذاته أراد أن يغرس في نفوس المسلمين التخلي عن منحهم الدنيوية بطواعية ليربي فيهم حب العطاء والسخاء، فبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله، فقال وهو يخطب في الناس: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فتسارع القوم من المهاجرين والأنصار يتنازلون عن رغبة صادقة بما هو لهم ... إلخ. فكان عمله صلى الله عليه وسلم هذا مثالا للتربية العملية التي جعلت الناس يتسابقون إلى العطاء دون تعلق بعرض من الدنيا زائل، ومن لم يستجب من الأعراب استوهبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عوض سيعوضهم به. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع مآرب النفس الإنسانية ويقودها إلى الخير، فلما بلغه رغبة بعض الأنصار أن يكون لهم مثل ما أخذه المؤلفة قلوبهم من العطاء بعد الغنائم، لم يستجب لهذه الرغبة وإنما عمل على تطهير نفوس الأنصار من هذه العلائق، فجمعهم وخطب فيهم، وبعد أن استثار فيهم كوامن نفوسهم قال لهم: "إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم، لو سلكت الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". ولقد وجدنا أثر هذه التربية في وسط المسلمين في مواقف عديدة، ويكفي هنا أن نشير إلى ما حصل قبل غزوة تبوك لأنه يمثل ظاهرة حسنة هي ظاهرة الإنفاق والعطاء التي لم تكن مفروضة على الناس من قبل وإنما كان حثًّا للجميع أن يقدموا بين يدي رسول الله ما تجود به أنفسهم لتجهيز الجيش الخارج لملاقاة الروم في تبوك وقد اكتملت جوانب الظاهرة هذه بأن الذين تقدموا للإنفاق ليسوا الأغنياء فقط الذين دفعوا ما جهز به الجيش، وإنما أقبل الفقراء والنساء فدفعوا ما يمتلكون حتى أن الواحد منهم كان يأتي بنصف صاع من طعام، فهذا ما يمتلكه فيدفعه إلى جسم هذا العطاء الضخم، ومن ليس لديه أي شيء ينفقه يقوم من الليل باكيًا ثم يقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي بهذه الصدقة، فأعلم صاحبها بأنها قد قبلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 في الزكاة المتقبلة. وهكذا تجهز جيش بأكمله بالجهود الفردية التي تحولت إلى بحر زاخر من العطاء إن هذا الجهد المبذول أخرج خير أمة في عالم الناس ولذلك انتصر الإسلام بهم، ووصلت الدعوة معهم إلى كل مكان وصلوا إليه. إن التطابق بين الإسلام والمسلمين في العصر الأول جعل المسلمين جميعًا دعاة، الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام في العالم كله برؤية الصورة الإسلامية خلال حركة الفتوح؛ لأن الإسلام كان ظاهرًا مع الجنود، والتجار، والقراء، بكل ما فيه من سمو وخلق. إن التطابق بين الإسلام وعمل المسلمين يساعد على تنشئة الأجيال المسلمة؛ لأن الطفل المسلم يرى الإسلام من أبويه كما يراه في الطريق وفي المدرسة ومع الزملاء ومع كل من يختلط بهم، وبهذا يفهم المسلم الإسلام ويطبقه ويؤدي هذا التطابق إلى وحدة الأمة لأن كل فرد فيها يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ويؤدي هذا التطابق إلى جمال الإسلام في كل تعاليمه لأن الالتزام العام بالإسلام يصبغ المجتمع به، الأمر الذي يجعل الناس متآلفين معه راضين به، سعداء بتطبيقه. ويؤدي هذا التطابق إلى إعلام الآخرين بحقيقة الإسلام من خلال التطبيق, وحين ينطلق الدعاة إلى هؤلاء الآخرين يجدون الأرض ممهدة للدعوة، والقلوب مستعدة للاستجابة والإيمان. إن التناقض بين الاعتقاد والسلوك لا يقره الإسلام ولا يرضى به المسلم، ولذلك يعاتب الله المؤمنين إذا حدث هذا الانفصام في حياتهم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} 1 إن هذا الانفصام سبب يؤدي إلى الضياع والهلاك وقد حدث ذلك في الأمم السابقة يقول الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ   1 سورة الصف: 2-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1. وحين ننظر إلى العالم الإسلامي اليوم من زاوية التطابق بين الإسلام وعمل الناس ندرك أسباب تخلف الأمة وأسباب انصراف الناس عن الإسلام، ونعرف سبب العجز عن توجيه الدعوة إلى الآخرين بصورة حسنة مقبولة. إن التنافر الحاصل بين تعاليم الإسلام وبين سلوك الناس يسيء إلى الناس أولا لأنهم يتحركون بلا هوية، ويعيشون بلا فكر، ولا أصول, ولذلك تراهم يشكلون حياتهم من عادات الآخرين وسلوكهم، بعيدًا عن دينهم، مكتفين بالمظهر الفارغ فلا هم جزء من الآخرين، ولا هم جزء مفيد في جماعة المسلمين. ويسيء ثانيًا إلى الدعوة لأن الآخرين سيقولون: لو كان الإسلام خيرًا لفعله أصحابه، ولو كان صوابًا لتمسك به بنوه, بل رأيناهم يتهمون الإسلام ويقولون: إن تخلف المسلمين نتيجة مباشرة لتعاليم دينهم, وهي تهمة باطلة لغياب تطبيق الإسلام عن حياة المسلمين. إن التناقض بين الإسلام وعمل المسلمين يؤدي بالمسلمين إلى التخلف لأنهم بإعلان أنهم مسلمون ولا إسلام فيهم خاصموا غير المسلمين باتخاذهم نهجًا وطريقًا خاصًا بهم، وبتركهم الإسلام صاروا زبدًا أجوف لا يسمن ولا يغني من جوع وبخاصة في عالم تعددت فيه الثقافات والحضارات. إن العالم اللمعاصر يتميز بتعدد التكتلات، وتنوع التوجيهات وكل منها يتفاعل مع غيره، فلديه ما يعطيه، وعنده قابلية الاستفادة من غيره في إطار ثقافته وتوجهه. وهذا التفاعل ضرورة لمسيرة الحياة, ولا بد لها من فكر نبيل تسنده قوة عادلة ولا بد له من واقع يعطي ويأخذ، ويفيد ويستفيد. والمرء يتساءل بكل تجرد ماذا عند المسلمين اليوم ليجذب الآخرين إليهم؟ لقد فرط المسلمون في كنوزهم، وأهملوا روح السبق والتنافس، وظهروا بأفكار ليست هي واقعهم وحياتهم, وبذلك أساءوا إلى نبل الأفكار, ووضعهم الناس   1 سورة المائدة: 78-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 في مؤخرة الصفوف، وتصوروهم جزءًا من عالم الظلام. لقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم أمة، وأنشأ قوة، وأوجد للمسلمين حياة بعد هوان، وأعماله وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم دروس واضحة في هذا الطريق لمن يريد. لو أردنا للدعوة أن تنجح، وأردنا لأنفسنا أن نتقدم فالطريق واضح، وهو ضرورة التزام المسلم بإسلامه بصورة مطلقة، وعودة الأمة إلى الله عودة جميلة حميدة وحينئذ سوف يفرح المؤمنون بنصر الله، والله على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 المبحث الرابع: ضرورة الفصل التام بين الإسلام وغيره نشأت الأمة الإسلامية وسط عالم مليء بالمذاهب والعقائد، والاتجاهات المختلفة وكان تميزها عن كل ما عداها أمرًا ظاهرًا بارزًا. وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على استقلالية الأمة بوحي الله تعالى، ولم يدخل في نظام الأمة شيئًا من عند غيرها، وفصل كل ما هو إسلامي عن غيره. والحكمة في هذا أن الأخذ من الغير لا يصح إلا حين الحاجة إليه، وحين يكون متلائمًا مع ثوابت الأمة وقيمها, فلقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفرس فكرة حفر الخندق وأخذ من سياسات الفرس والروم فبعث الرسل، واستقبل الوفود، وأرسل الكتب أما في الجوانب التي تسيء لدين الله تعالى فهو صلى الله عليه وسلم منها بريء. لقد حاولها أهل مكة ورفضها صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 1. فلو داهنهم صلى الله عليه وسلم بأن عبد إلههم يومًا، وعبدوا معه إلهه يومًا لضل وغوى، وبعد عن دين الله بالكلية، ولكنه صلى الله عليه وسلم أبى ذلك ورفضه بأمر من الله تعالى. إن الكفر صور شتى، وحيل الكافرين عديدة وهم يعملون على القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد يئسوا من كفر المسلمين صراحة، ولذلك خططوا لإبعاد المسلمين عن دينهم جزءًا جزءًا لإفراغ الإسلام من محتواه، وبذلك يتحول دين الله إلى جسد ميت لا روح فيه ولا حراك. إن الإسلام عقيدة وشريعة وخلق، يكمل بعضها بعضًا، وتتعاون جميعًا في تقديم الحقيقة الثابتة للإسلام؛ لأن التفريط في جزء منها يعد تفريطًا في الإسلام كله. إن العقيدة تعني امتلاء الباطن بحب الله، والخشوع له، والتوجه الكلي نحو الخالق في كل همسة ولمسة، وفي كل فكرة وخاطرة، ومع كل اتجاه وسلوك، وبذلك يعيش المسلم مؤمنًا بقدر الله مستسلمًا لأوامره، متوكلا عليه، راضيًا بما يراه الله له لأنه يوقن بأن ما قدره الله سوف يكون.   1 سورة القلم: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 والشريعة تعني الامتثال المطلق لتعاليم الله تعالى، المنظمة لكل حركة في الوجود وقصر نية التوجه في الفكر والقول والعمل لله تعالى. والخلق هو مجموعة القيم التي تزين الإنسان ظاهرا وباطًنا، وتملأ الوجود بالخير والجمال. إن الإسلام بهذا المعنى كاف للناس ظاهرًا وباطنًا، وفكرًا وعملا، نشاطًا وخلقًا. إن الإقرار بالتوحيد لا بد معه من الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون وهو المتصرف فيه، وهو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية، ويتقربون إليه سبحانه بنشاط الحياة كله. إن الله هو الذي أنزل لعباده الشرائع، وهم يخضعون لحكمه في شأن حياتهم كلها. وأيما فرد شهد أن لا إله إلا الله وفرط في لوازمها وتبعاتها ففي شهادته خلل كائنًا ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين، وهم من سلالات المسلمين، وديارهم يسكنها المسلمون ولكنهم لا يدينون لله على الوجه الصحيح ويعيشون الإسلام ثقافة ومظهرًا، ويتركونه حقيقة وعملا، وهذا أشق ما تواجهه حركة الدعوة مع هؤلاء الناس، لأنهم يعدون معها وهم في الحقيقة عبء عليها. أشق ما تعانيه الدعوة هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ولوازم الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر. أشق ما تعانيه هذه الدعوة هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق العصاة المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تحدد فيه مفارق الطريق. ويعرف أعداء الدعوة هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة، ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله. يجب أن يهتم الدعاة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، ما داموا مع الحق بأدلته وبراهينه، ومع الصدق بوضوحه وأعماله، ومع الله بقرآنه وسنته. ولهذا ... يبقى الإسلام نظامًا فريدًا في إصلاح الحياة والأحياء، وأي تغيير فيه يفسده بمقدار ما داخله من تغيير. إن أي تغيير يجربه الإنسان في أمر ما يكون مفيدًا حين يكون في أمر ثبت فساده أو ظهر قصوره، أو بان تخلفه, والإسلام بعيد عن كل ذلك ولهذا كان أي تغيير فيه عبث لا يجوز. وأعداء الإسلام من الجن والإنس ينشطون لإيجاد التغيير الضار الذي يفسد الإنسان ويبعده عن دين الله بحيل شتى، وطرق عديدة. يعمل أعداء الإسلام على إشغال باطن الإنسان وفكره بأمور تافهة لا تفيد شيئًا كالحرص المادي، وتزيين الشهوات، والاهتمام بما لا فائدة فيه من فوازير ومسابقات وأعياد، ولقاءات. ويزينون أمام المسلمين ما يلهيهم عن طاعة الله كزخرفة الشهوات، وتيسير الفحش، ونشر ألوان الهوى، وإشعال الغرائز، مع التوقف عن إيجاد حلولها الشرعية. وينشر الأعداء الخلق السيئ، ويبرزون القيم النبيلة في أثواب بالية لصرف الجادين عنها. ويصل الأمر بالمسلمين إلى جلب الحلول لمشاكل حياتهم من عند غير المسلمين والرضا بغير ما أنزل الله. وبذلك يبتعد المسلم عن دينه شيئًا فشيئًا، وتصعب عودته إلى الله تعالى وهذا الأمر يحتاج للتصدي له توقيًا منه، وعلاجًا لخطورته. ولا يصح التصدي إلا بالبراءة التامة من كل ما يتعارض مع الإسلام، وتفصيل الإسلام تفصيلا يؤدي إلى تميز الخبيث من الطيب، وليظهر الصالح، ويعرف الفاسد ولتستبين سبيل المجرمين. إن أخطر ما وقع فيه المسلمون المعاصرون هو اشتراك الإسلام وغيره في حياتهم حتى تم تشويه كل ثوابتهم, فهو ينادون بالعفة ويتمسكون بالاختلاط، يدعون إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 العبادة والنساء عاريات سافرات، تملأ المادة قلوبهم ويزعمون الإخلاص لله. إن المسلمين بذلك مشتتون مذبذبون فلا هم أخلصوا لله، ولا هم كانوا مع أعدائه وهذا في دين الله لا يفيد. إن كل نظام له إيجابياته وسلبياته، ولا يصح أن ننسب إيجابيات نظام لغيره، ولا نكلف نظامًا بعلاج سلبيات غيره، وفي حالة التشتت الإسلامي هذه نرى عجبًا؛ لأننا لا يمكننا أن ننسب السلبيات للإسلام وغيره يفعلها! ولا يصح أن نطالب الإسلام بالعلاج وغيره فاعل المرض! ومنطق العقل والنقل تجعل الفاعل مسئولا عن فعله، والجريمة يحملها المجرم فـ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} 1 ومعاقبة البريء ظلم لا يرضاه عقل أو دين. ومن هنا ... وجب على المسلمين أن يمحصوا حياتهم، ويجعلوها خالصة لمنهج الله، وحينئذ تثمر حياتهم دولة الإسلام بمالها، وما عليها وتتحمل كل ما يجد فيها من سلبيات، وتسعد بما يتحقق لها من إيجابيات. لقد وقع في دولة الإسلام الأولى بعض الأخطاء من أفراد عصوا الله في حياتهم فأقيم عليهم الحد، واقتص منهم، وأخذت الدية وفق منهج الدولة المسلمة، ولكن حين ننظر في العقوبات التي طبقت كما وكيفًا ونقارنها بحياة الناس نشاهد ندرتها وقلتها مما يجعلها طرفًا في إثبات إيجابية النظام الإسلامي ورفعته. إن المسلم مطالب حين يلتزم الإسلام بتحقيق ذاته، والاعتزاز بما التزم به، والتمسك بكل ما يؤمر به، والابتعاد عن كل ما ينهى عنه، وبذلك تبرز إيجابية الإسلام في حياة الفرد وفي نشاط الجماعة, الأمر الذي يؤدي إلى مساهمة هذه الإيجابية في حركة الدعوة إلى الإسلام. وقد التزم المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما جاءهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا على نمطه بكل دقة، فكانوا خير الدعاة، وخير ما ظهر في أفق الحياة.   1 سورة المدثر: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 إن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى الأمة المسلمة الصادقة التي تساند الدعاة، وتؤكد مقالتها بعملها، وتشهد على صدقهم بنشاطها، وإيجابياتها. لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيل أمته تمييزًا كاملا، جعلها بعيدة كل البعد عن سبيل المجرمين، وأخذ القرآن الكريم يوضح هذا التمايز ويفصله، وبذلك يعرف الإيمان ويتضح الخير لأن الشيء بضده يتميز، وأيضًا فإن هذا التوضيح يعد دعوة في حد ذاته لأنه يبرز ما في الإسلام من خير وإصلاح، ويشير إلى ما عند معارضيه من فساد وضرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 الخاتمة : الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد ... فلقد أوشك الأمل على التحقيق واقتربت بفضل الله تعالى من إصدار هذا الكتاب الذي يختم تاريخ الدعوة والسيرة النبوية في العهد المدني، وينتهي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى سبحانه وتعالى. وقد رجعت إلى العديد من المؤلفات القديمة والحديثة في السيرة النبوية فوجدتها جميعًا تعود إلى المصادر الأساسية وهي القرآن الكريم، وكتب السنة، وسيرة ابن إسحاق والمغازي للواقدي، والطبقات الكبرى لابن سعد، وزاد المعاد لابن القيم، والشفا للقاضي عياض، فالتزمت بهذا المسلك فهو خير وأجدى. وأملي أن يقوم المسلمون بواجبهم إزاء السيرة النبوية؛ لأن السيرة في الحقيقة تقديم الإسلام في صورته التطبيقية وهو يتعامل مع الفطرة، ويراعي الواقع، ويلتقي مع الإنسان ويرتقي به. إن الأمم العظيمة تكرم رجالها الذين قدموا للأجيال خدمات وفوائد, وليس هناك في الأمم من يماثل رسول الله فلقد قدم للإنسانية كلها دينًا يحقق سعادة الناس وينشر الأمن والسلام. ولسوف يجد العلماء في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير زاد في أبحاثهم ودراساتهم، كل في مجاله, ولذا وجب على العلماء المسلمين أن يعودوا إلى السيرة يأخذون منها الزاد والدليل، ويعرفون الدواء لكل داء. لقد عاش صلى الله عليه وسلم أبا حنونًا، وزوجًا رحيمًا، وأخًا صالحًا, وإنسانًا مخلصًا، وقائدًا أمينًا, وإمامًا هاديًا، وناصحًا صادقًا، ورسولا يستقبل الإسلام ويبلغه للناس. إلى آخر المجالات التي يمكن لإنسان أن يقوم بها أو يكلف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو صلى الله عليه وسلم في كل ما قام به كان مثالا عاليًا، وقدوة رائدة لكل من يريد التقدم والفلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 والأمل أن يهتم كل مسلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ منها مناط الأسوة التي يحتاج إليها حيث نشاطه وعمله. ولسوف يشعر المسلمون بالعزة يوم أن يعيشوا الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما عاشه المسلمون الأوائل. وقد كان لعلماء العصر الحديث فضل أن قدموا النبي صلى الله عليه وسلم في لقطات متخصصة فمنهم من كتب الجانب النفسي ومنهم من كتب في الطب النبوي, ومنهم من كتب في القيادة المحمدية, وهكذا حتى أصبح أمر الاستفادة من السيرة سهلا لمن يريده, وأصبح عملا جميلا لمن يبحث عن السعادة والرضى. ولا يصح مطلقًا أن نعيش السيرة فكرًا ثقافيًا نعجب به، ونعرفه، ولا نطبقه لأن ذلك إهمال للواجب، وإساءة لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضاعة لحضارة إسلامية عظيمة قائمة على العلم والعمل، ومعتمدة على الفكر والسلوك, ولعل ما فيه المسلمين اليوم يؤكد المحاذير التي أشرت إليها، فلقد صاروا في مؤخرة العالم وغدوا عالة عليه من ساعة إهمالهم لتطبيقات السيرة، وابتعادهم عن العمل بالإسلام. والأمر في هذا الشأن بدهي كله لأن المسلم حين يبتعد عن الإسلام يعمل بلا هوية، ولا يعرف لنفسه غاية، وتتكاثر أمامه الطرق, وحينئذ يتحرك بعشوائية، ويرضى بأي غاية، ويضل بين المسالك والسبل, الأمر الذي يسهل لأعداء الإسلام وأعداء الله اللعب به، وإضعافه، وإبعاده عن الغايات الإسلامية العظيمة. إن محاولتي في الكتابة عن السيرة ليست ترفًا، وليست تقليدًا, وإنما هو أمل أرجو من ورائه إحياء الروح الإسلامية في الإنسان ليتحرك نحو الله، ملتزمًا بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخرج الأمة من التيه، وتنقذ نفسها من المستنقع الذي وضعت نفسها فيه, وتبدأ من جديد حياة المجد والكرامة التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيقها في عالم الحياة. إن الإنسان المسلم مسئول عن إسلامه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف يجد كل نفسه أمام سؤال لا بد منه فلا تنفع فيه الحيل، ولا يصح معه الكذب أو السكوت، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 السؤال هو: من هو الرجل الذي بعث فيكم؟ وماذا تقول فيه؟ وهل كنت تابعًا له أم معارضًا له؟ وهل عشت الإسلام عملا أم طرحته وراءك؟ وبعد السؤال يكون الجزاء، وهو إما إلى الجنة وإما إلى النار. لم ينتفع الإنسان في هذا الوقت إلا بعمله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 1. الأمر خطير، والمسئولية عظيمة، والطريق معروف، وهو ما حاولت أن أبرز شيئًا منه فيما كتبت، وحذرت من مغبة الكسل، والإهمال. أسأل الله تعالى أن يفتح القلوب والعقول، وييسر العمل والتطبيق، ويحقق الفوز والفلاح, وأن يجعل عملي هذا خالصًا متقبلا لأستفيد به في {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2. والحمد لله رب العالمين المؤلف   1 سورة عبس: 34-42. 2 سورة الشعراء: 88-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 فهرس الموضوعات : الصفحة الموضوع 7 المقدمة التمهيد: "التعريف بالمدينة المنورة"19 1- أسماء المدينة المنورة 26 2- جغرافية المدينة المنورة 27 3- أهمية موقع المدينة 29 4- خلو المدينة من الوباء 31 5- وسطية المدينة 32 6- تميز المدينة عن غيرها من المدن 33 7- سكان المدينة 39 8- شجاعة أبناء المدينة 43 9- تآلف أبناء المدينة 45 10- حب أهل المدينة للإسلام الفصل الأول: السيرة النبوية من الهجرة حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 53 تمهيد 55 المبحث الأول: الهجرة النبوية 55 تمهيد 57 النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة 59 النقطة الثانية: أهمية الهجرة 65 النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة 66 أولا: تآمر القرشيين على رسول الله 69 ثانيًا: التخطيط للهجرة 69 1- الإعداد المسبق 70 2- مبيت علي رضي الله عنه 72 3- الوصول للغار 73 4- البقاء في الغار 75 5- في الطريق للمدينة 78 ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة 78 1- رد سراقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 الصفحة الموضوع 79 2- شاة أم معبد 80 3- إسلام أبي بريدة 81 4- تأمين الزاد 82 5- التبشير بالعودة إلى مكة 83 رابعًا: الوصول للمدينة 88 النقطة الرابعة: وقفات مع الهجرة 88 1- دقة الطاعة 89 2- حسن التصرف 89 3- تحمل الأذى 90 4- التضحية بالمال 90 5- كيد قريش بالمهاجرين 91 6- الاستيلاء على الدور المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة 93 أولا: الترحيب بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم 97 ثانيًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم 102 ثالثًا: هجرة آل النبي صلى الله عليه وسلم 104 رابعًا: إقامة المسجد النبوي المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة 110 1- تنظيم الإخاء بين المسلمين 119 2- وضع الميثاق العام لسكان المدينة المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة 124 أولا: التعريف بأمهات المؤمنين 124 الزوجة الأولى: خديجة بنت خويلد 125 الزوجة الثانية: سودة بنت زمعة 125 الزوجة الثالثة: عائشة بنت أبي بكر 126 الزوجة الرابعة: حفصة بنت عمر 127 الزوجة الخامسة: زينب بنت خزيمة 127 الزوجة السادسة: أم سلمة 129 الزوجة السابعة: زينب بنت جحش 131 الزوجة الثامنة: جويرية بنت الحارث 131 الزوجة التاسعة: أم حبيبة 132 الزوجة العاشرة: صفية بنت حيي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 الصفحة الموضوع 134 الزوجة الحادية عشر: ميمونة بنت الحارث 135 سرايا النبي صلى الله عليه وسلم 136 ثانيًا: الزوجات المختلف فيهن 137 ثالثًا: من خطبهن النبي ولم يتزوجهن 138 المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم 144 المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم 155 المبحث السابع: حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته 169 المبحث الثامن: أبناء النبي صلى الله عليه وسلم 169 الأول: القاسم رضي الله عنه 169 الثانية: زينب رضي الله عنها 172 الثالثة: رقية رضي الله عنها 173 الرابعة: أم كلثوم رضي الله عنها 173 الخامسة: فاطمة رضي الله عنها 177 السادس: عبد الله رضي الله عنه 178 السابع: إبراهيم رضي الله عنه 180 المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم 180 أولا: أكله صلى الله عليه وسلم 184 ثانيًا: شربه صلى الله عليه وسلم 184 ثالثًا: نومه صلى الله عليه وسلم 188 رابعًا: سماحته صلى الله عليه وسلم 195 المبحث العاشر: قيامه صلى الله عليه وسلم بمهام الرسالة الفصل الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المدينة المنورة 201 تمهيد 204 المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي 205 أولا: دين كامل 209 ثانيًا: قيادة أمينة 214 ثالثًا: مؤمنون صادقون 220 رابعًا: التفاعل التام بين المسلمين والإسلام 223 المبحث الثاني: تشريع الجهاد وحركة الدعوة 225 أولا: تعريف الجهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 الصفحة الموضوع 229 ثانيًا: مراحل تشريع الجهاد 230 المرحلة الأولى: مرحلة التحمل والصبر 232 المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال 235 المرحلة الثالثة: مرحلة القتال المقيد 237 المرحلة الرابعة: مرحلة الأمر العام بالقتال 239 المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر 242 أولا: أسباب وقوع السرايا والغزوات 244 ثانيًا: السرايا والغزوات قبل بدر 245 1- سرية سيف البحر 245 2- سرية رابغ 246 3- غزوة الخرار 246 4- غزوة ودان 246 5- غزوة بواط 247 6- غزوة سفوان 247 7- غزوة ذي العشيرة 248 8- غزوة نخلة 250 ثالثًا: السرايا وحركة الدعوة 252 المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى 253 أولا: أسباب الغزوة 255 ثانيًا: موقف الفريقين قبل المعركة 256 أ- موقف المسلمين 265 ب- موقف القرشيين ثالثًا: أحداث المعركة 271 رابعًا: نتائج المعركة 280 خامسًا: قريش والهزيمة 284 سادسًا: المسلمون في إطار انتصار بدر 286 286 1- الاختلاف حول الغنائم 288 2- الاختلاف في مصير الأسرى 291 3- الابتهاج بنصر الله 293 4- تشريع زكاة وعيد الفطر 293 سابعًا: بدر في رحاب القرآن الكريم 293 1- حديث ما قبل المعركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 الصفحة الموضوع 295 2- الحديث عن المعركة 296 3- حديث ما بعد المعركة 296 4- توجيهات قرآنية تربوية المبحث الخامس: أحداث ما بين بدر وأحد 302 أولا: محاولة قريش قتل النبي 304 ثانيًا: غزوة بني سليم 305 ثالثًا: غزوة السويق 306 رابعًا: غزوة غطفان 307 خامسًا: غزوة بحران 308 سادسًا: سرية زيد بن حارثة 309 سابعًا: غزوة بني قينقاع 313 ثامنًا: قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط 314 تاسعًا: قتل كعب بن الأشرف 316 عاشرًا: أهم أحداث المجتمع الإسلامي 317 حادي عشر: حركة الدعوة بين بدر وأحد 320 المبحث السادس: غزوة أحد 321 أولا: أسباب الغزوة 322 ثانيًا: موقف أطراف معركة أحد 322 1- موقف المشركين 329 2- موقف المسلمين 337 ثالثًا: أحداث المعركة 337 المرحلة الأولى: انتصار المسلمين 342 المرحلة الثانية: هزيمة المسلمين 345 المرحلة الثالثة: الصمود الإسلامي 361 رابعًا: نتائج المعركة 368 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في أحد 371 سادسًا: أحد في رحاب القرآن الكريم 380 سابعًا: أحد وحركة الدعوة 390 المبحث السابع: أحداث ما بين أحد والأحزاب 392 أولا: غزوة حمراء الأسد 396 ثانيًا: سرية أبي سلمة رضي الله عنه 398 ثالثًا: بعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 399 رابعًا: بعث الرجيع 401 خامسًا: سرية عمرو بن أمية لقتل أبي سفيان 403 سادسًا: وقعة بئر معونة 407 سابعًا: غزوة بني النضير 412 ثامنًا: غزوة نجد 413 تاسعًا: غزوة بدر الثانية 415 عاشرًا: غزوة دومة الجندل 416 حادي عشر: أهم الأحداث الاجتماعية بين أحد والأحزاب 418 ثاني عشر: حركة الدعوة بين أحد والأحزاب 421 المبحث الثامن: غزوة الأحزاب 424 أولا: وقت الغزوة 425 ثانيًا: تجمع الأحزاب 429 ثالثًا: استعداد المسلمين للأحزاب 432 رابعًا: سير القتال 443 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في يوم الخندق 445 سادسًا: حركة الدعوة خلال أيام الخندق 449 سابعًا: الأحزاب في رحاب القرآن الكريم 453 المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية 456 أولا: غزوة بني قريظة 465 ثانيًا: قتل ابن أبي الحقيق 467 ثالثًا: سرية محمد بن مسلمة 468 رابعًا: غزوة بني لحيان 469 خامسًا: غزوة الغابة 470 سادسًا: سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر 470 سابعًا: السرايا إلى ذي القصة 471 ثامنًا: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه 473 تاسعًا: غزوة بني المصطلق 477 عاشرًا: السرايا بعد غزوة بني المصطلق 478 حادي عشر: حركة الدعوة خلال المرحلة ما بين الأحزاب والحديبية 483 المبحث العاشر: غزوة الحديبية 484 أولا: أسباب الغزوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 484 ثانيًا: التحرك للعمرة 486 ثالثًا: المفاوضات مع قريش 491 رابعًا: الصلح 492 خامسًا: موقف المسلمين من الصلح 497 سادسًا: موقف المسلمين بعد توقيع الصلح 500 سابعًا: عدم رد المؤمنات المهاجرات 501 ثامنًا: فراق الكافرات 502 تاسعًا: أهم ما في الحديبية من حكم 506 المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة 507 أولا: هدوء جبهة قريش وظهور مفرزة أبي بصير 511 ثانيًا: العمل في المحيط العام وإرسال الرسائل 515 1- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي 516 2- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس 517 3- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى فارس 517 4- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم 520 5- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى 521 6- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة صاحب اليمامة 521 7- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث صاحب دمشق 521 8- كتاب النبي النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان وأخيه 522 9- الدعاة حملة الرسائل 528 ثالثًا: القضاء على إرهاب اليهود في خيبر وما حولها 529 1- حصون خيبر 530 2- تحرك المسلمين نحو خيبر 534 3- اقتحام الحصون 538 4- نهاية غزوة خيبر 539 5- في أعقاب خيبر 543 6- تطهير الجبهة الشمالية من أتباع خيبر 544 رابعًا: مواجهة القبائل المتمردة 545 1- غزوة ذات الرقاع 547 2- سرية غالب إلى بني الملوح 547 3- سرية عمر بن الخطاب إلى تربة 547 4- سرية بشير بن سعد إلى بني مرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 الصفحة الموضوع 548 5- سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة 548 6- سرية عبد الله بن رواحة إلى ضواحي خيبر 549 7- سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار 549 8- سرية أبي حدرد إلى الغابة 549 9- سرية أبي بكر إلى بني هلال 550 10- سرية غالب بن عبد الله إلى بني مرة 551 خامسًا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة 551 1- عمرة القضاء 556 2- سرية ابن أبي العوجاء 556 3- سرية غالب بن عبد الله 556 4- سرية ذات أطلح 557 5- سرية ذات عرق 557 6- سرية شجاع بن وهب إلى السبى 557 7- سرية قطبة بن عامر إلى خثعم 558 سادسًا: بدء مواجهة الرومان والقبائل التابعة لها 558 1- سرية مؤتة 563 2- غزوة ذات السلاسل 564 3- سرية الخبط 567 4- سرية أبي قتادة إلى خضرة 567 سابعًا: حركة الدعوة في مرحلة ما بين الحديبية وفتح مكة 570 المبحث الثاني عشر: فتح مكة 571 أولا: فتح مكة 571 1- سبب فتح مكة 573 2- محاولة أبي سفيان تجديد الصلح 575 3- استعداد المسلمين لفتح مكة 578 4- الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة 584 5- مكة تحت القيادة الإسلامية 592 ثانيًا: تطهير مكة وما حولها من الأصنام 596 ثالثًا: غزوة حنين 596 1- استعداد المشركين للحرب 597 2- استعداد المسلمين للقتال 598 3- القتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 الصفحة الموضوع 4- تعقب الفارين 600 5- غزو الطائف 601 6- توزيع الغنائم 602 7- العودة إلى المدينة 607 المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب 608 أولا: بعث عمال الصدقات 610 ثانيًا: إرسال الدعاة 613 ثالثًا: تسيير السرايا للخارجين على النظام 618 رابعًا: غزوة تبوك 618 1- استعداد المسلمين للغزوة 624 2- نتائج الغزوة 626 3- موقف المنافقين بعد الغزوة 630 4- الثلاثة الذين تخلفوا 634 المبحث الرابع عشر: السرايا والغزوات في الميزان 634 1- الجهاد ضرورة عامة 637 2- الجهاد يحمي حرية الإنسان 640 3- الجهاد يصون كرامة الإنسان 642 4- الجهاد يبرز إيجابية الإنسان 643 5- الواقعية في تشريع الجهاد 645 6- ظهور فقه الإسلام في الجهاد 648 المبحث الخامس: وجاء نصر الله 648 أولا: تتابع مجيء الوفود إلى المدينة 659 ثانيًا: نظام استقبال الوفود 664 ثالثًا: حج أبي بكر وإعلان نهاية الوثنية 666 رابعًا: حجة الوداع 674 خامسًا: آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة 675 المبحث السادس عشر: انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية 689 تمهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 690 المبحث الأول: ضرورة بناء قاعدة 691 1- إيجاد الأمة القوية 693 2- التزام الأمة بالإسلام 696 3- صيانة ثوابت الأمة 702 المبحث الثاني: "الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي" 709 المبحث الثالث: "أهمية التطابق التام بين المسلم والإسلام" 721 المبحث الرابع: ضرورة الفصل بين الإسلام وغيره 726 الخاتمة 729 الفهرس وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738